بني إسرائيل ومبشراً للعرب: {وجعلناه} أي كتاب موسى عليه السلام جعلاً يليق بعظمتنا {هدى} أي بياناً عظيماً {لبني إسرائيل} وأشار إلى اختلافهم فيه بقوله: {وجعلنا منهم} أي من أنبيائهم وأحبارهم بعظمتنا، مع ما في طبع الإنسان من اتباع الهوى {أئمة يهدون} أي يوقعون البيان ويعملون على حسبه {بأمرنا} أي بما أنزلنا فيه من الأوامر؛ ثم ذكر علة جعله ذلك لهم بقوله: {لما صبروا} أي بسبب صبرهم ولأجله - على قراءة حمزة والكسائي بالكسر والتخفيف - أو حين صبرهم على قبول أوامرنا على قراءة الباقين بالفتح والتشديد، وإن كان الصبر أيضاً إنما هو بتوفيق الله لهم {وكانوا بآياتنا} لما لها من العظمة {يوقنون *} لا يرتابون في شيء منها ولا يفعلون فعل الشاك فيه الإعراض، وكان ذلك لهم جبلة جبلناهم عليها.(15/266)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
ولما أفهم قوله «منهم» أنه كان منهم من يضل عن أمر الله ويصد عنه، جاء قوله تسلية للمؤمنين وتوعداً للكافرين، استئنافاً مؤكداً تنبيهاً لمن يظن أنه لا بعث، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى ما يظهر من شرفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك اليوم من المقام المحمود وغيره: {إن ربك} أي المحسن إليك بإرسالك ليعظم(15/266)
ثوابك ويعلي ما بك {هو} أي وحده {يفصل بينهم} أي من الهادين والمضلين والضالين {يوم القيامة} بالقضاء الحق، فيعلى أمر المظلوم ويردي كيد الظالم {فيما كانوا} جبلة، طبعاً {فيه} أي خاصة {يختلفون*} أي يجددون الاختلاف فيه على سبيل الاستمرار حسب ما طبعوا عيله، لا يخفى عليه شيء منه، وأما غير ما اختلفوا فيه فالحكم فيه لهم أو عليهم لا بينهم، وما اختلفوا فيه لا على وجه القصد فيقع في محل العفو.
ولما كان قد تقدم عن الكفار في هذه السورة قولان: أحدهما في التكذيب بالقرآن، والثاني في إنكار البعث، ودل سبحانه على فسادهما إلى أن ختم بذكر الآيات والبعث والفصل بين المحق والمبطل، أتبعه استفهامين إنكاريين منشورين على القولين وختمت آية كل منهما بآخر، فتصير الاستفهامات أربعة، وفي مدخول الأول الفصل بين الفريقين في الدنيا، فقال مهدداً: {أو لم} أي أيقولون عناداً لرسولنا: أفتراه ولم {يهد} أي يبين - كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما {لهم كم أهلكنا} أي كثرة من أهلكناه.(15/267)
ولما كان قرب شيء في الزمان أو المكان أدل، بين قربهم بإدخال الجار فقال: {من قبلهم} أي لأجل معاندة الرسل {من القرون} الماضين من المعرضين عن الآيات، ونجينا من آمن بها، وربما كان قرب المكان منزلاً قرب الزمان لكثرة التذكير بالآثار، والتردد خلال الديار.
ولما كان انهماكهم في الدنيا الزائلة قد شغلهم عن التفكر فيما ينفعهم عن المواعظ بالأفعال والأقوال، أشار إلى ذلك بتصوير اطلاعهم على ما لهم من الأحوال، بقوله: {يمشون} أي أنهم ليسوا بأهل للتفكر إلا حال المشي {في مساكنهم} لشدة ارتباطهم مع المحسوسات، وذلك كمساكن عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم. ولما كان في هذا أتم عبرة وأعظم عظة، قال منبهاً عليه مؤكداً تنبيهاً على أن من لم يعتبر منكر لما فيه من العبر: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم {لآيات} أي دلالات ظاهرات جداً، مرئيات في الديار وغيرها من الآثار، ومسموعات في الأخبار.
ولما كان السماع هو الركن الأعظم، وكان إهلاك القرون إنما وصل إليهم بالسماع، قال منكراً: {أفلا يسمعون *} أي إن أحوالهم لا يحتاج من ذكرت له في الرجوع عن الغيّ إلى غير سماعها،(15/268)
فإن لم يرجع فهو ممن لا سمع له {أو لم} أي أيقولون في إنكار البعث: إذا ضللنا في الأرض، ولم {يروا أنا} بما لنا من العظمة {نسوق الماء} من السماء أو الأرض {إلى الأرض الجرز} أي التي جرز نباتها أي قطع باليبس والتهشم، أي بأيدي الناس فصارت ملساء لا نبت فيها، وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنها التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً، قالوا: ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ: جزر، ويدل عليه قوله: {فنخرج به} من أعماق الأرض {زرعاً} أي نبتاً لا ساق له باختلاط الماء بالتراب الذي كان زرعاً قبل هذا، وأشار إلى أنه حقيقة، لا مرية فيه، وليس هو بتخييل كما تفعل السحرة، بقوله مذكراً بنعمة الإبقاء بعد الإيجاد: {تأكل منه} أي من حبه وورقه وتبنه وحشيشه {أنعامهم} وقدمها لموقع الامتنان بها لأن بها قوامهم في معايشهم وأبدانهم، ولأن السياق لمطلق إخراج الرزع، وأول صلاحه إنما هو لأكل الأنعام بخلاف ما في سورة عبس، فإن السياق لطعام الإنسان الذي هو نهاية الزرع حيث قال:
{فلينظر الإنسان إلى طعامه} [عبس: 24] ثم قال {فأنبتنا فيها حباً} [عبس: 27] وذكر من طعامه من العنب وغيره ما لا يصلح(15/269)
للأنعام {وأنفسهم} أي من حبه، وأصله إذا كان بقلاً.
ولما كانت هذه الآية مبصرة، وكانت في وضوحها في الدلالة على البعث لا يحتاج الجاهل به في الإقرار سوى رؤيتها قل: {أفلا يبصرون} إشارة إلى أن من رآها وتبه على ما فيها من الدلالة وأصر على الإنكار لا بصر له ولا بصيرة.(15/270)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
ولما كانت هذه الآية أدل دليل - كما مضى - على البعث، وكان يوماً يظهر فيه عز الأولياء وذل الأعداء، أتبعها قوله تعجيباً منهم عطفاً على «يقولون أفتراه» ونحوها: {ويقولون} أي مع هذا البيان الذي لا لبس معه استهزاء: {متى هذا الفتح} أي النصر والقضاء والفصل الذي يفتح المنغلق يوم الحشر {إن كنتم} أي كوناً راسخاً {صادقين} أي عريقين في الصدق بالإخبار بأنه لا بد من كونه لنؤمن إذا رأيناه.
ولما أسفر حالهم بهذا السؤال الذي محصله الاستعجال على وجه الاستهزاء عن أنهم لا يزدادون مع البيان إلا عناداً، أمرهم بجواب فيه أبلغ تهديد، فقال فاعلاً فعل القادر في الإعراض عن إجابتهم عن تعيين اليوم إلى ذكر حاله: {قل} أي لهؤلاء اللد الجهلة: {يوم الفتح} أي الذي يستهزئون به، وهو يوم القيامة - تبادرون إلى الإيمان بعد الانسلاخ مما أنتم فيه من الشماخة والكبر، فلا ينفعكم بعد العيان(15/270)
وهو معنى {لا} ينفعكم - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال: {ينفع الذين كفروا} أي غطوا آيات ربهم التي لا خفاء بها سواء في ذلك أنتم وغيركم ممن اتصف بهذا الوصف {إيمانهم} لأنه ليس إيماناً بالغيب، ولكنه ساقه هكذا سوق ما هو معلوم {ولا هم ينظرون *} أي يمهلون في إيقاع العذاب بهم لحظة ما من منظر ما.
ولما كانت نتيجة سماعهم لهذه الأدلة استهزاءهم حتى بسؤالهم عن يوم الفتح، وأجابهم سبحانه عن تعيينه بذكر حاله، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشدة حرصه على نفعهم ربما أحب إعلامهم بما طلبوا وإن كان يعلم أن ذلك منهم استهزاء رجاء أن ينفعهم نفعاً ما، سبب سبحانه عن إعراضه عن إجابتهم، أمره لهذا الداعي الرفيق والهادي الشفيق بالإعراض عنهم أيضاً، فقال مسلياً له مهدداً لهم: {فأعرض عنهم} أي غير مبال بهم وإن اشتد أذاهم {وانتظر} أي ما نفعل بهم مما فيه إظهار أمرك وإعلاء دينك، ولما كان الحال مقتضياً لتردد السامع في حالهم هل هو الانتظار، أجيب على سبيل التأكيد بقوله: {إنهم منتظرون *} أي ما يفعل بك وما يكون من عاقبة أمرك فيما تتوعدهم به وفي غيره، وقد انطبق آخرها على أولها بالإنذار بهذا(15/271)
الكتاب، وأعلم بجلالته وجزالته وشدته وشجاعته أنه ليس فيه نوع ارتياب، وأيضاً فأولها في التذكيب بتنزيله، وآخرها في الاستهزاء بتأويله، {يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل} [الأعراف: 53]- الآية، وأيضاً فالأول في التكذيب بإنزال الروح المعنوي، والآخر في التكذيب بإعادة الروح العيني الحسي الذي ابتدأه أول مرة والله الهادي إلى الصواب.(15/272)
مقصودها الحث على الصدق في الإخلاص في التوجه إلى الخالق من غير مراعاة بوجه ما للخلائق، لأنه عليم بما يصلحهم، حكيم فيما يفعله فهو يعلي من يشاء وإن كان ضعيفا، ويردي من يريد وإن كان قويا، فلا يهتمن الماضي لأمره برجاء لأحد منهم في بره ولا خوف منه في عظيم شره وخفي مكره، واسمها واضح في ذلك بتأمل القصة التي أشار إليها ودل عليها) بسم الله (الذي مهما أراد كان) الرحمن (الذي سرت رحمته خلال الوجود، فشملت كل موجود، بالكرم والجود) الرحيم (لمن توكل عليه بالعطف إليه.
لما ختمت التي قبلها بالإعراض عن الكافرين، وانتظار ما يحكم به فيهم رب العالمين، بعد تحقيق أن تنزيل الكتاب من عند المدبر لهذا الخلق كله، والنهي عن الشك في لقائهع، افتتح هذه بالأمر بأسا ذلك، والنهي عن طاعة المخالفين مجاهرين كانوا أو متساترين، والأمر بإتباع الوحي الذي أعظمه الكتاب تنبيها على أن الإعراض إنما يكون(15/273)
طاعة لله مع مراعاة تقواه(15/274)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
فقال: {يا أيها النبي} عبر بأداة التوسط إيماء إلى أن وقت نزول السورة - وهو آخر سنة خمس، غب وقعة الأحزاب - أوسط مدة ما بعد الهجرة إلاحة إلى أنه لم يبق من أمد كمال النصرة التي اقتضاها وصف النبوة الدال على الرفعة إلا القليل وعبر به لاقتضاء مقصود السورة مقام النبوة الذي هو بين الرب وعبده في تقريبه وإعلائه إلى جنابه إذا قرئ بغير همز، وإن قرئ به كان اللحظ إلى إنبائه بالخفي وتفصيله للجلي، وقال الحرالي في كتاب له في أصول الدين: حقيقة النبوة ورود غيب ظاهر أي من الحق بالوحي لخاص من الخلق، خفي عن العامة منهم، ثم قد يختص مقصد ذلك الوارد المقيم لذلك الواحد بذاته، فيكون نبياً غير رسول، وقد يرد عليه عند تمام أمره في ذاته موارد إقامة غيره فيصير رسولاً. والرتبة الأولى كثيرة الوقوع في الخلق، وهي النبوة، والثانية قليلة الوقوع، فالرسل معشار معشار الأنبياء، وللنبوة اشتقاقان: أحدهما من النبأ وهو الخبر، وذلك لمن اصطفي من البشر لرتبة السماع والإنباء فنبئ ونبأ غيره من غير أن يكون عنده حقيقة ما نبيء به ولا ما نبأ(15/274)
فيكون حامل علم، والاشتقاق الثاني من النبوة وهي الارتفاع والعلو، وذلك لمن أعلى عن رتبة النبأ إلى رتبة العلم. فكان مطلعاً على علم ما ورد عليه من الغيب على حقيقته وكماله، فمن علا عن الحظ المتنزل العقلي إلى رتبة سماع، كان نبيئاً بالهمز، ومن علا عن ذلك إلى رتبة علم بحقيقة ذلك كان نبياً غير مهموز، فآدم عليه السلام مثلاً في علم الأسماء نبي بغير همز، وفي ما وراءه نبيء بهمز، وكذلك إبراهيم عليه السلام فيما أرى من الملكوت نبي غير مهموز وفيما وراءه نبئ بهمز - انتهى - ولم يناده سبحانه باسمه تشريفاً لقدره، وإعلاء لمحله، وحيث سماه باسمه في الأخبار فللتشريف من جهة أخرى، وهي تعيينه وتخصيصه إزالة للبس عنه، وقطعاً لشبه التعنت.
ولما ناداه سبحانه بهذا الاسم الشريف المقتضي للانبساط، أمره بالخوف فقال: {اتق الله} أي زد من التقوى يا أعلى الخلائق بمقدار ما تقدر عليه لذي الجلال كله والإكرام، لئلا تلتفت إلى شيء سواه، فإنه أهل لأن يرهب لما له من خلال الجلال، والعظمة والكمال.
ولما وجه إليه الأمر بخشية الولي الودود، أتبعه النهي عن الالتفات(15/275)
نحو العدو والحسود. فقال: {ولا تطع الكافرين} أي الممانعين {والمنافقين} أي المصانعين في شيء من الأشياء لم يتقدم إليك الخالق فيه بأمر وإن لاح لائح خوف أو برق بارق رجاء، ولا سيما سؤالنا في شيء مما يقترحونه رجاء إيمانهم مثل أن تعين لهم وقت الساعة التي يكون فيها الفتح، فإنهم إنما يطلبون ذلك استهزاء، قال أبو حيان: وسبب نزولها أنه روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة كان يحب إسلام اليهود، فتابعه ناس منهم على النفاق، وكان يلين لهم جانبه، وكانوا يظهرون النصائح من طرق المخادعة، فنزلت تحذيراً له منهم، وتنبيهاً على عداوتهم - انتهى ثم علل الأمر والنهي بما يزيل الهموم ويوجب الإقبال عليهما واللزوم، فقال ملوحاً إلى أن لهم أغواراً في مكرهم ربما خفيت عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكد ترغيباً في الإقبال على معلوله بغاية الاهتمام: {إن الله} أي بعظيم كماله وعز جلاله {كان} أزلاً وأبداً {عليماً} شامل العلم {حكيماً} بالغ الحكمة فهو لم يأمرك بأمر إلا وقد علم ما يترتب عليه، وأحكم إصلاح الحال فيه.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: افتتحها سبحانه بأمر(15/276)
نبيه باتقائه، ونهيه عن الصغو إلى الكافرين والمنافقين، واتباعه ما يوحي إليه، تنزيهاً لقدره عن محنة من سبق له الامتحان ممن قدم ذكره في سورة السجدة، وأمراً له بالتسليم لخالقه والتوكل عليه {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} ولما تحصل من السورتين من الإشارة إلى السوابق {ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها} [السجدة: 13] كان ذلك مظنة لتأنيس نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصالحي أتباعه، ولهذا أعقب سورة السجدة بهذه السورة المضمنة من التأنيس والبشارة ما يجري على المعهود من لطفه تعالى وسعة رحمته، فافتتح سبحانه السورة بخطاب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتقوى، وإعلامه بما قد أعطاه قبل من سلوك سبيل النجاة وإن ورد على طريقة الأمر ليشعره باستقامة سبيله، وإيضاح دليله، وخاطبه بلفظ النبوة لأنه أمر عقب تخويف وإنذار وإن كان عليه السلام قد نزه الله قدره على أن يكون منه خلاف التقوى، وعصمه من كل ما ينافر نزاهة حاله وعلي منصبه، ولكن طريقة خطابه تعالى للعباد أنه تعالى متى جرد ذكرهم للمدح من غير أمر ولا نهي(15/277)
فهو موضع ذكرهم بالأخص الأمدح عن محمود صفاتهم، ومنه {محمد رسول الله والذين معه} [الفتح: 29]- الآيات، فذكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسم الرسالة، ومهما كان الأمر والنهي، عدل في الغالب إلى الأعم، ومنه {يا أيها النبي اتق الله} {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال} [الأنفال: 65] {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1] {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1] {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} [التوبة: 73] {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات} [الممتحنة: 12] وقد تبين في غير هذا، وأن ما ورد على خلاف هذا القانون فلسبب خاص استدعى العدول عن المطرد كقوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] فوجه هذا أن قوله سبحانه {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} موقعه شديد، فعودل بذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسم الرسالة لضرب من التلطف، فهو من باب
{عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] وفيه بعض غموض، وأيضاً فإنه لما قيل له «بلغ» طابق هذا ذكره بالرسالة، فإن المبلغ رسول، والرسول مبلغ، ولا يلزم النبي أن يبلغ إلا أن يرسل، وأما قوله تعالى: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} [المائدة: 41] فأمره وإن كان نهياً أوضح من الأول، لأنه تسلية له عليه السلام وتأنيس وأمر بالصبر والرفق بنفسه، فبابه(15/278)
راجع إلى ما يرد مدحاً مجرداً عن الطلب، وعلى ما أشير إليه يخرج ما ورد من هذا. ولما افتتحت هذه السورة بما حاصله ما قدمناه من إعلامه عليه السلام من هذا الأمر بعلي حاله ومزية قدره، ناسب ذلك ما احتوت عليه السورة من باب التنزيه في مواضع منها إعلامه تعالى بأن أزواج نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمهات للمؤمنين فنزهن عن أن يكون حكمهن حكم غيرهن من النساء مزية لهن وتخصيصاً وإجلالاً لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها قوله تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب} - الآية، فنزههم عن تطرق سوء أو دخول ارتياب على مصون معتقداتهم وجليل إيمانهم {قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً} والآية بعد ذلك، وهي قوله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا} - الآية، ومنها {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} فنزههن سبحانه وبين شرفهن على من عداهن، ومنها تنزيه أهل البيت وتكرمتهم {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} الآية، ومنها الأمر بالحجاب {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} فنزه المؤمنات عن حالة الجاهلية من التبرج وعدم الحجاب، وصانهن عن التبذل والامتهان، ومنها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا(15/279)
كالذين آذوا موسى} فوصاهم جل وتعالى ونزههم بما نهاهم عنه أن يتشبهوا بمن استحق اللعن والغضب في سوء أدبهم وعظيم مرتكبهم، إلى ما تضمنت السورة من هذا القبيل، ثم أتبع سبحانه ما تقدم بالبشارة العامة واللطف الشامل كقوله تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} ثم قال تعالى: {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً} وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} - إلى قوله تعالى: {أجراً كريماً} وقوله تعالى {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} وقوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} - إلى قوله: {وأجراً عظيماً} وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً} - إلى قوله: {عظيماً} وقوله تعالى: {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} إلى قوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} وقوله تعالى مثنياً على المؤمنين بوفائهم وصدقهم {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} - إلى قوله: {وما بدلوا تبديلاً} وقوله: {وإثماً مبيناً} وفي(15/280)
هذه الآيات من تأنيس المؤمنين وبشارتهم وتعظيم حرمتهم ما يكسر سورة الخوف الحاصل من سورتي لقمان والسجدة ويسكن روعهم تأنيساً لا رفعاً ومن هذا القبيل أيضاً ما تضمنت السورة من تعداد نعمه تعالى عليهم وتحسين خلاصهم كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم} - إلى قوله: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} وقوله تعالى: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال} إلى قوله: {وكان الله على كل شيء قديراً} وختم السورة بذكر التوبة والمغفرة أوضح شاهد لما تمهد من دليل قصدها وبيانها على ما وضح الحمد لله ولما كان حاصلها رحمة ولطفاً ونعمة، لا يقدر عظيم قدرها، وينقطع العالم دون الوفاء بشكرها، أعقب بما ينبغي من الحمد يعني أول سبأ - انتهى.
ولما كان ذلك مفهماً لمخالفة كل ما يدعو إليه كافر. وكان الكافر ربما دعا إلى شيء من مكارم الأخلاق، قيده بقوله: {واتبع} أي بغاية جهدك.
ولما اشتدت العناية هنا بالوحي، وكان الموحي معلوماً من آيات كثيرة، بني للمفعول قوله: {ما يوحى} أي يلقى إلقاء خفياً كما يفعل المحب مع حبيبه {إليك} وأتى موضع الضمير بظاهر يدل على الإحسان(15/281)
في التربية لينوي على امتثال ما أمرت به الآية السالفة فقال: {من ربك} أي المحسن إليك بصلاح جميع أمرك، فمهما أمرك به فافعله لربك لا لهم، ومهما نهاك عنه فكذلك، سواء كان إقبالاً عليهم أو إعراضاً عنهم أو غير ذلك.
ولما أمره باتباع الوحي، رغبة فيه بالتعليل بأوضح من التعليل الأول في أن مكرهم خفي، فقال مذكراً بالاسم الأعظم بجميع ما يدل عليه من الأسماء الحسنى زيادة في التقوية على الامتثال، مؤكداً للترغيب كما تقدم، وإشارة إلى أنه مما يستبعده بعض المخاطبين في قراءة الخطاب لغير أبي عمرو: {إن الله} أي بعظمته وكماله {كان} دائماً {بما تعملون} أي الفريقان من المكايد وإن دق {خبيراً} فلا تهتم بشأنهم، فإنه سبحانه كافيكه وإن تعاظم، وعلى قراءة أبي عمرو بالغيب يكون هذا التعليل حثاً على الإخلاص، وتحقيقاً لأنه قادر على الإصلاح وإن أعيى الخلاص، ونفياً لما قد يعتري النفوس من الزلزال، في أوقات الاختلال.(15/282)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
ولما كان الآدمي موضع الحاجة إلى تعظيم الترجية قال: {وتوكل} أي دع الاعتماد على التدبير في أمورك واعتمد فيها {على الله} المحيط علماً وقدرة، ولتكرير هذا الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء في هذا المقام شأن لا يخفى كما أشير إليه.
ولما كان التقدير: فإنه يكفيك في جميع ذلك، عطف عليه قوله: {وكفى بالله} أي الذي له الأمر كله على الإطلاق {وكيلاً *} أي إنه لا أكفى منه لكل من وكله في أمره، فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى شيء لأنه ليس لك قلبان تصرف كلاً منهما إلى واحد.
ولما كان النازع إلى جهتين والمعالج لأمرين متباينين كأنه يتصرف بقلبين، أكد أمر الإخلاص في جعل الهم هماً واحداً فيما يكون من أمور الدين والدنيا، وفي المظاهرة والتبني وكل ما شابهها بضرب المثل بالقلبين - كما قال الزهري، فقال معللاً لما قبله بما فيه من الإشارة إلى أن الآدمي مع قطع النظر عن رتبة النبوة موضع لخفاء الأمور عليه: {ما جعل الله} أي الذي له الحكمة البالغة، والعظمة الباهرة، وليس الجعل إلا له ولا أمر لغيره {لرجل} أي لأحد من بني آدم الذين هم أشرف الخلائق من نبي ولا غيره، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسماً وفهماً فيفهم غيره من باب الأولى؛ وأشار إلى التأكيد(15/283)
بقوله: {من قلبين} وأكد الحقيقة وقررها، وجلاها وصورها لما قد يظن الإنسان من أنه يقدر على صرف النفس إلى الأمور المتخالفة كما يفعل المنافق، بقوله: {في جوفه} أي حتى يتمكن من أن ينزع بكل قلب إلى جهة غير الجهة التي نزع إليها القلب الآخر لأن ذلك مودِّ إلى خراب البدن لأن القلب مدبره بإذن الله تعالى، واستقلال كل بالتدبير يؤدي إلى الفساد كما مضى في دليل التمانع سواء؛ قال الرازي في اللوامع: القلب كالمرآة مهما حوذي به جانب القدس أعرض عن جانب الحس، ومهما حوذى به جانب الحس أعرض عن جانب القدس، فلا يجتمع الإقبال على الله وعلى ما سواه - انتهى. وحاصل ذلك أنه تمهيد لأن التوزع والشرك لا خير فيه، وأن مدبر الملك واحد كما أن البدن قلب واحد، فلا التفاف إلى غيره، وأن الدين ليس بالتشهي وجعل الجاعلين، وإنما هو بجعله سبحانه، فإنه العالم بالأمور على ما هي عليه.
ولما كان كل من المظاهرة والتبني نازعاً إلى جهتين متنافيتين، وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار طلاقاً مؤبداً لا رجعة فيه - كما نقله ابن الملقن في عمدة المنهاج عن صاحب الحاوي، وكان المخاطبون قد أعلاهم الوعظ السابق إلى التأهل للخطاب، لفت سبحانه القول إليه على قراءة الغيب في «يعلمون» لأبي عمرو فقال: {وما جعل أزواجكم}(15/284)
أي بما أباح لكم من الاستمتاع بهن من جهة الزوجية؛ ثم أشار إلى الجهة الأخرى بقوله: {اللائي تظاهرون منهن} أي كما يقول الإنسان للواحدة منهن: أنت عليّ كظهر أمي {أمهاتكم} بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأييد وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها، لأنه لا يكون لرجل أمان، ولو جعل ذلك لضاق الأمر، واتسع الخرق، وامتنع الرتق {وما جعل أدعياءكم} بما جعل لهم من النسبة والانتساب إلى غيركم {أبناءكم} بما جعلتم لهم من الانتساب إليكم ليحل لهم إرثكم، وتحرم عليكم حلائلهم وغير ذلك من أحكام الأبناء، ولا يكون لابن أبوان، ولو جعل ذلك لضاعت الأنساب، وعم الارتياب، وانقلب كثير من الحقائق أيّ انقلاب، فانفتح بذلك من الفساد أبواب أيّ أبواب، فليس زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي الذي تبنيته ابناً لك أيها النبي بتبنيك له جزاء له باختياره لك على أبيه وأهله، وهذا توطئة لما يأتي من قصة زواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزينب بنت جحش مطلقة زيد مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما تزوجها قال المنافقون كما حكاه البغوي وغيره: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، وبين أن التبني إنما هو مجاز، وأن المحرم إنما هو زوجة الابن الحقيقي وما ألحق به من الرضاع، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان تبنى زيداً بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/285)
ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادعوهم لآبائهم} .
لما أبطل سبحانه، استأنف الإخبار عما مضى من عملهم فيه فقال: {ذلكم} أي القول البعيد عن الحقيقة، وأكد هذا بقوله: {قولكم بأفواهكم} أي لا حقيقة له وراء القول وتحريك الفم من غير مطابقة قلوبكم، فإن كل من يقول ذلك لا يعتقده، لأن من كان له فم كان محتاجاً، ومن كان محتاجاً كان معرضاً للنقائص كان معرضاً للأوهام، ومن غلبت، عليه الأوهام كان في كلامه الباطل {والله} أي المحيط علمه وقدرته وله جميع صفات الكمال {يقول الحق} أي الكامل(15/286)
في حقيته، الثابت الذي يوافق ظاهره باطنه، فلا قدرة لأحد على نقضه فإن أخبر عن شيء فهو كما قال، ليس بين الخبر والواقع من ذلك المخبر عنه شيء من المخالفة، وإن أتى بقياس فرع على أصل لم يستطع أحد إبداء فرق، فإن أقواله سبحانه سابقة على الواقع لأنها مصدرة فيها بكون، فإذا قال قولاً وجد مضمونه مطابقاً لذلك القول، فإذا طبقت بينهما كانا سواء، فكان ذلك المضمون ثابتاً كما كان ذلك الواقع ثابتاً، فكان حقاً، هكذا أقواله على الدوام، لأنه منزه سبحانه عن النقائص فلا جارحة ثم ليكون بينها وبين معد القول مخالفة من فم أو غيره وعن كل ما يقتضي حاجة، فالآية من الاحتباك: ذكر الفم أولاً دليلاً على نفيه ثانياً والحق ثانياً دليلاً على ضده الباطل أولاً، وسرّ ذلك أنه ذكر ما يدل على النقص في حقنا، وعلى الكمال في حقه، ودل على التنزيه بالإشارة ليبين فهم الفهماء وعلم العلماء {وهو} أي وحده من حيث قوله الحق {يهدي السبيل *} أي الكامل الذي من شأنه أن يوصل إلى المطلوب إن ضل أحد في فعل أو قول، فلا تعولوا على سواء ولا تلتفتوا أصلاً إلى غيره.
ولما كان كأنه قيل: فما تقول؟ اهدنا إلى سبيل الحق في ذلك، أرشد إلى أمر التبني إشارة إلى أنه هو المقصود في هذه السورة لما يأتي بعد من آثاره التي هي المقصودة بالذات بقوله: {ادعوهم} أي الأدعياء(15/287)
{لآبائهم} أي إن علموا ولداً قالوا: زيد بن حارثة؛ ثم علله بقوله: {هو} أي هذا الدعاء {أقسط} أي أقرب إلى العدل من التبني وإن كان إنما هو لمزيد الشفقة على المتبني والإحسان إليه {عند الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال، فلا ينبغي أن يفعل في ملكه إلا ما هو أقرب إلى الكمال، وفي هذا النسبة إلى ما مضى بعض التنفيس عنهم، وإشارة إلى أن ذلك التغليظ بالنسبة إلى مجموع القولين المتقدمين.
ولما كانوا قد يكونون مجهولين، تسبب عنه قوله: {فإن لم تعلموا آباءهم} لجهل أصلي أو طارئ {فإخوانكم في الدين} إن كانوا دخلوا في دينكم {ومواليكم} أي أرقاؤكم مع بقاء الرق أو مع العتق على كلتا الحالتين، ولذا قالوا: سالم مولى أبي حذيفة. ولما نزل هذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام» - أخرجه الشيخان عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله عنهما.
ولما كانت عادتهم الخوف مما سبق من أحوالهم على النهي لشدة ورعهم، أخبرهم أنه تعالى أسقط عنهم ذلك لكونه خطأ، وساقه على وجه يعم ما بعد النهي أيضاً فقال: {وليس عليكم جناح} أي(15/288)
إثم وميل واعوجاج، وعبر بالظرف ليعيد أن الخطأ لا إثم فيه بوجه، ولو عبر بالباء لظن أن فيه إثماً، ولكنه عفا عنه فقال: {فيما أخطأتم به} أي من الدعاء بالنبوة والمظاهر أو في شيء قبل النهي أو بعده، ودل قوله: {ولكن ما} أي الإثم فيما {تعمدت قلوبكم} على زوال الحرج أيضاً فيما وقع بعد النهي على سبيل النسيان أو سبق اللسان، ودل تأنيث الفعل على أنه لا يعتمده بعد البيان الشافي إلا قلب فيه رخاوة الأنوثة، ودل جمع الكثرة على عموم الإثم إن لم ينه المعتمد.
ولما كان هذا الكرم خاصاً بما تقدمه، عم سبحانه بقوله: {وكان الله} أي لكونه لا أعظم منه ولا أكرم منه {غفوراً رحيماً *} أي من صفته الستر البليغ على المذنب النائب، والهداية العظمية للضال الآئب، والإكرام بإيتاء الرغائب.(15/289)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
ولما نهى سبحانه عن التبني، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تبنى زيد بن حارثة مولاه لما اختاره على أبيه وأمه، علل سبحانه النهي فيه بالخصوص بقوله دالاً على أن الأمر أعظم من ذلك: {النبي} أي الذي ينبئه الله بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال، ويرفعه دائماً في مراقي الكمال، ولا يريد أن يشغله بولد ولا مال {أولى بالمؤمنين} أي الراسخين في الإيمان، فغيرهم أولى في كل شيء من أمور الدين(15/289)
والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية {من أنفسهم} فضلاً عن آبائهم في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم، لأنه لا يدعوهم إلا إلى العقل والحكمة، ولا يأمرهم إلا بما ينجيهم، وأنفسهم إنما تدعوهم إلى الهوى والفتنة فتأمرهم بما يرديهم، فهو يتصرف فيهم تصرف الآباء بل الملوك بل أعظم بهذا السبب الرباني، فأيّ حاجة له إلى السبب الجسماني {وأزواجه} أي اللاتي دخل بهن لما لهن من حرمته {أمهاتهم} أي المؤمنين من الرجال خاصة دون النساء، لأنه لا محذور من جهة النساء، وذلك في الحرمة والإكرام، والتعظيم والاحترام، وتحريم النكاح دون جواز الخلوة والنظر وغيرهما من الإحكام، والتعظيم بينهن وبين الأمهات في ذلك أصلاً، فلا يحل انتهاك حرمتهن بوجه ولا الدنو من جنابهن بنوع نقص، لأن حق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته أعظم من حق الوالد على ولده، وهو حي في قبره وهذا أمر جعله الله وهو إذا جعل شيئاً كان، لأن الأمر أمره والخلق خلقه، وهو العالم بما يصلحهم وما يفسدهم {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه(15/290)
عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فأيما مؤمن ترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتي وأنا مولاه» .
ولما رد الله سبحانه الأشياء إلى أصولها، ونهى عن التشتت والتشعب، وكان من ذلك أمر التبني، وكان من المتفرع عليه الميراث بما كان قديماً من الهجرة والنصرة والأخوة التي قررها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان الأمر محتاجاً إليها، وكان ذلك قد نسخ بالآية التي في آخر الأنفال، وهي قبل هذه السورة ترتيباً ونزولاً، وكان ما ذكر هنا فرداً داخلاً في عموم العبارة في تلك الآية، أعادها منا تأكيداً وتنصيصاً على هذا الفرد للاهتمام به مع ما فيها من تفصيل وزيادة فقال: {وأولوا الأرحام} أي القرابات بأنواع النسب من النبوة وغيرها {بعضهم أولى} بحق القرابة {ببعض} في جميع المنافع العامة للدعوة والإرث والنصرة والصلة {في كتاب الله} أي قضاء الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه، وحكمه كما تقدم في كتابكم هذا، وكما أشار(15/291)
إليه الحديث الماضي آنفاً.
ولما بين أنهم أولى بسبب القرابة، بين المفصل عليه فقال: {من} أي هم أولى بسبب القرابة من {المؤمنين} الأنصار من غير قرابة مرجحة {والمهاجرين} المؤمنين من غير قرابة كذلك، ولما كان المعنى: أولى في كل نفع، استثنى منه على القاعدة الاستثناء من أعم العام قوله، لافتاً النظم إلى أسلوب الخطاب ليأخذ المخاطبون منه أنهم متصفون بالرسوخ في الإيمان الذي مضى ما دل عليه في آية الأولوية من التعبير بالوصف، فيحثهم ذلك على فعل المعروف: {إلا أن تفعلوا} أي حال كونكم موصلين ومسندين {إلى أوليائكم} بالرق أو التبني أو الحلف في الصحة مطلقاً وفي المرض من الثلث تنجيراً أو وصية {معروفاً} تنفعونهم به، فيكون حينئذ ذلك الولي مستحقاً لذلك، ولا يكون ذو الرحم أولى منه، بل لا وصية لوارث.
ولما أخبر أن هذا الحكم في كتاب الله، أعاد التنبيه على ذلك تأكيداً قلعاً لهذا الحكم الذي تقرر في الأذهان بتقريره سبحانه فيما مضى فقال مستأنفاً: {كان ذلك} أي الحكم العظيم {في الكتاب}(15/292)
أي القرآن في آخر سورة الأنفال {مسطوراً *} بعبارة تعمه، قال الأصبهاني: وقيل: في التوارة، لأن في التوراة: إذا نزل رجل بقوم من أهل دينه فعليهم أن يكرموه ويواسوه، وميراثه لذوي قرابته، فالآية من الاحتباك: أثبت وصف الإيمان أولاً دليلاً على حذفه ثانياً ووصف الهجرة ثانياً دليلاً على حذف النصرة أولاً.
ولما كان نقض العوائد وتغيير المألوفات مما يشق كثيراً على النفوس، ويفرق المجتمعين، ويقطع بين المتواصلين، ويباعد بين المتقاربين، قال مذكراً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أخذ على من قبله من نسخ أديانهم بدينه، وتغيير مألوفاتهم بإلفه، ومن نصيحة قومهم بإبلاغهم كل ما أرسلوا به، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لأنه أدعى إلى قبول الأوامر: {وإذا} فعلم أن التقدير: اذكر ذلك - أي ما سطرناه لك قبل هذا في كتابك، واذكر إذ {أخذنا} بعظمتنا {من النبيين ميثاقهم} في تبليغ الرسالة في المنشط والمكره، وفي تصديق بعضهم لبعض، وفي اتباعك فيما أخبرناك به في قولنا {لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} [آل عمران: 81] وقولهم: أقررنا.
ولما ذكره ما أخذ على جميع الأنبياء من العهد في تغيير مألوفاتهم إلى ما يأمرهم سبحانه به من إبلاغ ما يوحى إليهم والعمل بمقتضاه،(15/293)
ذكره ما أخذ عليه من العهد في التبليغ فقال: {ومنك} أي في قولنا في هذه السورة {اتق الله واتبع ما يوحى إليك} وفي المائدة {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}
[المائدة: 67] فلا تهتم بمراعاة عدو ولا خليل حقير ولا جليل، ولما أتم المراد إجمالاً وعموماً، وخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك العموم مبتدئاً به بياناً لتشريفه ولأنه المقصود بالذات بالأمر بالتقوى واتباع الوحي لأجل التبني وغيره، أتبعه بقية أولي العزم الذين هم أصحاب الكتب ومشاهير أرباب الشرائع تأكيداً للأمر وتعظيماً للمقام، لأن من علم له شركاً في أمر اجتهد في سبقه فيه ورتبهم على ترتيبهم في الزمان لأنه لم يقصد المفاضلة بينهم، بل التآسية بالمتقدمين والمتأخرين فقال: {ومن نوح} أول الرسل إلى المخالفين {وإبراهيم} أبي الأنبياء {وموسى} أول أصحاب الكتب من أنبياء بني إسرائيل {وعيسى ابن مريم} ختامهم، نسبه إلى أمه مناداة على من ضلَّ فيه بالتوبيخ والتسجيل بالفضيحة؛ ثم زاد في تأكيد الأمر وتعظيمه تعظيماً للموثق فيه، وإشارة إلى مشقته، فقال مؤكداً بإعادة العامل ومظهر العظمة لصعوبة الرجوع عن المالوف: {وأخذنا منهم} أي بعظمتنا في ذلك {ميثاقا غليظاً} استعارة من وصف الأجرام العظام(15/294)
كناية عن أنه لا يمكن قطعه لمن أراد الوصلة بنا.
ولما كان الأخذ على النبيين في ذلك اخذاً على أممهم، وكان الكفر معذباً عليه من غير شرط، والطاعة مثاباً عليها بشرط الإخلاص علله، معبراً بما هو مقصود السورة فقال ملتفتاً إلى مقام الغيبة لتعظيم الهيبة لأن الخطاب إذا طال استأنس المخاطب: {ليسأل} أي يوم القيامة {الصادقين} أي في الوفاء بالعهد {عن صدقهم} هل هو لله خالصاً أو لا، تشريفاً لهم وإهانة وتبكيتاً للكاذبين، ويسأل الكافرين عن كفرهم ما الذي حملهم عليه، والحال أنه أعد للصادقين ثواباً عظيم {وأعد للكافرين} أي الساترين لإشراق أنوار الميثاق {عذاباً أليماً} فالآية، من محاسن رياض الاحتباك، وإنما صرح بسؤال الصادق بشارة له بتشريفه في ذلك الموقف العظيم، وطوى سؤال الكفار إشارة إلى استهانتهم بفضيحة الكذب {ويحلفون على الكذب وهو يعلمون} [المجادلة: 14] {فيحلفون له كما يحلفون لكم} [المجادلة: 18] وذكر ما هو أنكى لهم.(15/295)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
ولما أكد سبحانه وجوب الصدع بكل أمره وإن عظمت مشقته وزادت حرقته من غير ركون إلى مؤالف موافق، ولا اهتمام بمخالف(15/295)
مشاقق، اعتماداً على تدبيره، وعظيم أمره في تقديره، ذكرهم بدليل شهودي هو أعظم وقائعهم في حروبهم، وأشد ما دهمتهم من كروبهم، فقال معلماً أن المقصود بالذات بما مضى من الأوامر الأمة - وإنما وجه الأمر إلى الإمام ليكون أدعى لهم إلى الامتثال فإن الأمر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكويني بمنزلة ما يقول الله تعالى له {كن} فحقيقة الإرادة لا الأمر، والأمر للذين آمنوا تكفيلي. وقد يراد منهم ما يؤمرون به وقد لا يراد، وللناس احتجاجي أي تقام به عليهم الحجة، ومن المحقق أن بعضهم يراد منه خلاف المأمور به: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان، عبر به ليعم المنافقين {اذكروا} ورغبهم في الشكر بذكر الإحسان والتصريح بالاسم الأعظم فقال: {نعمة الله} عبر بها لأنها المقصودة بالذات والمراد إنعام الملك الأعلى الذي لا كفوء له {عليكم} أي لتشكروه عليها بالنفوذ لأمره غير ملتفتين إلى خلاف أحد كائناً من كان، فإن الله كافيكم كل ما تخافون ثم ذكر لهم وقت تلك النعمة زيادة في تصويرها ليذكر لهم ما كان فيه منها فقال: {إذ} أي حين {جاءتكم} أي في غزوة الخندق(15/296)
حين اجتمعت عليكم الأحزاب وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضربه حين سمع بهم بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه على جانبي سلع من شماليه، وخطه وقطع لكل عشرة رجال أربعين ذراعاً، وكانوا ثلاثة آلاف، فكان الخندق اثني عشر ألف ذراع {جنود} وهم الأحزاب من قريش ومن انضم إليه من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان ابن حرب، ومن انضم من قبائل العرب من بني سليم يقودهم أبو الأعور، ومن بني عامر يقودهم عامر بن الطفيل، ومن غطفان يقودهم عيينة بن حصن، ومن بني أسد يقودهم طليحة بن خويلد، ومن أسباط بني إسرائيل من اليهود ومن بني النضير ورؤساهم حيي بن أخطب وابنا أبي الحقيق، وهم الذين جمعوا الأحزاب بسبب إجلاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبني النضير من المدينة الشريفة، وأفسدوا أيضاً بني قريظة، وكانوا بالمدينة الشريفة وسيدهم كعب بن أسد، فكان الجميع اثني عشر الفاً، وكانوا واثقين في زعمهم بأنهم لا يرجعون وقد بقي للإسلام باقية، ولا يكون لأحد من أهله منهم واقية.
ولما كان مجيء الجنود مرهباً، سبب عنه عوده إلى مظهر العظمة فقال: {فأرسلنا} أي تسبب عن ذلك أنا لما رأينا عجزكم عن مقابلتهم ومقاومتهم في مقاتلتهم ألهمناكم عمل الخندق ليمنعهم من سهولة الوصول(15/297)
إليكم، ثم لما طال مقامهم أرسلنا بما لنا من العظمة {عليهم} أي خاصة {ريحاً} وهي ربح الصبا، فأطفأت نيرانهم.
وأكفأت قدورهم وجفانهم، وسفت التراب في وجوههم، ورمتهم بالحجارة وهدت خيامهم، وأوهنت ببردها عظامهم، وأجالت خيلهم {وجنوداً لم تروها} يصح أن تكون الرؤية بصرية وقلبية، منها من البشر نعيم بن مسعود الغطفاني رضي الله عنه هداه الله للإسلام، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إنه لم يعلم أحد بإسلامي، فمرني يا رسول الله بأمرك! فقال: «إنما أنت فينا رجل واحد والحرب خدعة، فخذل عنا مهما استطعت» فأخلف بين اليهود وبين العرب بأن قال لليهود وكانوا أصحابه: إن هؤلاء - يعني العرب - إن رأوا فرصة انتهزوها وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين. وليس حالكم كحالهم، البلد بلدكم وبه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم ليكونوا عندكم حتى تناجزوا الرجل، فإنه ليس لكم بعد طاقة إذا انفرد بكم، فقالوا: أشرت بالرأي، فقال: فاكتموا عني، وقال لقريش: قد علمتم صحبتي لكم وفراقي لمحمد، وقد سمعت أمراً ما أظن أنكم تتهمونني فيه، فقالوا: ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، قال: إن اليهود(15/298)
قد ندموا على نقض ما بينهم وبين محمد وأرسلوا إليه: إنا قد ندمنا فهل ينفعنا عندك أن نأخذ لك من القوم جماعة من أشرافهم تضرب أعناقهم، ونكون معك على بقيتهم، حتى تفرغ منهم لتكف عنا. وتعيد لنا الأمان، قال: نعم، فإن أرسلوا إليكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً، ثم أتى غطفان فقال: إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ، قالوا: صدقت، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش واستكتمهم، فأرسلت إليهم قريظة يطلبون منهم رهناً فقالوا: صدق نعيم، وأبوا أن يدفعوا إليهم أحداً، فقالت قريظة: صدق نعيم، فتخاذلوا واختلفت كلمتهم، فانكسرت شوكتهم، وبردت حدتهم، ومنها من الملائكة جبرائيل عليه السلام ومن أراد الله منهم - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام، والتحية والإكرام، فكبروا في نواحي عسكرهم، وزلزلوا بهم، وبثوا الرعب في قلوبهم، فماجت خيولهم، واضمحل قالهم وقيلهم، فكان في ذلك رحيلهم، بعد نحو أربعين يوماً أو بضع وعشرين - على ما قيل.
ولما أجمل سبحانه القصة على طولها في بعض هذه الآية، فصلها فقال ذاكراً الاسم الأعظم إشارة إلى أن ما وقع فيها كان معتنى به(15/299)
اعتناء من بذل جميع الجهد وإن كان الكل عليه سبحانه يسيراً: {وكان الله} الذي له جميع صفات الكمال والجلال والجمال {بما يعملون} أي الأحزاب من التحزب والتجمع والتألب والمكر والقصد السيىء - على قراءة البصري، وأنتم أيها المسلمون من حفر الخندق وغيره من الصدق في الإيمان وغيره - على قراءة الباقين {بصيراً} بالغ الإبصار والعلم، فدبر في هذه الحرب ما كان المسلمون به الأعلين ولم ينفع أهل الشرك قوتهم، ولا أغنت عنهم كثرتهم، ولا ضر المؤمنين قلتهم، وجعلنا ذلك سبباً لإغنائهم بأموال بني قريظة ونسائهم وأبنائهم وشفاء لأدواتهم بإراقة دمائهم - كما سيأتي؛ ثم ذكرهم الشدة التي حصلت بتمالئهم فقال مبدلاً من {إذ} الأولى: {إذ جاؤوكم} أي الجنود المذكورون بادئاً بالأقرب إليهم، لأن الأقرب أبصر بالعورة وأخبر بالمضرة.
ولما كان من المعلوم أنهم لم يطبقوا ما علا وما سفل، أدخل أداة التبعيض فقال: {من فوقكم} يعني بني قريظة وأسد وغطفان من ناحية مصب السيول من المشرق، وأضاف الفوق إلى ضميرهم لأن العيال كانوا في الآكام، وهي بين بني قريظة وبين من في الخندق، فصاروا(15/300)
فوق العيال والرجال.
ولما كان المراد الفوقية من جهة علو الأرض، أوضحها بقوله: {ومن أسفل منكم} دون أن يقول: أسفلكم، وأفاد ذلك أيضاً من في أسفل إنما أحاطوا ببعض جهة الرجال فقط، ولم يقل «ومن تحتكم» لئلا يظن أنه فوق الرؤوس وتحت الأرجل، ولم يقل في الأول «من أعلى منكم» لئلا يكون فيه وصف للكفرة بالعلو، وأسفل الأرض المدينة من ناحية المغرب يعني قريشاً، ومن لافّها من كنانة فإن طريقهم من تلك الجهة.
ولما ذكرهم بالمجيء الذي هو سبب الخوف، ذكرهم بالخوف بذكر ظرفه أيضاً مفخماً لأمره بالغطف فقال: {وإذ} أي واذكروا حين، وأنث الفعل وما عطف عليه لأن التذكير الذي يدور معناه على القوة والعلو والصلابة ينافي الزيغ فقال: {زاغت الأبصار} أي مالت عن سداد القصد فعل الواله الجزع بما حصل من الغفلة الناشئة عن الدهشة الحاصلة من الرعب، وقطع ذلك عن الإضافة إلى كاف الخطاب إبقاء عليهم وتعليماً للأدب في المخاطبة، وكذا {وبلغت القلوب} كناية عن شدة الرعب والخفقان، ويجوز - وهو الأقرب - أن يكون ذلك(15/301)
حقيقة بجذب الطحال والرئة لها عند ذلك بانتفاخهما إلى أعلى الصدر، ومنه قولهم للجبان: انتفخ منخره أي رئته {الحناجر} جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم، ومن هذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه «شر ما في الإنسان جبن خالع» أي يخلع القلب من مكانه، وجمع الكثرة إشارة إلى أن ذلك عمهم أو كاد.
ولما كانت هذه حالة عرضت، ثم كان من أمرها أنها إما زالت وثبتت إلى انقضاء الأمر، عبر عنها بالماضي لذلك وتحقيقاً لها ولما نشأ عنها تقلب القلوب وتجدد ذهاب الأفكار كل مذهب، عبر بالمضارع الدال على دوام التجدد فقال: {وتظنون بالله} الذي له صفات الكمال فلا يلم نقص ما بساحة عظمته، ولا يدنو شيء من شين إلى جناب عزته {الظنونا *} أي أنواع الظن إما بالنسبة إلى الأشخاص فواضح، وذلك بحسب قوة الإيمان وضعفه، وأما بالنسبة إلى الشخص الواحد فحسب تغير الأحوال، فتارة يظن الهلاك للضعف، وتارة النجاة لأن الله قادر على ذلك، ويظن المنافقون ومن قاربهم من ضعفاء القلوب ما حكى الله عنهم؛ قال الرازي في اللوامع: ويروى أن المسلمين قالوا: بلغت القلوب الحناجر، فهل من شيء نقول؟(15/302)
فقال عليه الصلاة والسلام:
«اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا» وزيادة الألف في قراءة من أثبتها في الحالين وهم المدنيان وابن عامر وشعبة إشارة إلى اتساع هذه الأفكار، وتشعب تلك الخواطر، وعند من أثبتها في الوقت دون الوصل وهم ابن كثير والكسائي وحفص إشارة إلى اختلاف الحال تارة بالقوة وتارة بالضعف.(15/303)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
ولما كانت الشدة في الحقيقة إنما هي للثابت لأنه ما عنده إلا الهلاك أو النصرة، وأما المنافق فيلقي السلم ويدخل داره الذل بالموافقة على جميع ما يراد منه، ترجم حال المؤمنين قاصراً الخطاب على الرأس لئلا يدخل في مضمون الخبر إعلاماً بأن منصبه الشريف أجلّ من أن يبتلى فقال تعالى: {هنالك} أي في ذلك الوقت العظيم البعيد الرتبة {ابتلي المؤمنون} أي خولط الراسخون في الإيمان بما شأنه أن يحيل ما خالطه ويميله، وبناه للمجهول لما كان المقصود إنما هو معرفة المخلص من غيره، مع لعلم بأن فاعل ذلك هو الذي له الأمر كله، ولم يؤكد الابتلاء بالشدة لدلالة الافتعال عليها، وصرف الكلام عن الخطاب مع ما تقدم من فوائده، وعبر بالوصف ليخص الراسخين فقال: {وزلزلوا} أي حركوا ودفعوا وأقلقوا وأزعجوا بما يرون من الأهوال بتظافر الأعداء مع الكثرة، وتطاير الأراجيف {زلزالاً شديداً *} فثبتوا(15/303)
بتثبيت الله لهم على عهدهم.
ولما علم بهذا أن الحال المزلزل لهم كان في غاية الهول، أشار إلى أنهم لم يزلزلهم بأن حكى أقوال المزلزلين، ولم يذكر أقوالهم وسيذكرها بعد ليكون الثناء عليهم بالثبات مع عظيم الزلزال مذكوراً مرتين إشارة وعبارة، فقال: {وإذ} وأشار إلى تكريرهم لدليل النفاق بالمضارع فقال: {يقول} أي مرة بعد أخرى {المنافقون} أي الراسخون في النفاق، لأن قلوبهم مريضة ملائ مرضاً {والذين في قلوبهم مرض} أي من أمراض الاعتقاد بحيث أضعفها في الاعتقاد والثبات في مواطن اللقاء وفي كل معنى جليل، فهم بحيث لم يصلوا إلى الجزم بالنفاق ولا الإخلاص في الإيمان، بل هم على حرف فعندهم نوع النفاق، فالآية من الاحتباك: ذكر النفاق أولاً دال عليه ثانياً، وذكر المرض ثانياً دليل عليه أولاً، وهذا الذي قلته في القلوب موافق لما ذكره الإمام السهروردي في الباب السادس والخمسين من عوارفه عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهو، فذلك قلب المؤمن، وقلب أسود منكوس، فذلك قلب الكافر، وقلب مربوط على غلاف، فذلك قلب المنافق، وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء(15/304)
الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد، فأيّ المدتين غلبت عليه حكم له بها» وروى هذا الحديث الغزالي في أواخر كتاب قواعد العقائد من الإحياء عن أبي سعيد الخدري، وق الشيخ زين الدين العراقي: أخرجه أحمد.
ولما كان المكذب لهم بتصديق وعد الله - ولله الحمد - كثيراً، أكدوا قولهم وذكروا الاسم الأعظم وأضافوا الرسول إليه فقالوا: {ما وعدنا الله} الذي ذكر لنا أنه محيط الجلال والجمال {ورسوله} أي الذي قال من قال من قومنا: إنه رسول، استهزاء منهم، وإقامة للدليل في زعمهم لهذا البلاء على بطلان تلك الدعوى {إلا غروراً *} أي باطلاً استدرجنا به إلى الانسلاخ عما كنا عليه من دين آبائنا وإلى الثبات على ما صرنا إليه بعد ذلك الانسلاخ بما وعدنا به من ظهور هذا الدين على الدين كله، والتمكين في البلاد حتى في حفر الخندق، فإنه قال: إنه أبصر بما برق له في ضربه لصخرة سلمان مدينة صنعاء من اليمن وقصور وكسرى بالحيرة من أرض فارس، وقصور الشام من أرض الروم، وإن تابعيه سيظهرون على ذلك كله وقد صدق الله وعده في جميع ذلك حتى في لبس سراقة بن مالك ابن(15/305)
جعشم سوارى كسرى بن هرمز كما هو مذكور مستوفى في دلائل النبوة للبيهقي، وكذبوا في شكهم.
ففاز المصدقون، وخاب الذين هم في ريبهم يترددون.
ولما ذكر ما هو الأصل في نفاقهم وهو التكذيب، أتبعه ما تفرع عليه، ولما كان تخذيلهم بالترجيع مرة، عبر عنه بالماضي فقال: {وإذ قالت} أنث الفعل إشارة إلى رخاوتهم وتأنثهم في الأقوال والأفعال {طائفة منهم} أي قوم كثير من موتى القلوب ومرضاها يطوف بعضهم ببعض: {يا أهل يثرب} عدلوا عن الاسم - الذي وسمها به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة وطيبة مع حسنه - إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديماً مع احتمال قبحه باشتقاقه من الثرب الذي هو اللوم والتعنيف إظهاراً للعدول عن الإسلام قال في الجمع بين العباب والمحكم: ثرب عليه ثرباً وأثرب، بمعنى ثرب تثريباً - إذا لامه وعيّره بذنبه وذكره به. وأكدوا بنفي الجنس لكثرة مخالفتهم في ذلك فقالوا: {لا مقام لكم} أي قياماً أو موضع قيام تقومون به - على قراءة الجماعة بالفتح، وعلى قراءة حفص بالضم المعنى: لا إقامة أو موضع إقامة في مكان القتال ومقارعة الأبطال {فارجعوا} إلى منازلكم هراباً، وكونوا(15/306)
مع نسائكم أذناباً، أو إلى دينكم الأول على وجه المصارحة لتكون لكم عند هذه الجنود يد.
ولما ذكر هؤلاء الذين هتكوا الستر، وبينوا ما هم فيه من سفول الأمر، أتبعهم آخرين تستروا بعض التستر تمسكاً بأذيال النفاق، خوفاً من أهوال الشقاق، فقال: {ويستأذن} أي يجدد كل وقت طلب الإذن لأجل الرجوع إلى البيوت والكون مع النساء {فريق منهم} أي طائفة شأنها الفرقة {النبي} وقد رأوا ما حواه من علو المقدار بما له من حسن الخلق، والخلق، وما لديه من جلاله الشمائل وكريم الخصائل، ولم يخشوا من إنبائنا له بالأخبار، وإظهارنا له الخبء، من مكنون الضمائر وخفي الأسرار، حال كونهم {يقولون} أي في كل قليل، مؤكدين لعلمهم بكذبهم وتكذيب المؤمنين لهم قولهم: {إن بيوتنا} أتوا بجمع الكثرة إشارة إلى كثرة أصحابهم المنافقين {عورة} أي بها خلل كثير يمكن من أراد من الأحزاب أن يدخلها منه، فإذا ذهبنا إليها حفظناها منهم وكفينا من يأتي إلينا من مفسديهم حماية للدين، وذباً عن الأهلين.
ولما قالوا ذلك مؤكدين له، رده الله تعالى موكداً لرده مبيناً لما(15/307)
أرادوا فقال: {وما} أي والحال أنها ما {هي} في ذلك الوقت الذي قالوا هذا فيه، وأكد النفي فقال: {بعورة} ولا يريدون بذهابهم حمايتها {إن} أي ما {يريدون} باستئذانهم {إلا فراراً *} ولما كانت عنايتهم مشتدة بملازمة دورهم. فأظهروا اشتداد العناية بحمايتها زوراً بين الله ذلك ودل عليه بالإسناد إلى الدور تنبيهاً على أنها ربة الحماية والعمدة فقال: {ولو دخلت} أي بيوتهم من أيّ داخل كان من هؤلاء الأحزاب أو غيرهم، وأنث الفعل نصاً على المراد وإشارة إلى أن ما ينسب إليهم جدير بالضعف، وعبر بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} إشارة إلى أنه دخول غلبة {من أقطارها} أي جوانبها كلها بحيث لا يكون لهم مكان للهرب.
ولما كان قصد الفرار مع الإحاطة بالدار، من جميع الأقطار، دون الاستقتال للدفع عن الأهل والمال، بعيداً عن أفعال الرجال؛ عبر بأداة التراخي فقال: {ثم سئلوا} أي من أيّ سائل كان {الفتنة} أي الخروج منها فارّين، وكأنه سماه بها لأنه لما كان أشد الفتنة(15/308)
من حيث أنه لا يخرج الإنسان من بيته إلا الموت أو ما يقاربه كان كأنه لا فتنة سواه {لأتوها} أي الفتنة بالخروج فراراً، إجابة لسؤال من سألهم مع غلبة الظن بالدخول على صفة الإحاطة أن لا نجاة، فهم أبداً يعولون على الفرار من غير قتال حماية لذمار او دفعاً لعار، أو ذباً عن أهل أو جار، وهذا المعنى ينتظم قراءة أهل الحجاز بالقصر وغيرهم بالمد، فإن من أجاب إلى الفرار فقد أعطى ما كأنه كان في يده منه غلبة وجبناً وقد جأءه وفعله.
ولما كان هذا عند العرب - مع ما لهم من النجدة والخوف من السبة - لا يكاد يصدق، أشار إلى ذلك بتأكيده في زيادة تصويره فقال: {وما تلبثوا بها} أي البيوت {إلا يسيراً *} فصح بهذا أنهم لا يقصدون إلا الفرار، لا حفظ البيوت من المضار، ويدلك على هذا المعنى إتباعه بقوله مؤكداً لأجل ما لهم من الإنكار والحلف بالكذب: {ولقد كانوا} أي هؤلاء الذين أسرعوا الإجابة إلى الفرار مع الدخول عليهم على تلك الصفة من سبي حريمهم واجتياح بيضتهم {عاهدوا الله} أي الذي لا أجلّ منه.(15/309)
ولما كان العهد ربما طال زمنه فنسي، فكان ذلك عذراً لصاحبه، بين قرب زمنه بعد بيان عظمة المعاهد اللازم منه ذكره، فقال مثبتاً الجار: {من قبل} أي قبل هذه الحالة وهذه الغزوة حين أعجبتهم المواعيد الصادقة بالفتوحات التي سموها الآن عندما جد الجد مما هي مشروطة به من الجهاد غروراً {لا يولّون} أي يقربون عدوهم {الأدبار} أي أدبارهم أبداً لشيء من الأشياء، ولا يكون لهم عمل إذا حمى الياس، وتخالط الناس، واحمرت الحدق وتداعس الرجال، وتعانق الحماة الأبطال إلى الظفر أو الموت.
ولما كان الإنسان قد يتهاون بالعهد لإعراض المعاهد عنه قال: {وكان عهد الله} أي الوفاء بعهد من هو محيط بصفات الكمال. ولما كان العهد فضلة في الكلام لكونه مفعولاً، واشتدت العناية به هنا، بين ذلك بتقديمه أولاً ثم يجعله العمدة، وإسناد الفعل إليه ثانياً فقال: {مسؤولاً *} ، أي في أن يوفي به ذلك الذي وقع منه.(15/310)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
ولما أتم سبحانه ما أخبر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما دل عليه التعبير بالنبي، استأنف أمره بجوابهم جواباً لمن كأنه قال: ماذا يقال لهم؟ وإجراءً للنصحية على لسانه لما هو مجبول عليه من الشفقة، {قل} أي لهم، وأكد لظنهم نفع الفرار: {لن ينفعكم} أي في(15/310)
تأخير آجالكم في وقت من الأوقات {الفرار} أي الذي ما كان استئذانكم إلا بسببه {إن فررتم من الموت} أي بغير عدو {أو القتل} لأن الأجل إن كان قد حضر، لم يتأخر بالفرار وإلا لم يقصره الثبات كما كان علي رضي الله عنه يقول: إذا دهم الأمر، وتوقد الجمر، واشتد من الحرب الحر، أيّ يومي من الموت أفر؟ يوم لا يقدر أو يوم قدر، وذلك أن أجل الله الذي أجله محيط بالإنسان لا يقدر أن يتعداه أصلاً {وإذا} أي وإذ فررتم.
ولما كانوا لا يقصدون بالعيش إلا التمتع، بين ذلك بالبناء للمجهول فقال: {لا تمتعون} أي تمتعاً مبالغاً فيه كما تريدون بما بقي من أعماركم إن كان بقي منها شيء {إلا قليلاً *} بل يتمكن العدو منكم بأدباركم، ومن أموالكم وأحسابكم ودياركم، فيفسد مهما قدر عليه من ذلك فلا تقدرون على تداركه إلا بعد زمان طويل وتعب كبير، بخلاف ما إذا ثبتم وفاء بالعهد وحفظاً للثناء فلاقيتم الأقرن، وقارعتم الفرسان، اعتماداً على ربكم وطاعة لنبيكم، فإن كان الأجل قد أتى لم ينقصكم ذلك شيئاً، ومتم أعزة كراماً، وإلا فزتم بالنصر، وحزتم الأجر، وعشتم بأتم نعمة إلى تمام العمر، فالثبات أبقى للمهج، وأحفظ للعيش البهج.(15/311)
ولما كانوا لما عندهم من التقيد بالوهم، والدوران مع الحس دأب البهم، جديرين بأن يقولوا: بلى ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم، ومن ثبت فاصطلم، أمره بالجواب عن هذا بقوله: {قل} أي لهم منكراً عليهم: {من ذا الذي يعصمكم} أي يمنعكم {من الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً قبل الفرار وفي حال الفرار وبعده {إن أراد بكم سوءاً} فأناخ بكم نقمه فيرد ذلك السوء عنكم {أو} يهينكم ويقبح جانبكم ويمتهنه بأن يصيبكم بسوء إن {أراد بكم رحمة} فأفادكم نعمه، والرحمة النفع سماه بها لأنه أثرها، قيسوا هذا المعنى على مقاييس عقولكم معتبرين له بما وجدتم من الشقين في جميع أعماركم، هل احترزتم عن سوء إرادة فنفعكم الاحتراز، أو اجتهد غيره في منعكم رحمة منه فتم له أمره أو أوقع الله بكم شيئاً من ذلك فقدر أحد مع بذل الجهد على كشفه بدون إذنه؟ ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك: ذكر السوء أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، وذكر الرحمة ثانياً دليلاً على حذف ضدها أولاً.
ولما كانوا أجمد الناس، أشار سبحانه بكونهم لم يبادروهم بأنفسهم(15/312)
الجواب بما يدل على المناب إلى جمودهم بالعطف على ما علم أن تقديره جواباً من كل ذي بصيرة: لا يعصمهم أحد من دونه من شيء من ذلك، ولا يصيبهم بشيء منه، فقال: {ولا يجدون} أي في وقت من الأوقات {لهم} ونبه على أنه لا شيء إلا وهو في مثبتاً الجار: {من دون الله} وعبر بالاسم العلم إشارة إلى إحاطته بكل وصف جميل، فمن أين يكون لغيره الإلمام بشيء منها إلا بإذنه {ولياً} يواليهم فينفعهم بنوع نفع {ولا نصيراً *} ينصرهم من أمره فيرد ما أراده من السوء عنهم.
ولما أخبرهم سبحانه بما علم مما أوقعوه من أسرارهم، وأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوعظهم، حذرهم بدوام علمه لمن يخون منهم، فقال محققاً مقرباً من الماضي ومؤذناً بدوام هذا الوصف له: {قد يعلم} ولعله عبر ب «قد» التي ربما أفهمت في هذه العبارة التقليل، إشارة إلى أنه يكفي من له أدنى عقل في الخوف من سطوة المتهدد احتمال علمه، وعبر بالاسم الأعظم فقال: {الله} إشارة إلى إحاطة الجلال(15/313)
والجمال {المعوقين} أي المثبطين تثبيط تكرية وعقوق، يسرعون فيه إسراع الواقع بغير اختياره {منكم} أي أيها الذين أقروا بالإيمان للناس قاطبة عن إتيان حضرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {والقائلين لإخوانهم هلم} أي ائتوا وأقبلوا {إلينا} موهمين أن ناحيتهم مما يقام فيه القتال، ويواظب على صالح الأعمال {ولا} أي والحال أنهم لا {يأتون البأس} أي الحرب أو مكانها {إلا قليلاً} للرياء والسمعة بقدر ما يراهم المخلصون، فإذا اشتغلوا بالمعاركة وكفى كل منهم ما إليه تسللوا عنهم لواذاً، وعاذوا بمن لا ينفعهم من الخلق عياذاً.
ولما كانوا يوجهون لكل من أفعالهم هذه وجهاً صالحاً، بين فساد قصدهم بقوله ذاماً غاية الذم بالتعبير الشح الذي هو التناهي في البخل، فهو بخل بما في اليد وأمر للغيب بالبخل فهو بخل إلى بخل خبيث قذر متمادى فيه مسارع إليه {أشحة} أي يفعلون ما تقدم والحال أن كلاً منهم شحيح {عليكم} أي بحصول نفع منهم أو من غيرهم بنفس أو مال.
ولما كان التقدير: في حال الأمن، أتبعه بيان حالهم في الخوف فقال: {فإذا جاء الخوف} أي لمجيء أسبابه من الحرب ومقدماتها {رأيتهم} أي أيها المخاطب {وينظرون} وبين بعدهم حساً ومعنى بحرف الغاية فقال: {إليك} أي حال كونهم {تدور} يميناً وشمالاً(15/314)
بإدارة الطرف {أعينهم} أي زائغة رعباً وخوراً، تم شبهها في سرعة تقلبها لغير قصد صحيح فقال: {كالذي} أي كدوران عين الذي، وبين شدة العناية بتصوير ذلك بجعل المفعول عمدة ببناء الفعل له فقال: {يغشى عليه} مبتدئاً غشيانه {من الموت} سنة الله في أن كل من عامل الناس بالخداع، كان قليل الثبات عند القراع؛ ثم ذكر خاصة أخرى لبيان جبنهم فقال: {فإذا ذهب الخوف} أي بذهاب أسبابه {سلقوكم} أي تناولوكم تناولاً صعباً جرأة ووقاحة، ناسين ما وقع منهم عن قرب من الجبن والخور {بألسنة حداد} ذربة قاطعة فصيحة بعد أن كانت عند الخوف في غاية اللجلجة لا تقدر على الحركة من قلة الريق ويبس الشفاه، وهذا لطلب العرض الفاني من الغنيمة أو غيرها؛ ثم بين المراد بقوله: {أشحة} أي شحاً مستعلياً {على الخير} أي المال الذي عندهم، وفي اعتقادهم أنه لا خير غيره، شحاً لا يريدون أن يصل شيء منه إليكم ولا يفوتهم شيء منه، وهذه سنة أخرى في أن من كان صلباً في الرخاء كان رخواً حال الشدة وعند اللقاء، وإنما فسرت الشح بهذا لأن مادته بترتيبها تدور على الجمع الذي انتهى(15/315)
فأشرف على الفساد، من الحشيش والمحشة، وهي الدبر، فهو جمع يتبعه في الأغلب نكد وأذى، ومن لوازم مطلق الجمع القوة فتتبعها الصلابة، فربما نشأت القساوة، وربما نشأت عن الجمع الفرقة فلزمها الرخاوة، فمن الجمع النكد الشح وهو البخل والحرص، وشح النفس حرصها على ما ملكت، قال القزاز: وجمع الشحيح في أقل العدد أشحة، ولم أسمع غيره، وحكى أبو يوسف: أشحاء - بالمد في الكثير، والرجلان يتشاحان عن الأمر - إذا كان كل منهما يريد أن لا يفوته، وزند شحاح: لا يورى، وماء شحاح: نكد غير غمر - لأنه اشتد اجتماعه في مكانه، واشتدت أرضه باجتماع أجزائها فصلبت جداً فضنت به.
وأرض شحاح: صلبة، قال القزاز: وبه شبه الزند، والشحشاح: الحاد والسيىء الخلق والماضي في كلام أو سير، والمواظب على الشيء، لأن ذلك من لوازم الحدة الناشئة عن القوة الناشئة عن الجمع، ومن هنا قيل للخطيب البليغ والشجاع والغيور: شحشح وشحشاح، والشحشح من الغربان: الكثير الصوت، ومن الحمير: الخفيف، ومن القطا: السريعة، والشحشاح: الطويل - كأنه جمع طولين، وشحشح البعير(15/316)
في الهدير - إذا لم يخلصه، كأنه جمع إلى الهدير ما ليس بهدير، والشحشحة: صوت الصرد - لكثرة اتصالها، فهي ترجع إلى الحدة التي ترجع إلى القوة الناشئة عن الجمع، وترديد البعير في الهدير والطيران السريع والحذر، فإنه يدل على اجتماع القلب وثقوب الذهن، وامرأة شحشاح - كأنه رجل في قوتها، والمشحشح - كالمسلسل: القليل الخير، وإبل شحائح: قليلة الدر، وذلك من الجمع والصلابة الناشئة عن القساوة والنكد، والشحيح من الأرض ما يسيل من أدنى مطر، لصلابتها وشدة اجتماع بعضها إلى بعض، والشحشح أيضاً من الأرض ما لا يسيل إلا من مطر كثير ضد الأول، وذلك ناظر إلى جمعها للنظر لغوره فيها لما في أجزائها من التفرق الذي تقدم أنه من لوازم الجمع، ومن مطلق الجمع: الفلاة الواسعة - لأنها جامعة لما يراد جمعه، والشحاح: شعاب صغار تدفع الماء إلى الوادي، فهي بمدها جامعة، وبكونها صغاراً نكدة ومجتمعة في نفسها، ومن الجمع: الحشيش، وهو اليابس من العشب، وأصله ما جمع منه.
والمحش: الموضع الكثير الحشيش والخير، لأن الجمع ربما نشأ عنه رفق، وكثرة الحشيش يلزمها الرفق بعلفه للدواب، ويكون أرضه طيبة، ومن حش الحشيش: قطعه،(15/317)
وفلاناً: أصلح من حاله، والمال: كثره، وزيداً بعيراً أو ببعير: أعطاه إياه، والحش - بالفتح: المخرج، والمحشة: الدبر، والحش: البستان ذو النخل المجتمع، سمى الخلاء به لأن العرب كانت تقضي الحاجة فيه، وحش طلحة وحش كوكب: موضعان بالمدينة، وحش الولد في البطن: يبس، وأحشت المرأة فهي محش - إذا يبس الولد في جوفها، والحش - بالضم: الولد الهالك في البطن، وحششت الفرس: جمعت له الحشيش، وأحششت الرجل: أعنته على جمع الحشيش، والحشاش: الجوالق فيه الحشيش، وأحش الكلأ: أمكن لأن يُحَش، والمستحشة من النوق التي دقت أوظفتها، أي ما فوق رسغها إلى ساقها، وذلك من من عظمها وكثرة شحمها، واستحش الغصن: طال - كأنه جمع طولين، أو صار بحيث يجمع ورقاً كثيراً، الشيء بالشيء، وحش الودي من النخل: يبس، ومن الجمع: حش الصيد: جمعه من جانبيه، والفرس: ألقى له حشيشاً، قال القزاز: وهو يبس الكلأ، وأصله ما جمع، ومنه: أحشك وتروثني - يضرب لمن أساء إلى من أحسن إليه،(15/318)
ومرت الإبل تحش الأرض. أي تجمع الحشيش، وقيل: هو من سرعة مرها، وفيه مع كثرة الجمع للخطى بتقاربها معنى الحدة، ومنه حش الفرس: أسرع، ومن الإشراف على الفساد: الحش - بالفتح وهو النخل الناقص القصير ليس بمسقي ولا معمور، والحشاشة: رمق النفس، يقال: ما بقي من فلان إلا حشاشة أي رمق يسير يحيي به، وعبارة القاموس، والحشاش والحشاشة، بقية الروح في المريض والجريح فهذا بين في الإشراف على الفساد كما تقدم وهو أيضاً من الفرقة التي قد تلزم الجمع ومنه تحشحشوا أي تفرقوا، ومنه قلة الاستحشاش، وهو قلة القوم، ومن الحدة الناشئة عن القوة الناشئة: عن الجمع حششت النار أي أوقدتها وجمعت الحطب إليها، وكل ما قوي بشيء فقد حش به، والمحش: حديدة يوقد بها النار أي تحرك، والشجاع، قال القزاز، وهو محش حرب - إذا كان يسعرها بشجاعته، وحش فلان الحرب - إذا هيجها، ومنه تحشحشوا أي تحركوا، ومن مطلق الحدة: أحششته عن حاجته: أعجلته عنها، ومن الجمع والقوة: حش سهمه بالقذذ - إذا راشه فألزقها من نواحيه، وحشاشاك أن تفعل كذا أي قصاراك أي نهاية جمعك لكل ما تقوى به، وحشاشا كل شيء: جانباه، والحشة - بالضم: القبة العظيمة، لكثرة(15/319)
جمعها وقوة تراصّها.
ولما وصفهم سبحانه بهذه الدنايا.
أخبر بأن أساسها وأصلها الذي نشأت عنه عدم الوثوق بالله لعدم الإيمان فقال: {أولئك} أي البغضاء البعداء الذين محط أمرهم الدنيا {ولم يؤمنوا} أي لم يوجد منهم إيمان بقلوبهم وإن أقرت به ألسنتهم.
ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان، سبب عن ذلك قوله: {فأحبط الله} أي بجلاله وتفرده في كبريائه وكماله {أعمالهم} أي أبطل أرواحها، فصارت أجساداً لا أرواح لها، فلا نفع لهم بشيء منها لأنها كانت في الدنيا صوراً مجردة عن الأرواح التي هي القصود الصالحة، فإنهم لا قصد لهم بها إلا التوصل إلى الأعراض الدنيوية، وهذا إعلام بأن من كانت الدنيا أكبر همه فهو غير مؤمن، وأنه يكون خواراً عند الهزاهز، ميالاً إلى دنايا الشجايا والغرائز.
ولما كان من عمل عملاً لم يقدر غيره وإن كان أعظم منه أن يبطل نفعه به إلا بسعر شديد، قال تعالى: {وكان ذلك} أي الإحباط العظيم مع ما لهم من الجرأة في الطلب والإلحاف عند السؤال وقلة الأدب {على الله} بما له من صفات العظمة التي تخشع لها الأصوات، وتخرس الألسن الذربات {يسيراً *} لأنه لا نفع إلا منه(15/320)
وهو الواحد القهار، وأما غيره فإنما عسر عليه ذلك، لأن النفع من غيره - وإن كان منه حقيقة - قهره غيره بالشفاعات ووجود النكد أو غيرها عليه، وكأنهم لما ذهب استمرو خاضعين لم يطلقوا ألسنتهم ولا أعلو كلمتهم، فأخبر تعالى تحقيقاً لقوله الماضي في جبنهم أن المانع الذي ذكره لم يزل من عندهم لفرط جبنهم، فقال تحقيقاً لذلك وجواباً لمن ربما قال: قد ذهب الخوف فما لهم ما سلقوا؟ : {يحسبون} أي يظنون لضعف عقولهم في هذا الحال، وقد ذهب الخوف، لشدة جبنهم وما رسخ عندهم من الخوف {الأحزاب} وقد علمتم أنهم ذهبوا {لم يذهبوا} بل غابوا خداعاً، وعبر بالحسبان لأنه - كما مضى عن الحرالي في البقرة - ما تقع غلبته فيما هو من نوع ما فطر الإنسان عليه واستقر عادة له، والظن فيما هو من المعلوم المأخوذ بالدليل والعلم، قال: فكان ضعف علم العالم ظن، وضعف عقل العاقل حسبان.
ولما أخبر عن حالهم في ذهابهم، أخبر عن حالهم لو وقع ما يتخوفونه من رجوعهم، فقال معبراً بأداة الشك بشارة لأهل البصائر أنه في عداد المحال: {وإن يأتِ الأحزاب} أي بعد ما ذهبوا {يودّوا} أي يتجدد لهم غاية الرغبة من الجبن وشدة الخوف {لو أنهم بادون} أي فاعلون للبدو وهو الإقامة في البادية على حالة الحل والارتحال(15/321)
{في الأعراب} الذين هم عندهم في محل النقص، وممن تكره مخالطته ولو كان تمنيهم في ذلك الحين محالاً؛ ثم ذكر حال فاعل «بادون» فقال: {يسألون} كل وقت {عن أنبائكم} العظيمة معهم جرياً على ما هم عليه من النفاق ليبقوا لهم عندكم وجهاً، كأنهم مهتمون بكم، يظهرون بذلك تحرقاً على غيبتهم عن هذه الحرب أو ليخفوا غيبتهم ويظهروا أنهم كانوا بينكم في الحرب بأمارة أنه وقع لكم في وقت كذا أو مكان كذا كذا، ويكابروا على ذلك من غير استحياء لأن النفاق صار لهم خلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه، ويرشد إلى هذا المعنى قراءة يعقوب «يسالون» بالتشديد {ولو} أي والحال أنهم لو {كانوا فيكم} أي حاضرين لحربهم {ما قاتلوا} أي معكم {إلا قليلاً} نفاقاً كما فعلوا قبل ذهاب الأحزاب من حضورهم معكم تارة واستئذانهم في الرجوع إلى منازلهم أخرى، والتعويق لغيرهم بالفعل كرة، والتصريح بالقول أخرى.(15/322)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
ولما أخبر تعالى عنهم بهذه الأحوال التي هي غاية في الدناءة، أقبل عليهم إقبالاً يدلهم على تناهي الغضب، فقال مؤكداً محققاً لأجل إنكارهم: {لقد كان لكم} أيها الناس كافة الذين المنافقون في غمارهم {في رسول الله} الذي جاء عنه لإنقاذكم من كل ما يسوءكم،(15/322)
وجلاله من جلاله المحيط بكل جلال، وكماله من كماله العالي على كل كمال، وهو أشرف الخلائق، فرضيتم مخالطة الأجلاف بدل الكون معه {أسوة} أي قدوة عظيمة - على قراءة عاصم بضم الهمزة، وفي أدنى المراتب - على قراءة الباقين بالكسر، تساوون أنفسكم به وهو أعلى الناس قدراً يجب على كل أحد أن يفدي ظفره الشريف ولو بعينه فضلاً عن أن يسوي نفسه بنفسه، فيكون معه في كل أمر يكون فيه، لا يختلف عنه أصلاً {حسنة} على قراءة الجماعة بمطلق الصبر في البأساء وأحسنية - على قراءة عاصم بالصبر على الجراح في نفسه والإصابة في عمه وأعزّ أهله وجميع ما كان يفعل في مقاساة الشدائد، ولقاء الأقران، والنصيحة لله ولنفسه وللمؤمنين، وعبر عنه بوصف الرسالة لأنه حظ الخلق منه ليقتدوا بأفعاله وأقواله، ويتخلفوا بأخلاقه وأحواله، ونبه على أن الذي يحمل على التآسي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو الصدق في الإيمان ولا سيما الإيمان بالقيامة، وأن الموجب للرضا جبلة له {يرجوا الله} أي في جبلته أنه يجدد الرجاء مستمراً للذي لا عظيم في الحقيقة سواه فيأمل إسعاده ويخشى إبعاده(15/323)
{واليوم الآخر} الذي لا بد من إيجاده ومجازاة الخلائق فيه بإعمالهم، فمن كان كذلك حمله رجاؤه على كل خير، ومنعه من كل شر، فإنه يوم التغابن، لأن الحياة فيه دائمة، والكسر فيه لا يجبر.
ولما عبر بالمضارع المقتضي لدوام التجدد اللازم منه دوام الاتصاف الناشئ عن المراقبة لأنه في جبلته، أنتج ان يقال: فأسى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل شيء تصديقاً لما في جبلته من الرجاء، فعطف عليه، أو على «كان» المقتضيه للرسوخ قوله: {وذكر الله} الذي له صفات الكمال، وقيده بقوله: {كثيراً} تحقيقاً لما ذكر من معنى الرجاء الذي به الفلاح، وأن المراد منه الدائم في حالي السراء والضراء.
ولما أخبر عما حصل في هذه الوقعة من الشدائد الناشئة عن الرعب لعامة الناس، وخص من بينهم المنافقين بما ختمه بالملامة في ترك التآسي بمن أعطاء الله قيادهم، وأعلاه عليهم في الثبات والذكر، وختم هذا الختم بما يثمر الرسوخ في الدين، ذكر حال الراسخين في أوصاف الكمال المتأسين بالداعي، المقتفين للهادي، فقال عاطفاً على {هنالك ابتلي المؤمنون} : {ولما رأى المؤمنون} أي الكاملون في الإيمان {الأحزاب} الذين(15/324)
أدهشت رؤيتهم القلوب {قالوا} أي مع ما حصل لهم من الزلزال وتعاظم الأحوال: {هذا} أي الذي نراه من الهول {ما وعدنا} من تصديق دعوانا الإيمان بالبلاء والامتحان {الله} الذي له الأمر كله {ورسوله} المبلغ عنه في نحو قوله:
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} [البقرة: 214] {أحسب الناس أن يتركوا} [العنكبوت: 2] {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} [التوبة: 16] وأمثال ذلك، فسموا المس بالبأساء والضراء، والابتلاء بالزلزال والأعداء، وعداً لعلمهم بما لهم عليه عند الله، ولا سيما في يوم الجزاء، وما يعقبه من النصر، عند اشتداد الأمر.
ولما كان هذا معناه التصديق، أزالوا عنه احتمال أن يكون أمراً اتفاقياً، وصرحوا به على وجه يفهم الدعاء بالنصر الموعود به في قولهم عطفاً على هذا: {وصدق} مطلقاً لا بالنسبة إلى مفعول معين {الله} الذي له صفات الكمال {ورسوله} الذي كماله من كماله، أي ظهر صدقهما في عالم الشهادة في كل ما وعدا به من السراء والضراء مما رأيناه. وهما صادقان فيما غاب عنا مما وعدا به من نصر وغيره، وإظهار الاسمين للتعظيم والتيمن بذكرهما.
ولما كان هذا قولاً يمكن أن يكون لسانياً فقط كقول المنافقين،(15/325)
أكده لظن المنافقين ذلك، فقال سبحانه شاهداً لهم: {وما زادهم} أي ما رأوه من أمرهم المرعب {إلا إيماناً} أي بالله ورسوله بقلوبهم، وأبلغ سبحانه في وصفهم بالإسلام، فعبر بصيغة التفعيل فقال: {وتسليماً} أي لهما بجميع جوارحهم في جميع القضاء والقدر، وقد تقدم في قوله تعالى في سورة الفرقان {ويجعل لك قصوراً} [الفرقان: 10] ما هو من شرح هذا. ولما كان كل من آمن بائعاً نفسه وماله لله، لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وكان بعض الراسخين في الإيمان لم يعط الإيمان حقه في القتال في نفسه وماله كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، أما في ماله فبالخروج عنه كله، وأما في نفسه فيما يقحمها من الأهوال، حتى كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول له في بعض المواطن: «الزم مكانك وأمتعنا بنفسك» ، «ويقول له ولعمر رضي الله عنهما أنهما من الدين بمنزلة السمع والبصر» وكان أبو بكر رضي الله عنه في ليلة الغار يذكر الطلب فيتأخر، والرصد فيتقدم، وما عن الجوانب فيصير إليها، ومنهم من وفى هذه الغزوة وما قبلها فأراد الله التنويه بذكرهم والثناء عليهم توفية لما يفضل به في حقهم، وترغيباً لغيرهم فأظهر ولم يضمر لئلا يتقيد بالمذكورين سابقاً فيخص(15/326)
هذه الغزوة فقال: {من المؤمنين} أي الكمل {رجال} أي في غاية العظمة عندنا، ثم وصفهم بقوله: {صدقوا} .
ولما كان العهد عند ذوي الهمم العلية، والأخلاق الزكية، لشدة ذكرهم له ومحافظتهم على الوفاء به، وتصوره لهم حتى كأنه رجل عظيم قائم تجاههم، يتقاضاهم الصدق، عدى الفعل إليه فقال: {ما عاهدوا الله} المحيط علماً وقدرة وجلالاً وعظمة {عليه} أي من بيع أنفسهم وأموالهم له بدخولهم في هذا الدين الذي بنى على ذلك فوفوا به أتم وفاء، وفي هذا إشارة إلى أبي لبابة بن المنذر رضي الله عنه، وكان من أكابر المؤمنين الراسخين في صفة الإيمان حيث زل في إشارته إلى بني قريظة بأن المراد بهم الذبح، كما تقدم في الأنفال في قوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} [الأنفال: 27] فذهب من حينه وربط نفسه تصديقاً لصدقه في سارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه وحله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده الشريفة.
ولما ذكر الصادقين، وكان ربما فهم أن الصدق لا يكون إلا بالقتل، قسمهم قسمين مشيراً إلى خلاف ذلك بقوله: {فمنهم من قضى} أي أعطى {نحبه} أي نذره في معاهدته، أنه ينصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويموت دونه، وفرغ من(15/327)
ذلك وخرج من عهدته بأن قتل شهيداً، فلم يبق عليه نذر كحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وسعد بن الربيع وأنس بن النضر الذي غاب عن غزوة بدر فقال: غبت عن أول قتال قاتل فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لئن أشهدني الله قتالاً ليرين الله ما أصنع، فلما انهزم من انهزم في غزوة أحد قال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ومما صنع هؤلاء - يعني المنهزمين من المسلمين. وقاتل حتى قتل بعد بضع وثمانين جراحة من ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «نرى هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر {من المؤمنين رجال} » - انتهى، وغير هؤلاء ممن قتل قبل هذا في غزوة أحد وغيرها، وسعد بن معاذ ممن جرح في هذه الغزوة وحكم في بني قريظة بالقتل والسبي، ولم يرع لهم حلفهم لقومه، ولا أطاع قومه في الإشارة عليه باستبقائهم كما استبقى عبد الله بن أبي المنافق بني قينقاع ولا أخذته بهم رأفة غضباً لله ولرسوله رضي الله عنه، وممن لم يقتل في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلحة بن عبيد الله أحد العشرة(15/328)
رضي الله عنهم ثبت في أحد وفعل ما لم يفعله غيره، لزم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يفارقه، وذب عنه ووقاه بيده حتى شلت إصبعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ممن قضى نحبه، فالمراد بالنحب هنا العهد الذي هو كالنذر المفضي إلى الموت، وأصل النحب الاجتهاد في العمل، ومن هنا استعمل في النذر لأنه الحامل على ذلك {ومنهم} أي الصادقين {من ينتظر} قضاء النحب إما بالنصرة، أو الموت على الشهادة، أو مطلق المتابعة الكاملة.
ولما كان المنافقون ينكرون أن يكون أحد صادقاً فيما يظهر من الإيمان، أكد قوله تعريضاً بهم: {وما بدلوا تبديلاً} أي وما أوقعوا شيئاً من تبديل بفترة أو توان، فهذا تصريح بمدح أهل الصدق، وتلويح بذم أهل النفاق عكس ما تقدم، روى البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما نسخنا الصحف بالمصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيراً أسمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري - رضي الله عنه - الذي جعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهادته شهادة رجلين {من المؤمنين رجال صدقوا(15/329)
ما عاهدوا الله عليه} . وقوله: «نسخنا الصحف» التي كانت عند حفصة رضي الله عنها بعد موت عمر رضي الله عنه «في المصاحف» التي أمر بها عثمان رضي الله عنه، وقوله: «لم أجدها» أي مكتوبة بدليل حفظه لها، وهذا يدل على أنه لما نسخ المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه لم يقتنعوا بالصحف. بل ضموا إليها ما هو مفرق عند الناس مما كتب بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبحضرته كما فعلوا حين جمعوا الصحف على عهد أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
ولما كان كأنه قيل: قد فهم من سياق هذه القصة أن القصد الإقبال عليه سبحانه، وقطع جميع العلائق من غيره، لأنه قادر على كل شيء، فهو يكفي من أقبل عليه كل مهم وإن كان في غاية العجز عنه، تارة بسبب ظاهر وتارة بغيره فما له لم يحكم بالاتفاق على كلمة السلام، لتحصل الراحة من هذا العناء كله، فأجيب بأن هذا لتظهر صفة العز والعظمة والعدل وغيرها ظهوراً تاماً إلى غير ذلك من حكم ينكشف عنها الحجاب، وترفع لتجليها غاية التجلي ستور الأسباب، فقال تعالى معلقاً بقوله: {جاءتكم جنود} : {ليجزي الله} أي الذي يريد إظهار جميع صفاته يوم البعث للخاص والعام ظهوراً تاماً {الصادقين} في ادعاء أنهم آمنوا به {بصدقهم} فيعلي أمرهم في(15/330)
الدنيا وينعمهم في الأخرى، فالصدق سبب وإن كان فضلاً منه لأنه الموفق له {ويعذب المنافقين} في الدارين بكذبهم في دعواهم الإيمان المقتضي لبيع النفس والمال {إن شاء} يعذبهم على النفاق {أو يتوب عليهم} أي بما يرون من صدقه سبحانه في إعزاز أوليائه وإذلال أعدائه بقدرته التامة حيث كانوا قاطعين بخلاف ذلك.
ولما كانت توبة المنافقين مستعبدة لما يرون من صلابتهم في الخداع وخبث سرائرهم، قال معللاً ذلك كله على وجه التأكيد: {إن الله} أي بما له من الجلال والجمال {كان} أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً} يستر الذنب وينعم على صاحبه بالكرامة، أما في الإثابة لكل فالرحمة عامة، وأما في تعذيب المنافق فيخص الصادقين، لأن عذاب أعدائهم من أعظم نعيمهم، وفي حكمه بالعدل عموم الرحمة أيضاً، فهو لا يعذب أحداً فوق ما يستحق.(15/331)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
ولما ذكرهم سبحانه نعمته بما أرسل على أعدائهم من جنوده، وبين أحوال المنافقين والصادقين وما له في ذلك من الأسرار، وختم بهاتين الصفتين، قال مذكراً بأثرهما فيما خرقه من العادة بصرف الأعداء على كثرتهم وقوتهم على حالة لا يرضاها لنفسه عاقل، عاطفاً على قوله في أول السورة والقصة {فأرسلنا} : {ورد الله} أي بما له من(15/331)
صفات الكمال {الذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه شموس عقولهم من أدلة الوحدانية وحقية الرسالة، وهم من تحزب من العرب وغيرهم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بلادهم عن المدينة ومضايقة المؤمنين، حال كونهم {بغيظهم} الذي أوجب لهم التحزب ثم الذي أوجب لهم التفرق من غير طائل حال كونهم {لم ينالوا خيراً} لا من الدين ولا من الدنيا، بل خذلهم بكل اعتبار.
ولما كان الرد قد يكون بسبب من عدوهم، بين أن الأمر ليس كذلك فقال: {وكفى الله} أي العظيم بقوته وعزته عباده، ودل على أنه ما فعل ذلك إلا لأجل أهل الإخلاص فقال: {المؤمنين القتال} بما ألقى في قلوبهم من الداعية للانصراف بالريح والجنود من الملائكة وغيرهم منهم نعيم بن مسعود كما تقدم.
ولما كان هذا أمراً باهراً، أتبعه ما يدل على أنه عنده يسير فقال: {وكان الله} أي الذي له كل صفة كمال دائماً أزلاً وأبداً {قوياً} لا يعجزه شيء {عزيزاً} يغلب كل شيء.
ولما أتم أمر الأحزاب، أتبعه حال الذين ألّبوهم، وكانوا سبباً(15/332)
في إيتانهم كحيي بن أخطب والذين مالأوهم على ذلك، ونقضوا ما كان لهم من عهد، فقال: {وأنزل الذين ظاهروهم} أي عاونوا الأحزاب، ثم بينهم بقوله مبغضاً: {من أهل الكتاب} وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير كحيي، وكان ذلك بعد إخراج بني قنيقاع وبني النضير {من صياصيهم} أي حصونهم العالمية، جمع صيصية وهي كل ما يتمنع به من قرون البقر وغيرها مما شبه بها من الحصون.
ولما كان الإنزال من محل التمنع عجباً، وكان على وجوه شتى، فلم يكن صريحاً في الإذلال، فتشوفت النفس إلى بيان حاله، بين أنه الذل فقال عاطفاً بالواو ليصلح لما قبل ولما بعد: {وقذف في قلوبهم الرعب} أي بعد الإنزال كما كان قذفه قبل الإنزال، فلو قدم القذف على الإنزال لما أفاد هذه الفؤائد، ولا اشتدت ملاءمة ما بعده للإنزال.
ولما ذكر ما أذلهم به، ذكر ما تأثر عنه مقسماً له فقال: {فريقاً} فذكره بلفظ الفرقة ونصبه ليدل بادئ بدء على أنه طوع لأيدي الفاعلين: {تقتلون} وهم الرجال، وكان نحو سبعمائة. ولما بدأ بما يدل على التقسيم مما منه الفرقة، وقد أعظم الأثرين الناشئين عن الرعب، أولاه الأثر الآخر ليصير الأثران المحبوبان محتوشين بما يدل على الفرقة(15/333)
فقال: {وتأسرون فريقاً} وهم الذراري والنساء، ولعله أخر الفريق هنا ليفيد التخيير في أمرهم، وقدم في الرجال لتحتم القتل فيهم.
ولما ذكر الناطق بقسميه، ذكر الصامت فقال: {وأورثكم أرضهم} من الحدائق وغيرها؛ ولما هم خص بقوله: {وديارهم} لأنه يحامي عليها ما لا يحامي على غيرها؛ ثم عم بقوله: {وأموالهم} مما تقدم ومن غيره من النقد والماشية والسلاح والأثاث وغيرها، فقسم ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان ولفارسه سهم كما للراجل ممن ليس له فرس وأخرج منها الخمس فعلى سنتها وقعت المقاسم ومضت السنة في المغازي، واصطفى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سباياهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة. إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فتلبثت قليلاً، ثم أسلمت، فأراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت: يا رسول الله! بل تتركني في ملكك فهو أخف عليّ وعليك، فتركها حتى توفي عنها في ملكه رضي الله عنها.
ولما كانت هذه غزوة طار رعبها في الآفاق، وأذلت أهل الشرك من الأميين وغيرهم على الإطلاق، ونشرت ألوية النصر فخفقت أعلامها في جميع الآفاق، وأغمدت سيف الكفر وسلت صارم الإيمان(15/334)
للرؤوس والأعناق، حتى قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أبصر الناس بالحروب، وأنفذهم رأياً لما له من الثبات عند اشتداد الكروب: «الآن نغزوهم ولا يغزونا» ، قال تعالى: {وأرضاً لم تطؤها} أي تغلبوا عليها بتهيئتكم للغلبة عليها وإعطائكم القوة القريبة من فتحها، وهي أرض خيبر أولاً، ثم أرض مكة ثانياً ثم أرض فارس والروم وغيرهما مما فتحه الله بعد ذلك، وكان قد حكم به في هذه الغزوة حين أبرق تلك البرقات للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حفر الخندق، فأراه في الأولى اليمن، وفي الأخرى فارس، وفي الأخرى الروم.
ولما كان ذلك أمراً باهراً سهله بقوله: {وكان الله} أي أزلاً وأبداً بما له من صفات الكمال {على كل شيء} هذا وغيره {قديراً} أي شامل القدرة.(15/335)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
ولما تقرر بهذه الوقائع - التي نصر فيها سبحانه وحده بأسباب باطنه سببها، وأمور خفية رتبها، تعجز عنها الجيوش المتخيرة المستكثرة، والملوك المتجبرة المستكبرة - ما قدم من أنه كافي من توكل عليه، وأقبل بكليته إليه، وختم بصفة القدرة العامة الدائمة، تحرر أنه قادر على(15/335)
كل ما يريده، وأنه لو شاء أجرى مع وليه كنوز الأرض، وأنه لا يجوز لأحد أن يراعي غيره ولا أن يرمق بوجه ما سواه، وعلم أن من أقبل إلى هذا الدين فإنما نفع نفسه والفضل لصاحب الدين عليه، ومن أعرض عنه فإنما وبال إعراضه على نفسه، ولا ضرر على الدين بإعراض هذا المعرض، كما أنه لا نفع له بإقبال ذلك المقبل، وكان قد قضى سبحانه أن من انقطع إليه حماه من الدنيا إكراماً له ورفعاً لمنزلته عن خسيسها إلى نفيس ما عنده، لأن كل أمرها إلى زوال وتلاش واضمحلال، ولا يعلق همته بذلك إلا قاصر ضال، فأخذ سبحانه يأمر أحب الخلق إليه، وأعزهم منزلة لديه، المعلوم امتثالاً للأمر بالتوكل والإعراض عن كل ما سواه سبحانه وأنه لا يختار من الدنيا غير الكفاف، والقناعة والعفاف، بتخيير ألصق الناس به تأديباً لكافة الناس، فقال على طريق الاستنتاج مما تقدم: {يا أيها النبي} ذاكراً صفة رفعته واتصاله به سبحانه والإعلام بأسرار القلوب، وخفايا الغيوب، المقتضية لأن يفرغ فكره لما يتلقاه من المعارف، ولا يعلق عن شيء من ذلك بشيء من أذى: {قل لأزواجك} أي نسائك: {إن كنتن} أي كوناً راسخاً {تردن} أي اختياراً عليّ {الحياة}(15/336)
ووصفها بما يزهد فيها ذوي الهمم ويذكر من له عقل بالآخرة فقال: {الدنيا} أي ما فيها من السعة والرفاهية والنعمة {وزينتها} أي المنافية لما أمرني به ربي من الإعراض عنه واحتقاره من أمرها لأنها أبغض خلقه إليه، لأنها قاطعة عنه {فتعالين} أصله أن الأمر يكون أعلى من المأمور، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ثم كثر حتى صار معناه: أقبل، وهو هنا كناية عن الإخبار والإراداة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره {أمتعكن} أي بما أحسن به إليكن {وأسرحكن} أي من حباله عصمتي {سراحاً جميلاً *} أي ليس فيه مضارة، ولا نوع حقد ولا مقاهرة {وإن كنتن} بما لكن من الجبلة {تردن الله} أي الآمر بالإعراض عن الدنيا للإعلاء إلى ما له من رتب الكمال {ورسوله} المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين لا يدع منه شيئاً، لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله {والدار الآخرة} التي هي الحيوان بما لها من البقاء، والعلو والارتقاء.
ولما كان ما كل من أظهر شيئاً كان عالي الرتبة فيه، قال مؤكداً تنبيهاً على أن ما يقوله مما يقطع به وينبغي تأكيده دفعاً لظن من يغلب عليه حال البشر فيظن فيه الظنون من أهل النفاق وغيرهم، أو يعمل عمل من يظن ذلك أو يستبعد وقوعه في الدنيا أو الآخرة: {فإن الله}(15/337)
أي بما له من جميع صفات الكمال {أعد} في الدنيا والآخرة {للمحسنات منكن} أي اللاتي يفعلن ذلك وهن في مقام المشاهدة وهو يعلم المحسن من غيره {أجراً عظيماً *} أي تحتقر له الدنيا وكل ما فيها من زينة ونعمة.
ولما أتى سبحانه بهذه العبارة الحكيمة الصالحة مع البيان للتبعيض ترهيباً في ترغيب، أحسن كلهن وحققن بما تخلقن به أن من للبيان، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرض عليهن رضي الله عنهن ذلك، وبدأ بعائشة رضي الله عنها رأس المحسنات إذ ذاك رضي الله عنها وعن أبيها وقال لها: «إني قائل لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أوبويك» ، فلما تلاها عليها قالت منكرة لتوقفها في الخبر: أفي هذا أستأمر أبوي، فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم عرض ذلك على جميع أزواجه فاقتدين كلهن بعائشة رضي الله عنهن فكانت لهن إماماً فنالت إلى أجرها مثل أجورهن - روى ذلك البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها، وسبب ذلك أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد على نسائه رضي الله عنهن فآلى منهن شهراً، فلما انقضى الشهر نزل(15/338)
إليهن من غرفة كان اعتزل فيها وقد أنزل الله عليه الآيات. فخيرهن فاخترنه رضي الله عنهن، وسبب ذلك أن منهن من سأل التوسع في النفقة، وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحب التوسع في الدنيا، روى الشيخان رضي الله عنهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى الحديث البيهقي ولفظه: قالت: ما شبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أيام متوالية ولو شئنا لشبعنا، ولكنه كان يؤثر على نفسه، وروى الطبراني في الأوسط عنها أيضاً رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سأل عني أو سره أن ينظر إلي فلينظر إليّ أشعث شاحب لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فشمر إليه، اليوم المضمار وغداً السباق، والغاية الجنة أو النار» .
ولما كان الله سبحانه قد أمضى حكمته في هذه الدار في أنه لا يقبل قول إلا ببيان، قال سبحانه متهدداً على ما قد أعاذهن الله منه، فالمراد منه بيان أنه رفع مقاديرهن، ولذلك ذكر الأفعال المسندة إليهن اعتباراً(15/339)
بلفظ «من» والتنبيه على غلط من جعل صحبه الأشراف دافعة للعقاب على الإسراف، ومعلمة بأنها إنما تكون سبباً للإضعاف: {يا نساء النبي} أي المختارات له لما بينه وبين الله مما يظهر شرفه {من يأتِ} قراءة يعقوب على ما نقله البغوي بالمثناة الفوقانية على معنى من دون لفظها وهي قراءة شاذة نقلها الأهوازي في كتاب الشواذ عن ابن مسلم عنه: وقرأ الجماعة بالتحتانية على اللفظ وكذا «يقنت» {منكن بفاحشة} أي من قول أو فعل كالنشوز وسوء الخلق باختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله ورسوله أو غير ذلك {مبينة} أي واضحة ظاهرة في نفسها تكاد تنادي بذلك من سوء خلق ونشوز أو غير ذلك {يضاعف لها العذاب} أي بسبب ذلك، ولما هول الأمر بالمفاعلة في قراءة نافع المفهمة لأكثر من اثنين كما مضى في البقرة، سهله بقوله: {ضعفين} أي بالنسبة إلى ما لغيرها لأن مقدارها لا يعشره مقدار غيرها كما جعل حد الحر ضعفي ما للعبد، وكما جعل أجرهن مرتين.
واشتد العتاب فيما بين الأحباب، وعلى قدر علو المقام يكون الملام،(15/340)
وبقدر النعمة تكون النقمة، وكل من بناء يضاعف للمجهول من باب المفاعلة أو التفعيل لأبي جعفر والبصريين أو للفاعل بالنون عند ابن وكثير وابن عامر يدل على عظمته سبحانه، والبناء للمجهول يدل على العناية بالتهويل بالعذاب بجعله عمدة الكلام وصاحب الجملة بإسناد الفعل إليه، وذلك كله إشارة إلى أن الأمور الكبار صغيرة عنده سبحانه لأنه لا يضره شيء ولا ينفعه، ولا يوجب شيء من الأشياء له حدوث شيء لم يكن، ولذلك قال: {وكان ذلك} أي مع كونه عظيماً عندكم {على الله يسيراً *} فهذا ناظر إلى مقام الجلال والكبرياء والعظمة.
ولما قدم درء المفاسد الذي هو من باب التخلي، أتبعه جلب المصالح الذي هو من طراز التحلي فقال: {ومن يقنت} أي يخلص الطاعة، وتقدم توجيه قراءة يعقوب بالفوقانية على ما حكاه البغوي والأهوازي في الشواذ عن ابن مسلم {منكن لله} الذي هو أهل لئلا يلتفت إلى غيره لأنه لا أعظم منه بإدامة الطاعة فلا يخرج عن مراقبته أصلاً {ورسوله} فلا تغاضبه ولا تطلب منه شيئاً،(15/341)
ولا تختار عيشاً غير عيشه، فإنه يجب على كل أحد تصفية فكره، وتهدئه باله وسره، ليتمكن غاية التمكن من إنقاذ أوامرنا والقيام بما أرسلناه بسببه من رحمة العباد، بإنقاذهم مما هم فيه من الأنكاد.
ولما كان ذلك قد يفهم الاقتصار على عمل القلب قال: {وتعمل} قرأها حمزة والكسائي بالتحتانية رداً على لفظ «من» حثاً لهن على منازل الرجال، وقراءة الجماعة بالفوقانية على معناها على الأصل مشيرة إلى الرفق بهن في عمل الجوارح والرضى بالمستطاع كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام:
«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» وأما عمل القلب فلا رضى فيه بدون الغاية، فلذا كان «يقنت» مذكراً لا على شذوذ {صالحاً} أي في جميع ما أمر به سبحانه أو نهى عنه {نؤتها} أي بما لنا من العظمة على قراءة الجماعة بالنون، وقراءة حمزة والكسائي بالتحتانية على أن الضمير لله {أجرها مرتين} أي بالنسبة إلى أجر غيرها من نساء بقية الناس {وأعتدنا} أي هيأنا بما لنا من العظمة وأحضرنا {لها} بسبب قناعتها مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المريد للتخلي من الدنيا التي يبغضها الله مع ما في ذلك(15/342)
من توفير الحظ في الآخرة {رزقاً كريماً *} أي في الدنيا والآخرة، فلا شيء أكرم منه لأن ما في الدنيا منه يوفق لصرفه على وجه يكون فيه أعظم الثواب، ولا يخشى من أجله نوع عتاب فضلاً عن عقاب، وما في الآخرة منه لا يوصف ولا يحد، ولا نكد فيه بوجه أصلاً ولا كد.(15/343)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
ولما كان لكل حق حقيقة، ولكل قول صادق بيان، قال مؤذناً بفضلهن: {يا نساء النبي} أي الذي أنتن من أعلم الناس بما بينه وبين الله من الإنباء بدقائق الأمور وخفايا الأسرار وما له من الزلفى لديه {لستن كأحد من النساء} قال البغوي: ولم يقل: كواحدة، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث - انتهى، فالمعنى كجماعات من جماعات النساء إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد فيهن جماعة تساويكن في الفضل لما خصكن الله به من قربة بقرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزول الوحي الذي بينه وبين الله في بيوتكن.
ولما كان المعنى: بل أنتن أعلى النساء، ذكر شرط ذلك فقال:(15/343)
{إن اتقيتن} أي جعلتن بينكن وبين غضب الله وغضب رسوله وقاية، ثم سبب عن هذا النفي قوله: {فلا تخضعن} أي إذا تكلمتن بحضرة أجنبي {بالقول} أي بأن يكون لينا عذباً رخماً، والخضوع التطامن والتواضع واللين والدعوة إلى السواء؛ ثم سبب عن الخضوع: قوله: {فيطمع} أي في الخيانة {الذي في قلبه مرض} أي فساد وريبة والتعبير بالطمع للدلالة على أن أمنيته لا سبب لها في الحقيقة، لأن اللين في كلام النساء خلق لهن لا تكلف فيه، فأريد من نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التكلف للإتيان بضده.
ولما نهاهن عن الاسترسال مع سجية النساء في رخامة الصوت، أمرهن بضده فقال: {وقلن قولاً معروفاً} أي يعرف أنه بعيد عن محل الطمع.
ولما تقدم إليهن في القول وقدمه لعمومه، أتبعه الفعل فقال: {وقرن} أي اسكنّ وامكثن دائماَ {في بيوتكن} فمن كسر القاف وهم غير المدنيين وعاصم جعل الماضي قرر بفتح العين، ومن فتحه فهو عنده قرر بكسرها، وهما لغتان.
ولما أمرهن بالقرار، نهاهن عن ضده مبشعاً له، فقال: {ولا تبرجن}(15/344)
أي تظاهرن من البيوت بغير حاجة محوجة، فهو من وادي أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهن بعد حجة الوداع بلزوم ظهور الحصر {تبرج الجاهلية الأولى} أي المتقدمة على الإسلام وعلى ما قبل الأمر بالحجاب، بالخروج من بيت والدخول في آخر، والأولى لا تقتضي أخرى كما ذكره البغوي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها ما بين نوح وإدريس عليهما السلام، تبرج فيها نساء السهول - وكن صباحاً وفي رجالهن دمامة - لرجال الجبال وكانوا صباحاً وفي نسائهن دمامة، فكثر الفساد، وعلى هذا فلها ثانية.
ولما أمرهن بلزوم البيوت للتخلية عن الشوائب، أرشدهن إلى التحلية بالرغائب، فقال: {وأقمن الصلاة} أي فرضاً ونفلاً، صلة لما بينكن وبين الخالق لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر {وآتين الزكاة} إحساناً إلى الخلائق، وفي هذا بشارة بالفتوح وتوسيع الدنيا عليهن، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقاً عن القوت فضلاً عن الزكاة.
ولما أمرهن بخصوص ما تقدم لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية، ومن اعتنى بهما حق الاعتناء جرتاه إلى ما وراءهما، عم وجمع في قوله: {وأطعن الله} أي ذاكرات ما له من صفات الكمال {ورسوله}(15/345)
في جميع ما يأمران به فإنه لم يرسل إلا للأمر والنهي تخليصاً للخلائق من أسر الهوى.
ولما كانت هذه الآيات قد نهت عن الرذائل فكانت عنها أشرف الفضائل قال مبيناً أن ذلك إنما هو لتشريف أهل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتزيد الرغبة في ذلك مؤكداً دفعاً لوهم من يتوهم أن ذلك لهوان أو غير ذلك من نقصان وحرمان: {إنما يريد الله} أي وهو ذو الجلال والجمال بما أمركم به ونهاكم عنه من الإعراض عن الزينة وما تبعها، والإقبال عليه، عزوفكم عن الدنيا وكل ما تكون سبباً له {ليذهب} أي لأجل أن يذهب {عنكم الرجس} أي الأمر الذي يلزمه دائماً الاستقذار والاضطراب من مذام الأخلاق كلها {أهل} يا أهل {البيت} أي من كل من تكون من إلزام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرجال والنساء من الأزواج والإماء والأقارب، وكلما كان الإنسان منهم أقرب وبالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخص وألزم، كان بالإرادة أحق وأجدر.
ولما استعار للمعصية الرجس، استعار للطاعة الطهر، ترغيباً لأصحاب الطباع السليمة والعقول المستقيمة، في الطاعة، وتنفيراً لهم عن المعصية فقال: {ويطهركم} أي يفعل في طهركم بالصيانة عن جميع القاذورات(15/346)
الحسية والمعنوية فعل المبالغ فيه، وزاد ذلك عظماً بالمصدر فقال: {تطهيراً} .
ولما ذكر ذلك إلى أن ختم بالتطهير، أتبعه التذكير بما أنعم سبحانه به مما أثره التطهير من التأهيل لمشاهدة ما يتكرر من تردد الملائكة بنزول الوحي الذي هو السبب في كل طهر ظاهر وباطن، فقال مخصصاً من السياق لأجلهن رضي الله عنهن، منبهاً لهن على أن بيوتهن مهابط الوحي ومعادن الأسرار: {واذكرن} أي في أنفسكن ذكراً دائماً، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم.
ولما كانت العناية بالمتلو، بينها بإسناد الفعل إليه لبيان أنه عمدة الجملة فقال بانياً للمفعول: {ما يتلى} أي يتابع ويوالي ذكره والتخلق به، وأشار لهن إلى ما خصهن منه من الشرف فقال: {في بيوتكن} أي بواسطة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي خيركن {من آيات الله} الذي لا أعظم منه.
ولما كان المراد بذلك القرآن، عطف عليه ما هو أعم منه، فقال مبيناً لشدة الاهتمام به بإدخاله في جملة المتلو اعتماداً على أن العامل فيه معروف لأن التلاوة لا يقال في غير الكتاب: {والحكمة}(15/347)
أي ويبث وينشر من العلم المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم، ولا تنسين شيئاً من ذلك.
ولما كان السياق للإعراض عن الدنيا، وكانت الحكمة منفرة عنها، أشار بختام الآية إلى أنها مع كونها محصلة لفوز الأخرى جالبة لخير الدنيا، فقال مؤكداً ردعاً لمن يشك في أن الرفعة يوصل إليها بضدها ونحو ذلك مما تضمنه الخبر من جليل العبر: {إن الله} أي والذي له جميع العظمة {كان} أي لم يزل {لطيفاً} أي يوصل إلى المقاصد بوسائل الأضداد {خبيراً} أي يدق علمه عن إدراك الأفكار، فهو يجعل الإعراض عن الدنيا جالباً لها على أجمل الطرائق وأكمل الخلائق وإن رغمت أنوف جميع الخلائق، ويعلم من يصلح لبيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن لا يصلح، وما يصلح الناس دنيا وديناً وما لا يصلحهم، والطرق الموصلة إلى كل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس «من انقطع إلى الله كفاه كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب» رواه الطبراني في الصغير وابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين رضي الله عنه «من توكل على الله كفاه، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها» - رواه صاحب الفردوس وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب الثواب عن عمران رضي الله عنه أيضاً، ولقد صدق الله سبحانه وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح(15/348)
على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك خيبر، فأفاض بها ما شاء من رزقه الواسع، ثم لما توفي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليحيمه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن، فعم الفتح جميع الأقطار: الشرق والغرب والجنوب والشمال، ومكن أصحاب نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كنوز جميع تلك البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله عليهم يكيلون المال كيلاً، وزاد الأمر حتى دون عمر الدواوين وفرض للناس عامة أرزاقهم حتى للرضعاء، وكان أولاً لا يفرض للمولود حتى يفطم، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه: لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والبعد منه وبحسب السابقة في الإسلام والهجرة ونزّل الناس منازلهم بحيث أرضى جميع الناس حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال: تركتهم يسألون الله لك أن يزيد في عمرك من أعمارهم، فقال عمر رضي الله عنه: إنما هو حقهم وأنا أسعد بأدائه إليهم، لو كان من مال الخطاب ما أعطيتموه، ولكن قد علمت أن فيه فضلاً، فلو أنه إذا خرج عطاء أحدهم ابتاع منه(15/349)
غنماً، فجعلها بسوادكم، فإذا خرج عطاؤه ثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها، فإن بقي أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه، فإني لا أدري ما يكون بعدي، وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«من مات غاشاً لرعيته لم يرح ريح الجنة» ، فكان فرضه لأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثني عشر ألفاً لكل واحدة وهي نحو ألف دينار في كل سنة، وأعطى عائشة رضي الله عنها خمسة وعشرين ألفاً لحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياها، فأبت أن تأخذ إلا ما يأخذه صواحباتها، وروى عن برزة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر رضي الله عنه إلى زينب بنت جحش رضي الله عنها بالذي لها فلما أدخل إليها قالت: غفر الله لعمر! غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني، قالوا: هذا كله لك يا أم المؤمنين، قالت: سبحان الله! واستترت منه بثوب، ثم قالت: صبوه واطرحوا عليه ثوباً، ثم قالت لي: ادخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب، قالت برزة بنت رافع: فقلت: غفر الله له يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا المال حق، قالت: فلكم ما تحت الثوب،(15/350)
فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهماً، ثم رفعت يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت - ذكر ذلك البلاذري في كتاب فتوح البلاد.
ولما حث سبحانه على المكارم والأخلاق الزاكية، وختم بالتذكير بالآيات والحكمة، أتبعه ما لمن تلبس من أهل البيت بما يدعو إليه ذلك من صفات الكمال، ولكنه ذكره على وجه يعم غيرهم من ذكر وأنثى مشاكلة لعموم الدعوة وشمول الرسالة، فقال جواباً لقول النساء: يا رسول الله! ذكر الله الرجال ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به، إنا نخاف أن لا يقبل منا طاعة، بادئاً الوصف الأول الأعم الأشهر من أوصاف أهل هذا الدين مؤكداً لأجل كثرة المنافقين المكذبين بمضمون هذا الخبر وغيرهم من المصارحين: {إن المسلمين} ولما كان اختلاف النوع موجباً للعطف، قال معلماً بالتشريك في الحكم: {والمسلمات} .
ولما كان الإسلام مع كونه أكمل الأوصاف وأعلاها يمكن أن يكون بالظاهر فقط، أتبعه المحقق له وهو إسلام الباطن بالتصديق التام بغاية الإذعان، فقال عاطفاً له ولما بعده من الأوصاف التي يمكن اجتماعها بالواو للدلالة على تمكين الجامعين لهذه الأوصاف من كل وصف منها: {والمؤمنين والمؤمنات} ولما كان المؤمن المسلم قد لا يكون في أعماله مخلصاً قال: {والقانتين} أي المخلصين في إيمانهم(15/351)
وإسلامهم {والقانتات} ولما كان القنوت كما يطلق على الإخلاص المقتضي للمداولة قد يطلق على مطلق الطاعة قال: {والصادقين} في ذلك كله {والصادقات} أي في إخلاصهم في الطاعة، وذلك يقتضي الدوام.
ولما كان الصدق - وهو إخلاص القول والعمل عن شوب يلحقه أو شيء يدنسه - قد لا يكون دائماً، قال مسيراً إلى أن ما لا يكون دائماً لا يكون صدقاً في الواقع: {والصابرين والصابرات} ولما كان الصبر قد يكون سجية، دل على صرفه إلى الله بقوله: {والخاشعين والخاشعات} ولما كان الخشوع - وهو الخضوع والإخبات والسكون - لا يصح مع توفير المال فإنه سيكون إليه، قال معلماً أنه إذ ذاك لا يكون على حقيقته: {والمتصدقين} أي المنفقين أموالهم في رضى الله بغاية الجهد من نفوسهم بما أشار إليه إظهار التاء فرضاً وتطوعاً سراً وعلانية بما أرشد إليه الإظهار أيضاً تصديقاً لخشوعهم {والمتصدقات} .
ولما كان بذل المال قد لا يكون مع الإيثار، أتبعه ما يعين عليه فقال: {والصائمين} أي تطوعاً للإيثار بالقوت وغير ذلك {والصائمات} ولما كان الصوم يكسر شهوة الفرج وقد يثيرها، قال: {والحافظين فروجهم} أي عما لا يحل لهم بالصوم وما أثاره الصوم {والحافظات} ولما كان حفظ الفروج وسائر الأعمال لا تكاد توجد(15/352)
إلا بالذكر. وهو الذي فيه المراقبة الموصلة إلى المحاضرة المحققة للمشاهدة المحيية بالفناء قال: {والذاكرين الله} أي مع استحضار ما له من الكمال بصفات الجلال والجمال {كثيراً} بالقلب واللسان في كل حالة {والذاكرات} ومن علامات الإكثار من الذكر اللهج به عند الاستيقاظ من النوم.
ولما كان المطيع وإن جاوز الحد في الاجتهاد مقتصراً عن بلوغ ما يحق له، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله مكرراً الاسم الأعظم إشارة إلى ذلك وإلى صغر الذنوب إذا نسبت إلى عفوه: {أعد الله} أي الذي لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره مع أنه لا يتعاظمه شيء {لهم مغفرة} أي لهفواتهم وما أتوه من سيئاتهم بحيث يمحو عينه وأثره، فلا عتاب ولا عقاب، ولا ذكر له سبب من الأسباب.
ولما ذكر الفضل بالتجاوز، أتبعه التفضل بالكرم والرحمة فقال: {وأجراً عظيماً *} وإعداد الأجر يدل على أن المراد بهذه الأوصاف اجتماعها لأن مظهر الإسلام نفاقاً كافر، وتارك شيء من الأوصاف متصف بضده وحينئذ يكون مخلاً بالباقي وأن المراد بالعطف التمكن والرسوخ في كل وصف منها زيادة على التمكن الذي أفاده التعبير بالوصف دون الفعل، وحينئذ تعدم الكبائر فيتأتى تكفير الصغائر، فتأتي المغفرة والأجر، وأما آية التحريم فلم تعطف لئلا يظن أنهن(15/353)
أنواع كل نوع يتفرد بوصف، وإفادة الرسوخ هنا في الأوصاف من سياق الامتنان والمدح بكونهن خيراً.(15/354)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
ولما كان الله سبحانه قد قدم قوله: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} - الآية، فعلم قطعاً أنه تسبب عنها ما تقديره: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة لأن يكون له ولي غير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطوى ذلك للعلم به، واستدل على مضمون الآية وما قبلها بقصة الأحزاب، وأتبعها نتيجة ذلك مما ذكر تأديب الأزواج له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتهذبيهن لأجله وتطهير أهل بيته وتكريمهم حتى ختم سبحانه بالصفات العشر التي بدأها بالإسلام الذي ليس معه شيء من الإباء، وختمها بأن ذكر الله يكون ملء القلب والفم وهو داعٍ إلى مثل ذلك لأنه سبب الإسلام، عطف على مسبب آية الولاية ما يقتضيه كثرة الذكر من قوله: {وما كان} .
ولما كان الإيمان قد يدعى كذباً لخفاء به، قال: {لمؤمن} أي من عبد الله بن جحش وزيد وغيرهما {ولا مؤمنة} أي من زينب وغيرها، فعلق الأمر بالإيمان إعلاماً بأن من اعترض غير مؤمن وإن أظهر الإيمان بلسانه {إذا قضى الله} أي الملك الأعظم الذي لا ينبغي(15/354)
لعاقل التوقف في أمره {ورسوله} الذي لا يعرف قضاؤه إلا به {أمراً} أي أيّ أمر كان.
ولما كان المراد كل مؤمن، والعبارة صالحة له، وكان النفي عن المجموع كله نفياً عما قل عنه من باب الأولى، قال: {أن تكون} أي كوناً راسخاً على قراءة الجماعة بالفوقانية، وفي غاية الرسوخ على قراءة الكوفيين بالتحتانية {لهم} أي خاصة {الخيرة} مصدر من تخير كالطيرة من تطير على غير قياس {من أمرهم} أي الخاص بهم باستخارة لله ولا بغيرها ليفعلوا خلاف ذلك القضاء، فإن المراد بالاستخارة ظن ما اختاره الله، وإخبار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطعي الدلالة على ما اختاره الله تعالى، وفي هذا عتاب لزينب رضي الله عنها على تعليق الإجابة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ما خطبها لنفسه الشريفة على الاستخارة، وعلى كراهتها عند ما خطبها لزيد مولاه، ولكنها لما قدمت بعد نزول الآية خيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تزويجها من زيد رضي الله عنهما على خيرتها، عوضها الله أن صيرها لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه في الجنة في أعلى الدرجات، فالخيرة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لا ينطق عن الهوى، فمن فعل غير ذلك فقد قضى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(15/355)
ومن عصاه عصى الله لأنه لا ينطق إلا عنه {ومن يعص الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {ورسوله} أي الذي معصيته معصيته لكونه بينه وبين الخلق في بيان ما أرسل به إليهم {فقد ضل} وأكده المصدر فقال: {ضلالاً} وزاده بقوله: {مبيناً} أي لا خفاء به، فالواجب على كل أحد أن يكون معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما يختاره وإن كان فيه أعظم المشقات عليه تخلفاً بقول الشاعر حيث قال:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
وأهنتني فأهنت نفسي عامداً ... ما من يهون عليك ممن يكرم
ولما كان قد أخبره سبحانه - كما رواه البغوي وغيره عن سفيان بن عيينة عن علي ابن جدعان عن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - أن زينب رضي الله عنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها، وأخفى في نفسه ذلك تكرماً وخشية من قاله الناس أنه يريد نكاح زوجة ابنه، وكان في إظهار ذلك أعلام من أعلام النبوة، وكان مبنى أمر الرسالة على إبلاغ الناس ما أعلم الله به أحبوه(15/356)
أو كرهوه، وأن لا يراعي غيره، ولا يلتفت إلى سواه وإن كان في ذلك خوف ذهاب النفس، فإنه كافٍ من أراد بعزته، ومتقن من أراد بحكمته، كما أخذ الله الميثاق به من النبيين كلهم ومن محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان من المعلوم أن التقدير: اذكر ما أخذنا منك ومن النبيين من الميثاق على إبلاغ كل شيء أخبرناكم به ولم ننهكم من إفشائه وما أخذنا على الخلق في كل من طاعتك ومعصيتك، عطف عليه قوله: {وإذ تقول} وذلك لأن الأكمل يعاتب على بعض الكمالات لعلو درجته عنها وتحليه بأكمل منها من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ، وبين شرفه بقوله: {للذي أنعم الله} أي الملك الذي له كل كمال {عليه} أي بالإسلام وتولى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه بعد الإيجاد والتربية، وبين منزلته من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {وأنعمت عليه} أي بالعتق والتبني حين استشارك في فراق زوجه الذي أخبرك الله أنه يفارقها وتصير زوجتك: {أمسك عليك زوجك} أي زينب {واتق الله} أي الذي له جميع العظمة في جميع أمرك لا سيما ما يتعلق بحقوقها ولا تغبنها بقولك: إنها تترفع عليّ - ونحو ذلك {وتخفي} أي والحال أنك تخفي، أي تقول له مخفياً {في نفسك} أي مما أخبرك الله من أنها ستصير إحدى زوجاتك عن(15/357)
طلاق زيد {ما الله مبديه} أي بحمل زيد على تطليقها وإن أمرته أنت بإمساكها وتزويجك بها وأمرك بالدخول عليها، وهو دليل على أنه ما أخفى غير ما أعلمه الله تعالى من أنها ستصير زوجته عن طلاق زيد لأن الله تعالى ما أبدى غير ذلك ولو أخفى غيره لأبداه سبحانه لأنه لا يبدل القول لديه، روى البخارى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن هذه الآيات نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما.
ولما ذكر إخفاءه ذلك، ذكر علته فقال عاطفاً على «تخفي» : {وتخشى الناس} أي من أن تخبر بما أخبرك الله به فيصوبوا إليك مرجمات الظنون لا سيما اليهود والمنافقون {والله} أي والحال أن الذي لا شيء أعظم منه {أحق أن تخشاه} أي وحده ولا تجمع خشية الناس مع خشيته في أن تؤخر شيئاً أخبرك به لشيء يشق عليك حتى يفرق لك فيه أمر، قالت عائشة رضي الله عنها: لو كتم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية.
ولما علم من هذا أنه سبحانه أخبره بأن زيداً سيطلقها وأنها ستصير زوجاً له من طلاق زيد إياها، سبب عنه قوله عاطفاً عليه: {فلما قضى زيد منها وطراً} أي حاجة من زواجها والدخول بها،(15/358)
وذلك بانقضاء عدتها منه لأنه به يعرف أنه لا حاجة له فيها، وأنه قد تقاصرت عنها همته، وطابت عنها نفسها، وإلا لراجعها {زوجناكها} ولم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها، تشريفاً لك ولها، بما لنا من العظمة التي خرقنا بها عوائد الخلق حتى أذعن لذلك كل من علم به، وسرت به جميع النفوس، ولم يقدر منافق ولا غيره على الخوض في ذلك ببنت شفة مما يوهنه ويؤثر فيه، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزيد: اذهب فاذكرها علي، فانطلق زيد رضي الله عنه حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن انظر إليها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت: يا زينب! إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل عليها بغير إذن قال: ولقد رأيتنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون فذكره، سيأتي. وقال البغوي:(15/359)
قال الشعبي: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن: جدي وجدك واحد، وأني أنكحينك الله في السماء، وأن السفير لجبريل عليه السلام.
ولما ذكر سبحانه التزويج على ما له من العظمة، ذكر علته دالاً على أن الأصل مشاركة الأمة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحكام وأن لا خصوصية إلا بدليل فقال: {لكي لا يكون على المؤمنين} أي الذين أزالت عراقتهم في الإيمان حظوظهم {حرج} أي ضيق {في أزواج أدعيائهم} أي الذين تبنوا بهم وأجروهم في تحريم أزواجهم مجرى أزواج البنين على الحقيقة {إذا قضوا منهن وطراً} أي حاجة بالدخول بهن ثم الطلاق وانقضاء العدة.
ولما علم سبحانه أن ناساً يقولون في هذه الواقعة أقوالاً شتى، دل على ما قاله زين العابدين بقوله: {وكان أمر الله} أي من الحكم بتزوجيها وإن كرهت وتركت إظهار ما أخبرك الله به كراهية لسوء القالة واستحياء من ذلك، وكذا كل أمر يريده سبحانه {مفعولاً *} لأنه سبحانه له الأمر كله لا راد لأمره ولا معقب لحكمه.(15/360)
ولما أنتج هذا التسهيل لما كان استصعبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتأمين مما كان خافه، عبر عن ذلك بقوله مؤكداً رداً على من يظن خلاف ذلك: {ما كان على النبي} أي الذي منزلته من الله الاطلاع على ما لم يطلع عليه غيره من الخلق {من حرج فيما فرض} أي قدر {الله} بما له من صفات الكمال وأوجبه {له} لأنه لم يكن على المؤمنين مطلقاً حرج في ذلك، فكيف برأس المؤمنين، فصار منفياً عنه الحرج مرتين خصوصاً بعد عموم تشريفاً له وتنويهاً بشأنه.
ولما كان مما يهون الأمور الصعاب المشاركة فيها فكيف إذا كانت المشاركة من الأكابر، قال واضعاً الأسم موضع مصدره: {سنة الله} أي سن الملك الذي إذا سن شيئاً أتقنه بما له من العزة والحكمة فلم يقدر أحد أن يغير شيئاً منه {في الذين خلوا} وكأنه أراد أن يكون أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام أولى مراد بهذا، تبكيتاً لملبسي أتباعهم فأدخل الجار فقال: {من قبل} أي من الأنبياء الأقدمين في إباحة التوسيع في النكاح لهم، وهو تكذيب لليهود الذين أنكروا ذلك، وإظهار لتلبيسهم.
ولما كان المراد بالنسبة الطريق التي قضاها وشرعها قال معلماً(15/361)
بأن هذا الزواج كان أمراً لا بد من وقوعه لإرادته له في الأزل فلا يعترض فيه معترض ببنت شفة يحل به ما يحل بمن اعترض على أوامر الملك، ولأجل الاهتمام بهذا الإعلام اعترض به بين الصفة الموصوف فقال: {وكان أمر الله} أي قضاء الملك الأعظم في ذلك وغيره من كل ما يستحق أن يأمر به ويهدي إليه ويحث عليه، وعبر عن السنة بالأمر تأكيداً لأنه لا بد منه {قدراً} وأكده بقوله: {مقدوراً} أي لا خلف فيه، ولا بد من وقوعه في حينه الذي حكم بكونه فيه، وهو مؤيد أيضاً لقول زين العابدين وكذا قوله تعالى واصفاً للذين خلوا: {الذين يبلغون} أي إلى أمهم {رسالات الله} أي الملك الأعظم سواء كانت في نكاح أو غيره شقت أو لا {ويخشونه} أي فيخبرون بكل ما أخبرهم به ولم يمنعهم من إفشائه، ولوّح بعد التصريح في قوله {وتخشى الناس} : {ولا يخشون أحداً} قلَّ أو جلَّ {إلا الله} لأنه ذو الجلال والإكرام.
ولما كان الخوف من الملك العدل إنما هو من حسابه كان التقدير: فيخافون حسابه، أتبعه قوله: {وكفى بالله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {حسيباً *} أي مجازياً لكل أحد بما عمل وبالغاً في حسابه الغاية القصوى، وكافياً من أراد كفايته كل من أراده بسوء.(15/362)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابناً، وكانوا قد قالوا لما تزوج زينب كما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: تزوج حليلة ابنه، أخبر به سبحانه على وجه هو من أعلام النبوة وأعظم دلائل الرسالة فقال: {ما كان} أي بوجه من الوجوه مطلق كون {محمد} أي على كثرة نسائه وأولاده {أبا أحد من رجالكم} لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة، ليثبت بذلك أن تحرم عليه زوجة الابن، ولم يقل: من بينكم، وإن لم يكن له في ذلك الوقت وهو سنة خمس وما داناها - ابن، ذكر لعلمه سبحانه أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام، ومع ما كان قبله من البنين الذين لم يبلغ أحد منهم الحلم - على جميعهم الصلاة والسلام.
ولما كان بين كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباً لأحد من الرجال حقيقة وبين كونه خاتماً منافاة قال: {ولكن} كان في علم الله غيباً وشهادة أنه {رسول الله} الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده، فبينكم وبين رسوله من جهة مطلق الرسالة أبوة وبنوة مجازية، أما من جهته فبالرأفة والرحمة والتربية والنصيحة من غير أن تحرم(15/363)
عليه تلك البنوة شيئاً من نسائكم وإلا لم يكن لمنصب النبوة مزية، وأما من جهتكم فبوجوب التعظيم والتوفير والطاعة وحرمة الأزواج، وأما كون الرسالة عن الله الذي لا أعظم منه فهو مقتض لأن يبلغ الناس عنه جميع ما أمره به، وقد بلغكم قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} ووظيفة الشريفة مقتضية لأن يكون أول مؤتمر بهذا الأمر، فهو لا يدعو أحداً من رجالكم بعد هذا ابنه.
ولما لم يكن مطلق النبوة ولا مطلق الرسالة منافياً لأبوه الرجال قال: {وخاتم النبيين} أي لأن رسالته عامة ونبوته معها إعجاز القرآن، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال، فلا يولد بعده من يكون نبياً، وذلك مقتض لئلا يبلغ له ولد يولد منه مبلغ الرجال، ولو قضي أن يكون بعده نبي لما كان إلا من نسله إكراماً له لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظم شرفاً، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها أو أعظم منها، ولو صار أحد من ولده رجلاً لكان نبياً بعد ظهور نبوته، وقد قضى الله ألا يكون بعده نبي إكراماً له، روى أحمد وابن ماجه عن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في ابنه إبراهيم: «لو عاش لكان صديقاً نبياً» ، وللبخاري نحوه عن(15/364)
البراء بن عازب رضي الله عنه، وللبخاري من حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه: لو قضى أن يكون بعد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي لعاش ابنه، ولكن لا نبي بعده.
والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي بشرع جديد مطلقاً ولا يتجدد بعده أيضاً استنباء نبي مطلقاً، فقد آل الأمر إلى أن التقدير: ما كان محمد بحيث يتجدد بعده نبوة برسالة ولا غيرها ولكنه كان - مع أنه رسول الله - ختاماً للنبوة غير أنه سيق على الوجه المعجز لما تقدم من النكت وغيرها، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار لأن يكون بنيه أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية بغير جهة الإدلاء بأنثى أو كونه رسولاً وخاتماً، صوناً لمقام النبوة أن يتجدد بعده لأحد لأنه لو كان ذلك بشر لم يكن إلا ولداً له، وإنما أوثرت إماتة أولاده عليه الصلاة والسلام وتأثير قلبه الشريف بها إعلاء لمقامه أن يتسنمه أحد كائناً من كان، وذلك لأن فائدة إتيان النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله، وقد حصل به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التمام فلم يبق بعد ذلك مرام «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وأما(15/365)
تجديد ما وهى بما أحدثه بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله، لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه، فمهما حصل ذهول عن ذلك قروه من يريد الله من العلماء، فيعود الاستبصار كما روي في بعض الآثار «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وأما إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام بعد تجديد المهدي رضي الله عنه لجميع ما وهن من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة ياجوج وماجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي، وما أحسن ما نقل عن حسان بن ثابت رضي الله عنه في مرثيته لإبراهيم ابن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال:
مضى ابنك محمود العواقب لم يشب ... بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل
رأى أنه إن عاش ساواك في العلا ... فآثر أن يبقى وحيداً بلا مثل
وقال الغزالي رحمه الله في آخر كتابة الاقتصاد: إن الأمة فهمت من هذا اللفظ - أي لفظ هذه الآية - ومن قرائن أحواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً، وعدم رسول بعده أبداً، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص، وقال: أن من أوله بتخصيص النبيين(15/366)
بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه، من أنواع الهذيان، لا يمنع الحكم بتكفيره، لأنه مكذب بهذا النص الذي أجمع الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص هذا كلامه في كتاب الاقتصاد، نقلته منه بغير واسطة ولا تقليد، فإياك أن تصغي إلى من نقل عنه غير هذا، فإنه تحريف يحاشي حجة الإسلام عنه:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام غير قادح في هذا النص، فإنه من أمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المقررين لشريعته، وهو قد كان نبياً قبله لم يستجد له شيء لم يكن، فلم يكن ذلك قادحاً في الختم وهو مثبت لشرف نبيناً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولولا هو لما وجد، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله أو أعلى منه، وقد كانت الأنبياء تأتي مقرره لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام مجددة لها، فكان المقرر لشريعة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتبع لملته من كان ناسخاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كان المقام في هذا البت بأنه لا يكون له ولد يصير رجلاً مقام إحاطة العلم، كان التقدير: لأنه سبحانه أحاط علماً بأنه على كثرة نسائه وتعدد أولاده لا يولد له ولد ذكر فيصير رجلاً {وكان الله} أي الذي له كل صفة كمال أزلاً وأبداً {بكل شيء}(15/367)
من ذلك وغيره {عليماً} فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء، قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في سؤال القبر: واختصاصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأحمدية والمحمدية علماً وصفة برهان جلي على ختمه إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وقد بين السهيلي هذا في سورة الحواريين من كتاب الإعلام - انتهى. وقد بينت في سورة النحل أن مدار مادة الحمد على بلوغ الغاية وامتطاء النهاية.
ولما كان ما أثبته لنفسه سبحانه من إحاطة العلم مستلزماً للإحاطة بأوصاف الكمال، وكان قد وعد من توكل عليه بأن يكفيه كل مهم، ودل على ذلك بقصة الأحزاب وغيرها وأمر بطاعة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقدم بالوصية التامة في تعظيمه إلى أن أنهى الأمر في إجلاله، وكانت طاعة العبد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كل وجه حتى يكون مسلوب الاختبار معه، فيكون بذلك مسلماً لا يحمل عليها إلا طاعة الله، وكانت طاعة الله كذلك لا يحمل عليها إلا دوام ذكره، قال بعد تأكيد زواجه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزينب(15/368)
رضي الله عنها بأنه هو سبحانه زوجه إياها لأنه قضى أن لا بنوة بينه وبين أحد من رجال أمته توجب حرمة زوج الولد: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {اذكروا} أي تصديقاً لدعواكم ذلك {الله} الذي هو أعظم من كل شيء {ذكراً كثيراً} أي بأن تعقدوا له سبحانه صفات الكمال وتثنوا عليه بها بألسنتكم، فلا تنسوه في حال من الأحوال ليحملكم ذلك على تعظيم رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق تعظيمه، واعتقاد كماله في كل حال، وأنه لا ينطق عن الهوى، لتحوزوا مغفرة وأجراً عظيماً، كما تقدم الوعد به.
ولما كان ثبوت النبوة بينه وبين أحد من الرجال خارماً لإحاطة العلم، وجب تنزيهه سبحانه عن ذلك فقال: {وسبحوه} أي عن أن يكون شيء على خلاف ما أخبر به، وعن كل صفة نقص بعد ما أثبتم له كل صفة كمال {بكرة وأصيلاً *} أي في أول النهار وآخره أي دائماً لأن هذين الوقتين إما للشغل الشاغل ابتداء أو انتهاء أو للراحة، فوجوب الذكر فيهما وجوب له في غيرهما من باب الأولى، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، تم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإنه تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً(15/369)
على عقله. وهما أيضاً مشهودان بالملائكة ودالان على الساعة: الثاني قربها بزوال الدنيا كلها، والأول على البعث بعد الموت، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صلاتي الصبح والعصر، لأن المواظبة عليهما - لما أشير إليه من صعوبتهما بما يعتري في وقتيهما من الشغل بالراحة وغيرها - دالة على غاية المحبة للمثول بالحضرات الربانية حاملة على المواظبة على غيرهما من الصلوات وجميع الطاعات بطريق الأولى، ويؤكد هذا الثاني تعبيره بلفظ الصلاة في تعليل ذلك بدوتم ذكره لنا سبحانه بقوله: {هو الذي يصلي عليكم} أي بصفة الرحمانية متحنناً، لأن المصلي منا يتعطف في الأركان {وملائكته} أي كلهم بالاستغفار لكم وحفظكم من كثير من المعاصي والآفات ويتردد بعضهم بينه سبحانه وبين الأنبياء بما ينزل إليهم من الذكر الحافظ من كل سوء فقد اشتركت الصلاتان في إظهار شرف المخاطبين.
ولما كان فعل الملائكة منسوباً إليه لأنه مع كونه الخالق له الآمر به قال: {ليخرجكم} أي بذلك {من الظلمات} أي الكائنة من الجهل الموجب للضلال {إلى النور} أي الناشىء من العلم المثمر للهدى، فيخرج بعضكم بالفعل من ظلمات المعاصي المقتضية للرين على القلب إلى نور الطاعات، فتكونوا بذلك مؤمنين {وكان} أي ازلاً وأبداً {بالمؤمنين} أي الذين صار الإيمان لهم ثابتاً(15/370)
خاصة {رحيماً *} أي بليغ الرحمة يتوفيقهم لفعل ما ترضاه الإلهية، فإنهم أهل خاصته فيحملهم على الإخلاص في الطاعات، فيرفع لهم الدرجات في روضات الجنات.
ولما كان أظهر الأوقات في تمرة هذا الوصف ما بعد الموت، قال تعالى مبيناً لرحمتهم: {تحيتهم يوم يلقونه} أي بالموت أو البعث {سلام} أي يقولون له ذلك، «أنت السلام ومنك السلام فجئنا ربنا بالسلام» كما يقوله المحرم المشبه لحال من هو في الحشر فيجابون بالسلام الذي فيه إظهار شرفهم ويأمنون معه من كل عطب {وأعد} أي والحال أنه أعد {لهم} أي بعد السلامة الدائمة {أجراً كريماً *} أي غدقاً دائماً لا كدر في شيء منه.
ولما وعظ المؤمنين فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بما أقبل بأسماعهم وقلوبهم إليه، وختم بما يوجب لهم الفوز بما عنده سبحانه، وكان معظم ذلك له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه رأس المؤمنين، أقبل بالخطاب عليه ووجهه إليه فقال منوهاً من ذكره ومشيداً من قدره بما ينتظم بقوله {الذين يبلغون رسالات الله} الآية وما جرها من العتاب: {يا أيها النبي} أي الذي مخبره بما لا يطلع عليه غيره.(15/371)
ولما كان الكافرون - المجاهرون منهم والمساترون - ينكرون الرسالة وما تبعها، أكد قوله في أمرها وفخمه فقال: {إنا أرسلناك} أي بعظمتنا بما ننبئك به إلى سائر خلقنا {شاهداً} أي عليهم ولهم مطلق شهادة، لأنه لا يعلم بالبواطن إلا الله، وأنت مقبول الشهادة، فأبلغهم جميع الرسالة سرهم ذلك أو ساءهم سرك فعلهم أو ساءك.
ولما كان المراد الإعلام برسوخ قدمه في كل من هذه الأوصاف، عطفها بالواو فقال: {ومبشراً} أي لمن شهدت لهم بخير بما يسرهم، وأشار إلى المبالغة في البشارة بالتضعيف لما لها من حسن الأثر في إقبال المدعو وللتضعيف من الدلالة على كثرة الفعل والمفعول بشارة بكثرة التابع وهو السبب لمقصود السورة، وكانت المبالغة في النذارة أزيد لأنها أبلغ في رد المخالف وهي المقصود بالذات من الرسالة لصعوبة الاجتراء عليها فقال: {ونذيراً} أي لمن شهدت عليهم بشر بما يسوءهم {داعياً} أي للفريقين {إلى الله} أي إلى ما يرضي الذي لا أعظم منه بالقول والفعل، وأعرى الدعاء عن المبالغة لأنه شامل للبشارة والنذارة والإخبار بالقصص والأمثال ونصب الأحكام والحدود، والمأمور به في كل ذلك الإبلاغ بقدر الحاجة بمبالغة أو غيرها(15/372)
فمن لم ترده عن غيه النذارة، وتقبل به إلى رشده البشارة، حمل على ذلك بالسيف.
ولما كان ذلك في غاية الصعوبة، لا يقوم به أحد إلا بمعونة من الله عظيمة، أشار إلى ذلك بقوله: {بإذنه} أي بتمكينه لك من الدعاء بتيسير أسبابه، وتحمل أعبائه، وللمدعو من الإقبال والإتباع إن أراد له الخير.
ولما كان الداعي إلى الله يلزمه النور لظهور الأدلة قال: {وسراجاً} يمد البصائر فيجلي ظلمات الجهل بالعلم المبصر لمواقع الزلل كما يمد النور الحسي نور الأبصار. ولما كان المقام مرشداً إلى إنارته، وكان من السرج ما لا يضيء، وكان للتصريح والتأكيد شأن عظيم قال: {منيراً *} أي ينير على من أتبعه ليسير في أعظم ضياء، ومن تخلف عنه كان في أشد ظلام، فعرف من التقييد بالنور أنه محط الشبه، وعبر به دون الشمس لأنه يقتبس منه ولا ينقص مع أنه من أسماء الشمس.(15/373)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
ولما تقدمت هذه الأوصاف الحسنى، وكان تطبيق ثمراتها عليها في الذروة، من العلو، وكان الشاهد هو البينة، فكان كأنه قيل: فأقم الأدلة النيرة، وادع وأنذر كل من خالف أمرك، وكان المقام لخطاب المقبلين، طوى هذا المقدر لأنه للمعرضين، ودل عليه بقوله عاطفاً(15/373)
عليه: {وبشر المؤمنين} أي الذين صح لهم هذا الوصف. فإنك مبشر {بأن لهم} وبين عظمة هذه البشرى بقوله: {من الله} أي الذي له جميع صفات العظمة {فضلاً كبيراً *} أي من جهة النفاسة ومن جهة التضعيف من عشرة أمثال الحسنة إلى ما لا يعلمه إلا الله.
ولما أمره سبحانه بما يسر نهاه عما يضر، فقال ذاكراً ثمرة النذارة: {ولا تطع الكافرين} أي المشاققين {والمنافقين} أي لا تترك إبلاغ شيء مما أنزلته إليك من الإنزال، وغيره كراهة شيء من مقالهم أو فعالهم في أمر زينب أو غيرها، فإنك نذير لهم، وزاد على ما في أول السورة محط الفائدة في قوله مصرحاً بما اقتضاه ما قبله: {ودع} أي اترك على حالة حسنة بك وأمر جميل لك {أذاهم} فلا تراقبه في شيء، ولا تحسب له حساباً أصلاً، واصبر عليه فإنه غير ضائرك لأن الله دافع عنك لأنك داع بإذنه.
ولما كان ترك المؤذي، والإعراض عنه استسلاماً في غاية المشقة، ذكره بالدواء فقال: {وتوكل على الله} أي الملك الأعلى في الانتصار لك منهم وإبلاغ جميع ما يأمرك به وفي جميع أمرك لأن الله متم نورك ومظهر دينك والاكتفاء به من ثمرات إنارته لك بجعلك سراجاً، ولما كان الوكيل قد لا ينهض بجميع الأمور، قال معلماً بأن كفايته محيطه: {وكفى} وأكد أمر الكفاية بإيجاد الباء في الفاعل(15/374)
تحقيقاً لكونه فاعلاً كما مضى في آخر سورة الرعد فقال: {بالله} أي الذي له الإحاطة الكاملة، وميز النسبة بالفاعل في الأصل لزيادة التأكيد في تحقيق معنى الفاعل فقال: {وكيلاً *} فمن اكتفى به أنار له جميع أمره.
ولما أمر سبحانه بإبلاغ أوامره من غير التفات إلى أحد غيره، وكان من المعلوم أنه لا بد في ذلك من محاولات ومنازعات، لا يقوم بها إلا من أعرض عن الخلائق، لما هو مشاهد له من عظمة الخالق، أمر سبحانه بالتوكل عليه، وأقام الدليل الشهودي بقصة الأحزاب وقريظة على كفاية لمن أخلص له، فلما تم الدليل رجع إلى بيان ما افتتح به السورة من الأحكام بعد إعادة الأمر بالتوكل، فذكر أقرب الطلاق إلى معنى المظاهرة المذكورة أول السورة بعد الأمر بالتوكل التي محط قصدها عدم قربان المظاهر عنها بعد أن كان أبطل المظاهرة. فقال ناهياً لمن هو في أدنى أسنان الإيمان بعد بشارة المؤمنين قاطعاً لهم عما كانوا يشتدون به في التحجر على المرأة المطلقة لقصد مضاجرتها أو تمام التمكن من التحكم فيه: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك {إذا نكحتم} أي عاقدتم، أطلق اسم المسبب على السبب فقد صار فيه حقيقة شرعية {المؤمنات} أي الموصوفات بهذا الوصف الشريف المقتضي لغاية الرغبة فيهن وأتم الوصلة بينكم وبينهن.(15/375)
ولما كان طول مدة الحبس بالعقد من غير جماع لا يغير الحكم في العدة وإن غيرها في النسب بمجرد إمكان الوطىء، وكان الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح وبعد حل الوطىء بالنكاح، أشار إليه بحرف التراخي فقال: {ثم طلقتموهن} أي بحكم التوزيع، وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود رضي الله عنهم يقول بصحة تعليق الطلاق قبل النكاح فقال: زلة علم - وتلا هذه الآية.
ولما كان المقصود نفي المسيس في هذا النكاح لا مطلقاً، وكانت العبرة في إيجاب المهر بنفس الوطىء لا بإمكانه وإن حصلت الخلوة، أدخل الجار فقال: {من قبل أن تسموهن} أي تجامعوهن، أطلق المسّ على الجماع لأنه طريق له كما سمي الخمر إثماً لأنها سببه. ولما كانت العدة حقاً للرجال قال: {فما لكم} ولما كانت العدة واجبة، عبر بأداة الاستعلاء فقال: {عليهن} وأكد النفي بإثبات الجار في قوله: {من عدة} ودل على اعتيادهم ذلك ومبالغتهم فيه والمضاجرة به كما في الظهار بالافتعال فقال: {تعتدونها} أي تتكلفون عدها وتراعونه، وروي عن ابن كثير من طريق البزي شاذاً بتخفيف الدال بمعنى تتكلفون الاعتداء بها على المطلقة.
ولما كان هذا الحكم - الذي معناه الانفصال - للمؤمنات اللاتي(15/376)
لهن صفات تقتضي دوام العشرة وتمام الاتصال، كان ذلك للكتابيات من باب الأولى، وفائدة التقييد الإرشاد إلى أنه لا ينبغي العدول عن المؤمنات بل ولا عن الصالحات من المؤمنات. ولما كان الكلام كما أشير إليه في امرأة قريبة من المظاهر عنها، وكان ما خلا من الفرض للصداق أقرب إلى ذلك، سبب عما مضى قوله: {فمتعوهن} ولم يصرح بأن ذلك لغير من سمى لها لتدخل المسمى لها في الكلام على طريق الندب مع ما لها من نصف المسمى كما دخلت الأولى وجوباً {وسرحوهن} أي أطلقوهن ليخرجن من منازلكم ولا تعتلوا عليهن بعلة {سراحاً جميلاً *} بالإحسان قولاً وفعلاً من غير ضرار بوجه أصلاً ليتزوجهن من شاء.
ولما كان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكان المراد الأعظم في هذه الآيات بيان ما شرفه الله به من ذلك، أتبع ما بين أنه لا عدة فيه من نكاح المؤمنين وما حرمه عليهم من التضييق على الزوجات المطلقات بعض ما شرفه الله تعالى به وخصه من أمر التوسعة في(15/377)
النكاح، وختمه بأن أزواجه لا تحل بعده، فهن كمن عدتهن ثابتة لا تنقضي أبداً، أو كمن زوجها غائب عنها وهو حي، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي في قبره: {يا أيها النبي} ذاكراً سبحانه الوصف الذي هو مبدأ القرب ومقصوده ومنبع الكمال ومداره.
ولما كان الذين في قلوبهم مرض ينكرون خصائص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكد قوله: {إنا أحللنا لك أزواجك} أي نكاحهن، قال الحرالي في كتابه في أصول الفقه: تعليق الحكم بالأعيان مختص بخاص مدلولها نحو حرمت أو حللت المرأة أي نكاحها، والفرس أي ركوبه، والخمر أي شربها، ولحم الخنزير أي أكله، والبحر أي ركوبه، والثور أي الحرث به، وكذلك كل شيء يختص بخاص مدلوله، ولا يصرف عنه إلا بمشعر، ولا إجمال فيه لترجح الاختصاص - انتهى.
ولما كان المقصود من هذه السورة بيان مناقبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما خصه الله به مما قد يطعن فيه المنافقون من كونه أولى من كل أحد بنفسه وماله، بين أنه مع ذلك لا يرضى إلا بالأكمل، فبين أنه كان يعجل المهور، ويوفي الأجور، فقال: {اللاتي آتيت} أي بالإعطاء الذي هو الحقيقة، وهي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى أو بالتسمية(15/378)
في العقد قال الكشاف: وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم وما لا يعرف بينهم غيره {أجورهن} أي مهورهن لأنها عوض عن منفعة البضع، وأصل الأجر الجزاء على العمل {وما ملكت يمينك} .
ولما كان حوز الإنسان لما سباه أطيب لنفسه وأعلى لقدره وأحل مما اشتراه قال: {مما أفاء} أي رد {الله} الذي له الأمر كله {عليك} مثل صفية بنت حيي النضرية وريحانة القرظية وجويرية بنت الحارث الخزاعية رضي الله عنهن مما كان في أيدي الكفار، أسنده إليه سبحانه إفهاماً لأنه فيء على وجهه الذي أحله الله لا خيانة فيه، وعبر بالفيء الذي معناه الرجوع إفهاماً لأن ما في يد الكافر ليس له وإنما هو لمن يستلبه منه من المؤمنين بيد القهر أو لمن يعطيه الكافر منهم عن طيب نفس، ومن هنا كان يعطي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يطلب منه من بلاد الكفار أو نسائهم، وما أعطى أحداً شيئاً إلا وصل إليه كتميم الداري وشويل رضي الله عنهما، وقيد بذلك تنبيهاً على فضله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووقوعه من كل شيء على أفضله كما تقدمت الإشارة إليه، وإشارة إلى أنه سبق في علم الله أنه لا يصل إليه من ملك اليمين إلا ما كان هذا سبيله، ودخل فيه ما أهدى له من الكفار مثل مارية(15/379)
القبطية أم ولده إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى ما خصه به من تحليل ما كان خطره على من كان قبله من الغنائم {وبنات عمك} الشقيق وغيره من باب الأولى، فإن النسب كلما بعد كان أجدر بالحل.
ولما كان قد أفرد العم لأن واحد الذكور يجمع من غيره لشرفه وقوته وكونه الأصل الذي تفرع منه هذا النوع، عرف بجميع الإناث أن المراد به الجنس لئلا يتوهم أن المراد إباحة الأخوات مجتمعات فقال: {وبنات عماتك} من نساء بني عبد المطلب.
ولما بدأ بالعمومة لشرفها، أتبعها قوله: {وبنات خالك} جارياً أيضاً في الإفراد والجمع على ذلك النحو {وبنات خالاتك} أي من نساء بني زهرة ويمكن أن يكون في ذلك احتباك عجيب وهو: بنات عمك وبنات أعمامك، وبنات عماتك وبنات عمتك، وبنات خالك وبنات أخوالك، وبنات خالاتك وبنات خالتك، وسره ما أشير إليه.
ولما بين شرف أزواجه من جهة النسب لما علم واشتهر أن نسبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهة الرجال والنساء أشرف الأنساب بحيث لم يختلف في ذلك اثنان من العرب، بين شرفهن من جهة الإعمال فقال:(15/380)
{اللاتي هاجرن} وأشار بقوله: {معك} إلى أن الهجرة قبل الفتح {أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10] ولم يرد بذلك التقييد بل التنبيه على الشرف، وإشارة إلى أنه سبق في عمله سبحانه أنه لا يقع له أن يتزوج من هي خارجة عن هذه الأوصاف، وقد ورد أن هذا على سبيل التقييد؛ روى الترمذي والحاكم وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والطبراني والطبري وابن أبي حاتم كلهم من رواية السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: خطبني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله تعالى {إنا أحللنا لك أزواجك} - الآية، فلم أكن لأحل له لأني لم أهاجر. كنت من الطلقاء قال الترمذي: حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي.
ولما بين ما هو الأشرف من النكاح لكونه الأصل، وأتبعه سبحانه ما خص به شرعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المغنم الذي تولى سبحانه إباحته، أتبعه ما جاءت إباحته من جهة المبيح إعلاماً بأنه ليس من نوع الصدقة التي نزه عنها قدره فقال: {وامرأة} أي وأحللنا لك امرأة {مؤمنة} أي هذا الصنف حرة كانت أو رقيقة {إن وهبت نفسها للنبي} .
ولما ذكر وصف النبوة لأنه مدار الإكرام من الخالق والمحبة من(15/381)
الخلائق تشريفاً له به وتعليقاً للحكم بالوصف، لأنه لو قال «لك» كان ربما وقع في بعض الأوهام - كما قال الزجاج - أنه غير خاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كرره بياناً لمزيد شرفه في سياق رافع لما ربما يتوهم من أنه يجب عليه القبول فقال: {إن أراد النبي} أي الذي أعلينا قدره بما اختصصناه به من الإنباء بالأمور العظمية من عالم الغيب والشهادة {أن يستنكحها} أي يوجد نكاحه لها يجعلها من منكوحاته بعقد أو ملك يمين، فتصير له مجرد ذلك بلا مهر ولا ولي ولا شهود.
ولما كان ربما فهم أن غيره يشاركه في هذا المعنى، قال مبيناً لخصوصيته واصفاً لمصدر {أحللنا} مفخماً للأمر بهاء المبالغة ملتفتاً إلى الخطاب لأنه معين للمراد رافع للارتياب: {خالصة لك} وزاد المعنى بياناً بقوله: {من دون المؤمنين} أي من الأنبياء وغيرهم، وأطلق الوصف المفهم للرسوخ فشمل من قيد بالإحسان والإيقان، وغير ذلك من الألوان، دخل من نزل عن رتبتهم من الذين يؤمنون والذين آمنوا وسائر الناس من باب الأولى مفهوم موافقة، وقد كان الواهبات عدة ولم يكن عنده منهن شيء. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/382)
وأقول: أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها، فلما نزلت {ترجى من تشاء منهن} قلت: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة، ليمنع غيره من ذلك، علله بقوله: {قد} أي أخبرناك بأن هذا أمر يخصك دونهم لأنا قد {علمنا ما فرضنا} أي قدرنا بعظمتنا.
ولما كان ما قدره للإنسان عطاء ومنعنا لا بد له منه، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي المؤمنين {في أزواجهم} أي من أنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين. ولما كان هذا عاماً للحرة والرقيقة قال: {وما ملكت أيمانهم} أي من أن أحداً غيرك لا يملك رقيقة بهبتها لنفسها منه، فيكون أحق من سيدها.
ولما فرغ من تعليل الدونية، علل التخصيص لفاً ونشراً مشوشاً بقوله: {لكيلا يكون عليك حرج} أي ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة. ولما ذكر سبحانه ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلى الناس فهماً وأشدهم لله خشية،(15/383)
وكان يعدل بينهن، ويعتذر مع ذلك من ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» خفف عنه سبحانه بقوله: {وكان الله} أي المتصف بصفات الكمال من الحلم والأناة والقدرة وغيرها أزلاً وأبداً {غفوراً رحيماً *} أي بليغ الستر فهو أن شاء يترك المؤاخذة فيما له أن يؤاخذ به، ويجعل مكان المؤاخذة الإكرام العظيم متصفاً بذلك أزلاً وأبداً.(15/384)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
ولما ذكر هاتين الصفتين، أتبعهما ما خففه عنه من أمرهن إكراماً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما كان من شأنه أن يتحمل فيه ويتخرج عن فعله، فقال في موضع الاستئناف، أو الحال من معنى التخفيف في الجمل السابقة: {ترجي} بالهمز على قراءة الجماعة أي تؤخر {من تشاء منهن} أي من الواهبات فلا تقبل هبتها أو من نسائك بالطلاق أو غيره مع ما يؤنسها من أن تؤويها، وبغير همز عند حمزة والكسائي وحفص من الرجاء أي تؤخرها مع أفعال يكون بها راجية لعطفك {وتؤي} أي تضم وتقرب بقبول الهبة أو بالإبقاء في العصمة بقسم وبغير قسم بجماع وبغير جماع تخصيصاً له بذلك عن سائر الرجال {إليك من تشاء}(15/384)
وسيب نزول هذه الآية أنه لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن فقلن: يا نبي الله! اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت. ودعنا على حالنا، فنزلت.
ولما كانت ربما مال إلى من فارقها، بين تعالى حكمها فقال: {ومن ابتغيت} أي مالت نفسك إلى طلبها {ممن عزلت} أي أوقعت عزلها بطلاق أو رد هبة {فلا جناح عليك} أي في إيوائها بعد ذلك بقبول هبتها أو بردها إلى ما كانت عليه من المنزلة عندك من قيد النكاح أو القسم.
ولما كانت المفارقة من حيث هي - ولا سيما إن كان فراقها لما فهم منها من كراهية يظن بها - أنها تكره الرجعة، أخبر سبحانه أن نساءه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غير ذلك فقال: {ذلك} أي الإذن لك من الله والإيواء العظيم الرتبة، لما لك من الشرف {أدنى} أي أقرب من الإرجاء ومن عدم التصريح بالإذن في القرآن المعجز، إلى {أن تقر أعينهن} أي بما حصل لهن من عشرتك الكريمة، وهو كناية عن السرور والطمأنينة ببلوغ المراد، لأن من كان كذلك كانت عينه قارة، ومن كان مهموماً كانت عينه كثيرة التقلب لما يخشاه - هذا إن كان من القرار بمعنى السكون، ويجوز أن يكون من القر الذي هو(15/385)
ضد الحر، لأن المسرور تكون عينه باردة، والمهموم تكون عينه حارة، فلذلك يقال للصديق: أقر الله عينك، وللعدو: أسخن الله عينك {ولا يحزن} أي بالفراق وغيره مما يحزن من ذلك {ويرضين} لعلمهن أن ذلك من الله لما للكلام من الإعجاز {بما آتيتهن} أي من الأجور وغيرها من نفقة وقسم وإيثار وغيرها.
ولما كان التأكيد أوقع في النفس وأنفى للبس، وكان هذا أمراً غريباً لبعده عن الطباع أكد فقال: {كلهن} أي ليس منهن واحدة إلا هي كذلك راغبة فيك راضية بصحبتك إن آويتها أو أرجأتها لما لك من حسن العشرة وكرم الأخلاق ومحاسن الشمائل وجميل الصحبة، وإن اخترت فراقها علمت أن هذا أمر من الله جازم، فكان ذلك أقل لحزنها فهو أقرب إلى قرار عينها بهذا الاعتبار، وزاد ذلك تأكيداً لما له من الغرابة التي لا تكاد تصدق بقوله عطفاً على نحو {فالله يعلم ما في قلوبهم} : {والله} أي بما له من الإحاطة بصفات الكمال {يعلم} أي علماً مستمراً لتعلق {ما في قلوبكم} أي أيها الخلائق كلكم، فلا بد إن علم ما في قلوب هؤلاء.
ولما رغبه سبحانه في الإحسان إليهن بإدامة الصحبة بما أخبره من(15/386)
ودهن ذلك، لكونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد المحبة لإدخال السرور على القلوب، زاده ترغيبا بقوله: {وكان الله} أي أزلاً وأبداً {عليماً} أي بكل شيء ممن يطيعه ومن يعصيه {حليماً *} لا يعاجل من عصاه، يل يديم إحسانه إليه في الدنيا فيجب أن يتقي لعلمه وحلمه، فعلمه موجب للخوف منه، وحلمه مقتض للاستحياء منه، وأخذ الحليم شديد، فينبغي لعبده المحب له أن يحلم عمن يعلم تقصيره في حقه، فإنه سبحانه يأجره على ذلك بأن يحلم عنه فيما علمه منه، وأن يرفع قدره ويعلي ذكره، روى البخاري في التفسير عن معاذة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية {ترجي من تشاء منهن} الآية، قلت لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له: إن كان ذاك إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً.
ولما أمره بما يشق من تغير العوائد في أمر العدة، ثم بما قد يشق عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تخصيصه بما ذكر خشية من طعن بعض من لم يرسخ إيمانه، وختم بما يسر أزواجه، وصل به ما يزيد سرورهن من تحريم غيرهن عليه شكراً لهن على إعراضهن عن الدنيا(15/387)
واختيارهن الله ورسوله فقال: {لا يحل لك النساء} ولما كان تعالى شديد العناية به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوّح له في آية التحريم إلى أنه ينسخه عنه، فأثبت الجار فقال: {من بعد} أي من بعد من معك من هؤلاء التسع - كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه، شكراً من الله لهن لكونهن لما نزلت آية التخيير اخترن الله ورسوله، فتكون الآية منسوخة بمت تقدم عليها في النظم وتأخر عنها في الإنزال من آية {إنا أحللنا لك أزواجك} وفي رواية أخرى من بعد {اللاتي أحللنا لك} بالصفة المتقدمة من بنات العم وما معهن، ويؤيدها ما تقدمت روايته عن أم هانئ رضي الله عنها.
ولما كان ربما فهم أن المراد الحصر في عدد التسع، لا بقيد المعينات، قال: {ولا أن تبدل بهن} أي هؤلاء التسع، وأعرق في النفي بقوله: {من} أي شيئاً من {أزواج} أي بأن تطلق بعض هؤلاء المعينات وتأخذ بدلها من غيرهن بعقد النكاح بحيث لا يزيد العدد على تسع، فعلم بهذا أن الممنوع منه نكاح غيرهن مع طلاق واحدة منهن أولاً، وهو يؤيد الرواية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن المتبدل بها لا تكون إلا معلومة العين، والجواب عن قول أم هانئ(15/388)
رضي الله عنها أنه فهم منها، لا رواية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما عند موت واحدة منهن فلا حرج في نكاح واحدة بدلها.
ولما علم من هذا المنع من كل زوجة بأيّ صفة كانت، أكد معنى وحققه، وصرح به في قوله حالاً من فاعل «تبدل» : {ولو أعجبك حسنهن} أي النساء المغايرات لمن معك، وفي هذا إباحة النظر إلى من يراد نكاحها لأن النظرة الأولى لا تكاد تثبت ما عليه المرئي من حاق الوصف؛ ولما كان لفظ النساء شاملاً للأزواج والإماء، بين أن المراد الأزواج فقط بقوله: {إلا ما ملكت يمينك} أي فيحل لك منهن ما شئت، وقد ملك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ريحانة رضي الله عنها من سبي بني قريظة، واستمرت في ملكه مدة لا يقربها حتى أسلمت، ثم ملك بعد عام الحديبية مارية رضي الله عنها أو ولده إبراهيم عليه السلام.
ولما تقدم سبحانه في هذه الآيات فأمر ونهى وحد حدوداً، حذر من التهاون بشيء منها ولو بنوع تأويل فقال: {وكان الله} أي الذي لا شيء أعظم منه، وهو المحيط بجميع صفات الكمال {على كل شيء رقيباً} أي يفعل فعل المراعي لما يتوقع منه من خلل على أقرب قرب منه بحيث لا يفوت مع رعايته فائت من أمر المرعى،(15/389)
ولا يكون الرقيب إلا قريباً، ولا أقرب من قرب الحق سبحانه، فلا أرعى من رقبته، وهو من أشد الأسماء وعيداً.(15/390)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
ولما كان القرب والإحاطة لله، كان بالحقيقة لا رقيب إلا هو، والآية على كل حال منسوخة إن قلنا بالاحتمال الأول أو الثاني، فقد روى الترمذي في التفسير عن عائشة رضي الله عنها وناهيك بها ولا سيما في هذا الباب أنها قالت: ما مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أحل له النساء، وقال: هذا حديث حسن صحيح - انتهى. ونقل ابن الجوزي عنها رضي الله عنها أن الناسخ آية {أنا أحللنا لك أزواجك} وكذا عن جماعة منهم علي وابن عباس وأم سلمة رضي الله عنهم، ولكن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك ذلك أدباً مع الله تعالى حيث عبر في المنع بصيغة الخبر والفعل المضارع، ورعاية أشار الله إليه من رعاية حقهن في اختيارهن من الدار الآخرة.
ولما قصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهن، وكان قد تقدم إليهن بلزوم البيوت وترك ما كان عليه الجاهلية من التبرج، أرخى عليهن الحجاب في البيوت ومنع غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما كانت العرب عليه من الدخول على النساء لما عندهم من الأمانة في ذلك، فقال(15/390)
مخاطباً لأدنى أسنان أهل هذا الدين لما ذكر في سبب نزولها، ولأن المؤمنين كانوا منتهين عن ذلك بغير ناه كما يدل عليه ما يأتي من قول عمر رضي الله عنه في الحجاب: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا الإيمان صدقوا دعواكم فيه بأن {لا تدخلوا} مع الاجتماع، فالواحد من باب الأولى.
ولما كان تشويش الفكر ربما كان شاغلاً عن شيء مما يبنئ الله به كما أشار إليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بينت لي ليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فأنسيتها» - أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عبر بصفة النبوة في قوله: {بيوت النبي} أي الذي يأتيه الإنباء من علام الغيوب بما فيه غاية رفعته، في حال من الأحوال أصلاً {إلا} في حال {أن يؤذن لكم} أي ممن له الإذن في بيوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه أو ممن يأذن له في ذلك، منتهين {إلى طعام} أي أكله، حال كونكم {غير ناظرين إناه} أي وقت ذلك الطعام وبلوغه واستواءه للأكل، فمنع بهذا من كان يتحين طعام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن في ذلك تكليفاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يشق عليه جداً، فإنه ربما كان ثم من هو أحوج إلى ذلك الطعام من المتحين أو غير ذلك من الأعذار، فلا يتوجه(15/391)
الخطاب إلى غير أهل السن السافل، ومن وقعت له فلتة ممن فوق رتبتهم دخل في خطابهم بما أنزل من رتبته، والتعبير باسم الفاعل المجرد في «ناظرين» أبلغ في النهي.
ولما كان هذا الدخول بالإذن مطلقاً، وكان يراد تقييده، وكان الأصل في ذلك: فإذا دعيتم - إلى آخره، ولكن لما كان المقام للختم بالجزم فيما يذكر، وكان للاستدراك أمر عظيم من روعة النفس وهزها للعلم بأن ما بعده مضاد لما قبله قال: {ولكن إذا دعيتم} أي ممن له الدعوة {فادخلوا} أي لأجل ما دعاكم له؛ ثم سبب عنه قوله: {فإذا طعمتم} أي أكلتم طعاماً أو شربتم شراباً {فانتشروا} أي اذهبوا حيث شئتم في الحال، ولا تمكثوا بعد الأكل لا مستريحين لقرار الطعام في بطونكم {ولا مستأنسين لحديث} أي طالبين الأنس لأجله، قال حمزة بن نضر الكرماني في كتابه جوامع التفسير: قال الحسن: حسبك في الثقلاء أن الله لم يتجوز في أمرهم - انتهى، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: حسبك بالثقلاء أن الله لم يحتملهم، ثم علل ذلك بقوله مصوباً الخطاب إلى جميعه، معظماً له بأداة البعد: {إن ذلكم} أي الأمر الشديد(15/392)
وهو المكث بعد الفراغ من الأكل والشرب {كان يؤذي النبي} أي الذي هيأناه لسماع ما ننبئه به مما يكون سبب شرفكم وعلوكم في الدارين، فاحذروا أن تشغلوه عن شيء منه فننبئه بشيء تهلكون فيه. ثم سبب عن ذلك المانع له من مواجهتهم بما يزيل أذاه فقال: {فيستحيي} أي يوجد الحياء، وأصله إيجاد الحياة. كأن من لا حياء له جماد لا حياة له {منكم} أي أن يأمركم بالانصراف {والله} أي الذي له جميع الأمر {لا يستحيي من الحق} أي لا يفعل فعل المستحيي فيؤديه ذلك إلى ترك الأمر به.
ولما كان البيت يطلق على المرأة لملازمتها له عادة، أعاد الضمير عليه مراداً به النساء استخداماً فقال: {وإذا سألتموهن} أي الأزواج {متاعاً} أي شيئاً من آلات البيت {فسئلوهن} أي ذلك المتاع، كائنين وكائنات {من وراء حجاب} أي ستر يستركم عنهن ويسترهن عنكم {ذلكم} أي الأمر العالي الرتبة الذي أنبئكم جميعكم به من السؤال من وراء حجاب وغيره {أطهر لقلوبكم وقلوبهن} أي من وساوس الشيطان التي كان يوسوس بها في أيام الجاهلية قناعة منه بما كانوا في حبالته من الشرك {وما كان لكم} أي وما صح وما استقام في حال من الأحوال {أن تؤذوا} وذكرهم بالوصف الذي هو سبب(15/393)
لسعادتهم واستحق به عليهم من الحق ما لا يقدرون على القيام بشكره فقال: {رسول الله} صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي الذي له جميع الكمال فله إليكم من الإحسان ما يستوجب منكم به غاية الإكرام والإجلال، فضلاً عن الكف عن الأذى، فلا تؤذوه بالدخول إلى شيء من بيوته بغير إذنه أو المكث بعد فراغ الحاجة ولا بغير ذلك.
ولما كان قد قصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهن، ولزم ذلك بعد أن أحل له غيرهن قصرهن عليه بعد الموت زيادة لشرفه وإظهاراً لمزيته فقال: {ولا أن تنكحوا} أي فيما يستقبل من الزمان، {أزواجه من بعده} أي بعد فراقه لمن دخل منهن بموت أو طلاق لما تقدم أنه حي لم يمت {أبداً} فإن العدة منه ينبغي أن لا تنقضي لما له من الجلال والعظمة والكمال، وهو حي في قبره لا يزال، وثم علة أعم من هذه لمسها في الميراث، وهي قطع الأطماع عن امتدادها إلى شيء من الدنيا بعده لئلا يتمنى أحد موته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليأخذ ذلك فيكفر لأنه لا إيمان لمن لا يقدمه على نفسه، وأما العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وتزوجت غيره فكان أمرها قبل نزول هذه الآية - ذكره البغوي عن معمر عن الزهري. ثم علل ذلك بقوله: {إن ذلكم} أي الإيذاء بالنكاح وغيره الذي ينبغي أن يكون(15/394)
على غاية البعد {كان عند الله} أي القادر على كل شيء {عظيماً *} وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أشياء، روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: بعثتني أم سليم رضي الله عنها برطب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على طبق في أول ما أينع ثمر النخل قال: فدخلت عليه فوضعته بين يديه فأصاب منه ثم أخذ بيدي فخرجنا وكان حديث عهد بعرس زينب بنت جحش رضي الله عنها، قال: فمر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون فهنأنه وهنأه الناس فقالوا: الحمد لله الذي أقر بعينك يا رسول الله، فمضى حتى أتى عائشة رضي الله عنها، فإذا عندها رجال، قال: فكره ذلك، وكان إذا كره الشيء عرف في وجهه، قال: فأتيت أم سليم فأخبرتها، فقال أبو طلحة رضي الله عنه: لئن كان ما قال ابنك حقاً ليحدثن أمر، قال: فلما كان من العشي خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصعد المنبر ثم تلا هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} الآية، قال: وأمر بالحجاب وأصله في التفسير من جامع الترمذي، وروى البخاري وغيره عنه رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عروساً بزينب رضي الله عنها، فقالت لي أم سليم: لو أهدينا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/395)
هدية! فقلت لها: افعلي، فعمدت إلى تمر وأقط وسمن، فاتخذت حيسة في برمة، فأرسلت بها معي إليه، فقال لي: ضعها، ثم أمرني فقال لي: ادع لي رجالاً - سماهم - وادع لي من لقيت، ففعلت الذي أمرني، فرجعت فإذا البيت غاص بأهله - وفي رواية الترمذي ان الراوي قال: قلت لأنس: كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة - فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون منه، ويقول لهم: اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه، حتى تصدعوا كلهم عنها، قال الترمذي: فقال لي: يا أنس، ارفع، فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أو حين رفعت - فخرج منهم من خرج وبقي نفر يتحدثون، قال: وجعلت أغتم - قال الترمذي: ورسول الله جالس وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وقال عبد الرزاق في تفسيره: فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحي منهم أن يقول لهم شيئاً - ثم خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو الحجرات وخرجت في أثره، فقلت: إنهم قد ذهبوا، فرجع فدخل البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو(15/396)
يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلو بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} الآية، وفي رواية الترمذي: ثم رجع، فلما رأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه، فابتدروا الباب، فخرجوا كلهم، وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليّ وأنزلت هذه الآيات، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأهن على الناس {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية، وروى الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه - وهذا لفظ البخاري - في روايات قال: بنى على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعياً، فيجيء قوم يأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعو، فقلت: يا نبي الله! ما أجد أحداً أدعو، قال: ارفعوا طعامكم، فجلسوا يتحدثون في البيت فإذا هو كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، وفي رواية، ثلاثة رهط، فخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله.
فقالت: وعليك السلام ورحمة الله،(15/397)
كيف وجدت أهلك، بارك الله لك! فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة رضي الله عنها. ويقلن له كما قالت عائشة - رضي الله عنهن، ثم رجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا القوم جلوس، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد الحياء فخرج منطلقاً، نحو حجرة عائشة رضي الله عنها، وفي رواية: أولم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بنى بزينب بنت جحش رضي الله عنها فأشبع الناس خبزاً ولحماً، ثم خرج إلى حجر أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه، فيسلم عليهن ويدعو لهن، ويسلمن عليه ويدعون له، فلما رجع إلى بيته رأى رجلين جرى بهما الحديث، فلما رآهما رجع عن بيته، فلما رأى الرجلان نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع عن بيته وثبا مسرعين، فما أدري أنا أخبرته بخروجهما أو أخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة وأخرى خارجة أرخى الستر، وفي رواية: فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية، وللبخاري عن عائشة رضي الله عنها(15/398)
قالت: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احجب نساءك قالت: فلم يفعل، وكان أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المناصع، خرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأة طويلة رضي الله عنها، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في المجلس فقال: عرفتك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب، قالت: فأنزل الله عز وجل الحجاب وللبخاري عن أنس رضي الله عنه ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما كلاهما عن عمر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يتحجبن، فنزلت آية الحجاب، وروي في السبب أشياء غير هذه، وقد تقدم أنه ليس ببدع أن يكون للآية الواحدة عدة أسباب مستوية الدرجة، أو بعضها أقرب من بعض، على أنه قد روى البخاري في التفسير في سياق هذه الآية ما هو صريح في أن قصة سودة بعد الحجاب عن عائشة رضي الله عنها، قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا سودة! أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيتي وإنه يتعشى وفي يده عرق فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني(15/399)
خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال: قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن وهؤلاء الذين جلسوا - والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما هو عليه من الكراهة لجلوسهم بما ذكر من هيئته في حيائه وتهيئه للقيام ونحو ذلك - لم يستثمروا الفقه من أحواله، بل كانوا واقفين عندما يسمعونه من مقاله، وطريقة الكمل الاستبصار برسمه وحاله كما يستبصرون من قاله وفعاله، قال الحرالي: الحال كل هيئة تظهر عن انفعال باطن، ويختص بتفهمها المشاهد المتوسم، وذلك كضحكه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذي رآه يوم خيبر وقد أخذ جراب شحم من فيء يهود وهو يقول: لا أعطي اليوم من هذا أحداً شيئاً، وكتغير وجهه لعمر رضي الله عنه لما أخذ يقرأ عليه صحيفة من حكم الأولين حتى نبه عمر رضي الله عنه من توسم في وجهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكراهة لفعل عمر، وإنباء كل حال منها يحسب ما يفيده الانفعال من الانبساط والانقباض والإعراض ونحو ذلك مما يتوسمه المتفطن، ويقطع بمقتضاه المتفهم، وأما الرسم فهو كل ما(15/400)
شأنه البقاء بعد غيبته ووفاته، فيتفهم منه المعتبر حكم وضعه ومقصد رسمه، كالذي يشاهد من هيئة بنائه مسجده على حال اجتزاء بأيسر ممكن وكبنائه بيوته على هيئة لا تكلف فيها، ولا مزيد علة مقدار الحاجة، وكمثل الكساء الملبد الذي تركه، وفراشه ونحو ذلك من متاع بيوته، وكما يتفهم من احتفاله في أداة سلاحه مثل كون سيفه محلى بالفضة وقبضته فضة، ومثل احتفاله بالتطيب حتى كان يرى في ثوبه وزره، فيتعرف من رسومه أحكامه، كما يتعرف من أحواله وأفعاله وأقواله، وذلك لأن جميع هذه الإبانات كلها هي حقيقة ما هو الكلام - انتهى.
وبرهان ذلك أن الأصل في الكل الكلام النفسي الذي هو المنشأ، والقول والفعل والحال والرسم مترجمة عنه، وليس بعضها أحق بالترجمة من بعض، نعم بعضها أدل من بعض وأنص وأصرح، فتهيؤ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقيام من بيته مثل لو قال: أريد أن تذهبوا، فإنه يلزم من قيام الرجل من بيته الذي هو محل ما يستره عن غيره أن يريد ذهاب، غيره منه لئلا يطلع على ما لا يحب أن يطلع عليه أحد، وإتيانه ليدخل فإذا رآهم رجع مثل لو قال: إنما يمنعني من الدخول إلى محل راحتي جلوسكم(15/401)
فيه لثقل جلوسكم عليّ، وكذا الأحوال والرسول - والله الهادي.(15/402)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
ولما كان بعض الدال على الكلام - كما مر - أصرح من بعض، فكان الإنسان قد يضمر أن يفعل ما يؤذي إذا تمكن، وقد يؤذي بفعل يفعله، ويدعي أنه قصد شيئاً آخر مما لا يؤدي، قال تعالى حاملاً لهم على التفطن والتنبه في الأقوال وغيرها والمقاصد الحسنة ظاهراً وباطناً، على طريق الاستئناف في جواب من ربما انتهى بظاهره، وهو عازم على أن يفعل الأذى عند التمكن: {إن تبدوا} أي بألسنتكم أو غيرها {شيئاً} أي من ذلك وغيره {أو تخفوه} أي في صدروكم.
ولما كان فعل من يخفي أمراً عن الناس فعل من يظن أنه يخفى على ربه، قال مؤكداً تنبيهاً لفاعل ذلك على هذا اللازم لفعله ترهيباً له: {فإن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {كان} أزلاً وأبداً به، هكذا كان الأصل ولكنه أتى بما يعمه وغيره فقال: {بكل شيء} أي من ذلك وغيره {عليماً *} فهم يعلم ما أسررتم وما أعلنتم وإن بالغتم في كتمه، فيجازي عليه من ثواب أو عقاب.
ولما كان المقصود كما تقدم تغليظ الحجاب على ذوات الخدور، وكان قد ذكر في هذه السورة خصائص وتغيير أحكام للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/402)
ولأزواجه رضي الله عنهن ولغيرهم، كان ربما ظن أن الحجاب تغير أو شيء منه بالنسبة إلى الدخول أو غيره، فاستثنى من عمّه النهي السابق عن الدخول على وجه يعم جميع النساء على نحو ما تقدم في سورة النور فقال: {لا جناح} أي إثم {عليهن في آبائهن} دخولاً وخلوة من غير حجاب، والعم والخال وأبو الزوج بمصير الزوجين كالشيء الواحد بمنزلة الوالد {ولا أبنائهن} أي من البطن أو الرضاعة، وابن الزوج بمنزلة الولد، وترك ذكرهم يفهم أن الورع الحجاب عنهم {ولا إخوانهن} لأن عارهن عارهم {ولا أبناء إخوانهن} فإنهن بمنزلة آبائهم {ولا أبناء أخواتهن} فإنهن بمنزلة أمهاتهم {ولا نسائهن} أي المسلمات القربى منهن والبعدى بمنزلة واحدة، وأما الكافرات فهن بمنزلة الأجانب من الرجال {ولا ما ملكت أيمانهن} لأنهم لما لهن عليهم من السلطان تبعد منهم الريبة هيبة لهن مع مشقة الاحتجاب عنهم.
ولما كانت الريبة ليست مقطوعاً بنفيها، وكانت من جهة النساء أكثر، لأنه لا يكاد رجل يتعرض إلا لمن ظن بها الإجابة لما يرى من(15/403)
مخايلها أو مخايل أشكالها، أقبل عليهن بالخطاب لأنه أوقع في النفس، فقال آمراً عاطفاً على ما تقديره: فأظهرن على من شئتن من هؤلاء: {واتقين الله} أي الذي لا أعظم منه، فلا تقربن شيئاً مما يكرهه، وطوى ما عطف عليه الأمر بالتقوى بعد أن ساق نفي الجناح في أسلوب الغيبة، وأبرز الأمر بها وجعله في أسلوب الخطاب إيذاناً بأن الورع ترك الظهور على أحد غير من يملك التمتع، فإن دعت حاجة كان مع الظهور حجاب كثيف من الاحتشام والأدب التام.
ولما كان الخوف لا يعظم إلا ممن كان حاضراً مطلقاً، قال معللاً مؤكداً تنبيهاً على أن فعل من يتهاون في شيء من أوامره فعل من لا يتقي، ومن لا يتقي كمن يظن أنه سبحانه غير مطلع عليه: {إن الله} أي العظيم الشأن {كان} أزلاً وأبداً {على كل شيء} من أفعالكن وغيرها، ولمزيد الاحتياط والورع في ذلك عبر بقوله: {شهيداً *} أي لا يغيب عنه شيء وإن دق، فهو مطلع عليكن حال الخلوة ممن ذكر، كما هو مطلع على غير ذلك فليحذره كل أحد في حال الخلوة كما يحذره في حال الجلوة، فيا لها من عظمة باهرة، سطوة ظاهرة قاهرة، يحق لكل أحد أن يبكي منها الدماء فضلاً عن الدموع، وأن تمنعه مريح القرار ولذيذ الهجوع، روى البخاري(15/404)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «أستأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس رضي الله عنه بعد ما أنزل الحجاب، فقلت: لا آذن له حتى استأذن فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل عليّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما يمنعك؟ قلت: يا رسول الله! إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقال: ائذني له فإنه عمك تربت يمينك، قال عروة: فلذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقول: حرموا من الرضاعة ما تحرموا من النسب» .
ولما كانت هذه الآيات وما قبلها وما بعدها في إظهار شرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان مناقبه، علل الأوامر فيها والنواهي وغيرها بقوله، مؤكداً لاقتضاء الحال ذلك أما ممن آذاه بالجلوس في غير حينه فواضح، وأما غيره فكان من حقهم أن لا يفارقوا المجلس حتى يعلموا من لا يعرف الأدب، فكان تهاونهم في ذلك فعل من لا يريد إظهار شرفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو تأديب وترهيب: {إن الله}(15/405)
أي وعملكم محيط بأن له مجامع الكبر والعظمة والعز {وملائكته} أي وهم أهل النزاهة والقرب والعصمة.
ولما كان سبحانه قد قدم قوله: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} فأفرد كلاً بخبر، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلى المخاطبين حظاً فإنه رأس المؤمنين، أفرده هنا بهذه الصلاة التي جمع فيها الملائكة الكرام معه سبحانه وجعل الخبر عنهم خبراً واحداً ليكون أتم، فإن قولك: فلان وفلان ينصران فلاناً، أضخم من قولك: فلان ينصره وفلان، فقال تعالى: {يصلون على النبي} أي يظهرون شرفه وما له من الوصلة بالملك الأعظم بما يوحيه الله إليه من عجائب الخلق والأمر من عالم الغيب والشهادة، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه البخاري: «يبركون» .
ولما كانت ثمرة المراد بهذا الإعلام التأسي، علم بآخر الكلام أن المعنى: ويسلمون عليه لأن ذلك من تمام الوصلة التي يدور عليها معنى الصلاة فأنتج ذلك قطعاً تفسير المراد بيصلون: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم {صلوا عليه} بعدم الغفلة عن المبادرة إلى إظهار(15/406)
شرفه في حين من الأحيان تصديقاً لدعواكم، ولأن الكبير إذا فعل شيئاً بادر كل محب له معتقد لعظمته إلى فعله {وسلموا} .
ولما كان المراد بكل من الصلاة والسلام إظهار الشرف، وكان السلام أظهر معنى في ذلك، وكان تحيته عن اللقاء واجباً في التشهد بلا خلاف، ودالاً على الإذعان لجميع أوامره الذي لا يحصل الإيمان إلا به، وهو من المسلم نفسه، وأما الصلاة فأنها يطلبها المصلي من الله، أكدهما به فقال: {تسليماً *} أي فأظهورا شرفه بكل ما تصل قدرتكم إليه من حسن متابعته وكثرة الثناء الحسن عليه والانقياد لأمره في كل ما يأمر به، ومنه الصلاة والسلام عليه بألسنتكم على نحو ما علمكم في التشهد وغيره مما ورد في الأحاديث عن أبي سعيد الخدري وكعب بن عجرة وغيرهما رضي الله عنهم بيان التقاء الصلاة والسلام في إظهار الشرف فإن الصلاة - كما قال في القاموس - الدعاء والرحمة والاستغفار وحسن الثناء من الله عز وجل وعبادة فيها ركوع وسجود - انتهى. والسلام هو التحية والتحية - كما قال البيضاوي في تفسير سورة النساء - في الأصل مصدر حياك الله على الإخبار من الحياة، ثم استعمل للحكم والدعاء بذلك، ثم قيل لكل دعاء، فغلب في السلام، وفي القاموس: التحية: السلام والبقاء والملك، وحياك الله:(15/407)
أبقاك أو ملكلك، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في جامعه: السلام اسم من أسماء الله، والسلام ههنا بمعنى السلامة، كما يقال الرضاع والرضاعة، واللذاذ واللذاذة، قالوا: ومعنى قول القائل لصاحبه: سلام عليك أي قد سلمت مني لا أنالك بيد ولا لسان، وقيل: معناه السلامة من الله عليكم، وقيل: هو الرحمة، وقيل: الأمان، والسلامة هي النجاة من الآفات - انتهى. فقد ظهر أن معنى الكل كما ترى ينظر إلى إظهار الشرف نظر الملزوم إلى اللازم، ولذلك فسر البيضاوي يصلون بقوله: يعنتون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه، وسلموا بقوله: قولوا السلام عليك، أو انقادوا لأوامره، فلما تآخيا في هذا المعنى، وكان هو المراد أكد بلفظ السلام تحصيلاً لتمام المقصود بدلالته على الانقياد فهو مؤكد لصلوا بمعناه ولسلموا بلفظه، استعمالاً للشيء في حقيقته ومجازه كما هو مذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه، ومثل بآية النساء
{لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] وبقوله: {أو لامستم النساء} [النساء: 43، المائدة: 6] وغير ذلك، وقد بينت في سورة الرعد أن مادة «صلوا» بجميع تراكيبها تدور على الوصلة وهي لازمة لكل ما ذكر من تفسيرها، هذا ولك أن تجعله من(15/408)
الاحتباك فتقول: حذف التأكيد أولاً لفعل الصلاة لما دل عليه من التأكيد بمصدر السلام، ويرجح إظهار مصدر السلام بما تقدم ذكره، وحذف متعلق السلام لدلالة متعلق الصلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليصلح أن يكون عليه وأن يكون له، فيصلح أن يجعل التسليم بمعنى الإذعان - والله هو الموفق للصواب.(15/409)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
ولما نهى سبحانه عن أذاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحض على إدخال السرور عليه، توعد على أذاه، فقال على طريق الاستئناف أو التعليل، إشارة إلى أن التهاون بشيء من الصلاة والسلام من الأذى، وأكد ذلك إظهاراً لأنه مما يحق له أن يؤكد، وأن يكون لكل من يتكلم به غاية الرغبة في تقريره: {إن الذين يؤذون} أي يفعلون فعل المؤذي بارتكاب ما يدل على التهاون من كل ما يخالف {الله} أي الذي لا أعظم منه ولا نعمة عندهم إلا من فضله {ورسوله} أي الذي استحق عليهم بما يخبرهم به عن الله مما ينقذهم به من شقاوة الدارين ويوجب لهم سعادتهما ما لا يقدرون على القيام بشكره بأي أذى كان حتى في التقصير بالصلاة عليه باللسان {لعنهم} أي أبعدهم وطردهم وأبغضهم {الله} أي الذي لا عظيم غيره {في الدنيا} بالحمل على ما يوجب السخط(15/409)
{والآخرة} بإدخال دار الإهانة.
ولما كان الحامل على الأذى الاستهانة قال: {وأعد لهم عذاباً مهيناً *} .
ولما كان من أعظم أذاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذى من تابعه، وكان الأتباع لكونهم غير معصومين يتصور أن يؤذوا بالحق، قال مقيداً للكلام بما يفهم: {والذين يؤذون المؤمنين} أي الراسخين في صفة الإيمان {والمؤمنات} كذلك. ولما كان الأذى بالكذب أشد في الفساد وأعظم في الأذى قال: {بغير ما اكتسبوا} أي بغير شيء واقعوه متعمدين له حتى أباح أذاهم {فقد احتملوا} أي كلفهم أنفسهم أن حملوا {بهتاناً} أي كذباً وفجوراً زائداً على الحد موجباً للخزي في الدنيا، ولما كان من الناس من لا يؤثر فيه العار، وكان الأذى قد يكون بغير القول، قال: {وإثماً مبيناً} أي ذنباً ظاهراً جداً موجباً للعذاب في الأخرى.
ولما نهى سبحانه عن أذى المؤمنات، وكانت الحرائر بعيدات عن طمع المفسدين لما لهن في أنفسهن من الصيانة وللرجال بهن من العناية، وكان جماعة من أهل الريبة يتبعون الإماء إذا خرجن يتعرضون لهن للفساد، وكان الحرائر يخرجن لحاجتهن ليلاً، فكان ربما تبع المرأة منهن(15/410)
أحد من أهل الريب يظنها أمه أو يعرف أنه حرة ويعتل بأنه ظنها أمه فيتعرض لها، وربما رجع فقال لأصحابه: فعلت بها - وهو كاذب، وفي القوم من يعرف أنها فلانة، فيحصل بذلك من الأذى ما يقصر عنه الوصف، ولم يكن إذ ذاك كما نقل عن مقاتل فرق بين الحرة والأمة كن يخرجن في درع وخمار وكان اتسام الحرائر بأمارة يعرفن بها ليهبن ويتحشمن يخفف هذا الشر، قال تعالى: {يا أيها النبي} فذكره بالوصف الذي هو منبع المعرفة والحكمة، لأن السياق لحكمة يذب بها عن الحريم لئلا يشتغل فكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يحصل لهن من الأذى عن تلقي شيء من الواردات الربانية {قل لأزواجك} بدأ بهن لما لهن به من الوصلة بالنكاح {وبناتك} ثنى بهن لما لهن من الوصلة ولهن في أنفسهن من الشرف، وأخرهن عن الأزواج لأن أزواجه يكفونه أمرهن {ونساء المؤمنين يدنين} أي يقربن {عليهن} أي على وجوهن وجميع أبدانهن فلا يدعن شيئاً منها مكشوفاً {من جلابيبهن} ولا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا خرجن لحاجتهن بكشف الشعور ونحوها ظناً أن ذلك أخفى لهن وأستر، والجلباب القميص، وثوب واسع دون الملحفة تلبسه المرأة،(15/411)
والملحفة ما ستر اللباس، أو الخمار وهو كل ما غطى الرأس، وقال البغوي: الجلباب: الملاءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقال حمزة الكرماني: قال الخليل: كل ما تستتر به من دثار وشعار وكساء فهو جلباب، والكل يصح إرادته هنا، فإن كان المراد القميص فإدناؤه إسباغه حتى يغطي يديها ورجليها، وإن كان ما يغطي الرأس فادناؤه ستر وجهها وعنقها، وإن كان المراد ما يغطي الثياب فادناؤه تطويله وتوسيعه بحيث يستر جميع بدنها وثيابها، وإن كان المراد ما دون الملحفة فالمراد ستر الوجه واليدين.
ولما أمر بذلك علله بقوله: {ذلك} أي الستر {أدنى} أي أقرب من تركه في {أن يعرفن} أنهن حرائر بما يميزهن عن الإماء {فلا} أي فيتسبب عن معرفتهن أن لا {يؤذين} ممن يتعرض للإماء. فلا يشتغل قلبك عن تلقي ما يرد عليك من الأنباء الإلهية. ولما رقاهم سبحانه بهذا الأمر في حضرات الرضوان، خافوا عاقبة ما كانوا فيه من الغلط بالتشبه بالإماء، فأخبرهم سبحانه أنه في محل الجود والإحسان، فقال: {وكان الله} أي الذي له الكمال المطلق، أزلاً وأبداً {غفوراً} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً {رحيماً *} مكرماً لمن يقبل عليه ويمتثل أوامره ويحتنب مناهيه، قال البغوي: قال أنس رضي الله عنه: مرت(15/412)
بعمر بن الخطاب رضي الله عنه جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال: يا لكاع! أتتشبهين بالحرائر؟ ألقي القناع.
ولما كان المؤذون بما مضى وغيره أهل النفاق ومن داناهم، حذرهم بقوله مؤكداً دفعاً لظنهم الحلم عنهم: {لئن لم ينته} أي عن الأذى {المنافقون} أي الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام {والذين في قلوبهم مرض} أي مقرب من النفاق حامل على المعاصي {والمرجفون في المدينة} وهم الذين يشيعون الأخبار المخيفة لأهل الإسلام التي تضطرب لها القلوب سواء كانوا من القسمين الأولين أم لا {لنغرينك بهم} بأن نحملك على أن تولع بهم بأن نأمرك بإهانتهم ونزيل الموانع من ذلك، ونثبت الأسباب الموصلة إليه حتى تصير لاصقاً بجميع أموالهم لصوق الشيء الذي يلحم بالغراء فلا يقدروا على الانفكاك عن شيء مما تفعله بهم إلا بالبعد من المدينة بالموت أو الرحيل إلى غيرها، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري: لنسلطنك.
ولما كان نزوحهم عن المدينة مستبعداً عنهم جداً، وكان أعظم رتبة في أذاهم من غيره، لأن الإخراج من الأوطان من أعظم الهوان،(15/413)
أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم لا يجاورونك فيها} أي بعد محاولتك لهم {إلا قليلاً *} أي من الزمان بقدر ما يمكن لك المضارب فتعظم عليهم المصائب.
ولما كان معنى الكلام أنهم ينفون لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤمر بنفيهم وإبعادهم وقتلهم، بين حالهم في نفيهم أو نصبه على الشتم فقال: {ملعونين} أي ينفون نفي بُعد من الرحمة وطرد عن أبواب القبول.
ولما كان المطرود قد يترك وبعده، بين أنهم على غير ذلك فقال مستأنفاً: {أينما ثقفوا} أي وجدوا وواجدهم أحذق منهم وأفطن وأكيس وأصنع {أخذوا} أي أخذهم ذلك الواجد لهم {وقتلوا} أي أكثر قتلهم وبولغ فيه؛ ثم أكده بالمصدر بغضاً فيهم وإرهاباً لهم فقال: {تقتيلاً *} ولما سن لهم هذا العذاب الهائل في الدنيا، بين أن تلك عادته في أوليائه وأعدائه، فقال مؤكداً بالإقامة في موضع المصدر، لما لهم من استبعاد ذلك لكونهم لم يعهدوا مثله مع ما لهم من الاشتباك بالأهل والعشائر فقال: {سنة الله} أي طرّق لك المحيط بجميع العظمة هذه الطريقة كطريقته {في الذين خلوا} أي مضت أيامهم وأخبارهم، وانقضت وقائعهم وأعمارهم، من الذين كانوا ينافقون على الأنبياء كقارون وأشياعه، وبين قتلهم بكونهم في بعض(15/414)
الأزمنة فقال: {من قبل} وأعظم التأكيد لما لهم من الاستبعاد الذي جرأهم على النفاق فقال: {ولن تجد} أي أزلاً وأبداً {لسنة الله} أي طريقة الملك الأعظم {تبديلاً *} كما تبدل سنن الملوك، لأنه لا يبدلها، ولا مداني له في العظمة ليقدر على تبديلها.(15/415)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
ولما بين تعالى ما أعد لأعداء دينه في الدنيا، وبين أن طريقته جادة لا تنخرم، لما لها من قوانين الحكمة وأفانين الإتقان والعظمة، وكان من أعظم الطرق الحكمية والمغيبات العلمية الساعة، وكان قد قام ما يحرك إلى السؤال عنها في قوله: {لعنهم الله في الدنيا والآخرة} وكان قد مضى آخر السجدة أنهم سألوا استهزاء وتكذيباً عن تعيين وقتها، وهددهم سبحانه على هذا السؤال، قال تعالى مهدداً أيضاً على ذلك مبيناً ما لأعداء الدين المستهزئين في الآخرة: {يسئلك الناس} أي المشركون استهزاء منهم، وعبر بذلك إشارة إلى أنهم بعد في نوسهم لم يصلوا إلى أدنى أسنان أهل الإيمان، فكان المترددون في آرائهم لا يكادون ينفكون عن النوس وهو الاضطراب {عن الساعة} أي في تعيين وقتها.(15/415)
ولما كانت إدامتهم السؤال عنها فعل من يظن أن غيره سبحانه يعلمها، أكد فقال: {قل} أي في جوابهم: {إنما علمها عند الله} أي الذي أحاط علماً بجميع الخلال، وله جميع أوصاف الجمال والجلال، فهو يعلم ما عند كل أحد ولا يعلم أحد شيئاً مما عنده إلا بإذنه.
ولما كان من فؤائد العلم بوقت الشيء التحرز عنه أو مدافعته، قال مشيراً إلى شدة خفائها بإخفائها عن أكمل خلقه مرجياً تقريبها تهديداً لهم: {وما يدريك} أي أيّ شيء يعلمك بوقتها؟ ثم استأنف قوله: {لعل الساعة} أي التي لا ساعة في الحقيقة غيرها لما لها من العجائب {تكون} أي توجد وتحدث على وجه مهول عجيب {قريباً *} أي في زمن قريب، ويجوز أن يكون التذكير لأجل الوقت لأن السؤال عنها إنما هو سؤال عن تعيين وقتها، قال البخاري في الصحيح: إذا وصفت صفة المؤنث قلت: قريبة، وإذا جعلته ظرفاً وبدلاً ولم ترد الصفة نزعت الهاء من المؤنث، وكذلك لفظها في الواحد والاثنين والجمع للذكر والأنثى. والمراد بالتعبير بلعل أنها بحيث يرجو قربها من يرجوه ويخشاه من يخشاه، فهل أعد من يخشاها شيئاً للمدافعة إذا جاءت أو النجاة منها إذا أقبلت؟ ثم استأنف الإخبار بحال السائلين عنها بقوله مؤكداً في مقابلة إنكار الكفار أن يكون في حالهم شي من نقص: {إن الله}(15/416)
أي الملك الأعظم الذي لا أعظم منه {لعن} أي أبعد إبعاداً عظيماً عن رحمته {الكافرين} أي الساترين لما من شأنه أن يظهر مما دلت عليه العقول السليمة من أمرها سواء كانوا مشاققين أو منافقين {وأعد لهم} أي أوجد وهيأ من الآن لتكذيبهم بها وبغيرها مما أوضح لهم أدلته {سعيراً *} أي ناراً شديدة الاضطرام والتوقد.
ولما كان العذاب ربما استهانه بعض الناس إذا كان ينقطع ولو كان شديداً، قال مبيناً لحالهم: {خالدين فيها} ولما كان الشيء قد يطلق على ما شابهه بوجه مجازاً وعلى سبيل المبالغة، قال مؤكداً لإرادة الحقيقة: {أبداً} ولما كان الشيء قد يراد ثم يمنع منه مانع، قال مبيناً لحالهم في هذه الحال: {لا يجدون ولياً} أي يتولى أمراً مما يهمهم بشفاعة أو غيرها {ولا نصيراً *} ينصرهم.
ولما ذكر حاليهم هذين، أتبعه حالاً لهم قولياً على وجه بين حالاً فعلياً فقال: {يوم} أي مقدار خلودهم فيها على تلك الحال بوم {تقلب} أي تقليباً كثيراً شديداً {وجوهم} كما يقلب اللحم المشوي وكما ترى البضعة في القدر يتراقى بها الغليان من جهة إلى جهة، من حال إلى حال، وذكر ذلك وإن كانت تلك النار غنية عنه لإحاطتها لأن ذكره أهول لما فيه من التصوير، وخص الوجوه لأنها أشرف، والحدث(15/417)
فيها أنكأ.
ولما كان للإظهار مزيد بيان وهول مع إفادته استقلال ما هو فيه من الكلام بنفسه، قال: {في النار} أي المسعرة حال كونهم {يقولون} وهم في محل الجزاء وقد فات المحل القابل للعمل، متمنين لما لا يدركون تلافيه لأنهم لا يجدون ما يقدرون أنه يبرد غلتهم من ولي ولا نصير ولا غيرهما سوى هذا التمني: {يا ليتنا أطعنا} أي في الدنيا {الله} أي الذي علمنا الآن أنه الملك الذي لا أمر لأحد معه.
ولما كان المقام للمبالغة في الإذعان والخضوع، أعادوا العامل فقالوا: {وأطعنا الرسولا *} أي الذي بلغنا حتى نعاذ من هذا العذاب، وزيادة الألف في قراءة من أثبتها إشارة إلى إيذانهم بأنهم يتلذذون بذكره ويعتقدون أن عظمته لا تنحصر {وقالوا} لما لم ينفعهم شيء متبردين من الدعاء على من أضلهم بما لا يبرىء عليلاً ولا يشفي غليلاً: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا، وأسقطوا أداة النداء على عادة أهل الخصوص بالحضرة زياة في الترقق بإظهار أنه لا واسطة لهم(15/418)
إلا ذلهم وانكسارهم الذي عهد في الدنيا أنه الموجب الأعظم لإقبال الله على عبده كما أن المثبت لأداة البعد بقوله: «يا الله» مشير إلى سفول منزلته وبعده بكثرة ذنوبه وغفلته تواضعاً منه لربه لعله يرفع ذلك البعد عنه.
ولما كانوا يظنون أن أتباعهم للكبراء غير ضلال، فبان لهم خلاف ذلك، أكدوا قولهم لذلك وللإعلام بأنهم بذلوا ما كان عندهم من الجهل فصاروا الآن على بصيرة من أمرهم: {إنا أطعنا سادتنا} وقرئ بالجمع بالألف والتاء جمعاً سالماً للجمع المكسر {وكبراءنا فأضلونا} أي فتسبب عن ذلك، أنهم أضلونا بما كان لهم من نفوذ الكلمة {السبيلا *} كما هي عادة المخطىء في الإجالة على غيره بما لا ينفعه، وقراءة من أثبت الألف مشيرة إلى أنه سبيل واسع جداً واضح، وأنه مما يتلذذ ويجب تفخيمه.
ولما كان كأنه قيل: فما تريدون لهم؟ قالوا مبالغين في الرقة وللأستعطاف بإعادة الرب: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {آتهم ضعفين} أي مثلي عذابنا من وهن قوتنا وشدة المؤثر لذلك مضاعفاً أضعافاً(15/419)
كثيرة {من العذاب} ضعفاً بضلالهم، وآخر بإضلالهم، وإذا راجعت ما في آواخر سبحان من معنى الضعف وضح لك هذا، ويؤيده قوله: {والعنهم لعناً كثيراً *} أي اطردهم عن محال الرحمة طرداً متناهياً في العدد، والمعنى على قراءة عاصم بالموحدة: عظيماً شديداً غليظاً.
ولما كان السبب في هذا التهديد كله ما كانوا يتعمدونه من أذى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولهم: تزوج امرأة ابنه، وغير ذلك إلى أن ختمه بما يكون سبباً لتمنيهم طاعته، وكان سماع هذا لطفاً لمن صدق به، أتبعه ما هو كالنتيجة له فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي صدقوا بما تلي عليهم {لا تكونوا} بأذاكم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر زينب رضي الله عنها أو غيره. كوناً هو كالطبع لكم {كالذين آذوا موسى} من قومه بني إسرائيل آذوه بأنواع الأذى كما قال نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قسم قسماً فتكلم فيه بعضهم فقال: لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر وأنسب الأشياء للإرادة هنا أذى قارون له بالزانية التي استأجرها لتقذفه بنفسها فبرأة الله من ذلك، وكان سبب الخسف بقارون ومن معه {فبرأه} أي فتسبب عن أذاهم له أن برأة {الله} أي الذي له صفات الجلال والجمال والقدرة(15/420)
على كل شيء والكمال، وأفهم التعبير بالتفعيل أن البراءة كانت بالتدريج بالخسف وموت الفجاءة وإبراق عصا هارون كما مضى في آخر القصص. ولما نهى عن التشبه بالمؤذين أعم من أن يكون أذاهم قولياً أو فعلياً، أشار إلى أن الأذى المراد هنا قولي مثله في أمر زينب رضي الله عنها فقال: {مما قالوا} دون أن يقول: مما آذوا، وذلك بما أظهره من البرهان على صدقه فخسف بمن آذاه كما مضى في القصص فإياكم ثم إياكم.
ولما كان قصدهم بهذا الأذى إسقاط وجاهته قال: {وكان} أي موسى عليه السلام، كوناً راسخاً {عند الله} أي الذي لا يذل من والى {وجيهاً *} أي معظماً رفيع القدر إذا سأله أعطاه، وإذا كان عند الله بهذه المنزلة كان عند الناس بها، لما يرون من إكرام الله له، والجملة كالتعليل للتبرئة لأنه لا يبرئ الشخص إلا من كان وجيهاً عنده.
ولما نهاهم عن الأذى، أمر بالنفع ليصيروا وجهاء عنده سبحانه مكرراً للنداء استعطافاً وإظهاراً للاهتمام فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك. ولما كان قد خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول السورة بالأمر بالتقوى، عم في آخرها بالأمر بها مردفاً لنهيهم بأمر يتضمن الوعيد ليقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه فقال: {اتقوا الله} أي صدقوا دعواكم بمخافة من له جميع العظمة فاجعلوا لكم وقاية من(15/421)
سخطه بأن تبذلوا له جميع ما أودعكم من الأمانة {وقولوا} في حق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر زينب رضي الله عنها وغيرها وفي حق بناته ونسائه رضي الله عنهن وفي حق المؤمنين ونسائهم وغير ذلك {قولاً سديداً *} أي قاصداً إلى الحق ذا صواب له {يصلح لكم أعمالكم} أي بأن يدخلكم في العمل الصالح وأنتم لا تعلمون ما ينبغي من كيفيته فيبصركم بها شيئاً فشيئاً ويوفقكم للعمل بما جلاه لكم حتى تكونوا على أتم وجه وأعظمه وأرضاه وأقومه ببركة قلولكم الحق على الوجه الحسن الجميل.
ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصراً، قال مشيراً إلى ذلك حتى لا يزال معترفاً بالعجز: {ويغفر لكم ذنوبكم} أي يمحوها عيناً وأثراً فلا يعاقب عليها ولا يعاتب، ولما كان ربما توهم أن هذا خاص بمن آمن، وأن تجديد الإيمان غير نافع، أزال هذا الوهم بقوله: {ومن يطع الله} أي الذي لا أعظم منه {ورسوله} أي الذي عظمته من عظمته بأن يجدد لها الطاعة بالإيمان وثمراته في كل وقت، فيكون مؤدياً للأمانة إلى أهلها {فقد فاز} وأكد ذلك بقوله: {فوزاً عظيماً *} أي ظفراً بجميع مراداته في الدنيا والآخرة.(15/422)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
ولما كان التقدير: ومن لم يطع فقد خسر خسراناً مبيناً، وكان كل شيء عرض على شيء فالمعروض عليه متمكن من المعروض قادر عليه،(15/422)
وكان كل شيء أودعه الله شيئاً فحفظه ورعاه وبذله لأهله وآتاه باذلاً للأمانة غير حامل لها. وكل من أودعه شيئاً فضيعه وضمن به عن أهله ومنعه عن مستحقه خائن فيه حامل له، وكان الله تعالى قد أودع الناس من العقول ما يميزون به بين الصحيح والفاسد، ومن القوى الظاهرة ما يصرفونه فيما أرادوا من المعصية والطاعة، فمنهم من استدل بعقله على كل من المحق والمبطل فبذل له من قواه ما يستحقه، فكان باذلاً للأمانة غير حامل لها، ومنهم من عكس ذلك وهم الأكثر فكان حاملاً لها خائناً فيها أمر به من بذلها، وأودع سبحانه الأكوان ما فيها من المنافع من المياه والمعادن والنباتات فبذلته ولم تمنعه من أحد طلبه مع أن منعها له في حيِّز الإمكان، قال تعالى معللاً للأمر بالتقوى، أو مستأنفاً مؤكداً تنبيهاً على أن هذا الأمر مما يحق أن يؤكد تنبيهاً على دقته، وأنه مما لا يكاد أن يفطن له كثير من الناس فضلاً عن أن يصدقوه لافتاً القول إلى مظهر العظمة دلالة على عظيم جرأة الإنسان: {إنا عرضنا الأمانة} أي أداءها أو حملها أو منعها أهلها، وهي طاعته سبحانه فيما أمر به العاقل، وفيما أراده من غيره، ولم يذكر المياه والرياح لأنهما من جملة ما في الكونين من الأمانات اللاتي يؤديانها على حسب الأمر {على السماوات} بما فيها من المنافع(15/423)
{والأرض} بما فيها من المرافق والمعادن. ولما أريد التصريح بالتعميم قال: {والجبال} ولأن أكثر المنافع فيها {فأبين} على عظم أجرامها وقوة أركانها وسعة أرجائها {أن يحملنها} فيمنعها ويحبسنها عن أهلها، قال الزمخشري: من قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، أي لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها، ألا تراهم يقولون: ركبته الديون ولي عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملاً لها {وأشفقن منها} فبدل كل منهن ما أودعه الله فيه في وقته كما أراده الله، وهو معنى: أتينا طائعين، والحاصل أنه جعلت الإرادة وهي الأمر التكويني في حق الأكوان لكونها لا تعقل كالأمر التكليفي التكويني في حقنا لأنا نعقل تمييزاً بين من يعقل ومن لا يعقل في الحكم، كما ميز بينهما في الفهم إعطاءً لكل منهما ما يستحقه رتبته - وهذا هو معنى ما نقله البغوي عن الزجاج وغيره من أهل المعاني، وما أحسن ما قاله النابغة زياد بن معاوية الذبياني حيث قال:(15/424)
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على خوف تظن بي الظنون
فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون
قال ابن الفرات: إن عمر رضي الله عنه قال لما قيل له إن النابغة قائلهما: هو أشعر شعرائكم.
ولما كان الخائن أكثر من الأمين أضعافاً مضاعفة، وكانت النفس بما أودع فيها من الشهوات والحظوظ محل النقائص، قال تعالى: {وحملها الإنسان} أي أكثر الناس والجن، فإن الإنسان الأنس، والإنس والأناس الناس، وقد تقدم في {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} [الأعراف: 85] في الأعراف أن الناس يكون من الإنس ومن الجن، وأنه جمع إنس وأصله أناس، والإسناد إلى الجنس لا يلزم منه أن يكون كل فرد منه كذلك، فهو هنا باعتبار الأغلب، وفي التعبير به إشارة إلى أنه لا يخون إلا من هو في أسفل الرتب لم يصل إلى حد النوس.
ولما كان الإنسان - لما له بنفسه من الأنس وفي صفاته من العشق، وله من العقل والفهم - يظن أنه لا نقص فيه، علل ذلك بقوله مؤكداً: {إنه} على ضعف قوته وقلة حيلته {كان}(15/425)
أي في جبلته إلا من عصم الله {ظلوماً} يضع الشيء في غير محله كالذي في الظلام لما غطى من شهواته على عقله، ولذلك قال: {جهولاً *} أي فجهله يغلب على حلمه فيوقعه في الظلم، فجعل كل من ظهور ما أودعه الله في الأكوان وكونه في حيز الإمكان كأنه عرض عليها كل من حمله وبذله كما أنه جعل تمكين الإنسان من كل من إبداء ما اؤتمن عليه وإخفائه كذلك.
ولما كان الحكم في الظاهر على جميع الإنسان، وفي الحقيقة - لكون القضية الخالية عن السور في قوة الجزئية - على بعضه، لكنه لما أطلق إطلاق الكلي فهم أن المراد الأكثر، قال مبيناً أن «ال» ليست سوراً معللاً لحمله لها مقدماً التعذيب إشارة إلى أن الخونة أكثر، لافتاً العبارة إلى الاسم الأعظم لتنويع المقال إلى جلال وجمال: {ليعذب الله} أي الملك الأعظم بسبب الخيانة في الأمانة، وقدم من الخونة أجدرهم بذلك فقال: {المنافقين والمنافقات} أي الذين يظهرون بذل الأمانة كذباً وزوراً وهم حاملون لها عريقون في النفاق {والمشركين والمشركات} أي الذين يصارحون بحملها ومنعها عن أهلها وهم عريقون في الشرك فلا يتوبون منه.
ولما كان تقديم التعذيب مفهماً أن الخونة أكثر، أشار إلى أن(15/426)
المخلص نادر جداً بقوله: {ويتوب الله} أي بما له من العظمة {على المؤمنين} أي العريقين في وصف الإيمان وهو الثابون عليه إلى الموت {والمؤمنات} العصاة وغيرهم فيرفقهم لبذلها بعد حملها فالآية من الاحتباك: ذكر العذاب أولاً دليلاً على النعيم ثانياً، والتوبة ثانياً دليلاً على منعها أولاً أي عرض هذا العرض وحكم هذا الحكم ليعذب وينعم بحجة يتعارفها الناس فيما بينهم.
ولما كان هذا مؤذناً بأنه ما من أحد إلا وقد حملها وقتاً ما، فكان مرغباً للقلوب مرهباً للنفوس، قال مؤنساً لها مرغباً: {وكان الله} أي على ما له من الكبر والعظمة والانتقام والملك والسطوة {غفوراً} أي محاء لذنوب التائبين الفعلية والإمكانية عيناً وأثراً {رحيماً} أي مكرماً لهم بأنواع الإكرام بعد الرجوع عن الإجرام، ولما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مطلعها بالتقوى أمر في مقطعها بذلك على وجه عام، وتوعد المشاققين والمنافقين الذين نهى في أولها عن طاعتهم، وختم بصفتي المغفرة والرحمة كما ختم في أولها بهما آية الخطأ والتعمد، فقد تلاقيا وتعانقا وتوافقا وتطابقا - والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وهو أعلم بالصواب.(15/427)
مقصودها أن الدار الآخرة - التي أشار إليها آخر تلك بالعذاب والمغفرة بعد أن أعلم أن الناس يسألون عنها - كائنة لا ريب فيها، لما في ذلك من الحكمة، وله عليه من القدرة، وفي تركها من عدم الحكمة والتصوير بصورة الظلم، ولقصة سبأ التي سميت بها السورة مناسبة كبيرة لهذا المقصد كما ياتي بيانه لذلك سميت بها) بسم الله (الذي من شمول قدرته إقامة الحساب) الرحمن (الذي من عموم رحمته ترتيب الثواب والعقاب) الرحيم (الذي يمن على أهل كرامته بطاعته حتى لا عقاب يلحقهم ولا عتاب.
لما ختمت سورة الأحزاب بأنه سبحانه عرض أداء الأمانة وحملها - وهي جميع ما في الوجود من المنافع - على السماوات والأرض والجبال، فأشفقن منها وحملها الإنسان الذي هو الإنس والجان، وأن نتجية العرض والأداء والحمل العذاب والثواب، فعلم أن الكل ملكه وفي ملكه، خائفون من عظمته مشفقون من قهر سطوته وقاهر جبروته، وأنه المالك التام المُلك والمِلك المطاع المتصرف في كل شيء(15/428)
من غير دفاع، وختم ذلك بصفتي المغفرة والرحمة، دل على ذلك كله بأن ابتدأ هذه(15/429)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
بقوله {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال من الخلق والأمر كله مطلقاً في الأولى الأخرى وغيرهما مما يمكن أن يكون ويحيط به علمه سبحانه {لله} ذي الجلال والجمال.
ولما كان هذا هو المراد، وصفه بما يفيد ذلك، فقال منبهاً على نعمة الإبداء والإبقاء أولاً: {الذي له} أي وحده مِلكاً ومُلكاً وإن نسبتم إلى غيره ملكاً وملكاً ظاهرياً {ما في السموات} أي بأسرها {وما في الأرض} أي كما ترون أنه لا متصرف في شيء من ذلك كمال التصرف غيره، وقد علم في غير موضع وتقرر في كل فطرة أنه ذو العرش العظيم، فأنتج ذلك أن له ما يحويه عرشه من السماوات والأراضي وما فيها، لأن من المعلوم أن العرش محيط بالكل، فالكل فيه، وكل سماء في التي فوقها، وكذا الأراضي، وقد تقرر أن له ما في الكل، فأنتج ذلك أن له الكل بهذا البرهان الصحيح، وهو أبلغ مما لو عبر عن ذلك على وجه التصريح، وإذ قد كان له ذلك كله فلا نعمة على شيء إلا منه، فكل شيء يحمده لما له عليه من نعمه بلسان قال، فإن لم يكن فبلسان حاله.(15/429)
ولما أفاد ذلك أن له الدنيا وما فيها، وقد علم في آخر الأحزاب أن نتيجة الوجود العذاب والمغفرة، ونحن نرى أكثر الظلمة والمنافقين يموتون من غير عذاب، وأكثر المؤمنين يموتون لم يوفوا ما وعدوه من الثواب، ونعلم قطعاً أنه لا يجوز على حكيم أن يترك عبيده سدى يبغي بعضهم على بعض وهو لا يغير عليهم، فأفاد ذلك أن له داراً أخرى يظهر فيها العدل وينشر الكرم والفضل، فلذلك قال عاطفاً على ما يسببه الكلام الأول من نحو: فله الحمد في الأولى، وطواه لأجل خفائه على أكثر الخلق، وأظهر ما في الآخرة لظهوره لأنها دار كشف الغطاء، فقال منبهاً على نعمة الإعادة والإبقاء ثانياً: {وله} أي وحده {الحمد} أي الإحاطة بالكمال {في الآخرة} ظاهراً لكل من يجمعه الحشر، وله كل ما فيها، لا يدعي ذلك أحد في شيء منه لا ظاهراً ولا باطناً، فكل شيء فيها لظهور الحمد إذ ذاك بحمده كما ينبغي لجلاله بما له عليه من نعمة أقلها نعمة الإيجاد حتى أهل النار فإنهم يحمدونه بما يحبب إليهم في الدنيا من إسباغ نعمه ظاهرة وباطنة، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل على وجه ما أبقى فيه للتحبب موضعاً في دعائهم إليه وإقبالهم عليه، وبذل النصيحة على وجوه من اللطف كما هو معروف عند من عاناه، فعلموا أنهم هم المفرطون حيث أبوا في الأولى حيث ينفع(15/430)
الإيمان، واعترفوا في الآخرة حيث فات الأوان {وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش} - الآيات، وأيضاً فهم يحمدونه في الآخرة لعلمهم أنه لا يعذب أحداً منهم فوق ما يستحق وهو قادر على ذلك، ولذلك جعل النار طبقات، ورتبها دركات، فكانوا في الأولى حامدين على غير وجهه، فلم ينفعهم حمدهم لبنائه على غير أساس، وحمدوا في الآخرة على وجهه فما أغنى عنهم لكونها ليست دار العمل لفوات شرطه، وهو الإيمان بالغيب، والآية من الاحتباك: حذف أولاً «له الحمد في الأولى» لما دل عليه ثانياً، وثانياً «وله كل ما في الآخرة» لما دل عليه أولاً، وقد علم بهذا وبما قدمته في النحل والفاتحة أن الحمد تارة يكون بالنظر إلى الحامد، وتارة بالنظر إلى المحمود، فالثاني اتصاف المحمود بالجميل، والأول وصف الحامد له بالجميل، فحمد الله تعالى اتصافه بكل وصف جميل، وحمد الحامد له وصفه بذلك، فكل الأكوان ناطقة بألسن أحوالها بحمده سواء أنطق لسان القال بذلك أم لا، وهو محمود قبل تكوينها، وذلك هو معنى قولي الإحاطة بأوصاف الكمال، وحمد غيره له تارة(15/431)
يطلق بالمدلول اللغوي، وتارة بالمدلول العرفي، وتحقيق ما قال العلماء في ذلك في نفسه وبالنسبة بينه وبين الشكر أن الحمد في اللغة هو الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم، ومورده اللسان وحده فهو مختص بالظاهر ومتعلقه النعمة وغيرها، فمورده خاص ومتعلقه عام، والشكر لغة على العكس من ذلك متعلقه خاص ومورده عام، لأنه فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب إنعامه فمورده الظاهر والباطن لأنه يعم اللسان والجنان والأركان، ومتعلقه النعمة الواصلة إلى الشاكر، ومن موارده القلب وهو أشرف الموارد كلها، لأنه فعله وإن كان خفياً يستقل بكونه شكراً من غير أن ينضم إليه فعل غيره بخلاف الموردين الآخرين، إذ لا يكون فعل شيء منهما حمداً ولا شكراً حقيقة ما لم ينضم إليه فعل القلب.
ولما كان تعاكس الموردين والمتعلقين ظاهر الدلالة على النسبة بين الحمد والشكر اللغويين، علم أن بينهما عموماً وخصوصاً وجهياً، لأن الحمد قد يترتب على الفضائل المجردة، والشكر قد يختص بالفواضل، فينفرد الحمد من هذه الجهة، وينفرد الشكر بالفعل الظاهر والاعتقاد الباطن على الفواضل من غير قول، ويجتمعان في الوصف الجناني واللساني على الفواضل، ففعل القلب اعتقاد اتصاف المشكور بصفات(15/432)
الكمال من الجلال والجمال، وفعل اللسان ذكر ما يدل على ذلك، وفعل الأركان الإتيان بأفعال دالة على ذلك.
ولما كان هذا حقيقة الحمد والشكر لغة لا عرفاً، وكانت الأوهام تسبق إلى أن الحمد ما يشتمل على لفظ ح م د، قال القطب الرازي في شرح المطالع: وليس الحمد عبارة عن خصوص قول القائل «الحمد لله» وإن كان هذا القول فرداً من أفراد الماهية، وكذا ليس ماهية الشكر عبارة عن خصوص قول القائل «الشكر لله» ولا القول المطلق الدال على تعظيم الله وإن كان الثاني جزءاً منه والأول فرد من هذا الجزء، وحقيقة الحمد في العرف ما يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً، وحقيقة الشكر العرفي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه من القوى إلى ما خلق له كصرف النظر إلى مطالعة مصنوعاته للاعتبار إلى عليّ حضراته، وإلقاء السمع إلى تلقي ما ينبىء عن مرضاته، والاجتناب عن منهياته، فذكر الوصف في اللغوي يفهم الكلام سواء كان نفسائياً أو لسانياً فيشمل حمد الله تعالى نفسه وحمدنا له، والجميل متناول للأنعام وغيره من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وعدم تقييد الوصف بكونه في مقابلة نعمه مظهر لأن الحمد قد يكون واقعاً بإزاء النعمة وقد لا يكون، واشتراط التعظيم يفهم تطابق الظاهر والباطن، فإن عرى قول اللسان(15/433)
عن مطابقة الاعتقاد أو خالفه فعل الجوارح لم يكن حمداً حقيقة، بل استهزاء وسخرية، ومطابقة الجنان والأركان شرط في الحمد لا شطر، فلا يتداخل التعريفان، ولا يخرج بالاختيار صفات الله القديمة، فإنها من حيث قدرته على تعليقها بالأشياء تكون داخلة فيكون الحمد على الوصف الاختياري، وكذا إذا مدح الشجاع بشجاعته والقدرة على تعليق الوصف بما يتحقق به كانت الشجاعة خاصة لم يكن هناك محمود عليه، فقد علم من هذا أنه إذا كان هناك اختيار في الآثار كان الحمد عليه وإلا فلا، فلا يسمى وصف اللؤلؤة بصفاء الجوهر وبهجة المنظر حمداً بل مدحاً، ويسمى الوصف بالشجاعة للاختيار في إظهار آثارها حمداً، فاختص الحمد بالفاعل المختار دون المدح، وعلم أيضاً أن القول المخصوص وهو «الحمد لله» ليس حمداً لخصوصه، بل لأند دال على صفة الكمال ومظهر لها، فيشاركه في التسمية كل ما دل على ذلك من الوصف، ولذلك قال بعض المحققين من الصوفية: حقيقة الحمد إظهار الصفات الكمالية، وذلك قد يكون بالقول كما عرف، وقد يكون بالفعل وهو أقوى، لأن الأفعال التي هي آثار الأوصاف تدل عليها دلالة عقلية قطعية، لا يتصور فيها خلف بخلاف الأقوال، فإن دلالتها عليها وضعية، وقد يتخلف عنها مدلولها، وقد حمد الله تعالى نفسه بما يقطع به من(15/434)
القول والفعل، ما الفعل فإنه بسط بساط الوجود على ممكنات لا تحصى ووضع عليه موائد كرمه التي لا تتناهى، فكشف ذلك عن صفات كماله وأظهرها بدلالات قطعية تفصيلية غير متناهية، فإن كل ذرة من ذرات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في عبارات المخلوق مثل هذه الدلالات، ومن ثمة قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ولا بد للتنبه لما قاله الأستاذ أبو الحسن التجيبي المغربي الحرالي في تفسيره بأن حمدلة الفاتحة تتضمن من حيث ظاهرها المدح التام الكامل ممن يرى المدحة سارية في كل ما أبدعه الله وما أحكمه من الأسباب التي احتواها الكون كله، وعلم أن كلتا يدى ربه يمين مباركة، وهو معنى ما يظهره إحاطة العلم بإبداء الله حكمته على وجه لا نكرة فيه منه، ولا ممن هو في أمره خليفته، وليس من معنى ما بين العبد وربه من وجه إسداء النعم وهو أمر يجده القلب علماً، لا أمر يوافق النفس غرضاً، فمن لم يكمل بعلم ذلك تالياً على أثر من علمه، واجداً بركة تلاوته - انتهى.
وأما القول فإنه سبحانه لما علم أن لسان الحال إنما يرمز رمزاً خفياً لا يفهمه إلا الأفراد وإن كان بعد التحقيق جلياً، أنزل عليما كتاباً مفصحاً بالمراد أثنى فيه على نفسه، وبين صفات كماله(15/435)
بالبيان الذي يعجز عنه القوى، ثم جعل الإعجاز دلالة قطعية على كماله، وعلى كل ما له من جلاله وجماله، وقد علم من هذه التعاريف أن بين الحمد والشكر اللغويين عموماً وخصوصاً من وجه، لأن الحمد قد يترتب على الفضائل وهي الصفات الجميلة التي لا يتجاوز منها أثر ومنفعة إلى غير الممدوح كالشجاعة، والشكر يختص بالفواضل وهي النعم وهي الصفات والمزايا المتعدية التي يحصل منها منفعة لغير الممدوح كالإحسان والمواهب والعطايا كما مضى، وبين الحمد والشكر العرفيين عموماً وخصوصاً مطلقاً، فالحمد أعم مطلقاً لعموم النعم الواصلة إلى الحامد وغيره، واختصاص الشكر بما يصل إلى الشاكر، وذلك لأن المنعم المذكور في التعريف مطلق لم يقيد بكونه منعماً على الحامد أو على غيره، فمتناولهما بخلاف الشكر وقد اعتبر فيه منعم مخصوص وهو الله تعالى، ونعم واصلة منه إلى الشاكر، ولعموم هذا الحمد مطلقاً وخصوص هذا الشكر مطلقاً وجه ثان، وهو أن فعل القلب واللسان مثلاً قد يكون حمداً وليس شكراً أصلاً، إذ قد اعتبر فيه شمول الآلات، ووجه ثالث وهو أن الشكر بهذا المعنى لا يتعلق بغيره تعالى بخلاف الحمد،(15/436)
وما يقال من أن النسبة بالعموم المطلق، بين العرفيين إنما تصح بحسب الوجود دون الحمل الذي كلامنا فيه، لأن الحمد بصرف القلب مثلاً فيما خلق لأجله جزء من صرف الجميع غير محمول عليه لامتيازه في الوجود عن سائر أجزائه وأما في الحمل فلا يمتاز المحمول عن الموضوع في الوجود الخارجي، فغلظ من باب اشتباه الشيء بما صدق هو عليه، فإن ما ليس محمولاً على ذلك الصرف هو ما صدق عليه الحمد، أعني صرف القلب وحده لا مفهومه المذكور، وهو فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً، وهذا المفهوم يحمل على صرف الجميع، وما يقال إن صرف الجميع أفعال متعددة، فلا يصدق عليه أنه فعل واحد، وما يقال إن صرف الجميع أفعال متعددة، فلا يصدق عليه أنه فعل واحد، جوابه أنه فعل واحد تعدد متعلقه، فلا ينافي وصفه بالوحدة كما يقال: صدر عن زيد فعل واحد إكرام جميع القوم مثلاً، وتحقيقه أن المركب قد يوصف بالوحدة الحقيقية كبدن واحد، والاعتبارية كعسكر واحد، وصدق الجميع من قبيل الثاني كما لا يرتاب فيه ذو مسكة، والنسبة بين الحمدين اللغوي والعرفي عموم وخصوص من وجه، لأن الحمد العرفي هو الشكر اللغوي، وقد مضى بيان ذلك فيهما.
وبين الشكر العرفي(15/437)
واللغوي عموم مطلق لأن الشكر اللغوي يعم النعمة إلى الغير دون العرفي فهو أعم، والعرفي أخص مطلقاً، وكذا بين الشكر العرفي والحمد اللغوي لأن الأول مخصوص بالنعمة على الشاكر سواء كان باللسان أو لا، والثاني وإن خص باللسان فهو مشترط فيه مطابقة الأركان والجنان، ليكون على وجهة التبجيل، وقد لا يكون في مقابلة نعمة فهو أعم مطلقاً فكل شكر عرفي حمد لغوي، ولا ينعكس وهذا بحسب الوجود، وكذا بين الحمد العرفي والشكر اللغوي عموم مطلق أيضاً إذا قيدت النعمة في اللغوي بوصولها إلى الشاكر كما مر، وأما إذا لم تقيد فهما متحدان، وأما الشكر المطلق فهو على قياس ما مضى تعظيم المنعم بصرف نعمته إلى ما يرضيه، ولا يخفى أنه إذا كان نفس الحمد والشكر من النعم لم يمكن أحداً الإتيان بهما على التمام والكمال لاستلزامه تسلسل الأفعال إلى ما لا يتناهى، وهذا التحقيق منقول عن إمام الحرمين والإمام الرازي - هذا حاصل ما في شرح المطالع للقطب الرازي وحاشيته للشريف الجرجاني بزيادات، وقد علم صحة ما أسلفته في شرح الحمد بالنظر إلى الحامد وبالنظر إلى المحمود، وإذا جمعت أطراف ما تقدم في سورة النحل(15/438)
والفاتحة وغيرهما من أن المادة تدور على الإحاطة علم أنه بالنظر إلى الحامد وصفة المحمود بالإحاطة بأوصاف الكمال، وبالنظر إلى المحمود اتصافه بالإحاطة بأوصاف الكمال، فإن الوصف يشترط أن يكون مطابقاً وإلا كان مدحاً لا حمداً، كما حققه العلامة قاضي دمشق شمس الدين أحمد بن خليل الخويي في كتابه أقاليم التعاليم.
ولما تقرر أن الحكمة لا تتم إلا بإيجاد الآخرة قال: {وهو الحكيم} أي الذي بلغت حكمته النهاية التي لا مزيد عليها، والحكمة هي العلم بالأمور على وجه الصواب متصلاً بالعمل على وفقه.
ولما كانت الحكمة لا تتهيأ إلا بدقيق العلم وصافيه ولبابه وهو الخبرة قال: {الخبير} أي البليغ الخبر وهو العلم بظواهر الأمور وبواطنها حالاً ومالاً، فلا يجوز في عقل انه - وهو المتصف بهاتين الصفتين كما هو مشاهد في إتقان أفعاله وإحكام كل شيء سمعناه من أقواله - يخلق الخلق سدى من غير إعادة لدار الجزاء، وقد مضى في الفاتحة وغيرها عن العلامة سعد الدين التفتازاني أنه قال: التصدير بالحمد إشارة إلى إمهات النعم الأربع، وهي الإيجاد الأول، والإيجاد الثاني، والإبقاء الأول، والإبقاء الثاني، وأن الفاتحة لكونها أم الكتاب أشير فيها(15/439)
إلى الكل، ثم أشير في كل سورة صدرت بعدها بالحمد إلى نعمة منها على الترتيب، وأنه أشير في الأنعام إلى الإيجاد الأول وهو ظاهر وفي الكهف إلى الإبقاء الأول، لأن انتظام البقاء الأول والانتفاع بالإيجاد لا يكون إلا بالكتاب والرسول، وأنه أشير في هذه السورة إلى الإيجاد الثاني لانسياق الكلام إلى إثبات الحشر والرد على منكري الساعة حيث قال سبحانه {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي} انتهى، وقد علم مما قررته أنها من أولها مشيرة إلى ذلك على طريق البرهان.
وقال أبو جعفر بن الزبير: افتتحت بالحمد لله لما أعقب بها ما انطوت عليه سورة الأحزاب من عظيم الآلاء وجليل النعماء حس ما أبين - آنفاً - يعني في آخر كلامه على سورة الأحزاب - فكان مظنة الحمد على ما منح عباده المؤمنين وأعطاهم فقال تعالى {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} ملكاً واختراعاً، وقد أشار هذا إلى إرغام من توقف منقطعاً عن فهم تصرفه سبحانه في عباده بما تقدم وتفريقهم بحسب ما شاء فكأن قد قيل: إذا كانوا له ملكاً وعبيداً، فلا يتوقف في فعله بهم ما فعل من تيسير للحسنى(15/440)
أو لغير ذلك مما شاءه بهم على فهم علته واستطلاع سببه، بل يفعل بهم ما شاء وأراد من غير حجر ولا منع {وهو الحكيم الخبير} وجه الحكمة في ذلك التي خفيت عنكم، وأشار قوله {وله الحمد في الآخرة} إلى أنه سيطلع عباده المؤمنين - من موجبات حمده ما يمنحهم أو يضاعف لهم من الجزاء أو عظيم الثواب في الآخرة - على ما لم تبلغه عقولهم في الدنيا ولا وفت به أفكارهم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] ثم أتبع سبحانه ما تقدم من حمده على ما هو أهله ببسط شواهد حكمته وعلمه فقال تعالى {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} إلى قوله {وهو الرحيم} فبرحمته وغفرانه أنال عباده المؤمنين ما خصهم به وأعطاهم، فله الحمد الذي هو أهله، ثم أتبع هذا بذكر إمهاله من كذب وكفر مع عظيم اجترائهم لتتبين سعة رحمته ومغفرته فقال تعالى {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة} إلى قوله: {إن في ذلك لآية لكل عبد منيب} أي إن في إمهاله سبحانه لهؤلاء بعد عتوهم واستهزائهم في قولهم {لا تأتينا الساعة} وقوله: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق أنكم لفي خلق جديد} وإغضائهم عن الاعتبار بما بين أيديهم من السماء والأرض وأمنهم أخذهم من أي الجهات وفي إمهالهم وإدرار أرزاقهم مع عظيم مرتكبهم آيات لمن أناب واعتبر، ثم بسط لعباده المؤمنين من ذكر الآية ونعمه(15/441)
وتصريفه في مخلوقاته ما يوضح استيلاء قهره وملكه، ويشير إلى عظيم ملكه كما أعلم في قوله سبحانه {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} فقال سبحانه {ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنّا له الحديد} ثم قال {ولسليمان الريح} إلى قوله: {اعملوا آل داود شكراً} ثم أتبع ذلك بذكر حال من لم يشكر فذكر قصة سبأ إلى آخرها، ثم وبخ تعالى من عبد غيره معه بعد وضوح الأمر وبيانه فقال {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله} إلى وصفه حالهم الأخروي ومراجعة متكبريهم ضعفاءهم وضعفائهم متكبريهم {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} ثم التحمت الآي جارية على ما تقدم من لدن افتتاح السورة إلى ختمها - انتهى.
ولما ختم بصفة الخبر، أتبع ذلك ما يدل عليه فقال: {يعلم ما يلج في الأرض} أي هذا الجنس من المياه والأموال، والأموات، وقدم هذا لأن الشيء يغيب في التراب أولاً ثم يسقى فيخرج {وما يخرج منها} من المياه والمعادن والنبات {وما ينزل من السماء} أي هذا الجنس من حرارة وبرودة وماء وملك وغير ذلك {وما يعرج} ولما كانت السماوات أجساماً كثيفة متراقية، لم يعبر(15/442)
بحرف الغاية كما في قوله تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب} [فاطر: 10] بل قال: {فيها} أي من الأعمال والملائكة وكل ما يتصاعد من الأرض في جهة العلو وأنتم كما ترونه يميز كل شيء عن مشابهه، فيميز ما له أهلية التولد من الماء والتراب في الأرض من النباتات عن بقية الماء والتراب على اختلاف أنواعه مميزاً بعضه من بعض، ومن المعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص إلى غير ذلك، مع أن الكل ما يخالط الزاب، فكيف يستبعد عليه أن يحيي الموتى لعسر تمييز تراب كل ميت بعد التمزق والاختلاط من تراب آخر.
ولما كان الحاصل من هذا المتقدم أنه رب كل شيء، وكان الرب لا تنتظم ربوبيته إلا بالرفق والإصلاح، وكان ربما ظن جاهل انه لا يعلم أعمال الخلائق لأنه لو علمها ما أقر عليها، اعلم أن رحمته سبقت غضبه، ولذلك قدم صفة الرحمة، ولأنه في سياق الحمد، فناسب تقديم الوصف الناظر إلى التكميل على الوصف النافي للنقص فقال: {وهو} أي والحال أنه وحده مع كثرة نعمه المقيمة للأبدان {الرحيم} أي المنعم بما ترضاه الإلهية من إنزال الكتب وإرسال الرسل لإقامة الأديان {الغفور *} أي المحاء للذنوب أما من اتبع ما أنزل من ذلك كما بلغته الرسل فبالمحو عيناً وأثراً حتى لا يعاقبهم على ما سلف منها(15/443)
ولا يعاتبهم، وأما غيره فالتكفير بأنواع المحن أو التأخير إلى يوم الحشر.(15/444)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
ولما ثبتت حكمته بما نشاهد من محكم الأفعال وصائب الأقوال، فثبت بذلك علمه لأن الحكمة لا تكون إلا بالعلم، وكان الرب الرحيم العليم لا تكمل ربوبيته إلا بالملك الظاهر والأيالة القاهرة التي لا شوب فيها، ثبت البعث الذي هو محط الحكمة وموضع ظهور العدل، فكانت نتيجة ذلك: فالله يأتي بالساعة لما ثبت من برهانها كما ترون، فعطف عليه قوله: {وقال الذين كفروا} أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم من براهينها الظاهرة: {لا تأتينا الساعة} والإخبار عنها باطل.
ولما تقدم من الأدلة ما لا يرتاب معه، أمره أن يجيبهم برد كلامهم مؤكداً بالقسم على أنه لم يخله من دليل ظاهر فقال: {قل بلى وربي} أي المحسن إليّ بما عمني به معكم من النعم، وبما خصني به من تنبئتي وإرسالي إليكم - إلى غير ذلك من أمور لا يحصيها إلا هو سبحانه، فهو أكرم من أن يدعكم من غير أن يحشركم لينتقم لي منكم، ويقر عيني بما يجازيكم به من أذاكم لي ولمن اتبعني، فإنه لا يكون سيد قط يرضى أن يبغي بعض عصاة عبيده على بعض، ويدعهم سدى من غير تأديب، فكيف إذا كان المبغي عليه مطيعاً له، والباغي عاصياً عليه، هذا ما لا يرضاه عاقل فكيف بحاكم فكيف بأحكام الحاكمين؟ {لتأتينكم} أي(15/444)
الساعة لتظهر فيها ظهوراً تاماً الحكمة بالعدل والفضل، وغير ذلك من عجائب الحكم والفصل.
ولما كان الحاكم لا يهمل رعيته إلا إذا غابوا من علمه، ولا يهمل شيئاً من أحوالهم إلا إذا غاب عنه ذلك الشيء، وكانت الساعة من عالم الغيب، وكان ما تقدم من إثبات العلم ربما خصه متعنت بعالم الشهادة، وصف ذاته الأقدس سبحانه بما بين أنه لا فرق عنده بين الغيب الذي الساعة منه والشهادة، بل الكل عنده شهادة، وللعناية بهذا المعنى يقدم الغيب إذا جمعا في الذكر، فقال مبيناً عظمة المقسم به ليفيد حقية المقسم عليه لأن القسم بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أعلى كعباً وأبين فضلاً وأرفع منزلة كان في الشهادة أقوى وآكد، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، واصفاً له على قراءة الجماعة ومستأنفاً، - وهو أبلغ - على قراءة المدنيين وابن عامر ورويس عن يعقوب بالرفع: {عالم الغيب} وقراءة حمزة والكسائي «علام» بصيغة المبالغة كما هو أليق بالموضع.
ولما كنا القصور علمنا متقيدين بما في هذا الكون مع أن الكلام فيه،(15/445)
قال مصرحاً بالمقصود على أتم وجه: {لا يعزب} - أي يغيب ويبعد عزوباً قوياً - على قراءة الجماعة بالضم، ولا ضعيفاً - على قراءة الكسائي بالكسر {عنه مثقال ذرة} أي من ذات ولا معنى، والذرة نملة حمراء صغيرة جداً صارت مثلاً في أقل القليل فهي كناية عنه.
ولما كان في هذه السورة السباق للحمد، وهو الكمال وجهة العلو به أوفق ولأمر الساعة ومبدأه منها بدأ بها.
ولما كان قد بين علمه بأمور السماء، وكان المراد بها الجنس، جمع هنا تصريحاً بذلك المراد فقال: {في السماوات} وأكد النفي بتكرير «لا» فقال: {ولا في الأرض} ولما كنا مقيدين بالكتاب، ابتدأ الخبر بما يبهر العقل من أن كل شيء مسطور من قبل كونه ثم يكون على وفق ما سطر، فإذا كشف للملائكة عن ذلك ازدادوا إيماناً وتسبيحاً وتحميداً وتقديساً، فقال - عند حميع القراء عاطفاً على الجملة من أصلها لا على المثقال لأن الاستثناء يمنعه: {ولا أصغر} أي ولا يكون شيء أصغر {من ذلك} أي المثقال {ولا أكبر} أي من المثقال فما فوقه {إلا في كتاب} وإخبارنا به لما جرت به عوائدنا من تقييد العلم بالكتاب، وأما هو سبحانه فغني عن ذلك.
ولما كان الإنسان قد يكتب الشيء ثم يغيب عنه وينسى مكانه(15/446)
فيعجز في استخراجه أخبر أن كتابه على خلاف ذلك، بل هو حيث لا يكشف من يريد اطلاعه عليه شيئاً إلا وجده في الحال فقال: {مبين *} ويجوز - ولعله أحسن - إذا تأملت هذه مع آية يونس أن يعطف على مثقال، ويكون الاستثناء منقطعاً، ولكن على بابها في كونها بين متنافيين، فإن المعنى أنه لا يغيب ولا يبعد عنه شيء من ذلك لكنه محفوظ أتم حفظ في كتاب لا يراد منه كشف عن شي إلا كان له في غاية الإبانة، ولعله عبر بأداة المتصل إشارة إلى أنه إن كان هناك عزوب فهو على هذه الصفة التي هي في غاية البعد عن العزوب، ثم بين علة ذلك كله دليلاً على صدق القسم بما ختمت به الأحزاب من حكمة عرض الأمانة مما لا يمتري ذو عقل ولو قل في صحته، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يفعل غيره فقال: {ليجزي الذين آمنوا} أي فإنه ما خلق الأكوان إلا لأجل الإنسان، فلا يجوز ان يدعه بغير جزاء: {وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} .
ولما التفت السامع إلى معرفة جزائهم، أوردة تعظيماً لشأنه، جواباً للسؤال مشيراً إليه بما دل على علو رتبته بعلو رتبة أهله: {أولئك}(15/447)
أي العالو الرتبة {لهم مغفرة} أي لزلاتهم أو هفواتهم لأن الإنسان المبني على النقصان لا يقدر العظيم السلطان حق قدره {ورزق كريم *} أي جليل عزيز دائم لذيذ نافع شهي، لا كدر فيه بوجه.
ولما كانت أدلة الساعة قد اتضحت حتى لم يبق مانع من التصديق بها إلا العناد، وكان السياق لتهديد من جحدها، قال معبراً بالماضي: {والذين سعوا} أي فعلوا فعل الساعي {في آياتنا} أي على ما لها من العظمة {معجزين} أي مبالغين في قصد تعجيزها بتخلفها عما نزيده من إنفاذها، وهكذا معنى قراءة المفاعلة، ولما كان ذنبهم عظيماً، أشار بابتداء آخر فقال: {أولئك} أي البعداء البغضاء الحقيرون عن أن يبلغوا مراداً بمعاجزتهم {لهم عذاب} وأيّ عذاب {من رجز} أي شيء كله اضطراب، فهو موجب لعظيم النكد والانزعاج، فهو أسوأ العذاب {أليم *} أي بليغ الألم - جره الجماعة نعتاً لرجز، ورفعه ابن كثير وحفص عن عاصم نعتاً لعذاب.
ولما ذم الكفرة، وعجب منهم في إنكارهم الساعة في قوله: {وقال الذين(15/448)
كفروا لا تأتينا الساعة} وأقام الدليل على إتيانها، وبين أنه لا يجوز في الحكمة غيره ليحصل العدل والفضل في جزاء أهل الشر وأولي الفضل، عطف على ذلك مدح المؤمنين فقال واصفاً لهم بالعلم، إعلاماً بأن الذي أورث الكفرة التكذيب الجهل: {ويرى الذين} معبراً بالرؤية والمضارع إشارة إلى أنهم في عملهم غير شاكين، بل هم كالشاهدين لكل ما أخبرهم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالمضارع إلى تجدد عملهم مترقين في رتبه على الدوام مقابلة لجلافة أولئك في ثباتهم على الباطل الذي أشار إليه الماضي، وأشار إلى أن علمهم لدني بقوله: {أوتوا العلم} أي قذفه الله في قلوبهم فصاروا مشاهدين لمضامينه لو كشف الغطاء ما ازدادوا يقيناً سواء كانوا ممن أسلم من العرب أو من أهل الكتاب {الذي أنزل إليك} أي كله من أمر الساعة وغيره {من ربك} أي المحسن إليك بإنزاله، وأتي بضمير الفصل تفخيماً للأمر وتنصيصاً على أن ما بعده مفعول «أوتوا» الثاني فقال: {هو الحق} أي لا غيره من الكلام {ويهدي} أي يجدد على مدى الزمان هداية من اتبعه {إلى صراط} أي طريق واضح واسع.
ولما كانت هذه السورة مكية، وكان الكفار فيها مستظهرين(15/449)
والمؤمنون قليلين خائفين، والعرب يذمونهم بمخالفة قومهم ودين آبائهم ونحو ذلك من الخرافات التي حاصلها الاستدلال على الحق المزعوم بالرجال قال: {العزيز الحميد *} أي الذي من سلك طريقه - وهو الإسلام - عز وحمده ربه فحمده كل شيء وأن تمالأ عليه الخلق أجمعون، فإنه سبحانه لا بد أن يتجلى للفصل بين العباد، بالإشقاء والإسعاد على قدر الاستعداد.(15/450)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
ولما عجب سبحانه من الذين كفروا في قولهم {لا تأتينا الساعة} المتضمن لتكذيبهم، وختم بتصديق الذين أوتوا العلم مشيراً إلى أن سبب تكذيب الكفرة الجهل الذي سببه الكبر، عجب منهم تعجيباً آخر أشد من الأول لتصريحهم بالتكذيب على وجه عجيب فقال: {وقال الذين كفروا} أي الذين تحققوا أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجمعوا خلافه وعتوا على العناد، لمن يرد عليهم ممن لا يعرف حقيقة حاله معجبين ومنفرين: {هل ندلكم} أي أيها المعتقدون أن لا حشر. ولما أخرجوا الكلام مخرج الغرائب المضحكة لم يذكروا اسمه مع أنه أشهر الأسماء، بل قالوا: {على رجل} أي ليس هو صبياً ولا امرأة حتى تعذوره {ينبئكم} أي يخبركم(15/450)
متى شئتم أخباراً لا أعظم منه بما حواه من العجب الخارج عما نعقله مجدداً لذلك متى شاء المستخبر له.
ولما كان القصد ذكر ما يدل عندهم على استبعاد البعث، قدموا المعمول فقالوا: {إذا} أي إنكم إذا {مزقتم} أي قطعتم وفرقتم بعد موتكم من كل من شأنه أن يمزق من التراب والرياح وطول الزمان ونحو ذلك تمزيقاً عظيماً، بحيث صرتم تراباً، وذلك معنى {كل ممزق} أي كل تمزيق، فلم يبق شيء من أجسادكم مع شيء، بل صار الكل بحيث لا يميز بين ترابه وتراب الأرض، وذهبت به السيول كل مذهب، فصار مع اختلاطه بتراب الأرض والتباسه متباعداً بعضه عن بعض، وكسر معمول «ينبئكم» لأجل اللام فقال: {إنكم لفي} أي لتقومون كما كنتم قبل الموت قياماً لا شك فيه، والإخبار يه مستحق لغاية التأكيد {خلق جديد *} وهذا عامل إذا الظرفية.
ولما نفروا عنه بهذا الإخبار المحير في الحامل له عليه، خيلوا بتقسيم القول فيه في استفهام مردد بين الاستعجام تعجيباً والإنكار، فقالوا جواباً لمن سأل عن سبب إخباره بإسقاط همزة الوصل، لعدم الإلباس(15/451)
هنا بخلاف ما يصحب لام التعريف فإنها لفتحها تلبس بالخبر: {افترى} أي تعمد {على الله} أي الذي لا أعظم منه {كذباً} بالإخبار بخلاف الواقع وهو عاقل يصح منه القصد. ولما كان يلزم من التعمد العقل، قالوا: {أم به جنة} أي جنون، فهو يقول الكذب، وهو ما لا حقيقة له من غير تعمد، لأنه ليس من أهل القصد، فالآية من الاحتباك: ذكر الافتراء أولاً يدل على ضده ثانياً، وذكر الجنون ثانياً يدل على ذكر ضده أولاً.
ولما كان الجواب: ليس به شيء من ذلك، عطف عليه مخبراً عن بعض الذين كفروا بما يوجب ردع البعض الآخر قوله: {بل الذين لا يؤمنون} أي لا يجددون الإيمان لأنهم طبعوا على الكفر {بالآخرة} أي الفطرة الآخرة التي أدل شيء عليها الفطرة الأولى.
ولما كان هذا القول مسبباً عن ضلالهم، وكان ضلالهم سبباً لعذابهم، قدم العذاب لأنه المحط وليرتدع من أراد الله إيمانه فقال: {في العذاب} أي في الدنيا بمحاولة إبطال ما أراد الله إتمامه، وفي الآخرة لما فيه من المعصية، وأتبعه سببه فقال: {والضلال} أي عما يلزم من وجوب وحدانيته وشمول قدرته بسبب أن له ما في السماوات وما في الأرض.
ولما كان قولهم بعيداً من الحق لوصفهم أهدى الناس بالضلال،(15/452)
وكان الضلال يبعد ببعد صاحبه عن الجادة وتوغله في المهامه الوعرة الشاسعة، قال واصفاً له بوصف الضال: {البعيد *} فبين الوصف أنه لا يمكن الانفكاك عنه، وعلم أن من الذين كفروا قسماً لم يطبعوا على الكفر، فضلوا ضلالاً قريباً يمكن انفكاكهم عنه، وهم الذين آمنوا منهم بعد، وهو من بديع القول حيث عبر بها الظاهر الذي أفهم هذا التقسيم موضع الإضمار الذي كان حقه: بل هم في كذا.
ولما كانوا قد أنكروا الساعة لقطعهم بأن من مزق كل ممزق لا يمكن إعادته، فقطعوا جهلاً بأن الله تعالى لا يقول ذلك، فنسبوا الصادق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإخبار بذلك إلى أحد أمرين: تعمد الكذب أو الجنون. شرع سبحانه يدل على صدقه في جميع ما أخبر به، فبدأ بإثبات قدرته على ذلك مستند إلى ضلالهم بسبب غفلتهم عن تدبر الآيات، فكان المعنى: ضلوا فلم يروا، فدل عليه منكراً عليهم مهدداً لهم مقرراً لذوي العقول من السامعين بقوله: {أفلم يروا} ونبه على أنهم في محل بعد عن الإبصار النافع بحرف النهاية فقال: {إلى ما بين أيديهم} أي أمامهم {وما خلفهم} وذلك إشارة إلى جميع الجوانب من كل من الخافقين(15/453)
وأنهما قد أحاطا بهم كغيرهم. ولما لم تدع حاجة إلى الجمع أفرد فقال: {من السماء والأرض} أي الذين جعلنا مطلع السورة أن لنا كل ما فيهما.
ولما كان الإنكار لائقاً بمقام العظمة، فكان المعنى: إنا نفعل بهما وفيهما ما نشاء، عبر بقوله: {إن نشأ} بما لنا من العظمة - على قراءة الجمهور {نخسف} أي تغور {بهم} وأدغم الكسائي إلى أنه سبحانه قد يفعل ذلك في أسرع من اللمح بحيث يدرك لأكثر الناس وقد يفعله على وجه الوضوح وهو أكثر - بما أشارت إليه قراءة الإظهار للجمهور. ولما كان الخسف قد يكون لسطح أو سفينة ونحوهما، خص الأمر بقوله: {الأرض} أي كما فعلنا بقارون وذويه لأنه ليس نفوذ بعض أفعالنا فيها بأولى من غيره {أو تسقط عليهم كسفاً} بفتح السين على قراءة حفص وبإسكانه على قراءة غيره أي قاطعاً {من السماء} كذلك ليكون شديد الوقع لبعد الموقع المدى عن السحاب ونحوه لأن من المعلوم أنا نحن خلقناهما، ومن أوجد شيئاً قدر على هذه وهذا ما أراد منه، ومن جعل السياق(15/454)
للغيب - وهو حمزة والكسائي - رد الضمير على الاسم الأعظم الذي جعله مطلع السورة.
ولما كان هذا أمراً ظاهراً، أنتج قوله مؤكداً لما لهم من إنكار البعث: {إن في ذلك} أي في قدرتنا على ما نشاء من كل منهما والتأمل في فنون تصاريفهما {لآية} أي علامة بينة على أنا نعامل من شئنا فيهما بالعدل بأي عذاب أردنا، ومن شئنا بالفضل بأي ثواب أردنا، وذلك دال على أنا قادرون على كل ما نشاء من الإماتة والإحياء وغيرهما، فقد خسفنا بقارون وآله وبقوم لوط وأشياعهم، وأسقطنا من السماء على أصحاب الأيكة يوم الظلة قطعاً من النار، وعلى قوم لوط حجارة، فأهلكناهم بذلك أجمعين. ولما كانت الآيات لا تنفع من طبع على العناد قال تعالى: {لكل عبد} أي متحقق أنه مربوب ضعيف مسخر لما يراد منه {منيب *} أي فيه قابلية الرجوع عما أبان له الدليل عن أنه زل فيه.
ولما أشار سبحانه بهذا الكلام الذي دل فيه على نفوذ الأمر إلى أنه تارة يعدل وتارة يفضل، وكان الفضل أكثر استجلاباً لذوي الهمم العلية والأنفس الأبية، بدأ به في عبد من رؤوس المنيبين على وجه دال(15/455)
على البعث بكمال التصرف في الخافقين وما فيهما بأمور شوهدت لبعض عبيدة تارة بالعيان وتارة بالآذان، أما عند أهل الكتاب فواضح، وأما عند العرب فبتمكينهم من سؤالهم فقد كانوا يسألونهم عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال أبو حيان: إن بعض ذلك طفحت به أخبارهم ونطقت به أشعارهم، فقال تعالى مقسماً تنبيهاً على أن إنكارهم للبعث إنكار لما يخبر به من المعجزات، عاطفاً على ما تقديره: فلقد آتينا هذا الرجل الذي نسبتموه إلى الكذب أو الجنون منا فضلاً بهذه الأخبار المدلول عليها بمعجز القرآن فيا بعد ما بينه ما نسبتموه إليه: {ولقد} أي وعزتنا وما ثبت لنا من الإحاطة بصفات الكمال بالاتصاف بالحمد لقد {آتينا} أي أعطينا إعطاء عظيماً دالاً على نهاية المكنة بما لنا من العظمة {داود} .
ولما كان المؤتى قد تكون واسطة لمن منه الإيتاء، بين أن الأمر ليس إلا منه فقال: {منا فضلاً} ودل على أن التنوين للتعظيم وأنه لا يتوقف تكوين شيء على غير إرادته بقوله، منزلاً الجبال منزلة العقلاء الذين يبادرون إلى امتثال أوامره، تنبيهاً على كمال قدرته وبديع تصرفه في الأشياء كلها جواباً لمن كأنه قال: ما ذلك الفضل؟ مبدلاً(15/456)
من {أتينا} {يا} أي قلنا لأشد الأرض: يا {جبال أوبي} أي رجعي التسبيح وقراءة الزبور وغيرهما من ذكر الله {معه} أي كلما سبح، فهذه آية أرضية مما هو أشد الأرض بما هو وظيفة العقلاء، ولذلك عبر فيه بالأمر دلالة على عظيم القدرة.
ولما كانت الجبال أغلظ الأرض وأثقلها، وكان المعنى: دعونا الجبال للتأويب معه، فبادرت الإجابة لدعائنا، لما تقدم من أنها من جملة من أبى أن يحمل الأمانة، عطف على ذلك أخف الحيوان وألطفه، ليكون آية سماوية، على أنه يفعل في السماء ما يشاء، فإنه لو أمات الطائر في جو السماء لسقط، ولا فرق في ذلك بين عال وعال، فقال: {والطير} أي دعوناها أيضاً، فكانت ترجع معه الذكر فدل قرانها بالطير على ذكرها حقيقة كذكر الطير دفعاً لتوهم من يظنه رجع الصدا، وقراءة يعقوب بالرفع عطف على لفظ «جبال» وقراءة غيره عطف على موضعه، أو تكون الواو بمعنى مع أو بتقدير فعل من معنى ما مضى كسخرنا، قال وهب بن منبه: كان يقول للجبال: سبحي، وللطير: أجيبي، ثم يأخذ وهو في تلاوة الزبور بين ذلك بصوته الحسن، فلا يرى الناس منظراً أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئاً أطيب منه، وذلك كما كان الحصى يسبح في كف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكف أبي بكر(15/457)
وعمر رضي الله عنهما، وكما كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل، وكما كان الحجر يسلم عليه، وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه، وحنين الجذع مشهور، وكما كان الضب يشهد له والجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه ونحو ذلك وكما جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها، فأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برده رحمة لها.
ولما ذكر طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله منها. ذكر ما أنشأه سبحانه من ذلك الأكثف، وهو أصلب الأشياء فقال: {وألنا له الحديد} أي الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع يعمل منه ما يريد بلا نار ولا مطرقة، ثم ذكر علة الإلانة بصيغة الأمر إشارة إلى أن عمله كان لله فقال: {أن أعمل سابغات} أي دروعاً طوالاً واسعة.
ولما كان السرد الخرز في الأديم وإدخال الخيط في موضع الخرز شبه إدخال الحلقة في الأخرى بلحمة لا طرف لها بمواضع الخرز فقال: {وقدر في السرد} أي النسج بأن يكون كل حلقة مساوية لأختها مع كونها ضيقة لئلا ينفذ منها سهم ولتكن في تحتها بحيث(15/458)
لا يقلعها سيف ولا تثقل على الدارع فتمنعه خفة التصرف وسرعة الانتقال في الكر والفر والطعن والضرب في البرد والحر، والظاهر أنه لم يكن في حلقها مسامير لعدم الحاجة بإلانة الحديد إليها، وإلا لم يكن بينه وبين غيره فرق، ولا كان للإلانة فائدة، وقد أخبر بعض من رأى ما نسب إليه بغير مسامير، قال الزجاج: السرد في اللغة: تقدير الشيء إلى الشيء ليتأتى متسقاً بعضه في أثر بعض متتابعاً، ومنه قولهم: سرد فلان الحديث. وهذا كما ألان الله تعالى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخندق تلك الكدية وفي رواية: الكذانة وذلك بعد أن لم تكن المعاول تعمل فيها وبلغت غاية الجهد منهم فضربها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضربة واحدة، وفي رواية رش عليها ماء فعادت كثيباً أهيل لا ترد فأساً وتلك الصخرة التي أخبره سلمان رضي الله عنها أنها كسرت فؤوسهم ومعاولهم وعجزوا عنها فضربها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث ضربات كسر في ضربه ثلاثاً منها وبرقت مع كل ضربة برقة كبر معها تكبيرة، وأضاءت للصحابة رضي الله عنهم ما بين(15/459)
لابتي المدينة بحيث كانت في النهار كأنها مصباح في جوف بيت مظلم، فسألوه عن ذلك فأخبرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن إحدى الضربات أضاءت له صنعاء من أرض اليمن حتى رأى أبوابها من مكانه ذلك، وأخبره جبرائيل عيله السلام أنها ستفتح على أمته، وأضاءت له الأخرى قصور الحيرة البيض كأنها أنياب الكلاب، وأخبر أنها مفتوحة لهم، وأضاءت له الأخرى قصور الشام الحمر كأنها أنياب الكلاب، وأخبر بفتحها عليهم، فصدقه الله تعالى في جميع ما قال، وأعظم من ذلك تصليب الخشب له حتى يصير سيفاً قوي المتن جيد الحديدة، وذلك أن سيف عبد الله بن جحش رضي الله عنه انقطع يوم أحد، فأعطاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرجونا فعاد في يده سيفاً قائمة منه فقاتل به، فكان يسمى العون، ولم يزل بعد يتوارث حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار ذكره الكلاعي في السيرة عن الزبير بن أبي بكر والبيهقي، وقاتل عكاشة بن محصن يوم بدر فانقطع سيفه، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاه جذلاً من حطب، فلما أخذه هزه فعاد في يده سيفاً طويل القامة شديد المتن أبيض الحديد فقاتل به حتى وفتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعده حتى قتل في الردة(15/460)
وهو عنده، وعن الواقدي أنه انكسر سيف سلمة بن أسلم بن الحريش يوم بدر فأعطاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضيباً كان في يده من عراجين ابن طاب فقال: اضرب به فإذا هو سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد، وإلحامه للحديد ليس بأعجب من إلحام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليد معوذ بن عفراء لما قطعها أو جهل يوم بدر فأتى بها يحملها في يده الأخرى فبصق عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وألصقها فلصقت وصحت مثل أختها كما نقله البيهقي وغيره.
ولما أتم سبحانه ما يختص به من الكرامات، عطف عليها ما جمع فيه الضمير لأنه يعم غيره فقال: {واعملوا} أي أنت ومن أطاعك {صالحاً} أي بما تفضلنا به عليكم من العلم والتوفيق للطاعة، ثم علل هذا الأمر ترغيباً وترهيباً بقوله مؤكداً إشارة إلى أن إنكارهم للقدرة على البعث إنكار لغيرها من الصفات وإلى أن المتهاون في العمل في عداد من ينكر أنه يعين الله: {إني بما تعملون} أي كله {بصير *} أي مبصر وعالم بكل ظاهر له وباطن.(15/461)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
ولما أتم سبحانه ما أراد من آيات داود عليه السلام وختمها بالحديد، اتبعه ابنه سليمان عليه السلام لمشاركته له في الإنابة، وبدأ من آياته بما هو من أسباب تكوينه سبحانه للحديد فقال: {ولسليمان} أي عوضاً من الخيل التي عقرها لله {الريح} أي مسخرة على قراءة شعبة، والتقدير على قراءة الجماعة: سخرناها له حال كونها {غدوها شهر} أي تحمله وتذهب به وبجميع عسكره بالغداة وهي من الصباح إلى نصف النهار مسيرة شهر كان يغدو من إيليا فيقبل بإصطخر {ورواحها} أي من الظهر إلى آخر النهار {شهر} أي مسيرته، فهذه آية سماوية دالة على أنه كما رفع بساط سليمان عليه السلام بما حصل من جنوده وآلاتهم ثم وضعه قادر على أن يضع ما يشاء من السماء فيهلك من تقع عليه، وهذا كما سخر الله الريح للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة الأحزاب فكانت تهد خيامهم وتكفأ طعامهم وتضرب وجوههم بالحجارة والتراب وهي لا تجاوز عسكرهم إلى أن هزمهم الله بها، وكما حملت شخصين من أصحابة رضي الله(15/462)
تعالى عنهم في غزوة تبوك فألقتهما في جبلي طي، وتحمل من أراد الله من أولياء أمته كما هو في غاية الشهرة ونهاية الكثرة، وأما أمر الإسراء والمعراج فهو من الجلالة والعظم بحيث لا يعلمه إلا الله مع أن الله تعالى صرفه في آيات السماء بحبس المطر تارة وإرساله أخرى.
ولما ذكر الريح، أتبعها ما هي من أسباب تكوينه فقال: {وأسلنا له} أي بعظمتنا {عين القطر} أي النحاس أذبناه له حتى صار كأنه عين ماء، وذلك دال على أنه تعالى يفعل في الأرض ما يشاء، فلو أراد لأسالها كلها فهلك من عليها، ولو أراد لجعل بدل الإسالة الخسف والإزالة.
ولما ذكر الريح والنحاس الذي لا يذاب عادة إلا بالنار، ذكر ما أغلب عناصرة النار، وهو في الخفة والإقدار على الطيران كالريح فقال: {ومن} أي وسخرنا له من {الجن} أي الذين سترناهم عن العيون من الشياطين وغيرهم {من يعمل} ولما كان قد أمكنه الله منهم غاية الإمكان في غيبته وحضوره قال: {بين يديه} ولما كان ظن ظان أن لهم استبداداً بأعمالهم نفاه بقوله: {بإذن ربه} أي بتمكين المحسن إليه له ولهم بما يريد فعله.(15/463)
ولما قرر سبحانه أن ذلك بإرادته فهو في الحقيقة بأمره، زاد ذلك تقريراً بقوله عاطفاً على ما تقديره: فمن عمل بأمرنا أثبناه جنات النعيم: {ومن يزغ} أي يمل، من زاغ يزيغ ويزوغ {منهم} مجاوزاً وعادلاً {عن أمرنا} أي عن الذي أمرناه به من طاعة سليمان أي أمره الذي هو من أمرنا {نذقه} أي بما لنا من العظمة التي أمكنا سليمان عليه السلام بها مما أمكناه فيه من ذلك {من عذاب السعير *} أي في الدنيا مجازاً وفي الآخؤة حقيقة، وهذا كما أمكن الله نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك العفريت فخنقه وهو بربطه حتى يتلعب به صبيان المدينة، ثم تركه تأدباً مع أخيه سليمان عليهما الصلاة والسلام فيما سأل الله تعالى فيه، وأما الأعمال التي تدور عليها إقامة الدين فأغناه الله فيها عن الجن بالملائكة الكرام، وسلط جمعاً من صحابته رضي الله عنهم على جماعة من مردة الجان منهم أبو هريرة رضي الله عنه لما وكله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان ومنهم أبي بن كعب رضي الله عنه قبض على شخص منهم كان يسرق من تمره وقال: لقد علمت الجن ما فيهم من هو أشد مني ومنهم معاذ بن جبل رضي الله عنه لما جعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صدقة المسلمين فأتاه شيطان منهم يسرق وتصور له بصور منها صورة فيل فضبطه به فالتفّت يداه(15/464)
عليه وقال له: يا عدو الله، فشكا إليه الفقر وأخبره أنه من جن نصيبين وأنهم كانت لهم المدينة، فلما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرجهم منها وسأله أن يخلي عنه على أن لا يعود ومنهم بريدة رضي الله عنه، ومنهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ومنهم زيد بن ثابت رضي الله عنه، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم أجمعين صارع الشيطان فصرعه عمر، ومنهم عمار بن ياسر رضي الله عنه قاتل الشيطان فصرعه عمار، وأدمى أنف الشيطان بحجر، ولذلك وغيره كان يقول أبو هريرة: عمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكرها كلها البهيقي في الدلائل، وذكرت تخريج أكثرها في كتابي مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، وأما عين القطر فهي ما تضمنه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«أعطيت مفاتيح خزائن الأرض والملك في الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فاخترت أن أكون نبياً عبداً أجوع يوماً وأشبع يوماً» الحديث، فشمل ذلك من روضة اللؤلؤ الرطب إلى عين الذهب المصفى إلى ما دون ذلك، وروى الترمذي وقال: حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه قال: «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يارب! ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، أو قال ثلاثاً أو نحو(15/465)
ذلك، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» وللطبراني بإسناد حسن والبيهقي في الزهد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن إسرافيل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمفاتيح خزائن الأرض وقال: إن الله أمرني أن أعرض عليك أن أسير معك جبال تهامة زمرداً وياقوتاً وذهباً وفضة، فإن شئت نبياً ملكاً وإن شئت نبياً عبداً، فأومأ إليه جبرائيل عليه السلام أن تواضع، فقال نبياً عبداً»
رواه ابن حبان في صحيحه مختصراً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وله في الصحيح أيضاً عن جابر بن عبد الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أوتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق على قطيفة من سندس» وفي البخاري في غزوة أحد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح» الأرض هذا ما يتعلق بالأرض، وقد زيد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك بأن أيده ربه سبحانه بالتصرف في خزائن السماء(15/466)
تارة بشق القمر، وتارة برجم النجوم، وتارة باختراق السماوات، وتارة بحبس المطر وتارة بإرساله - إلى غير ذلك مما أكرمه الله به.
ولما أخبر تعالى أنه سخر له الجن، ذكر حالهم في أعمالهم، دلالة على أنه سبحانه يتصرف في السماء والأرض وما فيهما بما يشاء فقال تعالى: {يعملون له} أي في أي وقت شاء {ما يشاء} أي عمله {عن محاريب} أي أبنية شريفة من قصور ومساكن وغيرها هي أهل لأن يحارب عليها أو مساجد، والمحراب مقدم كل مسجد ومجلس وبيت، وكان مما عملوه له بين المقدس جدرانه بالحجارة العجيبة البديعة والرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمدة بأساطين المها الأبيض الصافي مرصعاً سقوفه وجدرانه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر وسائر الطيب، وبسط أرضه بألواح الفيروزج حتى كان أبهى بيت على وجه الأرض {وتماثيل} أي صوراً حساناً على تلك الأبنية فيها أسرار غريبة كما ذكروا أنهم صنعوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين في أعلاه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان ذراعين، وإذا قعد أظله النسران، ولم تكن التصاوير ممنوعة.(15/467)
ولما ذكر القصور وزينتها، ذكر آلات المأكل لأنها أول ما تطلب بعد الاستقرار في المسكن فقال: {وجفان} أي صحاف وقصاع يؤكل فيها {كالجواب} جمع جابية، وهي الحوض الكبير الذي يجبى إليه الماء، أي يجمع قيل: كان يجلس على الجفنة الواحدة ألف رجل.
ولما ذكر الصحاف على وجه يعجب منه ويستعظم، ذكر ما يطبخ فيه طعامها فقال: {وقدور راسيات} أي ثابتات ثباتاً عظيماً بأن لا ينزع عن أثافيها لأنها لكبرها كالجبال. ولما ذكر المساكن وما تبعها، أتبعها الأمر بالعمل إشارة إلى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن تبعه لا يلهيهم ذلك عن العبادة فقال: {اعملوا} أي وقلنا لهم: تمتعوا واعملوا، دل على مزيد قربهم بحذف أداة النداء وعلى شرفهم بالتعبير بالآل فقال: {آل داود} أي كل ما يقرب إلى الله {شكراً} أي لأجل الشكر له سبحانه، وهو تعظيمه في مقابلة نعمه ليزيدكم من فضله أو النصب على الحال أي شاكرين، أو على تقدير: اشكروا شكراً، لأن «اعملوا» فيه معنى «اشكروا» من حيث أن العمل للمنعم شكر له، ويجوز أن تنتصب باعملوا مفعولاً بهم معناه أنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً - على طريق المشاكلة {وقليل}(15/468)
أي قلنا ذلك والحال أنه قليل.
ولما لم يقتض الحال العظمة لأنها مبالغة في الشكر أليق، اسقط مظهرها فقال: {من عبادي الشكور *} أي المتوفر الدواعي بظاهره وباطنه من قلبه ولسانه وبدنه على الشكر بأن يصرف جميع ما أنعم الله عليه فيما يرضيه، وعبر بصيغة فعول إشارة إلى أن من يقع منه يطلق الشكر كثير، وأقل ذلك حال الاضطرار.(15/469)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
ولما كان ربما استبعد موت من هو على هذه الصفة من ضخامة الملك بنفوذ الأمر وسعة الحال وكثرة الجنود، أشار إلى سهولته بقرب زمنه وسرعة إيقاعه على وجه دال على بطلان تعظيمهم للجن بالإخبار بالمغيبات بعد تنبيههم على مثل ذلك باستخدامه لهم بقوله: {فلما} بالفاء، ولذلك عاد إلى مظهر الجلال فقال: {قضينا} وحقق صفة القدرة بأداة الاستعلاء فقال: {عليه} أي سليمان عيله السلام {الموت ما دلهم} أي جنوده وكل من في ملكه من الجن والإنس وغيرهم من كل قريب وبعيد {على موته} لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم {إلا دآبة الأرض} فخمها بهذه الإضافة التي من معناها أنه لا دابة للأرض غيرها لما أفادته من العلم ولأنها لكونها تأكل من كل شيء(15/469)
من أجزاء الأرض من الخشب والحجر والتراب والثياب وغير ذلك أحق الدواب بهذا الاسم، ويزيد ذلك حسناً ان مصدر فعلها أرض بالفتح والإسكان فيصير من قبيل التورية ليشتد التشوف إلى تفسيرها ثم بين أنها الأرضة بقوله مستأنفاً في جواب من كأنه قال: أي دابة هي وبما دلت: {تأكل منسأته} أي عصاه التي مات وهو متكىء عليها قائماً في بيت من زجاج، وليس له باب، صنعته له الجن لما أعلمه الله بأن أجله قد حضر، وكان قد بقي في المسجد بقية ليخفي موته على الجن الذين كانوا يعملون في البيت المقدس حتى يتم؛ قال في القاموس في باب الهمز: نسأه: زجره وساقه وأخره ودفعه عن الحوض، والمنسأة كمكنسة مرتبة، ويترك الهمز فيهما: العصا - لأن الدابة تنسأ بها أي تساق، والبدل فيها لازم، حكاه سيبويه - انتهى. فالمعنى أن الجن كانوا يزجرون ويساقون بها، وقرأها المدنيان وأبو عمرو بالإبدال، وابن عامر من رواية ابن ذكوان والداجوني عن هشام(15/470)
بإسكان الهمزة، والباقون بهمزة مفتوحة {فلما خر} أي سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه {تبينت الجن} أي علمت علماً بيناً لا يقدرون معه على تدبيج وتدليس، وانفضح أمرهم وظهر ظهوراً تاماً {أن} أي أنهم {لو كانوا} أي الجن {يعلمون الغيب} أي علمه {ما لبثوا} أي أقاموا حولاً مجرماً {في العذاب المهين *} من ذلك العمل الذي كانوا مسخرين فيه، والمراد إبطال ما كانوا يدعونه من علم الغيب على وجه الصفة، لأن المعنى أن دعواهم ذلك إما كذب أو جهل، فأحسن الأحوال لهم أن يكون جهلاً منهم، وقد تبين لهم الآن جهلهم بياناً لا يقدرون على إنكاره، ويجوز أن تكون «أن» تعليلية، ويكون التقدير: تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب، لأنهم إلى آخره، وسبب علمهم مدة كونه ميتاً قبل ذلك أنهم وضعوا الأرضة على موضع من العصا فأكلت منها يوماً وليلة، وحسبوا على ذلك النحو فوجدوا المدة سنة، وفي هذا توبيخ للعرب أنهم يصدقون من ثبت بهذا الأمر أنهم لا يعلمون الغيب في الخرافات اللاتي تأتيهم بها الكهان وغيرهم مما يفتنهم والحال أنهم يشاهدون منه كذباً كبيراً، فكانوا بذلك مساوين لمن يخبر من الآدميين عن بعض المغيبات بظن يظنه او منام يراه أو غير ذلك، فيكون كما قال - هذا مع(15/471)
إعراضهم عمن يخبرهم بالآخرة شفقة عليهم ونصيحة لهم، وما أخبرهم بشيء قط إلا ظهر صدقه قبل ادعائه للنبوة وبعده، وأظهر لهم من المعجزات ما بهر العقول، وقد تقرر أن كل شيء ثبت لمن قبل نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأنبياء من الخوارق ثبت له مثله أو أعظم منه إما له نفسه أو لأحد من أمته، وهذا الذي ذكر لسليمان عليه السلام من حفظه بعد موته سنة لا يميل قد ثبت مثله لشخص من هذه الأمة من غير شيء يعتمد عليه، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته في باب البادية قائماً ميتاً لا يمسكه شيء - انتهى.
وقد ثبت مثل ذلك الشخص في بلاد شروان من بلاد فارس بالقرب من شماخى، اسم ذلك الولي محمد، ولقبه دمدمكي، مات من نحو أربعمائة سنة في المائة الخامسة من الهجرة، وهو قاعد في مكان من مقامه الذي كان البسطامية، أخبرني من شاهده ممن كذلك لا أتهمه من طلبة العلم العجم، وهو أمر مشهور متواتر في بلادهم غني عن مشاهدة شخص(15/472)
معين، قال: زرته غير مرة وله هيبة تمنع المعتقد من الدنو منه دنواً يرى به وجهه كما أشار تعالى إلى مثل ذلك بقوله تعالى {لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً} [الكهف: 18] قال: وكان معنا في بعض المرات شخص من طلبة العلم من أهل كيلان غير معتقد يقول: إنما هذا نوع شعبدة يخيل به على عقول الرعاع، قال: فتقدم إليه بجرأة ولمس صدره ونظر في وجهه، فأصيب في الحال فلم يرجع إلا محمولاً، فأقام في المدرسة التي كان يشتغل بها في مدينة شماخي مدة، وأخبرنا أن الشيخ دمدمكي قال له لما لمسه: لولا أنك من أهل العلم هلكت، وأنه شيخ خفيف اللحية، قال: وقد تبت إلى الله تعالى وصرت من المعتقدين لما هوعليه أنه حق، ولا أكذب بشيء من كرامات الأولياء، قال الحاكي: وقد دفن ثلاث مرات إحداها بأمر تمرلنك فيصبح جالساً على ما هو عليه الآن - والله الموفق للصواب.
ولما دل سبحانه بقوله {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم} الآية، على قدرته على ما يريد من السماء والأرض لمعاملة من يريد ممن فيهما بما يشاء من فضل على من شكر، وعدل فيمن كفر، ودل(15/473)
على ذلك بما قصه من أخبار بعض أولي الشكر، وختم بموت نبيه سليمان بن داود الشاكر ابن الشاكر عليهما السلام، وما كان فيه من الآية الدالة على أنه لا يعلم الغيب غيره لينتج ذلك أنه لا يقدر على كل ما يريد غيره، وكان موت الأنبياء المتقدمين موجباً لاختلال من بعدهم لفوات آياتهم بفواتهم بخلاف آية القرآن، فإنها باقية على مر الدهور والأزمان، لكل إنس وملك وجان، ينادي مناديها على رؤوس الأشهاد: هل من مبارٍ أو مضاد؟ فلذلك حفظت هذه الأمة، وضاع غيرها في أودية مدلهمة، أتبعه دليلاً آخر شهودياً على آية {إن نشأ نخسف بهم الأرض} في قوم كان تمام صلاحهم بسليمان عليه الصلاة والسلام، فاختل بعده أمرهم، وصار من عجائب الكون ذكرهم، حين ضاع شكرهم، فكان من ترجمة اتباع قصتهم لما قبلها أن آل داود عليه السلام شكروا، فسخر لهم من الجبال والطير والمعادن وغيرها ما لم يكن غيرهم يطمع فيه، وهو أضاعوا الشكر فأعصى عليهم وأضاع منهم ما لم يكونوا يخافون فواته من مياههم وأشجارهم وغيرها، فقال تعالى مشيراً بتأكيده إلى تعظيم ما كانوا فيه، وأنه في غاية الدلالة على القدرة، وسائر صفات الكمال، وأن عمل قريش عمل من ينكر ما تدل عليه قصتهم(15/474)
من ذلك: {لقد كان لسبأ} أي القيلة المشهورة التي كانت تسجد للشمس، فهداهم الله تعالى على يد سليمان عليه السلام، وحكمة تسكين قنبل همزتها الإشارة إلى ما كانوا فيه من الخفض والدعة ورفاهة العيش المثمرة للراحة والطمأنينة والهدوء والسكينة، ولعل قراءة الجمهور لها بالصرف تشير إلى مثل ذلك، وقراءة أبي عمرو والبزي عن ابن كثير بالمنع تشير إلى رجوعهم بما صاروا إليه من سوء الحال إلى غالب أحوال تلك البلاد في الإقفار وقلة النبت والعطش {في مسكنهم} أي التي هي في غاية الكثرة، ووحد حمزة والكسائي وحفص عن عاصم إشارة إلى أنها لشدة اتصال المنافع والمرافق كالمسكن الواحد، وكسر الكسائي الكاف إشارة إلى أنها في غاية الملاءمة لهم واللين، وفتحه الآخران إشارة إلى ما فيها من الروح والراحة، وكانت بأرض مأرب من بلاد اليمن، قال حمزة الكرماني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: على ثلاث فراسخ من صنعاء، وكانت أخصب البلاد وأطيبها وأكثرها ثماراً حتى كانت المرأة تضع على رأسها المكتل وتطوف في ما بين الأشجار فيمتلىء المكتل من غير أن تمس شيئاً بيدها،(15/475)
وكانت مياههم تخرج من جبل فبنوا فيه سداً وجعلوا له ثلاثة أبواب فكانوا يسرحون الماء إلى كرومهم من الباب الأعلى والأوسط والأسفل، قال الرازي: كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن مغزلتها، فلا تأتي بيتها حتى يمتلىء مكتلها من الثمار، وقال أبو حيان في النهر: ولما ملكت بلقيس اقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها، وسكنت قصرها وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك، فقالت لهم: لا عقول لكم، ولا تطيعوني، فقالوا نطيعك، فرجعت إلى واديهم، وكانوا إذا مطروا أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمسناة بالصخر والقار، وحبست الماء من وراء السد، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة فيها اثنا عشر مخرجاً على عدة أنهارهم، وكان الماء يخرج لهم بالسوية، وقال المسعودي في مقدمات مروج الذهب قبل السيرة النبوية بيسير في الكلام على الكهان، كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها، وأعذابها وأغداها، وأكثرها جناناً،(15/476)
وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجد على هذه الحال في العرض مثل ذلك، يسير الراكب من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها، لا تواجهه الشمس ولا يفارقها الظل، لاستتار الأرض بالأشحار واستيلائها عليها وإحاطتها بها، فكان أهلها في أطيب عيش وأرفعه وأهنأ حال وأرغده، في نهاية الخصب وطيب الهواء وصفاء الفضاء وتدفق الماء، وقوة الشوكة واجتماع الكلمة، ثم ذكر خبراً طويلاً في أخبارهم وخراب ما كان من آثارهم وتفرقهم في البلاد وشتاتهم بين العباد {آية} أي علامة ظاهرة على قدرتنا على ما نريد، ثم فسر الآية بقوله: {جنتان} مجاورتان للطريق {عن يمين وشمال} أي بساتين متصلة وحدائق مشتبكة، ورياض محتبكة، حتى كان الكل من كل جانب جنة واحدة لشدة اتصال بعضه ببعض عن يمين كل سالك وشماله في أي مكان سلك من بلادهم ليس فيها موضع معطل، وقال البغوي: عن يمين واديهم وشماله، قد أحاط الجنتان بذلك الوادي.
وأشار الى كرم تلك الجنان وسعة ما بها من الخير بقوله: {كلوا} أي لا تحتاج بلادهم إلى غير أن يقال لهم: كلوا {من رزق ربكم} أي المحسن إليكم الذي أخرج لكم منها كل ما تشتهون {واشكروا له} أي خصوه بالشكر بالعمل بما أنعم به في ما يرضيه ليديم لكم النعمة، ثم استأنف تعظيم(15/477)
ذلك بقوله: {بلدة طيبة} أي كريمة التربة حسنة الهواء سليمة من الهوام والمضمار لا يحتاج ساكنها إلى ما يتبعه فيعوقه عن الشكر، قال ابن زيد: لا يوجد فيها برغوث ولا بعوض ولا عقرب ولا حية، ولا تقمل ثيابهم، ولا تعيا دوابهم. وأشار إلى أنه لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره بقوله: {ورب غفور *} أي لذنب من شكره وتقصيره بمحو عين ما قصر فيه وأثره فلا يعاقب عليه ولا يعاتب، ولولا ذلك ما أنعم عليكم بما أنتم فيه ولأهلككم بذنوبكم، وأخبرني بعض أهل اليمن أنها اليوم مفازة قرب صنعاء اليمن - قال: في بعضها عنب يعمل منه زبيب كبار جداً في مقدار در - تلي بلاد الشام، وهو في غاية الصفاء كأنه قطع المصطكا وليس له نوى أصلاً.
ولما تسبب عن هذا الإنعام بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر، دل على ذلك بقوله: {فأعرضوا} ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم، بينه بقوله: {فأرسلنا} ودل على أنه إرسال عذاب بعد مظهر العظمة بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم سيل العرم} أي سيح المطر الغالب المؤذي الشديد الكثير الحاد الفعل المتناهي في الأذى الذي لا يرده شيء ولا تمنعه حيلة بسد ولا غيره من العرامة، وهي الشدة والقوة، فأفسد عليهم جميع ما ينتفعون به، قال أبو حيان: سلط الله عليهم الجرذ(15/478)
فاراً أعمى توالد فيه، ويسمى الخلد، فخرفه شيئاً بعد شيء، فأرسل الله سيلاً في ذلك الوادي، فحمل ذلك السد فروي أنه كان من العظم وكثرة الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنان وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار. ولما غرق من غرق منهم ونجا من نجا، تفرقوا وتمزقوا حتى ضربت العرب المثل بهم فقالوا: تفرقوا أيدي سبا وأيادي سبا، والأوس والخزرج منهم، وكان ذلك في الفترة التي بين عيسى ونبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وبدلناهم بجنتيهم} أي جعلنا لهم بدلهما {جنتين} هما في غاية ما يكون من مضادة جنتيهم، ولذلك فسرهما بقوله إعلاماً بإن إطلاق الجنتين عليهما مشاكلة لفظية للتهكم بهم: {ذواتي أكل} أي ثمر {خمط} وقراءة الجماعة بتنوين {أكل} أقعد في التهكم من قراءة أبي عمرو ويعقوب بالإضافة.
ولما كان الخمط مشتركاً بين البهائم والإنسان في الأكل والتجنب، والله أعلم بما أراد منه، لأنه ضرب من الإراك، له ثمر يؤكل، وكل شجرة مرة ذات شوك، والحامض أو المر من كل شيء، وكل نبت(15/479)
أخذ طعماً من مرارة حتى لا يؤكل، ولا يمكن أكله، وثمر يقال له فسوة الضبع على صورة الخشخاش ينفرك ولا ينتفع به، والحمل القليل من كل شجر، ذكر ما يخص البهائم التي بها قوام الإنسان فقال: {وأثل} أي وذواتي أثل، وهو شجر لا ثمر له، نوع من الطرفاء، ثم ذكر ما يخص الإنسان فقال: {وشيء من سدر} أي نبق {قليل *} وهذا يدل على أن غير السدر وهو ما لا منفعة فيه أو منفعته مشوبة بكدر أكثر من السدر؛ وقال أبو حيان: إن الفراء فسر هذا السدر بالسمر، قال: وقال الأزهري: السدر سدران: سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول، وله ثمرة عفصة لا تؤكل، وهذا الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقة الغسول يشبه العناب. وقد سبق الوعد في البقرة ببيان مطلب ما يفيده دخول الجار مع مادة «بدل» فإن الحال يفترق فيها بين الإبدال والتبديل والاستبدال والتبدل وغير ذلك، وهي كثرة الدور مشتبهة الأمر، وقد حققها شيخنا محقق زمانه قاضي الشافعية بالديار المصرية(15/480)
شمس الدين محمد بن علي القاياتي رحمه الله فقال فيما علقته عند وذكر أكثره في شرحه لخطبة المنهاج للنووي رحمه الله: اعلم أن هذه المادة - أعني الباء والدال واللام - مع هذا الترتيب قد يذكر معها المتقابلان فقط وقد يذكر معهما غيرهما وقد لا يكون كذلك فإن اقتصر عليهما فقد يذكران مع التبدل والاستبدال مصحوباً أحدهما بالباء كما في قوله تعالى:
{أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} [البقرة: 61] وفي قوله تعالى: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} [البقرة: 108] الآية، فتكون الباء داخلة على المتروك ويتعدى الفعل بنفسه للمقابل المتخذ، وقد يذكران مع التبديل والإبدال وأحدهما مقرون بالباء، فالباء داخلة على الحاصل، ويتعدى الفعل بنفسه إلى المتروك، نقل الأزهري عن ثعلب: بدلت الخاتم بالحلقة - إذا أذبته وسويته حلقة، وبدلت الحلقة بالخاتم - إذا أذبتها وجعلتها خاتماً، وأبدلت الخاتم بالحلقة - إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه، وحكى الهروي في الغريبين عن ابن عرفة يعني نفطويه أنه قال: التبديل: تغيير الشيء عن حاله والإبدال: جعل الشيء مكان آخر وتحقيقه أن معنى التبديل التغيير وإن لم يؤت ببدل كما ذكر في الصحاح(15/481)
وكما هو مقتضى كلام ابن عرفة، فحيث ذكر المتقابلان وقيل: «بدلت هذا بذاك» رجع حاصل ذلك أنك أخذت ذاك وأعطيت هذا، فإذا قيل: بدل الشيء بغيره، فمعناه غير الشيء بغيره، أي ترك الأول وأخذ الثاني، فكانت الباء داخلة على المأخوذ لا المنحى، ومعنى إبدال الشيء بغيره يرجع إلى تنحية الشيء وجعل غيره مكانه، فكانت الباء داخلة على المتخذ مكان المنحى، وللتبديل ولو مع الاقتصار على المتقابلين استعمال آخر، يتعدى إلى المفعولين بنفسه كقوله تعالى {أولئك يبدل الله سيآتهم حسنات} [الكهف: 81] {فأردنا أن يبدلها ربهما خيراً منه زكاة} [الفرقان: 70] الآية بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيراً وقد لا يذكر المذهوب كما في قوله تعالى: {بدلناهم جلوداً غيرها} [النساء: 56] ومعنى التبدل والاستبدال أخذ الشيء مكان غيره، فإذا قلت: استبدلت هذا بذاك، أو تبدلت هذا بذاك، رجع حاصل ذلك أنك أخذت هذا وتركت ذاك، وإن لم يقتصر عليهما بل ذكر معهما غيرهما وأحدهما مصحوب بالجارّ وذكر التبديل كما في قوله تعالى {وبدلناهم بجنتيهم جنتين}(15/482)
تعدى الفعل بنفسه إلى المفعولين يعين إلى المفعول ذلك لأجله وإلى المأخوذ بنفسه، وإلى المذهوب المبدل منه بالباء كما في «بدله بخوفه أمناً» ومعناه: أزال خوفه إلى الأمن وقد يتعدى إلى المذهوب والحالة هذه - بمن كما في «بدله من خوفه أمناً» وللتبديل أيضاً استعمال آخر يتعدى إلى مفعول واحد مثل: بدلت الشيء أي غيرته، قال تعالى {فمن بدله بعد ما سمعه} [البقرة: 181] على أن ههنا ما يجب التنبه له وهو أن الشيء يكون مأخوذاً بالقياس والإضافة إلى شيء، متروكاً بالقياس والإضافة إلى آخر، كما إذا أعطى شخص شخصاً شيئاً وأخذ بدله منه، فالشيء الأول مأخوذ للشخص الثاني ومتروك للأول، والمقابل بالعكس فيصح أن يعبر بالتبدل والتبديل، ويعتبر في كل منهما ما يناسبه، والإشكال المقام قصدنا بعض الإطناب - انتهى والله أعلم.(15/483)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
ولما أخبر عن هذا المحق والتقتير بعد ما كانوا فيه من ذلك الملك الكبير، هول أمره مقدماً للمفعول دلالة على أنه مما يهتم غاية الاهتمام بتعرفه فقال: {ذلك} أي الجزاء العظيم العالي الرتبة في أمر المسخ {جزيناهم} بما لنا من العظمة {بما كفروا} أي غطوا(15/483)
الدليل الواضح.
ولما كان من العادة المستقرة عند ذوي الهمم العوال، العريقين في مقارعة الأبطال، المبالغة في جزاء من أساء بعد الإحسان، وقابل الإنعام بالكفران، لما أثر في القلوب من الحريق مرة بعد مرة، وكرة في أثر كرة، أجرى الأمر سبحانه على هذا العرف، فقال مشيراً إلى ذلك بصيغة المفاعلة عادّاً لغير جزائهم بالنسبة إليه عدماً، تهديداً يصدع القلوب ويردع النفوس، ويدع الأعناق خاضعة والرؤوس: {وهل يجازى} أي هذا الجزاء الذي هو على وجه العقاب من مجاز ما على سبيل المبالغة {إلا الكفور *} أي المبالغ في الكفر، وقراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «نجازي» بالنون على أسلوب ما قبله من العظمة ونصب «الكفور» وقال الفراء: المؤمن يجزى ولا يجازى - كأنه يشير إلى أن عقاب المسيء لأجل عمله فهو مفاعلة، وأما ثواب المطيع فهو فضل من الله لا لأجل عمله، فإن عمله نعمة من الله، وذلك لا ينافي المضاعفة، قال القشيري: كذلك من الناس من يكون في رغد من الحال(15/484)
واتصال من التوفيق وطيب من القلب ومساعدة من الوقت فيرتكب زلة أو يسيء أدباً أو يتبع شهوة، ولا يعرف قدر ما هو فيه فيغير عليه الحال، فلا وقت ولا حال، ولا طرب ولا وصال، يظلم عليه النهار، وكانت لياليه مضيئة ببدائع الأنوار.
ولما أتم الخبر عن الجنان التي بها القوام نعمة ونقمة، أتبعه مواضعه السكان فقال: {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة، ونبه بنزع الجار على عمارة جميع تلك الأراضي بالبناء والانتفاع فقال: {بينهم} أي بين قرى أهل سبأ {وبين القرى} اي مدناً كانت أو دونها {التي باركنا} أي بركة اعتنينا بها اعتناء من يناظر آخر بغاية العظمة {فيها} أي بأن جعلناها محال العلم والرزق بالأنبياء وأصفياء الأولياء وهي بلاد الشام {قرى ظاهرة} أي من أرض الشام في أشراف الأرض وما صلب منها وعلا، لأن البناء فيها أثبت، والمشي بها أسهل، والابتهاج برؤية جميع الجنان وما فيها من النضرة منها أمكن. فهي ظاهرة للعيون بين تلك الجنان، كأنها الكواكب الحسان، مع تقاربها بحيث يرى بعضها من بعض وكثرة المال بها والمفاخر والنفع والمعونة للمارة؛ قال البغوي: كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ(15/485)
إلى الشام.
ولما كانت مع هذا الوصف ربما كان فيها عسر على المسافر لعدم الموافقة في المقيل والمبيت، أزال هذا بقوله: {وقدرنا فيها السير} أي جعلناه على مقادير هي في غاية الرفق بالمسافر في نزوله متى أراد من ليل أو نهار على ما جرت به عوائد السفار، فهي لذلك حقيقة بأن يقال لأهلها والنازلين بها على سبيل الامتنان: {سيروا} والدليل على تقاربها جداً قوله: {فيها} ودل على كثرتها وطول مسافتها وصلاحيتها للسير أيّ وقت أريد، مقدماً لما هو أدل على الأمن وأعدل للسير في البلاد الحارة بقوله: {ليالي} وأشار إلى كثرة الظلال والرطوبة والاعتدال الذي يمكن معه السير في جميع النهار بقوله: {وأياماً} أي في أي وقت شئتم، ودل على عظيم أمانها في كل وقت بالنسبة إلى كل ملم بقوله: {آمنين *} أي من خوف وتعب، أو ضيعة أو عطش أو سغب.
ولما انقضى الخبر عن هذه الأوصاف التي تستدعي غاية الشكر لما فيها من الألطاف، دل على بطرهم للنعمة بها بأنهم جعلوها سبباً للتضجر والملال بقوله: {فقالوا} على وجه الدعاء: {ربنا} أي أيها المربي لنا {باعد} أي أعظم البعد وشدده - على قراءة ابن كثير وأبي عمرو(15/486)
وهشام عن ابن عامر بتشديد العين وإسكان الدال، وهذا بمعنى قراءة الباقين غير يعقوب {باعد} المقتضية لمده وتطويله {بين أسفارنا} أي قرانا التي نسافر فيها، أي ليقل الناس فيكون ما يخص كل إنسان من هذه الجنان أضعاف ما يخصه الآن ونحمل الزاد ونسير على النجائب ونتعلق السلاح ونستجيد المراكب، وكان بعضهم كأن على الضد من غرض هؤلاء فاستكثر مسافة ما بين كل قريتين فقال كما قرأ يعقوب «ربنا» بالرفع على أنه مبتدأ «باعد» فعلاً ماضياً على أنه خبر فازدرى تلك النعمة الواردة على قانون الحكمة واشتهى أن تكون تلك القرى متواصلة {وظلموا} حيث عدوا النعمة نقمة، والإحسان إساءة {أنفسهم} تارة باستقلال الديار، وتارة باستقلال الثمار، فسبب ذلك تبديل ما هم فيه بحال هو في الوحشة بقدر ما كانوا فيه من الأنس وهو معنى {فجعلناهم} أي بما لنا من العظمة {أحاديث} أي يتواصفها الناس جيلاً بعد جيل لما لها من الهول {ومزقناهم} أي تمزيقاً يناسب العظمة، فما كان لهم دأب إلا المطاوعة فمزقوا {كل ممزق} أي تمزيق كما يمزق الثوب، بحيث صاروا مثلاً مضروباً إلى هذا الزمان،(15/487)
يقال لمن شئت أمرهم: تفرقوا أيدي سبا.
ولما كان كل من أمريهم هذين في العمارة والخراب أمراً باهراً دالاً على أمور كثيرة، منها القدرة على الساعة التي هي مقصود السورة بالنقلة من النعيم إلى الجحيم والحشر إلا ما لا يريد الإنسان كما حشر أهل سبأ إلى كثير من أقطار البلاد كما هو مشهور في قصتهم، قال منبهاً على ذلك مستأنفاً على طريق الاستنتاج، مؤكداً تنبيهاً على إنعام النظر فيه، لما له من الدلالة على صفات الكمال: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم {لآيات} أي دلالات بينة جداً على قدرة الله تعالى على التصرف فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض بالإيجاد والإعدام للذوات والصفات بالخسف والمسخ، فإنه لا فرق بين خارق وخارق، وعلى أن بطرهم لتلك النعمة حتى ملوها ودعوا بإزالتها دليل على أن الإنسان ما دام حياً فهو في نعمة يجب عليه شكرها كائنة ما كانت وإن كان يراها بلية، لأنه لما طبع عليه من القلق كثيراً ما يرى النعم نقماً، واللذة ألماً، ولذلك ختم الآية بالصبر بصيغة المبالغة.
ولما كان الصبر حبس النفس عن أغراضها الفاسدة وأهويتها المعمية، وكانت مخالفة الهوى أشد ما يكون على النفس وأشق، وكانت النعم تبطر وتطغي، وتفسد وتلهي، فكان عطف النفوس إلى الشكر(15/488)
بعد جماحها بطغيان النعم صعباً، وكانت قريش قد شاركت سبأ فيما ذكر وزادت عليهم برغد العيش وسهولة إتيان الرزق بما حببهم به وبلدهم إلى العباد بدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام مع آمن البلد وجلالة النسب وعظيم المنصب كما أشار إليه قوله تعالى {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة} [النحل: 112] قال تعالى محذراً لهم مثل عقوبتهم: {لكل صبار شكور *} أي من جميع بني آدم، مشيراً بصيغة المبالغة إلى ذلك كله، وأن من لم يكن في طبعه الصبر والشكر لا يقدر على ذلك، وأن من ليس في طبعه الصبر فاته الشكر.
ولما كان المعنى: آيات في أن تخالفوا إبليس فلا تصدقوا ظنه في احتناكهم حيث قال: {لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلاً} [الإسراء: 62] قال مؤكداً لإنكار كل أحد أن يكون صدق ظن إبليس فيه: {ولقد} أي كان في ذلك آيات مانعة من اتباع الشيطان والحال أنه قد {صدق} . ولما كان في استغوائهم غالباً لهم في إركابهم ما تشهد عقولهم بأنه ضلال، أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي على ذرية آدم عليه السلام.(15/489)
ولما كان في سياق الإثبات لعظمة الله وما عنده من الخير وما له من التصرف التام الداعي ذلك إلى الإقبال إليه وقصر الهمم عليه، عبر بقوله تعالى {إبليس} الذي هو من البلس وهو ما لا خير عنده - والإبلاس - وهو اليأس من كل خير - ليكون ذلك أعظم في التبكيت والتوبيخ {ظنه} أي في قوله: {لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} [الإسراء: 62] {ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك} [الحجر: 39] {ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 17] فكأنه لما قال ذلك على سبيل الظن تقاضاه ظنه الصدق فصدقه في إعمال الحيلة حتى كان ذلك الظن - هذا على قراءة الجماعة بالتخفيف، وأما على قراءة الكوفيين بالتشديد فالمعنى أنه جعل ظنه الذي كان يمكن تكذيبه فيه قبل التحقق صادقاً، بحيث لا يمكن أحداً تكذيبه فيه، ولذلك سبب سبحانه عنه قوله: {فاتبعوه} أي بغاية الجهد بميل الطبع والاستلذاذ الموجب للنزوع والترامي بعضهم في الكفران وبعضهم في مطلق العصيان.
ولما كان المحدث عنهم جمعي الناس، عرف به الاستثناء المعرف لقلة الناجين فقال: {إلا فريقاً} أي ناساً لهم القدرة على تفريق كلمة أهل الكفر وفض جمعهم وإن كانوا بالنسبة إليهم كالشعرة البيضاء(15/490)
في جلد الثور الأسود {من المؤمنين *} أي العريقين في الإيمان، فكانوا خالصين لله مخلصين في عبادته، وأما غيرهم فمالوا معه، وكان منهم المقل ومنهم المكثر بالهفوات والزلات الصغائر والكبائر.(15/491)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
ولما كان ذلك ربما أوهم أن لإبليس أمراً بنفسه، نفاه بقوله: {وما} أي والحال أنه ما {كان} أصلاً {له عليهم} أي الذين اتبعوه ولا غيرهم، وأعرق فيما هو الحق من النفي بقوله: {من سلطان} أي تسلط قاهر لشيء من الأشياء بوجه لأنه مثلهم في كونه عبداً عاجزاً مقهوراً، ذليلاً خائفاً مدحوراً، قال القشيري: هو مسلط، ولو أمكنه أن يضل غيره أمكنه أن يمسك على الهداية نفسه {إلا} أي لكن نحن سلطناه عليهم بسلطاننا وملكناه قيادهم بقهرنا؛ وعبر عن التمييز الذي هو سبب العلم بالعلم فقال: {لنعلم} أي بما لنا من العظمة {من يؤمن} أي يوجد الإيمان لله {بالآخرة} أي ليتعلق علمنا بذلك في عالم الشهادة في حال تميزه تعلقاً تقوم به الحجة في مجاري عادات البشر كما كان متعلقاً به في عالم الغيب {ممن هو منها} أي من الآخرة {في شك} فهو لا يتجدد له بها إيمان أصلاً، لأن الشك ظرف له محيط به، وإنما استعار «إلا» موضع «لكن» إشارة إلى(15/491)
أنه مكنه تمكيناً تاماً صار به كمن له سلطان حقيقي.
ولما كان هذا ربما أوقع في وهم نقصاً في العلم أو في القدرة، قال مشيراً إلى أنه سبحانه يسره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتكثير هذا الفريق المخلص وجعل أكثره من أمته فقال: {وربك} أي المحسن إليك بإخزاء الشيطان بنبوتك وإخسائه عن أمتك {على كل شيء} من المكلفين وغيرهم {حفيظ *} أي حافظ أتم حفظ محيط به مدبر له على وجه العلو بعلمه الكامل وقدرته الشاملة، فلا يفعل الشيطان ولا غيره شيئاً إلا بعلمه وإذنه.
ولما أثبت سبحانه لنفسه ولذاته الأقدس من الملك في السماوات والأرض وغيرهما ما رأيت، واستدل عليه من الأدلة التي لا يمكن التصويب إليها بطعن بما سمعت، وكان المقصود الأعظم التوحيد فإنه أصل ينبني عليه كل خير قال: {قل} أي يا أعلم الخلق! بإقامة الأدلة لهؤلاء الذين أشركوا ما لا يشك في حقارته من له أدنى مسكة: {ادعوا الذين زعمتم} أي أنهم آلهة كما تدعون الله لا سيما في وقت الشدائد، وحذف مفعولي «زعم» وهما ضميرهم وتألههم تنبيهاً على استهجان ذلك واستبشاعه، وليس المذكور في الآية مفعولاً ولا قائماً(15/492)
مقام المفعول لفساد المعنى؛ وبين حقارتهم بقوله: {من دون الله} أي الذي حاز جميع العظمة لشيء مما أثبته سبحانه لنفسه فليفعلوا شيئاً مثله أو يبطلو شيئاً مما فعله سبحانه.
ولما كان جوابهم في ذلك السكوت عجزاً وحيرة، تولى سبحانه الجواب عنهم، إشارة إلى أن جواب كل من له تأمل لا وقفة فيه بقوله، معبراً عنهم بعبارة من له علم بإقامتهم في ذلك المقام، أو لأن بعض من ادعيت إلهيته ممن له علم: {لا يمكلون} أي الآن ولا يتجدد لهم شيء من ذلك أصلاً.
ولما كان المراد المبالغة في الحقارة بما تعرف العرب قال: {مثقال ذرة} ولما أريد العموم عبر بقوله: {في السماوات} وأكد فقال: {ولا في الأرض} لأن السماء ما علا، والأرض ما سفل، والسماوات في العرش، والأرض في السماء، فاستغرق ذلك النفي عنهما وعن كل ما فيهما من ذات ومعنى إلى العرش، وهو ذو العرش العظيم.
ولما كان هذا ظاهراً في نفي الملك الخالص عن شوب المشاركة، نفى المشاركة أيضاً بقوله مؤكداً تكذيباً لهم فيما يدعونه: {وما لهم فيهما} أي السماوات والأرض ولا فيما فيهما، وأعرق في النفي فقال:(15/493)
{من شرك} أي في خلق ولا مُلك ولا مِلك، وأكد النفي بإثبات الجار. ولما كان مما في السماوات والأرض نفوس هذه الأصنام وقد انتفى ملكهم لشيء من أنفسهم أو ما أسكن فيها سبحانه من قوة أو منفعة، فانتفى أن يقدروا على إعانة غيرهم، وكان للتصريح مزيد روعة للنفوس وهزة للقلوب وقطع للأطماع، حتى لا يكون هناك متشبت قويّ ولا واهٍ قال: {وما له} أي الله {منهم} وأكد النفي بإثبات الجار فقال: {من ظهير *} أي معين على شيء مما يريده، فكيف يصح مع هذا العجز الكلي أن يدعوا كما يدعى ويرجوا كما يرجى ويعبدوا كما يعبد.
ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة، وكان المقصود منها أثرها لا عينها، نفاه بقوله: {ولا تنفع} أي في أيّ وقت من الأوقات {الشفاعة عنده} أي بوجه من الوجوه بشيء من الأشياء {إلا لمن} ولما كانت كثافة الحجاب أعظم في الهيبة، وكان البناء للمجهول أدل على كثافة الحجاب، قال في قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي بجعل المصدر عمدة الكلام وإسناد الفعل إليه: {أذن له} أي وقع منه(15/494)
إذن له على لسان من شاء من جنوده بواسطة واحدة أو أكثر في أن يشفع في غيره أو في أن يشفع فيه غيره، وقراءة الباقين بالبناء للفاعل تدل على العظمة من وجه آخر، وهو أنه لا افتيات عليه بوجه من أحد ما، بل لا أن ينص هو سبحانه على الإذن، وإلا فلا استطاعة عليه أصلاً.
ولما كان من المعلوم أن الموقوفين في محل خطر للعرض على ملك مرهوب متى نودي باسم أحد منهم فقيل أين فلان ينخلع قلبه وربما أغمي عليه، فلذلك كان من المعلوم مما مضى أنه متى برز النداء من قبله تعالى في ذلك المقام الذي ترى فيه كل أمة جاثية يغشى على الشافعين والمشفوع لهم، فلذلك حسن كل الحسن قوله تعالى: {حتّى} وهو غاية لنحو أن يقال: فإذا أذن له وقع الصعق لجلاله وكبريائه وكماله حتى {إذا فزع} أي أزيل الفزع بأيسر أمر وأهون سعي من أمره سبحانه - هذا في قراءة الجماعة بالبناء للمجهول، وأزال هو سبحانه الفزع في قراءة ابن عامر ويعقوب، إشارة إلى أنه لا يخرج عن أمره شيء {عن قلوبهم} أي الشافعين والمشفوع لهم، فإن «فعّل»(15/495)
يأتي للإزالة كقذّيت عينه - إذا أزلت عنها القذى {قالوا} أي قال بعضهم لبعض: {ماذا قال ربكم} ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن لذلك قلوبهم.
ولما كان ملوك الدنيا ربما قال بعضهم قولاً ثم بدا له فرجع عنه، أو عارضه فيه شخص من أعيان جنده فينتقض، أخبر أن الملك الديان ليس كذلك فقال: {قالوا الحق} أي الثابت الذي لا يمكن أن يبدل، بل يطابقه الواقع فلا يكون شيء يخالفه {وهو العلي} أي فلا رتبة إلا دون رتبته سبحانه وتعالى، فلا يقول غير الحق من نقص علم {الكبير *} أي الذي لا كبير غيره فيعارضه في شيء من حكم؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان {فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا} - للذي قال - {الحق وهو العلي الكبير} فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - ووصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع(15/496)
الكلمة ويلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء» وقال في التوحيد: وقال مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنهما: «وإذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق» وروى هذا الحديث العيني في جزئه عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه قال: كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يسمعون فيه الوحي، وفيه: فلا ينزل على سماء إلا صفقوا، وفي آخره: ثم يقال: يكون العام كذا ويكون العام كذا، فتسمع الجن ذلك فتخبر به الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، فلما بعث الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دحروا، فقالت العرب: هلك من في السماء، فذكر ذبح العرب لأموالهم من الإبل وغيرها، حتى نهتهم ثقيف، واستدلوا بثبات معلم النجوم، ثم أمر إبليس جنده بإحضار التراب وشمه حتى عرف أن الحدث من مكة.(15/497)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29)
ولما سلب عن شركائهم أن يملكوا شيئاً من الأكوان،(15/497)
وأثبت جميع الملك له وحده، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يقررهم بما يلزم منه ذلك فقال: {قل من يرزقكم} ولما كان كل شيء من الرزق متوقفاً على الكونين، وكان في معرض الامتنان والتوبيخ جمع لئلا يدعي أن لشيء من العالم العلوي مدبراً غيره سبحانه فقال: {من السماوات} وقال: {والأرض} بالإفراد لأنهم لا يعلمون غيرها.
ولما كان من المعلوم أنهم مقرّون بأن ذلك لله وحده كما تقدم التصريح به غير مرة، وكان من المحقق أن إقرارهم بذلك ملزم لهم الإخلاص في العبادة عند كل من له أدنى مسكة من عقله، أشار إلى ذلك بالإشارة بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإجابة إلى أنهم كالمنكرين لهذا، لأن إقرارهم به لم ينفعهم فقال: {قل الله} أي الملك الأعلى وحده، وأمره بعد إقامة هذا الدليل البين بأن يتبعه ما هو أشد عليهم من وقع النبل بطريق لا أنصف منه، ولا يستطيع أحد أن يصوب إليه نوع طعن بأن يقول مؤكداً تنبيهاً على وجوب إنعام النظر في تمييز المحق من المبطل بالانخلاع من الهوى، فإن الأمر في غاية الخطر: {وإنا} أي أهل التوحيد في العبادة لمن تفرد بالرزق {أو إياكم} أي أهل الإشراك به من لا يملك شيئاً(15/498)
من الأشياء و «أو» على بأنها لا بمعنى الواو، أي إن أحد فريقينا على إحدى الحالتين مبهمة غير معينة فهو على خطر عظيم لكونه في شك من أمره غير مقطوع له بالهدى، فانظروا بعقولكم في تعيينه هل هو الذي عرف الحق لأهله أو الذي بذل الحق لغير أهله، قال ابن الجوزي: وهذا كما تقول للرجل تكذبه: والله إن أحدنا لكاذب، وأنت تعنيه تكذيباً غير مكشوف ويقول الرجل: والله لقد قدم فلان، فيقول له من يعلم كذبه: قل إن شاء الله، فيكذبه بأحسن من تصريح التكذيب، يعني ولا سيما بعد إقامة الدليل على المراد ثم مثل المهتدين بمن هو على متن جواد يوجهه حيث شاء من الجواد بقوله: {لعلى هدى} أي في متابعة ما ينبغي أن يعمل مستعلين عليه ناظرين لكل ما يمكن أن يعرض فيه مما قد يجر إلى ضلال فتنكبه {أو في ضلال} أي عن الحق في الاعتقاد المناسب فيه منغمسين فيه وهو محيط بالمبتلى به لا يتمكن معه من وجه صواب: {مبين *} أي واضح في نفسه داع لكل أحد إلى معرفة أنه ضلال إلا من كان منغمساً فيه مظروفاً له، فإنه لا يحس بنفسه وما بينه وبين أن يستبصر إلا أن يخرج منه وقتاً ما فيعلم أنه كان في حاله ذلك فاعلاً ما لا يفعله(15/499)
من له نوع من العقل، ففي هذا حث على النظر الذي كانوا يأبونه بقوله:
{قلوبنا في أكنة} [فصلت: 5] ونحوه في الأدلة التي يتميز بها الحق من الباطل على أحسن وجه بأنصف دعاء وألطف نداء حيث شرك الداعي نفسه معهم فيما دعاهم إلى النظر فيه، فالمعنى أنه يتعين على كل منا - إذا كان على إحدى الطريقين مبهمة - أن ينظر في أمر ليسلم فإن الأمر في غاية الوضوح مع أن الضال في نهاية الخطر، ولقد كان الفضلاء من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وذوو الأحلام والنهى منهم يقولون ذلك بعد الإسلام كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وناهيك بهما جلالاً، ونباهة وذكاء وكمالاً، قالوا: والله كنا نعجب غاية العجب ممن يدخل في الإسلام واليوم نحن نعجب غاية العجب ممن يتوقف عنه.
ولما كانوا بين أمرين: إما أن يسكتوا فيعلم كل سامع أن الحجة لزمتهم، وإما أن يقولوا بوقاحة ومكابرة: أنتم في الضلال ونحن على الهدى، وكان الضال لا يزال يقطع ما ينبغي وصله بوصل ما يجب قطعه،(15/500)
أمره أن يجيبهم على هذا التقدير بما هو أبلغ في الإنصاف من الأول بقوله: {قل لا تسئلون} أي من سائل ما {عما أجرمنا} أي قطعنا فيه ما ينبغي أن يوصل مما أوجبه لنا الضلال {ولا نسئل} أي أصلاً في وقت من الأوقات من سائل ما {عما تعملون *} أي مما بنيتموه على العلم الذي أورثكموه الهدى أي فاتركونا والناس غيركم كما أنا نحن تاركوكم، فمن وضح له شيء من الطريقين سلكه.
ولما كانوا إما أن يجيبوا إلى المتاركة فيحصلوا بها المقصود عن قريب، وإما أن يقولوا: لا نترككم، وكان هذا الاحتمال أرجح، أمره أن يجيبهم على تقديره بقوله: {قل يجمع بيننا ربنا} أي في قضائه المرتب على قدره في الدنيا أو في الأخرة، قال القشيري: والشيوخ ينتظرون في الاجتماع زوائد ويستروحون إلى هذا الآية، وللاجتماع أمر كبير في الشريعة.
ولما كان إنصافهم منهم في غاية البعد عندهم، وكان ذلك في نفسه في غاية العظمة، أشار إليه بأداة البعد فقال: {ثم يفتح} أي يحكم {بيننا} حكماً يسهل به الطريق {بالحق} أي الأمر الثابت الذي(15/501)
لا يقدر أحد منا ولا منكم على التخلف عنه، وهو العدل أو الفضل من غير ظلم ولا ميل. ولما كان التقدير: فهو الجامع القدير، عطف عليه قوله: {وهو الفتاح} أي البليغ الفتح لما انغلق، فلم يقدر أحد على فتحه {العليم *} أي البالغ العمل بكل دقيق وجليل مما يمكن فيه الحكومات، فهو القدير على فصل جميع الخصومات.
ولما كانوا قد أنكروا البعث على ذلك الوجه الذي تقدم، ودل على قدرته عليه بما نصب من الأدلة التي شاهدوها من أفعاله بالبصر أو البصيرة إيجاداً وإعداماً، وأقام الحجة على صحة الدعوة وبطلان ما هم عليه، ثم تهددهم بالفصل يوم الجمع، وختم بصفة العلم المحيط المستلزم للقدرة الشاملة، وكانت القدرة لا تكون شاملة إلا عند الوحدانية، أمره بما يوجب لهم القطع بوحدانيته وشمول قدرته بقوله: {قل} أي لهؤلاء المشركين.
ولما كانت آلهتهم تسهل رؤيتها، وكان كل ما هو كذلك سافل المقدار عن هذه الرتبة، وكانت آلهتهم بالخصوص أدنى الأشياء عن ذلك بكونها من أخس الجمادات، نبه على ذلك وعلى أنها نكرة لا تعرف بقلب ولا تدل عليها فطرة زيادة في تبكيتهم بقوله: {أروني الذين} ولما لزم مما ثبت له سبحانه من صفات الكمال العلو الذي لا يداينه(15/502)
أحد بوجه قال: {ألحقتم به} ولما كان الإلحاق يقتضي ولا بد قصور الملحق عن الملحق به، أشار إلى فرط جهلهم بتسويتهم به بقوله: {شركاء} ثم نبه بعد إبطال قياسهم على أنهم في غاية الجلافة والجمود فهم كالأنعام بما قرعهم به من الرجز في قوله مؤكداً تكذيباً لهم في دعوى الشرك: {كلا} أي ارتدعوا وانزجروا فليس والله الأمر كما ذكرتم ولا قريب منه {بل هو} أي المعبود بالحق الذي لا يستحق أن يسمى هو غيره {الله} أي الذي اختص بالحمد في الأولى والآخرة {العزيز} أي الذي لا مثل له، وكل شيء محتاج إليه، وهو غالب على كل شيء غلبة لا يجد معها ذلك الشيء وجه مدافعة ولا انقلاب، ولا وصول لشيء إليه إلا بإذنه {الحكيم *} أي المحكم لكل ما يفعله فلا يستطيع أحد نقض شيء منه فكيف يكون له شريك وأنتم ترون له من هاتين الصفتين المنافيتين لذلك وتعلمون عجز من أشركتموه به عن أن يساويكم مع ما تعلمون من عجزكم.
ولما ختم بوصف الحكمة فتم برهان القدرة التي كان أوجب اعتقادهم لعدم البعث ما يقتضي نقصاً فيها، ولزم عن ذلك التوحيد وبطل الشرك، لم يبق إلا إثبات الرسالة التي أوجب ترديدهم(15/503)
أخباره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الكذب والجنون الطعن فيها، فعلم أن التقدير: أرسل إليكم رسوله بعزته مؤيداً له بإعجاز هذا القرآن بحكمته دليلاً على صدقه وكماله في جبلته وتأهله لبدائع نعمته ومعالي رحمته، وكان في ذلك دليل الصدق في الرسالة؛ فنسق به قوله معلياً لشأنه بالخطاب في مظهر العظمة، إشارة إلى أنه ينبغي أن يتدرع جلابيب الصبر على جميع المكارة الصادرة من أنواع الخلق في أداء الرسالة بقوله عاطفاً على {ولقد آتينا داود منا فضلاً} مؤكداً تكذيباً لمن يدعي الخصوص: {وما أرسلناك} أي بعظمتنا {إلا كآفة} أي إرسالاً عاماً شاملاً لكل ما شمله إيجادنا، تكفهم عما لعلهم أن ينتشروا إليه من متابعة الأهوية، وتمنعهم عن أن يخرج عنها منهم أحد، فالتاء في «كافة» للمبالغة، وعبارة ابن الجوزي: أي عامة لجميع الخلائق {للناس} أي كل من فيه قابلية لأن ينوس من الجن والإنس وغيرهم من جميع ما سوى الله وإن آذوك بكل أذى من النسبة إلى الافتراء أو الجنون أو غيرهما، فحال الإرسال محصور في العموم للغرض الذي ذكر من التدرع لحمل المشاق، لا في الناس، فإنه لو أريد ذلك لقدموا فقيل: إلا للناس كافة،(15/504)
وقد مضى في أوائل الأنعام عن السبكي ما ينفع هنا، والمعنى أن داود عليه السلام فضل بطاعة الجبال له والطير والحديد، وسليمان عليه السلام بما ذكر له، ففضيلتك أنت بالإرسال إلى كل من يمكن نوسه، فالحصا سبحت في كفك، والجبال أمرت بالسير معك ذهباً وفضة، والحمرة شكت إليك أخذ فراخها أو بيضها، والضب شهد لك، والجمل شكا إليك وسجد لك، والأشجار أطاعتك، والأحجار سلمت عليك وائتمرت بأمرك إلى غير ذلك من كل من ينوس بالفعل أو القابلية - والله أعلم، وأما الجن فحالهم مشهور، وأما الملائكة فالدلائل على الإرسال إليهم في غاية الظهور، وفي دلائل النبوة في باب التحدث بالنعمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية دليل على فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأنبياء بعموم الرسالة للإنس والجن.
ولما كانت البشارة هي الخبر الأول الصدق السار، وكان في ذكرها رد قولهم في الكذب والجنون، قال: {بشيراً ونذيراً} أي لمن أهل للبشارة أو النذارة. ولما كان هذا الإرسال مقروناً بدليله من الإتيان بالمعجز من نفسه من جهة البلاغة في نظمه وبالمعاني المحكمة في البشارة والنذارة وغير ذلك، قلب عليهم قولهم الذي لا دليل عليه(15/505)
ولا شبهة تصوب إليه في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله الذي هو أوضح من الشمس دليلاً، وأقوم كل قيل قيلاً: {ولكن} ولما كان الناس الأولين كل من ديه قابلية النوس وهم جميع الخلائق وأكثرهم غير عاص، أظهر مريداً الثقلين من الجن والإنس فقال: فأكثر الناس لا يعلمون أي ليس لهم قابلية العلم فيعلموا أنك رسول الله فضلاً عن أن إرسالك عام، بل هم كالأنعام، فهم لذلك لا يتأملون فيقولون «افترى أم به جنة» ونحو هذا من غير تدبر لما في هذا الكتاب من الحكمة والصواب مع الإعجاز في حالي الإطناب والإيجاز، والإضمار والإبراز، فيحملهم جهلهم على المخالفة والإعراض.
ولما سلب عنهم العلم، أتبعه دليله، فقال معبراً بصيغة المضارعة الدال على ملازمة التكرير للإعلام بأنه على سبيل الاستهزاء لا الاسترشاد: {ويقولون} أي ما أرسلناك إلا على هذا الحال والحال أن المنذرين يقولون جهلاً منهم بعاقبة ما يوعدونه غير مفكرين به في وجه الخلاص منه والتفصي عنه في كل حين استهزاء منهم: {متى هذا الوعد} أي بالبشارة والنذارة في يوم الجمع وغيره فسموه وعداً زيادة في الاستهزاء. ولما كان قول الجماعة أجدر بالقبول، وأبعد عن الرد من(15/506)
قول الواحد، أشار إلى زيادة جهلهم بقوله: {إن كنتم} أي أيها النبي وأتباعه! كوناً أنتم عريقون فيه {صادقين *} أي متمكنين في الصدق.(15/507)
قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
ولما تبين من سؤالهم أنه لم يكن للاسترشاد وإن هم بالغوا به في التكذيب والاستهزاء بعد الإبلاغ في إقامة الأدلة، أمره بأن يجيبهم بما يصلح للمعاند من صادع التهديد بقوله: {قل لكم} أي أيها الجامدون الأجلاف الذين لا يجوزون الممكنات، ولا يتدبرون ما أوضحها من الدلالات، مع ضعفهم عن الدفاع، والمبالغة والامتناع {ميعاد يوم} أي لا تحتمل العقول وصف عظمه لما يأتي فيه من العقاب سواء كان يوم الموت أو البعث. ولما كان تعلق النفوس بالمهلة عظيماً، قال: {لا تستأخرون} أي لا يوجد تأخركم ولا يمكن أن يطلب لحثيث الطلب وتعذر الهرب {عند ساعة} لأن الآتي به عظيم القدرة محيط العلم، ولذلك قال: {ولا تستقدمون} أي لا يوجد تقدمكم لحظة فما دونها ولا تتمكنون من طلب ذلك.
ولما دل سبحانه بملازمتهم للاستهزاء بهذا الإنذار على أنهم غير(15/507)
منفكين عن مذاهب الكفار، ذكر تصريحهم بذلك وحالهم في بعض الأوقات المنطبقة عليها الآية السالفة في قوله: {وقال الذين كفروا} حيث عبر بالموصول وصلته في موضع الضمير، قطعاً للأطماع عن دعائهم: {لن نؤمن} أي نصدق أبداً، وصرحوا بالمنزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإشارة فقالوا: {بهذا القرآن} أي وإن جمع جميع الحكم والمقاصد المضمنة لبقية الكتب {ولا بالذي بين يديه} أي قبله من الكتب: التوراة والإنجيل وغيرهما. بل نحن قانعون بما أدبنا به آباؤنا، وذلك أن بعض أهل الكتاب أخبروهم أن صفة هذا النبي عندهم في كتبهم، فأغضبهم ذلك فقالوه: {ولو} أي والحال أنك {ترى} أي يوجد منك رؤية لحالهم {إذ} هم - هكذا كان الأصل، ولكن أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال: {الظالمون} أي الذين يضعون الأشياء في غير محالها فيصدقون آباءهم لإحسان يسير مكدر بغير دليل، ولا يصدقون ربهم الذي لا نعمة عندهم ولا عند آبائهم إلا منه، وقد أقام لهم أدلة العقل بما ضرب لهم من الأمثال في الآفاق وفي أنفسهم، والنقل بهذا القرآن(15/508)
المدلول على صدقه بعد إظهار المعجزات المحسوسات بعجزهم عنه، فكأنهم سمعوه من الله المنعم الحق {موقوفون} أي بعد البعث بما يوقفهم من قدرته بأيدي جنوده أو بغيرها بأيسر أمر منه سبحانه قهراً لهم وكرهاً منهم: {عند ربهم} أي الذي أحسن إليهم فطال إحسانه فكفروا كلما أحسن به إليهم {يرجع بعضهم} أي على وجه الخصام عداوة. وكان سببها مواددتهم في الدنيا بطاعة بعضهم لبعض في معاصي الله، قال القشيري: ومن عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لاعتبروا، ولو اعتبروا لتابوا وتوافقوا، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً {إلى بعض القول} أي بالملاومة والمباكتة والمخاصمة، لرأيت أمراً فظيعاً منكراً هائلاً شنيعاً مقلقاً وجيعاً يسرك منظره، ويعجبك منهم أثره ومخبره، من ذلهم وتحاورهم وتخاذلهم حيث لا ينفعهم شيء من ذلك.
ولما كان هذا مجملاً، فسره بقوله على سبيل الاستئناف: {يقول الذين استضعفوا} أي وقع استضعافهم ممن هو فوقهم في الدنيا وهم الأتباع في تلك الحالة على سبيل اللوم والتأنيب {للذين استكبروا} أي أوجدوا الكبر وطلبوه بما وجدوا من أسبابه التي أدت إلى استضعافهم(15/509)
للأولين وهم الرؤوس المتبوعون: {لولا أنتم} أي مما وجد من استتباعكم لنا على الكفر وغيره من أموركم {لكنا مؤمنين *} أي عريقين في الإيمان لأنه لم يكن عندنا كبر من أنفسنا يحملنا على العناد للرسل.
ولما لم يتضمن كلامهم سوى قضية واحدة، ذكر الجواب بقوله تعالى: {قال الذين استكبروا} على طريق الاستئناف {للذين استضعفوا} رداً عليهم وإنكاراً لقولهم أنهم هم الذين صدوهم: {أنحن} خاصة {صددناكم} أي منعناكم وصرفناكم {عن الهدى} ولما كانوا لا يؤاخذون بإهمال دليل العقل قبل إتيان الرسل، أشاروا إلى ذلك بقولهم: {بعد إذ جاءكم} أي على ألسنة الرسل.
ولما كان المعنى: إنا لم نفعل ذلك، حسن أن يقال: إنهم هم الذين ضلوا بأنفسهم لا بإضلالهم، فقالوا: {بل كنتم} أي جبلة وخلقاً {مجرمين *} أي عريقين في قطع ما ينبغي وصله بعد إتيان الهدى مختارين لذلك كما كنتم قبله أتباعاً لنا ما ردتم ولا ردنا، ولما تضمن قولهم أمرين: ادعاء عراقتهم في الإجرام، وإنكار كونهم سبباً فيه، أشار إلى ردهم للثاني بالعاطف على غير معطوف عليه إعلاماً بأن التقدير: قال الذين استضعفوا: كذبتم فيما ادعيتم من عراقتنا في الإجرام: {وقال الذين استضعفوا} عطفاً على هذا المقدر {للذين استكبروا}(15/510)
ردّاً لإنكارهم صدهم: {بل} الصاد لنا {مكرُ الليل والنهار} أي الواقع فيهما من مكركم بنا، أو استعير إسناد المكر إليهما لطول السلامة فيهما، وذلك للاتساع في الظرف في إجرائه مجرى المفعول به {إذ تأمروننا} على الاستمرار {أن نكفر بالله} أي الملك الأعظم بالاستمرار على ما كنا عليه قبل إتيان الرسل {ونجعل له أنداداً} أي أمثالاً نعبدهم من دونه {وأسروا} أي يرجعون والحال أن الفريقين أسروا {والندامة لما} أي حين {رأوا العذاب} لأنهم بينما هم في تلك المقاولة وهم يظنون أنها تغني عنهم شيئاً وإذا بهم قد بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون فأبهتهم فلم يقدروا لفوات المقاصد وخسران النفوس أن نسبوا بكلمة، ولأجل أن العذاب عم الشريف منهم والوضيع. قال تعالى: {وجعلنا الأغلال} أي الجوامع التي تغل اليد إلى العنق {في أعناق الذين كفروا} فأظهر موضع الإضمار تصريحاً بالمقصود وتنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم ذلك.
ولما كانت أعمالهم لقبحها ينبغي البراءة منها، فكانت بملازمتهم لها كأنها قد قهرتهم على ملازمتها وتقلدها طوق الحمامة فهم يعاندون الحق من غير التفات إلى دليل قال منبهاً على ذلك جواباً لمن كأنه(15/511)
قال: لم خصت أعناقهم وأيديهم بهذا العذاب؟ : {هل يجزون} أي بهذه الأغلال {إلا ما كانوا} أي كوناً هم عريقون فيه {يعملون *} أي على سبيل التجديد والاستمرار مما يدعون أنهم بنوه على العلم، وذلك الجزاء - والله أعلم - هو ما يوجب قهرهم وإذلالهم وإخزاءهم وإنكاءهم وإيلامهم كما كانوا يفعلون مع المؤمنين ويتمنون لهم.(15/512)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)
ولما كان في هذا تسلية أخروية، أتبعه التسلية الدنيوية، فقال عطفاً على ما تقديره: وما أرسلنا غيرك إلا إرسالاً خاصاً لأمته، عطفاً على {ما أرسلناك إلا كافة} وساقه مؤكداً لأنه مضمونه - لكونه في غاية الغرابة - مما لا يكاد يصدق: {وما أرسلنا} أي بعظمتنا ولما كان المقصود التعميم، لأنه لم يتقدم قول قريش ليخص التسلية بمن قبلهم، أسقط القبلية بخلاف ما في سورة الزخرف فقال: {في قرية} وأكد النفي بقوله: {من نذير} أي ينذرهم وخامة ما أمامهم من عوقب أفعالهم، ودل بإفراده عن البشارة أن غالب الأمم الماضية من أهل النذارة لنظهر مزية هذه الأمة، ولعله عبر به إشارة إلى الناسخين للشرائع التي قبلهم دون المجددين من أنبياء بني إسرائيل فإن بعضهم(15/512)
لم يكذب {إلا قال مترفوها} أي العظماء الذين لا شغل لهم إلا التنعم بالفاني حتى أكسبهم البغي والطغيان: {إنا بما أرسلتم به} أي أيها المنذرون {كافرون} أي وإذا قال المنعمون ذلك تبعهم المستضعفون فإذا وقفوا عندنا تقاولوا بما تقدم ثم لم ينفعهم ذلك {وقالوا} مفاخرين ودالين على أنهم فائزون كما قال لك هؤلاء كأنهم تواصلوا به: {نحن أكثر} .
ولما كانت الأموال في الأغلب سبباً لكثرة الأولاد بالاستكثار من النساء الحرائر والإماء، قدمها فقال: {أموالاً وأولاداً} أي في هذه الدنيا، ولو لم يرض منا ما نحن عليه ما رزقنا ذلك {وما نحن} أي الآن {بمعذبين *} أي بثابت عذابنا، وإنما تعرض لنا أحوال خفيفة من مرض وشدائد هي أخف من أحوالكم، وحالياً الآن دليل على حالنا فيما يستقبل من الزمان كائناً ما كان، فإن الحال نموذج المآل، والأول دليل الآخر، فإن كان ثَم آخرة كما تقولون فنحن أسعد منكم فيها كما نحن أسعد منكم الآن، ولم تنفعهم قصة سبأ في ذلك فإنهم لو تأملوا لكفتهم، وأنارت أبصار بصائرهم، وصححت أمراض قلوبهم وشفتهم، فإنهم كانوا أحسن الناس حالاً، فصاروا أقبحهم مآلاً.(15/513)
ولما كانت لشبهتهم هذه شعبتان تتعلق إحداهما بالذات والأخرى بالثمرات، بدأ بالأولى لأنها أهم، فقال مؤكداً تكذيباً لمن يظن أن سعيه يفيد في الرزق شيئاً لولا السعي ما كان: {قل} يا أكرم الخلق على الله! مؤكداً لأجل إنكارهم لأن يوسع في الدنيا على من لا يرضى فعله: {إن ربي} أي المحسن إليّ بالإنعام بالسعادة الباقية {يبسط الرزق} أي يجدده في كل وقت أراده بالأموال والأولاد وغيرها {لمن يشاء ويقدر} أي يضيق على من يشاء منكم أن يكون جميع الموسع عليهم على ما هو حق عنده ومرضى له، لاختلافهم في الأصول وتكفير بعضهم لبعض، فإن الله معذب بعضهم لا محالة، فبطلت شبهتهم، وثبت أنه يفعل ما يشاء ابتلاء وامتحاناً، فلا يدل البسط على الرضى ولا القبض على السخط - على ما عرف من سنته في هذه الدار {ولكن أكثر الناس} أي الذين لم يرتفعوا عن حد النوس والاضطراب {لا يعلمون *} أي ليس لهم(15/514)
علم ليتدبروا به ما ذكرنا من الأمر فيعلموا أنه ليس كل موسع عليه في دنياه سعيداً في عقباه.
ولما هدم ما بالذات، أتبعه ما بالثمرات، فقال مؤكداً تكذيباً لدعواهم: {وما أموالكم} أي أيها الخلق الذين أنتم من جملتهم وإن كثرت، وكرر النافي تصريحاً بإبطال كل على حياله فقال: {ولا أولادكم} كذلك، وأثبت الجار تاكيداً للنفي فقال واصفاً الجمع المكسر بما هو حقه من التأنيث: {بالتي} أي بالأموال والأولاد التي {تقربكم عندنا} أي على ما لنا من العظمة بتصرفاتكم فيها بما يكسب المعالي {زلفى} أي درجة علية وقربة مكينة قال البغوي: قال الأخفش: هي اسم مصدر كأنه قال: تقريباً، ثم استثنى من ضمير الجمع الذي هو قائم مقام أحد، فكأنه قيل: لا تقرب أحداً {إلا من} أو يكون المعنى على حذف مضاف أي إلا أموال وأولاد من {آمن} أي منكم {وعمل} تصديقاً لإيمانه على ذلك الأساس {صالحاً} أي في ماله بإنفاقه في سبيل الله وفي ولده بتعليمه الخير.
ولما منّ على المصلحين من المؤمنين في أموالهم وأولادهم بأن جعلها سبباً لمزيد قربهم، دل على ذلك بالفاء في قوله: {فأولئك}(15/515)
أي العالو الرتبة {لهم جزاء الضعف} أي بأن يأخذوا جزاءهم مضاعفاً في نفسه من عشرة أمثال إلى ما لا نهاية له، ومضاعفاً بالنسبة إلى جزاء من تقدمهم من الأمم، والضعف: الزيادة {بما عملوا} فإن أعمالهم ثابتة محفوظة بأساس الإيمان {وهم في الغرفات} أي العلالي المبنية فوق البيوت في الجنان، زيادة على ذلك {آمنون *} أي ثابت أمنهم دائماً، لا خوف عليهم من شيء من الأشياء أصلاً، وأما غيرهم وهم المرادون بما بعده فأموالهم وأولادهم وبال عليهم.
ولما كان في سياق الترغيب في الإيمان بعد الإخبار بأنه بشير ونذير قال معبراً بالمضارع بياناً لحال من يبعده ماله وولده من الله: {والذين يسعون} أي يجددون السعي من غير توبة بأموالهم وأولادهم {في آياتنا} على ما لها من عظمة الانتساب إلينا {معاجزين} أي طالبين تعجيزها أي تعجيز الآتين بها عن إنفاذ مراداتهم بها بما يلقونه من الشبه فيضلون غيرهم بما أوسعنا عليهم وأعززناهم به من الأموال والأولاد.
ولما كان سبحانه قد بت الحكم بشقاوتهم، وأنفذ القضاء بخسارتهم، أسقط فاء السبب إعراضاً عن أعمالهم وقال: {أولئك} أي البعداء(15/516)
البغضاء {في العذاب} أي المزيل للعدوية {محضرون *} أي يحضرهم فيه الموكلون بهم من جندنا على أهون وجه وأسهله وهم داخرون، قال القشيري: إن هؤلاء هم الذين لا يحترمون الأولياء ولا يراعون حق الله في السر، فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله ثم في عذاب السقوط من عين الله.(15/517)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
ولما أبطل شبهتهم بشعبيتها بالنسبة إلى الأشخاص المختلفة، قرب ذلك بدليل واحد في شخص واحد فقال: {قل} يا أشرف الخلق لهؤلاء الجهلة الذين يظنون أن الرزق بحسب حسن السعي وقبحه أو حسن حال الشخص عند الله وقبحها: {إن ربي} أي المحسن إليّ بهذا البيان المعجز {يبسط الرزق} أي متى شاء {لمن يشاء من عباده} أي على سبيل التجدد المستمر من أيّ طائفة كان {ويقدر له} أي يضيق عليه نفسه في حالتين متعاقبتين، وهو بصفة واحدة على عمل واحد، فلو أن الإكرام والإنعام يوجب الدوام لما تغيرت حاله من السعة إلى الضيق، ولو أن في يده نفع نفسه لما اختلف حاله.
ولما بين هذا البسط أن فعله بالاختيار بعد أن بين بالأول كذبهم في أنه سبب للسلامة من النار. دل على أنه الفاعل لا غيره بقوله: {وما أنفقتم من شيء} أي أنتم وأخصامكم وغيرهم {فهو يخلفه}(15/517)
أي لا غيره بدليل أن المنفق قد يجتهد كل الاجتهاد في الإخلاف فلا ينفق، فدل ذلك على أنه المختص بالإخلاف، ولأن هذا هو المعنى لا أنه ضمن الإخلاف لكل من ينفق على أي وجه كان، قال مجاهد كما نقله الرازي في اللوامع: «إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول الآية، فإن الرزق مقسوم، وما عال من اقتصد» كما رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً، والمعنى أنه قد دل الإخلاف على جميع الأشكال والأضداد على أن الأمر فيه على غير ما ظننتم من الإسعاف به في وقت موجب للإكرام على الدوام، وأن ذلك إنما هو لضمانه الرزق لكل أحد بحسب ما قسمه له من سبق به عمله وقدرته حكمته، وتارة يكون إخلافه حساً وبالفعل، وتارة يكون معنى وبالقوة، بالترضية بتلك الحالة التي أدت إلى العدم، قال القشيري: وهو أتم من السرور بالموجود، ومن ذلك الأنس بالله في الخلوة، ولا يكون ذلك إلا مع التجريد - انتهى. والمنفق بالاقتصاد داخل أن شاء الله تعالى تحت قول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الشيخان: البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال الله تعالى: «أنفق أنفق عليك» وما روى الشيخان وابن حبان في صحيحه أيضاً «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول(15/518)
الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً» فهو خير الموسعين {وهو خير الرازقين *} أي الذين تعدونهم هذا العداد ممن يقيمهم هو سبحانه لكم فتضيفون الرزق إليهم، فإنهم وسائط لا يقدرون إلا على ما قدرهم، وأما هو سبحانه فهو يوجد المعدوم، ويرزق من يطيعه ومن يعصيه، ولا يضيق ترزيقه بأحد، ولا يشغله فيه أحد عن أحد، بل يبعث في كل يوم لكل أحد رزقه في آن واحد كما ينشر عليهم نوره بالشمس في آن واحد من غير توقيف لذلك على شيء من الأشياء غير سبق به العلم في الأزل.
ولما أبطل شبهتهم فعلم بذلك أن الأمر كله له، وأنهم في محل الخطر، وكان قد بقي من شبههم أنهم يقولون: نحن نعبد الملائكة فهم يشفعون لنا، وكان الأنبياء عليهم السلام لا ينكرون أن الملائكة مقربون أبطل ما يتعلقون به منهم، وبين أنه لا أمر لهم وأنهم بريئون منهم، فقال عاطفاً على {إذ الظالمون} : {ويوم نحشرهم} أي نجمعهم جمعاً بكره بعد البعث، وعم التابع والمتبرع بقوله: {جميعاً} .
ولما كانت مواقف الحشر طويلة وزلازله مهولة قال: {ثم نقول للملائكة} أي توبيخاً للمشركين وإقناطاً مما يرجون منهم من الشفاعة. ولما كانت العبادة لا تنفع إلا إذا كان المعبود راضياً بها وكانت خالصة، قال مبكتاً للمشركين وموبخاً ليكون هناك سؤال وجواب(15/519)
فيكون التقريع أشد والخجل به أعظم، والخوف والهوان أتم وألزم ويكون اقتصاص ذلك عظة للسامعين، وزجراً للجاهلين، وتنبيهاً للغافلين، على طريق {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] الآيات: {أهؤلاء} أي الضالون؛ وأشار إلى أنه لا ينفع من العبادة إلا ما كان خالصاً فقال: {إياكم} أي خاصة {كانوا يعبدون *} بأفعالهم الاختيارية والقسرية ليعلم أنهم عبيد لكم تستحقون عبادتهم، وفي التعبير بما يدل على الاختصاص تنبيه لقريش على أنه لا يعتد من العبادة إلا بالخالص {قالوا} أي الملائكة متبرئين منهم مفتتحين بالتنزيه تخضعاً بين يدي البراءة خوفاً من حلول السطوة {سبحانك} أي ننزهك تنزيهاً يليق بجلالك عن أن يستحق أحد غيرك أن يعبد.
ولما كانوا كارهين جداً لعبادتهم، وكانت فائدة العبادة الوصلة بين العابد والمعبود قالوا: {أنت ولينا} أي معبودنا الذي لا وصلة بيننا وبين أحد إلا بأمره {من دونهم} أي من أقرب منزلة لك من منازلهم منا، فأنت أقرب شيء إلينا في كل معاني الولاية من العلم والقدرة وغيرهما، فكيف نترك الأقرب والأقوى ونتولى الأبعد العاجز، ليس بيننا وبينهم من ولاية، بل عداوة، وكذا كل(15/520)
من تقرب إلى شخص بمعصية الله يقسي الله قلبه عليه ويبغضه فيه فيجافيه ويعاديه.
ولما كان من يعمل لأحد عملاً لم يأمر به ولم يرضه إنما عمل في الحقيقة للذي دعاه إلى ذلك العمل قالوا: {بل كانوا} بأفعالهم الاختيارية الموجبة للشرك {يعبدون الجن} أي إبليس وذريته الذين زينوا لهم عبادتنا من غير رضانا بذلك، وكانوا يدخلون في أجواف الأصنام ويخاطبونهم ويستجيرون بهم في الأماكن المخوفة، ومن هذا تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة؛ ثم استأنفوا قولهم: {أكثرهم} أي الإنس {بهم} أي الجن {مؤمنون *} أي راسخون في الإشراك لا يقصدون بعبادتهم غيرهم، وقليل منهم من يقصد بعبادته بتزيين الجن وغيرهم وهو راض بها، فهي في الحقيقة لمن زينها لهم من الجن، وهم مع ذلك يصدقون ما يرد عليهم من إخبارات الجن على ألسنة الكهان وغيرهم مع ما يرون فيها من الكذب في كثير من الأوقات.
ولما بطلت تمسكاتهم، وتقطعت تعلقاتهم، تسبب عن ذلك تقريعهم الناشئ عنه تنديمهم بقوله بلسان العظمة: {فاليوم} أي يوم مخاطبتهم(15/521)
بهذا التبكيت وهو يوم الحشر {لا يملك} أي شيئاً من الملك {بعضكم لبعض} أي من المقربين والمبعدين. ولما كان المدار على الخلاص والسياق للشفاعة، قدم النفع فقال: {نفعاً} وأكمل الأمر بقوله: {ولا ضراً} تحقيقاً لقطع جميع الأسباب التي كانت في دار التكليف من دار الجزاء التي المقصود فيها تمام إظهار العظمة لله وحده على أتم الوجوه.
ولما كان المعنى: فاليوم نسلب الخلائق ما كنا مكناهم منه في الدنيا من التنافع والتضارر. وتلاشى بذلك كل شيء سواه، أثبت لنفسه المقدس ما ينبغي، فقال عاطفاً على هذا الذي قدرته: {ونقول} أي في ذلك الحال من غير إمهال ولا إهمال {للذين ظلموا} أي بوضع العبادة في غير موضعها ولا سيما من ضم إلى ذلك إنكار المعاد عند إدخالنا لهم النار: {ذوقوا عذاب النار} ولما لم يتقدم للعذاب وصف بترديد - كما تقدم في السجدة - ولا غيره، كان المضاف إليه أحق بالوصف لأنه المصوب إليه بالتكذيب فقال: {التي كنتم} أي جبلة وطبعاً {بها تذكبون *} .(15/522)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
ولما أخبر أنهم أبوا الإيمان بالقرآن، المخبر بالغيب من أمر الرحمن(15/522)
الذي هدت إليه العقول، وشاهدت آثاره العيون، في هذا الكلام المعجز، فتظافرت على ما أخبرت به أدلة السمع والبصر والعقل، وختم بأنهم آمنوا بالجن غيباً وعبدوهم من دون الله بما لم يدع إليه عقل ولا نفل، وصدقوهم من الإخبار بما إن صدقوا في شيء منه خلطوا معه أكثر من مائة كذبة، وسلب أعظم من ادعوا أنهم استندوا إليه النفع والضر، وأسند تعذيبهم إلى تكذيبهم، أتبعه الإخبار بأنهم لازموا الإصرار على ذلك الكفر والتكذيب بما كله صدق وحكم فقال: {وإذا تتلى} أي في وقت من الأوقات من أيّ تال كان {عليهم} أي خاصة لم يشركهم غيرهم ليقولوا: إنه المقصود بالتلاوة، فلا يلزمهم الاستماع {آياتنا} حال كونها {بينات} ما قالت شيئاً إلا ظهرت حقيته {قالوا} أي على الفور من غير تأمل لما حملهم على ذلك من حظ النفس.
ولما كان المستكبرون يرون ما للرسالة من الظهور، وللرسول من القبول، وأن أتباعهم قد ظهر لهم ذلك، فمالوا إليه بكلياتهم، أكده قولهم: {ما هذا} أي التالي لها على ما فيه من السمت المعلم بأنه أصدق الخلق وأعلاهم همة وأبينهم نصيحة {إلا رجل} أي مع كونه واحداً هو مثل واحد من رجالكم، وتزيدون عليه أنتم بالكثرة،(15/523)
ولم يسندوا الفعل إليهم نفياً للغرض عن أنفسهم وإلهاباً للمخاطبين فقالوا: {يريد أن يصدكم} أي بهذا الذي يتلوه {عما كان} دائماً {يعبد آباؤكم} أي لا قصد له إلا ذلك لتكونوا له أتباعاً، وألهبوا السامعين بتصوير آبائهم بذكر «كان» والفعل المضارع ملازمين للعبادة ليثبتوا على كفرهم بما لا دليل عليه ولا شبهة ولا داع سوى التقليد.
ولما كانت أدلة الكتاب واضحة، خافوا عاقبتها في قبول الاتباع لها، فجزموا بأنها كذب ليوقفوهم بذلك، فحكى ذلك عنهم سبحانه بقوله: {وقالوا ما هذا} أي القرآن {إلا إفك} أي كذب مصروف عن وجهه {مفترى} أي متعمد ما فيه من الصرف.
ولما كان فيه ما لا يشك أحد في حقيته، لبسوا عليهم بأنه خيال يوشك أن ينكشف إيقافاً لهم إلى وقت ما، فقال تعالى إخباراً عنهم: {وقال} ولما كان الحق قد يخفى، ولم يقيده بالبيان كما فعل في الآيات، أظهر موضع الإضمار بياناً للوصف الحامل لهم على ذلك القول وهو التدليس، فقال: {الذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه العقول من حقية القرآن، {للحق} أي الذي لا أثبت منه باعتبار كمال الحقية فيه {لما جاءهم} أي من غير أن يمهلوا النظر ولا تدبر ليقال إن الداعي لهم إلى ما قالوا نوه شبهة عرضت لهم، بل أظهروا بالمسارعة إلى الطعن أنه مما لا يتوقف فيه، وأكدوا لما تقدم من خوفهم على أتباعهم(15/524)
ليخيلوهم فقالوا: {إن} أي ما {هذا} أي الثابت الذي لا يكون شيء أثبت منه {إلا سحر} أي خيال لا حقيقة له {مبين *} أي ظاهر العوار جداً، فهو ينادي على نفسه بذلك، فلا تغتروا بما فيه مما تميل النفوس ويؤثر في القلوب، ولقد انصدّ لعمري بهذا التلبيس - مع أن في نسبتهم له إلى السحر الاعتراف بالعجز - بشر كثير برهة حتى هدى الله بعضهم، وتمادى بالآخرين الأمر حتى ماتوا على ضلالهم، مع أنه كان ينبغي لكل من رأى مبادرتهم وتحرقهم أن يعرف أنهم متغرضون، لم يحملهم على ذلك إلا الحظوظ النفسانية، والعلق الشهوانية، قال الطفيل ابن عمرو الدوسي ذو النور رضي الله عنه: لقد اكثروا عليّ في أمره حتى حشوت في أذنيّ الكرسف خوفاً من أن يخلص إلى شيء من كلامه فيفتنني، ثم أراد الله بي الخير فقلت: واثكل أمي إني والله لبيب عاقل شاعر، ولي معرفة بتمييز غث الكلام من سمينه، فما لي لا أسمع منه، فإن كان حقاً تبعته، وإن كان(15/525)
باطلاً كنت منه على بصيرة - أو كما قال، قال: فقصدت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: اعرض عليّ ما جئت به، فلما عرضه عليّ بأبي هو وأمي ما سمعت قولاً قط أحسن منه ولا أمراً أعدل منه فما توقفت في أن أسلمت، ثم سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدعو الله له أن يعطيه آية تعينه على قومه، فلما أشرف على حاضر قومه كان له نور في جبهته، فخشي أن يظنوا أنها مثلة، فدعا بتحويله، فتحول في طرف سوطه، فأعانه الله على قومه فأسلموا.
ولما بارزوا بهذا القول من غير أثارة من علم ولا خبر من سمع، بين ذلك معجباً من شأنهم، موضحاً لعنادهم، بقوله مؤكداً إشارة إلى أن ما يجترئون عليه من الأقوال التي لا سند لها إلا التقليد لا يكون إلا عن كتاب أو رسول: {وما} أي قالوا ذلك والحال أنا ما {آتيناهم} أي هؤلاء العرب أصلاً لأنه لم ينزل عليهم قط قبل القرآن كتاب، وعبر بمظهر العظمة إشارة إلى أن هذا مقام خطر وموطن وعر جداً لأنه أصل الدين، فلا يقنع فيه إلا بأمر عظيم، وأكد هذا المعنى بقوله: {من كتب} بصيغة الجمع مع تأكيد النفي بالجار قبل كتابك الجامع {يدرسونها} أي يجددون(15/526)
دراستها في كل حين، فهي متظاهرة الدلالة باجتماعها على معنى واحد متواترة عندهم لا شبهة في أمرها ليكون ذلك سبباً للطعن في القرآن إذا خالف تلك الكتب {وما أرسلنا} أي إرسالاً لا شبهة فيه لمناسبته لما لنا من العظمة {إليهم} أي خاصة، بمعنى أن ذلك الرسول مأمور بهم باعيانهم، فهم مقصودون بالذات، لا أنهم داخلون في عموم، أو مصقودون من باب الأمر بالمعروف في جميع الزمان الذي {قبلك} أي من قبل رسالتك الجامعة لكل رسالة ليخرج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإنهما كانا في بعض الزمان الماضي، أو أن المراد في الفترة بعد عيسى عليه السلام كما تقدم في السجدة نقله عن ابن عباس ومقاتل، ويجوز أن يراد بعد إسماعيل عليه السلام لأن عيسى عليه السلام - وإن أرسل إلى العرب رسله - لم يكن مرسلاً إلا إلى قومه، وإرساله إلى غيرهم إنما هو من باب الأمر بالمعروف، وشعيب عليه السلام إنما كانت رسالته إلى طائفة أو أثنتين منهم وقد يقال: الذي يدل عليه استغراق جميع الزمان الماضي بالتجريد عن الخافض أن المراد إنما هو نفي الإرسال بهذا الباطل الذي إدعوه لا مطلق الإرسال، وأكد النفي بقوله: {من نذير *} أي ليكون عندهم قول منه يغبر في وجه القرآن، فيكون حاملاً لهم على الطعن.
ولما نفى موجب الطعن، ذكر المانع الموجب للإذعان فقال:(15/527)
{وكذب} أي فعلوا ما فعلوا، الحال أنه قد كذب {الذين من قبلهم} أي من قوم نوح ومن بعدهم بادروا إلى ما بادر إليه هؤلاء، لأن التكذيب كان في طباعهم لما عندهم من الجلافة والكبر {وما بلغوا} أي هؤلاء {معشار ما آتيناهم} أي عشراً صغيراً مما آتينا أولئك من القوة في الأبدان والأموال والمكنة في كل شيء من العقول وطول الأعمار والخلو من الشواغل {فكذبوا} أي بسبب ما طبعوا عليه من العناد، وأفرد الضمير كما هو حقه ونصاً على أن النون فيما مضى للعظمة لا للجمع دفعاً لتعنت متعنت فقال: {رسلي} .
ولما كان اجتراؤهم على الرسل سبب إهلاكهم على أوجه عجيبة، صارت مثلاً مضروباً باقياً إلى يوم القيامة ولم يغن عنهم في دفع النقم ما بسط لهم من النعم، كان موضع أن يقال لرائيه أو لسامعه: {فكيف كان نكير *} أي فيما كان له من الشدة التي هي كالجبلة أي إنكاري على المكذبين لرسلي، ليكون السؤال تنبيهاً لهذا المسؤول وداعياً له إلى الإذعان خوفاً من أن يحل به ما حل بهم أن فعل مثل ما فعلهم سواء كان الإنكار في أدنى الوجوه كما أوقعناه سبباً من تعطيل الأسباب، أو أعلاها كما أنزلنا بقوم نوح عليه السلام ومن شاكلهم(15/528)
وصب العذاب والاستئصال الوحيّ بالمصاب على ما أشارت إليه قراءتا حذف الياء وإثباتها.(15/529)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
ولما أبطل شبههم كلها، وليّن من عريكتهم بالتنبيه على التحذير، فصاروا جديرين بقبول الوعظ، وكان مما رموه به - وحاشاه - الجنون وتعمد الكذب، أمره بالإقبال عليهم به مخففاً له لئلا ينفروا من طوله فقال: {قل} وأكده زيادة في استجلابهم إلى الإقبال عليه فقال: {إنما أعظكم بواحدة} أي فاسمعوا ولا تنفروا خوفاً من أن أملّكم؛ ثم استأنف قوله بياناً لها: {أن تقوموا} أي توجهوا نفوسكم إلى تعرف الحق، وعبر بالقيام إشارة إلى الاجتهاد {لله} أي الذي لا أعظم منه على وجه الإخلاص واستحضار ما له من العظمة بما له لديكم من الإحسان لا لإرادة المغالبة حال كونكم {مثنى} أي اثنين اثنين، وقدمه إشارة ألى أن أغلب الناس ناقص العقل {وفرادى} أي واحداً واحداً، من وثق بنفسه في رصانه عقله وأصالة رأيه قام وحده ليكون أصفى لسره، وأعون على خلوص فكره، ومن خاف عليها ضم إليه آخر ليذكره إن نسي. ويقومه إن زاغ. ولما كان هذا القسم أكثر وجوداً في الناس قدمه ولم يذكر غيرهما من الأقسام، إشارة إلى أنهم إذا كانوا على هاتين الحالتين كان أجدر لهم(15/529)
بأن يعرفوا الحق من غير شائبة حظ مما يكون في الجمع الكثير من الجدال واللفظ المانع من تهذيب الرأي وتثقيف الفكر وتنقية المعاني.
ولما كان ما طلب منهم هذا لأجله عظيماً جديراً بأن يهتم له هذا الاهتمام، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم تتفكروا} أي تجتهدوا بعد التأني وطول التروي في الفكر فيما وسمتم به صاحبكم من أمر الجنون. ولما كان بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا آمراً لا يتمارى فيه، استأنف قوله معيناً بالتعبير بالصاحب مؤكداً تكذيباً لهم وتنبيهاً على ظهور مضمون هذا النفي: {ما بصاحبكم} أي الذي دعاكم إلى الله وقد بلوتموه صغيراً ويافعاً وشاباً وكهلاً، وأعرق في النفي بقوله: {من جنة} وخصها لأنها مما يمكن طروءه، ولم يعرّج على الكذب لأنه مما لا يمكن فيمن عاش بين أناس عمراً طويلاً ودهراً دهيراً يصحبهم ليلاً ونهاراً صباحاً ومساءً سراً وعلناً في السراء والضراء، وهو أعلاهم همة وأوفاهم مروءة، وأزكاهم خلائق وأظهرهم شمائل، وأبعدهم عن الأدناس ساحة في مطلق الكذب، فكيف بما يخالف أهواءهم فكيف بما ينسب إلى الله فكيف وكلامه الذي ينسب فيه إلى الكذب معجز بما فيه(15/530)
من الحكم والأحكام، والبلاغة والمعاني التي أعيت الأفهام.
ولما ثبت بهذا إعلاماً وإفهاماً براءته مما قذفوه به كله، حصر أمره في النصيحة من الهلاك، فقال منبهاً على أن هذا الذي أتاهم به لا يدعيه إلا أحد رجلين: إما مجنون أو صادق هو أكمل الرجال، وقد انتفى الأول فثبت الثاني: {إن} أي ما {هو} أي المحدث عنه بعينه {إلا نذير لكم} أي خاصاً إنذاره وقصده الخلاص بكم، وهول أمر العذاب بتصويره صورة من له آلة بطش محيطة بمن تقصده فقال: {بين يدي} أي قبل حلول {عذاب شديد *} قاهر لا خلاص منه، إن لم ترجعوا إليه حل بكم سريعاً، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
«صعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصفا ذات يوم فقال: يا صباحاه! فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، فقال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل {تبت يدا أبي لهب وتب} » .
ولما انتفى عنه بهذا ما خيلوا به، بقي إمكان أن يكون لغرض أمر دنيوي فنفاه بأمره بقوله: {قل} أي للكفرة: {ما}(15/531)
أي مهما {سألتكم من أجر} أي على دعائي لكم {فهو لكم} لا أريد منه شيئاً، وهو كناية عن أني لا أسألكم على دعائي لكم إلى الله أجراً أصلاً بوجه من الوجوه، فإذا ثبت أن الدعاء ليس لغرض دنيوي، وأن الداعي أرجح الناس عقلاً، ثبت أن الذي حمله على تعريض نفسه لتلك الأخطار العظيمة إنما هو أمر الله الذي له الأمر كله. ولما كانوا يظنون به في بعض ظنونهم أنه يريد أمراً دنيوياً، أكد قوله: {إن} أي ما {أجري إلا على الله} أي الذي لا أعظم منه، فلا ينبغي لذي همة أن يبتغي شيئاً إلا من عنده {وهو} أي والحال أنه {على كل شيء شهيد *} أي بالغ العلم بأحواله، فهو جدير بأن يهلك الظالم ويعلي كعب المطيع.
ولما لم يبق شيء يخدش في أمر المبلغ، أتبعه تصحيح النقل جواباً لمن كأنه يقول: برئت ساحتك، فمن لنا بصحة مضامين ما تخبر؟ فقال مؤكداً لإنكارهم أن يكون ما يأتي به حق معيداً الأمر بالقول، إشارة إلى أن كل كلام صدر دليل كاف مستقل بالدلالة على ما سبق له: {قل} لمن أنكر التوحيد والرسالة والحشر معبراً بما يقتضي العناية الموجبة لنصره على كل معاند، {إن ربي} أي المحسن إلي بأنواع الإحسان، المبيض لوجهي عند الامتحان {يقذف بالحق} أي يرمي به في إثبات جميع ذلك وغيره مما يريد رمياً وحياً جداً لأنه غني عن(15/532)
تدبر أو تروِّ أو تفكر في تصحيح المعنى أو إصلاح اللوازم لأنه علام الغيوب، فيفضح من يريد إطفاء نوره فضيحة شديدة، ويرهق باطله كما فعل فيما وسمتموني به وفي التوحيد وغيره لا كما فعلتم أنتم في مبادرتكم إلى نصر الشرك وإلى ما وصفتموني به ووصفتم ما جئت به، فلزمكم على ذلك أمور شنيعة منها الكذب الصريح، ولم تقدروا أن تأتوا في أمري ولا في شيء من ذلك بشيء يقبله ذو عقل أصلاً.
ولما وصفه بنهاية العلم، أتبعه بعض آثاره فقال: {قل جاء الحق} أي الأمر الثابت الذي لا يقدر شيء أن يزيله؛ وأكد تكذيباً لهم في ظنهم أنهم يغلبون فقال: {وما} أي والحال أنه ما {يبدئ الباطل} أي الذي أنتم عليه وغيره في كل حال حصل فيه تفريعه على مر الأيام {وما يعيد *} بل هو كالجماد لا حركة به أصلاً، لأنه مهما نطق به صاحبه في أمره بعد هذا البيان افتضح، فإن لم ترجعوا عنه طوعاً رجعتم وأنتم صغره كرهاً، والحاصل أن هذا كناية عن هلاكه بما يهز(15/533)
النفس ويرفض الفكر بتمثيله بمن انقطعت حركته، وذهبت قوته، حتى لا يرجى بوجه.(15/534)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
ولما لم يبق بعد هذ إلا أن يقولوا عناداً: أنت ضال، ليس بك جنون ولا كذب، ولكنك قد عرض لك ما أضلك عن المحجة، قال: {قل} أي لهؤلاء المعاندين على سبيل الاستعطاف بما في قولك من الانصاف وتعليم الأدب: {إن ضللت} أي عن الطريق على سبيل الفرض {فإنما أضل} ولما كان الله تعالى قد جعل العقل عقلاً يمنع من الخطأ وينهى عن الهوى، وكان الغلط لا يأتي إلا من شواغل النفس بشهواتها وحظوظها، فكان التقدير: بما في نفسي من الشواغل العاقلة للعقل، قال مشيراً إلى ذلك: {على نفسي} أي لأن الضلال إذا استعلى على شيء ظهر أمره فيتبين عواره فيلزم عاره، ويصير صاحبه بحيث لا يدري شيئاً ينفع ولا يعيد، ولذلك يصير يفزع إلى السفه والمشاتمة كما وقع في مذاهبكم كلها، لأن الله تعالى جعل العقول الصحيحة معياراً على ذلك، فمهما ذكرت طرق الحق وحُررت ظهر أمر الباطل وافتضح. ولما كانت النفس منقادة بل مترامية نحو الباطل، عبر في الضلال بالمجرد، وفي الهدى بالافتعال إشارة إلى أنه لا بد(15/534)
فيه من هاد وعلاج، وعبر بأداة الشك استعمالاً للأنصاف فقال: {وإن اهتديت فبما} أي فاهتدائي إنما هو بما {يُوحي إليَّ ربي} أي المحسن إليّ لا بغيره، فلا يمكن فيه ضلال لأنه لا حظ فيه للنفس أصلاً، فلا يقدر أحد على شيء من طعن في شيء منه، وهداي لنفسي، فالآية ظاهرها التنزل منه وباطنها إرشادهم إلى تسديدهم النظر وتقويمه وتهذيب الفكر وتثقيفه، وهي من الاحتباك: حذف أولاً كون الضلال من نفسه بما دل عليه ثانياً من أن الهدى من الوحي وثانياً كون الهدى له بما دل عليه من كون الضلال عليه ثم علل الضلال والهدى بقوله: {إنَّه} أي ربي {سميع قريب *} أي لا يغيب عنه شيء من حال من يكذب عليه، فهو جدير بأنه يفضحه كما فضحكم في جميع ما تدعونه ولا يبعد عليه شيء ليحتاج في إدراكه إلى تأخير لقطع مسافة أو نحوها، بل هو مدرك لكل ما أراد كلما أراد، والآية إرشاد من الله تعالى إلى أنه وإن كان خلق للآدمي عقلاً لا يضل ولا يزيغ، لكنه حفه بقواطع من الشهوات والحظوظ والكسل والفتور فلا يكاد يسلم منها إلا من عصمه الله، فلما كان كذلك أنزل سبحانه كتباً هي العقل الخالص، وأرسل رسلاً جردهم من تلك القواطع، فجعل أخلاقهم(15/535)
شرائعهم، فعلى كل أحد أن يتبع رسله المتخلفين بكتبه متهماً عقله منابذاً رأيه كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ليكون مؤمناً بالغيب حق الإيمان فيدخل في قوله تعالى في سورة فاطر {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب}
[فاطر: 18] ولا يكون متناوشاً بعد كشف الغطاء من مكان بعيد.
ولما أبطل شبههم وختم من صفاته بما يقتضي البطش بمن خالفه، قال عاطفاً على {ولو ترى إذ الظالمون} : {ولو ترى} أي تكون منك رؤية {إذ فزعوا} أي يفزعون بأخذنا في الدنيا والآخرة، ولكنه عبر بالماضي وكذا في الأفعال الآتية بعد هذا لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه {فلا} أي فتسبب عن ذلك الفزع أنه لا {فوت} أي لهم منا لأنهم في قبضتنا، لرأيت أمراً مهولاً وشأناً فظيعاً، وحقر أمرهم بالبناء للمفعول فقال: {وأخذوا} أي عند الفزع من كل من نأمره بأخذهم سواء كان قبل الموت أو بعده. ولما كان القرب يسهل أخذ ما يراد أخذه قال: {من مكان قريب *} أي أخذاً لا شيء أسهل منه فإن الآخذ سبحانه قادر وليس بينه وبين شيء، مسافة، بل هو أقرب إليه منا الإيمان به(15/536)
وأبيناه، والأقرب أن يكون القرآن الذي قالوا إنه إفك مفترى {وأنّى} أي وكيف ومن أين {لهم التناوش} أي تناول الإيمان أو شيء من ثمراته، وكأنه عبر به لأنه يطلق على الرجوع، فكان المعنى أن ذلك بعد عليهم من جهة أنه لا يمكن إلا برجوعهم إلى الدنيا التي هي دار العمل، وأنى لهم ذلك؟ وهو تمثيل لحالهم - في طلبهم أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا - بحال من يريد أن يتناول شيئاً من علوه كما يتناوله الآخر من قدر ذراع تناولاً سهلاً، لا نصب فيه، ومده أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم لهمزهم إياه فقيل: إن الهمز على الواو المضمونة كما همزت في وجوه ووقتت فيكون لفظه موافقاً لمعناه، والصحيح أنه ليس من هذا، لأن شرط همز الواو المضمونة ضمةً لازمةً أن لا ويكون مدغماً فيها إذا كانت وسطاً كالتعود، وأن لا يصح في الفعل نحو تناول وتعاون، وقد حكى عن أبي عمرو أن معناه بالهمز التناول من بعد، من قولهم نأش - بالهمز - إذا أبطل وتأخر، والنيش حركة في إبطاء، والنأش أيضاً: الأخذ، فيكون الهمز أصلياً، وقرأه الباقون بالواو مثل التناول لفظاً ومعنى، فقراءة الواو المحضة تشير إلى أنهم يريدون تناولاً سهلاً مع بعد المتناول في المكان،(15/537)
وقراءة الهمز إلى أن إرادتهم تأخرت وأبطأت حتى فات وقتها، فجمعت إلى بعد المكان بعد الزمان.
ولما كان البعيد لا يمكن الإنسان تناوله مع بعده قال: {من مكان بعيد *} فإنه بعد كشف الغطاء عند مجيء البأس لا ينفع الإيمان {وقد} أي كيف لهم ذلك والحال أنهم قد {كفروا به} أي بالذي طلب منهم أن يؤمنوا به أملاً وجزاءً {من قبل} أي في دار العمل {و} الحال أنهم حين كفرهم {يقذفون} في أمر ما دعوا إليه بما يرمون به من الكلام رمياً سريعاً جداً من غير تمهل ولا تدبر {بالغيب} أي من مرجمات الظنون، وهي الشبهة التي تقدم إبطالها في هذه السورة وغيرها من استبعادهم البعث وغيره مما أخبر الله به.
ولما كان الشيء لا يمكن أن يصيب ما يقذفه وهو غائب عنه ولا سيما مع البعد قال معلماً ببعدهم عن علم ما يقولون مع بعده جداً من حال من تكلموا فيه سواء كان القرآن أو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو الحشر والجنة والنار: {من مكان بعيد *} وذلك على الضد من قذف علام الغيوب فإنه من مكان قريب فهو معلوم لازم للحق.(15/538)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
ولما أشار إلى بعد الإيمان منهم عند إرادتهم تناوله عند فوات أمره وعلوه عنهم عند طعنهم فيه في دار العمل، ترجم حالتيهم في(15/538)
ذلك على وجه يعم ثمرات الإيمان من دخول الجنان ورضى الرحمن بقوله: {وحيل} معبراً بصيغة المجهول مشيراً إلى أن حصول الحيلولة بأسهل ما يكون ولأن المنكي لهم نفس الحيلولة لا كونها من شخص معين: {بينهم وبين ما يشتهون} أي يميلون إليه ميلاً عظيماً من تأثير طعنهم وقبول إيمانهم عند رؤية، البأس ومن حصول شيء من ثمراته لهم من حسن الثواب كما يرى الإنسان منهم - وهو في غمرات النار - مقعده في الجنة، الذي كان يكون له لو آمن ولا يقدر على الوصول إليه بوجه، وإن خيل إليه الوصول فقصده فمنع منه كان أنكى {كما فعل} أي بأيسر وجه {بأشياعهم} أي الذين كفروا مثلهم {من قبل} أي قبل زمانهم فإن حالهم كان كحالهم في الكفران والإيمان، والسعادة والخسران، ولم يختل أمرنا في أمة من الأمم، بل كان كلما كذبت أمة رسولها أخذناها، فإن أذقناهم بأسنا أذعنوا وخضعوا، فلم نقبل منهم ذلك، ولا نفعهم شيئاً لا بالكف عن إهلاكهم ولا بإدراكهم لشيء من الخير بعد إهلاكهم {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق: 37] . ثم علل عدم الوصول إلى قصد في كل من الحالتين بقوله مؤكداً لإنكارهم أن يكون عندهم شيء من شك في شيء من أمرهم: {إنهم كانوا} أي(15/539)
في دار القبول كوناً هو كالجبلة لهم {في شك} أي في جميع ما يخبرهم به رسلنا عنا من الجزاء أو غير ذلك {مريب *} أي موقع في الريبة، فهو بليغ في بابه كما يقال: عجب عجيب، أو هو واقع في الريب كما يقال: شعر شاعر، أي - ذو شعر، فكيف يقبلون أو ينفذ طعنهم أو تحصل لهم تمرة طيبة وهو على غير بصيرة في شيء من أمرهم بل كانوا يشكون في قدرتنا وعظمتنا، فاللائق بالحكمة أن نبين لهم العظمة بالعذاب لهم والثواب لأحبابنا الذين عادوهم فينا فتبين أنهم يؤمنون به عند ظهور الحمد أتم الظهور إما في الآخرة أو في مقدماتها، فظهر سر الإفصاح بقوله «وله الحمد في الآخرة» وأنه حال سبحانه بينهم وبين ما يريدون فتبين أنه مالك كل شيء فصح أن له الحمد في الأولى وفي كل حالة - وقد تعانق آخرها مع أولها، والتحم مقطعها بموصلها - والله سبحانه وتعالى هو المستعان إليه والمرجع والمآب.(15/540)
هي ختام السور المفتتحة باسم الحمد، التي تقدم عن الشيخ سعد الدين التفتازاني أنه فصلت فيها النعم الأربع التي هي أمهات النعم المجموعة في الفاتحة، وهي الإيجاد الأول، ثم الإبقاء الأول؛ ثم الإيجاد الثاني المشار إليه بسورة سبأ، ثم الإبقاء الثاني الذي هو أنهاها وأحكمها، المفصل أمره فيها في فريقي السعادة المفتتحة بالابتداء الدال عليه بأنهى القدرة وأحكمها، المفصل أمره فيها في فريقي السعادة والشقاوة تفصيلاً شافياً على أنه استوفى في هذه السورة النعم الأربع كما يأتي بيانه في محالّه، فمقصودها إثبات القدرة الكاملة لله تعالى اللازم منها تمام القدرة على البعث الذي عنه يكون أتم الإبقاءين الإبقاء بالفعل دائماً أبداً بلا انقطاع ولا زوال ولا اندفاع في دار المقامة التي أذهب عنها الحزن والنصب واللغوب، ودار الشقاوة الجامعة لجميع الأنكاد والهموم،(16/1)
ولاسم السورة أتم مناسبة لمقصودها لأنه لا شيء يعدل ما في الجنة من تجدد الخلق فإنه لا يؤكل منها شيء إلا عاد كما كان في الحال، ولا يراد شيء إلا وجد في أسرع وقت، فهي دار الإبداع والاختراع بالحقيقة وكذا النار)) كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها () [النساء: 56] ؛ وكذا تسميتها بالملائكة فإنهم يبدعون خلقاً جديداً كل واحد منهم على صورته التي أراد الله المطابقة لقدرته سبحانه وعز شأنه، وهم من الكفرة على وجه لا يحاط به)) وما يعلم جنود ربك إلا هو () [المدثر: 31] ) بسم الله (الذي أحاطدائرة قدرته بالممكنات) الرحمن (الذي أتم بالبعث عموم الرحمة) الرحيم (الذي شرف أهل الكرامة بدوام الإقامة في دار المقامة.(16/2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني، ودل عليه بجزئيات من القدرة على أشياء في الكون، إلى أن ختم بأخذ الكفار أخذاً اضطرهم إلى الإيمان بظهور الحمد لهم أتم الظهور، وبالحيلولة بينهم وبين جميع ما يشتهون كما كانوا متعوا في الدنيا بأغلب ما يشتهون من كثرة الأموال والأولاد، وما مع ذلك من الراحة من أكثر الأنكاد، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام، كما يكون بالإعطاء والإنعام، قال تعالى ما هو نتيجة ذلك: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف(16/2)
الكمال إعداماً وإيجاداً {لله} أي وحده.
ولما كان الإيجاد من العدم أدل على ذلك، قال دالاً على استحقاقه للمحامد: {فاطر} أي مبتدئ ومبتدع {السماوات والأرض} أي المتقدم أن له ما فيهما بأن شق العدم بإخراجهما منه ابتداء على غير مثال سبق كما تشاهدون ولما كانت الملائكة إفرداً وجمعاً مثل الخافقين في أن كلاًّ منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة، وكان قد تقدم أنهم يتبرؤون من عبادة الكفرة يوم القيامة، وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر، أخبر عنهم بعد ما أخبر عما طريقه المشاهدة بما هو الحق من شأنهم، فقال مبيناً بتفاوتهم في الهيئات تمام قدرته وأنها بالاختيار: {جاعل الملائكة رسلاً} أي لما شاء من مراده وإلى ما شاء من عباده ظاهرين للأنبياء منهم ومن لحق بهم وغير ظاهرين {أولي أجنحة} أي تهيؤهم لما يراد منهم؛ ثم وصف فيه إلى أكثر من ذلك، ولعل ذكره للتنبيه على أن ذلك أقل ما يكون بمنزلة اليدين. ولما كان ذلك زوجاً نبه على أنه لا يتقيد بالزوج فقال: {وثلاث} أي ثلاثة ثلاثة لآخرين منهم. ولما كان لو اقتصر على ذلك لظن الحصر فيه، نبه(16/3)
بذكر زوج الزوج على أن الزيادة لا تنحصر فقال: {ورباع} أي أربعة لكل واحد من صنف آخر منهم.
ولما ثبت بهذا أنه فاعل بالاختيار دون الطبيعة وغيرها، وإلا لوجب كون الأشياء غير مختلفة مع اتحاد النسبة إلى الفاعل، كانت نتيجة ذلك: {يزيد في الخلق} أي المخلوقات من أشياء مستقلة ومن هيئات للملائكة وخفة الروح واللطافة والثقالة والكثافة وحسن الصوت والصيت والفصاحة والسذاجة والمكر والسخارة والبخل وعلو الهمة وسفولها - وغير ذلك مما يرجع إلى الكم والكيف مما لا يقدر على الإحاطة به غيره سبحانه، فبطل قول من قال: أنه فرغ من الخلق في اليوم السابع عند ما أتم خلق آدم فلم يبق هناك زيادة، كاليهود وغيرهم على أن لهذا المذهب من الضعف والوهي ما لا يخفى غير أنه سبحانه أوضح جميع السبل ولم يدع بشيء منها لبساً: {ما يشاء} فلا بدع في أن يوجد داراً أخرى تكون لدينونة العباد، ثم علل ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث: {إن الله} أي الجامع لجميع أوصاف الكمال {على كل شيء قدير *} فهو قادر على البعث فاعل له لا محالة.(16/4)
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السماوات والأرض، ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة، أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه، وأنه الأهل للحمد والمستحق، إذ الكل خلقه وملكه، ولأن السورة الأولى تجردت لتعريف العباد بأن الكل ملكه وخلقه دارت آيها على تعريف عظيم ملكه، فقد أعطي داود وسليمان عليهما السلام ما هو كالنقطة من البحار الزاخرة، فلان الحديد وانقادت الرياح والوحوش والطير والجن والإنس مذللة خاضعة {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} [سبأ: 22] تعالى ربنا عن الظهير والشريك والند، وتقدس ملكه عن أن تحصره العقول أو تحيط به الأفهام فتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه، وتجردت هذه الأخرى للتعريف بالاختراع والخلق، ويشهد لهذا استمرار آي سورة فاطر على هذا الغرض من التعريف وتنبيهها على الابتداءات كقوله تعالى {جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى} الآية، وقوله {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها هل من خالق غير الله يرزقكم} وقوله: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً} الآية، وقوله: {الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً}(16/5)
الآية {والله خلقكم من تراب يولج اليّل في النهار ويولج النهار في اليّل} {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها} {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا} فهذه عدة آيات معرفة بابتداء الخلق، والاختراع أو مشيرة ولم يقع من ذلك في سورة سبأ آية واحدة، ثم إن سورة سبأ جرت آيها على نهج تعريف الملك والتصرف فيه والاستبداد بذلك والإبداد، وتأمل افتتاحها وقصة داود وسليمان عليهما السلام، وقوله سبحانه {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثال ذرة} الآيات يتضح لك ما ذكرناه وما انجرّ في السورتين مما ظاهره الخروج من هاذين الغرضين فملتحم ومستدعى بحكم الانجرار بحسب استدعاء مقاصد الآي - رزقنا الله الفهم عنه بمنه وكرمه - انتهى.
ولما وصف سبحانه نفسه المقدس بالقدرة الكاملة، دل على ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من السعة والضيق مع العجز عن دفع شيء من ذلك أو اقتناصه، فقال مستأنفاً أو معللاً مستنتجاً: {ما} أي مهما {يفتح الله} أي الذي لا يكافئه شيء. ولما كان كل شيء من الوجود لأجل الناس قال: {للناس} ولما كان الإنعام مقصوداً(16/6)
بالذات محبوباً، وكانت رحمته سبحانه قد غلبت غضبه، صرح به فقال مبيناً للشرط في موضع الحال من ضميره أي يفتحه كائناً: {من رحمة} أي من الأرزاق الحسية والمعنوية من اللطائف والمعارف التي لا تدخل تحت حصر دقت أو جلت فيرسلها {فلا ممسك لها} أي الرحمة بعد فتحه كما يعلمه كل أحد في نفسه أنه إذا حصل له خير لا يعدم من يود أنه لم يحصل، ولو قدر على إزالته لأزاله، ولا يقدر على تأثير ما فيه.
ولما كان حبس النعمة مكروهاً لم يصرح به، وترك الشرط على عمومه بعد أن فسر الشرط الأول بالرحمة دلالة على مزيد الاعتناء بها إيذاناً بأن رحمته سبقت غضبه فقال: {وما يمسك} أي من رحمة أو نعمة بإغلاق باب الخلق عنه {فلا مرسل له} أي الذي أمسكه بمثل البرهان الماضي في الرحمة.
ولما كان ربما ادعى فجوراً حال إمساك الرحمة أو النقمة أنه هو الممسك قال: {من بعده} أي بعد إمساكه، فمن كان في يده شيء فليمسك ما أتى به الله حال إيجاده بأن يعدمه. ولما كان هذا ظاهراً في العزة في أمر الناس والحكمة في تدبيرهم عمم فقال: {وهو} أي هو فاعل ذلك والحال أنه وحده {العزيز} أي القادر على(16/7)
الإمساك والإرسال الغالب لكل شيء ولا غالب له {الحكيم *} الذي يفعل في كل من الإمساك والإرسال وغيرهما ما يقتضيه علمه به ويتقن ما أراد على قوانين الحكمة، فلا يستطاع نفض شيء منه.
ولما بيّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده. أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه، فإن الذكر يقود إلى الشكر، وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود، فقال: {يا أيها الناس} أي الذين فيهم أهلية الاضطراب عامة {اذكروا} بالقلب واللسان {نعمت الله} أي الذي لا منعم في الحقيقة سواه، ولما كانت نعمة عامة غامرة من كل جانب قال: {عليكم} أي في دفع ما دفع من المحن، وصنع ما صنع من المنن، على ما تقدم في الفتح والإمساك لتشكروه ولا تكفروه، والذي يخص أهل مكة بعد ما شاركوا به الناس - إسكانهم الحرم، وحفظهم من جميع الأمم، وتشريفهم بالبيت، وذلك موجب لأن يكونوا أشكر الناس.
ولما أمر بذكر نعمته، أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته، فقال منبهاً لمن غفل، وموبخاً لمن جحد، وراداً على أهل القدر الذين ادعوا أنهم يخلقون أفعالهم، ومنبهاً على نعمة الإيجاد الأول: {هل} ولما كان الاستفهام بمعنى النفي أكده ب {من} فقال: {من خالق} أي للنعم وغيرها، ولما كانت {من}(16/8)
للتأكيد، فكان {خالق} في موضع رفع، قرأ الجمهور قوله: {غير الله} بالرفع، وجره حمزة والكسائي على اللفظ، وعبر بالجلالة إشارة إلى أنه المختص بصفات الكمال.
ولما كان الجواب قطعاً: لا، بل هو الخالق وحده، قال منبهاً على نعمة الإبقاء الأول: {يرزقكم} أي وحده. ولما كانت كثرة الرزق كما هو مشاهد مع وحدة المنبع أدل على العظمة قال: {من السماء والأرض} بالمطر والنبات وغيرهما. ولما بين أنه الرزاق وحده انقطع أمل كل أحد من غيره حتى من نفسه فحصل الإخلاص فتعين أنه سبحانه الإله وحده فقال: {لا إله إلا هو} فتسبب الإنكار على من عبد غيره ظاهراً أو باطناً فقال: {فأنى} أي فمن أيّ وجه وكيف {تؤفكون *} أي تصرفون وتقلبون عن وجه السداد في التوحيد بهذه الوجوه الظاهرة إلى الشرك الذي لا وجه له.(16/9)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
ولما قررهم على ما تقدم وختم بالتوحيد الذي هو الأصل الأول من أصول الدين، نبه على أنه المقصود بالذات بذكر ما يعقبه في الأصل الثاني، وهو الرسالة من تصديق وتكذيب، فقال ناعياً على قريش سوء تلقيهم لآياته، وطعنهم في بيناته، مسلياً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(16/9)
عاطفاً على ما تقديره: فإن يصدقوك فهم جديرون بالتصديق لما قام على ذلك من الدلائل، وشهد به من المقاصد والوسائل: {وإن يكذبوك} أي عناداً وقلة اكتراث بالعواقب فتأسّ بإخوانك {فقد} أي بسبب أنه قد {كذبت رسل} أي يا لهم من رسل! وبني الفعل للمجهول لأن التسلية محطها، وقوع التكذيب لا تعيين المكذب، ونفى أن يرسل غيره بعد وجوده بقوله: {من قبلك} وأفرد التكذيب بالذكر اهتاماً بالتسلية تنبيهاً على أن الأكثر يكذب، قال القشيري: وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب مع العوام والأجانب من هذه الطريقة فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذية، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القراء المتقشفين.
ولما كان التقدير نفياً للتعجب من التكذيب الجاري على غير قياس صحيح: فمن الله الذي لا أمر لأحد معه تصدر الأمور، عطف عليه قوله مهدداً لمن خالف أمره: {وإلى الله} أي وحده له الأمور كلها {ترجع الأمور *} أي حساً ومعنى، فاصبر ورد الأمر إلينا بترك الأسباب إلا ما نأمرك به كما فعل إخوانك من الرسل.
ولما أشعر هذا الختام باليوم الموعود، وهو الأصل الثابت قال مهدداً به محذراً منه: {يا أيها الناس} أي الذين عندهم أهليه(16/10)
للتحرك إلى النظر. ولما كانوا ينكرون البعث أكد قوله: {إن وعد الله} أي الذي له صفات الكمال وهو منزه عن كل شائبة نقص، فهو لا يجوز عليه في مجاري العادات للغنى المطلق أن يخلف الميعاد {حق} أي بكل ما وعد به من البعث وغيره وقد وعد أنه يردكم إليه في يوم تنقطع فيه الأسباب، ويعرض عن الأحساب والأنساب، ليحكم بينكم بالعدل، ثم سبب عن كونه حقاً قوله على وجه التأكيد لأجل الإنكار أيضاً: {فلا تغرنكم} أي بأنواع الخدع من اللهو والزينة غروراً مستمر التجدد {الحياة الدنيا} فإنه لا يليق بذي همه عليه اتباع الدنيء، والرضى بالدون الزائل عن العالي الدائم {ولا يغرنكم بالله} أي الذي لا يخلف الميعاد وهو الكبير المتعالي {الغرور *} أي الذي لا يصدق في شيء وهو الشيطان العدو، ولذلك استأنف قوله مظهراً في موضع الإضمار للتنفير بمدلول الوصف قبل التذكير بالعداوة ووخامة العاقبة فيما يدعو إليه مؤكداً لأن أفعال المشايعين له بما يمنيهم به من نحو: إن ربكم حليم، لا يتعاظمه ذنب، مع الإصرار على المعصية أفعال المتعقدين لمصادقته: {إن الشيطان} أي المحترق بالغضب البعيد من الخير {لكم} أي خاصة فهو في غاية الفراغ لأذاكم، فاجتهدوا في الهرب منه {عدو} بتصويب مكايده كلها إليكم وبما سبق له مع أبيكم آدم عليه السلام بما وصل أذاه إليكم وأيضاً «من عادى أباك فقد عاداك» .(16/11)
ولما كانت عداوته تحتاج إلى مجاهدة لأنه يأتي الإنسان من قبل الشهوات، عبر بصيغة الافتعال فقال: {فاتخذوا} اي بغاية جهدكم {عدواً} والله لكم ولي فاتخذوه ولياً بأن تتحروا ما يغيظ الشيطان بأن تخالفوه في كل ما يريده ويأمر به، وتتعمدوا ما يرضاه الرحمن ونهجه لكم وأمركم به فتلتزموه، قال القشيري: ولا يقوى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب فإنه لا يغفل عن عداوتك، فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة. ثم علل ذلك بقوله: {إنما يدعو حزبه} أي الذين يوسوس لهم فيعرضهم لاتباعه والإعراض عن الله {ليكونوا} باتباعه كوناً راسخاً {من أصحاب السعير *} هذا غرضه لا غرض له سواه، ولكنه يجتهد في تعمية ذلك عنهم بأن يقرر في نفوسهم جانب الرجاء وينسيهم جانب الخوف، ويريهم أن التوبة في أيديهم ويسوف لهم بها بالفسحة في الأمل، والإبعاد في الأجل، للإفساد في العمل، والرحمن سبحانه إنما يدعو عباده ليكونوا من أهل النعيم {والله يدعو إلى دار السلام} [يونس: 25] .(16/12)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
ولما أنهى البيان في غرض الشيطان إلى منتهاه، نبه على ما حكم به هو سبحانه في أشياعه بقوله مستأنفاً: {الذين كفروا} أي غطو(16/12)
بالاتباع له بالهوى ما دلتهم عليه عقولهم وكشفه لهم غاية الكشف هذا البيان العزيز {لهم عذاب شديد} أي في الدنيا بفوات غالب ما يؤملون مع تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم وسفالة هممهم حتى أنهم رضوا أن يكون إلههم حجراً، وانحجاب المعارف التي لا لذاذة في الحقيقة غيرها عنهم، وفي الآخرة بالسعير التي دعاهم إلى صحبتها.
ولما ذكر جزاء حزبه، اتبعه حزب الله الذين عادوا عدوهم فقال: {والذين آمنوا وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} ولما كان من أعظم مصايد الشيطان ما يعرض للإنسان خطأ وجهلاً من العصيان، لما له من النقصان ليجره بذلك إلى العمد والعدوان، قال تعالى داعياً له إلى طاعته وإزالة لخجلته: {لهم مغفرة} أي ستر لذنوبهم بحيث لا عقاب ولا عتاب، وذلك معجل في هذه الدار، ولولا ذلك لافتضحوا وغداً، ولولا ذلك لهلكوا. ولما محاها عيناً وأثراً، أثبت الإنعام فقال: {وأجر كبير *} أي يجل عن الوصف بغير هذا الإجمال، فمنه عاجل بسهولة العبادة ودوام المعرفة وما يرونه في القلوب من وراء اليقين، وآجل بتحقيق المسؤول من عظيم المنة، ونيل ما فوق المأمول في الجنة.(16/13)
ولما أبان هذا الكلام تفاوت الحزبين في المآل بالهلاك والفوز، وكان لا يقدم على الهلاك أحد في حس، وكان الكفار يدعون أنهم الفائزون قناعة بالنظر إلى ما هم فيه، ويدعون أنهم أبصر الناس وأحسنهم أعمالاً وكذا كل عاص ومبتدع، كان ذلك سبباً في إنكار تساويهما، فأنكره مبيناً السبب في ضلالهم بما فيه تسلية للمحسنين وندب إلى الشكر وحث على ملازمة الافتقار والذل وسؤال العافية من الزلل والزيغ فقال: {أفمن} ولما كان الضار هو التزيين من غير نظر إلى فاعل معين بني للمفعول قوله: {زين له سوء عمله} أي قبحه الذي من شأنه أن يسوء صاحبه حالاً أو مآلاً بجمع مال ذاهب أو مذهوب عنه من غير خلة وبيع راحة الجنة المؤبدة بمتابعة شهوة منقية وإيثار مخلوق فإن على ربه الغني الباقي؛ ثم سبب عنه ما أنهى إليه من الغاية فقال: {فرآه} أي السيىء بسبب التزيين، {حسناً} أي فركبه، بما أشار إليه إضافة العمل إليه، وطوى المشبه به وهو كمن أبصر الأمور على حقائقها فاتبع الحسن واجتنب السيىء، لأن المقام يهدي إليه، وتعجيلاً بكشف ما أشكل على السامع من السبب الحامل على رؤية القبيح، مُليحاً بقوله مؤكداً رداً على من ينسب إلى غير الله فعلاً من خير أو شر:(16/14)
{فإن} أي السبب في رؤية الأشياء على غير ما هي عليه إن {الله} أي الذي له الأمر كله {يضل من يشاء} فلا يرى شيئاً على ما هو به، فيقدم على الهلاك البين وهو يراه عين النجاة {ويهدي من يشاء} فلا يشكل عليه أمر ولا يفعل إلإ حسناً.
ولما كان المحب من يرضى بفعل حبيبه، سبب عن ذلك النهي لأكمل خلقه عن الغم بسبب ضلالهم في قوله: {فلا} والأحسن أن يقدر المشبه به هنا فيكون المعنى: أفمن غير فعل القبيح فاعتقده حسناً لأن الله أضله بسبب أن الله هو المتصرف في القلوب كمن بصره الله بالحقائق؟
ولما كان الجواب: لا، ليس هما سواء سبب عنه قولاً: فلا {تذهب} أي بالموت أو ما يقرب منه {نفسك عليهم} أي بسبب ما هو فيه من العمى عن الجليات {حسرات} أي لأجل حسراتك المترادفة لأجل إعراضهم، جمع حسرة وهي شدة الحزن على ما فات من الأمر.
ولما كان كأنه قيل: إنهم يؤذون أولياءك فيشتد أذاهم، وكان علم الولي القادر بما يعمل عدوه كافياً في النصرة، قال: {إن الله} أي المحيط بجميع أوصاف الكمال {عليم} أي بالغ العلم، وأكده تنبيهاً على أن المقام صعب، ومن لم يثبت نفسه بغاية جهده زل لطول إملائه تعالى لهم وحلمه عنهم {بما يصنعون *} أي مما مرنوا عليه وانطبعوا فيه من ذلك حتى صار لهم خلقاً يبعد كل البعد انفكاكهم عنه.(16/15)
ولما أخبر تعالى أنه لا بد من إيجاد ما وعد به من البعث وغيره، وحذر كل التحذير من التهاون بأمره، وأنكر التسوية بين المصدق به والمكذب، وكان السبب في الضلال المميت للقلوب الهوى الذي يغشى سماء العقل ويعلوه بسحابه المظلم فيحول بينه وبين النفوذ، وكان السبب في السحاب المغطي لسماء الأرض المحيي لميت الحبوب الهوى، وكان الإتيان به في وقت دون آخر دالاً على القدرة بالاختيار، قال عاطفاً على جملة {إن وعد الله حق} المبني على النظر، وهو الإخراج من العدم مبيناً لقدرته على ما وعد به: {والله} أي الذي له صفات الكمال لا شيء غيره من طبيعة ولا غيرها {الذي} ولما كان المراد الإيجاد من العدم، عبر بالماضي مسنداً إليه لأنه الفاعل الحقيقي فقال: {أرسل الرياح} أي أوجدها من العدم مضطربة فيها، أهلية الاضطراب والسير ليصرفها كيف شاء لا ثابتة كالأرض، وأسكنها ما بين الخافقين لصلاح مكان الأرض.
ولما كانت إثارتها تتجدد كلما أراد أن يسقي أرضاً، قال مسنداً إلى الرياح لأنها السبب، معبراً بالمضارع حكاية للحال لتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على تمام القدرة، وهكذا تفعل العرب فيما فيه(16/16)
غرابة تنبيهاً للسامع على ذلك وحثّاً له على تدبره وتصوره: {فتثير} أي بتحريكه لها إذا أراد {سحاباً} أي أنه أجرى سبحانه سنته أن تظهر حكمته بالتدريج.
ولما كان المراد الاستدلال على القدرة على البعث، وكان التعبير بالمضارع يرد التعنت، عبر بالمضارع. ولما كان سوق السحاب إلى بلد دون آخر وسقيه لمكان دون مكان من العظمة بمكان، التفت على الغيبة وجعله في مظهر العظمة فقال: {فسقناه} أي السحاب معبراً بالماضي تنبيهاً على أن كل سوق كان بعد إثارتها في الماضي والمستقبل منه وحده أو بواسطة من أقامة لذلك من جنده من الملائكة أو غيرهم، لا من غيره، ودل على أنه فرق بين البعد والقرب بحرف الغاية فقال: {إلى بلد ميت} .
ولما كان السبب في الحياة هو السحاب بما ينشأ عنه من الماء قال: {فأحيينا به الأرض} ولما كان المراد إرشادهم إلى القدرة على البعث الذي هم به مكذبون، قال رافعاً للمجاز بكل تقدير وموضحاً كل الإيضاح للتصوير: {بعد موتها} ولما أوصل الأمر إلى غايته، زاد في التنبيه على نعمة الإيجاد الثاني بقوله: {كذلك} أي مثل الإحياء لميت النبات {النشور *} حسّاً للأموات، ومعنى للقلوب والنبات، قال القشيري:(16/17)
إذا أراد إحياء قلب يرسل أولاً رياح الرجاء، ويزعج بها كوامن الإرادة، ثم ينشىء فيه سحاب الاهتياج، ولوعة الانزعاج، ثم يأتي مطر الحق فينبت في القلب أزهار البسط وأنوار الروح، ويطيب لصاحبه العيش إلى أن تتم لطائف الإنس.(16/18)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
ولما قرر بهذا كله ما أثبته سابقاً من عزته وحكمته وثبت أنه قادر على النشور فثبت أن له العزة في الآخرة كما شوهد ذلك في الدنيا، وكانت منافسه الناس لا سيما الكفرة في العزة فوق منافستهم في الحكمة، ومن نافس في الحكمة فإنما ينافس فيها لاكتساب العزة، وكان الكفرة إنما عبدوا الأوثان ليعتزوا بها كما قال: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّاً} [مريم: 81] قال مستنتجاً من ذلك: {من كان} أي في وقت من الأوقات {يريد العزة} أي أن يكون محتاجاً إليه غيره وهو غني عن غيره غالباً غير مغلوب {فلله} أي وحده {العزة جميعاً} أي فليطلبها منه ولا يطلبها من غيره، فإنه لا شيء لغيره فيها ومن طلب الشيء من غير صاحب خاب؛ قال ابن الجوزي: وقد روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن ربكم يقول كل يوم: أنا العزيز فمن أرادة عزة الدارين فليطع العزيز» .(16/18)
ولما رغب في اقتناص العزة بعد أن أخبر أنه لا شيء فيها لغيره، دل على اختصاصه بها بشمول علمه وقدرته، وبين أنها إنما تنال بالحكمة فقال: {إليه} أي لا إلى غيره {يصعد الكلم الطيب} أي الجاري على قوانين الشرع عن نية حسنة وعقيدة صحيحة سواء كان سراً علناً لأنه عين الحكمة، فيعز صاحبه ويثيبه.
ولما أعلى رتبة القول الحكيم، بين أن الفعل أعلى منه لأنه المقصود بالذات، والقول وسيلة إليه، فقال دالاًّ على علوه بتغيير السياق: {والعمل الصالح يرفعه} هو سبحانه يتولى رفعه ولصاحبه عنده عز منيع ونعيم مقيم، وعمله يفوز، قال الرازي في اللوامع: العلم إنما يتم العمل كما قيل: العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب وإلا ارتحل - انتهى، وقد قيل:
لا ترض من رجل حلاوة قوله ... حتى يصدق ما يقول فعال
فإذا وزنت مقاله بفعاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال
ولما بين ما يحصل العزة من الحكمة، بين ما يكسب الذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة فقال: {والذين يمكرون} أي يعملون على وجه(16/19)
الستر المكرات {السيئات} أي يسترون قصودهم بها ليوقعوها بغتة {لهم عذاب شديد} كما أرادوا بغيرهم ذلك، ولا يصعد مكرهم إليه بنفسه ولا يرفعه هو، لأنه ليس فيه أهلية ذلك لمنافاته الحكمة. ولما كان ما ذكر من مكرهم موجباً لتعرف حاله هل أفادهم شيئاً؟ أخبر أنه أهلكه بعزته ودمره بحكمته فقال: {ومكر أولئك} أي البعداء من الفلاح {هو} أي وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره ويجعل له العاقبة تحقيقاً لقوله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 30] كما أخرجكم أيها الأولياء من بيوتكم لأجل العير فأخرج الأعداد من بيوتهم فوضعهم في قليب بدر {يبور *} أي يكسد ويفسد ويهلك، فدل ذلك على شمول علمه للخير والشر من القول والفعل الخفي والجلي وتمام قدرته، وذلك معنى العزة، والآية من الاحتباك: حذف ما لصاحب العمل الصالح ودل عليه بذكر ما لعامل السيىء وحذف وضعه المكر السيىء ودل عليه برفعه للعمل الصالح.
ولما ذكر سبحانه ما صيرهم إليه من المفاوتة في الأخلاق، أتبعه(16/20)
ما كانوا عليه من الوحدة في جنس الأصل، وأصله التراب المسلول منه الماء بعد تخميره فيه وإن اختلفت أصنافه فقال مبيناً لبعض آيات الأنفس عاطفاً على ما عطف عليه {والله الذي أرسل الرياح} الذي هو من آيات الآفاق، منبهاً على أنه قادر على التمييز بعد شديد المزج وأنه قدر كل شيء من الأرزاق والآجال والمصائب والأفراح، فلا ثمرة للمكر إلا ما يلحق الماكر من الحرج والعقوبة من الله والضرر: {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال؛ ولما لم يدع حاجة إلى الحصر قال: {خلقكم من تراب} أي مثلي وإن اختلفت أصنافه بتكوين أبيكم منه فمزجه مزجاً لا يمكن لغيره تمييزه، ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلاً ورأساً، وإليه الإشارة بقوله: {ثم} أي بعد ذلك من الزمان والرتبة خلقكم {من نطفة} أي جعلها أصلاً ثانياً مثلياً من ذلك الأصل الترابي أشد امتزاجاً منه ثم بعد إنهاء التدبير زماناً ورتبة إلى النطفة التي لا مناسبة بينها وبين التراب دلالة على كمال القدرة والفعل بالاختيار {ثم جعلكم أزواجاً} بين ذكور وإناث، دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار وكذب أهل(16/21)
الطبائع، وعلى البعث بتمييز ما يصلح من التراب للذكورة والأنوثة.
ولما كان الحمل أيضاً مكذباً لأهل الطبائع بأنه لا يكون من كل جماع، أشار إليه بقوله مؤكداً رداً عليهم إعلاماً بأن ذلك إنما هو بقدرته: {وما تحمل} أي في البطن بالحبل {من أنثى} دالاً بالجار على كمال الاستغراق. ولما كان الوضع أيضاً كذلك بأنه لا يتم كلما حمل به قال: {ولا تضع} أي حملاً {إلا} مصحوباً {بعلمه} في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمه التي هي أقرب إليه، فلا يكون إلا بقدرته، فما شاء أتمه، وما شاء أخرجه.
ولما كان ما بعد الولادة أيضاً دالاً على الاختيار لتفاضلهم في الأعمار مع تماثلهم في الحقيقة، دل عليه بقوله دالاً بالبناء للمفعول على سهولة الأمر عليه سبحانه، وأن التعمير والنقص هو المقصود بالإسناد: {وما يعمر من معمر} أي يزاد في عمر من طال عمره أي صار إلى طول العمر بالفعل حساً، قال قتادة: ستين، أو معنى بزيادة الفاعل المختار زيادة لولاها لكان عمره أقصر مما وصل إليه {ولا بنقص من عمره} أي المعمر بالقوة وهو الذي كان قابلاً في العادة لطول العمر فلم يعمر بنقص الفاعل المختار نقصاً لولاه لطال عمره، فالمعمر المذكور المراد به الفعل،(16/22)
والذي عاد إليه الضمير المعمر بالقوة فهو من بديع الاستخدام، ولو كان التعبير بأحد لما صح هذا المعنى، وقراءة يعقوب بخلاف عن رويس بفتح الياء وضم القاف بالبناء للفاعل تشير إلى أن قصر العمر أكثر.
ولما كان في سياق العلم وكان أضبطه في مجاري عاداتنا ما كتب قال: {إلا في كتاب} مكتوب فيه «عمر فلان كذا وعمر فلان كذا وكذا، عمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا أزيد أو أنقص إن لم يعمله» .
ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد، ولا يحصره الحد، فكان في عداد ما ينكره الجهلة، قال مؤكداً لسهولته: {إن ذلك} أي الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها والإحاطة بها على التفصيل {على الله} أي الذي له جميع العزة فهو يغلب كل ما يريده، خاصة {يسير *}
ولما ذكر سبحانه أحد أصليهم: التراب المختلف الأصناف، ذكر الأصل الآخر: الماء الذي هو أشد امتزاجاً من التراب، ذاكراً اختلاف صنفية اللذين يتفرعان إلى أصناف كثيرة، منبهاً على فعله بالاختيار ومنكراً على من سوى بينه سبحانه وبين شيء حتى أشركه به مع المباعدة التي(16/23)
لا شيء بعدها والحال أنه يفرق بين هذه الأشياء المحسوسة لمباعدة ما فقال: {وما يستوي البحران} ولما كانت الألف واللام للعهد، بيّنه بقوله مشيراً إلى الحلو: {هذا عذب} أي طيب حلو لذيذ ملائم للطبع {فرات} أي بالغ العذوبة {سائغ شرابه} أي هنيء مريء بحيث إذا شرب جاز في الحلق ولم يتوقف بل يسهل إدخاله فيه وابتلاعه لما له من اللذة والملاءمة للطبع {وهذا ملح أجاج} أي جمع إلى الملوحة المرارة، فلا يسوغ شرابه، بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار، والمراد أمه ميزهما سبحانه بعد جمعهما في ظاهر الأرض وباطنها، ولم يدع أحدهما يبغي على الآخر، بل إذا حفر عل جانب البحر الملح ظهر الماء عذباً فراتاً على مقدار صلاح الأرض وفسادها.
ولما كان الملح متعذراً على الآدمي شربه، ذكر أنه خلق فيه ما حياته به مساوياً في ذلك للعذب فقال: {ومن كل} أي من الملح والعذب {تأكلون} من السمك المنوع إلى أنواع تفوت الحصر وغير السمك {لحماً طرياً} أي شهي المطعم، ولم يضر ما بالملح ما تعرفون من أصله ولا زلد في لذة ما بالحلو ملاءمته لكم. ولما ذكر(16/24)
من متاعه ما هو غاية في اللين، أتبعه من ذلك ما هو غاية في الصلابة فقال: {وتستخرجون} أي تطلبون أن تخرجوا من الملح دون العذب وتوجدون ذلك للإخراج، قال البغوي: وقيل: نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الملح عيون عذبة تمتزج به فيكون اللؤلؤ من ذلك.
{حلية تلبسونها} أي نساؤكم من الجواهر: الدر والمرجان وغيرهما، فما قضى برخاوة ذلك وصلابة هذا مع تولدهما منه إلا الفاعل المختار.
ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عم بالخطاب، ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً، لكنه صار لشدة إلفه لا يقوم بإدراك أنه من أكبر الايات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر، خص بالخطاب فقال: {وترى الفلك} أي السفن تسمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء، وقدم الظرف لأنه أشد دلالة على ذلك فقال: {فيه} أي كل منهما غاطسة إلا قليلاً منها.
ولما تم الكلام، ذكر حالها المعلل بالابتغاء فقال: {مواخر}(16/25)
أي جواري مستدبرة الريح شاقة للماء خارقة للهواء بصدرها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة؛ قال البخاري في باب التجارة في البحر: وقال مجاهد: تمخر السفن الريح، ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام؛ وقال صاحب القاموس: مخرت السفينة كمنع مخراً ومخوراً: جرت أو استقبلت الريح في جريتها، والفلك المواخر التي يسمع صوت جريها أو تشق الماء بجآجئها أو المقبلة والمدبرة بريح واحدة، وفي الحديث: إذ أراد أحدكم البول فليتمخر الريح، وفي لفظ: استمخروا الريح، أي اجعلو ظهوركم إلى الريح فإنه إذا ولاها شقها بظهره فأخذت عن يمينه ويساره، وقد يكون استقبالها تمخراً غير أنه في الحديث استدبار - انتهى كلام القاموس. ثم علق بالمخر معللاً قوله: {لتبتغوا} أي تطلبوا طلباً شديداً. ولما تقدم الاسم الأعظم في الآية قبلها، أعاد الضمير عليه ليعلم شدة ارتباط هذه الآية بالتي قبلها فقال: {من فضله} أي الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك، وفي سورة الجاثية ما ينفع هنا {ولعلكم تشكرون *} أي ولتكون حالكم بهذه(16/26)
النعم الدالة على عظيم قدرة الله ولطفه حال من يرجى شكره.(16/27)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
ولما ذكر سبحانه اختلاف الذوات الدال على بديع صنعه، أتبعه تغييره المعاني آية على بليغ قدرته، فقال في موضع الحال من فاعل «خلقكم» إشارة إلى أن الله تعالى صور آدم حين خلق الأرض قبل أن يكون ليل أو نهار ثم نفخ فيه الروح آخر يوم الجمعة بعد أن خلق النور يوم الأربعاء، فلم يأت على الإنسان حين من الدهر وهو مقدار حركة الفلك إلا وهو شيء مذكور: {يولج} أي يدخل على سبيل الجولان {الّيل في النهار} فيصير الظلام ضياء.
ولما كان هذا الفعل في غاية الإعجاب، وكان لكثرة تكراره قد صار مألوفاً فغفل عما فيه من الدلالة على تمام القدرة: نبه عليه بإعادة الفعل فقال: {ويولج النهار في الّيل} فيصير ما كان ضياء ظلاماً، وتارة يكون التوالج بقصر هذا وطول هذا، فدل كل ذلك على أنه تعالى فاعل بالاختيار.
ولما ذكر الملوين ذكر ما ينشأ عنهما فقال: {وسخر الشمس والقمر} ثم استأنف قوله: {كل} أي منهم {يجري} ولما كان مقصود السورة تمام القدرة، والسياق هنا لقسر المتنافرات على ما يزيد،(16/27)
ولذلك ختم الآية بالملك الناظر إلى القسر والقهر لم يصلح لهذا الموضع حرف الغاية فقال: {لأجل} أي لأجل أجل {مسمى} مضروب له لا يقدر أن يتعداه، فإذا جاء ذلك الأجل غرب، هكذا كل يوم إلى أن يأتي الأجل الأعظم، فيختل جميع هذا النظام بأمر الملك العلام، ويقيم الناس ليوم الزحام، وتكون الأمور العظام.
ولما دل سبحانه على أنه الفاعل المختار القادر على كل ما يريد بما يشاهده كل أحد في نفسه وفي غيره، وختم بما تتكرر مشاهدته في كل يوم مرتين، أنتج ذلك قطعاً قوله معظماً بأداة البعد وميم الجمع: {ذلكم} أي العالي المقدار الذي فعل هذه الأفعال كلها {الله} أي الذي له صفة كمال؛ ثم نبههم على أنه لا مدبر لهو سواه بخبر آخر بقوله: {ربكم} أي الموجد لكم من العدم المربي بجميع النعم لا رب لكم سواه؛ ثم استأنف قوله: {له} أي وحده {الملك} أي كله وهو مالك كل شيء {والذين تدعون} أي دعاء عبادة، ثم بيّن منزلتهم بقوله: {من دونه} أي من الأصنام وغيرها وكل شيء فهو دونه سبحانه {ما يملكون} أي في هذا الحال الذي تدعونهم فيه وكل حال يصح أن يقال فيه لكم هذا الكلام؛ وأغرق في النفي فقال: {من قطمير *} وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما:(16/28)
لفافة النواة، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها، كناية عن أدنى الأشياء، فكيف بما فوقه وليس لهم شيء من الملك، فالآية من الاحتباك: ذكر الملك أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والملك ثانياً دليلاً على حذفه أولاً؛ ثم بين ذلك بقوله: {إن تدعوهم} أي المعبودات من دونه دعاء عبادة او استغاثة {لا يسمعوا} أي بحس السمع في وقت من الأوقات {دعاءكم} لأنهم جماد {ولو سمعوا} في المستقبل {ما استجابوا لكم} لأنهم إذ ذاك يعلمون أن إجابتكم لا ترضي الله، وهم مما أبى أن يحمل الأمانة ويخون فيها بالعمل بغير ما يرضي الله سبحانه، أو يكون المعنى: ولو فرض أنه يوجد لهم سمع، أو ولو كانوا سامعين - ليدخل فيه من عبد من الأحياء - ما لزم من السماع إجابة، لأنه لا ملازمة بين السمع والنطق، ولا بين السمع والنطق مع القدرة على ما يراد من السامع، فإن البهائم تسمع وتجيب، والمجيبون غيره يجيبون ولا قدرة لهم على أكثر ما يطلب منهم.
ولما ذكر ما هو على سبيل الفرض، ذكر ما يصير إليه بينهم وبينهم الأمر فقال: {ويوم القيامة} أي حين ينطقهم الله(16/29)
{يكفرون بشرككم} أي ينكرونه ويتبرؤون منه. ولما كان التقدير: قد أنبأكم بذلك الخبير، وكانوا لا يقرون بذلك ولا يفهمونه حق فهمه ولا يعملون به، صرف الخطاب عنهم إلى من له الفهم التام والطاعة الكاملة، فقال عاطفاً على هذا الذي هدى إلى تقديره السياق: {ولا ينبئك} أي إنباء بليغاً عظيماً على هذا الوجه بشيء من الأشياء، {مثل خبير *} أي بالغ الخبر، فلا يمكن الطعن في شيء مما أخبر به، وأما غيره فلا يخبر خبراً إلا يوجه إليه نقص.
ولما اختص سبحانه بالملك ونفى عن شركائهم النفع، أنتج ذلك قوله: {يا أيها الناس} أي كافة {أنتم} أي خاصة {الفقراء} أي لأنكم لاتساع معارفكم وسريان أفكاركم وانتشار عقولكم تكثر نوازغكم وتتفرق دواعيكم فيعظم احتياجكم لشدة ضعفكم وعجزكم عظماً يعد معه احتياج غيركم عدماً، ولو نكر الخبر لم يفد هذا المعنى {إلى الله} أي الذي له جميع الملك؛ قال القشيري: والفقر على ضربين: فقر خلقة، وفقر صفة، فالأول عام فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده ليبديه وينشيه، وفي ثانية ليديمه ويبقيه، وأما فقر الصفة فهو التجرد، ففقر العوام التجرد من المال، وفقر الخواص التجرد من(16/30)
الإعلال، فحقيقة الفقر المحمود تجرد السر عن المعلولات.
ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي، أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم على قرب العهد بذكر الإشارة إلى الجهة التي بها وصف بما يذكر، وهي الإحاطة بأوصاف الكمال فقال: {والله هو} أي وحده {الغني} أي الذي لا يتصور أن يحتاج لا إليكم ولا إلى عبادتكم ولا إلى شيء أصلاً. ولما كان الغنى من الخلق لا يسع غناه من يقصده، وإن وسعهم لم يسعهم عطاؤه لخوف الفقر أو لغير ذلك من العوارض، ولا يمكنه عموم النعمة في شيء من الأشياء فلا ينفعك من نوع ذم، وكان الحمد كما قال الحرالي في شرح الأسماء: حسن الكلية بانتهاء كل أمر وجزء، وبعض منها إلى غاية تمامه، فمتى نقص جزء من كل عن غاية تمامه لم يكن ذلك الكل محموداً، ولم يكن قائمه حميداً، وكان الله قد خلق كل شيء كما ينبغي، لم يعجل شيئاً عن إناه وقدره، وكان الذم استنقاضاً يلحق بعض الأجزاء عند من لم يرها في كلها ولا رأى كلها، فكان الذم لذلك لا يقع إلا متقيداً متى أخذ مقتطعاً من كل، والحمد لا يقع إلا في كل لم يخرج عنه شيء فلا حمد في بعض ولا ذم في كل ولا حمد إلا في كل، ولذلك قال الغزالي: الحميد من العباد من حمدت عوائده وأخلاقه وأعماله كلها من غير مثنوية.
وكان سبحانه(16/31)
قد أفاض نعمه على خلقه، وأسبغها ظاهرة وباطنة، وجعل لهم قدرة على تناولها. لا يعوق عنه إلا قدرته {وما كان عطاء ربك محظوراً} وكان لا ينقص ما عنده، كان إعطاؤه حمداً ومنعه حمداً، لأنه لا يكون مانعاً لغرض بل لحكمة تدق عن الأفكار فقال: {الحميد *} أي كل شيء بنعمته عنده والمستحق للحمد بذاته، فأنتج ذلك قطعاً تهديداً لمن عصاه وتحذيراً شديداً: {إن يشأ يذهبكم} أي جميعاً {ويأت بخلق جديد *} أي غيركم لأنه على كل شيء قدير {وما ذلك} أي الأمر العظيم من الإذهاب والإتيان {على الله} المحيط بجميع صفات الكمال خاصة {بعزيز *} أي بممتنع ولا شاق، وهو محمود عند الإعدام كما هو محمود عند الإيجاد.(16/32)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)
ولما أنهى سبحانه بيان الحق بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة بالتهديد بالأخذ، وكان الأخذ على وجه التهديد عقاباً، وكان العقاب لا يكون حكمه إلا عند الذنب، قال دالاً على أنه لا ينفك أحد عما يستحق به العقاب: {ولا} أي يذهبكم عقوبة لكم بأوزاركم وقدرة عليكم والحال أنه لا {تزر} أي تحمل يوم القيامة أو عند الإذهاب، ولما لم تكن نفس متأهلة للحمل تخلو من وزر تحمله، والمعصوم(16/32)
من عصم الله، قال: {وازرة} دون نفس، أي لا تحمل حاملة من جهة الإثم {وزر} أي حمل وثقل {أخرى} لتعذب به، بل كان واحد منكم له مما كسبت يداه ما ثقوم به عليه الحجة في الأخذ مباشرة وتسبباً مع تفاوتكم في الوزر، ولا يحمل أحد إلا ما اقترفه هو، لا تؤخذ نفس بذنب أخرى الذي يخصها كما تفعل جبابرة الدنيا.
ولما أثبت أنه لا يؤخذ أحد إلا بوزر، ونفى أن يحمل أحد وزر غيره، وكان ربما أوهم أن ذلك خاص ببعض الأحوال أو الأشخاص، وكان عظم الوزر يوجب عظم الأخذ، نفى ذلك الإيهام ودل القدرة على المفاوتة بينهم في الأجر وإن كان أخذهم في آن واحد بقوله: {وإن تدع} أي نفس {مثقلة} أي بالذنوب سواء كانت كفراً أو غيره، أحداً {إلى حملها} أي الخاص بها من الذنوب التي ليست على غيرها بمباشرة ولا تسبب ليخفف عنها فيخفف العذاب بسبب خفته {لا يحمل} أي من حامل ما {منه شيء} أي لا طواعية ولا كرهاً. بل لكل امرئ شأن يغنيه أصلاً وتسبباً {ولو كان} ذلك الداعي أو المدعو للحمل {ذا قربى} لمن دعاه، وحاصل الأولى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره بل بذنب نفسه، والثانية أنه لا يحط عن أحد ذنبه ليسلم.(16/33)
ولما كان هذا أمراً - مع كونه جلياً - خالعاً للقلوب، فكان بحيث يشتد تعجب السامع ممن يسمعه ولا يخشى، فقال مزيلاً لهذا العجب على سبيل النتيجة: {إنما تنذر} أي إنذاراً يفيد الرجوع عن الغيّ، فلاختصاصهم بالنفع كانوا كأنهم مختصون بالإنذار، وهو كما قال القشيري: الإعلام بموضع المخافة. {الذين يخشون} أي يوقعون هذا الفعل في الحال ويواظبون عليه في الاستقبال. ولما كان أعقل الناس من خاف المحسن لان أقل عقابة قطع إحسانه قال: {ربهم} .
ولما كان أوفى الناس عقلاً وأعلاهم همة وأكرمهم عنصراً من كانت غيبته مثل حضوره، وكان لا يحتاج - مع قول الداعي وما يظهر له من سمته وحسن قوله وفعله - إلى آية يظهرها ولا خارقة يبرزها، وإنما إيمانه تصديقاً للداعي في إخباره بالأمر المغيب من غير كشف غطاء قال: {بالغيب} أي حال كونهم غائبين عما دعوا إليه وخوفوا به، أو حال كونه غائباً عنهم أو غائبين عمن يمكن مراءاته، فهم مخلصون في خشيتهم سواء بحيث لا يطلع عليهم إلا الله، ولا نعلم أحداً وازى خديجة والصديق رضي الله عنهما في ذلك.
ولما كانت(16/34)
الصلاة جامعة لخضوع الظاهر والباطن، فكانت أشرف العبادات، وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص، قال معبراً بالماضي لأن مواقيت الصلاة مضبوطة: {وأقاموا} أي دليلاً على خشيتهم {الصلاة} في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن.
ولما كان التقدير: فمن كان على غير ذلك تدسى، ومن كان على هذا فقد تزكى، ومن تدسى فإنما يتدسى على نفسه، عطف عليه قوله، مشيراً بأداة التفعل إلى أن النفس أميل شيء إلى الدنس، فلا تنقاد إلى أحسن تقويم إلا باجتهاد عظيم. {ومن تزكّى} أي تطهر وتكثر بهذه المحاسن. ولما كان الإنسان ليفيده بالأسباب القريبة قد يغفل عن أن هذا نفع له وخاص به أكده فقال: {فإنما يتزكّى لنفسه} فإنه لا يضر ولا ينفع في الحقيقة غيرها {وإلى الله} الذي يكشف عن جميع صفاته أتم كشف تحتمله العقول يوم البعث لا إلى غيره {المصير *} كما كان منه المبدأ فيجازي كلاًّ على فعله فينصف بينك وبين من خشي ربه بإنذارك ومن أعرض عن ذلك.
ولما كان التقدير: فما يستوي في الطبع والعقل المتدسي الذي هو أعمى بعصيانه في الظلمات ولا المتزكي الذي هو بطاعاته بصير في(16/35)
النور وإن استويا في الإنسانية، عطف عليه ما يصلح أمثلة للمتدسي والمتزكي وما يكون به التدسية والتزكية، دلالة على تمام قدرته الذي السياق له من أول السورة، وتقريراً لأن الخشية والقسوة بيده إبطالاً لقول من يسند الأمور إلى الطبائع قوله: {وما يستوي} أي في حالة من الأحوال. ولما كان المقام لوعظ المشركين، وكان المتدسي قبل المتزكي على ما قرر قبله، ناسب أن ينظم على هذا الترتيب قوله مثالاً للكافر والمؤمن والجاهل والعالم، وقدم مثال الجاهل لأن الأصل عن الإرسال الجهل: {الأعمى والبصير *} أي لا الصنفان ولا أفرادهما ولا أفراد صنف منهما، وأغنى عن إعادة النافي ظهور المفاوتة بين أفراد كل صنف من الصنفين، فالمعنى أن الناس غير مستوين في العمى والبصر بل بعضهم أعمى وبعضهم بصير، لأن افتعل هنا لمعنى تفاعل، ولعله عبر به دلالة على النفي ولو وقع اجتهاد في أن لا يقع، أو دلالة على أن المنفي إنما هو التساوي من كل جهة، لا في أصل المعنى ولو كان ذلك مستنداً إلى الطبع لكانوا على منهاج واحد بل وأفراد كل متفاوتون فتجد بعض العمى يمشي بلا قائد في الأزقة المشكلة، وآخر لا يقدر على المشي في بيته إلا بقائد، وآخر يدرك من الكتاب إذا جسه كم مسطرته من سطر، وهل خطه حسن أو لا،(16/36)
وآخر يدرك الدرهم الزيف من غيره، ويميز ضرب كل بلد من غيره، وربما نازعه أحد مغالطة فلا يقبل التشكيك، وآخر في غاية البعد عن ذلك، وأما البصراء فالأمر فيهم واضح في المفاوتة في أبصارهم وبصائرهم، وكل ذلك دليل واضح على أن الفاعل قادر مختار يزيد في الخلق ما يشاء، وإلا لتساوت الأفراد فكانوا على منهاج واحد.
ولما كان هذا من أغرب الأمور وإن غفل عنه لكثرة إلفه، نبه على غرابته ومزيد ظهور القدرة فيه بتكرير النافي في أشباهه وعلى أن الصبر لا ينفذ إلا في الظلمة، تنبيهاً على أن المعاصي تظلم قلب المؤمن وإن كان بصيراً، وقدم الظلمة لأنها أشد إظهاراً لتفاوت البصر مع المناسبة للسياق على ما قرر، فقال في عطف الزوج على الزوج وعطف الفرد على الفرد جامعاً تنبيهاً على أن طرق الضلال يتعذر حصرها: {ولا الظلمات} التي هي مثال للأباطيل؛ وأكد بتكرير النافي كالذي قبله لأن المفاوتة بين أفراد الظلمة وأفراد النور خفية، فقال منبهاً على أن طريق الحق واحدة تكذيباً لمن قال من الزنادقة: الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق: {ولا النور *} الذي هو مثال للحق، فما أبدعهما على هذا التضاد إلا الله تعالى الفاعل المختار، وفاوت بين أفراد النور(16/37)
وأفراد الظلمة، فما يشبه نور الشمس نور القمر ولا شيء منهما نور غيرهما من النجوم ولا شيء من ذلك نور السراج - إلى غير ذلك من الأنوار، وإذا اعتبرت أفراد الظلمات وجدتها كذلك، فإن الظلمات إنما هي ظلال، وبعض الظلال أكثف من بعض.(16/38)
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
ولما كان الظلام ينشأ عن الظلال، وهو نسخ النور، قدمه فقال مقدماً مثال الخير لأن الرحمة سبقت الغضب: {ولا الظل} أي ببرده الذي هو مرجع المؤمن في الآخرة {ولا الحرور *} أي بوهجها، وهي مرجع الكافر، قال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي الريح الحارة بالليل، وكذا قال في القاموس وزاد: وقد يكون بالنهار وحر الشمس والحر الدائم والنار، فانتفى حكم الطبائع قطعاً.
ولما كان المظهر لذلك كله الحياة، قدمها فقال مثالاً آخر للمؤمنين، ولذلك أعاد الفعل وهو فوق التمثيل بالأعمى والبصير، لأن الأعمى يشارك البصير في بعض الإدراكات، وصار للمؤمن والكافر مثالان ليفيد الأول نفي استواء الجنس بالجنس مع القبول للحكم على الأفراد، والثاني بالعكس وهو للنفي في الأفراد مع القبول للجنس: {وما يستوي الأحياء} أي لأنه منهم الناطق والأعجم، والذكي والغبي، والسهل والصعب،(16/38)
فلا يكاد يتساوى حيان في جميع الخلال {ولا الأموات} أي الذين هم مثال للكافرين في صعوبة الموت وسهولته والبلى وغيره مما يخفى ولا يقر به الكفار من الشقاوة والسعادة.
ولما كان ما ذكر على هذا الوجه - من وضوح الدلالة على الفعل بالاختيار وعلى ضلال من أشرك به شيئاً لأنه لا يشابهه شيء - بمكان ليس معه خفاء، ومن الإحكام بحيث لا يدانيه كلام يعجب السامع ممن يأباه، فقال مزيلاً عجبه مقرراً أن الخشية والقسوة إنما هما بيده، وأن الإنذار إنما هو لمن قضى بانتفاعه، مسلياً لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مؤكداً رداً على من يرى لغيره سبحانه فعلاً من خير أو شر: {إن الله} أي القادر على المفاوتة بين هذه الأشياء وعلى كل شيء بما له من الإحاطة بصفات الكمال، وعبر بالفعل إشارة إلى القدرة على ذلك في كل وقت أراده سبحانه فقال: {يسمع من يشاء} أي فيهديه ولو لم يكن له قابلية في العادة كالجمادات، ويصم ومن يشاء فيعميه وينكسه ويرديه من أحياء القلوب والأرواح، وأموات المعاني والأشباح، والمعنى أن إسماعهم لو كان مستنداً إلى الطبائع لاستووا إما بالإجابة(16/39)
أو الإعراض لأن نسبة الدعوة وإظهار المعجزة إليهم على حد سواء، فالآية تقرير آية {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب} .
ولما كان المعرض قد ساوى الميت في حاله التي هي عدم الانتفاع بما يرى ويسمع من الخوارق، فكان كأنه ميت، قال معبراً بالأسمية تنبيهاً على عدم إثبات ذلك له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وما أنت} أي بنفسك من غير إقدار الله لك، وأعرق في النفي فقال: {بمسمع} أي بوجه من الوجوه {من في القبور *} أي الحسية والمعنوية، إسماعاً ينفعهم بل الله يسمعهم إن شاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والآية دليل على البعث.
ولما كان هذا خاصة الإله، أشار إلى نفيه عنه مقتصراً على وصف النذارة، إشارة إلى أن أغلب الخلق موتى القلوب، فقال مؤكداً للرد على من يظن أن النذير يقدر على هداية أو غيرها إلا بإقداره {إن} أي ما {أنت إلا نذير *} أي تنبه القلوب الميتة بقوارع الإنذار، ولست بوكيل يقهرهم على الإيمان.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي الرحمة، وكان الاقتصار على هذا الوصف ربما أوهم غير ذلك، أتبعه قوله بياناً لعظمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/40)
بالالتفات إلى مظهر العظمة لأن عظمة الرسول من عظمة المرسل فنذارته رحمة: {إنا} أي بما لنا من العظمة {أرسلناك} أي إلى هذه الأمة إرسالاً مصحوباً {بالحق} أي الأمر الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع، فإن من نظر إلى كثرة ما أوتيته من الدلائل علم مطابقة الواقع لما تأمر به، والتقدير بالمصدر يفهم أن الرسالة حق، وكلاًّ من المرسل والرسول محق {بشيراً} أي لمن أطاع {ونذيراً} أي لمن عصى، والعطف بالواو للدلالة على العراقة في كل من الصفتين.
ولما كان مما يسهل القياد ويضعف الجماح التأسية، قال مؤكداً دفعاً لاستبعاد الإرسال إلى جميع الأمم: {وإن} أي والحال أنه ما {من أمة} من الأمم الماضية {إلا خلا فيها نذير *} أرسلناه إليهم بشيراً ونذيراً إما بنفسه وإما بما أبقى في أعقابهم من شرائعه من أقواله وأفعاله ورسومه مع ما لهم من العقول الشاهدة بذلك، والنذارة دالة على البشارة، واقتصر عليها لأنها هي التي تقع بها التسلية لما فيها من المشقة، ولأن من الأنبياء الماضين عليهم السلام من تمحضت دعوته للنذارة لأنه لم ينتفع أحد ببشارته لعدم اتباع أحد منهم له.(16/41)
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد الأسف على إبائهم رحمة لهم وخوفاً من أن يكون ذلك لتقصير في حاله، وكان التقدير: فإن يصدقوك فهو حظهم في الدنيا والآخرة، عطف عليه تأسية له وتسلية قوله: {وإن يكذبوك فقد} أي فتسل لأنه قد {كذب الذين} ولما كان المكذبون بعض الناس، فلزم لذلك أن يكونوا في بعض الزمان، دل على ذلك بالجار فقال: {من قبلهم} أي ما أتتهم به رسلهم عن الله.
ولما كان قبول الرسل لما جاءهم عن الله ونفى التقصير في الإبلاغ عنهم دالاً على علو شأنهم وسفول أمر المكذبين من الأمم، وكل ذلك دالاًّ على تمام قدرة الله تعالى في المفاوتة بين الخلق، قال دالاً على أمري العلو والسفول استئنافاً جواباً لمن كأنه قال: هل كان تكذيبهم عناداً او لنقص في البيان: {جاءتهم} أي الأمم الخالية {رسلهم بالبينات} أي الآيات الواضحات في الدلالة على صحة الرسالة. ولما كان التصديق بالكتاب لازماً لكل من بلغه أمره، وكانت نسبة التكذيب إلى جميع الأمم أمراً معجباً، كان الأمر حرياً بالتأكيد لئلا يظن أنهم ما كذبوا إلا لعدم الكتاب، فأكد بإعادة الجار(16/42)
فقال: {وبالزبر} أي الأمور المكتوبة من الصحف ونحوها من السنن والأسرار {وبالكتاب} أي جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل {المنير *} أي الواضح في نفسه الموضح لطريق الخير والشر كما أنك أتيت قومك بمثل ذلك وإن كان طريقك أوضح وأظهر، وكتابك أنور وأبهر وأظهر وأشهر.
ولما سلاه، هدد من خالفه وعصاه بما فعل في تلك الأمم فقال، صارفاً القول إلى الإفراد دفعاً لكل لبس، مشيراً بأداة التراخي إلى أن طول الإمهال ينبغي أن يكون سبباً للإنابة لا للاغترار بظن الإهمال: {ثم أخذت} أي بأنواع الأخذ {الذين كفروا} أي ستروا تلك الآيات المنيرة بعد طول صبر الرسل عليهم ودعائهم لهم. ولما كان أخذ من قص أخباره منهم عند العرب شهيراً، وكان على وجوه من النكال معجبة، سبب عنه السؤال بقوله: {فكيف كان نكير *} أي إنكاري عليهم، أي أنه إنكار يجب السؤال عن كيفية لهوله وعظمه، كما قال القشيري: ولئن أصروا على سنتهم في الغي فلن تجد لسنتنا تبديلاً في الانتقام والخزي.(16/43)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
ولما كان من من أغرب الأشياء الدالة على تمام القدرة الدال على الوحدانية أن يكون شيء واحد سبباً لسعادة قوم وهداهم، وشقاوة قوم وضلالهم وعماهم وكان ذلك، امراً دقيقاً وخطباً جليلاً، لا يفهمه(16/43)
حق فهمه إلا أعلى الخلائق، ذكر المخاطب بهذا الذكر ما يشاهد من آيته، فقال على طريق الإستخبار لوصول المخاطب إلى رتبة أولي الفهم بما ساق من ذلك سبحانه على طريق الإخبار في قوله: {الله الذي أرسل الرياح} ولفت القول إلى الاسم الأعظم دلالة على عظمة ما في حيزه: {ألم تر أن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {أنزل من السماء} أي التي لا يصعد إليها الماء ولا يستمسك عن الهبوط منها في غير أوقاته إلا بقدرة باهرة لا يعجزها شيء {ماء} أي لا شيء يشابهه في مماثلة بعضه لبعض، فلا قدرة لغيره سبحانه على تمييز شيء منه إلى ما يصلح لشيء دون آخر.
ولما كان أمراً فائتاً لقوى العقول، نبه عليه بالالتفات إلى مظهر العظمة فقال: {فأخرجنا} أي بما لنا من العظمة {به} أي الماء من الأرض {ثمرات} أي متعددة الأنواع {مختلفاً ألوانها} أي ألوان أنواعها وأصنافها وهيئاتها وطبائعها، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نوراً لشخص وعمى لآخر.(16/44)
ولما ذكر تنوع ما عن الماء وقدمه لأنه الأصل في التلوين كما أنه الأصل في التكوين، أتبعه التلوين عن التراب الذي هو أيضاً شيء واحد، فقال ذاكراً ما هو أصلب الأرض وأبعدها عن قابلية التأثر وقطعه عن الأول لأن الماء لا تأثير له فيه: {ومن} أي ومما خلقنا من {الجبال جدد} أي طرائق وعلامات وخطوط متقاطعة {بيض وحمر} ولعله عبر عنها بذلك دون طرق إشارة إلى أن من غرابتها أنها لا تخلق ولا تضمحل ألوانها على طول الأزمان كما هو العادة في غالب ما يتقادم عهده، والجد بالفتح، والجدة بالكسر، والجدد بالتحريك: وجه الأرض، وجمعه جدد بالكسر، والجدة بالضم: الطريقة والعلامة والخط في ظهر الحمار يخالف لونه وجمعه جدد كغدة وغدد وعدة وعدد ومدة ومدد والجدد محركة: ما أشرف من الرمل وشبه السلعة بعنق البعير والأرض الغليظة المستوية، والجدجد بالفتح: الأرض المستوية.
ولما كان أبلغ من ذلك أن تلك الطرق في أنفسها غير متساوية المواضع في ذلك اللون الذي تلونت به، قال تعالى دالاً على أن كلاً من هذين اللونين لم يبلغ الغاية في الخلوص: {مختلف ألوانها} وهي(16/45)
من الأرض وهي واحدة. ولما قدم ما كان مستغرباً في ألوان الأرض لأنه على غير لونها الأصلي أتبعه ما هو أقرب إلى الغبرة التي هي أصل لونها.
ولما كانت مادة {غرب} تدور على الخفاء الذي يلزمه الغموض أخذاً من غروب الشمس، ويلزم منه السواد، ولذلك يؤكد الأسود بغربيب مبالغة الغرب كفرح أي الأسود للمبالغة في سواده، وكان المقصود الوصف بغاية السواد مخالفة لغيره، قال تعالى عاطفاً على بيض: {وغرابيب} أي من الجدد أيضاً {سود *} فقدم التأكيد لدلالة السياق على أن أصل العبارة «وسود غرابيب سود» فأضمر الأول ليتقدم على المؤكد لأنه تابع، ودل عليه بالثاني ليكون مبالغاً في تأكيده غاية المبالغة بالإظهار بعد الإضمار، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما: أشد سواد الغرابيب - رواه عنه البخاري، لأن السواد الخالص في الأرض، مستغرب، ومنه ما يصبغ به الثياب ليس معه غيره، فتصير في غاية السواد، وذلك في مدينة فوة ومسير وغيرهما مما داناهما من بلاد مصر.
ولما أكد هذا بما دل على خلوصه، قدم ذكر الاختلاف عليه،(16/46)
ولما ذكر تعالى ما الأغلب فيه الماء مما استحال إلى آخر بعيد من الماء، وأتبعه التراب الصرف، ختم بما الأغلب فيه التراب مما استحال إلى ما هو في غاية البعد من التراب فقال: {ومن الناس} أي المتحركين بالفعل والاختيار {والدواب} ولما كانت الدابة في الأصل لما دب على الأرض، ثم غلب إطلاقه على ما يركب قال: {والأنعام} ليعم الكل صريحاً {مختلف ألوانه} أي ألوان ذلك البعض الذي أفهمته «من» {كذلك} أي مثل الثمار والأراضي فمنه ما هو ذو لون واحد، ومنه ما هو ذو ألوان مع أن كل ما ذكر فهو من الأراضي متجانس الأعيان مختلف الأوصاف، ونسبته إليها وإلى السماء واحدة فأين حكم الطبائع.
ولما ثبت بهذا البرهان أنه سبحانه فاعل بالاختيار، فهو يفعل فيما يشاء ومن يشاء، ما يشاء فيجعل الشيء الواحد لقوم نوراً ولقوم عمى، وكان ذلك مرغباً في خدمته مرهباً من سطوته سبحانه وتعالى وتقدس لكل ذي لب، وكان السياق لإنذار من يخشى بالغيب، فثبت أن الإنذار بهذا القرآن يكون لقوم أراد الله خشيتهم خشية، ولقوم أراد الله قسوتهم(16/47)
قسوة، التفت النفس إلى طلب قانون يعرف به من يخشى ومن لا يخشى، فقال على سبيل الاستنتاج من ذلك، دفعاً لظن من يحسب أنه يمكن أن يكون ولي جاهلاً: {إنما يخشى الله} أي الذي له جميع الكمال، ولا كمال لغيره إلا منه، ودل على أن كل من سواه في قبضته وتحت قهره بقوله: {من عباده} ثم ذكر محط الفائدة وهو من ينفع إنذاره فقال: {العلماء} أي لا سواهم وإن كانوا عباداً وإن بلغت عبادتهم ما عسى أن تبلغ، لأنه لا يخشى أحد أحداً إلا مع معرفته، ولا يعرفه جاهل، فصار المعنى كأنه قيل: إنما ينفع الإنذار أهل الخشية، وإنما يخشى العلماء، والعالم هو الفقيه العامل بعلمه، قال السهروردي في الباب الثالث من عوارفه: فينتفي العلم عمن لا يخشى الله، كما إذا قال: إنما يدخل الدار بغدادي، فينتفي دخول البغدادي الدار هذا معنى القراءة المشهورة.
ولما كان سبب الخشية التعظيم والإجلال، وكان كل أحد لا يجل إلا من أجله، وكان قد ثبت أن العلماء يجلون الله، وكان سبب إجلالهم له إجلاله لهم، كان هذا معنى القراءة الأخرى، فكان كأنه قيل: إنما ينفع الإنذار من يجهل الله فالله يجله لعلمه، وسئل شيخنا محقق زمانه قاضي الشافعية بمصر محمد بن علي القاياتي عن توجيه هذه القراءة فأطرق يسيراً ثم رفع رأسه فقال:
أهابك إجلالاً وما بك قدرة ... عليّ ولكن مليء عين حبيبها(16/48)
ولما ثبت بهذا السياق أنه سبحانه فاعل هذه الأشياء المتضادة، علل ذلك ليفيد أن قدرته على كل ما يريد كقدرته عليه بقوله على سبيل التأكيد تنبيهاً على أنه سبحانه لا يعسر عليه شيء وأنه أهل لأن يخشى ولذلك أظهر الاسم الأعظم: {إن الله} أي المحيط بالجلال والإكرام {عزيز} أي غالب على جميع أمره. ولما كان هذا مرهباً من سطوته موجباً لخشيته لإفهامه أنه يمنع الذين لا يخشون من رحمته، رغبهم بقوله: {غفور *} في أنه يمحو ذنوب من يريد منهم فيقبل بقلبه إليه وهو أيضاً من معاني العزة.
ولما تقرر هذا، تشوف السامع إلى معرفة العلماء فكان كأنه قيل: هم الذين يحافظون على كتاب الله علماً وعملاً، فقيل: فما لهم؟ فقال مؤكداً تكذيباً لمن يظن من الكفار وغيرهم من العصاة أنهم من الخاسرين بما ضيعوا من عاجل دنياهم: {إن الذين يتلون} أي يجددون التلاوة كل وقت مستمرين على ذلك محافظين عليه كلما نزل من القرآن شيء وبعد كمال نزوله حتى يكون ذلك ديدنهم وشأنهم بفهم وبغير فهم {كتاب الله} أي الذي لا ينبغي لعاقل أن يقبل على غيره لما له من صفات الجمال والجلال، ولما ذكر السبب الذي لا سبب يعادله،(16/49)
ذكر أحسن ما يربط به، فقال دالاً على المداومة بالتعبير بالإقامة وعلى تحقيق الفعل بالتعبير بالماضي: {وأقاموا الصلاة} أي وهي الناهية عن الفحشاء والمنكر فناجوا الله فيها بكلامه. ولما ذكر الوصلة بينهم وبين الخالق، ذكر إحسانهم إلى الخلائق، فقال دالاً على إيقاع الفعل بالتعبير بالماضي، وعلى الدوام بالسر والعلن لافتاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده، لا بحول أحد غيره ولا غيره: {وأنفقوا مما رزقناهم} أي بحولنا وقوتنا لا بشيء من أمرهم في جميع ما يرضينا، ودل على مواظبتهم على الإنفاق وإن أدى إلى نفاد المال بقوله: {سراً وعلانية} وعبر في الأول بالمضارع لأن إنزالها كان قبل التمام وتصريحاً بتكرار التلاوة تعبداً ودراسة لأن القرأن كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أشد تفلتا من الإبل في عقلها» أخرجه مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وفي الثاني والثالث بالماضي حثاً على المبادرة إلى الفعل، وقد تحصل من هذا أنه جعل لفعل القلب الذي هو الخشية دليلاً باللسان وآخر بالأركان وثالثاً بالأموال.
ولما أحلهم بالمحل الأعلى معرفاً أنهم أهل العلم الذي يخشون الله، وكان العبد لا يجب له على سيده شيء، قال منبهاً على نعمة الإبقاء الثاني التي هي أم النعم والنتيجة العظمى المقصودة بالذات: {يرجون} أي(16/50)
في الدنيا والآخرة {تجارة} أي بما عملوا {لن تبور *} أي تكسد وتهلك بل هي باقية، لأنها دفعت إلى من لا تضيع لديه الودائع وهي رائجة رابحة، لكونه تام القدرة شامل العلم له الغنى المطلق.(16/51)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
ولما كان المراد بعدم هلاكها حفظها وبقاءها إلى يوم لقائه، علله بقوله، مقتصراً على الضمير لأن السياق للمؤمنين، ولذا لفته إلى ضمير الغيبة لأن إيمانهم بالغيب {ليوفيهم} : أي لنفاقها عنده سبحانه في الدنيا إن أراد أو في الآخرة أو فيهما {اجورهم} أي على تلك الأعمال {ويزيدهم} أي على ما جعله بمنه وبيمنه حقاً لهم عليها {من فضله} أي زيادة ليس لهم فيها تسبب أصلاً، بل سيء بعد ما منّ عليهم بما قابل أعمالهم به مما يعرفون أنه جزاءها مضاعفاً للواحد عشرة إلى ما فوق. ولما كانت أعمالهم لا تنفك عن شائبة ما، وإن خلصت فلم يكن ثوابها لأنها منّ منه سبحانه مستحقاً، علل توفيتهم لها بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه لا يسع الناس إلا عفوه لأنه لن يقدر الله أحد حق قدره وإن اجتهد، ولو واخذ أعبد العباد بما يقع من تقصيره أهلكه {إنه غفور} أي بمحو النقص عن العمل {شكور *} أي(16/51)
يقبله ويزيد عليه.
ولما كانت ترجمة الآية أن العلماء هم حملة الكتاب، وبدأ سبحانه بأدنى درجاتهم، وكان ذلك مما يرغب في الكتاب، أتبعه ترغيباً هو أعلى منه، فقال عاطفاً على قوله في تقرير الأصل الثاني الذي هو الرسالة {إنا أرسلناك بالحق} [البقرة: 119] وأكده دفعاً لتكذيب المكذبين به: {والذي أوحينا} أي بما لنا من العظمة {إليك} وبين قدره بمظهر العظمة وقال مبيناً للوحي: {من الكتاب} أي الجامع لخيري الدارين. ولما كان الكتاب لا يطرقه نوع من أنواع التغير لأنه صفة من لا يتغير قال: {هو الحق} أي الكامل في الثبات ومطابقة الواقع له لا غيره من الكلام؛ وأكد حقيته بقوله: {مصدقاً لما بين يديه} أي من الكتب الماضية الآتي لها الرسل الداعون إلى الله المؤيدون بالبراهين الساطعة والأدلة القاطعة.
ولما دل سبحانه على أن العلم هو الحقيقة الثابتة، وما عداه فهو محو وباطل، ودل على أن التالين لكتابه الذي هو العلم هم العلماء، وغيرهم وإن كانوا موجودين فهم بالمعدومين أشبه، ودل على أن الكتب الماضية وإن كانت حقاً لكنها ليست في كمال القرآن، لأن الأمر(16/52)
ما دام لم يختم فالزيادة متوقعة فيه بخلاف ما إذا وقع الختم فإنه لا يكون بعده زيادة ترتقب، وكان ربما تراءى لأحد في بعض المتصفين بذلك غير ذلك، قال تعالى إعلاماً بأن العبرة بما عنده لا بما يظهر للعباد، وأكده تنبيهاً على أن هذا المعنى مما تعقد عليه الخناصر وإن تراءى لأكثر الناس خلافه، أظهر الاسم الأعظم لحاجة المخبرين هنا إليه لأنهم البر والفاجر: {إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال. ولما كان الإنسان أعلم بمن يربيه ولا سيما إن كان مالكاً له قال: {بعباده لخبير} أي عالم أدق العلم وأتقنه ببواطن أحوالهم {بصير *} أي بظواهر أمورهم وبواطنها أي فهو يسكن الخشية والعلم القلوب على ما أوتوا من الكتاب في علمه وتلاوته وإن تراءى لهم خلاف ذلك، فأنت أحقهم بالكمال لأنك أخشاهم وأتقاهم، فلذلك آتيناك هذا الكتاب، فأخشاهم بعدك أحقهم بعلمه.
ولما كان معنى الوصفين: فنحن نيسر لتلاوة كتابنا من يكون قابلاً للعلم الذي هو عمود الخشية بما تعلمه منه بخبرنا وبصرنا، وكان الذي ضم إلى التلاوة الفهم في الذروة العليا من العلم، قال عطفاً على هذا الذي(16/53)
أرشد السياق إلى تقديره مشيراً بأداة العبد إلى علو رتبة أهل هذا القسم، وهم هذه الأمة الأمية على اختلاف مراتب إرثهم مع تراخي إرثهم عمن قبلهم، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء الحال لها في نزع شيء من قوم وإثباته لآخرين: {ثم أورثنا} أي ملكنا بعظمتنا ملكاً تاماً وأعطينا عطاء لا رجوع فيه، وعبر في غير هذه الأمة {ورثوا الكتاب} [الأعراف: 169] فانظر فوق ما بين العبارتين تعرف الفرق بين المقامين، ويجوز أن يكون التقدير بعد ما أوحينا إليك: وأورثناكه ثم أورثناه، ولكنه أظهر دلالة على الوصف تنبيهاً على تناهي جمعه للكتب الماضية وإعلاماً بأن «من» في {أوحينا إليك من} للبيان فقال: {الكتاب} أي القرآن باتفاق المفسرين، قال الأصفهاني - الجامع لكل كتاب أنزلنا، فهو أم لكل خير، وقال ابن عباس كما نقله ابن الجوزي: إن الله أورث أمة محمد كل كتاب أنزله {الذين اصطفينا} أي فعلنا في اختيارهم فعل من يجتهد في ذلك {من عبادنا} أي أخلصناهم لنا وهم بنو إسماعيل ومن تبعهم، يعني أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ونقل عن ابن جرير أنه قال: الإرث: انتقال شيء من قوم إلى قوم، فثم هنا للترتيب، لأن إيتاء هذه الأمة متراخ عن إيتاء(16/54)
الأمم ونقله إليهم بعد إبطال تلك الأديان، ونسخ تلك الكتب إلا ما وافق القرآن فمعنى الإيراث أنه نزع تلك الكتب من الأمم السالفة وأعطاها لهذه الأمة على الوجه الذي رضيه لها وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن بل يشمل من يحفظ منه جزءاً ولو أنه الفاتحة فقط، فإن الصحابة رضوان الله تعالى أجمعين لم يكن كل واحد منهم يحفظ جميع القرآن ونحن على القطع بأنهم مصطفون.
ولما كان اكثر الناس لا ينفك عن تقصير كثير لما جبل الإنسان عليه من النقصان، فكان من فيه ذلك يخرج نفسه من هذا القسم، قال معرفاً له بمقداره مؤنساً له بما فتح له من أنواره مستجلباً له إلى حضرة قدسه ومعدن أسراره مقسماً أهل هذا القسم وهم أهل الفهم إلى ثلاثة أقسام مقدماً الأدنى لأنهم الأكثر ولئلا يحصل اليأس، ويصدع القلوب خوف البأس: {فمنهم} أي فتسبب عن إيراثنا لهم أن كان منهم كما هو مشاهد {ظالم لنفسه} أي بالتفريط والتهاون في توفية الحق لما يقتضيه حاله من العمل غير متوق للكبائر، وهذا القسم هم أكثر الوارث وهم المرجئون لأمر الله.
ولما كان ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة، نبه على ذلك بصيغة الافتعال فقال: {ومنهم مقتصد} أي متوسط في العمل غير باذل(16/55)
لجميع الجهد إلا أنه مجتنب للكبائر فهو مكفر عنه الصغائر، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً {ومنهم سابق بالخيرات} أي العبادات وجميع أنواع القربات، موف للمقام الذي أقيم به حقه كلما ازداد قرباً ازداد عملاً، لا يكون سابقاً إلا وهو هكذا، وهم السابقون الأولون من المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ويؤيد هذا قول الحسن: السابق من رجحت حسناته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم من رجحت سيئاته. وختم بالسابقين لأنهم الخلاصة وليكونوا أقرب إلى الجنات كما قدم الصوامع في سورة الحج لتكون أقرب إلى الهدم وآخر المساجد لتقارب الذكر وقدم في التوبة السابقين عقيب أهل القربات من الإعراب وأخر المرجئين وعقبهم بأهل مسجد الضرار، وقدم سبحانه في الأحزاب المسلمين ورقى الخطاب درجة درجة إلى الذاكرين الله كثيراً، فهو سبحانه تارة يبدأ بالأدنى وتارة بالأعلى بحسب ما يقتضيه الحال كما هو مذكور في هذا الكتاب في محاله، وهذا على تقدير عود الضمير في {منهم} على {الذين} لا على {العباد} وهو مع تأيده بالمشاهدة وإن السياق لأن أهل العلم(16/56)
هو التالون لكتاب الله مؤيد بأحاديث لا تقصر - وإن كانت ضعيفة - عن الصلاحية لتقوية ذلك، فمنها ما رواه البغوي بسنده عن ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية على المنبر وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» وبسنده عن أبي الدرداء رضي الله عنه ان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ هذه الآية وقال: «أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة» - ثم قرأ {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} . وروي بغير إسناد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلهم من هذه الأمة» وقال ابن الجوزي بعد أن ذكر حديث عمر رضي الله عنه بغير سند: وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الآية قال: «كلهم في الجنة»
وروى حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الحافظ ابن عساكر في الكنى من تأريخ دمشق في ترجمة أخي زياد أو أبي زياد. وأما على عود الضمير على العباد(16/57)
فقال ابن عباس رضي الله عنهما: السابق المؤمن المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها، وقال قتادة: الظالم أصحاب المشأمة، والمقتصد أصحاب الميمنة، والسابقون المقربون.
ولما كان هذا ليس في قوة العبد في مجاري العادات، ولا يؤخذ بالكسب والاجتهادات، أشار إلى عظمته بقوله: {بإذن الله} أي بتمكين من له القدرة التامة والعظمة العامة والفعل بالاختيار وجميع صفات الكمال وتسهيله وتيسره لئلا يأمن أحد مكره تعالى، قال الرازي في اللوامع: ثم من السابقين من يبلغ محل القربة فيستغرق في وحدانيته، وهو الفرد الذي اهتز في ذكره - انتهى. ثم زاد عظمة هذا الأمر بياناً، فقال مؤكداً تكذيباً لظنون الجاهلين لأن السابق كلما علا مقامه في السبق قل حظه من الدنيا، فرأى الجاهلون أنه مضيع لنفسه: {ذلك} أي السبق أو إيراث الكتاب {هو} مشيراً بأداة البعد مخصصاً بضمير الفصل {الفضل الكبير *} .(16/58)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
ولما ذكر تعالى أحوالهم، بين جزاءهم ومآلهم، فقال مستأنفاً جواباً لمن سأل عن ذلك: {جنات} أي هي مسببة عن سبب السبق الذي هو الفضل، ويصح كونها بدلاً من الفضل لأنه سببها،(16/58)
فكان كأنه هو الثواب {عدن} أي إقامة بلا رحيل لأنه لا سبب للرحيل عنها {يدخلونها} أي الثلاثة أصناف، ومن دخلها لم يخرج منها لأنه لا شيء يخرجه ولا هو يريد الخروج على أن الضمير ل «الذين» ومن قال ل «عبادنا» خص الدخول بالمقتصد والسابق - هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وضم الخاء، وعلى قراءة أبي عمرو بالبناء للمفعول يكون الضمير للسابق فقط، لأنهم يكونون في وقت الحساب على كثبان المسك ومنابر النور فيستطيبون مكانهم، فإذا دعوا إلى الجنة أبطؤوا فيساقون إليها كما في آخر الزمر.
ولما كان الداخل إلى مكان أول ما ينظر إلى ما فيه من النفائس قال: {يحلّون فيها} أي يلبسون على سبيل التزين والتحلي {من أساور} ولما كان للإبهام ثم البيان مزيد روعة النفس، وكان مقصود السورة إثبات القدرة الكاملة لإثبات اتم الإبقاءين، شوق إلى الطاعة الموصلة إليه بأفضل ما نعرف من الحلية، فقال مبيناً لنوع الأساور: {من ذهب ولؤلؤاً} ولما كانت لا تليق إلى على اللباس الفاخر، قال معرفاً أنهم حين الدخول يكونون لابسين: {ولباسهم فيها حرير *} .
ولما كان المقتصد والسابق يحزنون لكمالهم وشدة شفقتهم على الظالم إذا قوصص، جمع فقال معبراً بالماضي تحقيقاً له: {وقالوا} أي(16/59)
عند دخولهم: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي الذي لم تمام القدرة {الذي أذهب} أي بدخولنا هذا {عنا الحزن} أي هذا النوع بكماله، فلا نحزن على شيء كان فاتنا، ولا يكون لنا حزن أبداً لأنا صرنا في دار لا يفوت فيها شيء أصلاً ولا ينفى.
ولما كانوا عالمين بما اجترحوه من الزلات أو الهفوات أو الغفلات التي لولا الكرم لأدتهم إلى النار، عللوا ما صاروا إليه معها بقولهم، مؤكدين إعلاماً بما عندهم من السرور بالعفو عن ذنوبهم، وأن ما أكدوه حقيق بأن يتغالى في تأكيده لما رأوا من صحته وجنوا من حلو ثمرته: {إن ربنا} أي المحسن إلينا مع إساءتنا {لغفور} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً للصنفين الأولين {شكور *} أي على ما وهبه للعبد من حسن طاعته ووفقه له من الأعمال الحسنة فجعله به سابقاً، ثم وصفوه بما هو شكر له فقالوا: {الذي أحلنا دار المقامة} أي الإقامة ومكانها وزمانها التي لا يريد النازل بها على كثرة النازلين بها - ارتحالاً منها، ولا يراد به ذلك، ولا شيء فيها يزول فيؤسف عليه.
وكان المالك المطلق لا يجب عليه شيء ولا استحقاق لمملوكه عليه بوجه قال: {من فضله} أي بلا عمل منا فإن حسناتنا إنما كانت منّاً منه سبحانه، لو لم يبعثنا عليها وييسرها لنا لما كانت.(16/60)
ولما تذكروا ما شاهدوه في عرصات القيامة من تلك الكروب والأهوال، والأنكاد والأثقال، التي أشار إليها قوله تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها} الآية، استأنفوا قولهم في وصف دار القرار: {لا يمسنا} أي في وقت من الأوقات {فيها نصيب} أي نصب بدن ولا وجع ولا شيء {ولا يمسنا فيها لغوب *} أي كلال وتعب وإعياء وفتور نفس من شيء من الأشياء، قال أبو حيان: هو لازم من تعب البدن. فهي الجديرة لعمري بأن يقال فيها:
علينا لا تنزل الأحزان شاحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
ولما بيّن ما هم فيه من النعمة، بيّن ما لأعدائهم من النقمة، زيادة في سرورهم بما قاسوه في الدنيا من تكبرهم عليهم وفجورهم فقال: {والذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه عقولهم من شموس الآيات وأنوار الدلالات {لهم نار جهنم} أي بما تجهموا أولياء الله الدعاء إليهم. ولما كانت عادة النار إهلاك من دخلها بسرعة، بيّن أن حالها على غير ذلك زيادة في نكالهم وسوء مآلهم فقال مستأنفاً: {لا يقضى} أي لا يحكم وينفذ ويثبت من حاكم ما {عليهم} أي بموت {فيموتوا} أي فيتسبب عن القضاء موتهم، وإذا راجعت ما مضى في سورة سبحان من(16/61)
قوله {فلا يملكون كشف الضر عنكم} [الإسراء: 56] وما يأتي إن شاء الله تعالى في المرسلات من قوله: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات: 36] علمت سر وجوب النصب هنا لأنه لو رفع لكان المعنى أن موتهم ينبغي إن قضي عليهم أو لم يقض وذلك محال.
ولما كانت الشدائد في الدنيا تنفرج وإن طال أمدها قال: {ولا يخفف عنهم} وأعرق في النفي بقوله: {من عذابها} أي جهنم. ولما كان ربما توهم متوهم أن هذا العذاب خاص بالذين كانوا في عصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكفار قال: {كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي} أي بما لنا من العظمة - على قراءة الجماعة بالنون {كل كفور *} أي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بغيره من الأنبياء عليهم السلام وإن لم نره لأن ثبوت المعجزة يستوي فيها المسع والبصر، وبنى أبو عمرو الفعل للمفعول إشارة إلى سهولته وتيسره ورفع {كل} .
ولما بيّن عذابهم بين اكتئابهم فقال: {وهم} أي فعل ذلك بهم والحال أنهم {يصطرخون فيها} أي يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح بالبكاء والنواح. ولما بيّن ذلك بيّن قولهم في اصطراخهم بقوله: {ربنا} أي يقولون: أيها المحسن إلينا {أخرجنا} أي من النار {نعمل صالحاً} ثم أكدوه وفسروه(16/62)
وبينوه بقولهم على سبيل التحسر والاعتراف بالخطأ أو لأنهم كانوا يظنون عملهم صالحاً {غير الذي كنا} أي بغاية جهدنا {نعمل} فتركوا الترقق والعمل على حسبه في وقت نفعه واستعملوه عند فواته فلم ينفعهم، بل قيل في جوابهم تقريراً لهم وتوبيخاً وتقريعاً: {أو لم} أي ألم تكونوا في دار العمل متمكنين من ذلك بالعقول والقوى؟ أو لم {نعمركم} أي نطل أعماركم مع إعطائنا لكم العقول ولم نعاجلكم بالأخذ {ما} أي زماناً {يتذكر فيه} وما يشمل كل عمر يتمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه غير أن التوبيخ في الطويل أعظم، وأشار بمظهر العظمة إلى أنه لا مطمع بغيره سبحانه في مد العمر.
ولما كان التفكر بعد البعث غير نافع لأنه بعد كشف الغطاء، عبر بالماضي فقال: {من تذكر} إعلاماً بأنه قد ختم على ديوان المتذكرين، فلا يزاد فيهم أحد، والزمان المشار إليه قيل: إنه ستون سنة - قاله ابن عباس رضي الله عنهم، وبوّب له البخاري في أوائل الرقاق من غير عزو إلى أحد، وروى أحمد بن منيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من عمره الله(16/63)
ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» وروى الترمذي وابن ماجه وأبو يعلى عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين. وأقلهم من يجوز ذلك» .
ولما أشار إلى دليل العقل ابتداء ودواماً، أشار إلى أدلة النقل المنبه على ما قصر عنه العقل، فقال معبراً بالماضي تصريحاً بالمقصود عطفاً على معنى: أو لم نعمركم الذي هو قد عمرناكم: {وجاءكم النذير} أي عنى من الرسل والكتب تأييداً للعقول بالدليل المعقول.
ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال: {فذقوا} أي ما أعددناه لكم من العذاب دائماً أبداً، ولما كانت العادة جارية بأن من أيس من خصمه فزع إلى الاستغاثة عليه، تسبب عن ذلك قوله: {فما} وكان الأصل: لكم، ولكنه أظهر تعليقاً للحكم بالوصف للتعميم فقال: {للظالمين} أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها {من نصير *} أي يعينهم ويقوي أيديهم، فلا براح لكم عن هذا الذواق، وهذا عام في كل ظالم، فإن من ثبت له نصر عليه لأن ظلمه في كل يوم يضعف ويهن والحق في كل حين يقوى ويضخم.(16/64)
ولما كان سبحانه عالماً بما نفى وما أثبت، علل ذلك مقرراً سبب دوام عذابهم وأنه بقدر كفرانهم كما قال تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40] بقوله مؤكداً إشارة إلى أنه لا يجب تمرين النفس عليه لما له من الصعوبة لوقوف النفس مع المحسوسات: {إن الله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {عالم غيب} ولما كانت جهة العلو أعرق في الغيب قال: {السماوات والأرض} فأنتج ذلك قوله مؤكداً لأنه من أعجب الغيب لأنه كثيراً ما يخفى على الإنسان ما في نفسه والله تعالى عالم به، أو هو تعليل لما قبله: {إنه عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور *} أي قبل أن يعلمها أربابها حين تكون غيباً محضاً، فهو يعلم أنكم لو مدت أعماركم لم ترجعوا عن الكفر أبداً، ولو رددتم لعدتم لما نهيتم عنه وأنه لا مطمع في صلاحكم، ولذلك يأمر الملك أن يكتب عند نفخ الروح في الولد أنه ما شقي أو سعيد قبل أن يكون له خاطر أصلاً، وربما كان في غاية ما يكون من الإقبال على الخير فعلاً ونية، ثم يختم له بشر، وربما كان على خلاف ذلك في غاية الفساد، لا يدع شركاً ولا غيره من المعاصي حتى يرتكبها وهو عند الله سعيد لما يعلم من نيته بعد ذلك حين يقبل بقلبه عليه فيختم له بخير(16/65)
فيكون من أهل الجنة، وأما الخواطر بعد وجودها في القلوب فقد يطلع عليها الملك والشيطان.(16/66)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
ولما كان من أنشأ شيئاً كان أعلم به، وإتقان صنعه يدل على تمام قدرة صانعه، وتمام قدرته ملزوم لتمام علمه، قال: {هو} أي وحده لا شركاؤكم ولا غيرهم {الذي جعلكم} أي أيها الناس {خلائف} جمع خليفة، وهو الذي يقوم بعد الإنسان بما كان قائماً به، والخلفاء جمع خليف - قال الأصبهاني، وقال القشيري: أهل كل عصر خليفة عمن تقدمهم، فمن قوم هم لسلفهم جمال، ومن قوم هم أراذل وأندال، الأفاضل زمانهم لهم محنة، والأراذل هم لزمانهم محنة.
ولما كان المراد توهية أمر شركائهم، وكانت تحصل بسلب قدرتهم على ما مكن فيه سبحانه العابدين من الأرض، أدخل الجار دلالة على أنهم على كثرتهم وامتداد أزمنتهم لا يملؤون مسكنهم بتدبيره لإماتة كل قرن واستخلاف من بعدهم عنهم، ولو لم يمتهم لم تسعهم الأرض مع التوالد على طول الزمان، وهم في الأصل قطعة يسيرة(16/66)
من ترابها فقال: {في الأرض} أي فيما أنتم فيه منها لا غيره تتصرفون فيه بما قدرتم عليه، ولو شاء لم يصرفكم فيه، فمن حقه أن تشكروه ولا تكفروه.
ولما ثبت أن ذلك نعمة منه، عمرهم فيه مدة يتذكر فيه من تذكر، تسبب عنه قوله: {فمن كفر} أي بعد علمه بأن الله هو الذي مكنه لا غيره، واحتقر هذه النعمة السنية {فعليه} أي خاصة {كفره} أي ضرره. ولما كان كون الشيء على الشيء محتملاً لأمور، بيّن حاله بقوله مؤكداً لأجل من يتوهم أن بسط الدنيا على الفاجر ربح وإكرام من الله له {ولا} أي والحال لأنه لا {يزيد الكافرين} أي المغطين للحق {كفرهم} أي الذي هم متلبسون به ظانون أنه يسعدهم وهو راسخون فيه غير متمكنين عنه، ولذا لم يقل: لا يزيد من كفر قد يكون كفره غير راسخ فيسلم {عند ربهم} أي المحسن إليهم {إلا مقتاً} أي لأنه يعاملهم معاملة من يبغض ويحتقر أشد بغض واحتقار.
ولما كان المراد من هذه الصفات في حق الله تعالى غاياتها، وكان ذكرها إنما هو تصوير له بأفظع صورها لزيادة التنفير من أسبابها، وكانوا ينكحون نساء الآباء مع أنهم يسمونه نكاح المقت، نبه على أنهم لا يبالون بالتمقت إلى المحسن، فقال ذاكراً للغاية مبيناً أن محط نظرهم(16/67)
الخسارة المالية تسفيلاً لهممهم زيادة في توبيخهم: {ولا يزيد الكافرين} أي العريقين في صفة التغطية للحق {كفرهم إلا خساراً *} أي في الدنيا والآخرة في المال والنفس وهو نهاية ما يفعله الماقت بالممقوت.
ولما بيّن أنه سبحانه هو الذي استخلفهم، أكد بيان ذلك عندهم بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يضطرهم إلى الإعتراف به فقال: {قل أرءيتم} أي أخبروني {شركاءكم} أضافهم إليهم لأنهم وإن كانوا جعلوهم شركاءه لم ينالوا شيئاً من شركته لأنهم ما نقصوه شيئاً من ملكه، وإنما شاركوا العابدين في أموالهم بالشوائب وغيرها وفي أعمالهم فهم شركاؤهم بالحقيقة لا شركاؤه، ثم بين المراد من عدهم لهم شركاء بقوله: {الذين تدعون} أي تدعونهم شركاء {من دون الله} أي الذي له جميع صفات الكمال.
ولما كان التقدير: بأي شيء جعلتموهم شركاء في العبادة، ألهم شرك في الأرض، بنى عليه قوله مكرراً لإشهادهم عجز شركائهم ونقص من عبدوه من دونه: {أروني ماذا} أي الذي أو أيّ شيء {خلقوا من الأرض} أي لتصح لكم دعوى الشركة فيهم، وإلا فادعاؤكم ذلك فيهم كذب محض وأنتم تدعون أنكم أبعد الناس منه في(16/68)
الأمور الهينة فكيف بمثل هذا، ولعل استفهامهم عن رؤية شركائهم تنبيه على أنهم من الامتهان والحقارة بحيث يراهم كل من يقصد رؤيتهم ويعلم أنه لا خلق لهم، والله تعالى، بخلاف ذلك في كل من الأمرين، مترد برداء الكبر محتجب بحجاب الجلال والعز، وكل أحد يعلم أنه خالق لكل مخلوق، فكيف يكون من لا يخلق كمن يخلق.
ولما نبههم بهذا الأمر الذي ساقه المعلم بأنه لا ينبغي لعاقل أن يدعي شركة لشيء حتى يعلم الشركة وإن جهل عين المشارك فيه، قال مؤكداً لذلك موسعاً لهم في المحال، زيادة في تبكيتهم على ما هم فيه من الضلال: {أم لهم شرك} أي وإن كان قليلاً {في السماوات} أي أروني ما خلقوا في السماوات، فالآية من الاحتباك: حذف أولاً الاستفهام عن الشركة في الأرض لدلالة مثله في السماء ثانياً عليه، وحذف الأمر بالإراءة ثانياً مثله أولاً عليه.
ولما أتم التبكيت بالاستفهام عن المرئي، أتبعه التوبيخ بالاستفهام عن المسموع، مؤذناً بالالتفات إلى التكلم بمظهر العظمة بشديد الغضب فقال: {أم آتيناهم} أي الشركاء أو المشركين بهم بما لنا من العظمة {كتاباً} أي دالاً على انه من عندنا بإعجازه أو غير ذلك من البراهين(16/69)
القاطعة ثبتت لهم شركة {فهم} أي المشركون {على بينة} أي حجة ظاهرة، وبينات - على القراءة الأخرى، أي دلائل واضحات بما في ذلك الكتاب من ضروب البيان {منه} أي ذلك الكتاب على أنا أشركناهم في الأمر حتى يشهدوا لهم هذه الشهادة التي لا يسوغون مثلها في إثبات الشركة لعبد من عبيدهم في أحقر الأشياء فكيف يسوغونها في انتقاص الملك الذي لا خير عندهم إلا منه غير هائبين له ولا مستحين منه.
ولما كان التقدير: لم يكن شيء من ذلك فليسوا على بيان، بل على غرور، قال منبهاً لهم على ذميم أحوالهم وسفه آرائهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم مخبراً أنهم لا يقدرون على الإتيان بشيء مما به يطالبون وأنه ليس لهم جواب عما عنه يسألون، وأكده لأجل ظنهم أن أمورهم في غاية الإحكام، {بل أن} أي ما {يعد الظالمون} أي الواضعون للأشياء في غير مواضعها {بعضهم بعضاً} أي الأتباع للمتبوعين بأن شركاءهم تقربهم إلى الله زلفى وأنها تشفع وتضر ولا تنفع {إلا غروراً *} .
ولما بين حقارة الأصنام وكل ما أشركوا به النسبة إلى جلال عظمته، وكانوا لا يقدرون على ادعاء الشركة في الخلق في شيء من ذلك،(16/70)
وكان ربما أقدم على ادعائه معاند منهم أو من غيرهم، وكان الناس قد توصلوا إلى معرفة شيء من التغيرات الفلكية كالشروق والغروب والخسوف، وكانوا لا علم لهم بشيء من الزلازل والزوال، قال مبيناً عظمته سبحانه بعد تحقير أمر شركائهم معجزاً مهدداً لهم على إقدامهم على هذا الافتراء العظيم مبيناً للنعمة بعدم المعاجلة بالهلاك، وأكده لأن من الناس المكذوب به وهم المعطلة، ومنهم من عمله - وإن كان مقراً - عمل المكذب وهو من ينكر شيئاً من قدرته كالبعث: {إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {يمسك السماوات} أي على كبرها وعلوها {والأرض} أي على سعتها وبعدها عن التماسك على ما يشاهدون إمساكاً مانعاً من {أن تزولا *} أي بوجه عظيمة وزلزلة كبيرة، أو زوالاً لا تماسك معه لأن ثباتهما على ما هما عليه على غير القياس لولا شامخ قدرته وباهر عزته وعظمته، فإن ادعيتم عناداً أن شركاءكم لا يقدرون على الخلق لعلة من العلل فادعوهم لإزالة ما خلق سبحانه.
ولما كان هذا دليل على أنهما حادثتان زائلتان، أتبعه ما هو أبين منه، فقال معبراً بأداة الإمكان: {ولئن زالتا} أي بزلزلة أو خراب {إن} أي ما {أمسكهما} وأكد استغراق النفي بقوله: {من أحد} ولما كان المراد أن غيره سبحانه لا يقدر على إمساكهما في زمن من(16/71)
الأزمان وإن قل، أثبت الجار فقال: {من بعده} أي بعد إزالته لهما، بل وإذا زلزلت الأرض اضطرب كل شيء عليها والأصنام من جملته، فدل ذلك قطعاً على أن الشركاء مفعولة لا فاعلة.
ولما كان السياق إلى الترغيب في الإقبال عليه وحده أميل منه إلى الترهيب، وكان كأنه قيل: هو جدير بأن يزيلهما لعظيم ما يرتكبه أهلهما من الآثام وشديد الإجرام، قال جواباً لذلك وأكده لأن الحكم عما يركبه المبطلون على عظمه وكثرتهم مما لا تسعه العقول: {إنه كان} أي أزلاً وأبداً {حليماً} أي ليس من شأنه المعاجلة بالعقوبة للعصاة لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرص، ورغب في الإقلاع مشيراً إلى أنه ليس عنده ما عند حلماء البشر من الضيق الحامل لهم على أنهم إذا غضبوا بعد طول الأناة لا يغفرون بقوله: {غفوراً *} أي محاء لذنوب من رجع إليه، وأقبل بالاعتراف عليه، فلا يعاقبه ولا يعاتبه.(16/72)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
ولما كان التقدير: فقالوا: إنا لا ندعي أنهم خلقوا شيئاً من(16/72)
السماوات ولا من الأرض ونحن مقرون بأنه لا يمسك السماوات والأرض إلا الله، وإنما نعبدهم لقربونا إلى الله زلفى، كما كان يفعل آباؤنا، ولولا أنه لهم على ذلك دليلاً ما فعلوه، عطف عليه قوله مبيناً ضلالهم في تكذيبهم الرسل بعد ما ظهر من ضلالهم في إشراكهم بالمرسل وهو يمهلهم ويرزقهم دليلاً على حلمه مع علمه: {وأقسموا} أي كفار مكة {بالله} أي الذي لا عظيم غيره {جهد أيمانهم} أي بغاية ما يقدرون عليه من الأيمان، قال البغوي: لما بلغهم - يعني كفار مكة - أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى! أتتهم رسلهم فكذبوهم، لو أتانا رسول لنكونن أهدى ديناً منهم.
ولما أخبر عن قسمهم، حكى معنى ما أقسموا عليه دون لفظه بقوله: {لئن جاءهم} وعبر بالسبب الأعظم للرسالة فقال: {نذير} أي من عند الله {ليكونن} أي الكفار {أهدى} أي أعظم في الهدى {من إحدى} أي واحدة من {الأمم} أي السالفة أو من الأمة التي لم تكن في الأمم التي جاءتها النذر أهدى منها، قال أبو حيان: كما قالوا هو أحد الأحدين، وهي إحدى الأحد، يريدون التفضيل(16/73)
في الدهاء والعقل. لأنهم أحد أذهاناً وأقوم لساناً وأعظم عقولاً، وألزم لما يدعو إليه العقل، وأطلب لما يشهد بالفضل، وأكدوا بالقسم لأن الناظر لتكذيب أهل العلم بالكتاب يكذبهم في دعوى التصديق قياساً أخروياً، ودل على إسراعهم في الكذب بالفاء فقال: {فلما جاءهم نذير} أي على ما شرطوا وزيادة، وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم مع كونه خيرهم نفساً وأشرفهم نسباً وأكرمهم في كل خلق أماً وأباً، وأمتنهم في كل مأثرة سبباً {ما زادهم} أي مجيئه شيئاً مما هم عليه من الأحوال {إلا نفوراً *} أي لأنه كان سبباً في زيادتهم في الكفر كالإبل التي كانت نفرت من ربها فضلت عن الطريق فدعاها فازدادت بسبب دعائه نفرة فأعرقت في الضلال فصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها فتبين أنه لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أوفى الناس، ولا صدق عندهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق. ولما كانوا قد جبلوا على الضلال، وكان النفور قد يكون لأمر محمود أو مباح، علله بقوله: {استكباراً} أي طلباً لإيجاد الكبر لأنفسهم {في الأرض} أي التي من شأنها السفول(16/74)
والتواضع والخمول {ومكر السيىء} أي ولأجل مكرهم المكر الذي من شأنه أن يسوء صاحبه وغيره، وهو إرادتهم لإيهان أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإطفاء نور الله، وقراءة عبد الله {ومكراً سيئاً} يدل على أنه من إضافة الشيء إلى صفته، وقراءة حمزة بإسكان الهمزة بنية الوقف إشارة إلى تدقيقهم المكر وإتقانه وإخفائه جهدهم {ولا} أي والحال أنه لا {يحيق} أي يحيط إحاطة لازمة ضارة {المكر السيىء} أي الذي هو عريق في السوء {إلا بأهله} وإن آذى غير أهله، لكنه لا يحيط بذلك الغير، وعن الزهري أنه قال: بلغنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول هذه الآية، ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً يقول الله {إنما بغيكم على أنفسكم} ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثاً قال الله: {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه} » .
ولما كان هذا سنة الله التي لا تبديل لها، قال مسبباً عن ذلك: {فهل ينظرون} أي ينتظرون، ولعله جرد الفعل إشارة إلى سرعة الانتقام من الماكر المتكبر، ويمكن أن يكون من النظر بالعين لأنه شبه العلم بالانتقام من الأولين مع العلم بأن عادته مستمرة، لأنه لا مانع له منها لعظيم تحققه وشدة استيقانه وقوة استحضاره بشيء محسوس حاضر لا ينظر شيء غيره في ماض ولا آت لأن غيره بالنسبة إليه عدم. ولما جعل استقبالهم لذلك انتظاراً منهم له، وكان الاستفهام(16/75)
إنكاريا، فكان بمعنى النفي قال: {إلا سنت الأولين} أي طريقتهم في سرعة أخذ الله لهم وإنزال العذاب بهم.
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس، عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق، تنبيهاً على أن هذا مقام لا يذوقه حق ذوقه غيره، فسبب عن حصر النظر أو الانتظار في ذلك قوله، مؤكداً لأجل اعتقاد الكفرة الجازم بأنهم لا يتغيرون عن حالهم وأن المؤمنين لا يظهرون عليهم: {فلن تجد} أي أصلاً في وقت من الأوقات {لسنت الله} أي طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها، وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين {تبديلاً} أي من أحد يأتي بسنة أخرى غيرها تكون بدلاً لها لأنه لا مكافئ له {ولن تجد لسنت الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {تحويلاً *} أي من حالة إلى أخفى منها لأنه لا مرد لقضائه، لأنه لا كفوء له، وفي الآية أن أكثر حديث النفس الكذب، فلا ينبغي لأحد أن يظن بنفسه خيراً ولا أن يقضي على غائب إلا أن يعلقه بالمشيئة تبرؤاً من الحول والقوة لعل الله يسلمه في عاقبته.(16/76)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
ولما بيّن أن حالهم موجب ولا بد للإيقاع بهم لما ثبت من أيام الله، وأنكر ذلك عليهم، وكان التقدير: ألم يسمعوا أخبار الأولين المرة وأحوالهم المستمرة من غير تخلف اصلاً في أن من كذب(16/76)
رسولاً أخذ، فقال عاطفاً عليه استشهاداً على الخبر عن سنته في الأولين بما يذكر من آثارهم: {أولم يسيروا} أي فيما مضى من الزمان {في الأرض} أي التي ضربوا في المتاجر بالسير إليها في الشام واليمن والعراق {فينظروا} أي فيتسبب لهم عن ذلك السير أنه يتجدد لهم نظر واعتبار يوماً من الأيام، فإن العاقل من إذا رأى شيئاً تفكر فيه حتى يعرف ما ينطق به لسان حاله إن خفي عنه ما جرى من مقاله، وأشار بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {الذين} ولما كان عواقب الدمار في بعض ما مضى من الزمان، أثبت الجار فقال: {من قبلهم} أي على أيّ حالة كان أخذهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم، وهذا معنى يس {أنهم إليهم لا يرجعون} [يس: 31] سواء كما يأتي أن شاء الله تعالى بيانه. ولما كان السياق لاتصافهم بقوتي الظاهر من الاستكبار والباطن من المكر الضار مكّن قوة الذين خوفهم بمثل مآلهم بوصفهم بالأشدية في جملة حالية فقال: {وكانوا} أي أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا والحال أنهم كانوا {أشد منهم} أي من هؤلاء {قوة} في قوتي الاستكبار والمكر الجارّ بعد العار إلى النار.
ولما كان التقدير: فما أعجز الله أمر أمة منهم، ولا أمر أحد من أمة حين كذبوا رسولهم، وما خاب له ولي ولا ربح ولا عدو، عطف عليه قوله، مؤكداً إشارة إلى تكذيب الكفرة في قطعهم بأن دينهم لا يتغير، وأنهم لا يغلبون أبداً لما لهم من الكثرة والمكنة وما للمسلمين من القلة والضعف: {وما كان الله} أي الذي له جميع العظمة؛ وأكد الاستغراق في النفي بقوله: {ليعجزه} أي مريداً لأن يعجزه، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى! وأبلغ في التأكيد بقوله: {من شيء} أي قل أو جل! وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله: {في السماوات} أي جهة العلو، وأكد بإعادة النافي فقال: {ولا في الأرض} أي جهة السفل. ولما كان منشأ العجز الجهل، علل بقوله مؤكداً لما ذكر في أول الآية: {إنه كان} أي أزلاً وأبداً {عليماً} أي شامل العلم {قديراً *} أي كامل القدرة، فلا يريد شيئاً إلا كان.
ولما كانوا يستعجلون بالتوعد استهزاء فيقولون: ما له لا يهلكنا، علم أن التقدير: لو عاملكم الله معاملة المؤاخذ لعجل إهلاككم، فعطف عليه قوله إظهاراً للحكم مع العلم: {ولن يؤاخذ الله} أي بما له من صفات العلو {الناس} أي من فيه نوس أي حركة واضطراب من المكلفين عامة.
ولما كان السياق هنا لأفعال الجوارح لأن المكر والكبر إنما تكره آثارهما لا الاتصاف بهما، بخلاف الذي هو سياق النحل فإنه ممنوع من الاتصاف وإن لم يظهر به أثر من آثار الجوارح، عبر هنا بالكسب(16/76)
وفك المصدر ليخص ما وجد منه بالفعل فقال: {بما كسبوا} أي من جميع أعمالهم سواء كان حراماً أو لا {ما ترك على ظهرها} أي الأرض {من دآبة} أي بل كان يهلك الكل، أما المكلفون فلأنه ليس في أعمالهم شيء يقدره سبحانه حق قدره، لما لهم من النقص ولما له سبحانه من العلو والارتقاء والكمال، وأما غيرهم فإنما خلقوا لهم، والمعاصي تزيل النعم وتحل النقم، وذلك كما فعل في زمان نوح عليه السلام، لم ينج ممن كان على الأرض غير من كان في السفينة {ولكن} لم يعاملهم معاملة المؤاخذ المناقش، بل يحلم عنهم فهو {يؤخرهم} أي في الحياة الدنيا ثم في البرزخ {إلى أجل مسمى} أي سماه في الأزل لانقضاء أعمارهم ثم لبعثهم من قبورهم، وهو لا يبدل القول لديه لما له من الصفات التي هي أغرب الغريب عندكم لكونكم لا تدركونها حق الإدراك {فإذا جاء أجلهم} أي الفنائي الإعدامي قبض كل واحد منهم عند أجله، أو الإيجابي الإبقائي بعث كلاًّ منهم فجازاه بعمله من غير وهم ولا عجز.
ولما كانوا ينكرون ما يفمهه ذلك من البعث، أكد فقال: {فإن الله} أي الذي له صفات الكمال الموجد بتمام القدرة وكمال(16/79)
الاختيار {كان} ولم يزل. ولما كان السياق للكسب الذي هو أعم من الظلم قال: {بعباده} الذين أوجدهم ولا شريك له في إيجاد أحد منهم بجميع ذواتهم واحوالهم {بصيراً *} أي بالغ البصر والعلم بمن يستحق العذاب منهم بالكسب ومن يستحق الثواب، فقد انطبق آخرها كما ترى على أولها باستجماع صفات الكمال وتمام القدرة على كل من الإيجاد والإعدام للحيوان والجماد مهما أراد بالاختيار، لما شوهد له سبحانه من الآثار، كما وقع الإرشاد إليه بالأمر بالسير وبغيره وبما ختمت به السورة من صفة العلم على وجه أبلغ من ذكره بلفظه، لما مضى في سورة طه من أن إحاطة العلم تستلزم شمول القدرة، ولا تكون القدرة شاملة إلا إذا كانت عن اختيار، فثبت حينئذ استحقاقه تعالى لجميع المحامد، فكانت عنه سبحانه الرسالات الهائلة الجامعة للعزة والحكمة بالملائكة المجردين عن الشهوات وكل حظ إلى من ناسبهم من البشر بما غلب من جيش عقله على عساكر شهواته ونفسه، حتى صار عقلاً مجرداً صافياً، حاكماً على الشهوات والحظوظ قاهراً كافياً.(16/80)
(سورة يس)
وتسمى القلب والدافعة والقاضية والمعمة. مقصودها إثبات الرسالة التي هي روح الوجود وقلب جميع الحقائق وبها قوامه وصلاحها للملارسل بها الذي هو خالصة المرسلين الذين هم قلب الموجودات كلها ذوات ومعاني إلى أهل مكة أم القرى وقلب الأرض وهم قريش قلب العرب الذين هم فلب الناس، بصلاحهم صلاحهم كلهم وبفسادهم فسادهم، فلذلك كان من حولهم جميع أهل الأرض، وجل فائدة الرسالة إثبات اللوحدانية التي هي قلب الإعتقاد وخالصه وعموده للعزيز الرحيم ذي الجلال والإكرام، وإنذار يوم الحجمع الذي به - مع ستره عن العيان الذي هو من خواص القلب - صلاح الخلق، فهو قلب الأكوان، وبه الصلاح أو الفساد للإنسان، وعلى ذلك تنطبق معاني أسمائها: يس والقلب والدافعة والقاضية(16/81)
والمعمة، وأما يس فسيأتي بيانه من جهة إشارته إلى سر كونها قلبا المشير إلى البعث الذي هو من أجل مقاصدها الذي به يكون صلاح القلب الذي به يكون قبول ما ذكر، وأما الباقي فإن من اعتقد الرسالة كفته ودفعت عنه جميع مهمه، وقضت له بكل خير، وأعطته كل مراد، وكل منها له أتم نظر إلى القلب كما لا يخفى، والمعمة: الشاملة بالخير والبركة، قال في القاموس: يقال: عمهم بالعطية وهو معم خير من خيره، فقد لاج أن هذه السورة الشريعة لما كانت قلبا كان كل شيء فيها له نظر عميق إلى القلبية) بسم الله (الذي جل ملكه عن أن يحاط بمقداره) الرحمن (الذي جعل الإنذار بيوم الجمع رحمة عامة) الرحيم (الذي أنار قلوب أوليائه بالاجتهاد ليوم لقائه.
لما كان قلب كل شيء أبطن ما فيه وأنفس، وكان قلب الإنسان غائبا عن الإحساس، وكان مودعا من المعاني الجليلة والإدراكات الحفية والجلية ما يكون للبدن سببا في إصلاحه أو إفساده من إشقائه أن إبقائه، وكان الساعة من عالم الغيب، وفيها
يكون انكشاف الأمور، والوقوف على حقائق المقدور، وبملاحقتها(16/82)
في إصلاح أسبابها تكون السعادة الأبدية، وبالإعراض عنها وإفساد أسبابها تكون الشقاوة السرمدية، وكانت قد بينت في هذه السورة بيانا لم يكن في غيرها بما وقع من التصريح في قلبها الذي هزو وسطها بنفختها المميتة لكل من على الأرض) فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (الباعثة) فإذا هـ من الأجداث إلى ربهم ينسلون (والتصريح بالمعاد الجسماني والاستدلال عليه بالدليل الذي نقل أبا نصر الفارابي - الذي وسم بأنه المعلم الثاني - كان يقول: وددت أن هذا العالم الرباني - يشير إلأى المعلم الأول أرسطو وقف على هذا القياس أن يقال: الله أنشأ العظام وأحياها أول مرة، وكل من أنشأ أو لمرة، وكل من أنشأ شيئا وأحياه أول مرة فهو قادلا على إنشائه وإحيائه ثاني مرة، ينتج أن الله قادر عل إنشاء العظام وإحيائها بعد فنائها، فاختصت بذلكط عن باقي القرآن كانت قلبا له، كما قالا النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فيما رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه: " لكل شيء قلب وقلب القرآن يس " ورواه أبو يعلى الموصلي - وهذا لفظه والإمام أحمدفي مسنديهما عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال " يس قلب القرآن لا يقرأها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، اقرؤوها على موتاكم " قال شيخنا الحافظ شهاب الدين البوصيري: وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البزار في مسنده - هذا ما هداني الله إليه، وله الحمد من بيان السر في كونها قلبا، ثم رأيت البرهان النسفي قال في تفسيره الذي هو مختصر التفسير الكبير للإمام الرازي في آخر السورة بعد أن ذكر الحديث: قال العزالي فيه: إن ذلك - أي كونها قلبا - لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه، فجعلت قلب القرآن لذلك، واستسحنه الإمام المدقق المحقق فخر الدين الرازي، ويمكن أن يقال: إن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والحشر، بأقوى البراهين فابتدأها ببيان الرسالة بقوله) إنك لمن المرسلين (ودليله ما قدمه عليها بقوله) والقرآن الحكيم (وما أخبره عنها بقوله) لتنذر قوما (وأنهاها ببيان الوحدانية والحشر بقوله) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء (إشارة إلى التوحيد، وقوله) وإليه ترجعون (إشارة إلى الحشر،(16/82)
وليس في هذه السورة إلا هذه الأصول الثلاثة ودلائلها، ومن حصل من القرآن أن هذا القدرلا فقد حصل نصيب فلبه، وهو التصديق الذي بالجنان، وأما الذي باللسان والذي بالأركان ففي غير هذه السورة، فلما كان فيها أعمال القلب لاغير سماها قلبا ولهذا ورد عنه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قراءتها عند رأس من دنا منه الموت، لأن في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة والأعضاء الظاهرة ساقطة المنة، لكن القلب يكون قد أقبل على الله، ورجع عن كل ما سواه، فيقرأ عند رأسه ما يزداد به قوة في قلبه ويشتد تصديقه بالأصول الثلاثة - انتهى. وفيه بعض تصرف، وقوله " إن وظيفة اللسان والأركان ليس في هذه السورة منها شيء " ربما بعكر عليه قوله تعالى) وما لي لا أعبد الذي فطرني () وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله () وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (والحديث الذي ذكره رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن معقل بن يسار رضي الله عنه رفعه " اقرؤوا يس على موتاكم " وأ " له ابن القطان وضعفه الدارقطني، وأسند صاحب الفردوس عن أبي الدرداء وأبي ذر وحده رضي الله عنه،(16/85)
والإمام أحمد في مسنده عن صفوان بن عمرو قال: كانت المشيخة يقولون: إذا قرئت يس عند الميت خفف عنه بها. قال ابن حبان: المراد المحتضر. واستمد من هذا التصريح بالحشر كل ما انبث في القرآن من ذكر الآخرة الذي بمراعاته وإتقانه يكون صلاح جميع الأحوال في الدارين، وبإهماله ونسيانه يكون فسادها فيهما - هذا مع ما شاركت به غيرها مما جمعتهمن جميع معانيه المجموعة يفي الفاتحة من الأسماء الحسنى: الله والرب والرحمن والرحيم وملك يوم الدين الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، والأمر بالعبادة بسلوك الصراط المستقيم، وتفضيل أهل النعيم وأهل الجحيم، وإثبات الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمنا: الوحدانية والحشر والرسالة التي هي قلب الوجود، وبها صلاحه، وهي ممدة لكل روح
يكون به جياة هنيئة، وهي مبدأ الصلاح كما أ، البعث غايته، وأن الخاتم لها إنسان عين الموجودات وقلبها، فأثبت له ذلك على أصرح وجه وآكده،(16/86)
ومع جمع ما افتتحت به السورة من الحروف المقطعة المنثورة أول السورة عمادا للقرآن وسحذا للأذهان لصنفي المنقوطة والعاطلة ووصفي المجهورة والمهموسة.(16/87)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
ولما كان القلب من الإنسان المقصود بالذات من الأكوان في نحو ثلث بدنه من جهة رأسه، وكانت الياء في نحو ذلك من حروف «أبجد» فإنها العاشرة منها والسين بذلك المحل من حروف أب ت ث فإنها الثانية عشرة منها، وعلا هذان الحرفان - بما فيهما من الجهر - عن غاية الضعف ونزلا بما لهما من الهمس عن نهاية الشدة، إشارة إلى أن القلب الصحيح هو الزجاجي الشفاف الجامع بين الصلابة والرقة الذي علا بصلابته عن رقة الماء الذي لا يثبت فيه صورة، ونزل بلطافته عن قساوة الحجر الذي لا يكاد ينطبع فيه شيء إلا بغاية الجهد، فكان جامعاً بين الصلابة والرقة متهيئاً لأن تنطبع فيه الصور وتثبت ليكون قابلاً مفيداً، فيكون متخلفاً من صفات موجدة بالقدرة والاختيار اللذين دلت عليهما سورة الملائكة، وبمعرفة الخير فيجتلبه والشر فيجتنبه فيكون فيه شاهد من نفسه على الاعتقاد الحق في صانعه، وكانت المجهورة(16/87)
أقوى فقدمت الياء لجهرها، وكانتا - بعد اختلاف بالجهر والهمس - قد اتفقتا في الانفتاح والرخاوة والاستفال إشارة إلى أن القلب لا يصلح - كما تقدم - مع الصلابة التي هي في معنى الجهر إلا بالإخبات الذي هو في معنى الهمس، وبالنزول عن غاية الصلابة إلى حد الرخاوة لئلا يكون حجرياً قاسياً بأن يكون فيه انفتاح ليكون مفيداً وقابلاً ويكون مستفلاً ليكون إلى ربه بتواضعه واصلاً وزادت السين بالصفير الذي فيه شدة وانتشار وقوة لضعفها عن الياء بالهمس فتعادلتا، ودل صفيرها على النفخ في الصور الذي صرحت به هذه السورة ودل جهر الياء على قوته ودل كونها من حروف النداء على خروجه عن الحد في الشده حتى تبدو عنه تلك الآثار المخلية للديار، المنفية للصغار والكبار، ثم الباغتة لهم من جميع الأقطار، امتثالاً لأمر الواحد القهار، وكان مخرجهما من اللسان الذي هو قلب المخارج الثلاثة لتوسطه وكثرة منافعه في ذلك، وكانت الياء من وسطه والسين من طرفه، وكان هذان المخرجان، مع كونهما وسطاً، مداراً لأكثر الحروف، هذا مع ما لهما من الأسرار التي تدق عن تصور الأفكار، قال تعالى: {يس *} وإن كان المعنى: يا إنسان، فهو قلب الموجودات المخلوقات كلها(16/88)
وخالصها وسرها ولبابها، وإن أريد: يا سيد، فهو خلاصة من سادهم، وإن أريد: يا رجل، فهو خلاصة البشر، وإن أريد: يا محمد، فهو خالصة الرجال الذين هم لباب البشر الذين هم سر الأحياء الذين هم عين الموجودات فهو خلاصة الخلاصة وخيار وعين القلب، وكأن من قال معناه محمد نظر إلى الإتحاد في عدد اسمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجمل بالنظر إلى اليمين في المشددة وعدد {قلب} وعدد اسمي الحرفين، ولا يخفى أن الهمزة في اسم الياء ألف ثانية، فمبلغ عدده اثنا عشر.
ولما تقدم في الملائكة إثبات رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتهديد قومه على النفرة عنه، وأن مرسله تعالى بصير بعباده، عالم بما يصلحهم ومن يصلح منهم للرسالة وغيرها، وكان مدار مادة «قرأ» - كما مضى في سورة الحجر - الجمع مع الفرق، وكان ذلك أعلى مقامات السائرين إلى الله وهو وظيفة القلب، عبر في القسم بقوله: {والقرآن} ووصفه بصفة القلب العازف فقال: {الحكيم *} أي الجامع من الدلالة على العلم المزين بالعمل والإرشاد إلى العمل المحكم بالعلم.
ولما كان قد ثبت في سورة الملائكة أنه سبحانه الملك الأعلى، لما ثبت له من تمام القدرة وشمول العلم، وكان من أجلّ ثمرات(16/89)
الملك إرسال الرسل إلى الرعايا بأوامر الملك وردهم عما هم عليه مما دعتهم إليه النفوس، وقادتهم إليه الشهوات والحظوظ، إلى ما يفتحه لهم من الكرم، ويبصرهم به من الحكم، وكانت الرسالة أحد الأصول الثلاثة التي تنقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، وكانت هي المنظور إليها أولاً لأنها السبب في الأصلين الآخرين، وكانوا قد ردوا رسالته نفوراً واستكباراً، قال مقدماً لها تقديم السببعلى مسببه على وجه التأكيد البليغ مع ضمير الخطاب الذي لا يحتمل لبساً: {إنك لمن المرسلين *} أي الذين حكمت عقولهم على دواعي نفوسهم، فصاروا - بما وهبهم الله القوة النورانية - كالملائكة الذين قدم في السورة الماضية أنهم رسله وفي عدادهم بما تخلقوا به من أوامره ونواهيه وجميع ما يرتضيه.
ولما كان الأنبياء عليهم السلام من نوره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه أولهم خلقاً وآخرهم بعثاً، فكانوا في الحقيقة إنما هم ممهدون لشرعه، وكان سبحانه إنما أرسله ليتمم مكارم الأخلاق، وكان قد جعل سبحانه من المكارم أن لا يكلم الناس إلا بما تسع عقولهم، وكانت عدة المرسلين كما في حديث أبي أمامة الباهلي عن أبي ذر رضي الله عنهما عند أحمد في المسند ثلاثمائة وخمسة عشر، وفيه أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وهو في الطبراني الكبير عن أبي أمامة رضي الله عنه(16/90)
أن رجلاً سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر عدد الرسل فقط، وكانت عقول العرب لا تسع بوجه قبل الإيمان أنهم منه، أقسم سبحانه ظاهراً أنه منهم ورمزاً للأصفياء باطناً إلى أنهم منه، بجعلهم عدد أسماء حروف اسمه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي رمز إليه بالحرفين أول السورة، فكأنه قال: إنك يا ياسين الذي تأويله محمد الذي عدد أسماء حروفه بعددهم لأصلهم، فصار رمزاً في رمز، وكنزاً نفيساً داخل كنز، وسراً من سر، وبراً إلى بر، وهو أحلى في منادمة الأحباب من صريح الخطاب، ثم علق باسم المفعول قوله: {على صراط} أي طريق واسع واضح {مستقيم *} أي أنت من هؤلاء الذين قد ثبت لهم أنهم عليه، وهو الصراط المستقيم الأكمل المتقدم في الفاتحة لأنه لخواص المنعم عليهم ولقوله تعالى في حق موسى وهارون عليه السلام {وهديناهما الصراط المستقيم} فيكون تنوينه - بما أرشد إليه القسم والتأكيد - للتعظيم، والمعنى أنهم قد ثبت لهم هذا الوصف العظيم وأنت منهم بما شاركتهم فيه من الأدلة، فليس لأحد أن يخصك من بينهم بالتكذيب.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أوضحت سورة سبأ وسورة(16/91)
فاطر من عظيم ملكه تعالى وتوحده بذلك وانفراده بذلك بالملك والخلق والاختراع ما تنقطع العقول دون تصور أدناه، ولا تحيط من ذلك إلا بما شاء، وأشارت من البراهين والآيات إلى ما يرفع الشكوك ويوضح السلوك مما كانت الأفكار قد خمدت عن إدركها، واستولت عليها الغفلة فكانت قد جمدت عن معهود حراكها، ذكر سبحانه بنعمة التحريك إلى اعتبارها بثنائه على من اختاره لبيان تلك الآيات، واصطفاه لإيضاح تلك البينات، فقال تعالى {يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم} ثم قال {لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهو غافلون} فأشار سبحانه إلى ما تثمر نعمة الإنذار، ويبعثه التيقظ بالتذكار؛ ثم ذكر علة من عمي بعد تحريكه وإن كان مسبباً عن الطبع وشر السابقة {لقد حق القول على أكثرهم} الآيات؛ ثم أشار بعد إلى بعض من عمي عن عظيم تلك البراهين لأول وهلة قد يهتز عند تحريكه لسابق سعادته فقال تعالى:(16/92)
{إنا نحن نحيي الموتى} فكذلك نفعل بهؤلاء إذا شئنا هدايتهم {أو من كان ميتاً فأحييناه} ثم ذكر دأب المعاندين وسبيل المكذبين مع بيان الأمر فقال {واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية} - الآيات، واتبع ذلك سبحانه بما أودع في الوجود من الدلائل الواضحة والبراهين فقال {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون} الآية، ثم قال {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها} إلى قوله: {أفلا تشكرون} ثم قال {وآية لهم الّيل نسلخ منه النهار} {وكل في فلك يسبحون} ثم قال {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم} إلى قوله: {إلى حين} ثم ذكر إعراضهم مع عظيم هذه البراهين وتكذيبهم وسوء حالهم عند بعثتهم وندمهم وتوبيخهم وشهادة اعضائهم بأعمالهم، ثم تناسجت الآية جارية على ما يلائم ما تقدم إلى آخر السورة - انتهى.
ولما كان كأنه قيل: ما هذا الذي أرسل به؟ كان كأنه قيل جوباً لمن سأل: هو القرآن الذي وقع الإقسام به وهو {تنزيل} أو حاله كونه تنزيل {العزيز} أي المتصف بجميع صفات الكمال. ولما كانت هذه الصفة للقهر والغلبة، وكان ذلك لا يكون صفة كمال إلا بالرحمة قال: {الرحيم *} أي الحاوي لجميع صفات الإكرام الذي ينعم على من يشاء من عباده بعد الإنعام بإيجادهم بما يقيمهم على(16/93)
المنهاج الذي يرضاه لهم، فهو الواحد الذي لا مثل له أصلاً لما قهر به من عزته، وجبر به من رحمته.
نزل إليك وهو في جلالة النظم وجزالة القول وحلاوة السبك وقوة التركيب ورصانة الوضع وحكيم المعاني وإحكام المباني في أعلى ذرى الإعجاز، وجعل إنزاله تدريجاً بحسب المصالح مطابقاً مطابقة أعجزت الخلائق عن أن يأتوا بمثلها، ثم نظمه على غير ترتيب النزول نظماً أعجز الخلق عن أن يدركوا جميع المراد من بحور معانيه وحكيم مبانيه، فكله إعجاز على ما له من إطناب وإيجاز.
ولما ذكر المرسَل والمرسَل به والمرسِل؛ ذكر المرسَل له فقال: {لتنذر قوماً} أي ذوي بأس وقوة وذكاء وفطنة {ما أنذر} أي لم ينذر أصلاً {آباؤهم} أي الذين غيروا دين أعظم آبائهم إبراهيم عليه السلام ومن أتى بعدهم عند فترة الرسل. ولما كان عدم الإنذار موجباً لاستيلاء الحظوظ والشهوات على العقل فيحصل عن ذلك الغفلة عن طريق النجاة قال: {فهم} أي بسبب زمان الفترة {غافلون *} أي المعنى على ان «ما» مفعول ثان لتنذر: أي لتنذرهم الذي أنذره آباؤهم الذين كانوا قبل التغيير، فإن هؤلاء غافلون عن ذلك لطول الزمان وحدوث النسيان.(16/94)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
ولما كان تطاول الإقامة على شيء موجباً للإلف له، والإلف قتال لما يوجب من الإصرار على المألوف لمحبته «وحبك للشيء يعمي ويصم» قال جواباً لمن يتوقع الجواب عما أثمرته حالهم: {لقد حق القول} أي الكامل في بابه وهو إيجاب العذاب بملازمة الغفلة {على أكثرهم فهم} أي بسبب ذلك {لا يؤمنون *} أي بما يلقى إليهم من الإنذار بل يزيدهم عمى استكباراً في الأرض ومكر السيىء.
ولما كان المعنى أنه لا يتجدد منهم إيمان بعد البيان الواضح والحكمة الباهرة، وكان ذلك أمراً عجباً، علله بما يوجبه من تمثيل حالهم تصويراً لعزته سبحانه وباهر عظمته الذي لفت الكلام إليه لإفهامه - وهذا الذي ذكر هو اليوم معنى ومثال وفي الآخرة ذات ظاهر - وأنه ما انفك عنهم أصلاً وما زال، فقال: {إنا جعلنا} أي بما لنا من العظمة، وأكده لما لهم من التكذيب {في أعناقهم أغلالاً} أي من ظلمات الضلالات كل عنق غل، وأشار بالظرف إلى أنها من ضيقها لزت اللحم حتى تثنى على الحديد فكاد يغطيه فصار - والعنق فيه - كأنه فيها وهي محيطة به.
ولما كان من المعلوم أن الحديد إذا وضع في العنق أنزله ثقله(16/95)
إلى المنكب، لم يذكر جهة السفل وذكر جهة العلو فقال: {فهي} أي الأغلال بعرضها واصلة بسبب هذا الجعل {إلى الأذقان} جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين، فهي لذلك مانعة من مطاطأة الرأس. ولما كان هذا من رفع الرأس فعل المتكبر، وكان تكبرهم في غير موضعه، بيّن تعالى أنهم ملجؤون إليه فهو ذل في الباطن وإن كان كبراً في الظاهر فقال: {فهم} أي بسبب هذا الوصول {مقمحون *} من أقمح الرجل - إذا أقمحه غيره أي جعله قامحاً أي رافعاً رأسه غاضاً بصره لا ينظر إلا ببعض بصره هيئة المتكبر، وأصله من قولهم: قمح البعير - إذا رفع رأسه عند الشرب ولم يشرب الماء، قال في الجمع بين العباب والمحكم: قال بشر بن أبي حازم يصف سفينة، قال أبو حيان: ميتة أحدهم ليدفنها:
ونحن على جوانبها قعود ... نغض الطرف كالإبل القماح
وقال الرازي في اللوامع: والمقمح: الذي يضرب رأسه إلى ظهره هيئة البعير، وقال القزاز: والمقمح: الشاخص بعيينه الرافع رأسه. أبو عمرو: والقامح من الإبل هو الذي لا يشرب وهو عطشان(16/96)
عطشاً شديداً ولا تقبل نفسه الماء، والقمح مصدر قمحت الشيء والاقتماح: أخذك الشيء في راحتك ثم تقمحه في فيك أي تبتلعه، والاسم القمحة كاللقمة والأكلة - انتهى. وكأن المقمح من هذا لأن هيئته عند هذا الابتلاع رفع الرأس وغض الطرف أو شخوصه إذا عسر عليه الابتلاع - والله أعلم فهذا تمثيل لرفعهم رؤوسهم عن النظر إلى الداعي تكبراً وشماخة بحيث لو أمكنهم أن يسكنوا الجو لم يتأخروا صلافة وتيهاً، أو لأنهم يتركون هذا الأمر العظيم الحسن الجدير بأن يقبل عليه ويتروى منه وهم في غاية الحاجة إليه، فهم ذلك كالبعير القامح، إنما منعه من الماء مع شدة عطشه مانع عظيم أقمحه، ولكنه خفي أمره فلم يعلم ما هو، ولذلك بنى الاسم للمفعول إشارة إلى أنهم مقهورون على تفويت حظهم من هذا الأمر الجليل.
ولما كان الرافع رأسه غير ممنوع من النظر أمامه قال: {وجعلنا} أي بعظمتنا. ولما كان المقصود حجبهم عن خير مخصوص، وهو المؤدي إلى السعادة الكاملة لا عن كل ما ينفعهم، أدخل الجار فقال: {من بين أيديهم} أي الوجه الذي يمكنهم علمه {سداً} . ولما كان الإنسان إذا انسدت عليه جهة مال إلى أخرى قال: {ومن خلفهم}(16/97)
أي الوجه الذي هو خفي عنهم، وأعاد السد تأكيداً لإنكارهم ذلك وتحقيقاً لجعله فقال: {سداً} أي فصارت كل جهة يلتفت إليها منسدة، فصاروا لذلك لا يمكنهم النظر إلى الحق ولا الخلوص إليه، فلذلك قال: {فأغشيناهم} أي جعلنا على أبصارهم بما لنا من العظمة غشاوة {فهم} أي بسبب ذلك {لا يبصرون *} أي لا يتجدد لهم هذا الوصف من إبصار الحق وما ينفعهم ببصر ظاهر وبصيرة باطنة أصلاً. ولما منعوا بذلك حس البصر، أخبر عن حس السمع فقال: {وسواء} أي مستو ومعتدل غاية الاعتدال من غير نوع فرق؛ وزاد في الدلالة على عدم عقولهم بالتعبير بأداة الاستعلاء إيذاناً بأنهم إذا امتنعوا مع المستعلي كانوا مع غيره أشد امتناعاً فقال: {عليهم ءأنذرتهم} أي ما أخبرناك به من الزواجر المانعة من الكفر {أم لم تنذرهم} ثم بيّن أن الذي استوى حالهم فيه بما سببه الإغشاء عدم الإيمان، فقال مستانفاً: {لا يؤمنون *} .
ولما بيّن ما كان السبب المانع لهم من الإبصار، علم أن السبب المانع من السمع مثله، لأن المخبر عزيز، فهو إذا فعل شيئاً كان على وجه لا يمكن فيه حيلة. ولما أخبر أن الأكثر بهذه الصفة، استشرف(16/98)
السامع إلى أمارة يعرف بها الأقل الناجي لأنه المقصود بالذات فقال جواباً له: {إنما تنذر} أي إنذاراً ينتفع به المنذر فيتأثر عنه النجاة، فالمعنى: إنما يؤمن بإنذارك {من اتبع الذكر} أي أجهد نفسه في اتباع كل ما يذكر بالله من القرآن وغيره ويذكر به صاحبه ويشرف {وخشي الرحمن} أي خاف العام الرحمة خوفاً عظيماً، ودل لفت الكلام عن مظهر العظمة إلى الوصف بالرحمانية على أن أهل الخشية يكفيهم في الاتعاظ التذكير بالإحسان {بالغيب} أي بسبب ما يخبر به من مقدوراته الغائبة لا سيما البعث الذي كان اختصاصها بغاية بيانه بسبب كونها قلباً من غير طلب آية كاشفة للحجاب بحيث يصير الأمر عن شهادة لا غيب فيه، بل تجويزاً لما يجوز من انتقامه ولو بقطع إحسانه، لما ثبت له في سورة فاطر من القدرة والاختيار، ويخشاه أيضاً خشية خالصة في حال غيبته عمن يرائيه من الناس، فهؤلاء هم الذين ينفعهم الإنذار، وهو المتقون الذين ثبت في البقرة أن الكتاب هدى لهم، وغيرهم لا سبيل إلى استقامته، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإنه(16/99)
ليس عليك إلا الإنذار، إن الله عليم بما يصنعون، فمن علم منه هذه الخشية أقبل به، ومن علم منه القساوة رده على عقبه بما حال دونه من الغشاوة - والله الموفق.
ولما دل السياق على أن هذا نفع نفسه، تشوف السامع إلى معرفة جزائه، فقال مفرداً الضمير على النسق الماضي في مراعاة لفظ «من» دلالة على قلة هذا الصنف من الناس بأجمعهم في هذه السورة الجامعة بكونها قلباً لما تفرق في غيرها: {فبشره} أي بسبب خشيته بالغيب {بمغفرة} أي لذنوبه وإن عظمت وإن تكررت مواقعته لها وتوبته منها، فإن ذلك لا يمنع الاتصاف بالخشية. ولما حصل العلم بمحو الذنوب عينها وأثرها قال: {وأجر كريم *} أي دارّ عظيم هنيء لذيذ متواصل، لا كدر فيه بوجه.(16/100)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)
ولما بين الأصل الثاني هو الرسالة وأتبعها ثمرتها المختومة بالبشارة، وكان الأصل الثالث في الإيمان - وهو البعث - سبباً عظيماً في الترقية إلى اعتقاد الوحدانية التي هي الأصل الأول، وكان أكثر الخائفين منه سبحانه مقتراً عليهم في دنياهم منغضة عليهم حياتهم، علل(16/100)
هذه البشارة إعلاماً بأن هذا الأجر في هذه الدار بالملابس الباطنة الفاخرة من المعارف والسكينة والبركات والطمأنينة، وبعد البعث بالملابس الطاهرة الزاهرة المسببة عن الملابس الدنيوية الباطنة الخفية من غير أهلها، بشارة لهم ونذارة للقسم الذي قبلهم بقوله، مقدماً للبعث لما ذكر من فائدته، لافتاً القول إلى مظهر العظمة إيذاناً بعظمة هذه المقاصد وبأنه لا يحمي لهؤلاء الخلص مع قلتهم ومباينتهم للأولين مع كثرتهم إلا من له العظمة الباهرة: {إنا نحن} أي بما لنا من العظمة التي لا تضاهى {نحيي} أي بحسب التدريج الآن وجملة في الساعة {الموتى} أي كلهم حساً بالبعث ومعنى بالإنقاذ إذا أردنا من ظلم الجهل {ونكتب} أي من صالح وغيره شيئاً فشيئاً بعده فلا يتعدى التفصيل شيئاً في ذلك الإجمال {ما قدموا} من جميع أفعالهم وأحوالهم وأقوالهم جملة عند نفخ الروح {وآثارهم} أي سننهم التي تبقى من بعدهم صالحة كانت أو غير صالحة، ونجازي كلاً بما يستحق في الدار الآخرة التي الجزاء فيها لا ينقطع، فلا أكرم منه إذا كان كريماً.(16/101)
ولما كان ذلك ربما أوهم الاقتصار على كتابة ما ذكر من أحوال الآدميين أو الحاجة إلى الكتابة، دل على قدرته على ما لا تمكن القدرة عليه لأحد غيره في أقل قليل مما ذكر، فكيف بما فوقه، فقال ناصباً عطفاً لفعليه وهي «تكتب» : {وكل شيء} أي من أمر الأحياء وغيرهم {أحصيناه} أي قبل إيجاده بعلمنا القديم إحصاء وكتبناه {في إمام} أي كتاب هو أهل لأن يقصد {مبين *} أي لا يخفى فيه شيء من جميع الأحوال على أحد أراد علمه منه، فلله هذه القدرة الباهرة والعظمة الظاهرة والعزة القاهرة، فالآية من الاحتباك: دل فعل الإحصاء على مصدره وذكر الإمام على فعل الكتابة.
ولما انتهى الكلام إلى هنا، وكان مقصود السورة كما سلف إثبات الرسالة لإنذار يوم الجمع، وكان الإنذار غاية، وكانت الغايات هي المقاصد بالذات، وكانت غاية الإنذار اتباع الذكر، فكان ذلك غاية الغاية، كان الكلام على المتبعين أولى بالتقديم على أنه يلزم من الكلام فيهم الكلام في أضدادهم وهم المعرضون الذين حق عليهم القول والكلام على اليوم المنذر به، فلذلك ضرب المثل الجامع لذلك كله، ومر إلى(16/102)
أن صور البعث تصويراً لم يتقدم مثله، ثم عطف بآية الطمس وما بعدها على القسم المعرض، ثم رجع إلى الكلام على الرسول والكتاب.
ولما دل سبحانه على ما له من القدرة الكاملة بالأفعال الهائلة من كل من الإماتة والإحياء الحسيين والمعنويين إبداء وإعادة، وكان ضرب الأمثال بالمشاهدات ألصق شيء بالبال، وأقطع للمراء والجدال، وأكتشف لما يراد من الأحوال، قال عاطفاً على {فبشره} مبيناً للأصل الثالث الذي هو الأول بالأصالة المقصود بالذات، وهو التوحيد، ضامّاً إليه الأصلين الاخرين، ليكون المثل جامعاً، والبرهان به واضحاً ساطعاً: {واضرب لهم} أي لأجلهم بشارة بما يرجى لهم عند إقبالهم، ونذارة لما يخشى عليهم عند إعراضهم وإدبارهم {مثلاً} أي مشاهداً في إصرارهم على مخالفة الرسول وصبره عليهم ولطفه بهم، لأنا ختمنا على قلوبهم على الكفران مع قربهم منك في النسب والدار، وفوز غيرهم لأنا نورنا قلوبهم مع البعد في النسب والدار بالإيمان وثمراته الحسان، لأنهم يخشون الرحمن بالغيب، ولا يثبتون على الغباوة والريب.
ولما ذكر المثل، أبدل منه قوله: {أصحاب القرية} التي هي محل الحكمة واجتماع الكلمة وانتشار العلم ومعدن الرحمة. ولما كان الممثل به في الحقيقة إنما هو إخبارها بأحوال أهلها لأنها وجه(16/103)
الشبه، وكانت أخبارها كثيرة في أزمنة مديدة، وعين المراد بقوله: {إذ} وهي بدل اشتمال من القرية مسلوخة من الظرفية. ولما كان الآتي ناحية من بلد وإن عظم يعد في العرف آتياً لذلك البلد، أعاد الضمير على موضع الرسالة تحقيقاً له وإبلاغاً في التعريف بمقدار بعد الأقصى فقال: {جاءها} أي القرية لإنذار أهلها {المرسلون *} أي عن الله لكونهم عن رسوله عيسى عليه السلام أرسلهم بأمره لإثبات ما يرضيه سبحانه ونفي ما يكرهه الذين هم من جملة من قيل في فاطر إنهم جاؤوا بالبينات وبالزبر، والتعريف إما لكونهم يعرفون القرية ويعرفون أمرها، وإما لأنه شهير جداً فهم بحيث لو سألوا أحداً من أهل الكتاب الذين يعتنون بها أخبرهم به، لأنه قد عهد منهم الرجوع إليهم بالسؤال ليبينوا لهم - كما زعموا - مواضع الإشكال.
ولما كان أعظم مقاصد السياق تسلية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في توقفهم عن المبادرة إلى الإيمان به مع دعائه بالكتاب الحكيم إلى صراط المستقيم، وكان في المشاركة في المصائب أعظم تسلية، أبدل من قوله {إذ جاءها} تفصيلاً لذلك المجيء قوله، مسنداً إلى نفسه(16/104)
المقدس لكونه أعظم في التسلية: {إذ أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة. ولما كان المقصود بالرسالة أصحابها قال: {إليهم اثنين} أي ليعضد أحدهما الآخر فيكون أشد لأمرهما فأخبراهم بإرسالهما إليهم كأن قالا: نحن رسولان إليكم لتؤمنوا بالله {فكذبوهما} أي مع ما لهما من الآيات، لأنه من المعلوم أنا ما أرسلنا رسولاً إلا كان معه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، سواء كان عنا من غير واسطة أو كان بواسطة رسولنا، كما كان للطفيل بن عمرو الدوسي ذي النور لما ذهب إلى قومه وسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تكون آية فكانت نوراً في جبهته، ثم سأل أن تكون في غير وجهه فكانت في سوطه.
ولما كان التضافر على الشيء أقوى لشأنه، وأعون على ما يراد منه، سبب عن ذلك قوله حاذفاً المفعول لفهمه من السياق، ولأن المقصود إظهار الاقتدار على إيقاع الفعل وتصريفه في كل ما أريد له: {فعززنا} أي فأوقعنا العزة، وهي القوة والشدة والغلبة، لأمرنا أو لرسولنا بسبب ما وقع لهما من الوهن بالتكذيب فحصل ما أردنا من العزة - بما أشارت إليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالتخفيف {بثالث}(16/105)
أرسلناه بما أرسلناهما به {فقالوا} أي الثلاثة بعد أن أتوهم وظهر لهم إصرارهم على التكذيب، مؤكدين بحسب ما رأوا من تكذيبهم: {إنا إليكم} أي لا إلى غيركم {مرسلون * قالوا} أي أهل القرية: {ما أنتم} أي وإن زاد عددكم {إلا} ولما نقض الاستثناء النفي زال شبهة ما تلبس فزال عملها فارتفع قوله: {بشر مثلنا} أي فما وجه الخصوصية لكم في كونكم رسلاً دوننا، ولما كان التقدير: فما أرسلتم إلينا بشيء، عطفوا عليه قوله: {وما أنزل الرحمن} أي العام الرحمة، فعموم رحمته مع استوائنا في عبوديته تقتضي أن يسوي بيننا في الرحمة فلا يخصكم بشيء دوننا، وأعرقوا في النفي بقولهم: {من شيء} .
ولما كان الإتيان على ما ذكر محتملاً للغلط ونحوه، قالوا دافعين لذلك: {إن} أي ما {أنتم إلا تكذبون *} أي حالاً ومآلاً {قالوا} أي الرسل: {ربنا} أي الذي لو لم يكن لنا وازع عن الكذب عليه إلا إحسانه إلينا لكان كافياً {يعلم} أي ولذلك يظهر على أيدينا الآيات، ويحمينا ممن يكيدنا، وهذه العبارة تجري مجرى القسم، وكذا نحو {شهد الله} . ولما واجهوهم بهذا التكذيب المبالغ في تأكيده زادوا في تأكيد جوابه فقالوا: {إنا إليكم} أي خاصة {لمرسلون *} ما أتيناكم غلطاً ولا كذباً، فالأول ابتداء أخبار، وهذان جوابا إنكار، فأعطى كلاًّ ما يستحق.(16/106)
وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
ولما قرروا ذلك عندهم، اتبعوه بدليله وبالإعلام بأن وبال التكذيب لا يلحقهم منه ضرر، إشارة لهم إلى الإنذار من عذاب الملك الجبار فقالوا: {وما علينا} أي وجوباً من قبل من أرسلنا، وهو الله تعالى الذي له الأمر كله {إلا البلاغ المبين *} أي المؤيد بالأدلة القطعية من الحجج القولية والفعلية بالمعجزات وغيرها، فلولا أنه يعلم لما أمكننا شيء من ذلك كما أن آلهتكم لما لم يكن لها علم لم يقدروا على بيان في أمرها بشيء، وإذ قد ثبت علم مرسلنا برسالتنا فهو الشاهد لنا بما يظهر على أيدينا وكفى به شهيداً.
ولما كان حلول الصالحين بين الناس يكون تارة نعمة وأخرى نقمة باعتبار التصديق والتكذيب والإساءة والإحسان، فكان قد حصل لهؤلاء الذين كذبوا هؤلاء الرسل بلاء لتكذيبهم لهم من جدب الأرض وصعوبة الزمان، ونحو ذلك من الامتحان، ذكر ما أثره ذلك عند أهل القرية فقال: {قالوا} ولما كانوا لما يرون عليهم من الآيات وظاهر الكرامات مما يشهد ببركتهم ويمن نقيبتهم بحيث إذا ذموهم توقعوا تكذيب الناس لهم، أكدوا قولهم: {إنا تطيرنا} أي حملنا أنفسنا على الطيرة والتشاوم تطيراً ظاهراً - بما أشار إليه الإظهار(16/107)
بخلاف ما في النمل والأعراف {بكم} بنسبة ما حل بنا من البلاء إلى شومكم، لأن عادة الجهال التيمن بما مالوا إليه ويسندون ما حل بهم من نعمة إلى يمنة والتشاوم بما كرهوه، ويسندون ما أصابهم من نقمة إلى شومه؛ ثم إنهم استأنفوا استئناف النتائج قولهم على سبيل التأكيد إعلاماً بأن ما أخبروا به لا فترة لهم عنه وإن كان مثلهم مستبعداً عند العقلاء: {لئن لم تنتهوا} أي عن دعائكم هذا {لنرجمنكم} أي لنشتمنكم أو لنرمينكم بالحجارة حتى تنتهوا أو لنقتلنكم شر قتلة. ولما كان الإنسان قد يفعل ما لا يؤخذ أثره فقالوا معبرين بالمس دون الإمساس: {وليمسنكم منا} أي عاجلاً لا من غيرنا كما تقولون أنتم في تهديدكم إيانا بما يحل بنا ممن أرسلكم {عذاب أليم *} حتى تنتهوا عنا لنكف عن إيلامكم {قالوا} أي الرسل: {طائركم} أي شومكم الذي أحل بكم البلاء {معكم} وهو أعمالكم القبيحة التي منها تكذيبكم.
ولما كان لم يبد منهم غير ما يقتضي عند النظر الصحيح التيمن والبركة، وهو التذكير بالله الذي بيده الخير كله، أنكروا عليهم تطيرهم منهم على وجه مبين أنه لا سبب لذلك غيره فقالوا: {أئن ذكرتم}(16/108)
أي الأجل إن حصل لكم تذكير بالله تطيرتم بنا؟ ولما كان ذلك لا يصح أن يكون سبباً للتطير بوجه، أضربوا عنه منبهين لهم على أن موضع الشوم إسرافهم لا غير فقالوا: {بل} أي ليس الأمر كما زعمتم في أن التذكير سبب للتطير بل {أنتم قوم} أي غركم ما آتاكم الله من القوة على القيام فيما تريدون {مسرفون *} أي عادتكم الخروج عن الحدود والطغيان فعوقبتم لذلك.
ولما كان السياق لأن الأمر بيد الله، فلا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى، فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد، ويضل القريب فيهما إن شاء، وكان بعد الدار ملزوماً في الغالب لبعد النسب، قدم مكان المجيء على فاعله بياناً لأن الدعاء نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى فقال: {وجاء من أقصا} أي أبعد - بخلاف ما مر في سورة القصص؛ ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية كما تقدم وقال: {المدينة} لأنها أدل على الكبر المستلزم لبعد الأطراف وجمع الأخلاط. ولما بين الفاعل بقوله: {رجل} بين اهتمامه بالنهي عن المنكر ومسابقته إلى إزالته كما هو الواجب بقوله: {يسعى} أي يسرع في مشيه فوق المشي ودون العدو حرصاً على نصيحة قومه.
ولما تشوفت النفس إلى الداعي إلى إتيانه، بينه قوله: {قال}(16/109)
واستعطفهم بقوله: {يا قوم} وأمرهم بمجاهدة النفوس بقوله: {اتبعوا المرسلين *} أي في عبادة الله وحده وكل ما يأمرونكم به؛ ثم نبههم على الداعي إلى اتباعهم والمانع من الإعراض عنهم بقوله، معداً الفعل دلالة على شدة اهتمامه به: {اتبعوا} أي بغاية جهدكم {من لا يسئلكم} أي في حال من الأحوال {أجراً} ولما كان أفرد الضمير نظراً إلى لفظ «من» دلالة على وجوب الاتباع لمن اتصف بهذا الأمر الدال على الرسالة وإن كان واحداً، جمع بياناً للأولوية بالتظافر والتعاضد والاتفاق في الصيانة والبعد عن الدنس، الدال على اتحاد القصد الدال على تحتم الصدق فقال: {وهم مهتدون *} أي ثابت لهم الاهتداء لا يزايلهم، ما قصدوا شيئاً إلا أصابوا وجه صوابه، فتفوزوا بالدين الموجب للفوز بالآخرة، ولا يفوتكم شيء من الدنيا، فأتى بمجامع الترغيب في هذا الكلام الوجيز.
ولما أفهم السياق أنه قال: فإني اتبعتهم في عبادة الله، بنى عليه قوله جواباً لمن يلومه على ذلك وترغيباً فيما اختاره لنفسه وتوبيخاً لمن يأباه:(16/110)
{وما} أي وأيّ شيء {لي} في أني {لا أعبد الذي فطرني} أي وإليه أرجع، فله مبدئي ومعادي، وما لكم لا تعبدون الذي فطركم {وإليه} أي لا إلى غيره {ترجعون *} كذلك فهو يستحق العبادة شكراً لما أنعم به في الابتداء وخوفاً من عاقبته في الانتهاء فالآية من الاحتباك: حذف «وإليه أرجع» أولاً لما دل عليه ثانياً، وإنكاره عليهم ثانياً بما دل عليه أولاً من إنكاره على نفسه استجلاباً لهم بإظهار الإنصاف، والبعد عن التصريح بالخلاف، وفيه تنبيه لهم على موجب الشكر، وتهديد على ارتكاب الكفر.
ولما أمر صريحاً ونهى تلويحاً، ورغب ورهب، ووبخ وقرع، وبين جلالة من آمن به ومن كانوا سبباً في ذلك، أنكر على من يفعل غيره بالإنكار على نفسه، محقراً لمن عبدوه من دون الله وهو غارقون في نعمه، فقال مشيراً بصيغة الافتعال إلى أن في ذلك مخالفة للفطرة الأولى: {ءأتخذ} وبين علو رتبته سبحانه بقوله: {من دونه} أي سواء مع دنو المنزلة؛ وبين عجز ما عبدوه بتعدده فقال: {آلهة} ثم حقق ذلك بقوله مبيناً بأداة الشك أن النفع أكثر من الضر ترغيباً فيه سبحانه: {إن يردن} إرادة خفيفة بما أشار إليه حذف الياء، أو شديدة بما أشار إليه إثباتها، ظاهرة بما دل عليه تحريكها، أو خفية بما نبه عليه إسكانها.(16/111)
ولما ذكرهم بإبداعه سبحانه له إرشاداً إلى أنهم كذلك، صرح بما يعمهم فقال: {الرحمن} أي العام النعمة على كل مخلوق من العابد والمعبود، وحذرهم بقوله: {بضر} وأبطل أنهى ما يعتقدونه فيها بقوله: {لا تغن عني} أي وكل أحد مثلي في هذا {شفاعتهم} أي لو فرض أنهم شفعوا ولكن شفاعتهم لا توجد {شيئاً} من إغناء.
ولما دل بإفراد الشفاعة على عدهم عدماً ولو اتحدت شفاعتهم وتعاونهم في آن واحد، دل بضمير الجمع على أنهم كذلك سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين فقال: {ولا ينقذون *} أي من مصيبته إن دعا الأمر إلى المشاققة بما أراده فإنه بمجرد إرادته يكون مراده، إنفاذاً ضعيفاً - بما أشار إليه من حذف الياء، ولا شديداً - بما دل عليه من أثبتها ظاهراً خفياً، ثم استأنف ما يبين بعد ذلك عن فعل العقلاء الناصحين لأنفسهم بقوله مؤكداً له بأنواع التأكيد لأجل إنكارهم له بعدم رجوعهم عن معبوداتهم: {إني إذاً} أي إذا فعلت ذلك الاتخاذ {لفي ضلال} أي محيط بي لا أقدر معه على نوع اهتداء {مبين *} أي واضح في نفسه لمن لم يكن مظروفاً له، موضح لكل ناظر ما هو فيه من الظلام.(16/112)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
ولما أقام الأدلة ولم يبق لأحد تخلف عنه علة، صرح بما لوح(16/112)
إليه من إيمانه، فقال مظهراً لسروره بالتأكيد وقاطعاً لما يظنونه من أنه لا يجترئ على مقاطعتهم كلهم بمخالفتهم في أصل الدين: {إني آمنت} أي أوقعت التصديق الذي لا تصديق في الحقيقة غيره بالرسل مؤمناً لهم من أن أدخل عليهم نوع تشويش من تكذيب أو غيره. ولما أرشدهم بعموم الرحمانية تلويحاً، صرح لهم بما يلزمهم شكره من خصوص الربوبية فقال: {بربكم} أي بسبب الذي لا إحسان عندكم إلا منه قد نسيتم ما له لديكم من الربوبية والرحمانية والإبداع، وزاد في مصارحتكم إظهاراً لعدم المبالاة بهم بقوله: {فاسمعون} أي سماعاً إن شئتم أشعتموه، وإن شئتم كتمتموه - بما دل عليه حذف الياء وإثباتها، فلا تقولوا بعد ذلك: ما سمعناه، ولو سمعناه لفعلنا به. فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه، وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مثل صاحب يس هذا في هذه الأمة عروة بن مسعود الثقفي حيث بادى قومة الإسلام، ونادى على عليته بالأذان، فرموه بالسهام فقتلوه.
ولما كان من المعلوم - بما دل عليه من صلابتهم في تكذيبهم الرسل وتهديدهم مع ما لهم من الآيات - أنهم لا يبقون هذا الذي هو من مدينتهم وقد صارحهم بما إن أغضوا عنه فيه انتقض عليهم أكثر أمرهم، لم يذكره تعالى عدّاً له عداد ما لا يحتاج إلى ذكره، وقال(16/113)
جواباً لمن تشوف إلى علم حاله بعد ذلك بقوله إيجازاً في البيان ترغيباً لأهل الإيمان: {قيل} أي له بعد قتلهم إياه، فبناه للمفعول وحذفه لأن المقصود القول لا قائله والمقول له معلوم: {ادخل الجنة} لأنه شهيد، والشهداء يسرحون في الجنة حيث شاؤوا من حين الموت.
ولما كان الطبع البشري داعياً إلى محبة الانتقام ممن وقع منه الأذى بين سبحانه أن الأصفياء على غير ذلك الحال، فقال مستأنفاً: {قال يا ليت قومي} أي الذين فيهم قوة لما يراد منهم، فلو كانت قوتهم على الكفار لكانت حسنة {يعلمون *} ولما أريد التصريح بوقوع الإحسان إليه، حل المصدر إلى قوله: {بما غفر لي} أي أوقع الستر لما كنت مرتكباً له طول عمري من الكفر به بإيمان في مدة يسيرة {ربي} أي الذي أحسن إلي في الأخرى بعد إحسانه في الدنيا {وجعلني} ولما كان الأنس أعظم فوز، عدل عن أن يقول «مكرماً» إلى قوله: {من المكرمين *} أي الذين أعطاهم الدرجات العلى بقطعهم جميع أعمارهم في العبادة، فنصح لقومه حياً وميتاً يتمنى علمهم بإكرامه تعالى له ليعملوا مثل عمله فينالوا ما ناله، وفي قصته حث على المبادرة إلى مفارقة الأشرار واتباع الأخيار، والحلم عن أهل الحهل وكظم الغيظ والتلطف في خلاص الظالم من ظلمه وأنه لا يدخل(16/114)
أحد الجنة إلا برحمة الله وإن كان محسناً، وهذا كما وقع للأنصار رضي الله عنهم في المبادرة إلى الإيمان مع بعد الدار والنسب، وفي قول من استشهد منهم في بئر معونة - كما رواه البخاري في المغازي عن أنس رضي الله عنه: بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، وفي غزوة أحد كما في السيرة وغيرها لما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال تبارك وتعالى: فأنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا} الآيات في سورة آل عمران، وفي التمثيل بهذه القصة إشارة إلى أن في قريش من ختم بموته على الكفر ولم ينقص ما ضرب له من الأجل فهو سبحانه يؤيد هذا الدين بغيرهم لتظهر قدرته وليستوفي الآجال أولئك، ثم يقبل بقلوب غيرهم، فتظهر مع ذلك حكمته - إلى غير ذلك من ينابيع المعاني، وثابت المباني.
ولما كان سبحانه قد جعل أكثر جند هذا النبي الكريم من الملائكة فأيده بهم في حالتي المسمالمة والمصادمة وحرسه ممن أراده في مكة المشرفة وبعدها بهم، ذكره ذلك بقوله عاطفاً على ما(16/115)
تقديره: وما أنزلنا على قومه قبل قتلهم له من جند من السماء يحول بينهم وبين ذلك كما فعلنا بك إذ أراد أبو جهل قتلك بالصخرة وأنت ساجد عند البيت وغيره بغير ذلك مما هو مفصل في السير، وأما بعد الهجرة ففي غزوة الأحزاب إذ أرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً ردتهم خائبين، وفي غزوة أحد وبدر وحنين وغير ذلك: {وما أنزلنا} بما لنا من العظمة {على قومه} أي صاحب يس {من بعده} أي بعد قتله، وأعرق في النفي بقوله: {من جند} وحقق المراد بقوله: {من السماء} أي لإهلاكهم، وحقق أن إرسال الجنود السماوية أمر خص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لحكم ترجع إلى النصرة بغير الاستئصال فإنهم يتبدون في صور الآدميين ويفعلون أفعالهم، وأما عذاب الاستئصال فإن السنة الإلهية جرت بأنه لا يكون بأكثر من واحد من الملائكة لأنه أدل على الاقتدار، فلذلك قال تعالى: {وما كنا منزلين *} أي ما كان ذلك من سنتنا، وما صح في حكمتنا أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير {إن} أي ما {كانت} أي الواقعة التي عذبوا بها {إلا صيحة} صاحها بهم جبريل عليه السلام فماتوا عن آخرهم؟ وأكد أمرها وحقق وحدتها بقوله: {واحدة} أي لحقارة أمرهم عندنا، ثم زاد في تحقيرهم ببيان الإسراع في الإهلاك بقوله: {فإذا هم خامدون *} أي ثابت لهم الخمود ما كأنهم كانت لهم(16/116)
حركة يوماً من الدهر، ومن المستجاد في هذا قول أبي العلاء أحمد ابن سليمان المعري:
وكالنار الحياة فمن رماد ... أواخرها وأولها دخان(16/117)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
ولما أخبر عنهم سبحانه بما هو الحق من أمرهم، ورغبهم بما ضرب لهم من المثل ورهبهم ولم ينفعهم ذلك، أنتج التأسيف عليهم وعلى الممثل بهم ومن شابههم فقال تعالى: {يا حسرة} أي هذا الحال مستحق لملازمة حسرة عظيمة {على العباد} فكأنه قيل لها: تعالى فهذا من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها، فإن هؤلاء أحقاء بأن يتحسر عليهم، والحسرة: شدة الندم على ما فات، فأحرق فقده وأعيى أمره، فلا حيلة في رده، ويجوز أن يكون المعنى أن العباد - لكثرة ما يعكسون من أعمالهم - لا تفارقهم أسباب الحسرة ولا حاضر معهم غيرها، فلا نديم لهم إلا هي، ولا مستعلي عليهم وغالب لهم سواها.
ولما كان كأنه قيل: أيّ حال؟ قال مبيناً له ومعللاً للتحسر بذكر سببه: {ما يأتيهم} وأعرق في النفي والتعميم بقوله: {من رسول} أي رسول كان في أيّ وقت كان {إلا كانوا به} أي بذلك الرسول {يستهزءون *} أي يوجدون الهزء، والرسل أبعد الخلق من الهزء حالاً ومقالاً وفعالاً، ومن الواضح أن المستهزئ بمن هذا حاله هالك(16/117)
فهو جدير بملازمة الحسرة وأن يتحسر عليه.
ولما أتم سبحانه الخبر عن أول أمر الممثل بهم وأول أمر المؤمن بهم وآخره، وأذن هذا التحسر بأن هلاك المكذبين أمر لا بد منه، دل عليه معجباً عن عدم نظرهم لأنفسهم ومهدداً للسامعين منهم، ومحذراً من آخر أمر الممثل بهم على وجه اندرج فيه جميع الأمم الماضية والطوائف الخالية بقوله: {ألم يروا} أي يعلم هؤلاء الذين تدعوهم علماً هو كالرؤية بما صح عندهم من الأخبار وما شاهدوه من الآثار: {كم أهلكنا} على ما لنا من العظمة، ودل قوله: {قبلهم} - بكونه ظرفاً لم يذكر فيه الجار - على أن المراد جميع الزمان الذي تقدمهم من آدم إلى زمانهم، وإدخال الجار على المهلكين يدل على أن المراد بعضهم، فرجع حاصل ذلك إلى أن المراد: انظروا جميع ما مضى من الزمان هل عذب فيه قوم عذاب الاستئصال إلا بسبب عصيان الرسل فقال: {من القرون} أي الكثيرة الشديدة الضخمة، والقرن - قال البغوي: أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود {أنهم} أي لأن القرون.
ولما كان المراد من رسول ليس واحداً بعينه، وكانت صيغة(16/118)
فعول كفعيل يستوي فيها المذكر والمؤنث والواحد والجمع، أعاد الضمير للجميع فقال: {إليهم} أي إلى الرسل خاصة من حيث كونهم رسلاً {لا يرجعون *} أي عن مذاهبهم الخبيثة، ويخصون الرسل بالاتباع فلا يتبعون غيرهم أصلاً في شيء من الأشياء الدينية او الدنيوية فاطردت سنتنا ولن تجد لسنتنا تبديلاً في أنه كلما كذب قوم رسولهم أهلكناهم ونجينا رسولهم ومن تبعه، أفلا يخاف هؤلاء أن نجريهم على تلك السنة القديمة القويمة ف «إن» تعليلية على إرادة حذف لام العلة كما هو معروف في غير موضع، وضمير {أنهم} للمرسل إليهم، وضمير {إليهم} للرسل، لا يشك في هذا من له ذوق سليم وطبع مستقيم، والتعبير بالمضارع للدلالة على إمهالهم والتأني بهم والحلم عنهم مع تماديهم في العناد بتجديد عدم الرجوع، و {يرجعون} هنا نحو قوله تعالى
{ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} [السجدة: 21] أي عن طرقهم الفاسدة - وهذا معنى الآية بغير شك، وليس بشيء قول من قال: المعنى أن المهلكين لا يرجعون إلى الدنيا ليفيد الرد على من يقول بالرجعة لأن العرب ليست ممن يعتقد ذلك، ولو سلم لم يحسن، لأن السياق ليس له، لم يتقدم عنهم غير الاستهزاء، فأنكر عليهم استهزاءهم(16/119)
مع علمهم بأن الله تعالى أجرى سنته أن من استهزأ بالرسل وخالف قولهم فلم يرجع إليه أهلكه، أطرد ذلك من سنته ولم يتخلف في أمة من الأمم كما وقع لقوم نوح وهود ومن بعدهم، لم يتخلف في واحدة منهم، وكلهم تعرف العرب أخبارهم، وينظرون آثارهم، وكذا يعرفون قصة موسى عليه السلام مع فرعون فالسياق للتهديد فصار المعنى: ألم ير هؤلاء كثرة من أهلكنا ممن قبلهم لمخالفتهم للرسل، أفلا يخشون مثل ذلك في مخالفتهم لرسولهم؟ وذلك موافق لقراءة الكسر التي نقلها البرهان السفاقسي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره عن الحسن، وقالوا: إنها استئنافية، فهي على تقدير سؤال من كأنه قال: لم أهلكهم؟ وهذا كما إذا شاع أن الوادي الفلاني ما سلكه أحد إلا أصيب، يكون ذلك مانعاً عن سلوكه، وإن أراد ذلك أحد صح أن يقال له: ألم تر أنه ما سلكه أحد إلا هلك، فيكون ذلك زاجراً له ورادّاً عن التمادي فيه، لكون العلة في الهلاك سلوكه فقط، وذلك أكف له من أن يقال له: ألم تر أن الناس يموتون وكثرة من مات منهم ولم يرجع أحد منهم، غير معلل ذلك بشيء من سلوك الوادي ولا غيره، فإن هذا أمر معلوم له، غير مجدد فائدة، وزيادة عدم الرجوع إلى الدنيا لا دخل لها في العلية أيضاً لأن ذلك معلوم عند المخاطبين بل(16/120)
هم قائلون بأعظم منه من أنه لا حياة بعد الموت لا إلى الدنيا ولا إلى غيرها، وعلى تقدير التسليم فربما كان ذكر الرجوع للأموات أولى بأن يكون تهديداً، فإن كل إنسان منهم يرجع حينئذ إلى ما في يد غيره مما كان مات عليه ويصير المتبوع بذلك تابعاً أو يقع الحرب وتحصل الفتن، فأفاد ذلك أنه لا يصلح التهديد بعدم الرجوع - والله الموفق للصواب.
ولما كان كثير من أهل الجهل وذوي الحمية والأنفة لا يبالون بالهلاك في متابعة الهوى اعتماداً على أن موتة واحدة في لحظة يسيرة أهون من حمل النفس على ما لا تريد، فيكون لهم في كل حين موتات، أخبر تعالى أن الأمر غير منقض بالهلاك الدنيوي، بل هناك من الخزي والذل والهوان والعقوبة والإيلام ما لا ينقضي أبداً فقال: {وإن كل} أي وإنهم كلهم، لا يشذ منهم أحد، وزاد في التأكيد لمزيد تكذيبهم بقوله: {لما} ومن شدد {لما} فالمعنى عنده «وما كل منهم إلا» وأشار إلى أنهم يأتون صاغرين راغمين في حالة اجتماعهم كلهم في الموقف لا تناصر عندهم ولا تمانع وليس أحد منهم غائب بحال التخلف عن(16/121)
الانتصار عليه فقال: {جميع} وأشار إلى غرابة الهيئة التي يجتمعون عليها بقوله: {لدينا} وزاد في العظمة بإبرازه في مظهرها، وعبر باسم الفاعل المأخوذ من المبني للمفعول جامعاً نظراً إلى معنى {كل} لأنه أدل على الجمع في آن واحد وهو أدل على العظمة: {محضرون *} أي في يوم القيامة بعد بعثهم بأعيانهم كما كانوا في الدنيا سواء، إشارة إلى أن هذا الجمع على كراهة منهم وإلى أنه أمر ثابت لازم دائم، كأنه لعظيم ثباته لم يزل، وأنه لا بد منه، ولا حيلة في التفصي عنه، وأنه يسير لا توقف له غير الإذن، فإذا أذن فعله كل من يؤمر به من الجنود كائناً من كان، وما أحسن ما قال القائل:
ولو أنا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعدها عن كل شي
ولما أتم ضرب المثل المفيد لتمام قدرته على الأفعال الهائلة ببشارة ونذارة حتى أن من طبع على قلبه فهو لا يؤمن وإن كان قريباً في النسب والدار، ومن أسكن قلبه الخشية يؤمن وإن شط به النسب والمزار، فتم التعريف بالقسم المقصود بالذات وهو من يتبع الذكر،(16/122)
وختم بالبعث وكانوا له منكرين، وكان قد جعله في صدر الكلام من تمام بشارة من اتبع الذكر، دل عليه بقوله مبتدئاً بنكرة تنويها دال على تعظيمها: {وآية} أي علامة عظيمة {لهم} على قدرتنا على البعث وإيجادنا له {الأرض} أي هذا الجنس الذي هم منه؛ ثم وصفها بما حقق وجه الشبه فقال: {الميتة} التي لا روح لها لأنه لا نبات بها أعم من أن يكون بها نبات وفني فتفتت وصار تراباً أو لم يكن بها شيء أصلاً. ثم استأنف بيان كونها آية بقوله: {أحييناها} أي باختراع النبات فيها أو بإعادته بسبب المطر كما كان بعد اضمحلاله.
ولما كان إخراج الأقوات نعمة أخرى قال: {وأخرجنا منها حباً} ونبه تعالى على عظيم القدرة فيها وعلى عموم نفعها بمظهر العظمة، وزاد في التنبيه بالتذكير بأن الحب معظم ما يقيم الحيوان فقال مقدماً للجار إشارة إلى عد غيره بالنسبة إليه عدماً لعظيم وقعه وعموم نفعه(16/123)
بدليل أنه متى قل جاء القحط ووقع الضرر: {فمنه} أي بسبب هذا الإخراج {يأكلون *} أي فهو حب حقيقة يعلمون ذلك علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين لا يقدرون على أن يدعوا أن ذلك خيال سحري بوجه، وفي هذه الأية وأمثالهم حث عظيم على تدبر القرآن واستخراج ما فيه من المعاني الدالة على جلال الله وكماله، وقد أنشد هنا الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله في تفسيره في عيب من أهمل ذلك فقال:
يا من تصدر في دست الإمامة في ... مسائل الفقه إملاء وتدريسا
غفلت عن حجج التوحيد تحكمها ... شيدت فرعاً وما مهدت تأسيسا(16/124)
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
ولما ذكر سبحانه ما في الزروع وما لا ساق له من النعمة والقدرة، ودل السياق فيه على الحصر، أتبعه ما بين المراد التعظيم لا الحصر الحقيقي بإظهار المنة في غيره من الأشجار الكبار والصغار ذات الأقوات والفواكه، فقال دالاً على عظمه بمظهر العظمة: {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة {فيها} أي الأرض {جنات} أي بساتين تستر داخلها بما فيها من الأشجار الملتفة. ولما كان النخل - مع ما فيه من النفع - زينة دائماً بكونه لا يسقط ورقه، قدمه وسماه باسمه فقال:(16/124)
{من نخيل} وفيه أيضاً إشارة إلى أنه نفع كله خشبه وليفه وشعبه وخوصه وعراجينه وثمره طلعاً وجماراً وبسراً ورطباً وتمراً، ولذلك - والله أعلم - أتى فيه بصيغة جمع الكثرة كالعيون، ولما كان الكرم لا تكون له زينة بأوراق تجن إلا ما كان العنب قائماً قال: {وأعناب} ودل بالجمع فيهما دون الحب على كثرة اختلاف الأصناف في النوع الواحد الموجب للتفاوت الظاهر في القدر والطعم وغير ذلك.
ولما كانت الجنات لا تصلح إلا بالماء، وكان من طبع الماء الغور في التراب والرسوب بشدة السريان إلى أسفل، فكان فورانه إلى جهة العلو أمراً باهراً للعقل لا يكون إلا بقسر قاسر حكيم قال: {وفجرنا} أي فتحنا تفتيحاً عظيماً {فيها} ودل على تناهي عظمته وتعاليها عن أن يحاط بشيء منها بالتبعيض بقوله: {من العيون *} والتعريف هنا يدل على أن الأرض مركبة على الماء، فكل موضع منها صالح لأن ينفجر منه الماء، ولكن الله يمنعه عن بعض المواضع بخلاف الأشجار ليس منها شيء غالباً على الأرض، ففي ذلك تذكير بالنعمة في حبس الماء عن بعض الأرض لتكون موضعاً للسكن، ولو شاء لفجر الأرض عيوناً كما فعل بقوم نوح عليه السلام فأغرق الأرض كلها.(16/125)
ولما كانت حياة كل شيء إنما هي بالماء، أشار إلى ذلك بقوله: {ليأكلوا من} وأشارت قراءة حمزة والكسائي بصيغة الجمع مع إفراد الضمير إلى أن الشجرة الواحدة تجمع بالتطعيم أصنافاً من الثمر {ثمره} أي من ثمر ما تقدم، ولولا الماء لما طلع، ولولا أنه بكثرة لما أثمر بعد الطلوع.
ولما كان الإنسان قد يتسبب في تربية بعض الأشياء، أبطل سبحانه الأسباب فيما يمكن أن يدعو فيه تسبباً، ونبه على أن الكل بخلقه فقال: {وما عملته} أي ولم تعمل شيئاً من ذلك {أيديهم} أي عملاً ضعيفاً - بما أشار إليه تأنيث الفعل فكيف بما فوقه وإن تظافروا على ذلك بما أشار إليه جمع اليد. ولما كان السياق ظاهراً في هذا جاءت قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بحذف الضمير غير منوي قصراً للفعل تعميماً للمفعول رداً لجميع الأمور إلى بارئها سواء كانت بسبب أو بغير سبب، أي ولم يكن لأيديهم عمل لشيء من الأشياء لا لهذا ولا لغيره مما له مدخل في عيشهم ومن غيره، ولذلك حسن كل الحسن إنكاره عليهم عدم الشكر بقوله: {أفلا يشكرون *} أي يدأبون دائماً في إيقاع الشكر والدوام على تجديده في كل حين بسبب هذه النعم الكبار.(16/126)
ولما كان السياق لإثبات الوحدانية والإعلام بأن ما عبد من دونه لا استحقاق له في ذلك بوجه، ولا نفع بيده ولا ضر، وأنتج هذا السياق بما دل عليه من تفرده بكل كمال وأنه لا أمر لأحد معه بوجه من الوجوه - تنزهه عما ادعوه من الشرك غاية التنزه، قال لافتاً للكلام عن مظهر العظمة لأن إثباتها بالرحمة الدال عليها أدخل في التعظيم: {سبحان الذي} ووصفه بما أكد ما مضى من إسناد الأمور كلها إليه ونفى كل شيء منها عمن سواه فقال: {خلق الأزواج} أي الأنواع المتشاكلة المتباينة في الأوصاف وفي الطعوم والأرابيح والأشكال والهيئات والطبائع وغير ذلك من أمور لا يحصيها إلا الله تدل أعظم دلالة على كمال القدرة وعظيم الحكمة والاختيار في الإرادة، وأكد بقوله: {كلها} لإفادة التعميم؛ ثم زاد الأمر تصريحاً بالبيان بقوله: {مما تنبت الأرض} فدخل فيه من كل نجم وشجر ومعدن وغيره من كل ما يتولد منها، وأشار - لكونه في سياق تكذيبهم - إلى تأديبهم بتحقيرهم بجمع القلة والتعبير بالنفس التي تطلق في الغالب على ما يذم به فقال: {ومن أنفسهم} وبين أن وراء ذلك أموراً لا يعلمها إلا هو سبحانه فقال: {ومما لا يعلمون *} أي ومما لا يحتاجون إليه(16/127)
في دينهم ولا دنياهم، ولا توقف لشيء من إصلاح المعاش والمعاد عليه، ولو كان ذلك لأعلم به كما أعلم بأحوال الآخرة وغيرها مما لم نكن نعلمه.
ولما دربهم على النظر بآيات الأعيان الحسية الدالة على القدرة الباهرة لا سيما على البعث، رقاهم إلى المعاني على ذلك النحو، فإن إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه أدل دليل على البعث، فقال ناقلاً لهم من المكان الكلي إلى الزمان الكلي الجامعين للجواهر والأعراض: {وآية لهم} أي على إعادة الشيء بعد إفنائه {الّيل} أي الذي يشاهدونه لا شك عندهم فيه ولا حيلة بوجه في رفعه؛ ثم استأنف قوله: {نسلخ} عائداً إلى مظهر العظمة دلالة على جلالة هذا الفعل بخصوصه.
ولما كان الأصل في هذا الوجود الظلام، والضياء حادث، وكان ضياؤه ليس خالصاً، عبر ب «من» التي تصلح للملابسة مع التخلل في الأجزاء فقال: {منه النهار} أي الذي كان مختلطاً به بإزالة الضوء وكشفه عن حقيقة الليل {فإذا هم} بعد إزالتنا للنهار الذي سلخناه من الليل {مظلمون *} أي داخلون في الظلام بظهور الليل الذي كان الضياء ساتراً كما يستر الجلد الشاة، قال الماوردي: وذلك أن ضوء(16/128)
النهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا خرج منه أظلم - نقله ابن الجوزي عنه، وقد أرشد السياق حتماً إلى أن التقدير: والنهار نسلخ منه الليل الذي كان ساتره وغالباً عليه فإذا هم مبصرون.
ولما ذكر الوقتين، ذكر آيتيهما فقال: {والشمس} أي التي سلخ النهار من الليل بغيبوبتها {تجري} ولما كان غيابها بالليل مثل سكون الإنسان في مبيته، وجعلها على خط قدر لسيرها كل يوم بتقدير لا زيع فيه ومنهاج لا يعوج، قال: {لمستقر} أي عظيم {لها} وهو السير الذي لا تعدوه جنوباً ولا شمالاً ذاهبة وآئبة، وهي فيه مسرعة - بدليل التعبير باللام في موضع «إلى» ويدل على هذا قراءة «لا مستقر لها» بل هي جارية ابداً إلى انقراض الدنيا في موضع مكين محكم هو أهل للقرار، وعبر به مع أنها لا تستقر ما دام هذا الكون لئلا يتوهم أن دوام حركتها لأجل أن موضع جريها لا يمكن الاستقرار عليه، ولا ينافي هذا ما في صحيح البخاري وفي كتاب الإيمان من صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مستقرها تحت العرش، وأنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها» - هذا لفظ مسلم،(16/129)
وسيأتي لفظ البخاري، ويمكن أن يكون المستقر آخر جريها عند إبادة هذا الوجود.
ولما كان هذا الجري على نظام لا يختل على مر السنين وتعاقب الأحقاب تكل الأوهام عن استخراجه، وتتحير الأفهام في استنباطه، عظمه بقوله: {ذلك} أي الأمر الباهر للعقول؛ وزاد في عظمه بصيغة التفعيل في قوله: {تقدير} وأكد ذلك لافتاً القول عن مطلق مظهر العظمة إلى تخصيصه بصفتي العزة والعلم تعظيماً لهذه الآية تنبيهاً على أنها أكبر آيات السماء فقال: {العزيز} أي الذي لا يقدر أحد في شيء من أمره على نوع مغالبة، وهو غالب على كل شيء {العليم *} أي المحيط علماً بكل شيء الذي يدبر الأمر، فيطرد على نظام عجيب ونهج بديع لا يعتريه وهن ولا يلحقه يوماً نوع خلل إلى أن يريد سبحانه إبادة هذا الكون فتسكن حركاته وتفنى موجوداته، روى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذر! أتدري أين تذهب؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد(16/130)
تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فذلك قوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها} » .(16/131)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
ولما ذكر آية النهار، أتبعها آية الليل فقال: {والقمر} ومعناه في قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وروح عن يعقوب بالرفع: يجري لمستقر له، ونصبه الباقون دلالة على عظمة هذا الجري لسرعته بقطعه في شهر ما تقطعه الشمس في سنة، ولذلك ضعف الفعل المفسر للناصب وأعمله في ضمير القمر ليكون مذكوراً مرتين فيدل على شدة العناية تنبيهاً على تعظيم الفعل فيه، وأعاد مظهر العظمة فقال مستانفاً في قراءة الرفع: {قدرناه} أي قسناه قياساً عظيماً أي قسنا لسيره {منازل} ثمانية وعشرين، ثم يستسر ليلتين: عند التمام وليلة للنقصان لا يقدر يوماً أن يتعداه قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: يبعد عن الشمس ولا يزال يتباعد حتى يعود بدراً ثم يدنو فكلما ازداد من الشمس دنواً ازداد في نفسه نقصاناً إلى أن يتلاشى. {حتى عاد} أي بعد أن كان بدراً عظيماً {كالعرجون} من النخل وهو عود العذق ما بين شماريخه إلى منتهاه وهو منبته من النخلة(16/131)
دقيقاً منحنياً، وهو فعلول ذكره أهل اللغة في النون وقالوا: عرجن الثوب: صور فيه صور العراجين، وقال المفسرون: إنه من عرج، أي أعوج. ولما كانت حمرته آخذة إلى صفرة قال: {القديم *} أي المحول، فإن العرجون إذا طال مكثه صار كذلك، فدق وانحنى واصفر.
ولما تقرر أن لكل منهما منازل لا يعدوها، فلا يغلب ما هو آيته ما هو آية الآخر، بل إذا جاء سلطان هذا ذهب ذاك، وإذا جاء ذاك ذهب هذا، فإذا اجتمعا قامت الساعة، تحرر أن نتيجة هذه القضايا: {لا الشمس} أي التي هي آية النهار {ينبغي لها} أي ما دام هذا الكون موجوداً على هذا الترتيب {أن تدرك} أي لأن حركتها بطيئة {القمر} أي فتطمسه بالكلية، فما النهار سابق الليل {ولا الّيل سابق النهار} أي حتى ينبغي للقمر مع سرعة سيره أن يدرك الشمس ويغلبها فلا يوجد نهار أصلاً، ولو قيل: يستبق لاختل المعنى لإيهامه أنه لا يتقدمه أصلاً فالآية من الاحتباك: نفى أولاً إدراك الشمس لقوتها دليلاً على ما حذف من الثانية من نفي إدراك القمر للشمس، وذكر ثانياً سبق الليل النهار لما له من القوة(16/132)
بما يعرض من النهار فيغشيه دليلاً على حذف سبق النهار الليل أولاً {وكل} أي من المذكورات حقيقة ومجازاً {في فلك} محيط به، ولما ذكر لها فعل العقلاء، وكان على نظام محرر لا يختل، وسير مقدر لا يعوج ولا ينحل، فكان منزهاً عن آفة تلحقه، أو ملل يطرقه، عبر بما تدور مادته على القدرة والشدة والاتساع فقال: آتياً بضمير العقلاء جامعاً لأنه أدل على تسخيرهم دائماً: {يسبحون *} حثاً على تدبر ما فيها من الآيات التي غفل عنها - لشدة الإلف لها - الجاهلون.
ولما ذكر ما حد له حدوداً في السباحة في وجه الفلك لو تعداها لاختل النظام، ذكر ما هيأه من الفلك للسباحة على وجه الماء الذي طبق الأرض في زمن نوح عليه السلام حتى كانت كالسماء، ولو تعدت السفينة ما حد لها سبحانه من المنازل فنفذت إلى بحر الظلمات لفسد الشأن، وكانوا فيها كأنهم في الأرض، وبسيرها كأنهم يخترقون الجبال والفيافي والقفار - كل ذلك تذكيراً بأيام الله، وتنبيهاً على استدرار نعمه، وتحذيراً من سطواته ونقمه، ومنّاً عليهم بما يسر لهم من سلوك البحر والتوصل به إلى جليل المنافع فقال: {وآية لهم} أي(16/133)
على قدرتنا التامة الشامل {أنا} أي على ما لنا من العظمة {حملنا} .
ولما كان من قبل نوح عليه السلام من أصول البشر لم يحملوا في الفلك، عدل عن التعبير بالضمير والآباء إلى قوله: {ذريتهم} أي ذرية البشر التي ذرأناها وذروناها وذررناها حتى ملأنا بها الأرض من ذلك الوقت إلى آخر الدهر، ولهذا التكثير المفهوم من هذا الاشتقاق البليغ اغتنى ابن كثير وأبو عمرو والكوفيون فقرؤوا بالإفراد، وزادت في الإيضاح قراءة الباقين بالجمع، بعضهم ظاهراً وبعضهم في ظهر أبيه {في الفلك} عرفه لشهرته بين جميع الناس {المشحون *} أي الموقر المملوء حيواناً وزاداً، وهو يتقلب في تلك المياه التي لم ير قط مثلها ولا يرى أبداً، ومع ذلك فسلمه الله.
ولما كانت هذه الآية لم تنقطع بل عم سبحانه بنفعها: {وخلقنا} أي بعظمتنا الباهرة {لهم من مثله} أي من مثل ذلك الفلك من الإبل والفلك {ما يركبون *} أي مستمرين على ذلك على سبيل التجدد ليقصدوا منافعهم، ولو شئنا لمنعنا ذلك.
ولما كان قد أنجى سبحانه آباءنا حين حمله في ذلك الماء الذي لم يكن مثله قط، وكان ربما ظن أن الإنجاء لسر من الأسرار غير(16/134)
إرادته، جعل أمر ما خلق من مثله تارة وتارة ليعرف أن ذلك هو بصنعه فتشكر نعمته أولاً وآخراً فقال: {وإن نشأ} أي لأجل ما لنا من القوة الشاملة {نغرقهم} أي مع أن هذا الماء الذي يركبونه لا يعشر ذلك الذي حملنا فيه آباءهم {فلا صريخ لهم} أي مغيث ينجيهم مما نريد بهم من الغرق {ولا هم} أي بأنفسهم من غير صريخ {ينقذون *} أي يكون لهم إنقاذ أي خلاص بأنفسهم أو غيرها.
ولما كان هو سبحانه يصرخ من يشاء فينجيه وكانت «لا» نافية نفياً مستغرقاً، استثنى ما كان منه سبحانه فقال: {إلا رحمة} أي إلا نحن فننقذهم إن شئنا رحمة {منا} أي لهم، لا وجوباً علينا، ولا لمنفعة تعود منهم إلينا {ومتاعاً} أي لهم {إلى حين *} أي وهو حين انقضاء آجالهم.
ولما كان هذا الحال معلوماً لهم لا ينازعون فيه بوجه، بل إذا وقعوا فيه أخلصوا الدعاء وأمروا به وخلعوا الأنداد، وكان علم ذلك موجباً لصاحبه أن لا يغفل عن القادر عليه وقتاً ما، بل لا يفتر عن شكره خوفاً من مكره، وكان العاقل إذا ذكر بأمر فعلمه يقيناً كان جديراً بأن يقبله، فإذا لم يقبله وخوف عاقبته بأمر محتمل جد في الاحتراز منه، عجب منهم في إعراضهم عنه سبحانه مع قيام الأدلة القاطعة على(16/135)
وحدانيته وأنه قادر على ما يريد من عذاب وثواب، وإقبالهم على ما لا ينفعهم بوجه، فقال: {وإذا قيل} أي من أي قائل كان {لهم اتقوا} أي خافوا خوفاً عظيماً تعالجون فيه أنفسكم {ما بين أيديكم} أي بما يمكن أن تقعوا فيه من العثرات المهلكة في الدارين {وما خلفكم} أي ما فرطتم فيه ولم تجاروا به ولا بد من المحاسبة عليه لأن الله الذي خلقكم أحكم الحاكمين {لعلكم ترحمون *} أي تعاملون معاملة المرحوم بالإكرام.(16/136)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
ولما كان التقدير: أعرضوا لأن الإعراض قد صار لهم خلقاً لا يقدرون على الانفكاك من أسره، عطف عليه قوله إشارة إليه: {وما تأتيهم} وعمم بقوله: {من آية} وبين قوله: {من آيات} ولفت الكلام للتذكير بالإنعام تكذيباً لهم في أنهم أشكر الناس للمنعم فقال: {ربهم} أي المحسن إليهم {إلا كانوا عنها} أي مع كونها من عند من غمرهم إحسانه وعمهم فضله وامتنانه {معرضين *} أي دائماً إعراضهم.
ولما كانت الرحمة بالرزق والنصر إنما تنال بالرحمة للضعفاء «هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم» «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»(16/136)
وكان الإنفاق خلق المؤمنين، قال مبيناً أنهم انسلخوا عن الإنسانية جملة فلا يخافون ما يجوز وقوعه من العذاب، ولا يرجون ما يجوز حلوله من الثواب: {وإذا قيل لهم} أي من أيّ قائل كان: {أنفقوا} أي على من لا شيء، شكراً لله على ما أنجاكم منه ونفعكم به بنفع خلقه الذين هم عياله، وبين أنهم يبخلون بما لا صنع لهم فيه ولم تعمله أيديهم بل ببعضه فقال: {مما رزقكم} وأظهر ولم يضمر إشارة إلى جلالة الرزق بجلالة معطيه، وزاد في تقريعهم بجعل ذلك الظاهر اسم الذات لأنه لا ينبغي أن يكون عطاء العبد على قدر سيده فقال: {الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {قال} وأظهر تبكيتاً لهم بالوصف الحامل لهم على البخل فقال: {الذين كفورا} أي ستروا وغطوا ما دلتهم عليه أنوار عقولهم من الخيرات {للذين آمنوا} أي القائلين بذلك المعتقدين له سواء كانوا هم القائلين لهم أو غيرهم منكرين عليهم استهزاء بهم عادلين عما اقتضى السؤال عن ذكر الإنفاق إلى ما يفيد التقريع بالفقر والحاجة إلى الأكل: {أنطعم} وعدلوا عن التعبير بالماضي لئلا يقال لهم: قد تولى سبحانه إطعامه من حين خلقه إلى الآن، فقالوا: {من لو يشاء} وأظهروا حدّاً له ومساعيه فقالوا:(16/137)
{الله} أي الذي له جميع العظمة كما زعمتم في كل وقت يريده {أطعمه} أي لكنا ننظره لا يشاء ذلك فإنه لم يطعمهم لما نرى من فقرهم فنحن أيضاً لا نشاء ذلك بموافقة لمراد الله فيه فتركوا التأدب مع الأمر وأظهروا التأدب مع بعض الإرادة المنهي عن الجري معها والاستسلام لها، وما كفاهم حتى قالوا لمن أرشدهم إلى الخير على طريق النتيجة لما تقدم: {إن} أي ما {أنتم إلا في ضلال} أي محيط بكم {مبين *} أي في غاية الظهور، وما دروا أن الضلال إنما هو لهم لأنه سبحانه إنما جعل إطعام بعض خلقه بلا واسطة وبعضهم بواسطة امتحاناً منه للمطيع والعاصي والشاكر والكافر والجزع والصابر - وغير ذلك من حكمه.
ولما ذكر قلة خيرهم المستندة إلى تهكمهم باليوم الذي ذكروا به بالأمر بالاتقاء والتعليل بترجي الرحمة، أتبعه حكاية استهزاء آخر منهم دال على عظيم جهلهم بتكذيبهم بما يوعدون على وجه التصريح بذلك اليوم والتصوير له بما لا يسع من له أدنى مسكة غير الانقياد له فقال: {ويقولون} أي عادة مستمرة مضمونة إلى ما تقدم مما يستلزم تكذيبهم، وزادوا بالتعبير بأداة القرب في تقريعهم إشارة إلى أنكم زدتم علينا(16/138)
في التهديد به والتقريب له حتى ظن أنه مصبحنا أو ممسينا ولم نحس منه عيناً ولا أثراً: {متى هذا} وزادوا في الاستهزاء بتسميته وعداً فقالوا: {الوعد} أي الذي تهددوننا به تارة تلويحاً وتارة تصريحاً، عجلوه لنا. وألهبوا وهيجوا زيادة في التكذيب بقولهم: {إن كنتم صادقين *} ولما كان الحازم من لا يتهكم بشيء إلا إذا استعد له بما هو محقق الدفع، بين سفههم بإتيانها بغتة وبأنه لا بد من وقوعها، وأنها بحيث تملأ السماوات والأرض، فكأنه لا شيء فيهما غيرها بقوله: {ما ينظرون} أي مما يوعدون ويجوز أن يكون بمعنى «ينتظرون» لأن استبطاءهم لها في صورة الانتظار وإن أرادوا به الاستهزاء وجرد الفعل تقريباً لها لتحقق وقوعه {إلا صيحة} وبين حقارة شأنهم وتمام قدرته بقوله: {واحدة} وهي النفخة الأولى المميتة، واقتصر في تأكيد الوحدة على هذا بخلاف ما يأتي في المحيية لأنهم لا ينكرون أصل الموت {تأخذهم} أي تهلكهم؛ وبين غرورهم بقوله: {وهم يخصمون *} أي يختصمون أي يتخاصمون في معاملاتهم على غاية من الغفلة، ولعله عبر بذلك إشارة بالإدغام اللازم عنه التشديد إلى تناهي الخصام بإقامة أسبابه أعلاها وأدناها(16/139)
إلى حد لا مزيد عليه لأن التاء معناه عند أهل الله انتهاء التسبيب إلى أدناه وكل ذلك إشارة إلى أنهم في وقت الصعق يكونون في أعظم الأمان منها لأن إعراضهم عنها بلغ إلى غاية لا مزيد عليها، ويشير الإدغام أيضاً إلى أن خصومتهم في غاية الخفاء بالنسبة إلى الصيحة، وأن بلغت الخصومة النهاية في الشدة، ولم يقرأ أحد «يختصمون» بالإظهار إشارة إلى أنه لا يقع في ذلك الوقت خصومه كاملة حتى تكون ظاهرة بل تهلكهم الصيحة قبل استيفاء الحجج وإظهار الدلائل، فمنها ما كان ابتدأ فيه اصحابه فأوجزوا - بما أشارت إليه قراءة حمزة بإسكان الخاء وكسر الصاد مخففاً، ومنها ما كان متوسطاً وفيه خفاء وعلو - بما أشار إليه تشديد الصاد مع اختلاس فتحة الخاء، ومنها ما هو كذلك وهو إلى الجلاء أقرب - بما أشار إليه إخلاص فتحة الخاء مع تشديد الصاد، وأشار من قرأه كذلك مع كسر الخاء إلى التوسط مع الخفاء والسفول، والله أعلم.
ولما كانت هذه النفخة المميتة، سبب عنها قوله: {فلا يستطيعون توصية} أي أن يوجدوا الوصية في شيء من(16/140)
الأشياء، والاستفعال والتفعيل يدلان على أن الموت ليس حين سماع أول الصوت بل عقبه من غير مهلة لتمام أمر ما.
ولما كان ذلك ليس نصّاً في نفي المشي قال: {ولا إلى أهلهم} أي فضلاً عن غيرهم {يرجعون *} بل يموت كل واحد في مكانه حيث تفجأه الصيحة، وربنا أفهم التعبير ب «إلى» أنهم يريدون الرجوع فيخطون خطوة أو نحوها، وفي الحديث «ليقومن من الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يبيعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها» .
ولما دل ذلك على الموت قطعاً، عقبه بالبعث، ولذلك عبر فيه بالنفخ فإنه معروف في إفاضة الروح فقال: {ونفخ في الصور} أي الذي أخذتهم صيحته، وجهله إشارة إلى أنه لا توقف له في نفس الأمر على نافخ معين ليكون عنه ما يريد سبحانه من الأثر، بل من أذن له الله كائناً من كان تأثر عن نفخه ما ذكر، وإن كنا(16/141)
نعلم أن المأذون له إسرافيل عليه السلام.
ولما كان هذا النفخ سبباً لقيامهم عنده سواء من غير تخلف، عبر سبحانه بما يدل على التعقب والتسبب والفجاءة فقال: {فإذا هم} أي في حين النفخ {من الأجداث} أي القبور المهيأة هي ومن فيها لسماع ذلك النفخ {إلى ربهم} أي الذي أحسن إليهم بالتربية والتهيئة لهذا البعث فكفروا إحسانه، لا إلى غيره {ينسلون *} أي يسرعون المشي مع تقارب الخطى بقوة ونشاط، فيا لها من قدرة شاملة وحكمة كاملة، حيث كان صوت واحد يحيي تارة ويميت أخرى، كأنه ركب فيه من الأسرار أنه يكسب كل شيء ضد ما هو عليه من حياة أو موت أو غشي أو إفاقة.(16/142)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
ولما تشوفت النفس إلى سماع ما يقولون إذا عاينوا ما كانوا ينكرون، استأنف قوله: {قالوا} أي الذين هم من أهل الويل من عموم الذين الذين قاموا بالنفخة وهم جميع من كان قد مات قبل ذلك. ولما كانوا عالمين بأن جزاء ما أسلفوا كل خزي، اتبعوه قولهم حاكياً سبحانه عبارتهم إذ ذاك لأنه أنكى لهم: {يا ويلنا} أي ليس(16/142)
بحضرتنا اليوم شيء ينادمنا إلا الويل، ثم استفهموا جرباً على عادتهم في الغباوة فقالوا مظهرين لضميرهم تخصيصاً للويل بهم لأنهم في معرض الشك: {من بعثنا من مرقدنا} عدوا مكانهم الذين كانوا به - مع ما كانوا فيه من عذاب البرزخ - مرقداً هنيئاً بالنسبة إلى ما انكشف لهم أنهم لا قوة من العذاب الأكبر، ووحدوه إشارة إلى أنهم على تكاثرهم وتباعدهم كانوا في القيام كنفس واحدة ثم تذكروا ما كانوا يحذرونه من أن الله هو يبعثهم للجزاء الذي هو رحمة الملك لأهل مملكته، فقالوا مجيبين لأنفسهم استئنافاً: {هذا ما} أي الوعد الذي {وعد} أي به، وحذفوا المفعول تعميماً لأنهم الآن في حيز التصديق {الرحمن} أي العام الرحمة الذي رحمانيته مقتضية ولا بد للبعث لينصف المظلوم من ظالمه، ويجازي كلاًّ بعمله من غير حيف، وقد رحمنا بإرسال الرسل إلينا بذلك، وطال ما أنذرونا حلوله، وحذرونا صعوبته وطوله. ولما كان التقدير: فصدق الرحمن، عطف عليه قوله: {وصدق} أي في أمره {المرسلون *} أي الذين أتونا بوعده ووعيده، فالله الذي تقدم وعده به وأرسل به ورسله هو الذي بعثنا تصديقاً لوعده ورسله.(16/143)
ولما كان الإخبار بالنفخ لا ينفي التعدد، قال محقراً لأمر البعث بالنسبة إلى قدرته مظهراً للعناية بتأكيد كونها واحدة بجعل الخبر عنه أصلاً مستقلاً بفضله عن النفخ والإتيان فيه بفعل الكون و «إن» النافية لأدنى مظاهر مدخولها فكيف بما وراءه دون «ما» التي إنما تنفي التمام: {إن} أي ما {كانت} أي النفخة التي وقع الإحياء بها مطلق كون {إلا صيحة واحدة} أي كما كانت نفخة الإماتة واحدة {فإذا هم} أي فجأة من غير توقف أصلاً {جميع} أي على حالة الاجتماع، لم يتأخر منهم أحد، يتعللون به في ترك الانتصار، ودوام الخضوع والذل والصغار، ولما كان ذلك على هيئات غريبة لا يبلغ كنهها العقول، قال لافتاً القول إلى مظهر العظمة معبراً بما للأمور الخاصة: {لدينا} ولما كان ذلك أمراً لا بد منه، ولا يمكن التخلف عنه، عبر بصيغة المفعول وأكد معنى الاجتماع بالجمع نظراً إلى معنى جميع ولم يفرد اعتباراً للفظها لما ذكر من المعنى فقال: {محضرون *} أي بغاية الكراهة منهم لذلك بقادة تزجرهم وساقة تقهرهم.
ولما كان هذا الإحضار بسبب العدل وإظهار جميع صفات الكمال قال: {فاليوم} ولما كان نفي الظلم مطلقاً أبلغ من نفيه عن أحد بعينه، وأدل على المراد وأوجز، قال لافتاً القول عن الإظهار أو الإضمار بمظهر العظمة أو غيره! {لا تظلم} ولما كان التعبير(16/144)
بما كثر جعله محط الرذائل والحظوظ والنقائص أدل على عموم نفي الظلم قال: {نفس} أي أيّ نفس كانت مكروهة أو محبوبة {شيئاً} أي لا يقع لها ظلم ما من أحد ما في شي ما. ولما كانت المجازاة بالجنس أدل على القدرة وأدخل في العدل، قال محققاً بالخطاب والجمع أن المنفي ظلمه كل من يصلح للخطاب لئلا يقع في وهم أن المنفي ظلمه نفوس مخصوصة أو نفس واحد: {ولا تجزون} أي على عمل من الأعمال شيئاً من الجزاء من أحد ما {إلا ما كنتم تعملون *} ديدناً لكم بما ركز في جبلاتكم.
ولما قرر أن الجزاء من جنس العمل، شرع في تفصيله، وبدأ بأشرف الحزبين في جواب من سأل عن هذا الجزاء فقال مؤسفاً لأهل الشقاء بالتذكير بالتأكيد بما كان لهم من الإنكار في الدنيا وإظهار للرغبة في هذا القول والتبجح به لما له من عظيم الثمرة: {إن اصحاب الجنة} أي الذين لا حظ للنار فيهم، وكرر التعبير باليوم تعظيماً لشأنه وتهويلاً لأمره على إثر نفختيه المميتة والمقيمة بذكر بعض ثمراته، وجمل من عظائم تأثيراته، فقال: {اليوم} أي يوم البعث، وهذا يدل على أنه يعجل دخولهم أو دخول بعضهم إليها ووقوف الباقين للشفاعة ونحوها من الكرامات عن دخول أهل النار النار، وعبر بما يدل على أنهم(16/145)
بكلياتهم مقبلون عليه ومظروفون له مع توجههم إليه فقال: {في شغل} أي عظيم جداً لا تبلغ وصفه العقول كما كانوا في الدنيا في أشغل الشغل بالمجاهدات في الطاعات. ولما تاقت النفوس إلى تفسير هذا الشغل قال: {فاكهون *} أي لهم عيش المتفكة، وهو الأمن والنعمة والبسط واللذة وتمام الراحة كما كانوا يرضوننا بإجهاد أنفسهم وإتعابها وإشقائها وإرهابها، وقراءة أبي جعفر بحذف الالف أبلغ لأنها تدور على دوام ذلك لهم وعلى أنهم في أنفسهم في غاية ما يكون من خفة الروح وحسن الحديث.
ولما كانت النفس لا يتم سرورها إلا بالقرين الملائم قال: {هم} أي بظواهرهم وبواطنهم {وأزواجهم} أي أشكالهم الذين هم في غاية الملاءمة كما كانوا يتركونهم في المضاجع على ألذ ما يكون، ويصفون أقدامهم في خدمتنا وهم يبكون {في ظلال} أي يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد، كما كانوا يشوون أكبادهم في دار العمل بحر الصيام، وتجرع مرارات الأوام، والصبر في مرضاتنا على الآلام، ويقرون أيديهم وقلوبهم عن الأموال، ببذل الصدقات في سبلنا على مر الأيام وكر الليال، وقراءة حمزة والكسائي بضم الظاء وحذف(16/146)
الألف على أنه أشد امتداداً، ويدل اتفاقهما في الجمع على أن الظل فيها مختلف باختلاف الأعمال.
ولما كان التمتع لا يكمل إلا مع العلو الممكن من زيادة العلم الموجب لارتياح النفس وبهجة العين بانفساح البصر عند مد النظر، قال: {على الأرائك} أي السرر المزينة العالية التي هي داخل الحجل، قال البغوي: قال ثعلب: لا يكون أريكة حتى يكون عليها حجلة، وقال ابن جرير: الأرائك: الحجال فيها السرر، وروى أبو عبيد في كتاب الفضائل عن الحسن قال: كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا رجلاً من أهل اليمن فأخبرنا أن الأريكة عندهم الحجلة فيها السرير. وهذا جزاء لما كانوا يلزمون المساجد ويغضون الأبصار ويضعون نفوسهم لأجلنا {متكئون *} كما كانوا يدأبون في الأعمال قائمين بين أيدينا في أغلب الأحوال، والاتكاء: الميل على شق مع الاعتماد على ما يريح الاعتماد عليه، أو الجلوس مع التكمن على هيئة المتربع، وقراءته بضم(16/147)
الكاف وحذف الهمزة أدل على التربع وما قاربه، وقراءة كسر الكاف وضم الهمزة أدل على القرب من التمدد لما فيها من الكسرة، فإنه يقال كما نقله أبو عبد الله القزاز: اتكأت الرجل اتكاء - إذا وسدته أي جعلت له وسادة، أي محذة يستريح عليها.(16/148)
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
ولما قدم المعاني التي توجب أكل الفاكهة، أتى بها فقال: {لهم} أي خاصة بهم {فيها فاكهة} أي لا تنقطع أبداً، فلا مانع لهم من تناولها، ولا يوقف ذلك على غير الإرادة. ولما كانت الفاكهة قد تطلق على ما يلذذ، صرح بأن ذلك هو المراد، فقال معبراً بالعطف لتكون الفاكهة مذكورة مرتين خصوصاً وعموماً: {ولهم} ولما كان السياق لأصحاب الجنة الذين تفهم الصيحة أنهم فيها دائماً وإن كانوا في الدنيا، أعري الكلام من الظرف ليفهم إجابة دعائهم في الدنيا وإنالتهم جميع مرادهم في الدارين فقال: {ما يدعون} أي الذي يطلبون طلباً أما إخراجاً لما قد يهجس في النفس من غير عزم عليه إن كان المراد في الجنة من غير كلام الله كالمآكل والمشارب ونحوها، وإما إظهاراً للاهتمام إن كان المراد أنه كلامه سبحانه، وذلك(16/148)
لأجل ما كانوا في الدنيا يفطمون أنفسهم عن الشهوات عزوفاً عما يفنى، وطموحاً إلى ما عندنا من الباقيات الصالحات، ثم فسر الذي يدعونه - أي يطلبونه - بغاية الاشتياق إليه أو استأنف الإخبار عنه بقوله: {سلام} أي عظيم جداً لا يكتنه وصفه، عليكم يا أهل الجنة، كائن هو أو مقول هو، والسلام يجمع جميع النعم، ثم بين حال هذا السلام بما أظهر من عظمه بقوله: {قولاً من رب} أي دائم الإحسان {رحيم *} أي عظيم الإكرام بما ترضاه الألهية، كما كانوا في الدنيا يفعلون كل ما فيه الرضا، فيرحمهم في حال السلام وسماع الكلام بلذة الرؤية مع التقوية عن الدهش والصعق لعظيم الأمر وبالتأهيل لهذا المقام الأكرم مع قصورهم عنه، وقد أوضح هذا السياق أنه من الله تعالى بلا واسطة، فإنه أكده بالقول وحرف الابتداء، وذكر صفات الإحسان كما قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: ولا ارتياب في أنه لا شيء يعدل هذا في النعيم وقرة العين والشرف وعلو القدر، ولا شك أن هذا هو المقصود بالحقيقة، فهو قلب النعيم في ذلك اليوم الذي هو قلب الوجود حقاً خفاء وصلاحاً وفساداً، فصح أن هذه(16/149)
الآية قلب هذه السورة كما كانت هذه السورة قلب القرآن، وقد ورد حديث في تفسير البغوي وكتاب المائتين للأستاذ أبي عثمان الصابوني أنه من الله تعالى بلا واسطة عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم با أهل الجنة، وذلك قوله تعالى {سلام قولاً من رب رحيم} فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته في ديارهم»
قال الأستاذ أبو عثمان: هذا حديث غريب الإسناد والمتن لا أعلم إني كتبته إلا من هذا الوجه.
ولما كان التقدير: فانظروا وازدادوا حسرة أيها المجرمون، عطف عليه قوله: {وامتازوا} أي انفردوا انفراداً هو بغاية القصد، وجرى على النمط الماضي من زيادة التهويل لذلك الموقف بإعادة قوله: {اليوم} أي عن عبادي الصالحين أو عمن بقي منهم معكم في الموقف ليظهروا من أوضارهم، ويشفوا من مضارهم، لأن غيبة الرقيب أتم النعيم، وإبعاد العدو أعلى السرور، وحذف أداة النداء لا لقرب الكرامة بل للدلالة(16/150)
على أنهم في القبضة لا مانع من غاية التصرف فيهم لكل ما يراد لأنه لا حائل دونهم {أيها المجرمون *} أي العريقون في الإجرام، فلا يقع في أوهامكم أنكم تخالطونهم اليوم أصلاً، وهذا ما كنتم تمتازون عنهم في الدنيا وتقاطعونهم ترفعاً واستكباراً، فهذا قوله للمجرمين وذلك قوله للمؤمنين، فصح أنه قلب لأنه به صلاح بعض المكلفين وفساد الآخرين الذي هو تمام صلاح الأولين، وقد تقدم في أوائل سورة الروم منام ينفع استحضاره هنا.
ولما أمرهم بالامتياز أمراً إرادياً حكمياً، فامتازوا في الحال، وأسروا الندامة وسقط في أيديهم فعضوا الأنامل، وصروا بالأسنان، وشخصت منهم الأبصار، وكلحت الوجوه، وتقلصت الشفاه، ونكست الرؤوس وشحبت الألوان، وسحبوا على الوجوه، وكان من فنون المساءة وشؤون الحسرة ما تعجز عنه العقول، وتذوب من ذكره النفوس، وتنخلع القلوب، قال سبحانه موبخاً لهم في تلك الحال بهذا المقال معللاً حكمه عليهم بذلك بأنه لم يتركهم هملاً بل ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الدلائل على كماله ما هو كافٍ لهم في النجاة ثم ما وكلهم(16/151)
إلى ذلك، بل أرسل إليهم رسلاً وأنزل عليهم كتباً: {ألم أعهد} أي أوصيكم إيصاء عظيماً بما نصبت من الأدلة، ومنحت من العقول، وبعثت من الرسل، وأنزلت من الكتب، في بيان الطريق الموصل إلى النجاة، لافتاً القول عن مظهر الإحسان إلى ما هو أولى به من مظهر التكلم بالوحدة دفعاً للبس، ثم أشار إلى علوه وجلاله، وعظمه وسمو كماله فقال: {إليكم} .
ولما كان المقصود بهذا الخطاب تقريعهم وتوبيخهم وتبكيتهم، وكانت هذه السورة القلب، وكان القلب أشرف الأعضاء، وكان الإنسان أشرف الموجودات، خصه بالخطاب لأنه خطابه خطاب للجن فقال مؤكداً ما أفهمه حرف الغاية من علو رتبته، وعظيم منزلته بما أشارت إليه أداة البعد: {يا بني آدم} أي فلم أخصكم بذلك عن أبناء غير نوعكم ليكون ذلك التخصيص حاملاً لكم على العصيان بل ليكون موجباً للطاعات والعرفان: {أن لا تعبدوا الشيطان} أي البعيد المحترق بطاعتكم له فيما يوسوس لكم به، ثم علل النهي عن عبادته بما يقتضي(16/152)
شدة النفرة منه بعد أن لوّح إلى ذلك بوصفه فقال: {إنه لكم} والتأكيد لأن أفعالهم أفعال من يعتقد صداقته {عدو مبين *} أي ظاهر العداوة جداً من جهة عداوته لأبيكم العداوة التي أخرجتكم من الجنة التي لا منزل أشف منها، ومن جهة أمره لكم بما يبغض الدنيا من التخالف والتخاصم، ومن جهة تزيينه للفاني الذي لا يرغب فيه عاقل لو لم يكن فيه عيب غير فنائه، فكيف إذا كان أكثره أكداراً وأدناساً وأوضاراً، فكيف إذا كان شاغلاً عن الباقي، فكيف إذا كان عائقاً عن المولى، فكيف إذا كان مغضباً له حاجباً عنه.
ولما بكتهم بالتذكير بما ارتكبوا مع النهي عن عبادة العدو تقديماً لدرء المفاسد، وبخهم بالتذكير بما ضيعوا مع أخذ العهود من واجب الأمر بعبادة الولي فقال عاطفاً على «أن لا» : {وأن اعبدوني} ولما ذكر سبحانه بالأمر بعبادته، عرف بحسنها حثاً على لزومها قبل ذلك اليوم قائلاً: {هذا} أي الأمر بعبادتي {صراط مستقيم *} أي بليغ القوم، وعبادة الشيطان صراط ضيق معوج غاية الضيق والعوج.
ولما كان التقدير: فاتبعتموه وسلكتم سبيله مع اعوجاجه، وتركتم سبيلي مع ظهور استقامته، عطف عليه قوله: {ولقد أضل منكم} أي عن الطريق الواضح السوي بما سلطته به من الوسوسة، وأكده(16/153)
إشارة إلى أنه أمر لا يكاد أن يصدق به لما يبعد ارتكابه في العادة من اتضاح أمره وظهور فساده وضره. ولما كان الآدمي شديد الشكيمة عالي الهمة إذا أراد، عبر بقوله: {جبّلاً} أي أمما كباراً عظاماً كانوا كالجبال في قوة العزائم وصعوبة الانقياد، ومع ذلك فكان يتلعب بهم تلعباً، فسبحان من أقدره على ذلك وإلا فهو أضعف كيداً وأحقر أمراً، قال في القاموس: الجبل - بالضم: الشجر اليابس والجماعة منا كالجبل كعنق وعدل وعتل وطمر وطمرة وأمير، ثم قال: وبالكسر وبالضم وكطمرة: الأمة والجماعة، ثم قال: والجبلة مثلثة ومحركة وكطمرة: الخلقة والطبيعة. ودلت قراءة أبي عمرو وابن عامر بضم الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام على الذين هم في أول مراتب الشدة والقوة، وقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي ورويس عن يعقوب بضمتين وتخفيف على ما فوق ذلك مما يقرب من الوسط مع الظهور والعلو للضم من القوة، وقراءة روح كذلك مع(16/154)
تشديد على ما فوق الوسط - بما أشارت إليه الحركات والتشديد، ولكنه مع خفاء، وكأنه بالمكر بما أشار إليه كون الحركتين بالكسر، وعظم سبحانه الأمر بقوله: {كثيراً} ثم زاد في التوبيخ والإنكار بما أنتجه المقام وسببه إضلاله لهم مع ما أوتوا من العقول من قوله: {أفلم} ولما كان سبحانه قد آتاهم عقولاً وأيّ عقول، عبر بالكون فقال: {تكونوا تعقلون *} أي لتدلكم على ما فيه النجاة عقولكم بما نصبت من الأدلة، ومع ما نبهت عليه الرسل، وحذرت منه من إهلاك الماضين، بسبب اتباع الشياطين، وغير ذلك من كل أمر واضح مبين.
ولما أنكر عليهم أن يفعلوا فعل من لا عقل له، قال متمماً للخزي: {هذه} إشارة لحاضر أما حال الوقوف على شفيرها أو الدّع فيها {جهنم} أي التي تستقبلكم بالعبوسة والتجهم كما كنتم تفعلون بعبادي الصالحين: {التي كنتم} أي كوناً هيأتكم به لقبول ما يمكن كونه بما غرزته فيكم من العقول. ولما كان المحذور الإيعاد بها، لا كونه من معين، قال بانياً للمفعول: {توعدون *} أي إن لم ترجعوا عن غيّكم {اصلوها} أي قاسوا حرها وتوقدها واضطرامها،(16/155)
وهوّل أمر ذلك اليوم بإعادة ذكره على حد ما مضى فقال: {اليوم} لتكونوا في شغل شاغل كما كان أصحاب الجنة، وشتان ما بين الشغلين {بما} أي بسبب ما. ولما كانوا قد تجلدوا على الطغيان تجلد من هو مجبول عيله، بيّن ذلك بذكر الكون فقال: {كنتم تكفرون *} أي تسترون ما هو ظاهر جداً بعقولكم من آياتي مجددين ذلك مستمرين عليه.(16/156)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
ولما كان كأنه قيل: هل يحكم فيهم بعلمه أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في العمل بالبينة، بين أنه على أظهر من قواعد الدنيا، فقال مهولاً لليوم على النسق الماضي في مظهر العظمة لأنه أليق بالتهويل: {اليوم نختم} أي بما لنا من عجيب القدرة المنشعبة من العظمة، ولفت القول إلى الغيبة إيذاناً بالإعراض لتناهي الغضب فقال: {على أفواههم} أي لاجترائهم على الكذب في الأخرى كما كان ديدنهم في الدنيا، وكان الروغان والكذب والفساد إنما يكون باللسان المعرب عن القلب، وأما بقية الجوارح فمهما خرق العادة بإقدارها على الكلام لم تنطق إلا بالحق فلذلك قال: {وتكلمنا أيديهم} أي بما عملوا إقراراً هو أعظم شهادة {وتشهد أرجلهم}(16/156)
أي عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار {بما كانوا} أي في الدنيا بجبلاتهم {يكسبون *} فالآية من الاحتباك: أثبت الكلام للأيدي أولاً لأنها كانت مباشرة دليلاً على حذفه من حيز الأرجل ثانياً، وأثبت الشهادة للأرجل ثانياً لأنها كانت حاضرة دليلاً على حذفها من حيز الأيدي أولاً، وبقرينه أن قول المباشر إقرار وقول الحاضر شهادة، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: «يقول العبد: يا رب! ألم تجرني من الظلم، قال: فيقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل» وبالظاهر أن السر في الختم على فيه منعه من أن يلغط حال شهادتها عليه لئلا يسمع قولها، وكما هو دأب أهل العناد عند الخصام.
ولما أتم بضرب المثل وما بعده الدلالة على مضمون {إنما تنذر من اتبع الذكر} وما عللت به من إحياء الموتى، ودل على ذلك بما تركه كالشمس ليس فيه لبس، وزاد من بحو الفوائد وجميل العوائد ما ملأ الأكوان من موجبات الإيمان، وذكر ما في فريقي(16/157)
المتبعين والممتنعين يوم البعث، وختم بالحتم على الأفواه بعد البعث، أتبعه آية الختم بالطمس والمسخ قبل الموت تهديداً عطفاً على ما رجع إليه المعنى مما قبل أول ذلك الخطاب من قوله {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} الآية، دفعاً لما ربما وقع في وهم أحد أن القدرة لا تتوجه إلى غير الطمس في المعاني بضرب السد وما في معناه، فأخبر أنه كما أعمى البصائر قادر على إذهاب الأبصار، فقال مؤكاً لما لهم من الإنكار أو الأفعال التي هي فعل المنكر: {ولو} وعبر بالمضارع في قوله: {نشآء} ليتوقع في كل حين، فيكون أبلغ في التهديد {لطمسنا} وقصر الفعل إشارة إلى أن المعنى: لو نريد لأوقعنا الطمس الذي جعلناه على بصائرهم {على أعينهم} فأذهبنا عينها وأثرها، وجعلناها مساوية للوجه بحيث تصير كأنها لم تكن أصلاً، وقد تقدم في النساء نقل معنى هذا عن ابن هشام.
ولما كان الجالس مع شخص في مجلس التنازع وهو يهدده إن لم يرجع عن غيه بقارعة يصيبه بها يبادر الهرب إذا فاجأته منه مصيبة كبيرة خوفاً من غيرها جرياً مع الطبع لما ناله من الدهش، ومسه من(16/158)
عظيم الانزعاج والوجل، كما اتفق لقوم لوط عليه السلام لما مسح جبريل عليه السلام أعينهم فأغشاها حين بادروا الباب هراباً يقولون: عند لوط أسحر الناس، سبب عن ذلك قوله: {فاستبقوا} أي كلفوا أنفسهم ذلك وأوجدوه. ولما كان المقصود بيان إسراعهم في الهرب، عدى الفعل مضمناً له معنى {ابتدروا} كما قال تعالى: {واستبقوا الخيرات} [البقرة: 148] فقال: {الصراط} أي الطريق الواضح الذي ألفوه واعتادوه، ولهم به غاية المعرفة. ولما كان الأعمى لا يمكنه في مثل هذه الحالة المشي بلا قائد فضلاً عن المسابقة، سبب عن ذلك قوله منكراً: {فأنى} أي كيف ومن أين {يبصرون *} أي فلم يهتدوا للصراط لعدم إبصارهم بل تصادموا فتساقطوا في المهالك وتهافتوا.
ولما كان هذا كله مع القدرة على الحركة قال: {ولو نشاء} أي أن نمسخهم {لمسخناهم} أي حولناهم إلى الجمادية فأبطلنا منهم الحركة الإرادية. ولما كان المقصود المفاجأة بهذه المصائب بياناً لأنه سبحانه لا كلفة عليه في شي من ذلك قال: {على مكانتهم} أي المكان الذي كان قبل المسخ كل شخص منه شاغلاً له بجلوس أو قيام أو غيره في ذلك الموضع خاصة قبل أن يتحرك منه، وهو معنى قراءة شعبة عن عاصم «مكانتهم» ودل على أن المراد التحويل إلى أحوال الجمادية بما سبب عن ذلك من قوله: {فما استطاعوا} أي بأنفسهم(16/159)
بنوع معالجة {مضيّاً} أي حركة إلى جهة من الجهات؛ ثم عطف على جملة الشرط قوله: {ولا يرجعون *} أي يتجدد لهم بوجه من الوجوه رجوع إلى حالتهم التي كانت قبل المسخ دلالة على أن هذه الأمور حق لا كما يقولون من أنها خيال وسحر، بل ثباتها لا يمكن أحداً من الخلق رفعه ولا تغيره بنوع تغيير هذا المراد إن شاء الله، ولو قيل: ولا رجوعاً - كما قال بعضهم إنه المراد، لم يفد هذا المعنى النفيس.
ولما كانت هذه أموراً فرضية يتأتى لبعض المعاندين اللد الطعن فيها مكابرة، وكان كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي الرحمة مانعاً من المفأجاة بالتعذيب بعذاب الاستئصال بها، دل عليها بما يشاهدونه من باهر قدرته وغريب حكمته في صنعته، فقال دالاً بالعاطف على غير معطوف عليه ظاهر على أن التقدير: فقد خلقناهم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم أولدناهم لا يعلمون شيئاً ولا يقدرون على شيء، ثم درجناهم في أطوار الأسنان معلين لهم في معارج القوى الظاهرة والباطنة إلى أن صاروا إلى حد الأشد - وهو استكمال القوى البشرية - فأوقفنا قواهم الظاهرة والباطنة، فلم نجر العادة بأن نحدث فيهم إذ ذاك قوة لم تكن أيام(16/160)
الشباب: {ومن نعمره} أي نطل عمره إطالة كبيرة منهم بعد ذلك {ننكسه} وقراءة عاصم وحمزة بضم أوله وفتح ثانيه وكسر الكاف مشددة دالة على تفاوت الناس في النكس، ولم يقل «في خلقه» لئلا يظن أن المراد أن المعمر له خلق أنشأه وأبدعه {في الخلق} أي فيما أبدعناه من تقدير بدنه وروحه أي نرده على عقبه نازلاً في المدارج التي أصعدناه فيها إلى أن تضمحل قواه الحسية فيكون كالطفل فلا يقدر على شيء والمعنوية فلا يعلم شيئاً، ومن قدر على مثل هذا التحويل من حالة إلى أخرى لم تكن طرداً وعكساً قدر على مثل ما مضى من التحويل بلا فرق، غير أنهم لكثرة إلفهم لذلك صيره عندهم هيناً، ولقلة وجود الأول صيره عندهم بعيداً، ولذلك سبب عن الكلام قوله: على الأسلوب الماضي في قراءة الجماعة ولفتاً إلى الخطاب عند المدنيين ويعقوب لأنه أقرب إلى الاستعطاف وإعلاماً بأن الوعظ عام لكل صالح للخطاب: {أفلا يعقلون *} وقال بعض العارفين: قيد بالخلق احترازاً عن الأمر، فإن المؤتمر كلما زاد سنّاً ازداد لربه طاعة وبه علماً، يعني أن النكس في البدن أمر لا بد منه، وأما في المعارف فتارة وتارة.
ولما أتم سبحانه الدليل على آية {لقد حق القول على أكثرهم}(16/161)
بأن التكذيب بالأصلين التوحيد والحشر، وبينهما غاية البيان، رجع إلى تثبيت الأصل الثالث وهو أمر الرسول والتنزيل، ولما كان من المعلوم أن الله تعالى أجرى العادة في النوع الآدمي أن من استوفى سن الصبا والشباب اثنين وأربعين سنة حسمت غرائزه فلم يزد فيه غريزة، ووقفت قواه كلها فلم يزد فيها شيء، أما المعاني الحسية فمطلقاً، وأما المعنوية فلا تزيد إلا بالتجربة والكسب، ولذلك قالوا:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد
وكان من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام تظهر عليهم غرائز العلوم والحكم وغير ذلك مما يجريه الله على أيديهم، ولا ينقص شيء من قواهم بل تزاد كما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمشي غير مكترث، وأن الصحابة رضي الله عنهم ليجهدون أنفسهم، فيكون جهدهم أن يدركوا مشية الهوينا، وأنه صارع ركانة الذي كان يضرب بقوته المثل، وكان واثقاً من نفسه بأنه يصرع من صارعه، فلم يملكه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه، وعاد إلى ذلك ثلاث مرات، كل ذلك لا يستمسك في يده حتى شرع يقول: أن هذا لعجب يا محمد! أتصرعني، وحتى أنه دار على نسائه - وهن تسع - كل واحدة منهن تسع مرات في طلق(16/162)
واحد إلى غير ذلك مما يحكى من قواه التي فاق بها الناس، ولم يحك عن نبي من الأنبياء ممن عاش منهم ألفاً ومن عاش دون ذلك أنه نقص شيء من قواه، بل قد ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
«أن ملك الموت عليه السلام أرسل إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه فلما جاءه صكه ففقأ عينه فقال لربه: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب! ثم ماذا؟ قال: الموت، قال فالآن» وفي آخر التوراة: وقضى عبد الله موسى بأرض موآب بأمر الرب، فدفن حذاء بيت فاغورا، ولم يعرف أحد أين قضى إلى يومنا هذا، وكان موسى يوم قضي ابن مائة وعشرين سنة، لم يضعف سني الوقوف في الغرائز والضعف في القوى خرقاً للعادة إكراماً لهم وتنبيهاً للناس على صدقهم، علم من العطف على غير معطوف عليه ظاهر ومن الإتيان بضميره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير تقدم ذكر له أن التقدير: لكن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرناه وما(16/163)
نكسناه بل منحناه غرائز من الفضائل عجز عنها الأولون والآخرون، فأتى بقرآن أعجز الإنس والجن، وعلوم وبركات فاتت القوى، ومعلوم قطعاً أن الذي أتى به ليس بشعر خلافاً لما رموه به بغياً وعدواناً، وكذباً على جنابه وافتراء وتجاوزاً في البهت وطغياناً، لأنه قد مضى عليه سن الصبا والشباب جميعاً ولم يقل بيت شعر مع ما يرى لكم ولأمثالكم فيه من المفاخرة، وبه من المكاثرة، وقد وصل إلى سن الوقوف المعلوم قطعاً أنه لا يحدث للإنسان فيه غريزة لم تكن أيام شبابه لا شعرية ولا غيرها: {وما علمناه} أي نحن {الشعر} فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم وروي مقصود وقافيه يلتزمها، ويدير المعاني عليها ويجتلب الألفاظ تكلفاً إليها كما كان زهير في قصائده الحوليات وغيره من أصحاب التكلفات {وما أنا من المتكلفين} [ص: 86] لأن ذلك وإن كنتم أنتم تعدونه فخراً لا يليق بجنابنا لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافيه ملتزمة لكونه لا يقدر على الإتيان بأحسن منه بما لا يقايس من غير التزام وزن ولا قافية على أن فيه نقيصة أخرى، وهي أعظم ما يوجب النفرة منه، وهي أنه لا بد أن يوهي التزامه بعض المعاني، ولما لم نعلمه(16/164)
هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة، ومكناه من سائر وجوه الفصاحة، ثم أسكنا قلبه ينابيع الحكمة، ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة وإن دقت في الألفاظ الجزلة العذبة السهلة موزونة كانت أو لا، وذلك بما ألهمناه إياه ثم بما ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرنا له به من جوامع الكلم والكلام، فلا تكلف عنده أصلاً، ما خير بين الأمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم، وهذا البيت الذي أوردته عزاه في الحماسة في أوائل باب الأدب إلى رجل من بني قريع لم يسمه وقبله:
متى ما يرى الناس الغني وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسمت وجدود
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد
وكائن رأينا من غنى مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد
والمعنى أن كثرة المال وقلته ليست من غريزة من الغرائز، وإنما هي أمر رباني لا مدخل للغرائز من جلاده ولا غيرها فيه، بدليل أنا كثيراً ما رأينا من فاته الغنى شاباً جلداً وناله شيخاً ضعيفاً، وما رأينا(16/165)
من أخطأته المروءة شاباً نالها شيخاً، وبدليل أنه كم من غني كانت غرائزه ذميمة، وكم من فقير كانت خلائقه محمودة، والمروءة هي الإنسانية، وهي كل أمر هنيء حميد المغبة جميل العاقبة، وهذا هو السيادة، يعني أن من كانت المروءة في غريزته حمله طبعه على تعاطيها في شبابه غنياً كان أو فقيراً، ومن لم يكن عنده لم يقدر على تكلفها في سن الاكتهال، فلله درهم! ما كان أحكمهم وأدراهم بالدقائق وأعلمهم، ولذلك جعل هذا النبي الأمي منهم، فملأت معارفه الأكوان، وسمت في رتب المعاني صاعدة فأين منها كيوان.
ولما كان الشعر مع ما بني عليه من التكلف الذي هو بعيداً جداً عن سجايا الأنبياء فكيف بأشرفهم مما يكتسب به مدحاً وهجواً، فيكون أكثره كذباً - إلى غير ذلك من معايبه، قال سبحانه وتعالى: {وما ينبغي له} أي وما يصح ولا ينطلب ولا يتأتى أصلاً، لأن منصبه أجل، وهمته أعلى من أن يكون مداحاً أو عياباً، أو أن يتقيد بما قد يجر إلى نقيصة في المعنى، وجبلته منافية لذلك غاية المنافاة.(16/166)
ولما تمت الدلالة على أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتضمنت أن الشعر - وهو تعمد صوغ الكلام على وزن معلوم وقافية ملتزمة - نقيصة لما ذكر ولما يلزمه التقيد بالوزن والروي والقافية من التقديم والتأخير والتحويم على المعاني من غير إفصاح ولا تبيين فيصير عسر الفهم مستعصي البيان، ونفى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك النقيصة، فتضمن ذلك تنزيه ما أنزل عليه عنها - كما أشارت إليه نون العظمة في «علمنا» - أثبت له ما ينبغي له فقال كالتعليل لما قبله: {إن} أي ما {هو} أي هذا الذي أتاكم به {إلا ذكر} أي شرف وموعظة {وقرآن} أي جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات، وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين مع الفصل بين الملبسات {مبين *} أي ظاهر في ذلك مطلق لكل ما فيه لمن يرومه حق رومه، ويسومه بأغلى سومه، بعد أن يشترط في مطلق فهمه ومجرد اللذة به الذكي والغبي والحديد والبليد، وليس هو بشعر متكلف يتقدم فيه - بحكم التزام الوزن والروي والقافية - الشيء عن حاق موضعه تارة ويتأخر أخرى، ويبدل بما لا يساويه فتنقص معانيه وتنعقد فتشكل فلا يفهمه إلا ذاك وذاك(16/167)
مع أنه من همزات الشياطين فيا بعد ما بينهما، ويبين هذا المعنى غاية البيان آخر «ص» {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} {إن هو إلا ذكر للعالمين} أي كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جداً إنما هو ذكر للأذكياء جداً.(16/168)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
ولما ذكر أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما آتاه من غرائز الشرف في سن النكس لغيره، ذكر علة ذلك فقال: {لينذر} أي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل ما دل عليه السياق من التقدير، ويؤيده لفت الكلام في قراءة نافع وابن عامر ويعقوب بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهمه حق فهمه غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كان هذا القرآن مبيناً، وكان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متخلقاً به، فهو مظهره وصورة وسورته، فكان حاله مقتضياً لئلا يتخلف عن الإيمان حيّ، قال مظهراً لما كان حقه في بادي الرأي الإضمار إفادة للتعميم مبيناً لأن حكمه سبحانه منع من ذلك، فانقسم المنذورن إلى قسمين: {من كان} كوناً متمكناً {حياً} أي حياة(16/168)
كاملة معنوية تكون سبباً للحياة الدائمة، فإنه لا يتوقف حينئذ عن الإيمان به خوفاً مما يخوف به من الأمور التي لا يتوجه إليها ريب بوجه، فيرجى له الخير، فهو مؤمن في الحقيقة وإن ظهر عليه في أول أمره خلاف ذلك، وأفرد الضمير هنا على اللفظ إشارة إلى قلة السعداء، وجمع في الثاني على المعنى إعلاماً بكثرة الأشقياء {ويحق} أي يجب ويثبت {القول} أي بالعذاب {على الكافرين *} أي العريقين في الكفر فإنهم أموات في الحقيقة وإن رأيتهم أحياء، فالآية من الاحتباك: حذف الإيمان أولاً لما دل عليه من ضده ثانياً، وحذف الموت ثانياً لما دل عليه من ضده أولاً، فتحقق بهذا أن أعظم منافاة القرآن للشعر وكذا السجع من أجل أنه جد كله، فمحط أساليبه بالقصد الأول المعاني والألفاظ تابعة، والشاعر والساجع محط نظرهما بالقصد الأول الروي والقافية والفاصلة حتى أن ذلك ليؤدي إلى ركة المعنى والكلام بغير الواقع ولا بد، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه وحاله معروف في البلاغة والتفنن في أساليب الكلام وصدق اللهجة وحسن الإسلام في غزوة الغابة وكان أميرها سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه:
أسر أولاد اللقيطة أننا ... سلم غداة فوارس المقداد(16/169)
فغضب سعد على حسان رضي الله عنهما وحلف: لا يكلمه أبداً، وقال: انطلق إلى خيلي وفوارسي، فجعلها للمقداد، فاعتذر إليه حسان رضي الله عنهما ومدحه بأبيات وقال: والله ما أردت ذلك ولكن الروي وافق اسم المقداد، لأن القصيدة دالية، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدور في فكره أبداً قصد اللفظ، فإنه من باب الترويق، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جد كله، فهو لا يعدل عنه لأنه موزون، بل لأنه لا يؤدي المعنى كما أن العرب تعدل عن اللحن ولا تحسن النطق به ولا تطوع ألسنتها له لكونه لحناً، لا لكونه حركة، فإن وافق شيء من الموزون ما أريد من المعنى لأجل أداء المعنى قاله، كما يقع لكثير من المصنفين الكلام الموزون وما قصده، وكما وقع كثير من الكلام الموزون من جميع أبحر الشعر في القرآن وإن لم يوافق المعنى لم يقله، وعلى هذا يتخرج قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
لو تظاهر الإنس والجن على أن يأتوا بما أداه من المعنى في ألفاظه أو مثلها على غير هذا النظم لم يقدروا، وإذا تأملت كل بيت تمثل به فكسره لا تجده كسره إلا لمعنى جليل، لا يتأتى مع الوزن أو يكون لا فرق بين أدائه موزوناً ومكسوراً، وهكذا السجع سواء، ومن هنا علم أنه ليس المعنى أنه لا يحسن الوزن، بل المعنى أن تعمد الوزن(16/170)
والسجع نقيصة لا تليق بمنصبه العالي لأن الشاعر مقيد بوزن وروي وقافية، فإن إطاعه المعنى مع ما هو مقيد به كان وإلا احتال في إتمام ما هو مقيد به وإن نقص المعنى، والساجع قريب من ذلك، فهذا هو الذي لم يعلمه الله له، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تابع للمعاني والحقائق والحكم التي تفيد الحياة الدائمة، لأنه مهيأ بالطبع المستقيم لذلك غير مهيأ لغيره من التكلف، وإذا أنعمت النظر في آخر الآية الذي هو تعليل لما قبله تحققت أن هذا هو المراد، فوضح أيّ وضوح بهذا أن كلاًّ منهما نقيصة، فلا يتحرك شيء من أخلاقه الشريفة نحوها، ولا يكون له بذلك شيء من الاعتناء، وقد أشبعت الكلام في هذا وأتقنته في كتابي «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور» وهو كالمدخل إلى هذا الكتاب - والله الموفق للصواب.
ولما أخبر سبحانه بإعماء أفكارهم، وهدد بطمس أبصارهم، ومسخهم على مقاعدهم وقرارهم، وأعلم بأن كتابه خاتم بإنذارهم، ذكرهم بقدرته وقررهم تثبيتاً لذلك ببدائع صنعته، فقال عاطفاً على ما تقديره: ألم يروا ما قدمناه وأفهمته آية {ومن نعمره} وما بعدها من بدائع صنعنا تلويحاً وتصريحاً الدال على علمنا الشامل وقدرتنا التامة، فمهما(16/171)
صوبنا كلامنا إليه حق القول عليه ولم يمنعه مانع، ولا يتصور له دافع {أولم يروا} أي يعلموا علماً هو كالرؤية ما هو أظهر عندهم دلالة من ذلك في أجل أموالهم، ولا يبعد عندي - وإن طال المدى - أن يكون معطوفاً على قوله: {ألم يروا كما أهلكنا قبلهم من القرون} فذاك استعطاف إلى توحيده بالتحذير من النقم، وهذا بالتذكير بالنعم، ونبههم على ما في ذلك من العظمة بسوق الكلام في مظهرها كما فعل في آية إهلاك القرون فقال: {أنا خلقنا لهم} وخصها بنفسه الشريفة محواً للأسباب وإظهاراً لتشريفهم بتشريفها في قوله: {مما عملت} .
ولما كان الإنسان مقيداً بالوهم لا ينفك عنه، ولذلك يرة الأرواح في المنام في صور أجسادنا، وكانت يده محل قدرته وموضع اختصاصه، عبر له بما يفهمه فقال: {أيدينا} لأي بغير واسطة على علم منا بقواها ومقاديرها ومنافعها وطبائعها وغير ذلك من أمورها {أنعاماً} ثم بين كونها لهم بما سبب عن خلقها من قوله: {فهم لها مالكون *} أي ضابطون قاهرون من غير قدرة لهم على ذلك لولا قدرتنا بنوع التسبب.(16/172)
ولما كان الملك لا يستلزم الطواعية، قال تعالى: {وذللناها لهم} أي يسرنا قيادها، ولو شئنا لجعلناها وحشية كما جعلنا أصغر منها وأضعف، فمن قدر على تذليل الأشياء الصعبة جداً لغيره فهو قادر على تطويع الأشياء لنفسه، ثم سبب عن ذلك قوله: {فمنها ركوبهم} أي ما يركبون، وهي الإبل لأنها أعظم مركوباتهم لعموم منافعها في ذلك وكثرتها، ولمثل ذلك في التذكير بعظيم النعمة والنفع واستقلال كل من النعمتين بنفسه أعاد الجار، وعبر بالمضارع للتجدد بتجدد الذبح بخلاف المركوب فإن صلاحه لذلك ثابت دائم فقال: {ومنها يأكلون *} .
ولما أشار إلى عظمة نفع الركوب والأكل بتقديم الجار، وكانت منافعها من غير ذلك كثيرة، قال: {ولهم فيها منافع} أي بالأصواف والأوبار والأشعار والجلود والبيع وغير ذلك، وخص المشرب من عموم المنافع لعموم نفعه، فقال جامعاً له لاختلاف طعوم ألبان الأنواع الثلاثة، وكأنه عبر بمنتهى الجموع لاختلاف طعوم أفراد النوع الواحد لمن تأمل {ومشارب} أي من الألبان، أخرجناها مميزة عن الفرث والدم خالصة لذيذة، وكل ذلك لا سبب له إلا أن كلمتنا حقت به، فلم يكن بد من كونه على وفق ما أردنا، فليحذر من هو أضعف حالاً منها من حقوق أمرنا ومضي حكمنا بما يسوءه.(16/173)
ولما كانت هذه الأشياء من العظمة بمكان، لو فقده الإنسان لتكدرت معيشته، سبب عن ذلك استئناف الإنكار عليهم في تخلفهم عن طاعته بقوله: {أفلا يشكرون *} أي يوقعون الشكر، وهو تعظيم المنعم لما أنعم وهو استفهام بمعنى الأمر.(16/174)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
ولما ذكرهم نعمه، وحذرهم نقمه، عجب منهم في سفول نظرهم وقبح أثرهم، فقال موبخاً ومقرعاً ومبكتاً ومعجباً من زيادة ضلالهم عادلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منه: {واتخذوا} أي فعلنا لهم ذلك والحال أنهم كلفوا أنفسهم على غير ما تهدي إليه الفطرة الأولى أن أخذوا، أو يكون معطوفاً على «كانوا» من قوله: {إلا كانوا به يستهزءون} فيكون التقدير: إلا كانوا يجددون الاستهزاء، واتخذوا قبل إرساله إليهم مع ما رأوا من قدرتنا وتقبلوا فيه من نعمتنا: {من دون الله} أي الذي له جميع العظمة، فكل شيء دونه، وما كان دونه كان مقهوراً مربوباً {آلهة} أي لا شيء لها من القدرة ولا من صلاحية الإلهية. ولما تقرر أنها غير صالحة لها أهلوها له، تشوف السامع إلى السؤال عن(16/174)
سبب ذلك، فقال جواباً له تعجيباً من حالهم: {لعلهم} أي العابدين. ولما كان مقصودهم حصول النصر من أي ناصر كان، بني للمفعول قوله: {ينصرون *} أي ليكون حالهم بزعمهم في اجتماعهم عليها والتئامهم بها حال من ينصر على من يعاديه ويعانده ويناويه.
ولما كان للنصر سببان: ظاهري وهو الاجتماع، وأصلي باطني وهو الإله المجتمع عليه، بين غلطهم بتضييع الأمل، فقال مستأنفاً في جواب من كأنه قال: فهل بلغوا ما أرادوا؟ : {لا يستطيعون} أي الألهة المتخذة {نصرهم} أي العابدين {وهم} أي العابدون {لهم} أي الآلهة {جند} ولما كان الجند مشتركاً بين العسكر والأعوان والمدينة، عين المراد بضمير الجمع ولأنه أدل على عجزهم وحقارتهم فقال: {محضرون *} أي يفعلون في الاجتماع إليها والمحاماة عنها فعل من يجمعه كرهاً إيالة الملك وسياسة العظمة، فصارت العبرة بهم خاصة في حيازة السبب الظاهري مع تعبدهم للعاجز وذلهم للضعيف الدون مع ما يدعون من الشهامة والأنفة والضخامة، فلو جمعوا أنفسهم على الله لكان لهم ذلك، وحازوا معه السبب الأعظم.(16/175)
ولما بين ما بين من قدرته الباهرة، وعظمته الظاهرة، ووهي أمرهم في الدنيا والآخرة، وكان قد تقدم ما لوح إلى أنهم نسبوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الشعر، وصرح باستهزائهم بالوعد مع ما قبل ذلك من تكذيبهم وإجابتهم للمؤمنين من تسفيههم وتضليلهم، سبب عن ذلك بعد ما نفى عنهم النصرة قوله تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فلا يحزنك} قراءة الجماعة بفتح الياء وضم الزاي، ومعناه: يجعل فيك، وقراءة نافع بضم الياء وكسر الزاي تدل على أن المنهي عنه إنما هو كثرة الحزن والاستغراق فيه، لا ما يعرض من طبع البشر من أصله، فإن معنى أحزن فلاناً كذا، أي جعله حزيناً {قولهم} أي الذي قدمناه تلويحاً وتصريحاً وغير ذلك فيك وفينا ولما كان علم القادر بما يعمل عدوه سبباً لأخذه، علل ذلك بقوله مهدداً بمظهر العظمة: {إنا نعلم ما} أي كل ما {يسرون} أي يجددون إسراره {وما يعلنون *} أي فنحن نجعل ما يسببونه لأذاك سبباً لأذاهم ونفعك إلى أن يصيروا في قبضتك وتحت قهرك وقدرتك.(16/176)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
ولما أثبت سبحانه بهذا الدليل قدرته على ما هدد به أولاً من التحويل من حال إلى أخرى، فثبتت بذلك قدرته على البعث،(16/176)
وختم بإحاطة العلم الملزوم لتمام القدرة، أتبع ذلك دليلاً أبين من الأول فقال عاطفاً على {ألم يروا} : {أولم ير} أي يعلم علماً هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر.
ولما كان هذا المثل الذي قاله هذا الكافر لا يرضاه حمار لو نطق، أشار إلى غباوته بالتعبير بالإنسان الذي هو - وإن كان أفطن المخلوقات لما ركب فيه سبحانه من العقل - تغلب عليه الإنس بنفسه حتى يصير مثلاً فقال: {الإنسان} أي جنسه منهم ومن غيرهم وإن كان الذي نزلت فيه واحداً {أنا خلقناه} بما لنا من العظمة {من نطفة} أي شيء يسير حقير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا أباه من تراب وأمه من لحم وعظام {فإذا هو} أي فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من حالة المطفة وهي أنه {خصيم} أي بالغ الخصومة {مبين *} أي في غاية البيان عما يريده حتى أنه ليجادل من أعطاء العقل والقدرة في قدرته، أنشد الأستاذ أبو القاسم القشيري في ذلك:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني(16/177)
ولما كان التقدير: فبعد - مع أنا تفردنا بالإنعام عليه - عيرنا وخاصم - بما خلقناه له من اللسان وآتيناه من البيان - رسلنا وجميع أهل ودنا، عطف عليه قوله مقبحاً إنكارهم البعث تقبيحاً لا يرى أعجب منه، ولا أبلغ ولا أدل على التمادي، في الضلال والإفراط في الجحود وعقوق الأيادي: {وضرب} أي هذا الإنسان؛ وسبب النزول أبي بن خلف الجمحي الذي قتله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأحد مبارزة، فهو المراد بهذا التبكيت بالذات وبالقصد الأول {لنا} أي على ما يعلم من عظمتنا {مثلاً} أي آلهته التي عبدها لكونها لا تقدر على شيء مكابراً لعقله في أنه لا شيء يشبهنا {ونسي} أي هذا الذي تصدى على نهاية أصله لمخاصمة الجبار، وأبرز صفحته لمجادلته، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول، وأن بكون بمعنى الترك {خلقه} أي خلقنا لهذا المخاصم الدال على كمال قدرتنا، وأن آلهته التي أشرك بها لا تقدر على شيء فافترق الحال الذي جمعه بالمثل أيّ افتراق وصارا مقولاً له: يا قليل الفطنة! أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ أفلا تذكرون؟ ثم استأنف الإخبار عن هذا المثل بالإخبار عن استحالته(16/178)
لأن يقدر أحد على إحياء الميت كما أن معبوداته لا تقدر على ذلك فقال: {قال} أي على سبيل الإنكار: {من يحيي} .
ولما كانت العظام أصلب شيء وأبعده عن قبول الحياة لا سيما إذا بليت وأرفتت قال: {العظام وهي} ولما أخبر عن المؤنث باسم لما بلي من العظام غير صفة، لم يثبت تاء التأنيث فقال: {رميم *} أي صارت تراباً يمر مع الرياح.(16/179)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
ولما كان موطناً يتشوف فيه السامع لهذا الكلام إلى جوابه، استأنف قوله مخاطباً من لا يفهم هذه المجادلة حق فهمها غيره: {قل} أي لهذا الذي ضرب هذا المثل جهلاً منه في قياسه من يقدر على كل شيء على من لا يقدر على شيء، وأعاد فعل الإحياء نصاً على المراد دفعاً للتعنت ودلالة على الاهتمام فقال: {يحييها} أي من بعد أن بليت ثاني مرة، ولفت القول إلى وصف يدل على الحكم فقال: {الذي أنشأها} أي من العدم ثم أحياها {أول مرة}(16/179)
أي فإن كل من قدر على إيجاد شيء أول مرة فهو قادر على إعادته ثاني مرة، وهي شاهدة بأن الحياة تحل العظم فيتنجس بالموت مما يحكم بنجاسة ميتته {وهو بكل خلق} أي صنع وتقدير ممكن أن يخلق من ذلك ومن غيره ابتداء وإعادة {عليم *} أي بالغ العلم، فلا يخفى عليه أجراء ميت أصلاً وإن تفرقت في البر والبحر، ولا شيء غير ذلك، فالآية من بديع الاحتباك: الإحياء أولاً دال على مثله ثانياً، والإنشاء ثانياً دال على مثله أولاً، و {أول مرة} في الثاني دال على «ثاني مرة» في الأول، فهو على كل شيء قدير كما برهن عليه في سورة طه، فهو يوجد المقتضيات لكل ممكن يريده، ويرفع الموانع فيوجد في الحال من غير تخلف أصلاً، فقد بلغ هذا البيان في الدلالة على البعث الجسماني والروحاني معاً النهاية التي ليس وراءها بيان، بعد أن وطأ له في هذه السورة نفسها بما لا يحتمل طعناً بقوله: {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} {من بعثنا من مرقدنا} {فإذا هم جميع لدينا محضرون} {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون} {اليوم نختم(16/180)
على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} .
ولما كان مآل هذا المثل الذي علق الإنكار فيه بالرميم استبعاد تمييز الشيء - إذا صار تراباً واختلط بالتراب - عن غيره من التراب، وصف نفسه المقدس بإخراج الشيء الذي هو أخفى ما يكون من ضده، وذلك بتمييز النار من الخشب الذي فيه الماء ظاهر بأيدي العجزة من خلقه، فقال معيداً للوصول تنبيهاً على التذكير بالموصوف ليستحضر ما له من صفات الكمال فيبادر إلى الخضوع له من كان حياً: {الذي جعل لكم} أي متاعاً واستبصاراً {من الشجر الأخضر} الذي تشاهدون فيه الماء {ناراً} بأن يأخذ أحدكم غصنين كالسواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء فيسحق المرخ - وهو ذكر - على العفار - وهو أنثى - فتخرج النار! قال أبو حيان: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس شجر إلا وفيه نار إلا العناب - انتهى.
ولذلك قالوا في المثل المشهور: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار {فإذا أنتم} أي فيتسبب عن ذلك مفاجأتكم لأنكم {منه} أي الشجر الموصوف بالخضرة(16/181)
بعينه {توقدون *} أي توجدون الإيقاد ويتجدد لكم ذلك مرة بعد أخرى، ما هو بخيال ولا سحر بل حقيقة ثابتة بينة، وكأنه قدم الجار لكثرة إيقادهم منه، إيقادهم من غيره لذلك ولعظمته عدماً.
ولما كان ذلك من غير كلفة عليهم، قدم الجار تخصيصاً له وعداً لغيره كالمعدوم، فالذي قدر على تمييز النار من الماء والخشب وخبء النار فيهما لا النار تعدو على الخشب فتحرقه ولا الماء يعدو على النار فيطفئها قادر على تمييز تراب العظام من تراب غيرها، ونفخ الروح كما نفخ روح النار في الحطب المضاد له بالمائية.
ولما كان التقدير: أليس الذي قدر على ذلك بقادر على ما يريد من إحياء العظام وغيرها، عطف عليه ما هو أعظم شأناً منه تقديراً على الأدنى بالأعلى فقال: {أوليس الذي خلق} أي أوجد من العدم وقدر {السماوات والأرض} أي على كبرهما وعظمتهما وعظيم ما فيهما من المنافع والمصانع والعجائب والبدائع، وأثبت الجار تحقيقاً للأمر وتأكيداً للتقرير فقال: {بقادر} أي بثابت له قدرة لا يساويها قدرة، ومعنى قراءة رويس عن يعقوب بتحتانية مفتوحة(16/182)
وإسكان القاف من غير ألف ورفع الراء أنه يجدد تعليق القدرة على سبيل الاستمرار {على أن يخلق} ولفت الكلام إلى الغيبة إيذابناً بأنهم صاروا بهذا الجدل أهلاً لغاية الغضب فقال: {مثلهم} أي مثل هؤلاء الأناسي أي يعيدهم بأعيانهم كما تقول: مثلك كذا أي أنت، وعبر به إفهاماً لتحقيرهم وأن إحياء العظام الميتة أكثر ما يكون خلقاً جديداً، بل ينقص عن الاختراع بأن له مادة موجودة، وعبر بضمير الجمع لأنه أدل على القدرة، قال الرازي: والقدرة عبارة عن المعنى الذي به يوجد الشيء مقدراً بتقدير الإرادة والعلم واقعاً على وفقهما وإن كانت صفات الله تعالى أعلى من أن يطمحها نظر عقل، وتلحقها العبارات اللغوية، ولكن غاية القدرة البشرية واللغة العربية هذا.
ولما كان الجواب بعد ما مضى من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة الاعتراف، قال سبحانه مقرراً لما بعد النفي إشارة إلى أنه تجب المبادرة إليه، ولا يجوز التوقف فيه ومن توقف فهو معاند: {بلى} أي هو قادر على ذلك {وهو} مع ذلك أي كونه عالماً بالخلق {الخلاق} البالغ في هذه الصفة مطلقاً في تكثير الخلق وتكريره بالنسبة إلى كل(16/183)
شيء ما لا تحيط به الأوهام، ولا تدركه العقول والأفهام، ولم ينازع أحد في العلم بالجزئيات بعد كونها، كما نازعوا في القدرة على إيجاد بعض الجزئيات، فاكتفى فيه بصيغة فعيل فقيل: {العليم *} أي البالغ في العلم الذي هو منشأ القدرة، فلا يخفى عليه كلي ولا جزئي في ماضٍ ولا حال ولا مستقبل شاهد أو غائب.
ولما تقرر ذلك، أنتج قوله مؤكداً لأجل إنكارهم القدرة على البعث: {إنما أمره} أي شأنه ووصفه {إذا أراد شيئاً} أي إيجاد شيء من جوهر أو عرض أيّ شيء كان {أن يقول له كن} أي أن يريده؛ ثم عطف على جواب الشرط على قراءة ابن عامر والكسائي بالنصب، واستأنف على قراءة غيره بالرفع بقوله: {فيكون *} أي من غير مهلة أصلاً على وفق ما أراد.
ولما كان ذلك، تسبب عنه المبادرة إلى تنزيهه تعالى عما ضربوه له من الأمثال فلذلك قال: {فسبحان} أي تنزه عن كل شائبة نقص تبزها لا تبلغ أفهامكم كنهه، وعدل عن الضمير إلى وصف يدل على غاية العظمة فقال: {الذي بيده} أي بقدرته وتصرفه خاصة لا بيد غيره {ملكوت كل شيء} أي ملكه التام وملكه ظاهراً وباطناً.(16/184)
ولما كان التقدير: فمنه تبدؤون، عطف عليه قوله: {وإليه} أي لا إلى غيره من التراب أو غيره، ولفت القول إلى خطابهم استصغاراً لهم وإحتقاراً فقال: {ترجعون *} أي معنى في جميع أموركم وحساً بالبعث لينصف بينكم، فيدخل بعضاً النار وبعضاً الجنة، ونبهت قراءة الجماعة بالبناء للمفعول على غاية صغارهم بكون الرجوع قهراً وبأسهل أمر، وزادت قراءة يعقوب بالبناء للفاعل بأن انقيادهم في الرجوع من شدة سهولته عليه كأنه ناشئ عن فعلهم بأنفسهم اختياراً منهم، فثبت أنه سبحانه على كل شيء قدير، فثبت قطعاً أنه حكيم، فثبت قطعاً أنه لا إله إلا هو، وأن كلامه حكيم، وثبت بتمام قدرته أنه حليم لا يعجل على أحد بالعقاب، فثبت أنه أرسل الرسل للبشارة بثوابه والنذارة من عقابه، فثبت أنه أرسل هذا النبي الكريم لما أيده به من المعجزات، وأظهره على يده من الأدلة الباهرات، فرجع آخر السورة بكل من الرسالة وإحياء الموتى إلى أولها، واتصل في كلا الأمرين مفصلها بموصلها، والله الهادي إلى الصواب وإليه المرجع والمآب.(16/185)
مقصودها الاستدلال على آخر يس من التنزه عن النقائص اللازم منه رد العباد للفصل بينهم بالعدل اللازم منه الوحدانية، وذلك هو المعنى ذلك أشار إليه وسمها بالصافات) وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون () بسم الله) أي الذي له الكمال المطلق فلا يدنو من جنابه نقص) الرحمن (الذي منٍّ برحمة العدل في الدارين) الرحيم (الذي يمنّ على من يريد بالطاعة بالثواب والمتاب لإسقاط العقاب.
لما كان الإنفراد بالملكوت لا يكون إلا مع الوحدانية بالذات، وفي ذلك استحقاق الاختصاص بالإلهية، وكان ذلك - مع أنه بحيث لا يخفى على ذي لب - عندهم في غاية البعد، ولذلك لا يسلمون ما يتعلق بالملكوت وينكرونه غاية الإنكار، ناسب أن يقسم عليه.
ولما كان من البلاغة أن يناسب بين القسم والمقسم عليه، وكان الاصطفاف دالاً على اتحاد القصد كما في صفوف القتال والصلاة، وكان الملائكة لا قصد لهم إلا الله من غير عائق عن ذلك فكانوا أحق الخلق بالاصطفاف، تارة للصلاة، وتارة للتسبيح والتقديس، وتارة(16/186)
لتدبير الأرزاق، وتارة لتعذيب أهل الشقاق - إلى غير ذلك من الأمور التي لا تسعها الصدور، وكانوا بعد زجرة الإحياء المصرح بهما في السورة الماضية ثم زجرتي الصعق والإفاقة الآتيتين في الزمر حين تشقق السماء بالغمام وتكون وردة كالدهان، وتنفطر بسطوة المليك الديان، ويتكرر ما فيها من أجرام ومعان، تنزل ملائكة كل سماء فتصير صفاً مستديراً، ملائكة الأولى حول أهل الأرض، وملائكة الثانية حول ملائكة الأولى وهكذا، ثم يصيرون إذا قيل)) يا معشر الجن والإنس إناستطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33] فماج العباد بعضهم في بعض من شدة الزحام، وطول القيام، كلما مالوا على جهة من جهاتهم زجروهم زجراً ردوهم به عن النفوذ، مع أن انتظام المدبرات الناشئ عن اصطفافهم في التدبير في طاعة الملك القدير دال على الوحدانية،(16/187)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
قال تعالى: {والصافات} أي الجماعات من الملائكة والمصلين والمجاهدين المكملين أنفسهم بالاصطفاف في الطاعة، فهو صفة لموصوف محذوف مؤنث اللفظ، وعدل عن أن يقول: «الصافين» القاصر على الذكور العقلاء ليشمل(16/187)
الجماعات من الملائكة والجن والإنس والطير والوحش وغيرها، إشارة إلى أنه لا يؤلف بين شيء منها ليتحد قصده إلا واحد قهار، وأنه ما اتحد قصد شيء منها إلا استوى صفة، ولا اعتدل صفة إلا اتحد زجره وهو صياحه، ولا اتحد زجره إلا اتحد ما يذكره بصوته، ولا اتحد منه ذلك إلا نجح قصده واتضح رشده بدليل المشاهدة، وأدلها أن الصحابة رضي الله عنهم لما اتحد قصدهم في إعلاء الدين وهم أضعف الأمم وأقلها عدداً لم يقم لهم جمع من الناس الذين لا نسبة لهم إليهم في قوة ولا كثرة، ولم ينقص صفهم، وجرح القلوب وأبارها زجرهم، وشرح الصدور وأنارها ذكرهم، كما أشار إليه تعالى آخر هذه السورة بقوله {وإن جندنا لهم الغالبون} وكذا غير الآدميين من الحيوانات كما يرى من الفار والجراد إذا أراد الله تعالى اتحاد(16/188)
قصده في شيء فإنه يغلب فيه من يغالبه، ويقهر من يقاويه أو يقالبه، فبان أن الخير كله ما أريد بالقسم، واتحد جداً بالمقسم عليه والتأم والتحم به أيّ التحام، وانتظم معناهما كل الانتظام.
ولما كان التأكيد بالمصدر أدل على الوحدة المرادة قال: {صفاً *} وهو ترتيب الجمع على خط. ولما كان توحد القصد موجباً للقوة المهيئة للزجر، وكان تكميل الغير مسبباً عن تكميل النفس، ومرتباً عليه، وأشرف منه لو تجرد عن التكميل، وكان التكميل إنما يتم أمره ويعظم أثره مع الهيبة «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد» قال عاطفاً بالفاء: {فالزاجرات} أي المنتهرات عقب الصف كل من خرج عن أمر الله {زجراً} أي انتهاراً بالمواعظ وغيرها تكميلاً لغيرهم.
ولما كانت الإفاضة مسببة عن حسن التلقي المسبب عن تفريغ البال المسبب عن هيبة المفيد، وكان فيض التلاوة أعظم الفيض قال: {فالتاليات} أي التابعات استدلالاً على قولهم وفعلهم وتمهيداً لعذرهم(16/189)
وتشريفاً لقدرهم، وتكميلاً لغيرهم: {ذكراً} أي موعظة وتشريفاً وتذكيراً من ذكر ربهم إفاضة على غيرهم من روح العلم وإدغام التاء في الصاد والزاي والذال إشارة إلى أن ذلك مع هوله وعظمه قد يخفى عن غير من يريد الله إطلاعه عليه، فقد قطعت الصيحة قلوب الكفرة من ثمود وغيرهم، ولم تؤثر فيمن آمن منهم، وقد كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يأتي به من القرآن والصحابة رضي الله عنهم حوله لا يستمعون شيئاً منه - والله الموفق {إن إلهكم} أي الذي اتخذتم من دونه آلهة {لواحد *} أي فإن التفرق لا يأتي بخير، لما يصحبه من العجز البعيد جداً عن الكمال الذي لا تكون الإلهية أصلاً إلا معه، فإليه لا إلى غيره ترجعون ليفصل بينكم فيما كنتم فيه تختلفون، وهو الذي أنزل هذا الكتاب بعزته ورحمته وحرسه من اللبس وغيره بما سيذكر من كبريائه وعظمته ولو لم يكن واحداً لاختل أمر هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة، وما يترتب عليها، فاختل نظام هذا الوجود الذي نشاهده كما نشاهد في أحوال الممالك(16/190)
عند اختلاف الملوك في تغيير العوائد ونسخ الشرائع التي كان من قبلها أطدها وجميع ما له من الآثار والخصائص، ونحن نشاهد هذا الوجود على ما أحكمه سبحانه وتعالى لا يتغير شيء منه عن حاله الذي حده له، فعلمنا أنه واحد لا محالة متفرد بالعظمة، لا كفوء له من غير شك.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة يس من جليل التنبيه وعظيم الإرشاد وما يهتدي الموفق باعتبار بعضه، ويشتغل المعتبر به في تحصيل مطلوبه وفرضه، ويشهد بأن الملك بجملته لواحد، وإن رغم أنف المعاند والجاحد، أتبعها تعالى بالقسم علة وحدانيته فقال تعالى {والصافات} - الآية إلى قوله تعالى {إن إلهكم لواحد} إلى قوله {ورب المشارق} ثم عاد الكلام إلى التنبيه لعجيب مصنوعاته فقال تعالى {إنا رأينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} إلى قوله {شهاب ثاقب} ثم أتبع بذكر عناد من جحد مع بيان الأمر ووضوحه وضعف ما خلقوا منه {إنا خلقناهم من طين لازب} ثم ذكر استبعادهم العودة الأخروية وعظيم حيرتهم وندمهم إذا شاهدوا ما به كذبوا،(16/191)
والتحمت الآي إلى ذكر الرسل مع أممهم وجريهم في العناد والتوقف والتكذيب على سنن متقارب، وأخذ كل بذنبه، وتخليص رسل الله وحزبه، وإبقاء جميل ذكرهم باصطفائهم وقربه، ثم عاد الكلام إلى تعنيف المشركين وبيان إفك المعتدين إلى ختم السورة - انتهى.
ولما ثبت أنه واحد، أنتج وصفه بقوله: {رب} أي موجد ومالك وملك ومدبر {السماوات} أي الأجرام العالية {والأرض} أي الأجرام السافلة {وما بينهما} أي من الفضاء المشحون من المرافق والمعاون بما تعجز عن عدة القوى، وهذا - مع كونه نتيجة ما مضى - يصلح أن يكون دليلاً عليه لما أشار إليه من انتظام التدبير الذي لا يتهيأ مع التعدد كما أن المقسم به هنا إشارة إلى دليل الوحدانية أيضاً بكونه على نظام واحد دائماً في الطاعة التي أشير إليها بالصف والزجر والتلاوة، فسبحان من جعل هذا القرآن معجز النظام، بديع الشأن بعيد المرام.
ولما كان السياق للإفاضة بالتلاوة وغيرها، وكانت جهة الشروق جهة الإفاضة بالتجلي الموجد للخفايا الموجب للتنزه عن النقائص،(16/192)
وكان الجميع أليق بالاصطاف الناظر إلى القهر بالأئتلاف قال: {ورب المشارق *} أي الثلاثمائة والستين التي تجلى عليكم كل يوم فيها الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة على كر الدهور والأعوام، والشهور والأيام، على نظام لا ينحل، ومسير لا يتغير ولا يختل، وذكرها يدل قطعاً على المغارب لأنها تختلف بها، وأعاد الصفة معها تنبيهاً على وضوح دلاتها بما فيها مما السياق من الاصطفاف الدال على حسن الائتلاف، وللدلالة على البعث بالآيات بعد الغياب.
ولما كانت المشارق تقتضي الفيض والإظهار، أتبع ذلك نتيجته بما من شأنه الشروق والغروب ولو بمجرد الخفاء والظهور، فقال مؤكداً مع لفت الكلام إلى التكلم في مظهر العظمة تنبيهاً على أن فعلهم فعل من ينكر ما للنجوم من الزينة وما تدل عليه من عظمته سبحانه وتعالى، وفخم التعبير عن الزينة بتضعيف الفعل لمثل ذلك: {إنا زينا} أي بعظمتنا التي لا تدانى {السماء} ولما كانوا لا يرون إلا ما يليهم من السماوات، وكانت زينة النجوم ظاهرة فيها قال: {الدنيا} أي التي هي أدنى السماوات إليكم.(16/193)
ولما أشير إلى أن الصف زينة في الباطن باتحاد القصد كما أنه زينة في الظاهر بحسن الشكل وبديع الرصف، زيد في التنبيه على ذلك بإعادة ما فهم من «زينا» في قوله: {بزينة الكواكب *} أي بالزينة التي للنجوم النيرة البراقة المتوقدة الثابتة في محالها - قارة أو مارة - المرصعة في السماء ترصيع المسامير الزاهرة كزهر النور المبثوث في خضرة الرياض الناضرة، فهي مع عدم التنوين والخفض إضافة بيانية كثوب خز، ومن نوّن الزينة فإن خفض الكواكب فعلى البدل، أي بالكواكب التي هي زينة، وإن نصب فعلى المدح بتقدير أعني، أو على أنه بدل اشتمال من السماء، أي كواكبها، إما بكونها فيما دونها من الجو فبظن أنها فيها، أو يكونها فيها من جانبها الذي يلينا، أو بكونها تشف عنها وإن كان بعضها فيما هو أعلى منها، وزينتها انتظامها وارتسامها على هذا النظم البديع في أشكال متنوعة وصور مستبدعة ما بين صغار وكبار، منها ثوابت ومنا سيارة وشوارق(16/194)
وغوارب - إلى غير ذلك من الهيئات التي لا تحصى، ولا حد لها عند العباد العجزة فيستقصى.
ولما كان كون الشيء الواحد لأشياء متعددة أدل على القدرة وأظهر في العظمة، قال دالاً بالعطف على غير معطوف عليه ظاهر على مقدر يدل على أن الزينة بالنجوم أمر مقصود لا اتفاقي: {وحفظاً} أي زيناها بها للزينة وللحفظ {من كل شيطان} أي بعيد عن الخير محترق. ولما كان القصد التعميم في الحفظ من كل عاتٍ سواءٍ كان بالغاً في العتو أو لا قال: {مارد *} أي مجرد عن الخير عاتٍ في كل شر سواء كان بالغاً في ذلك أقصى الغايات أو كان في أدنى الدرجات كضارب وضراب.(16/195)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)
ولما كان المراد في سورتي النساء والحج ذم الكفرة بفعل ما ليس في كونه شراً لبس، وبوضع النفس باتباع ما لا شك في دناءته ببعده عن الخير بعد الإخفاء به، عبر بالمريد للمبالغة، وكما أنه حرس السماء المحسوسة بما ذكره سبحانه وتعالى فكذلك زين عز وجل قلوب الأولياء التي هي كالسماء لأراضي أجسامهم بنجوم المعارف، فإذا مسهم طيف(16/195)
من الشيطان تذكروا فرشقته شهب أحوالهم ومعارفهم وأقوالهم. ولما تشوف السامع إلى معرفة هذا الحفظ وثمرته وبيان كيفيته، استأنف قولاً: {لا يسمعون} أي الشياطين المفهومون من كل شيطان، لا يتجدد لهم سمع أصلاً، قال ابن الجوزي: قال الفراء: {لا} هنا كقوله «كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به» ويصلح في {لا} على هذا المعنى الجزم، والعرب تقول: ربطت في شيء لا ينفلت - انتهى. ويؤخذ من التسوير بكل ثم الجمع نظراً إلى المعنى، والإفراد لضمير الخاطف وللخطفة أنهم معزولون عن السمع جمعهم ومفردهم من الجمع، وأن الخطف يكون - إن اتفق - في الواحد لا الجمع ومن الواحد لا الجمع، وللكلمة وما حكمها لا أكثر، وإليه يشير حديث الصحيح «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني» وأكد بعدهم بإثبات حرف الغاية، فقال مضمناً {سمع} بعد قصره معنى «انتهى» أو «أصغى» ليكون المعنى: لا ينتهي سمعهم أو تسمعهم أو إصغاؤهم {إلى الملإ} أي الجمع العظيم الشريف، وأوضحت هذا المعنى قراءة(16/196)
من شدد السين والميم بمعنى يتسمعون، أي بنوع حيلة، تسمعاً منتهياً إلى ذلك، وهو يفهم أنهم يتسمعون، ولكن لا ينتهي تسمعهم إلى ما ذكر، بما أشار إليه الإدغام، ويشير أيضاً إلى أنهم يجتهدون في إخفاء أمرهم، وأفرد الوصف دلالة أيضاً على أن العطف يكون من واحد لا من جمع فقال: {الأعلى} أي مكاناً ومكانة بحيث يلمؤون العيون بهجة والصدور هيبة.
ولما كان التقدير: لأنهم يطردون طرداً قوياً، دل عليه بالعاطف في قوله: {ويقذفون} أي الشياطين يرمون رمياً وحياً شديداً يطردون به، وبني للمفعول لأن النافع قذفهم لا تعيين قاذفهم، مع أنه أدل على القدرة الإلهية عزت وجلت {من كل جانب *} أي من جوانب السماوات بالشهب إذا قصدوا السماع بالاستراق {دحوراً} أي قذفاً يردهم مطرودين صاغرين مبعدين، فهو تأكيد للقذف بالمعنى أو مفعول له أو حال.
ولما كان هذا ربما سبباً لأن يظن ظان أنهم غير مقدور(16/197)
عليهم في غير هذه الحالة بغير هذا النوع أخبر أنهم في قبضته، وإنما جعل حالهم هذا فتنة لمن أراد من عباده، فقال معبراً باللام التي يعبر بها غالباً عن النافع تهكماً بهم: {ولهم عذاب} أي في الدنيا بهذا وبغيره، وفي الآخرة يوم الجمع الأكبر {واصب *} أي دائم ممرض موجع كثير الإيجاع مواظب على ذلك ثابت عليه وإن افترق الدوامان في الاتصال والعظم والشدة والألم.
ولما ثبت بهذا حراسة القرآن بقدرة الملك الديان عن لبس الجان، وكان بعضهم مع هذا يسمع في بعض الأحايين ما أراد الله أن يسمعه ليجعله فتنة لمن أراد من عباده مع تميز القرآن بالإعجاز، استثنى من فاعل {يسمعون} قوله: {إلا من خطف} ودل على قلة ذلك بعد إفراد الضمير بقوله: {الخطفة} أي اختلس الكلمة أو أكثر، مرة من المرات منهم، ودل على قوة انقضاض الكواكب في أثره بالهمزة في قوله: {فأتبعه} مع تعديه بدونها، أي تبعه بغاية ما يكون من السرعة حتى كأنه يسوق نفسه ويتبعها له كأن الله سبحانه وعز شأنه هيأها لئلا تنقض إلا في أثر من سمع منهم حين سماعه سواء لا يتخلف {شهاب} أي شعلة النار من الكوكب أو غيره {ثاقب *}(16/198)
أي يثقب ما صادفه من جني وغيره وإن كان الجني من نار فإنه ليس ناراً خالصة، وعلى التنزل فربما كان الشيء الواحد أنواعاً بعضها أقوى من بعض، فيؤثر أقواه في أضعفه كالحديد، وتارة يخطئ الجني وتارة يصيبه، وإذا أصابه فتارة يحرقه فيتلفه وتارة يضعفه.
ولما كان المقصود من هذا الكتاب الأعظم بيان الأصول الأربعة: التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر، ودل سبحانه بهذه المذكورات على وجوده وكمال علمه وتمام قدرته على الأفعال الهائلة وبديع حكمته اللازم منه إثبات وحدانيته تفصيلاً لبعض إجمال {أو ليس الذي خلق السماوات والأرض} فكان ما دونها من الأفعال أولى، سبب عن ذلك لإثبات الحشر الذي أخبر به هذا القرآن الذي حرسه عن تلبيس الجان بزينة الكواكب التي أنشأ منها الشهب الثواقب قوله تهكماً بهم: {فاستفتهم} أي سلهم أن يتفتوا بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث، وأصله من الفتوة وهي الكرم: {أهم أشد} أي أقوى وأشق وأصعب {خلقاً} أي من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها {أم من} ولما كان المراد الإعلام بأنه لا شيء من الموجودات إلا وهو خلقه سبحانه، عبر بما يدل على ذلك دون ذكرنا، وليكون أعم، وحذف المفعول لأنه مفهوم، ولئلا يلبس إذا ذكر ضمير المستفتين،(16/199)
فقال: {خلقنا} أي من هذه الأشياء التي عددناها من الحي وغيره من الجن الذين أعطيناهم قدرة التوصل إلى الفلك وغيرهم، وعبر ب «من» تغليباً للعاقل من الملائكة وغيرهم مما بين السماوات والأرض.
ولما كان الجواب قطعاً أن هذه المخلوقات أشد خلقاً منهم وأنهم هم من أضعف الخلائق خلقاً، قال دالاً على إرادة التهكم بهم في السؤال، مؤكداً إشارة إلى أن إنكارهم البعث لاستبعادهم تمييز التراب من التراب يلزم منه إنكار ابتداء الخلق على هذا الوجه: {إنا خلقناهم} أي على عظمتنا {من طين} أي تراب رخو مهين {لازب *} أي شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وضمر وتضايق وتلازم بعضه لبعض، وقل واشتد ودخل بعض التراب المنتثر من بعض، قال ابن الجوزي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الطين الحر الجيد اللزق.
وإنما كانوا من طين لأن أباهم آدم كان منه من غير أب ولا أم، فصاروا بهذا التقدير بعض الطين الذي هو بعض خلقه الذي عدده قبل ذلك سبحانه الذاتية التي لا يمتنع عليها مقدور، ولا يعجزها مأمور، فدل ابتداء خلقهم وخلق ما هو أشد منهم وأعظم(16/200)
على القدرة على إعادتهم قطعاً بل بطريق الأولى من غير وجه، وحسن هذا الاستقتاء كل الحسن ختم الكلام قبله بمن بلغوا السماء تكبراً وعلواً، وهموا بما لم ينالوا تجبراً وعلواً، وسلط عليهم ما يردهم مقهورين مبعدين مدحورين، واستثنى منهم من {خطف} ليعلم أنه غير محال ما تعلقت به منهم الآمال، هذا مع ذكره في خلقهم من الطين اللازب الذي من شأنه الرسوب لثقله والسفول كما أن من شأن من ختم بهم ما قبله العلو لخفتهم والصعود.
ولما كان من المعلوم قطعاً أن المراد بهذا الأمر بالاستفتاء إنما هو التبكيت لأن من المعلوم قطعاً أن الجواب: ليسوا أشد خلقاً من ذلك، فليس بعثهم ممتنعاً، وليست غلبتهم لرسول الواحد القهار - الذي حكمه في هذا الوحي بإظهاره على الدين كله - بجائزة أصلاً، نقلاً ولا عقلاً، بوجه من الوجوه، فلا شبهة لهم في إنكاره ولا في ظنهم أنهم يغلبون رسولنا، بل هم في محل عجب شديد في إنكاره وظنهم أنهم غالبون في الدنيا، عبر عن ذلك بقوله، مسنداً العجب إلى(16/201)
أجلّ الموجودات أو أجلّ المخلوقات تعظيماً لم بمعنى أنه قول يستحق أن يقال فيه: أنه لا يدري ما الذي أوقع فيه وكان سبباً لارتكابه، فقال: {بل عجبت} بضم التاء على قراءة حمزة والكسائي لفتاً للقول من مظهر العظمة للتصريح بإسناد التعجب إليه سبحانه إشارة إلى تناهي هذا العجب إلى حد لا يوصف لإسناده إلى من هو منزه عنه، وبفتحها عند الباقين أي من جرأتهم في إنكارهم البعث ولا سيما وقد دل عليه القرآن في هذه الأساليب الغريبة والوجوه البديعة العجيبة التي لا يشك فيها من له أدنى تصور، وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظن كما هو اللائق أنه لا يسمع القرآن أحد إلا آمن به، قال القشيري: وحقيقة التعجب تغير النفس بما خفي فيه السبب مما لم تجر العادة بحدوث مثله، ومثل هذا حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأم سليم وأبي طلحة رضي الله عنهما:
«ضحك - وفي رواية: عجب - الله من فعالكما الليلة» ، وحديث البخاري رحمه الله(16/202)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً: «عجب ربنا من أقوام يقادون إلى الجنة في السلاسل» ومثله كثير، والمعنى في الكل التنبيه على عظم الفعل وأنه خارق للعادة، ويجوز أن يكون المعنى أنهم لم ينكروه لقلة الدلائل عليه، بل قد أتى من دلائله ما يعجب إعجاباً عظيماً من كثرته وطول الأناة في مواترته {ويسخرون *} أي حصل لك العجب والحال أنهم يجددون السخرية كلما جئتهم بحجة {وإذا ذكروا} أي وعظوا من أيّ واعظ كان بشيء هم به عارفون جداً يدلهم على البعث مثل ما يذكرون به من القدرة، مع أنه لا يجوز في عقل عاقل منهم أن أحداً يدع مَن تحت يده بلا محاسبة {لا يذكرون *} أي لا يعملون بموجب التذكير.(16/203)
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
ولما ذكر إعراضهم عن المسموع، أتبعه إعراضهم عن المرئي فقال: {وإذا رأوا آية} أي علامة على صدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره {يستسخرون *} أي يطلبون السخرية بها بأن يدعو بعضهم بعضاً لذلك من شدة استهزائهم.
ولما كان إنكارهم للبعث ولو صدر مرة واحدة في الشناعة والعظم والقباحة مثل تجديدهم للسخرية كلما سمعوا آية والمبالغة فيها(16/203)
لأن دلائله من الظهور والوضوح بمكان هو في غاية البعد عن الشكوك، دل على ذلك بالتعبير بالماضي فقال: {وقالوا} أي ما هو غاية في العجب: {إن} أي ما {هذا} أي الذي أتانا به من أمر البعث وغيره مما شاهدناه أو أخبرنا به {إلا سحر} أي خيال وأمور مموهة لا حقائق لها {مبين *} أي ظاهر في نفسه ومظهر لسخريته ثم خصوا البعث بالإنكار: {أإذ متنا} وعطفوا عليه ما هو موجب عندهم لشدة الإنكار فقالوا: {وكنا} أي كوناً هو في غاية التمكن {تراباً} قدموه لأنه أدل على مرادهم لأنه أبعد عن الحياة {وعظاماً} كأنهم جعلوا كل واحد من الموت والكون إلى الترابية المحضة والعظامية المحضة أو المختلطة منهما مانعاً من البعث، وهذا بعد اعترافهم أن ابتداء خلقهم كان من التراب مع أن هذا ظاهر جداً «ولكن عقول ضلها باريها» ثم كرروا الاستفهام الإنكاري على قراءة من قرأ به زيادة في الإنكار فقالوا: {أإنا لمبعوثون *} .
ولما كان المعنى: أيثبت بعثنا، عطفوا عليه قولهم مكررين للاستفهام(16/204)
الإنكاري تأكيداً لزيادة استبعادهم حتى أنهم قاطعون بأنه محال فقالوا قولاً واهياً: {أو آباؤنا} أي يثبت بعثنا وكذا آباؤنا وزادوا في الاستبعاد بقولهم: {الأولون *} اي الذين طال مكثهم في الأرض تحت أطباق الثرى وانمحقت أجزاؤهم بحيث لم يبق لهم أثر ما، ومرت الدهور ولم يبعث أحد منهم يوماً من الأيام، يدلنا بعثه على ما يدعي من ذلك.
ولما بالغوا هذه المبالغات في إنكاره بعد قيام البراهين في هذه السورة وغيرها على جوازه بل وجوبه عادة، أمره بأن يجيبهم بما يقابل ذلك فقال تعالى: {قل نعم} أي تبعثون على كل تقدير قدرتموه، وذكر حالهم بقوله: {وأنتم داخرون *} أي مكرهون عليه صاغرون ذليلون حقيرون. ثم سبب عن الوعد بتحتم كونه ما يدل على أنه غاية في الهوان فقال: {فإنما} أي يكون ذلك بسبب أنكم تزجرون فتقومون، والزجرة التي يقومون بها إنما {هي زجرة} أي صيحة، وأكد ما يفهمه من الوحدة لأجل إنكارهم تصريحاً بذلك وتحقيراً لأمر البعث في جنب قدرته سبحانه وتعالى فقال: {واحدة} وهي الثانية التي كانت الإماتة لجميع الأحياء في(16/205)
آن واحد بمثلها، وأصل الزجر الانتهار ويكون لحث أو منع، وإنما يكون ذلك للمقدور عليه فعل ما يغضب الزاجر، فلذلك سمى الصيحة زجرة.
ولما كان هذا الكلام مؤذناً بالغضب، حققه بصرف الكلام عن خطابهم جعلاً لهم بمحل البعد وتعميماً لغيرهم، فقال معبراً بالفاء المسببة المعقبة وأداة المفأجأة: {فإذا هم} أي جميع الأموات بضمائرهم وظواهرهم القديم منهم والحديث أحياء {ينظرون *} أي في الحال من غير مهلة أصلاً، ولا فرق بين من صار كله تراباً ومن لم يتغير أصلاً، ومن هو بين ذلك، ولعله خص النظر بالذكر لأنه لا يكون إلا مع كمال الحياة، ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قبض الروح تبعه البصر» وأما السمع فقد يكون لغير الحي لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الكفار من قتلى بدر: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وشاهدت أنا في بلاد العرقوب المجاروة لبانياس من بلاد الشام شجرة شوك يقال لها الغبيراء متى قيل عندها «هات لي المنجل لأقطع هذه الشجرة» أخذ ورقها في الحال في الذبول - فالله أعلم ما سبب ذلك.(16/206)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
ولما حصل الغرض من تصوير حالهم بهذا الفعل المضارع، عطف(16/206)
عليه بصيغة المضي التي معناها الاستقبال إعلاماً بتحقق الأمر تحقق ما مضى وكان، وتحققه مع القيام سواء من غير تخلف ولا تخلل زمان أصلاً فقال: {وقالوا} أي كل من جمعه البعث من الكفرة معلمين بما انكشف لهم من أنه لا ملازم لهم غير الويل: {يا ويلنا} اي يا من ليس لنا نديم غيره {هذا يوم الدين *} أي الجزاء لكل عامل.
ولما كان قولهم هذا إنما هو للتحسر على ما فاتهم من التصديق النافع به، زادوا في ذلك بقولهم يخاطب بعضهم بعضاً بدلاً أو وصفاً بعد وصف دالين بإعادة اسم الإشارة على ما داخلهم من الهول: {هذا يوم الفصل} أي الذي يفصل فيه بين الخصوم، ثو زادوا تأسفاً وتغمماً وتلهفاً بقولهم، لافتين القول عن التكلم إلى الخطاب لأنه أدل على ذم بعضهم لبعض وأبعد عن الإنصاف بالاعتراف: {الذي كنتم} أي يا دعاة الويل جبلة وطبعاً {به تكذبون *} وقدموا الجار إشارة إلى عظيم تكذيبهم به، فبينما هم في هذا التأسف إذ برز النداء بما يهدىء قواهم، ويقر قلوبهم وكلاهم، لمن لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من الملائكة الشداد الغلاظ بإذلالهم وإصغارهم، ولبيان السرعة لذلك من غير تنفيس أسقط ما يدل على النداء من نحو قوله:(16/207)
فقيل الملائكة، أو فقلنا، أو فبرز النداء من جانب سلطاننا - ونحو هذا: {احشروا} أي اجمعوا بكره وصغار وذل أيها الموكلون بالعباد من الأجناد، وأظهر تعريفاً بوصفهم الموجب لحتفهم فقال: {الذين ظلموا} أي بما كانوا فيه في الدنيا بوضع الأشياء في غير محالها من الخبط الذي لا يفعله إلا من هو في أشد الظلام {وأزواجهم} أي أتباعهم الذين استنوا بهم في ذلك الضرب من الظلم وأشباههم فيه من الجن وغيرهم ومن أعانهم ولو بشطر كلمة أو رضى فعلهم لتصير كل طائفة على حدة فيصير بعضهم يبكت بعضاً وبعضهم يشتم بعضاً {وما كانوا} أي بما دعتهم إليه طباعاتهم المعوجة {يعبدون *} أي مواظبين على عبادته رجاء منفعته تحقيقاً لخسارتهم بتحقق اعتمادهم على غير معتمد، وهو يعم المعبود حقيقة أو مجازاً بالتزيين «ومن سبقت له الحسنى» مستثنى بآية الأنبياء، وأشار إلى سفول رتبة معبوداتهم وتسفيه آرائهم بانتحال الأذى بقوله صارفاً الأسلوب من المتكلم ولو بمظهر العظمة إلى أعظم منه: {من دون الله} أي الذي تفرد بنعوت العظمة وصفات الكمال، والمراد الذين رضوا بعبادتهم لهم ولم ينكروا عليهم ذلك ويأمروهم بتوحيد الله.(16/208)
ولما كانوا قد سلكوا في الدنيا طريق الشقاء المعنوية استحقوا أن يلزموا في القيامة سلوك طريقه الحسية، فلذلك سبب عن الأمر بحشرهم قوله تهكماً بهم وتحسيراً لهم: {فاهدوهم} أي دلوهم دلالة لا يرتابون معها ليعرفوا - مع ما هم فيه من الإكراه على سلوكها - مآلهم، فيكون ذلك أعظم في نكدهم؛ قال الرازي: وأصل الهداية التقدم، والعرب تسمي السابق هادياً، يقال: أقبلت هوادي الخيل أي أعناقها، والهادية: العصى - لأنها تتقدم ممسكها، ونظر فلان هدى أمره أي جهته.
ثم أشار إلى طول وقوفهم وسوء مقامهم بقوله بأداة الانتهاء: {إلى صراط الجحيم *} أي طريق النار الشديدة التوقد الواضح الذي لا لبس عندهم بأنه يشترطهم فيؤديهم إليها، وخص هذا الاسم إعلاماً بشديد توقدها وعظيم تأججها، وبعد قعرها وضخامة غمرتها، بتراكم بعضها فوق بعض وقوة اضطرامها، وعلو شأنها واصطلاحها، وصلابة اضطرابها وتحرقها واشتمالها على داخليها وتضايقها، وفيه تهكم بهم في كونهم على غير ما كانوا عليه في الدنيا من التناصر والتعاضد.
ولما كان المقصود من تعريفهم طريق النار أولاً ازدياد الحسرة، صرح بما أفهمه حرف الغاية من طول الحبس فقال: {وقفوهم} أي احبسوهم واقفين بعد ترويعهم بتلك الهداية التي سببها الضلال، فكانت(16/209)
ثمرتها الشقاوة، وإيقافهم يكون عند الصراط - نقله البغوي عن المفسرين، قال: لأن السؤال عند الصراط. ثم علل ذلك بقوله: {إنهم مسؤولون *} وجمع عليهم الهموم بهذه الكلمة لتذهب أوهامهم كل مذهب، فلا تبقى حسرة إلا حضرتهم، ولا مصيبة إلا علت قلوبهم فقهرتهم، فإن المكلف كله ضعف وعورة، فموقف السؤال عليه أعظم حسرة.
ولما أوقفوا هذا الموقف الذليل، قد شغلهم ما دهمهم من الأسف عن القال والقيل، نودوا من مقام السطوة، وحجاب الجبروت والعزة، زيادة في تأسيفهم وتوبيخهم وتعنيفهم لفتاً عن سياق الغيبة إلى الخطاب دلالة على أعظم خيبة: {ما لكم} أي أيّ شيء حصل لكم فشغلكم وألهاكم حال كونكم {لا تناصرون *} أي ينصر بعضكم بعضاً، ويتسابقون في ذلك تسابق المتناظرين فيه أولي الجد والشكيمة والنخوة والحمية ولو بأدنى التناصر - بما يفهمه إسقاط التاء، أو بعد تمكث وإعمال حيلة - بما أشارت إليه قراءة البزي عن ابن كثير بالمد والإدغام: أين قولكم في بدر {نحن جميع منتصر} معبرين بما دل على ثبات المناصرة.
ولما كان قد دهمهم من الأمر ما أوجب إبلاسهم، وأحدّ(16/210)
إدراكهم وإحساسهم، أشار إلى ذلك بإحلالهم في محل الغيبة المؤذنة بالإبعاد بأن قال مضرباً عما تقديره: إنهم لا يتناصرون: {بل هم} وزاد في تعظيم ذلك الوقت والتذكير به فقال: {اليوم مستسلمون *} أي ثابت لهم استسلامهم ثباتاً لا زوال له، قد خذل بعضهم بعضاً موجدين الإسلام أي الانقياد إيجاد من كأنه يطلبه ويعظم فيه رغبته رجاء أن يخفف ذلك عنهم.
ولما أخبر بأنهم سئلوا فلم يجيبوا، كان ربما ظن أنهم أخرسوا فنبه على أنهم يتكلمون بما يزيد نكدهم، فقال عاطفاً على قوله {وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين} إشارة إلى إقبالهم على الخصام، حين تمام القيام، والأخذ في تحريك الأقدام، بالسير على هيئة الاجتماع والازدحام، إلى مواطن النكد والاغتمام، ولم يعطفه بالفاء لأنه ليس مسبباً عن القيام، ولا عن الإيقاف للسؤال، بخلاف ما يأتي عن أهل الجنة: {وأقبل بعضهم} أي الذين ظلموا {على بعض} أي بعد إيقافهم وتوبيخهم، وعبر عن خصامهم تهكماً بهم بقوله: {يتساءلون *} أي سؤال خصومة.
ولما كان كأنه قيل: عما ذا؟ أجيب بقوله: {قالوا} أي الأتباع لرؤسائهم مشيرين بأداة الكون إلى المداومة على إضلالهم مؤكدين لأجل تكذيب الرؤساء لهم: {إنكم كنتم} ولما كانوا يستغوونهم ويغرونهم(16/211)
بما تقبله عقولهم على ما جرت به عوائدهم بحيث يقطعون بذلك قطع من كان يريد الذهاب إلى أمر فتطير بالسانح والبارح، فرأى ما يحب فأقدم عليه وهو قاطع بحصوله، أشاروا إلى ذلك بقوله: {تأتوننا} مجاوزين لنا {عن اليمين *} أي عن القوة والقهر والغلبة والسلطان في حملكم لنا على الضلال، ففعلنا في طاعتكم فعل من خرج لحاجة، فرأى ما أوجب إقدامه عليها، فهذا كان سبب كفرنا، وكان هذا التفاؤل مما نسيت العرب كيفيته لما نسخه الشرع كما وقع في الميسر فاضطرب كلام أهل اللغة في تفسيره، قال صاحب القاموس: البارح من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك، وسنح الظبي سنوحاً ضد برح. وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال: وسنح الشيء سنوحاً: تيسر، والطائر والظبي: جرى عن يمينك إلى يسارك وهو يتيمن به، وقال في مادة «برح» : وبرح الطائر والظبي وغيرهما ضد سنح، وهو ما أراك ميامنه، وأهل الحجاز يتشاءمون به، وغيرهم يتيمنون به ويتشاءمون بالسانح، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم في مادة «برح» : والبارح خلاف السانح، وقد برح الظبي - إذا والاك مياسره يمر من ميامنك إلى مياسرك، والعرب يتطير بالبارح وفي(16/212)
مادة «سنح» : والسانح ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك والبارح: ما أتاك من ذلك عن يسارك وقيل: السانح ما والاك ميامنه والبارح ما والاك مياسره وقيل السانح ما يجيء عن يمينك فتلي مياسره مياسرك والعرب تختلف في عيافة ذلك، فمنهم من يتيمن بالسانح ويتشاءم بالبارح، وعلى هذا المثل: من لي بالسانح بعد البارح، قال في القاموس: أي بالمبارك بعد المشؤوم، ومنهم من يتشاءم بالسانح، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في مادة «سنح» : والسانح من الطير والظباء وغيرهما هو الذي يأتيك عن يمينك أخذاً على يسارك فيوليك مياسره فيمكنك رميه وأكثر العرب يتيمن به وقال في مادة «برح» : والبارح من الطير والظبي هو خلاف السانح وهو الذي يلقاك وشمائله عن شمائلك، وهو مما يتيمن به أهل العالية، ويتشاءمون بالسانح، والسانح هو الذي يلقاك وميامنه عن ميامنك، وهو مما يتيمن به أهل نجد ويتشاءمون بالبارح، والبارح أبين في التشاؤم من السانح، لأن البارح هو الذي يأخذ عن يسارك إلى يمينك فلا يمكنك طعنه، فيتشاءم به لتعذره على الطاعن أو الرامي، ولذلك قال أبو داود: قلت: لما برز أمن فيه كذب العير وإن كان برح، يقول: كذب إذ طمع أن ينجو، وإن كان قد برح وصعب(16/213)
على إمكان طعنه، وتطير ومن تيمن به بسلامته وخلاصة من الطاعن، وتطير من تيمن بالسانح بأنه يأتي من ميامنك إلى مياسرك، فيمكنك من طعنه، ومن تشاءم به تطير بقلة سلامته ووقوعه فيما يكره، ومن الطير الجابه وهو الذي يلقاك مواجهة، ومنه الناطح أيضاً ومنه القعيد، وهو الذي يأتيك من خلفك - انتهى ما وقفت عليه من كلام أهل اللغة في ذلك فافهم، والظاهر كما تفهمه الآية أن العرب مطبقة على أن ما أتى عن اليمين كان مباركاً سواء كان أتى من قدام مواجهاً لك ومر إلى جهة الخلف فوليتك ميامته، أو أتى من الجانب الأيمن سواء كان ابتداء إتيانه من خلف أو لا فمر من قدامك عرضاً إلى جهة اليسار، فوليتك في الحالتين مياسره، وما أتى من جهة اليسار على ضد ذلك كان مشؤوماً، وكأنهم اختلفوا في التسيمة فأكثرهم سمى الأول سانحاً من السنح بالضم وهو اليمن والبركة، وهو من قولهم: سنح لي رأي: تيسر - لشهرة معنى اليمن عندهم في ذلك، والثاني بارحاً من البرح، وهو الشدة والشر لشهرة هذا المعنى عندهم في مادة برح، وبعهضم عكس فسمى الأول بارحاً من البرحة، وهي الناقة تكون من خيار الإبل لشهرة ذلك عندهم، وسمى الثاني سانحاً من قولهم: سنحه عما أراد: صرفه، وسنح بالرجل وعليه: أخرجه(16/214)
أو أصابه بشر، فمن الاختلاف في التسمية أتى الخلاف، ولذلك عبر سبحانه وتعالى بالمعنى دون الاسم، لأن كلامه سبحانه لا يخص قوماً دون غيرهم، وأما التعليل بإمكان الطعن والرمي فلا معنى له لأن الإنسان ينفتل عن هيئة وقوفه بأدنى حركة فينعكس بالنسبة إليه أمر المياسر والميامن، ويتغير حال الطعن والرمي، هذا إذا سلم أن الطعن والرمي يعسر من جهة المياسر على أنه غير مسلم، ولو كان المعنى دائراً عليه لما اختلف فيه إلا بالنسبة إلى الأعسر وغيره، لا بالنسبة إلى أهل العالية وغيرهم، وأما البيت الذي استدل به فيمكن حمله على أن قائله كان في حاجة له لا بد له منها، فرأى البارح فلم يتطير منه ولج في أمره ذلك تكذيباً له فيما دل عليه عند العرب، وأما الجابه وغيره فأسماء أخر لبعض أنواع كل من السانح والبارح - والله أعلم، وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتابه الزينة: العيافة والقيافة والزجر نوع من الكهانة إلا أنه أخف في الكراهة وذلك أن الكاهن كان بمنزلة الحاكم وكان من الكهان من يعبد كما يعبد الصنم، وكانوا سدنة الأصنام، قلت: والكاهن في اللغة من يقضي بالغيب وذلك هو غاية العلم، فهو وصف يدل على التوغل في العلم - انتهى، قال أبو حاتم: وسمعت بعض أهل الأدب قال: الكاهن بالعبرانية العالم، وكانوا يسمون هارون عليه السلام كهناً رباً، معناه عالم الرب، ثم قال:(16/215)
إن الكهانة والسحر كان عند المتقدمين نوعاً من العلم، فكان الساحر والكاهن اسمين محمودين، فلما جاء الله بالإسلام صار هذان الاسمان مذمومين عند المسلمين لما كشف لهم ما في ذلك من الشر، ثم قال: فأما العائف والقائف والزاجر فلم يكن سبيلهم كذلك - يعني كالكاهن في أنه ربما عبد، قال: وإنما كره لأنه كان يخبر بشيء غائب فكره كما كره أمر النجوم توقياً أن يكون مثل الدعوى في علم الغيب، والعائف هو الذي يعيف الطير ويزجرها ويعتبر بأسمائها وأصواتها ومساقطها ومجاريها، فإذا سمع صوت طائر أو جرى من يمينه إلى شماله أو من شماله إلى يمينه قضى في ذلك بخير أو بشر في الأمر الذي يريد أن يفعله، فإذا قضى فيه بشر تجنب ذلك الأمر، يقال: عاف يعيف - إذا فعل ذلك، ومعنى عاف أي امتنع وتجنب، يقال: عافت الإبل الماء - إذا لم تشرب، وكذلك يقال في غير الإبل الزاجر أيضاً: هو مثل العائف، يقال: يزجر أيضاً زجراً، وذلك أنه ينظر إلى الطير فيقضي فيها مثل العائف، فإذا رأى شيئاً كرهه رجع عن أمر يريد أن يشرع فيه أو حاجة يريد قضاءها، والزاجر معناه الناهي، فكأن الطير قد زجره عن ذلك الفعل، أو أن من عاف له زجره عن ذلك، ويكون المعنى الزجر أيضاً أنه إذا رأى منها شيئاً(16/216)
صاح بها وطردها، فكان طرده إياها زجراً لها، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أقروا الطير على مكناتها» ، قلت: إنهم كانوا إذا لم يروا سانحاً ولا بارحاً نفروا الطير لينظروا إلى أيّ جهة تطير - والله أعلم، وقال أبو حاتم: والأصل في هذا انهم كانوا يزجرون الطير ثم كانوا يزجرون الظبي والثعلب، وبصوت الإنسان يستدلون بلفظه وبغير ذلك، ثم نسبت كلها إلى الطير فقيل: يتطير، أي يستدل بالطير، وروي عن الأصعمي قال: سألت ابن عون: ما الفال؟ فقال: هو أن تكون مريضاً فتسمع: يا سالم، وتكون باغياً فتسمع يا واجد، قال: وكان ابن سيرين يكره الطيرة ويحب الفال، وفي الحديث:
«أصدق الطير الفال» والفال مأخوذ من الفيال، وهي لعبة يتقامرون بها، كانوا يأخذون الدراهم فيخلطونها بالتراب ثم يجمعونه طويلاً ثم يقسمونه بنصفين ويتقارعون عليه، فمن أصابه القرعة اختار من القسمين واحداً، فلما كان المفايل يختار منهما ما أحب سمي الفال، لأنه يتفاءل بما يحبه، وكان هذا في العرب كثيراً، وأكثره في بني أسد، قال الأصمعي:(16/217)
أخبرني سعد بن نصر أن نفراً من الجن تذاكروا عيافة بني أسد فأتوهم فقالوا: ضلت لنا ناقة، فلو أرسلتم معنا من يعيف، فقالوا لغليم لهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم، ثم ساروا فلقيتهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغليم فبكى فقالوا له: ما لك؟ فقال: كسرت جناحاً، ورفعت جناحاً، وحلفت بالله صراحاً، ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحاً. وكانوا يسمون الذي يجيء عن يمينك فيأخذ إلى شمالك سانحاً، والذي يجيء عن يسارك فيأخذ غلى يمينك بارحاً، والذي يستقبلك ناطحاً وكافحاً، والذي يجيء من خلفك قعيداً، والذي يعرض في كل وجه متيحاً، فمنهم من كان يتشاءم بالبارح ويتيمن بالسانح، ومنهم من كان يتيمن بالبارح ويتشاءم بالسانح، قال زهير:
جرت سنحاً فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللقاء
وقال الكميت:
ولا السانحات البارحات عشية ... أمر سليم القرن أم مر أعضب
وكانوا يزجرون بعضب القرن وصحته، والأعضب الذي له قرن واحد، وأما القائف فهو الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل في(16/218)
ولده، ويروى عن عوسجة ابن معقب القائف: قال: كنا تسرق نخلنا فنعرف آثارهم، فركبوا الحمر فعرفنا بمس أيديهم والعذوق، فكان القائف سمي قائفاً لأنه يقفو الأثر، يقال: قفا الأثر وقاف الأثر أي تبعه، قال الأصمعي عن أبي طرفة الهذلي قال: رأى قائفان أثر بعير وهما منصرفان من عرفة بعد الناس بيوم أو يومين فقال أحدهما: ناقة، وقال الآخر: جمل، فاتبعاه فإذا هما به، فاطافا به فإذا هو خنثى، ويقال للرجل إذا كان فطناً عارفاً بالأمور: هو عائف وقائف، وكان قوم من العرب لا يتطيرون ولا يتهيبون الطيرة ويفتخرون بتركه ويعدون تركه شجاعة وإقداماً، قال بعض شعرائهم:
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وقال آخر:
ولست بهياب إذا اشتد رحله ... يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدماً ... إذا صد عن تلك الهناة الخثارم(16/219)
الخثارم: المطير، وقيل: العيافة والقيافة، الطرق والخط، وهو أيضاً نوع من الكهانة، وهو أن يخط في الأرض خططاً في الطول، ثم يخط عليها خططاً في العرض، ثم يطرق بالحصى او بالشعير أو بخشبات، ولا يزال يخط ويمحو ويعيد ثم يتكهن عليه، ومن هذا الباب أيضاً علم الكتف وهو أن ينظر في كتف شاة فيحدث بأشياء تكون في العالم مثل الحروب والأمطار والرياح والجدب والخصب وغير ذلك، وهذا يقال له: الكتاف، كأنه أشتق له اسم من الكتف مثل العراف لأن العراف من جنس العيافة، والعيافة والعرافة، سواء، فهذه الأشياء كلها من السحر والكهانة والقيافة والعيافة والخط والطرق والكتف وما أشبهها، قد جاءت فيها الأخبار والروايات، ويطول الخطب بها، وهي كلها مكروهة حرام، فمنها ما جاء فيها التشديد مثل السحر، والكهانة، ومنها ما جاء في القليل منها الرخص والتخفيف مثل القيافة والعيافة والكتف - انتهى.
وهو مسلم له في القيافة، وأما غيرها فمنازع فيه، ثم قال: فأكثر هذه الأشياء أصولها من الأنبياء عليهم السلام، فإذا استعملت بعد النسخ وبعد ما جاء فيها النهي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت حراماً تدعو إلى الكفر والتعطيل وغير ذلك من أنواع الفساد، ثم قال: وما كان من أمر مشركي العرب فقد درس دروساً لا يعرف ولا يحتاج إلى ذكر كيفيته إذ كان متلاشياً لا أثر له،(16/220)
ولكن لا يستغني الفقهاء والعلماء عن معرفته إذ كان له في القرآن ذكر، وإذ كان واجباً على العلماء تعلم ما في القرآن على حسب طاقتهم، والجهل به نقص عليهم - والله أعلم بالصواب.(16/221)
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
ولما أشار سبحانه بتسمية كلامهم هذا سؤالاً إلى أن مرادهم: فهل أنتم مغنون عنا شيئاً أو حاملون عنا جزءاً من العذاب؟ وكان كأنه قيل: بم أجاب الرؤساء بعد هذا القول من الأتباع؟ قيل: {قالوا بل} أي لم يكن كفرهم سبباً بل: {لم تكونوا مؤمنين *} أي عريقين في هذا الوصف بجبلاتكم فلذلك تابعتمونا فيما أمرناكم به لأنه كان في طبعكم، وهذا دليل على أن من لم يكن راسخاً في الإيمان كان منهم، ثم أكدوا هذا المعنى بقوله نافين لما أشاروا باليمين إليه: {وما كان} أي كوناً ثابتاً {لنا عليكم} وأعرقوا في النفي بقولهم: {من سلطان} أي فأكرهنا بذلك السلطان، إنما تبعتمونا باختياركم وهو معنى {بل كنتم} أي جبلة وطبعاً {قوماً} أي ذوي قوة وكفاية لما تحاولونه من الأمور {طاغين *} أي مجاوزين لمقاديركم غالين في الكفر مسرفين في المعاصي والظلم، ولذلك أنكم خلق(16/221)
لا تحتاجون فيه إلى كبير تحرك {فحق علينا} أي كلنا نحن وأنتم بسبب ذلك، وعبروا بما يدل على ندمهم فقالوا: {قول ربنا} أي الذي قابلنا إحسانه إلينا وتربيته لنا بالكفران، وقوله هو الحكم بالضلال لما في قلوبنا من القابلية له والإباء للإيمان، فالحكم بالعذاب.
ولما تصوروا ما صاروا إليه من الخطأ الفاحش عن الطريق الواضح، وعلموا أن مثل ذلك لا يتركه أحد إلا بقهر قاهر فتصوروا أنه ما قسرهم عليه إلا حقوق الكلمة العليا علموا أنهم مثل ما صاروا إلى حكمها في الكفر يصيرون إلى حكمها في العذاب، فقالوا لما دهمهم من التحسر مريدين بالتأكيد قطع أطماع الأتباع عما أفهمه كلامهم من أن الرؤساء يغنون عنهم شيئاً: {إنا} أي جميعاً {لذائقون *} أي ما وقع لنا به الوعيد من سوء العذاب.
ولما قضوا علالة التحسر والتأسف والتضجر، رجعوا إلى إتمام ذلك الكلام فقالوا: {فأغويناكم} أي أضللناهم وأوقعناكم في الغي بسبب حقوق ذلك القول علينا، ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكدين أيضاً لرد ما ادعاه الأتباع من أنه ما كان سبب إغوائهم إلا الرؤساء: {إنا} أي جميعاً {كنا غاوين *} أي في طبعنا الغواية، وهي العدول عن الطريق المثلى إلى المهالك.(16/222)
ولما قال لهم الرؤساء ما هو الحق من أمرهم مما أوجب الحكم باشتراكهم، سبب عنه قوله تعالى مؤكداً دفعاً لمن يتوهم اختصاص العذاب بالسبب: {فإنهم} أي الفريقين بسبب ما ذكروا عن أنفسهم {يومئذ} أي يوم إذ كان هذا التقاول بينهم {في العذاب} أي الأكبر {مشتركون *} أي في أصله، وهم مع ذلك متفاوتون في وصفه على مقادير كفرهم كما كانوا متشاركين في السبب متفاوتين في شدتهم فيه ولينهم - هذا وقد قال البخاري في صحيحه في تفسير حم السجدة: وقال المنهال عن سعيد: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} {ولا يكتمون الله حديثاً} {والله ربنا ما كنا مشركين} فقد كتموا في هذه الآية، وقال: {السماء بناها} إلى قوله: {دحاها} فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} إلى {طائعين} فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء، وقال: {وكان الله غفوراً رحيماً} {عزيزاً حكيماً} {سميعاً بصيراً} فكأنه كان ثم مضى، فقال: {فلا أنساب بينهم} في النفخة الأولى ثم ينفخ في الصور(16/223)
فصعق من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأما قوله {ما كنا مشركين} {ولا يكتمون الله حديثاً} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فنختم على أفواههم فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثاً، وعنده يود الذين كفروا - الآية، وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض، و {دحاها} أي أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله {دحاها} وقوله: خلق الأرض في يومين، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين، وكان الله غفوراً رحيماً، سمى نفسه ذلك، وذلك قوله، أي لم يزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلاًّ من عند الله.
وقال في سورة المرسلات: وسئل ابن عباس رضي الله عنهما {هذا يوم لا ينطقون} {والله ربنا ما كنا مشركين} {اليوم نختم على أفواههم} فقال: إنه ذو ألوان، مرة ينطقون ومرة يختم عليهم.(16/224)
ولما أخبر سبحانه باشتراكهم، استأنف الإخبار بما يهول أمر عذابهم ويشير إلى عمومه في الدارين لكل من شاركهم في الإجرام، فقال مؤكداً دفعاً لظن من ينكر القيامة وظن من يرى الإملاء للمجرم في الدنيا نعمة وينفي كونه نقمة، أو يفعل في التمادي في الإجرام فعل المنكر؛ {إنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء {كذلك} أي مثل هذا الفعل العظيم الشأن {نفعل} بهم - هكذا كان الأصل، ولكنه علق بالوصف تعميماً وتعليلاً فقال: {بالمجرمين *} أي كل قاطع لما أمر الله به أن يوصل في الدنيا والآخرة، نمهل ثم نأخذ أخذاً عنيفاً يصير به المشتركون في الظلم أعداء يتخاصمون، ويحيل بعضهم على بعض ثم لا ينفعهم ذلك، بل نشارك بينهم في العقوبة، ثم علل تعذيبه لهم بقوله مؤكداً للتعجب منهم لأن فعلهم هذا أهل لأن ينكر لأن هذه الكلمة لا يصدق عاقل أن أحداً يستكبر عليها لأنه لا شيء أعدل منها: {إنهم كانوا} أي دائماً {إذ قيل لهم} أي من أيّ قائل كان: {لا إله} أي يمكن، وإذا نفي الممكن كان الموجود أولى فإنه لا يوجد إلا ما يمكن وجوده وإن كان واجباً {إلا الله} أي الملك الأعلى المباين لجميع الموجودات في ذاته وصفاته وافعاله كما(16/225)
هو الحق ليفردوه بالإلهية كما تفرد بالخالقية كما لا يخفى على من له أدنى مسكة بصفات الكمال، وقدم النفي لأن التحلية لا تكون إلا بعد التخلية {يستكبرون *} أي يوجدون الكبر عن الإقرار بهذا الحق الذي لا أعدل منه وعن متابعة الداعي إليه، استكبار من هو طالب للكبر من نفسه ومن غيره لما فيه من العراقة والعتو، فلم يكن لهم مانع من أبواب جهنم السبعة التي جعلت كل كلمة من هذه الكلمة مع قرينتها الشاهدة بإرساله مانعة من باب منها وإلا كان في شيء من ساعات أيامهم - التي هي بعدد حروفهما أربعة وعشرون - خير ينجيهم من المكارة.
ولما أخبر أنهم استكبروا على توحيد الإله، أتبعه الإخبار بأنهم تكلموا في رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما لا يرضاه: فقال: {ويقولون} أي كل حين ما دلوا به على بعدهم عن الإيمان كل البعد بسوقهم لقولهم ذلك في استفهام إنكاري مؤكداً: {إئنا لتاركوا آلهتنا} أي عبادتها، وكان تأكيد أصل الكلام للإشارة إلى أن تكذيبهم صادر منهم مع علمهم بأن كل عالم بحالهم يراهم جديرين بترك ما هم عليه لما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك أعلم بأن ما هم عليه عناد بسوق تكذيبهم على وجه معلوم التناقض بالبديهة بقوله: {لشاعر مجنون *} فإن الجنون(16/226)
لا نظام معه، والشعر يحتاج إلى عقل رصين وقصد قويم، وطبع في الوزن سليم، أو للإشارة إلى أن إنكار المؤكد إنكار لغيره بطريق الأولى.
ولما كان مرادهم بذلك أن كلامه باطل، فإن أكثر كلام الشاعر غلو وكذب وكلام المجنون تخليط، كان كأنه قال في جوابهم: إنه لم يجىء بشرع ولا بجنون: {بل جاء بالحق} أي الكامل في الحقية.
ولما كان ما جاء به أهلاً لكونه حقاً لأن يقبل وإن خالف جميع أهل الأرض، وكان موافقاً مع ذلك لمن تقرر صدقهم واشتهر اتباع الناس لهم، فكان أهلاً لأن يقبله هؤلاء الذين أنزلوا أنفسهم عن أوج معرفة الرجال بالحق إلى حضيض معرفة الحق على زعمهم بالرجال، فكان مآل أمرهم التقليد قال: {وصدق المرسلين *} أي الذين علم كل ذي لب أنهم أكمل بدور أضاء الله بهم الإكوان في كل أوان، وتقدم في آخر سورة فاطر أنهم عابوا من كذبهم {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم أحد منهم ليؤمنن به فكذبوا} بأن كذبوا سيدهم بهذا الكلام المتناقض.(16/227)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
ولما وصلوا إلى هذا الحد من الطغيان، والزور الظاهر والبهتان، تشوف السامع إلى جزائهم فاستأنف الإخبار بذلك مظهراً له في أسلوب الخطاب إيذاناً بتناهي الغضب، فقال في قالب التأكيد نفياً لما يترجمونه(16/227)
من العفو بشفاعة من ادعوا أنهم يقربونهم زلفى، ووعظاً لهم ولأمثالهم في الدنيا فيما ينكرونه حقيقة أو مجازاً: {إنكم} أي أيها المخاطبون على وجه التحقير المجرمين {لذائقوا} أي بما كنتم تضيقون أولياء الله {العذاب الأليم *} .
ولما كان سبحانه الحكم العدل فلا يظلم أحداً مثقال ذرة فلا يزيد في جزائه شيئاً على ما يستحق مع أن له أن يفعل ما يشاء ولا يكون فعله - كيفما كان - إلا عدلاً قال: {وما} أي والحال أنكم ما {تجزون} أي جزءاً من الجزاء {إلا ما} أي مثل ما. ولما كانوا مطبوعين على تلك الخلال السيئة، بين أنها كانت خلقاً لهم لا يقدرون على الانفكاك عنها بالتعبير بأداة الكون فقال: {كنتم تعملون *} نفياً لوهم من قد يظن أنهم فعلوا شيئاً بغير تقديره سبحانه. ولما كان في المخاطبين بهذا من علم الله أنه سيؤمن، واستثنى من واو «ذائقوا» قوله مرغباً لهم في الإيمان مشيراً إلى أنهم لا يحملهم على الثبات على ما هم عليه من الضلال إلا غش الضمائر بالرياء وغيره، فهو استثناء متصل بهذا الاعتبار الدقيق: {إلا عباد الله} فرغبهم بوصف العبودية الذي لا أعز منه، وأضافهم زيادة في الاستعطاف إلى الاسم(16/228)
الأعظم الدال على جميع صفات الكمال، وزاد رغباً بالوصف الذي لا وصف أجلّ منه فقال: {المخلصين *} .
ولما خلصهم منهم، ذكر ما لهم فقال معظماً لهم بأداة البعد: {أولئك} أي العالو القدر بما صفوا أنفسهم عن أكدار الأهوية {لهم رزق معلوم} أي يعلمون غائبه وكائنه وآتيه وطعمه ونفعه وقدره وغبّه وجميع ما يمكن علمه من أموره، وليسوا مثل ما هم عليه في هذه الدار من كدر الأخطار {لا تدري نفس ماذا تكسب غداً} لأن النفس إلى المعلوم أسكن، وبالأنس إليه أمكن.
ولما كان أهل الجنة لا يأكلون تقوتأً واحتياجاً، بل تنعماً والتذاذاً وابتهاجاً، لأن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد، فهي غير محتاجة إلى حفظ الصحة قال: {فواكه} أي يتنعمون بها بما كدروا من عيشهم في الدنيا. ولما كان الذي هو نعيم الجسم لا يحمد غاية الحمد إلا مع العز الذي هو غذاء الروح قال: {وهم مكرمون *} بناه للمفعول إشارة إلى أن وجود إكرامهم من كل شيء أمر حتم لا يكون غيره أصلاً.
ولما كان الإكرام لا يتم إلا مع طيب المقام قال: {في جنات النعيم *} أي التي لا يتصور فيها غيره.
ولما كان التلذذ لا يكمل إلا مع الأحباب، وكانت عادة الملوك الاختصاص بالمحل الأعلى، بين أنهم كلهم ملوك فقال: {على سرر متقابلين *} أي ليس فيهم أحد وجهه إلى غير وجه(16/229)
الآخر على كثرة العدد. ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالشراب، وكان المقصود الطواف فيه، لا كونه من معين، قال: {يطاف} بالبناء للمفعول وكأنها يدلى إليهم من جهة العلو ليكون أشرف لها وأصون، فنبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم} أي وهم فوق أسرتهم كالملوك {بكأس} أي إناء فيه خمر، قالوا: وإن لم يكن في الزجاجة خمر فهي قدح، ولا تسمى كأساً إلا والخمر فيها {من معين *} أي من خمر جارية في أنهارها، ظاهرة للعيون تنبع كما تنبع الماء لا يعالجونها بعصير، ولا يحملهم على الرفق بها والتقصير فيها نوع تقصير، قال الرازي: إنما سميت به إما من ظهروها للعين أو لشدة جريها من الإمعان في السير أو لكثرتها من المعن، وهو الكثير، وسمي الماعون لكثرة الانتفاع به، ويقال: مشرب ممعون: لا يكاد ينقطع.(16/230)
بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
ولما كان أول ما يختار في الشراب لونه ثم طعمه، قال واصفاً ما في الكأس من الخمر استخداماً: {بيضاء} أي مشرقة صافية هي في غاية اللطافة تتلألأ نوراً، وأعرق في وصفها بالطيب بجعلها تفسيراً للمعنى في قوله: {لذة للشاربين *} بما كانوا يتجرعون من كأسات الأحزان والأنكاد، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف،(16/230)
وجمع إشارة إلى أنهم لا يعلونها إلا كذلك بما فيه من مزيد اللذة.
ولما كان قد أثبت لها الكمال، نفى عنها النقص فقال: {لا فيها غول} أي فساد من تصديع رأس أو إرخاء مفصل أو إخماء كبد أو غير ذلك مما يغتال أي يهلك، أو يكون سبباً للهلاك {ولا هم عنها} أي عادة بعد شربها {ينزفون *} أي يذهب شيء من عقولهم وإن طال شربهم وكثر لئلا ينقص نعيمهم ولا ينفذ شرابهم أو ما عندهم من الجدة لكل ما يسر به - على قراءة حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف - مبنياً للفاعل مثل أقل وأعسر - إذا صار قليل المال، أو ذهب عقله، وقراءة الجماعة بالبناء للمفعول يحتمل أن تكون من نزف، وحينئذ يحتمل أن تكون من نفاذ الشراب من قولهم: نزفت الركية، اي ذهب ماؤها، وأن تكون من ذهاب العقل من قولهم: نزف الرجل بالبناء للفاعل ونزف بالبناء للمفعول بمعنى: ذهب عقله بالسكر ويحتمل أن تكون من أنزف وحينئذ يحتمل أن تكون من ذهاب العقل من أنزف الرجل - إذا ذهب عقله بالسكر، وأن تكون من عدم الشراب من قولهم: نزف الرجل الخمرة - سواء(16/231)
كان مبنياً للفاعل أو للمفعول - إذا أفناها.
ولما كان ذلك كله لا يكمل إلا بالجماع، والخمر أدعى شيء إليه، وهو لا يكمل النعيم به إلا بالاختصاص قال: {وعندهم} نساء من أهل الدنيا وغيرها {قاصرات الطرف} أي لا تطرف واحدة منهن إلى غير زوجها ولا يدعه تناهي حسنها وفرط جمالها طرفها يطرف إلى غيرها {عين *} أي نجل العيون، جمع عيناء، كسرت عينه لمناسبة الياء.
ولما كان أحسن الألوان لا سيما عند العرب الأبيض الأحمر المشرب صفرة أكتسبته صفاء وإشراقاً وبهاء، قال: {كأنهن بيض} أي بيض نعام {مكنون *} أي مصون من دنس يلحقه، وغبار يرهقه، ولمحبة العرب لهذا اللون كانت تقول عن النساء بيضات الخدور لأنه لونه أبيض مشرباً صفرة صافية، وقد صرح امرؤ القيس بهذا في لاميته المشهورة فقال:
كبكر مقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلل(16/232)
أي مخالطة البياض المائل إلى الحمرة بصفرة، وهو أصفى الألوان واعدلها، يشابه لون نور القمر.
ولما كان ذلك الاجتماع إنما هو للسرور، وكان السرور لا يتم إلا بالمنادمة، وكان أحلى المنادمة ما يذكر بحلول نعمة أو انحلال نقمة، تسبب عن ذلك ولا بد قوله إشارة إلى فراغ البال وصحة العقل بالإصابة في المقال: {فأقبل بعضهم} أي أهل الجنة بالكلام، وأشار إلى أن مجرد الإقبال بالقصد يلفت القلوب إلى سماعه بأداة الاستعلاء فقال: {على بعض} أي لأجل الكلام الذي هو روح ذلك المقام، وأما المواجهة فقد تقدم أنها دائمة، وبين حال هذا الإقبال فقال: {يتساءلون *} أي يتحدثون حديثاً بيناً لا خفاء بشيء منه بما أشار إليه الإظهار بما حقه أن يهتم به ويسأل عنه من أحوالهم التي خلصوا منها بعد أن كادت ترديهم، وسماه سؤالاً لأنه مع كونه أهلاً لأن يسأل عنه - لا يخلو عن سؤال أدناه سؤال المحادث أن يصغي إلى الحديث، وعبر عنه بالماضي إعلاماً بتحققه تحقق ما وقع.
ولما تشوف السامع إلى سماع شيء منها يكون نموذجاً للباقي، أشار إلى ذلك بقوله مستأنفاً: {قال قائل منهم} أي في هذا التساؤل، وشتان ما بينه وبين ما مضى خبره من تساؤل أهل النار.(16/233)
ولما كان ظنه أنه لا يخلص من شر ذلك القرين الذي يحدث عنه فنجاه الله منه على خلاف الظاهر، فكان ذلك إحدى النعم الكبرى، نبه عليه بالتأكيد فقال: {إني كان لي قرين *} أي جليس من الناس كأنه شيطان مبين {يقول} أي مكذباً بالبعث مستبعداً له غاية الاستبعاد مجدداً لقوله في كل وقت، يريد أن يختدعني بلطافة قياده إلى سوء اعتقاده: {أإنك لمن المصدقين *} أي بالبعث - يوبخني بذلك ويستقصر باعي في النظر استثارة لهمتي وإلهاباً لنخوتي وحميتي، ويكرر الإنكار بقوله: {أإذ متنا} أي فذهبت أوراحنا {وكنا} أي كوناً راسخاً {تراباً وعظاماً} أي فانمحقت أجسامنا التي هي مراكب الأرواح {أإنا لمدينون *} أي لمجزيون بعد ذلك بما عملنا بأن نبعث ونجازى، وكان تأكيده للإشارة منه إلى كل عاقل جدير بأن يكذب بما أقررت به لبعده، أو إلى أنه مكذب به ولو كان مؤكداً.
ولما كان هذا المقال سبباً لعظيم تشوف السامع إلى ما يكون بعده، وكان أهل الجنة من علو المكان والمكانة وصحة الأجسام وقوة التركيب ونفوذ الأبصار بحيث ينظرون ما شاؤوا من النار وغيرها مما دونهم متى شاؤوا، استانف قوله مشيراً إلى أن حاله هذت معلم أنه من أهل النار: {قال} أي هذا القائل لشربه هؤلاء الذين هم كما قال(16/234)
بعضهم في موشح:
رب شرب كالعقد قد نظموا ... في ثياب طرازها الكرم
فاغتنمت الهنا كما اغتنموا ... وظننت الكؤوس بينهمو
أنجماً في سما الهناء ترى ... كل نجم يغيب في بدر
{هل أنتم مطلعون *} أي شافون قلبي بأن تتركوا ما أنتم فيه من تمام اللذة وتكلفوا أنفسكم النظر معي في النار لتسروني بذلك.(16/235)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
ولما كان المحدث عنه المخلصين، وهم أهل الجنة كلهم أو جلهم، وكان الضمير يعود لما سبقه بعينه، وكان مخاطبو هذا القائل إنما هم شربه، وكان من المعلوم مما مضى من التقابل والتواد والتواصل بالمنادمة والتساؤل أنهم ينتدبون ندبهم إليه ويقبلون قطعاً عليه، وكان النافع لنا إنما هو قوله فقط في توبيخ عدوه وتغبيط نفسه ووليه، لم يجمع الضمير لئلا يلبس فيوهم أنه للجميع، وأعاده عليه وحده لنعتبر بمقاله، ونتعظ بما قص علينا من حاله فقال: {فاطلع} أي بسبب ما رأى لنفسه في ذلك من عظيم اللذة إلى أهل النار {فرآه} أي ذلك القرين السوء {في سواء الجحيم *} أي في وسطها وغمرتها تضطرم عليه أشد اضطرام بما كان يضرم في قلبه في الدنيا من الحر كلما قال له ذلك المقال،(16/235)
وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب كمركز الدائرة، ثم استأنف الإخبار عن مكافأته له بما كان من تقريعه وتوبيخه على التصديق بالآخرة بقوله: {قال} أي لقرينه ذلك.
ولما كان لا يقع في فكر أنه كان يتلفت إلى قوله هذا نوع التفاف لأنه ظاهر البطلان، ولأن هذا القائل محكوم بأنه من أهل الجنة، أكد قوله إشارة إلى أنه كان يؤثر فيه قوله في كثير من الأوقات بما يزينه به الشيطان وتحسنه النفوس بالشهوات، والراحة من كلف الطاعات، وساقه في أسلوب القسم تنبيهاً على التعجب من سلامته منه فقال: {تالله} وزاد التأكيد بعم ما علقه بالاسم الأعظم بالمخففة من المثقلة فقال: {إن كدت لتردين} أي إنك قاربت أن تهلكني وتجعلني في أردأ ما يكون من الأماكن، وفي هذا التأكيد غاية الترغيب في الثبات لمن كان قريباً من التزلزل وفي المباعدة لقرناء السوء.
ولما ذكر سوء ما كان يأتي إليه، ذكر حسن أثر الله سبحانه عنده، فقال لافتاً الكلام إلى صفة الإحسان لأنه مقامه: {ولولا نعمة ربي} أي المحسن إليّ بما رباني به من تثبيتي عن أتباعك والتجاوز عني في مخالطتك {لكنت} كوناً ثابتاً {من المحضرين *}(16/236)
أي المكرهين على حضور هذا الموطن الضنك الذي أنت فيه، فيالله ما أعظم إحسان هذه الآية في التنفير من العشرة لقرناء السوء لأنها شديدة الخطر قبيحة الأثر، ولقد أبان نظره هذا عن أنه لم يكن أعلى لذة مما كان فيه فليس بأدنى منه، فإنه لا شيء ألذ من رؤية العدو الماكر الذي طالما أحرق الأكباد وشوش الأفكار، في مثل دلك من الإنكار، وعظائم الأكدار، من غمرات النار.
ولما رأى ذاك فيما هو فيه من الجحيم، ورأى نفسه فيما هي فيه من النعيم، ما ملك نفسه أن قال كما يعرض لمن يكون في شدة فيأتيه الفرج فجأة فيصير كأنه في منام أو أضغاث أحلام، لا يصدق ما صار إليه سروراً: {أفما} أي أنحن يا إخواني منعمون مخلدون فيتسبب عن ذلك أنا ما {نحن بميتين *} أي بعد حالتنا هذه، وأكده لأن مثله لأجل نفاسته لا يكاد يصدق، ثم أعرق في العموم بما هو معياره فقال: {إلا موتتنا الأولى} أي التي كانت في الدنيا.
ولما ذكر نعمة الخلاص من الموت، ذكر نعمة الإنقاذ من الأكدار فقال: {وما} {نحن} وأكد النفي فقال: {بمعذبين *} .
ولما تذكر هذا فاستفزه السرور، وازدهته الغبطة والحبور،(16/237)
لم يملك نفسه أن قال في أسلوب التأكيد لما له في ذلك من النشاط لما له من خرق العادة منبهاً على عظمته لتعظيم الغبطة: {إن هذا} أي الملك الذي نحن فيه {لهو} أي وحده {الفوز العظيم *} أي الذي لا شيء يعدله. ولما دل هذا السياق على عظيم ما نالوه، زاد في تعظيمه بقوله: {لمثل هذا} أي الجزاء {فليعمل العاملون *} أي لينالوه فإنهم يغتنون غنى لا فقر بعده بخلاف ما يتنافسون فيه ويتدالجون عليه من أمور الدنيا، فإنه مع سرعة زواله منغض بكدره وملاله.
ولما فات الوصف هذا التشويق إلى هذا النعيم، رمى في نعته رمية أخرى سبقت العقول وتجاوزت حد الإدراك وعلت عن تخيل الوهم في استفهام منفر من ضده بمقدار الترغيب فيه لمن كان له لب فقال: {أذلك} الجزاء البعيد المنال البديع المثال {خير نزلاً} فأشار بذلك إلى أنه إنما هو شيء يسير كما يقدم للضيف عند نزوله على ما لاح في جنب ما لهم وراء ذلك مما لا تسعه العقول ولا تضبطه الفهوم: {أم شجرة الزقوم *} أي التي تعرفها بأنها في غاية النتن والمرارة، من قولهم: تزقم الطعام - إذا تناوله على كره ومشقة شديدة، وعادل بين ما لا معادلة بينهما بوجه تنبيهاً على ذلك، ولأنهم كانوا يرون(16/238)
ما سبب ذلك من الأعمال خيراً من أعمال المؤمنين التي سببت لهم النعيم، فكأنهم كانوا يقولون: إن هذا العذاب خير من النعيم، فسيق ذلك كذلك توبيخاً لهم على سوء اختيارهم.(16/239)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
ولما كان قد أخبر أن نباتها في النار، فكان ذلك سبباً لزيادة تكذيبهم لأن عدم إيمانهم كان سبباً لضيق عقولهم، قال مؤكداً رداً على من يظن أن سبحانه لا يفتن عباده لأنه غني عن ذلك: {إنا جعلناها} أي الشجرة بما لنا من العظمة {فتنة للظالمين *} أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها كمن هو في الظلام بكونها عذاباً لهم في الأخرى وسبباً لزيادة ضلالهم في الدنيا، ولو وضعوها مواضعها لعلموا أن من جعل في الشجر الأخضر ناراً لا تحرقه يستخرجونها هم متى شاؤوا فيحرقون بها ما شاؤوا من حطب وغيره قادر على أن ينبت في النار شجراً أخضر لا تحرقه النار، ثم نبه على أن محل الفتنة جعلها فيما ينكرونه، فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم معللاً لجعلها فتنة تخالطهم فتحيلهم في الدنيا بحرها وفي الأُخرى بأثرها: {إنها} وحقق أمر نباتها بقوله: {شجرة} وزاد الأمر بياناً بقوله: {تخرج} وأكده بالظرف فقال: {في أصل} أي ثابت وقعر ومعظم وقرار {الجحيم} أي النار الشديدة الاضطرام وفروعها ترتفع إلى دركاتها، ثم زاد ذلك وضوحاً(16/239)
وتصويراً بقوله: {طلعها} أي الذي هو مثل طلع النخل في نموه ثم تشققه عن ثمرة {كأنه رءوس الشياطين *} فيما هو مثل عند المخاطبين فيه، وهو القباحة التي بلغت النهاية، وهذا المثل واقع في أتم مواقعه سواء كان الشيطان عندهم أسماً للحية أو لغيرها، لأن قبح الشياطين وما يتصل بهم في أنهم شر مخص لا يخلطه خير مقرر في النفوس، ولهذا كان كل من استقبح منظر إنسان أو فعله يقول: كأنه شيطان، كما انطبع في النفوس حسن الملائكة وجلالتهم فشبهوا لهم الصور الحسان، ولذلك سمت العرب ثمر شجر يقال له الأستن بهذا الاسم، وهو شجر خشن مر منتن منكر الصورة.
ولما أثبت أمرها بما هو في غاية الفتنة لها واللطف للمؤمنين، سبب عن الفتنة بها قوله: راداً لإنكارهم أن يأكلوا مما لا يشتهونه ومكذباً لما كانوا يدعون من المدافعة: {فإنهم} أي بسبب كفرانهم بها وبغيرها مما أمرهم الله {لآكلون منها} أي من هذه الشجرة من شوكها وطلعها وما يريد الله بما يؤلم منها. ولما كانوا قد زادوا في باب التهكم في أمرها، زاد التأكيد في مقابلة ذلك بقوله: {فمالئون منها} ومن غيرها في ذلك الوقت الذي يريد الله أكلهم منها {البطون *}(16/240)
قهراً على ذلك وإجباراً. ولما أحرق أكبادهم من شديد الجوع زيادة في العذاب، ولما جرت العادة بأن الآكل المتنعم يتفكه بعد أكله بما يبرد غلة كبده، قال مشيراً إلى تناهي شناعة متفكههم، وطويل تلهبهم من عطشهم، بأداة التراخي وآلة التأكيد لما لهم في ذلك من عظيم الإنكار: {ثم إن لهم عليها} أي على أكلهم منها {لشوباً} أي خلطاً عظيم الإحراق {من حميم *} أي ماء حار كأنه مجمع من مياه من عصارات شتى من قيح وصديد ونحوهما - نسأل الله العافية.
ولما كان ما ذكر للفريقين إنما هو النزل الذي مدلوله ما يكون في أول القدوم على حين غفلة، وكانوا يريدون الحميم كما يورد الإبل الماء، وكان قوله تعالى {يطوفون بينها وبين حميم آن} [الرحمن: 44] يدل على أن ذلك خارجها أو خارج غمرتها، كما تكون الأحواض في الحيشان خارج الأماكن المعدة للإبل، قال مبيناً أن لهم ما هو أشد شناعة من ذلك ملوحاً إليه بأداة التراخي: {ثم إن مرجعهم} أي بعد خروجهم من دار ضيافتهم الزقومية {لإلى الجحيم *} أي ذات الاضطرام الشديد، والزفير والبكاء والاغتمام الطويل المديد، كما أن حزب الله يتقلبون من جنات النعيم إلى جنات المأوى مثلاً إلى جنات عدن إلى(16/241)
الفردوس التي لا يبغون عنها حولاً كما ينقل أهل السعة والأكابر من أهل الدنيا ضيوفهم في البساتين المتواصلة والمناظر، وينزهونهم في القصور العالية والدساكر.
ولما أخبر عن عذابهم هذا، وكان سببه الجمود مع العادة الجارية على غير الحق، والتقيد بما ألفته النفس ومال إليه الطباع، مما أصّله من يعتقدون أنه أكبر منهم وأتم عقلاً، علل ذلك تحذيراً من مثله لأنه كان سبب هلاك أكثر الخلق، وأكده لأنهم ينكرون ضلال من أصّل لهم، فتلك العوائد من آبائهم وغيرهم فقال: {إنهم ألفوا} أي وجدوا وجدانا ألفوه {آباءهم ضالين *} أي عريقين في الضلال، فما هم فيه لا يخفى على أحد أنه ضلال يتسبب عنه النفرة عن صاحبه {فهم} أي البعداء البغضاء {على آثارهم} أي التي لا تكاد تبين لأحد لخفاء مذاهبها لوهيها وشدة ضعفها وانطماس معالمها، لا على غيرها {يهرعون *} أي كأنهم يلجئهم ملجئ إلى الإسراع، فهم في غاية المبادرة إلى ذلك من غير توقف على دليل ولا استضاءة بحجة(16/242)
بحيث يلحق صاحب هذا الإسراع من شدة تكالبه عليه شيء هو كالرعدة، وذلك ضد توقفهم وجمودهم فيما أتاهم به رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شجرة الزقوم وغيرها مما هو في غاية الوضوح والجلاء، فأمعنوا في التكذيب به والاستهزاء، وأصروا بعد قيام الدلائل، فكانوا كالجبال ثباتاً على ضلالهم، والحجارة الصلاب الثقال رسوخاً في لازب أوحالهم.(16/243)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)
ولما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد المحبة لهداهم والحزن على ضلالهم، والأسف على غيهم ومحالهم، وكان الضلال مع العقل أولاً، ثم مع وجود الرسل الذين هم من الصدق والمعجزات والأمور الملجئة إلى الهدى ثانياً كالمحال، سلاه سبحانه بقوله على سبيل التأكيد لزيادة التحقيق: {ولقد ضل قبلهم} أي قبل من يدعوهم في جميع الزمان الذي تقدمهم {أكثر الأولين *} بحيث إنه لم يمض قرن بعد آدم عليه السلام إلا وكله أو جله ضلال.
ولما كان ربما ظن أنه لعدم الرسل، نفى ذلك بقوله مؤكداً لنحو ذلك: {ولقد أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة التي توجب الإتيان بما لا ريب فيه من البيان {فيهم منذرين *} أي فأنذروهم بأس الله وبينوا لهم أحسن البيان، ومع ذلك فغلب عليهم الضلال، وعناد أهل الحق بالمحال، حتى أهلكهم الله بما له من شديد المجال، وهو معنى قوله:(16/243)
{فانظر} أي فتسبب عن الإرسال أنا فعلنا في إهلاكهم من العجائب ما يستحق التعجيب به والتحذير من مثله بأن يقال لمن تخلف عنهم: انظر {كيف} ولما كان ذلك عادة مستمرة لم تختلف أصلاً قال: {كان عاقبة} أي آخر امر {المنذرين} أي في إنا أهلكناهم لتكذيبهم، فاصبر على الشدائد كما صبروا، واستمر على الدعاء بالبشارة والنذارة حتى يأتيك أمر الله.
ولما أفهم الحكم على الأكثر بالضلال أن الأقل على غير حالهم، نبه على حال الطائعين بقوله مستثنياً من ضمير المنذرين: {إلا عباد الله} أي الذين استخلصهم سبحانه بما له من صفات الكمال، فاستحقوا الإضافة إلى اسمه الأعظم {المخلصين *} أي الذين أخلصهم له فأخلصوا هم أعمالهم فلم يجعلوا فيها شوباً لغيره.
ولما كان مقصود السورة التنزيه الذي هو الإبعاد عن النقائص، ولذلك كان أنسب الأشياء الإقسام أولها بالملائكة هم أنزه الخلق، وكان أعلى الخلق من جرد نفسه عن الحظوظ بما يؤتيه الله من المجاهدات والمنازلات والمعالجات حتى يلحق بهم فيجوز مع فضلهم معالي الجهاد، فكان أحق الأنبياء بالذكر من كان أكثر تجريداً لنفسه من الشواغل سيراً إلى مولاه وتعريجاً عن كل ما سواه، وكان الأب(16/244)
الثاني من أحقهم بذلك لأنه تجرد في الجهاد بالدعاء إلى الله ألف عام ثم تجرد عن كل شيء على ظهر الماء بين الأرض والسماء، فقال تعالى مؤكداً لما تقدم من أنه دعا إلى التأكيد من أن مكثه في قومه المدة الطويلة مبعد لأن يكونوا وافقوه ومالوا معه وتابعوه، ولأن فعل العرب في التكذيب مع ترادف المعجزات وتواتر العظات عمل من هو مكذب بوقوع النصرة للمرسلين، والعذاب للمكذبين، عطفاً على تقديره: فقاسى الرسل من الشدائد ما لا تسعه الأوراق، وجاهدوهم بأنفسهم والتضرع إلى الله تعالى في أمرهم: {ولقد نادانا} لما لنا من العظمة {نوح} بقوله
{رب إني مغلوب فانتصر} [القمر: 10] ونحوه مما أخبر الله عنه به بعد أمور عظيمة لقيها منهم من الكروب، والشدائد والخطوب، لنكشف عنه ما أعياه من أمرهم.
ولما أغنت هذه الجملة عن شرح القصة وتطويلها، وكان قد تسبب عن دعائه إجابته، قال بالتأكيد بالاسمية والإشارة إلى القسم والأداة الجامعة لكل مدح وصيغة العظمة إلى أن هول عذابهم وعظم مصابهم بلغ إلى أنه مع شهرته لا يكاد يصدق، فهو يحتاج إلى اجتهاد كبير وشدة اعتناء، فكانت الإجابة إجابة من يفعل ذلك وإن(16/245)
كانت الإفعال بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء، لا تحتاج إلى غير مطلق الإرادة: {فلنعم المجيبون *} أي كنا بما لنا من العظمة له ولغيره ممن كان نعم المجيب لنا، هذه صفتنا لا تغير لها.(16/246)
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
ولما كان معنى هذا: فأجبناه إجابة هي النهاية في استحقاق على الممادح من إيصاله إلى مراده من حمله وحمل من آمن به والانتقام ممن كذبه كما هي عادتنا دائماً، عطف عليه قوله: {ونجيناه} أي بما لنا من العظمة {وأهله} أي الذين وافقوه في الدين {من الكرب العظيم *} وهو الأذى من الغرق {وجعلنا ذريته هم} أي خاصة {الباقين *} لأن جميع أهل الأرض غرقوا فلم يبق منهم أحد أصلاً، وأهل السفينة لم يعقب منهم أحد غير أولاده، فأثبناه على نزاهته إن كان هو الأب الثاني، فالعرب والعجم أولاد سام، والسودان أولاد حام، والترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج أولاد يافث، فكل من تبع سنته في الخير كان له مثل أجره.
ولما ذكر لأنه بارك في نسله، أعلم أنه أدام ذكره بالخير في أهله فقال: {وتركنا عليه} أي ثناء حسناً، لكنه حذف المفعول(16/246)
وجعله لازماً، فصار المعنى: أوقعنا عليه الترك بشيء هو من عظمته وحسن ذكره بحيث يعز وصفه {في الآخرين *} أي كل من تأخر عن زمانه إلى يوم الدين. ولما كان قد كتب الله في القدم سلامته من كل سوء على كثرة الأعداء وطول الإقامة فيهم وشدة الخلاف قال تعالى مستأنفاً مادحاً: {سلام} أي عظيم {على نوح} من كل حي من الجن والأنس والملائكة لسلام الله عليه. ولما كان لسان جميع أهل الأرض في زمانه عليه السلام واحداً، فكانوا كلهم قومه، ولم يكن في زمانه نبي، فكانت نبوته قطب دائرة ذلك الوقت، فكان رسالته عامة لأهله، وكان غير الناس من الخلق لهم تبعاً، خصه في السلام بأن قال: {في العالمين} أي مذكور فيهم كلهم لفظاً ومعنى يسلم عليه دائماً إلى أن تقوم الساعة، وخصوصية نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه أرسل إلى جميع الخلق مع اختلاف الألسنة ومع استمرار الرسالة أبد الآباد، وكون شريعته ناسخة غير منسوخة، وكون جميع الخلق في القيامة تحت لوائه، فهناك يظهر تمام ما أوتيه من عموم البعثة إلى ما ظهر منه في الدنيا.
ولما كان التقدير: فعلنا به ذلك لإحسانه، وكان الضالون ينكرون أن تنجو الدعاء إلى الله وأتباعهم منهم، أخبر في سياق التأكيد أنه يفعل بكل محسن ما فعل به فقال {إنا} أي على عظمتنا {كذلك}(16/247)
أي مثل ذلك الجزاء بالذكر الحسن والنجاة من كل سوء {نجزي المحسنين *} أي الذين يتجردون من الظلمات النفسانية إلى الأنوار الملكية بحيث لا يغفلون عن المعبود، ولا ينفكون لحظة عن الشهود.
ولما أفهمت هذه الجملة - ولا بد - إحسانه إلى المحسن، علل ما أفهمته بقوله: مؤكداً إظهاراً للإقبال عليه بأن ذكره مما يرغب فيه، وتكذيباً لمن كذبه: {إنه من عبادنا} أي الذين هم أهل لأن نضيفهم إلى مقام عظمتنا {المؤمنين *} أي الراسخين في هذا الوصف، المتمكنين فيه، فعلم أن الإيمان هو المراد الأقصى من الإنسان لأنه علل الإنجاء بالإحسان والإحسان بالبيان، ولما أفهم تخصيص ذريته بالبقاء إهلاك غيرهم، وقدم ما هو أهل له من مدحه اهتماماً به وترغيباً في مثله، أخبر عن أعدائه بأنه أوقع بهم لأنهم لم يتحلوا بما كان سبب سعادته من الإيمان بقوله: مشيراً إلى العظمة التي أوجدها سبحانه في إغراقهم بأداة التراخي: {ثم أغرقنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يقوم لها شيء {الآخرين *} أي الذي غايروه في الأقوال والأفعال فاستحقوا أضداد أفعالنا معه وهو أهل الأرض كلهم غير أهل السفينة وكلهم(16/248)
قومه كما هو ظاهر الآيات إذا تؤمل تعبيرها عن الدعوة والإغراق ودعائه عليه السلام عليهم، وظاهر ما رواه الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه في حديث الشفاعة أن الناس يقولون:
«ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض» ، وإنما كانوا قوماً لا أكثر، لأنهم كانوا على لسان واحد قبل بلبلة الألسن باتفاق أهل التأريخ، وذلك كما أن العرب يطلق عليهم كلهم على انتشارهم واتساع بلادهم أنهم قوم، لاجتماعهم في اللسان مع أنهم قبائل لا يحصيهم العد، ولا يجمعهم نسب واحد إلا في إسماعيل عليه السلام، وقيل فيما فوقه، فإن النسابين أجمعوا على أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام، قالوا: هو من ولد عدنان، واختلفوا في قحطان أبي اليمن وكذا ثقيف، فقيل: هما من ولد إسماعيل عليه السلام، وقيل لا، ثم من قال: إن ثقيفاً من ولد إسماعيل عليه السلام، قالوا: هو من ولد عدنان، وقال بعضهم: لا، ثم إن من ولد عدنان ربيعة ومضر، ومن دون مضر كنانة وهذيل والقارة وخزاعة وأسد وتميم ومزينة والرباب وضبة وقيس، ودون ذلك باهله وأشجع وفزارة وكنانة وقريش وخلائق، ومن دون ربيعة بكر بن وائل وغيرهم، ومن دون ذلك شيبان وعبد القيس والنمر وخلائق، ودون قحطان أبي اليمن لخم وجذام وعائلة وغسان وكندة وهمدان والأزد، ومنهم الأنصار وخلائق غير ذلك،(16/249)
فهؤلاء كلهم - على هذا التشعب والانتشار والاختلاف في الأديان، بل وفي بعض اللغة - يسمون أمة واحدة وقوماً لجمع اللسان لهم في أصل العربية، وبنو إسحاق ليسوا منهم بلا خلاف، مع أنهم أولاد عمهم لمخالفتهم لهم في اللسان على أنهم أقرب من قحطان وثقيف في النسب عند من قال إنهم ليسوا من ولد إسماعيل عليه السلام، وكذا بنو إسحاق عليه السلام افترقوا بافتراق اللسان فبنوا إسماعيل قوم وبنو العيص - وهم الروم - قوم وكذا سائر الأمم إنما يفرق بينهم اللسان وعموم دعوته لبني آدم عليه السلام على هذا الوجه لا يقدح في خصوصية نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعموم الدعوة والأرسال إلى غير قومه، أما العموم فإنه أرسل إلى كل من ينوس من الإنس والملائكة والجن، وأما دعاء الأقوام فالمراد أنه أرسل إلى الموافق في اللسان والمخالف فيه، وأما غيره فما أرسل إلى من خالفه في اللسان ولا إلى غير جنسه وإن كان يندب له أنه يأمر بالمخالفين في اللسان وينهاهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير وجوب، ولو سلمنا في نوح عليه السلام أنه لم يبعث إلى جميع أهل الأرض انتقض بآدم عليه السلام فإنه نبي مرسل، كما روى ذلك الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومحمد بن يحيى بن أبي عمر وأبو بكر بن أبي شيبة والحارث(16/250)
بن أبي أسامة وأبو يعلى الموصلي وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم والطبراني في معجمه الأوسط عن أبي أمامة الباهلي وأبي ذر رضي الله عنهما وفي بعض طرق أبي ذر التصريح بالإرسال ولا يشك أحد أنه كان رسولاً إلى جميع من أدركه من أولاده، وهم جميع أهل الأرض، وكذلك نوح عليه السلام، لا يشك أحد أنه كان بعد الغرق رسولاً إلى جميع أهل السفينة كما كان قبل ذلك: وهم جميع أهل الأرض، فما قدمت من أن الخصوصية بالإرسال إلى ذوي الألسن المختلفة من جميع بني آدم، وإلى المخالف في الجنس من كل من ينوس هو المزيل للإشكال - والله الموفق.(16/251)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
ولما كان لإبراهيم عليه السلام من التجرد عن النعوت البشرية والعلائق النفسانية إلى الأحوال الملكية ما لم يكن لمن بينهما من النبيين من المصارحة بالمعارضة لقومه، والإبلاغ فيها بكسر الأوثان، وتوهية مذهب الكفران، والانفراد عما سوى الله في غمرات النيران، حتى عن الدعاء بقلب أو لسان فناء عن جميع الأكوان، ثم الهجرة عن الأوطان، ثم بالخروج عن الأحباب والأخوان، بوضع ابنه بكره وسريته في ذلك المكان، الذي ليس به إنس ولا جان، ثم بمعالجة ذبحه بأتم قوة وأقوى جنان، ثم ببناء البيت ذوي الأركان، قبلة للمتجردين من أهل الإيمان في كل أوان، عما سوى الملك الديان، يصفون عند كل(16/251)
صلاة مثل صفوف الملائكة الكرام، وكان موافقاً لنوح عليه السلام مع ما تقدم في البركة في نسله بحيث إنهم قريب نصف أهل الأرض الآن، وكان أشهر أمره في النار التي هي ضد أشهر أمر نوح عليه السلام في الماء، تلاه به فقال مؤكداً إظهاراً أيضاً لما له من الكرامة والمنزلة العالية في الإمامة، المقتضية للنشاط في الثناء عليه، المنبهة على ما ينبغي من إتمام العزم في متابعته، وتكذيباً لمن ادعى أنه ابتدع وخالف من كان قبله: {وإن من شيعته} أي الذين خالط سره سرهم ووافق أمره أمرهم، في التصلب في الدين والمصابرة للمفسدين {لإبراهيم *} ثم علق بمعنى المشايعة بياناً لما كانت به المتابعة قوله على تقدير سؤال من قال: متى شايعه؟ {إذا} أي حين {جاء ربه} أي المحسن في تربيته {بقلب سليم *} أي بالغ السلامة عن حب غيره، والمجيء مجاز عن الإخلاص الذي لا شائبة فيه كما أن الآتي إليك لا يكون شيء من بدنه عند غيرك، ثم أبدل من ذلك ما هو دليل عليه فقال: {إذ قال لأبيه} أي الذي هو أعظم الناس عنده وأجلهم في غينه وأعزهم لديه {وقومه} أي الذين لهم من القوة والجدود ما تهابهم به الأسود: {ماذا} أي ما الذي {تعبدون *} تحقيراً لأمرهم وأمر معبوداتهم منبهاً على أنه لا علة لهم في الحقيقة تحمل على عبادتها غير(16/252)
مكترث بكثرتهم ولا هائب لقوتهم ولامراع لميل الطبع البشري إلى مودتهم.
ولما لوح لهم بالإنكار، صرح فقال مقدماً للمفعول تخصيصاً: {أئفكاً} أي صرفاً للحق عن وجهه إلى قفاه. ولما جعل معبوداتهم نفس الإفك، أبدل منه قوله: {آلهة} ثم حقر شأنهم بقوله: {دون الله} أي الذي لا كفوء له {تريدون *} ولما كان قد غلب عليه الشهود عند تحقيره لهم، سبب عن ذلك تهديداً على فعلهم عظيماً، فقال مشيراً إلى أنه يكفي العاقل في النهي ظن العطب: {فما ظنكم} ولما كان كفران الإحسان شديداً، ذكرهم بإحسانه حافظاً لسياق التهديد بالإشارة إلى أنه يكفي في ذلك الخوف من قطع الإحسان فقال: {برب العالمين *} اي الذي توحد بخلق جميع الجواهر والأعراض وتربيتهم فهو مستحق لتوحيدهم إياه في عبادتهم، أتظنون أنه لا يعذبكم وقد صرفتم ما أنعم به عليكم إلى عبادة غيره، إشارة إلى إنكار تجويز مثل هذا، وأن المقطوع به أن محسناً لا يرضى بدوام إدرار إحسانه إلى من ينسبه إلى غيره.(16/253)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
ولما أفهم السياق شدة عداوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان الله تعالى قد أجرى عادته بأن جعل في النجوم أدلة على بعض المسائل الظنية لا سيما البحرانات في أنواع الأسقام، وكان أهل تلك البلاد(16/253)
وهم الكسدانيون كما تقدم في الأنعام وكما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وكما دلت عليه كتب الفتوحات - من أشد الناس نظراً في النجوم والاستدلال بها على أحوال هذا العالم في بعض ما كان وبعض ما يكون، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد أن يتخلف عن الذهاب معهم إلى المحل الذي يجتمعون فيه للعيد ليكسر الأصنام ويريد إخفاء وقت الكسر عليهم ليتمكن من ذلك، قال تعالى حاكياً عنه مشيراً إلى ذلك بالتسبب عما مضى: {فنظر نظرة} أي واحدة {في النجوم *} حين طلبوا منه أن يخرج معهم إلى عيدهم لئلا ينكروا تخلفه عنهم موهماً لهم أنه استدل بتلك النظرة على مرض باطني يحصل له، لأنهم ربما أنكروا كونه مريضاً إذا أخبرهم بغير النظر في النجوم لأن الصحة ظاهرة عليه {فقال} أي عقب هذه النظرة موهماً أنها سببه.
ولما كان بدنه صحيحاً فكان بصدد أن يتوقف في خبره، أكد فقال: {إني سقيم *} فأوهم أن مراده أنه مريض الجسد وأراد أنه مريض القلب يسبب آلهتهم، مقسم الفكر في أمرهم لأنه يريد أمراً عظيماً وهو كسرها، ومادة «سقم» بتقاليبها الخمسة: سقم سمق قسم قمس مقس، تدور على القسم، فالسقام كسحاب وجبل وقفل: المرض، أي(16/254)
لأنه يقسم القوة والفكر، وقال ابن القطاع: سقم: طاولة المرض. وقسمه جزأه، والدهر القوم: فرقهم، والقسم - بالكسر: النصيب والقسم أي بالفتح: العطاء، ولا يجمع، والرأي والشك والعيب والماء والقدر والخلق والعادة، ويكسر فيهما، والتفريق ظاهر في ذلك كله، أما العطاء فيفرق المال ويقسمه، والرأي يقسم الفكر والشك كذلك والعيب يقسم العرض والماء في غاية ما يكون من سهولة القسم، والقدر يفصل صاحبه من غيره، وكذا الخلق والعادة، والمقسم كمعظم: المهموم - لتوزع فكره، والجميل - لأنه يقسم القول في وصفه، والقسم محركة: اليمين بالله، وقد أقسم، أي أزال تقسيم الفكر، والقسامة: الحسن - لأنه يوزع فكر الناظر وجونة العطار - كذلك لطيب ريحها والقسام - كسحاب: شدة الحر - لأنها تزعج الفكر فتقسمه، أو هو أول وقت الهاجرة أو وقت ذرور الشمس، وهي حينئذ أحسن ما تكون مرآة - فينقسم الفكر فيها لحسنها إذ ذاك وما يطرأ عليها بعده. والقمس: الغوص - لأن الغائص قسم الماء بغوصه، والقمس أيضاً اضطراب الولد في البطن لأنه يقسم الفكر، ويكاد أن يقسم البطن باضطرابه، والقاموس: معظم البحر - لأن البحر قسم الأرض، ومعظمه(16/255)
أحق بهذا الاسم، والقوامس: الدواهي - لتقسيمها الفكر، وانقمس النجم: غرب، أي أخذ قسمه من الغروب كما أخذه من الشروق، أو أزال التقسيم بالسير، ومقسه في الماء: غطه - فانقسم الماء بغمسه فيه، والقربة: ملأها، فصير فيها من الماء ما يسهل قسمه، وأخذه الماء الذي وضعه فيها تقسيم للماء المأخوذ منه، ومقس الشيء: كسره، والماء: جرى - فانقسم وقسم الأرض، وهو يمقس الشعر كيف شاء، أي بقوله فيقسمه من باقي الكلام، والتقميس في الماء: الإكثار من صبه، فإن ذلك تقسيم له، وسمق سموقاً: علا وطال فصار بطوله يقبل من القسمة ما لا يقبله ما هو دونه.
ولما فهموا عنه ظاهر قوله، وظنوا فيه ما يظهر من حاله، ولكنهم لم يسعهم لعظمته فيهم إلا التسليم، تركوه فقال تعالى مسبباً عن قوله مشيراً إلى استبعادهم مرضه بصيغة التفعل: {فتولوا} أي عالجوا أنفسهم وكلفوها أن انصرفوا {عنه} إلى محل اجتماعهم وإقامة عيدهم وأكد المعنى ونص عليه بقوله: {مدبرين *} أي إلى معبدهم فخلا له الوقت من رقيب {فراغ} أي ذهب في خفية برشاقة وخفة، ونشاط وهمة، قال البيضاوي: وأصله الميل بحيلة {إلى آلهتهم} أي أصنامهم التي زعموها آلهة، وقد وضعوا عندها طعاماً، فخاطبها مخاطبة من يعقل لجعلهم إياها بذلك في عداد من يعقل {فقال} منكراً عليها(16/256)
متهكماً بها ظاهراً وموبخاً لقومه حقيقة: {ألا تأكلون *} ثم زاد في إظهار الحق والاستهزاء بانحطاطها عن رتبة عابديها فقال: {ما} أي أيّ شيء حصل {لكم} في أنكم {لا تنطقون *} .
ولما أخبر تعالى أنه أظهر ما يعرفه باطناً من الحجة فقال: {فراغ} أي سبب عن إقامته الحجة أنه أقبل مستعلياً {عليهم} بغاية النشاط والخفة والرشاقة يضربهم {ضربا باليمين *} أي بغاية القوة، وجعل السياق للمصدر إشارة إلى قوة الهمة بحيث صار كله ضرباً. ولما تسبب عن ذلك أنهم لما علموا بكسرها ظنوا فيه لما كانوا يسمعونه منه من ذمها وحلفه بأنه ليكيدنها فأتوه، أخبر عن ذلك بقوله مسبباً: {فأقبلوا} ودل على أنه من مكان بعيد بقوله: {إليه يزفون *} أي يسرعون، وقراءة حمزة بالبناء للمفعول أدل على شدة الإسراع لدلاتها على أنهم جاؤوا على حالة كان حاملاً يحملهم فيها على الإسراع وقاهراً يقهرهم عليه من شدة ما في نفوسهم من الوجد.
ولما كان من المعلوم أنهم كلموه في ذلك فطال كلامهم، وكان تشوف النفس إلى جوابه أكثر، استأنف الخبر عنه في قوله: {قال} غير هائب لهم ولا مكترث بهم لرؤيته لهم فانين منكراً عليهم: {أتعبدون} وندبهم بالمضارع إلى التوبة والرجوع إلى الله، وعبر بأداة ما لا يعقل(16/257)
كما هو الحق فقال: {ما تنحتون *} أي إن كانت العبادة تحق لأحد غير الله فهم أحق أن يعبدوكم لأنكم صنعتموهم ولم يصنعوكم.
ولما كان المتفرد بالنعمة وهو المستحق للعبادة، وكان الإيجاد من أعظم النعم، وكان قد بين أنهم إنما عبدوها لأجل عملهم الذي عملوه فيها فصيرها إلى ما صارت إليه من الشكل، قال تعالى مبيناً أنه هو وحده خالقهم وخالق أعمالهم التي ما عبدوا في الحقيقة إلا هي، وأنه لا مدخل لمنحوتاتهم في الخلق فلا مدخل لها في العبادة: {والله} أي والحال أن الملك الأعظم الذي لا كفوء له {خلقكم} أي أوجدكم على هذه الأشكال {وما تعملون *} أي وخلق عملكم ومعمولكم، فهو المتفرد بجميع الخلق من الذوات والمعاني، ومعلوم أنه لا يعبد إلا من كان كذلك لأنه لا يجوز لعاقل أن يشكر على النعمة إلا ربها.(16/258)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
ولما كان السامع يعلم أنهم لا بد وأن لا يجيبوه بشيء، فتشوف إلى ذلك، أجيب بقوله: {قالوا ابنوا له} أي لأجله {بنياناً} أي من الأحطاب حتى تصير كالجبل العظيم، فاحرقوها حتى يشتد لهبها جداً فيصير جحيماً {فألقوه في} ذلك {الجحيم *} أي معظم النار، وهي على أشد ما يكون إيقاداً.
ولما كان هذا مسبباً عن إرادتهم لإهانته قال: {فأرادوا به} أي إبراهيم عليه السلام بسبب هذا الذي عملوه {كيداً} أي تدبيراً(16/258)
يبطل أمره ليعلوا أمرهم ولا يبطل بما أظهر عن عجزهم دينهم {فجعلناهم} أي بعظمتنا بسبب عملهم {الأسفلين *} المقهورين بما أبطلنا من نارهم وجعلناها عليه برداً وسلاماً بضد عادتها في العمل، فنفذ عملنا وهو خارق للعادة وبطل عملهم الذي هو على مقتضى العادة، فظهر عجزهم في فعلهم كما ظهر عجزهم في قولهم، بما أظهرناه من الحجة على لسان خليلنا عليه السلام، وظهرت قدرتنا واختيارنا، وإنما فسرت الكيد بما ذكرت لأنه المكر والخبث والاحتيال والخديعة والتدبير بحق أو باطل والحرب والخوف، فكل هذه المعاني - كما ترى - تدور على التدبير وإعمال الفكر وإدارة الرأي.
ولما كان التقدير: فأجمع النزوح عن بلادهم لأنهم عدلوا عن الحجة إلى العناد، عطف عليه قوله: {وقال} أي إبراهيم عليه السلام لمن يتوسم فيه أن كلامه يحييه من موت الجهل مؤكداً لأن فراق الإنسان لوطنه لا يكاد يصدق به: {إني ذاهب} أي مهاجر من غير تردد، قالوا: وهو أول من هاجر من الخلق {إلى ربي} أي إلى الموضع الذي أمرني المحسن إليّ بالهجرة إليه، فلا يحجر عليّ أحد في عبادته فيه.(16/259)
ولما كان حال سامعه جديراً بأن يقول: من لك بالمعرفة بما يحصل قصدك هذا من التعريف بالموضوع وبما تفعل فيه مما يكون به الصلاح، وما تفعل في التوصل إليه؟ قال: {سيهدين *} أي إلى جميع ذلك بوعد لا خلف فيه إلى كل ما فيه تربية لي في أمر الهجرة لأنه أمرني بها، وهو لا يأمر بشيء إلا نصب عليه دليلاً يهدي إليه، ويسهل لقاصدة المجتهد في أمره سبيله، وقد اختلفت العبارات عن سير الأصفياء إلى الحضرات القدسية، فهذه العبارة عن أمر الخليل عليه السلام، وعبر عن أمر الكليم عليه السلام بقوله {ولما جاء موسى لميقاتنا} [الأعراف: 143] وعن أمر الحبيب عليه السلام بقوله {سبحان الذي أسرى بعبده} [الأسراء: 1] قال الأستاذ أبو القاسم القشيري وفصل بين هذه المقامات: إبراهيم عيله السلام كان بعين الفرق - يعني أنه بعدما كان فيه من الجمع حين كسر الأصنام من الفناء عما سوى الله رجع إلى حال الفرق لأنه لا بد من ذلك - وموسى عيله السلام بعين الجمع لأنه أخبر عن فعله من غير أن ينسب إليه قولاً، ثم أخبر أنه قال {رب أرني} فلم ير غيره سبحانه فطلب أن يريه وهذا هو الفناء، ونبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعين جمع الجمع - لأن لم ينسب إليه قول ولا فعل، بل هو المراد إلى أن قال {لنريه من آياتنا} فهذا هو الفناء حتى عن الفناء، ثم قال: {أنه هو(16/260)
السميع البصير} فأثبت له مع ذلك الكمال.
ولما لم يجد له معيناً على الهجرة غير لوط ابن أخيه عليهما السلام، قال منادياً مناداة الخواص بإسقاط الأداة: {رب} أي أيها المحسن إلي {هب لي من} أي ولداً من {الصالحين *} وأسقط الموصوف لأن لفظ الهبة غلب في الولد، فتسبب عن دعوته أنا استجبناها له {فبشرناه بغلام} أي بذكر في غاية القوة التي ينشأ عنها الغلمة.
ولما كان هذا الوصف ربما أفهم الطيش، وصفه بما أبقى صفاءه ونفى كدره فقال: {حليم *} أي لا يعجل بالعقوبة مع القدرة، لأنه في غاية الرزانة والثبات، فيكون ذلك إشارة إلى حصول بلاء ما يتبين به أنه سر أبيه أن إبراهيم لحليم، والحلم لا يكون إلا بعد العلم، ورسوخ العلم سبب لوجود الحلم، وهو اتساع الصدر لمساوىء الخلق ومدانىء أخلاقهم، وهذا الولد هو إسماعيل عليه السلام بلا شك لوجوه: منها وصفه بالحليم، ووصف إسحاق عليه السلام في سورة الحجر بالعليم، ومنها أن هذا الدعاء عند الهجرة حيث كان شاباً يرجو الولد، وهو بكره الذي ولد له بهذه البشرى، وهو الذي كان بمكة موضع الذبح، فجعلت(16/261)
أفعاله في ذبحه مناسك للحج في منى كما جعلت أفعال أمه في مكة المشرفة أول أمره عندما أشرف على الموت من العطش مناسك ومعالم هناك، وأما إسحاق عليه السلام فأتته البشرى فجأة وهو لا يرجو الولد لكبره ويأس أمرأته، ولذلك راجع في أمره ولم ينقل أنه فارق أمه من بيت المقدس، ولو كان هو الذبيح لذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوصفه حين سئل عن الأكرم فقال: «يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله» ، والرواية التي وردت بالإشارة إلى أنه الذبيح ضعيفة، بل صرح شيخنا ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأن في سندها وضاعاً، ولأن هذه السورة سورة التنزيه، فأحق الناس بالذكر فيها - كما سلف - أعرق الناس في قدم التجريد، وهو أولى الناس بذلك من حين كان حملاً إلى أن عولج ذبحه، ولم يذكر ظاهراً، فلو لم يكن المراد بهذا الكلام لكان ترك في هذه السورة - التي حالها هذا - من هو أرسخ الناس في الوصف المقصود بها، وذلك خارج عن نهج البلاغة التي هي مطابقة المقال لمقتضى الحال، بل هذا الحال لا يقتضي ذكر إسحاق عليه السلام، لأنه لم يعلم له تجرد متفق عليه، وما كان ذكره إلا لبيان جزاء إبراهيم عليه السلام لما اقتضاه مقامه في الاجسان في باب التجريد والفناء - والله الموفق.(16/262)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
ولما كانت البشرى من الله لا تتخلف، كان التقدير: فولد له غلام كما قلنا {فلما بلغ} أن يسعى كائناً {معه} أي مع أبيه خاصة ومصاحباً له {السعي} الذي يرضى به الأب ويوطن نفسه عنده على الولد ويثق به، ولا يتعلق مع مبلغ لاقتضائه بلوغهما معاً حد السعي، ولا معنى لذلك في حق إبراهيم عليه السلام ولا بالسعي، لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه، ولو أخر عنه لم يفد الاختصاص المفهم لصغر سنه المفيد للإعلام بأن يبلغ في ذلك معه ما لا يبلغه مع غيره لعظيم شفقة الأب، واستحكام ميل الابن الموجب لطاعته، واختلف العلماء في تقدير ذلك بالسن فقال بعضهم: ثلاث عشرة سنة، وبعضهم: سبع سنين، ولذلك قيده بالأب لأن غيره لا يشفق على الولد فيكلفه ما ليس في وسعه، وهو لم يبلغ كمال السعي {قال} أي إبراهيم عليه السلام: {يا بني} منادياً له بصيغة التعطف والشفقة والتحبب، ذاكراً له بالمضارع الحال الذي رآه عليه ومصوراً له، لا لتكرار الرؤيا فإنه غير محتاج إلى التكرار ولا إلى التروي، فإن الله تعالى أراه ملكوت السماوات والأرض، وأكد لما في طباع البشر من إحالة أن يقال ذلك على حقيقته، وإعلاماً بأنه منام وحي لا أضغاث أحلام:(16/263)
{إني أرى في المنام} أي وأنت تعلم أن رؤيا الأنبياء وحي {أني أذبحك} أي أعالج ذبحك في اليقظة بأمر من الله تعالى ولذلك كان كما قال، ولو عبر بالماضي لمضى وتم، وإنما كان في المنام في هذا الأمر الخطر جداً ليعلم وثوق الأنبياء عليهم السلام بما يأتيهم عن الله في كل حال.
ولما كان الأنبياء عليهم السلام أشفق الناس وأنصحهم، أحب أن يرى ما عنده، فإن كان على ما يحب سر وثبته وإلا سعى في جعله على ما يحب فيلقى البلاء وهو أهون عليه، ويكون ذلك أعظم لأجره لتمام انقياده، ولتكون المشاورة سنة، فإنه «ما ندم من استشار» سبب عن ذلك قوله: {فانظر} بعين بصيرتك {ماذا} أي ما الذي {ترى} أي في هذه الرؤيا، فهو اختبار لصبره، لا مؤامرة له {قال} تصديقاً لثناء الله عليه بالحلم: {يا أبت} تأدباً معه بما دل على التعظيم والتوفير {افعل ما تؤمر} أي كل شيء وقع لك به أمر من الله تعالى ويتجدد لك به أمر منه سبحانه لأني لا أتهمك في شفقتك وحسن نظرك، ولا أتهم الله في قضائه، والقصة دليل على وقوع الأمر بالممتنع لغيره ولأكثر الأوامر منه، وقد تقدم ذلك في البقرة عند {ءأنذرتهم أم لم تنذرهم} [(16/264)
البقرة: 6] .
ولما علم طاعته، تشوف السامع إلى استسلامه وصبره، فاستأنف قوله: {ستجدني} أي بوعد جازم لا تردد فيه صادق كما أخبر الله تعالى عنه، لا خلف فيه، وكان صادق الوعد.
ولما كان من أخلاق الكمل عدم القطع في المستقبلات لما يعلمون من قدرة الله تعالى على نقض العزائم بالحيلولة بين المرء وقلبه قال: {إن شاء الله} أي الذي اختص بالإحاطة بصفات الكمال؛ وأكد وعده بهذا الأمر الذي لا يكاد يصدق مثله بقوله: {من الصابرين} أي العريقين في الصبر البالغين فيه حد النهاية، وهو من أعظم ما أريد بقوله {وكان صادق الوعد} [مريم: 54] .
ولو بيد الحبيب سقيت سماً ... لكان السم من يده يطيب
وجعل هذا الأمر العظيم في المنام دلالة على صدق أحوال الأنبياء نوماً ويقظة، وصدق عزائمهم وانقيادهم لجميع الأوامر في جميع الأحوال، وروي أن الشيطان وسوس له في ذبحه فعرفه فرماه بسبع حصيات فصار ذلك شريعة في الجمار، ومن ألطف ما في ذلك أنهم لما كانوا في نهاية التجرد عن علائق الشواغل جعلت أفعالهم شعائر وشرائع لعبادة الحج التي روحها التجرد للوفود إلى الله تعالى.
ولما وثق منه، بادر إلى ما أمر به، ودل على قرب زمنه من زمن هذا القول بالفاء فقال: {فلما أسلما} أي ألقيا بالفعل على غاية الإخلاص حين المباشرة بجميع قواهما في يد الأمر، ولم يكن عند أحد منهما شيء من إباء ولا امتناع ولا حديث نفس في شيء من ذلك(16/265)
{وتلّه} أي صرعه إبراهيم عليهما السلام صرعاً جيداً سريعاً مع غاية الرضا منه والمطاوعة من إسماعيل عليه السلام، ودل على السرعة باللام الواقعة موقع «على» فقال: {للجبين *} أي أحد شقي الجبهة، وهي هيئة إضجاع ما يذبح، وهذا من قولهم: تله - إذا صرعه، وبه سمي التل من التراب، وتلك فلاناً في يدك أي دفعته سلماً، والجبين - قال في الصحاح: فوق الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها.
ولما كان من الواضح أن التقدير جواباً لما عالج ذبحه بعزم أمضى من السنان، وجنان في ثباته أيما جنان، فمنعناه من التأثير بقدرتنا، ورددنا شفرته الماضية عن عنقه اللينة بأيدينا وقوتنا، عطف عليه قوله: {وناديناه} وفخم هذا النداء بحرف التفسير فقال: {إن يا إبراهيم*} ولما كان محل التوقع الثناء عليه قال: {قد صدقت} أي تصديقاً عظيماً {الرؤيا} في أنك تذبحه، فإنك قد عالجت ذلك، وبدلت الوسع فيه، وفعلت ما رأيته في المنام، فما انذبح لأنك لم تر أنك ذبحته، فاكفف عن معالجة الذبح بأزيد من هذا. ولما كان التقدير: فجزيناك على ذلك لإحسانك فوق ما تحب، وجعلناك إماماً للمتقين، ووهبناك لسان صدق في الآخرين، وجعلنا آلك هم المصطفين، وملأنا منهم الخافقين، علله بأن ذلك سنته دائماً قديماً وحديثاً فقال ما يأتي.(16/266)
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في همة الذبح وعزمه، فكانت تلك الهمة التي تقصر عنها رتبها السها والسماك، والعزمة التي تتضاءل دون عليّ مكانتها وسني عظمتها عوالي الأفلاك، لا تسكن عن ثورانها، ولا تبرد عن غليانها وفورانها، إلا بأمر شديد، وقول جازم أكيد، قال مؤكداً تنبيهاً على أن همته قد وصلت إلى هذا حده، وأن امتثال الأمر أيسر من الكف بعد المباشرة بالنهي: {إنا كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين *} .
ولما كان جزاءه عظيماً جداً، دل على عظمه بأن علل إكرامه به بقوله معجباً ومعظماً مؤكداً تنبيهاً على أنه خارق للعادة: {إن هذا} أي الأمر والطاعة فيه {لهو البلاؤا} أي الاختبار الذي يحيل ما خولط به كائناً ما كان {المبين *} أي الظاهر في بابه جداً المظهر لرائيه انه بلاء.
ولما قدم ما هو الأهم من نهيه عن علاجه، ومن البشارة بالجزاء، ذكر فداءه بما جعله سنة باقية يذكر بها الذكر الجميل على مر الأيام وتعاقب السنين، ولما كان المفتدى منه من كان الأسير في يده، وكان إسماعيل في يد إبراهيم عليهما السلام، وهو يعالج إتلافه، جعل تعالى نفسه المقدس فادياً لأن الفادي من أعطى الفداء، وهو ما يدفع لفكاك(16/267)
الأسير، وجعل إبراهيم عليه السلام مفتدى منه تشريفاً له وإن كان في الحقيقة كالآلة التي لا فعل لها، والله تعالى هو المفتدى منه حقيقة فقال: {وفديناه} أي الذبيح عن إنفاذ ذبحه وإتمامه تشريفاً له {بذبح} أي بما ينبغي أن يذبح ويكون موضعاً للذبح، وهو كبش من الجنة، قيل: إنه الذي قربه هابيل فتقبله الله منه {عظيم *} أي في الجثة والقدر والرتبة لأنه مقبول ومستن به ومجعول ديناً إلى آخر الدهر.(16/268)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
ولما كان سبحانه إذا منّ بشيء علم أنه عظيم، فإذا ذكر الفعل وترك المفعول أراد فخامته وعظمته، قال: {وتركنا عليه} أي على الذبيح شيئاً هو في الحسن بحيث يطول وصفه. ولما كان بحيث لا ينسى قال: {في الآخرين *} ومن هذا الترك ما تقدم من وصفه بصدق الوعد، لأنه وعد بالصبر على الذبح فصدق.
ولما عظم الغلام، استأنف تعظيم والده بما يدل مع تشريفه على سلامته بقوله: {سلام على إبراهيم *} أي سلامة له ولولده وتسليم وتحية وتكريم في الدارين ولما كان هذا خطاباً لمن بعده عليه السلام وهم كلهم محبون مجلون معظمون مبجلون لم يكن هناك حال يحوج إلى تأكيد فقال: {كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين *}(16/268)
من غير أن يذكر «أن» المؤكدة، ولما كانت أهل الملل كلها متفقة على حبه، وكان كلهم يدعي اتباعه ورتبة قربه، قال معللاً لجزائه بهذا المدح في سياق التأكيد استعطافاً لهم إلى اتباعه في الإيمان وتكذيباً لمن ينكر أن يكون الإيمان موجباً للإحسان: {إنه من عبادنا} أي الذين يستحقون الإضافة في العبودية والعبادة إلينا {المؤمنين *} فلا يطمع أحد عري عن الإيمان في رتبة أتباعه، قال الرازي: الإيمان المطلق الحقيقي شهود جلال الله ووحدانيته والطمأنينة إليه في كل محبوب ومكروه، وترك المشيئة لمشيئته والانقياد لأمره في جميع أحواله. ولما أتم قصته في أمر الذبيح، وشرع في ذكر ما جازاه به على ذلك، جعل منه أمر إسحاق عليه السلام فقال: {وبشرناه} أي جزاء على صبره في المبادرة إلى امتثال الأمر في إعدام إسماعيل عليه السلام {بإسحاق} مولوداً زيادة له بعد ما سلمنا إسماعيل عليه السلام حال كونه {نبياً} أي في قضائنا أو بوجوده مقدرة نبوته. ولما كان هذا اللفظ قد يطلق على المتنبىء، أزال إشكال هذا الاحتمال وإن كان واهياً بقوله: {من الصالحين *} أي العريقين في رتبة الصلاح ليصلح لأكثر الأوصاف الصالحة. ولما أثنى على إبراهيم عيله السلام بما عالج مما لم يحصل لغيره مثله، وكان من أعظم جزاء الإنسان البركة في ذريته قال: {وباركنا عليه} أي على الغلام الحليم وهو الذبيح المحدث عنه الذي جر هذا الكلام كله الحديث عنه، وكان آخر ضمير محقق عاد عليه(16/269)
الهاء في «وفديناه» ثم في «وتركنا عليه في الآخرين» وهذا عندي أولى من إعادة الضمير على إبراهيم عليه السلام لأنه استوفى مدحه، ثم رأيت حمزة الكرماني صنع هكذا وقال: حتى كان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعرب من صلبه. {وعلى إسحاق} أي أخيه، قال حمزة الكرماني: حتى كان إسرائيل الله والأسباط من صلبه، وقال غيره: خرج من صلبه ألف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى عليه السلام.
{ومن ذريتهما} أي الأخوين ولا شك أن هذا أقرب وأقعد من أن يكون الضمير للأب والابن لأن قران الأخوين في الإخبار عن ذريتهما أولى من قران الابن مع أبيه في ذلك، فيكون الابن حينئذ من جملة المخبر عنه بذرية الأب {محسن وظالم لنفسه} حيث وضعها بما سبب عن المعاصي في غير موضعها الذي يحبه، وهذا مما يهدم أمر الطبائع حيث كان البر يوجد من الفاجر والفاجر يوجد من البر.
ولما كان الإنسان، وإن اجتهد في الإحسان، لا بد أن يحتاج إلى الغفران، لما له من النقصان، لأن رتبة الإلهية لا تصل إلى القيام بحقها العوائق البشرية، بين أن الظلم المراد هنا إنما هو التجاوز في الحدود بغاية الشهوة فقال: {مبين *} وأما غير ذلك فمغفور كما قرر في نحو {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} «ومن هم بسيئة ولم(16/270)
يعملها كتبت له حسنة» {وأن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31] .
قصة ذبح إبراهيم لولده عليهما السلام من التوارة وبيان أنهم بدلوها، قال مترجمهم: فغرس إبراهيم ببئر سبع غرساً، وبنى هنالك باسم الرب إله العالمين، وسكن إبراهيم أرض فلسطين - يعني عند تلك البئر - أياماً كثيرة. ولما كان من بعد هذه الخطوب امتحن الله إبراهيم، وقال له: يا إبراهيم! فقال: لبيك، فقال له: انطلق بابنك الوحيد إسحاق الذي تحبه إلى أرض الأمورانيين - وفي نسخة: إلى بلدة العبادة - وأصعده إليّ قرباناً على أحد تلك الجبال الذي أقول لك، فأدلج إبراهيم باكراً فأسرج حماره وانطلق بغلاميه وإسحاق ابنه، وشق حطباً للقربان ونهض وانطلق إلى الموضع الذي قال الله له، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم بصره ونظر إلى ذلك الموضع من بعيد فقال لغلاميه: امكثا هاهنا عند الحمار، وأنا والغلام ننطلق إلى هاهنا نصل ونرجع إليكما، فأخذ إبراهيم حطب القربان، وحمله إسحاق ابنه، وأخذ معه ناراً وسكيناً، وانطلقا كلاهما جميعاً، وقال إسحاق لأبيه إبراهيم: يا أبة، فقال له: لبيك، فقال له: هذه النار والحطب،(16/271)
أين حمل القربان، فقال إبراهيم: الله يعد لنا حملاً للقربان يا بني، فانطلقا جميعاً حتى انتهيا الى الموضع الذي قال الله، فبنى هنالك إبراهيم مذبحاً ونضد عليه الحطب وكتف إسحاق فوضعه في أعلى المذبح على الحطب، ومد يده إبراهيم فأخذ السكين ليذبح ابنه، فدعاه ملاك الرب من السماء وقال: يا إبراهيم يا إبراهيم، فقال: لبيك! فقال: لا تبسط يدك على الغلام ولا تصنع به شيئاً لأنك قد أظهرت الآن أنك تتقي الله إذا لم تمنعني ابنك الوحيد، فمد إبراهيم بصره فإذا كبش معلق في شجرة بقرنيه، فانطلق إبراهيم فأخذ الكبش فأصعده قرباناً بدل ابنه اسحاق، فسمى إبراهيم ذلك الموضع «الله يتجلى» كما يقال: الله في هذا الجبل، الله يتجلى، فدعا ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال: بي أقسمت، يقول الرب: بدل ما صنعت هذا الصنيع ولم تمنعني ابنك الوحيد لأباركنك بركة تامة ولأكثرن نسلك مثل كواكب السماء، ومثل الرمل الذي على شاطئ البحر ويرث زرعك أراضي أعدائي وفي نسخة: أعداءه - ويتبارك بنسلك جميع الشعوب لأنك أطعتني، فرجع إبراهيم إلى غلاميه وانصرفوا جميعاً إلى بئر السبع وأقام ثمًّ - وفي نسخة: وسكن إبراهيم(16/272)
بئر السبع - انتهى ما عندهم بلفظه فانظر إليه واجمع بينه وبين ما تقدم في البقرة من قصة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام تجدهم قد بدلوها بلا شك، لأن الكلام ينقض بعضه بعضاً، وذلك أنه قال في هذه القصة «انطلق بابنك الوحيد» وكرر وصفه بالوحيد في غير موضع، وهذا الوصف إنما يكون حقيقة لإسماعيل عليه السلام وهو دون البلوغ، وأما إسحاق عليه السلام فلم يكن وحيداً ساعة من الدهر، بل ولد وإسماعيل عليه السلام ابن ثلاث عشرة سنة ونيف بشهادة ما عندهم من التوراة، وقوله في آخر القصة «ويتبارك بنسلك جميع الشعوب» لا يكون في غاية الملاءمة إلا لإسماعيل عليه السلام، وأما إسحاق عليه السلام فإنما بورك بنسله الأراضي المقدسة فقط، ولم يتبعهم من غيرهم إلا قليل، بل كانوا هم في كل قليل يتبعون غيرهم على عبادة أوثانهم بشهادة توراتهم وأسفار أنبيائهم يوشع بن نون ومن بعده عليهم السلام، وأما نسل إسماعيل عليه السلام فتبعهم على الدين الحق من جميع الأمم ما لا يحصى عدده ولم يتبعوا هم بعد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحداً من الأمم على عبادة غير الله - هذا وفي المتقدم في سورة البقرة أن هبة سارة أمتها هاجر رضي الله عنها لإبراهيم عليه السلام كان بعد أن سكن كنعان(16/273)
بعشر سنين، وأن إسماعيل عليه السلام ولد لإبراهيم عليه السلام وهو ابن ست وثمانين سنة، وأن الله تعالى أمره بالختان وهو ابن تسع وتسعين سنة، وأنه في ذلك الوقت بشر بإسحاق عليه السلام، فختن إسماعيل عليه السلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وثم ولد له إسحاق عليه السلام وقد أتى عليه مائة سنة، ثم قال ما نصه: وصنع إبراهيم يوم فطم إسحاق ابنه مأدبة عظيمة فأبصرت سارة ابن هاجر المصرية المولود لإبراهيم عليه السلام لاعباً، فقالت لإبراهيم عليه السلام: أخرج هذه الأمة عني، لأن ابن الأمة لا يرث مع إسحاق ابني، فشق هذا الأمر على إبراهيم لمكان ابنه، فقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: لا يشقن عليك حال الصبي وأمتك، أطع سارة في جميع ما تقول لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق، وابن الأمة أجعله لشعب كثير لأنه من ذريتك، فغدا إبراهيم عليه السلام باكراً وأخذ خبزاً وإداوة من ماء، فأعطاها هاجر وحملها الصبي والطعام - إلى آخر ما في البقرة فقوله «إن هاجر طردت بعد فطام إسحاق وابنها تحمل» لا يصح، وقد تقدم أن عمره يوم فطام إسحاق خمس عشرة سنة، وتقدم أيضاً أن سارة أمرته بطردها وهي حبلى، وأنه سلمها لها فطردتها، وان الملك لقيها فبشرها بإسماعيل(16/274)
ولم يذكر في نسختي - وهي قديمة جداً - شيئاً يدل على رجوعها، وأما في نسخة عندهم فقال: إن الملك قال لها: ارجعي إلى سيدتك واستكدي تحت يدها - ولم يذكر أنها رجعت، وقد صح الخبر عندنا بقول نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن إبراهيم عليه السلام وضع هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام، عند البيت الحرام وهو يرضع، واستمرا هناك إلى أن ماتت هاجر رضي الله عنها، وتزوج إسماعيل عليه السلام وبنى البيت مع أبيه عليهما السلام، وقوله «لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق عليه السلام» غير مطابق للواقع، فإن شهرة العرب بإبراهيم عليه السلام أن لم تكم أن أكثر من شهرة بني إسحاق بذلك فهي مثلها، وخبر الله لا يتخلف، فدل هذا كله أنهم بدلوا القصة وحرفوها، فلا متمسك فيها لهم، ودلالتها على أن الذبيح إسماعيل عليه السلام أولى من دلالتها على غير ذلك لوصفه بالوحيد - والله أعلم كيف كانت القصة قبل التبديل؟ ومما يدل على ما فهمت من تبديلهم لها ما قال البغوي: قال القرظي يعني محمد بن كعب -: سأل عمر بن عبد العزيز رجلاً كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه: أي ابني إبراهيم عليه السلام أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل يا أمير المؤمنين! إن اليهود لتعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله(16/275)
بذبحه ما كان، ويزعمون أنه أبوهم، ومن الدليل على أنه إسماعيل عليه السلام أن الله تعالى لما بشر بإسحاق بشر بأنه يولد له يعقوب، فلا يليق الامتحان به بعد علمه بأنه لا يموت حتى يولد له، ومن الدليل على ذلك أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل عيله السلام إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في زمان ابن الزبير والحجاج، قال الشعبي: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: والذين نفسي بيده! لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة، وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح: إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال: يا أصيمع! أين ذهب عقلك؟ متى كان إسحاق بمكة؟ إنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بني البيت مع أبيه - انتهى ما قال البغوي.
وفي كتاب الحج من سنن أبي داود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعثمان - وهو الحجبي رضي الله عنه: «إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي» ورواه عبد الرزاق في جامعه ولفظه أن عثمان بن شيبة رضي الله عنه قال: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/276)
قال له: «إني رأيت قرني الكبش فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصلياً» - هكذا قال: عثمان بن شيبة، ولعله ابن طلحة، فيكون المتقدم ويكون تسمية أبيه شيبة وهما، أو يكون شيبة بن عثمان وهو ابن عم الذي عند أبي داود فأنقلب - والله أعلم، وروى عبد الرزاق أيضاً عن ابن جريح قال: أخبرنا عبد الله بن شيبة بن عثمان، وسألته هل كان في البيت قرنا كبش؟ قال: نعم، كانا فيه، قلت: أرأيتهما؟ قال: حسبت، ولكن أخبرني عبد الله بن بابيه أن قد رآهما، قال: وغيره قد رآهما فيه، قال: ويقولون: إنهما قرنا الكبش الذي ذبح إبراهيم عليه السلام، قال ابن جريج وقالت صفية ابنة شيبة: كان فيه قرنا الكبش، قال ابن جريح: وحدثت أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانا فيه. قال: وحدثت عن عجوز قلت: رأيتهما فيه، ومما يؤيد القول بأنه إسماعيل عليه السلام وصف الله تعالى له بأنه صادق الوعد، ولا صدق في وعد أعظم من صدقه في وعده بالصبر على الذبح، وممن قال من بني إسرائيل أنه إسماعيل عليه السلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه - حكاه عن ابن الجوزي، وعد القائلين بكل من القولين من الصحابة وغيرهم فقال:(16/277)
إن القائلين بأنه إسحاق: عمر وعلي والعباس وابن مسعود وأبو موسى وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم، وبأنه إسماعيل: ابن عمر، وأن الرواية اختلفت عن ابن عباس رضي الله عنهما، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق، وعطاء ومجاهد والشعبي وأبو الجوزاء ويوسف بن مهران أنه إسماعيل، فعلم من هذا رجحان القول بأنه إسماعيل، لأن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما تأخرا بعد من ذكر من أكابر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فلولا أنه رجح عندهما ما خالفا أبويهما، ونقل عكرمة عن ابن عباس بموافقة أبيه لا يقدح في ذلك بل يؤيده لأن الأكثر كما ترى رووا عنه الثاني، فلولا أنه صح عنده ما رجع عن الأول الذي هو موافق لرأي أبيه، ولأجل ثباته عليه اشتهر عنه - والله أعلم.(16/278)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
ولما ذكر هؤلاء السادة الذين لهم من رتبة التجرد والنزاهة ما تقدم بيانه، وختمهم بأخوين ما اجتمعا قط، وكان من أعظم المقاصد بذكرهم المنة على من اتصف بمثل صفاتهم بالقرب والنصرة تسلية وترجية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولمن اتبعه من المؤمنين ممن قارب - من شدة البلاء والقهر - اليأس من النصر، أتبعهم بأمثالهم في التجرد وابتدأهما بأخوين افترقا حين ولادة الثاني على حالة لا يمكن الاجتماع(16/278)
معها عادة، ثم اجتمعا في الباطن مع الافتراق في الظاهر ثم افترقا على حالة يبعد الاجتماع معها عادة ثم اجتمعا اجتماعاً لم يفترقا منه إلا بالموت وبدأهما بأول من تجرد منهما من حين ولادته إلى أوان هجرته، ثم من حين رجعته إلى أن جرد آله - وهم بعض ذرية إبراهيم عليه السلام - وأنقذهم من علائق الكفرة، ثم تجرد معهم هو وأخوه عن المدن والقرى وأكثر علائق البشر، ملازمين البراري والفلوات حيث يكثر ظهور الكلمة مع إرسال الله إليهما بمعادن الحكمة إلى أن ماتا عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام، فقال مؤكداً تنبيهاً لمن يعد نصر المؤمنين محالاً، عاطفاً على ما تقديره: فلقد أنشأنا منهما من الأمم ما يعجز الوصف ويفوت الحصر، ومننا على كثير منهم بالإحسان من ولد إسماعيل عليه السلام إلى أن غير دينه عمرو بن لحي، ومن ولد إسحاق يعقوب والأسباط عليهم السلام ومن شاء الله من أولادهم: {ولقد مننا} أي أنعمنا إنعاماً مقطوعاً به بما لنا من العظمة، على أول من أظهر لسان الصدق لإبراهيم عليه السلام وذريته اظهاراً تاماً. وبدأهما بأعرقهما - كما تقدم - في التجرد وأحقها بالتقدم فقال: {على موسى} أحد أعيان المتجردين، ومن له القدم الراسخ في ذلك {وهارون*} أي عين من تجرد مع أخيه ووافقه أتم موافقة، ووازره أعظم موازرة، بما أتيا به من(16/279)
النبوة والكتاب وغير ذلك من أنواع الخطاب.
ولما كان جل المقصود - كما مضى - مقام التجرد، والإعلام بنصر المستضعفين من المؤمنين، قال: {ونجيناهما وقومهما} أي بني إسرائيل وقد كانوا مرت لهم دهور في ذل لا يقاربه ذل المؤمنين من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول أمرهم {من الكرب العظيم *} أي الاستبعاد، وما يتبعه من عظائم الأنكاد، وكان ذلك بهلاك القبط الذين استمروا على الضلال، وهم أضعاف أضعاف بني إسرائيل، إلى أن أهلكناهم فلم يفلت منهم إنسان، فصح لبني إسرائيل حينئذ التجرد وزال عنهم ذل التجبر والتمرد.
ولما بين نعمة النجاة من الأسر، أتبعها نعمة الالتذاذ بالنصر، فقال: {ونصرناهم} أي موسى وهارون عليهما السلام وقومهما على كل من نازعهم في ذلك الزمان من فرعون وغيره {فكانوا هم} أي خاصة {الغالبين *} أي على كل من يسومهم سوء العذاب، وهو فرعون وآله وعلى جميع من ناووه أو ناواهم، فاحذروا يا معشر قريش(16/280)
والعرب من مثل ذلك، ولقد كان ما حذرهم منه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أعظم ما يمكن أن يكون إلا نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان نبي الرحمة لين الله قلوبهم حتى ردهم إلى ما اغتبطوا به من متابعته، فصاروا به ملوك الدنيا والآخرة.
ولما كانت فائدة النصرة التمكن من إقامة الدين قال: {وآتيناهما} أي بعظمتنا بعد إهلاك عدوهم {الكتاب المستبين *} أي الجامع البين الذي هو لشدة بيانه طالب لأن يكون بيناً وهو كذلك فإنه ليس شيء من الكتب مثل التوراة في سهولة مأخذها، وجمع هارون عليه السلام معه في الضمير لأنه مثله في تقبل الكتاب والعمل بجميع ما فيه والثبات على ما يدعو إليه وإن كان نزوله خاصاً بموسى عليه السلام: {وهديناهما الصراط} أي الطريق الواضح في الإيصال إلى المقصود {المستقيم *} أي الذي هو لعظيم تقومه كأنه طالب لأن يكون قويماً، فهو في غاية المحافظة على القوم فلا يزيغ أصلاً، ولذلك هو شرائع الدين القيم.
ولما كان الذكر الجميل عند ذوي الهمم العالية والعزائم الوافية هو الشرف قال: {وتركنا عليهما} أي ما تعرفون من الثناء الحسن(16/281)
{في الآخرين *} أي كل من يجيء بعدهما إلى يوم الدين. ولما ظهر بهذا أن لهما من الشرف والسؤدد أمراً عظيماً كانت نتيجته: {سلام} أي عظيم {على موسى} صاحب الشريعة العريق في الاتصاف بمقصود السورة {وهارون *} وزيره وأخيه. ولما كان نصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه من الضعفاء على قريش وسائر العرب عند قريش في غاية البعد، وكان التقدير: فعلنا معهما ذلك لإحسانهما، علله بما يقطع قلوب قريش في مظهر التأكيد فقال: {إنا كذلك} أي مثل هذا الجزاء {نجزي} أي دائماً في كل عصر {المحسنين *} أي العريقين في هذا الوصف؛ ثم علل إحسانهما وبينه وأكده ترغيباً في مضمونه، وتكذيباً لمن يقول: إن المؤمنين لا ينصرون، بقوله: {إنهما من عبادنا} أي الذين محضوا العبودية والخضوع لنا {المؤمنين *} أي الثابتين في وصف الإيمان.(16/282)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
ولما كان إلياس أعظم المتجردين من أتباعهما المجددين لما درس من أحكام التوراة، وكان ترك أحكامها مع ما وصفت به من البيان وما دعت إليه من الاستقامة في غاية من الضلال تكاد أن لا يصدق(16/282)
مثلها أشار إلى الزيغ عنه بياناً لأن القلوب بيده سبحانه فقال مؤكداً: {وإن إلياس} أي الذي كان أحد بني إسرائيل عند جميع المفسرين إلا ابن مسعود وعكرمة، وهو من سبط لاوي، ومن أولاد هارون عليه السلام، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو عم اليسع عليهم السلام، وأرسلناه إلى من كان منهم في أرض بعلبك ونواحيها، فلما لم يرجعوا إليه نزعنا عنه الشهوات الإنسانية وخلقناه بالأوصاف الملكية، ولا يبعد أن يكون الداعي إلى تسميته بهذا الاسم ما سبق في علم الله أنه ييأس ممن يدعوهم إلى الله فيكون ممن يأتي يوم القيامة وما معه إلا الواحد أو الاثنان كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما رواه الشيخان: البخاري في الرقاق والطب، ومسلم في الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما: «عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه رهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد» ، فجعل سبحانه اسمه مناسباً لأمره في قومه بيأسه منهم حين فر إلى الجبال من شرهم، ويأسهم من القدرة على قتله، فإنهم اجتهدوا في ذلك حتى أعياهم، وأدل دليل على هذا المعنى قراءة ابن عامر بخلاف عنه بوصل الهمزة في الدرج وفتحها في الابتداء، وإن قال العلماء كما حكاه السمين في إعرابه: إن ذلك من تلاعب(16/283)
العرب بالأسماء العجمية، قطعوا همزته تارة ووصلوها أخرى، يعني فخاطبهم سبحانه بما ألفوه من لسانهم {لمن المرسلين} أي إلى من بدل أمر التوارة ونابذ ما دعت إليه {إذ قال لقومه} منكراً عليهم ما من حقه الإنكار بقوله: {ألا تتقون *} أي يوجد منكم تقوى وخوف، فإن ما أنتم عليه يقتضي شراً طويلاً، وعذاباً وبيلاً، وما أنتم عليه من السكون والدعة يقتضي أنه لا خوف عندكم أصلاً، وذلك غاية الجهل والاغترار بمن تعلمون أنه لا خالق لكم ولا رازق غيره.
ولما كان هذا الإنكار سبباً للإصغاء، كرره مفصحاً بسببه فقال: {أتدعون بعلاً} أي إلهاً ورباً، وهم صنم كان لهم في مدينة بعلبك كان من ذهب طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه، فكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها، وهم أربعمائة ويعلمونها الناس، ويحتمل أن يكون علماً على الصنم المذكور فيكون المفعول الثاني منوياً، وحذف ليفهم الدعاء الذي لا دعاة يشبهه وهو الدعاء بالإلهية، ومن قرأ شاذاً «بعلاء» بوزن «حمراء» فهو إشارة إلى كثرة حث امرأة الملك على عبادة بعل وقتل إلياس عليه السلام، وطاعة زوجها لها في ذلك - كما حكاه البغوي، فاستحق التأنيث لذلك،(16/284)
فأنث لكثرة ملابستها له، والجنسية علة الصنم.
ولما كان دعاؤهم إياه للعبادة بينه بقوله: {وتذرون} ومادة «وذر» تدور على ما يكره، فالمعنى: وتتركون ترك المهمل الذي من شأنه أن يزهد فيه، ولو قيل: وتدعون - تهافتاً على الجناس لم يفد هذا وانقلب المراد. ولما كان الداعي لا يدعو إلا بكشف ضر أو إلباس نفع، فكان لا يجوز أن يدعو إلا من يقدر على إعدام ما يشاء وإيجاد ما يريد، قال منبهاً لهم على غلطهم في الفعل والترك: {أحسن الخالقين *} أي وهو من لا يحتاج في الإيجاد والإعدام إلى أسباب فلا تعبدونه.
ولما كان الإنسان يعلم يقيناً أنه لم يرب نفسه إلا بالإنشاء من العدم ولا بما بعده، وكان الإحسان أعظم عاطف للإنسان، قال مبيناً لمن أراد مذكراً لهم بإحسانه إليهم وإلى من يحامون عنهم، ويوادون من كان يوادهم بالتربية بعد الإنشاء من العدم الذي هو أعظم تربية مفخماً للأمر ومعظماً بالإبدال في قراءة الجماعة بالرفع: {الله} فذكر بالاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات تنبيهاً على أنه الأول المطلق الذي لم يكن شيء إلا به {ربكم} أي المحسن إليكم وحده. ولما كانوا ربما أسندوا إيجادهم إلى من قبلهم غباوة منهم أو عناداً قال:(16/285)
{ورب آبائكم الأولين *} أي الذين هم أول لكم، فشمل ذلك آباءهم الأقربين، ومن قبلهم إلى آدم عليه السلام.
ولما كان من أعظم المقاصد - كما مضى - التسلية والترجية، سبب عن دعائه قوله: {فكذبوه} ولما كانت الترجية مستبعدة، سبب عن التكذيب قوله مؤكداً لأجل تكذيبهم: {فإنهم لمحضرون *} أي مقهورون على إقحامنا إياهم فيما نريد من العذاب الأدنى والأكبر، وذكرهم بالسوء واللعن على مر الآباد وإن كرهوا {إلا عباد الله} أي الذين علموا ما لهم من مجامع العظمة فعملوا بما علموا فلم يدعوا غيره فإنهم لم يكذبوا؛ ثم وصفهم بما أشار إليه من الوصف بالعبودية والإضافة إلى الاسم الأعظم فقال: {المخلصين *} أي لعبادته فلم يشركوا به شيئاً جلياً ولا خفياً، فإنهم ناجون من العذاب.
ولما جاهد في الله تعالى وقام بما يجب عليه من حسن الثناء، جازاه سبحانه فقال: عاطفاً على «فإنهم لمحضرون» {وتركنا عليه} أي من الثناء الجميل وجميع ما يسره: {في الآخرين *} أي كل من كان بعده إلى يوم الدين. ولما كان السلام اسماً جامعاً لكل خير لأنه إظهار الشرف والإقبال على المسلم عليه بكل ما يريد، أنتج ذلك قوله: {سلام} ولما كان في اسمه على حسب تخفيف العرب له لغات إحداهما توافق الفواصل، فكان لا فرق في تأدية المعنى بين(16/286)
الإتيان بما اتفق منها، وكان ما كثرت حروفه منها أضخم وأجل وأفخم، وكان السياق بعد كثير من مناقبه لنهاية المدحة، كان الأحسن التعبير بما هو أكثر حروفاً وهو موافق للفواصل ليفيد ذلك تمكينه في الفضائل ولتحقق أنه اسم أعجمي لا عربي مشتق من الياس وإن أوهمت ذلك قراءة ابن عامر بوصل همزته فقال: {على آل ياسين *} ومن قرأ آل يس فيجوز أن يكون المراد في قراءته ما أريد من القراءة الأخرى لأن أهل اللغة قالوا: أن الآل هو الشخص نفسه، ويس إما لغة في إلياس أو اختصرت اللغة الثانية التي هي إلياسين فحذف منها الهمزة المكسورة مع اللام، ويجوز أن يكون المراد بآله أتباعه، ويكون ذلك أضخم في حقه لما تقدم مما يدعو إليه السياق، ويجوز أن يقصد بهذه القراءة جميع الأنبياء المذكورين في هذه السورة الذين هو أحدهم، أي على الأنبياء المذكورين عقب سورة يس دلالة على ما دعت إليه معانيها من الوحدانية والرسالة والبعث وإذلال العاصي وإعزاز الطائع المجرد لنفسه في حب مولاه عن جميع العوائق، القاطع للطيران إليه أقوى العلائق، وخص بهذا هذه القصة لأنها ختام القصص المسلم فيها على أهلها.(16/287)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)
ولما أظهر سبحانه شرف إلياس عليه السلام أو الأنبياء الذين هو أحدهم، علله مؤكداً له تنبيهاً على أنه لا بد من إعلاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباعه على كل من يناويهم وإن كذبت بذلك قريش فقال: {إنا كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين *} أي الذين هو من أعيانهم؛ ثم علل الحكم بإحسانه مؤكداً لما مضى في مثله بقوله: {إنه من عبادنا} أي الجديرين بالإضافة إلينا {المؤمنين *} ويستفاد من التأكيد أيضاً التنبيه على رسوخ قدمه في الإيمان وأنه بحيث تشتد الرغبة ويقوى النشاط في الإخبار به على ذلك الوجه.
ولما أتم ما أراد سبحانه من أمور المحسنين من ذرية إبراهيم عليه السلام المرسلين إلى ذريته في التسلية، والترجية وقدمهم لأن المنة عليهم منه عليه، والإنسان بابنه أسر منه بقريبه، وهم الذين أظهر الله بهم وما ترك عليه، من لسان الصدق في الآخرين. أتبعهم قصة ابن أخيه مع أهل بلاد الأردن من غير قومهم، فقال مؤكداً للتنبيه على نصر المؤمنين وإن كانوا في القلة والذلة على حال لا يظن انجباره وتكذيباً لليهود المكذبين برسالته أو الشاكين فيها: {وإن لوطاً} أي الذي جرد نفسه من مألوفها من بلاده وعشائره بالهجرة مع عمه إبراهيم(16/288)
عليهما السلام {لمن المرسلين *} ولما كان جل المقصود تبشير المؤمنين وتحذير الكافرين، وكان مخالفه كثيراً، وكان هو غريباً بينهم، قال في مظهر العظمة: {إذ نجيناه} أي على ما لمخالفيه من الكثرة والقوة، ولم يذكرهم لأنهم أكثر الناس انغماساً في العلائق البشرية والقاذورات البهيمية التي لا تناسب مراد هذه السورة المنبني على الصفات الملكية {وأهله أجمعين *} ولما كان الكفر قاطعاً للسبب القريب كما أن الإيمان واصلاً للسبب البعيد قال: {إلا عجوزاً} أي وهي امرأته فإن كفرها قطعها عن الدخول في حكم أهله فجردوا عنها، كائنة {في الغابرين *} أي الباقين في غبرة العذاب ومساءة الانقلاب.(16/289)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
ولما ذكر نجاته وابتدأ بها اهتماماً بالترجية قال مخوفاً معبراً بأداة البعد إفادة مع الترتيب لعظيم رتبة ما دخلت عليه: {ثم دمرنا} أي أهلكنا بما لنا من العظمة {الآخرين *} أي فجردنا الأرض من قاذوراتهم ونزهنا البلاد المقدسة منهم ومن أرجاس فعلاتهم، فلم نبق منهم أحداً ولا احتجنا في إهلاكهم إلى استئذان أحد. ولما كان المقصود من مثل هذا تحذير المخالفين، وكان تجار قريش يرون البقعة التي كانت فيها أماكن قوم لوط، وهي البحيرة المعروفة، ولا يعتبرون بهم، عدّوا(16/289)
منكرين للمرور عليهم فأبرز لهم الكلام في سياق التأكيد فقيل: {وإنكم} أي فعلنا بهم هذا والحال أنكم يا معشر قريش {لتمرون عليهم} أي مواضع ديارهم في تجاراتكم إلى الشام {مصبحين *} أي داخلين في الصباح الوقت الذي قلبنا مدائنهم عليهم فيه، ونص عليه للتذكير بحالهم فيه.
ولما كان لليل منظر في الهول غير منظر النهار قال: {وبالليل} ولما كان أمرهم كافياً للعاقل في التقوى، أنكر عليهم تماديهم فيما كان سبب أخذهم من تكذيب الناصح فقال: {أفلا تعقلون *} أي يكون لكم عقول فتعتبروا بحالهم، فتخافوا مثل مآلهم، قتصدقوا رسولكم فإنكم أجدر منهم بالأخذ لأنه منكم وأنتم تعرفون من شرف أصله وكريم قوله وفعله ما لا يعرفه أولئك من رسولهم.
ولما أكمل سبحانه ما أراد من أمور من كان على أيديهم هلاك في الدنيا أو في الآخرة، ختم بمن آل أمر قومه إلى سلامة وإيمان ونعمة وإحسان تغليباً للترجية على التأسية والتعزية فقال مؤكداً لأن ما يأتي من ذكر الاباق وبما أوهم شيئاً في أمره: {وإن يونس} أي أحد أنبياء بني إسرائيل وهو يونس بن متى عليه السلام، حكى البغوي في قصة إلياس عليه السلام أنه لما أرسله الله تعالى إلى سبطه من بني إسرائيل الذين كانوا في مدينة بعلبك، فكذبوه وأراد ملكهم قتله(16/290)
فاختفى في تلك الجبال، اشتاق إلى الناس فنزل فمكث عند امرأة من بني إسرائيل وهي أم يونس بن متى عليه السلام، وكان يونس إذ ذاك رضيعاً ثم رجع إلى الجبال فمات يونس عليه السلام، فأتت أمه إلى تلك الجبال، فما زالت تطوف حتى ظفرت بإلياس عليه السلام، فسألته أن يدعو لابنها فيحييه الله، فقال لها: إني لم أومر بهذا، وإنما أنا عبد مأمور، فجزعت فزاد جزعها وتضرعها إليه، فرق لها ورحمها وسار معها فوصل إلى بيتها بعد أربعة عشر يوماً من حين مات، وهو مسجى في ناحية البيت، فدعا الله فأحياه لها، وعاد إلياس عليه السلام إلى جبله {لمن المرسلين *} .
ولما كان من أعظم المقاصد التسلية على استكبارهم عن كلمة التوحيد وقولهم: أنه شاعر مجنون، ذكر من أمر يونس عيله السلام ما يعرف منه صعوبة أمر الرسالة وشدة خطبها وثقل أمرها وشدة عنايته سبحانه بالرسل عليهم السلام وأنه ما اختارهم إلا عن علم فهو لا يقولهم وإن اجتهدوا في دفع الرسالة ليزدادوا ثباتاً لأعبائها وقوة في القيام بشأنها فقال: {إذ أبق} أي هرب حين أرسل من سيده الذي تشرفه الله بالرسالة ضعفاً عن حملها لأن الاباق الهرب من السيد إلى حيث يظن أنه يخفى عليه {إلى الفلك} أي البيت الذي(16/291)
يسافر فيه على ظهر البحر.
ولما كان فعله على صورة فعل المشاحن وكان قصده الإيغال في البعد والإسراع في النقلة قال: {المشحون *} أي الموقر ملأ، فلا سعة فيه لشيء آخر يكون فيه، فليس لأهله حاجة في الإقامة لحظة واحدة لانتظار شيء من الأشياء فحين وضع رجله فيه ساروا، فاضطرب عليهم الأمر وعظم الزلزال حتى أشرف مركبهم على الغرق على هيئة عرفوا بها أن ذلك لعبد أبق من سيده، فإن عند أهل البحر أن السفينة لا يستقيم سيرها وفيها آبق - نقله الكرماني وغيره عن ابن عباس رضي الله الله عنهما، فسبب لهم ذلك المساهمة أي المقارعة كما هو رسمهم في مثل ذلك الأمر فاستهموا فساهم، أي قارع يونس عليه السلام معهم؛ قال البغوي: والمساهمة إلقاء السهام على جهة القرعة. ولما آل وقوع القرعة عليه إلى رميه من السفينة من محل علو إلى أسفل، عبر عن ذلك بما يدل على الزلق الذي يكون من علو إلى سفل فقال مسبباً عن المساهمة: {فكان من المدحضين *} أي الموقعين في الدحض، وهو الزلق، فنزل عن مكان الظفر بأن وقعت القرعة فرموه في البحر {فالتقمه} أي ابتلعه كما تبتلع اللقمة {الحوت} أي المعروف من جهة أنه لا حوت أكبر منه، فكأنه لا حوت غيره(16/292)
{وهو} أي والحال أن يونس عليه السلام {مليم *} أي داخل في الملامة.(16/293)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
ولما وقع ما وقع فتجرد عن نفسه وغيرها تجرداً لم يكن لأحد مثل مجموعه لا جرم، زاد في التجرد بالفناء في مقام الوحدانية فلازم التنزيه حتى أنجاه الله تعالى، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {فلولا أنه كان} أي خلقاً وخلقاً {من المسبحين *} أي العريقين في هذا المقام، وهو ما يصح إطلاق التسبيح في اللغة عليه من التنزيه بالقلب واللسان والأركان بالصلاة وغيرها لأن خلقه مطابق لما هيىء له من خلقه، فهو لازم لذلك في وقت الرخاء والدعة والخفض والسعة، فكيف به في حال الشدة، وحمله ابن عباس رضي الله عنهما على الصلاة {للبث في بطنه} أي حيّاً أو بأن يكون غذاء له فتختلط أجزاؤه باجزائه {إلى يوم يبعثون *} أي هو والحوت وغيرهما من الخلائق، وعبر بالجمع لإفادة عموم البعث، ولو أفرد لم يفد بعث الحيوانات العجم، ولو ثنى لظن أن ذلك له وللحوت خاصة لمعنى يخصها فلا يفيد بعث غيرهما، وقيل: للبث حيّاً في بطنه، وفي الآية إشارة إلى حديث «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» وحث على الذكر(16/293)
وتعظيم لشأنه.
ولما كان التقدير: ولكنه لما كان ذكاراً لله في حال الرخاء ذكرناه في حال الشدة، فأنجيناه من بطنه، وأخرجناه منه سالماً، وكان ذلك أمراً باهراً للعقل، أبرزه في مظهر العظمة فقال: {فنبذناه} أي ألقيناه من بطن الحوت إلقاء لم يكن لأحد غيره. وكان ذلك علينا يسيراً {بالعراء} أي المكان القفر الواسع الخالي عن ساتر عن نبت أو غيره، وذلك بساحل الموصل، وقال أبو حيان: قذفه في نصيبين من ناحية الموصل: {وهو سقيم *} أي عليل جداً مما ناله من جوف الحوت بحيث أنه كان كالطفل ساعة يولد وهو إذ ذاك محمود غير مذموم بنعمة الله التي تدراكته، فكان مجتبى ومن الصالحين {وأنبتنا} أي بعظمتنا في ذلك المكان لا مقتضى للنبات مطلقاً فيه فضلاً عما لا ينبت إلا بالماء الكثير.
ولما كان سقمه متناهياً بالغاً إلى حد يجل عن الوصف، نبه عليه بأداة الاستعلاء فقال: {عليه} أي ورفعناها حال إنباتنا إياها فوقه لتظله كما يظل البيت الإنسان. ولما كان الدباء عن النجم، وكان قد أعظمها سبحانه لأجله، عبر عنها بما له ساق فقال: {شجرة} ولما كانت هذه العبارة مفهمة لأنها مما له ساق، نص على خرق العادة بقوله:(16/294)
{من يقطين *} أي من الأشجار التي تلزم الأرض وتقطن فيها وتصلح لأن يأوي إليها ويقطن عندها حتى يصلح حاله، فإنه تعالى عظمها وأخرجها عن عادة أمثالها حتى صارت عليه كالعريش، واليقطين: كل ما يمتد وينبسط على وجه الأرض ولا يبقى على الشتاء ولا يقوم على ساق كالبطيخ والقثاء، والمراد به هنا - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما شجرة القرع لعظم ورقها وبرد ظلها ونعومة ملمسها وأن الذباب لا يقربها، قال أبو حيان: وماء ورقه إذا رش به مكان لا يقربه ذباب أصلاً، وقال غيره: فيه ملاءمة لجسد الإنسان حتى لو ذهبت عظمة من رأسه فوضع مكانها قطعة من جلد القرع نبت عليها اللحم وسد مسده، وهو من قطن بالمكان - إذا أقام به إقامة زائل لا ثابت.
ولما كان النظر إلى الترجية أعظم، ختم بها إشارة إلى أنه لا يميته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يقر عينه بأمته كثرة طواعية ونعمة فقال: {وأرسلناه} أي بعظمتنا التي لا يقوم لها شيء. ولما لم يتعلق الغرض(16/295)
بتعيين المرسل إليهم، وهل هم الذين أبق عنهم أولاً؟ قال: {إلى مائة ألف} والجمهور على أنهم الذين أرسل إليهم أولاً - قال أبو حيان. ولما كان العدد الكثير لا يمكن ناظره الوقوع فيه على حقيقة عدده، بل يصير - وإن أثبت الناس نظراً - يقول: هم كذا يزيدون قليلاً أو ينقصونه، وتارة يجزم بأنهم لا ينقصون عن كذا، وأما الزيادة فممكنة، وتارة يغلب على ظنه الزيادة، وهو المراد هنا، قال: {أو يزيدون *} لأن الترجية في كثرة الأتباع أقر للعين وأسر للقلب، وإفهاماً لأن الزيادة واقعة، وهؤلاء المرسل إليهم هم أهل نينوى وهم من غير قومه، فإن حدود أرض بني إسرائيل الفرات، ونينوى من شرقي الفرات بعيدة عنه جداً.
ولما تسبب عن إتيانه إليهم انشراح صدره بعد ما كان حصل له من الضيق الذي أوجب له ما تقدم قال: {فآمنوا} أي تجريداً لأنفسهم من الحظوظ النفسانية ولحوقاً بالصفات الملكية. ولما كان إيمانهم سبب رفع العذاب الذي كان أوجبه لهم كفرهم قال: {فمتعناهم} أي ونحن على ما نحن عليه من العظمة لم ينقص ذلك من عظمتنا شيئاً ولا زاد فيها {إلى حين *} أي إلى انقضاء آجالهم التي ضربناها لهم في الأزل.(16/296)
ذكر قصة يونس عليه السلام من سفر الأنبياء قال مترجمه: نبدأ بمعونة الله وقوته بكتب نبوة يونان بن متى النبي: كانت كلمة الرب على يونان بن متى، يقول له: قم فانطلق إلى نينوى المدينة العظيمة وناد فيها بأن شرارتكم قد صعدت قدامي، وقام يونان ليفر إلى ترسيس من قدام الرب، وهبط إلى يافا ووجد سفينة تريد تدخل إلى ترسيس فأعطى الملاح أجرة ونزلها ليدخل معهم إلى ترسيس هارباً من قدام الرب، والرب طرح ريحاً عظيمة في البحر، فكان في البحر موج عظيم، والسفينة كانت تتمايل لتنكسر وفرق الملاحون وجأر كل إنسان إلى إلهه، وطرحوا متاع السفينة في البحر ليخففوا عنهم، بحق هبط يونان إلى أسفل السفينة ونام فدنا منه سيد الملاحين وقال له: لماذا أنت نائم؟ قم فادع إلهك لعل الله يخلصنا ولا نهلك، وقال الرجل لصاحبه: تعالوا نقترع ونعلم هذا الشر من قبل من جاء علينا؟ فاقترعوا فجاءت القرعة على يونان، فقالوا له: أخبرنا ما هذا الشر؟ وماذا هو عملك، ومن أين أنت، ومن(16/297)
أيّ شعب أنت، وأيتها أرضك؟ فقال لهم يونان: أنا عبراني ولله رب السماء أخشى الذي خلق البر والبحر، ففرق أولئك القوم فرقاً شديداً، فقالوا له: ماذا صنعت؟ لأن أولئك الناس علموا أنه من قدام إلهه هرب، فلما أخبرهم قالوا: ما نصنع بك حتى يسكن عنا البحر لأن البحر هو ذا منطلق يزخر علينا؟ قال لهم يونان: خذوني فاطرحوني في البحر فيسكن عنكم البحر لأني أعلم أن هذا الموج العظيم من أجلي هاج عليكم، فجهد أولئك الناس أن يرجعوا إلى الساحل، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، لأن البحر كان ذاهباً يزخر عليهم، ودعوا إلى الرب وقالوا: أيها الرب لا يحسب علينا دم زكي، ولا نهلك بنفس هذا الرجل من أجل أنك أنت الرب، وكل ما شئت تصنع، فأخذوا يونان وطرحوه في البحر، فاستقر البحر من أمواجه، وفرق أولئك الناس من قدام الرب فرقاً شديداً، وذبحوا ذبائح للرب ونذروا له النذور، وهيأ الرب سمكة عظيمة فابتلعت يونان، وكان يونان في أمعاء السمكة ثلاثة أيام وثلاث ليالي وقال: دعوت الرب في حزني فأجابني، ومن بطن الجحيم تضرعت إليه، وسمع صوتي وطرحني في الغوط في قلب البحر، والأنهار أحاطت بي، وكل أمواجك واهياجك عليّ جازت،(16/298)
أنا بحق قلت: إني قد تباعدت من قدام عينيك، من الآن أترى أعود فأنظر إلى هيكلك المقدس، وقد أحاطت بي المياه حتى نفسي والأهوال أحاطت بي، وفي أسفل البحر احتبس رأسي، وإلى أسفل الجبال هبطت، والأرض أطبقت أغلاقها في وجهي إلى الدهر، إذا اغتمت نفسي للرب ذكرت ودخلت صلاتي قدامك إلى هيكلك المقدس، فكل الذين يحفظون الأنساك البطالة رحمتهم فتركوا، أنا بحق بصوت الشكر أقرب لك وأذبح، والذي نذرته أوفيه للرب! فأمر الرب السمكة فقذفت يونان في اليبس، وأتى الكلام الرب إليه المرة الثانية، وقال له: قم يا يونان فانطلق إلى نينوى المدينة العظمية وناد فيها بالنداء الذي أقوله لك، فقام يونان وانطلق إلى نينوى مثل كلمة الرب، ونينوى كانت مدينة عظيمة للرب مسيرة ثلاثة أيام، وتبدّأ يونان أن يدخل إلى نينوى مسيرة يوم واحد ونادى وقلال: من الآن وإلى أربعين يوماً نينوى تنقلب، فآمن أهل نينوى لله وفرضوا الصوم ولبسوا المسوح من عظمائهم حتى صغائرهم، وانتهت الكلمة إلى ملك نينوى فقام عن كرسيه(16/299)
ونزع تاجه، واكتسى مسح شعر، وجلس على الرماد، ونادى في نينوى وقال الملك وأشرافه: وكل الناس والغدائر والثيران والغنم فلا يذوقون شيئاً من الطعام ولا يرعون، وماء فلا يشربون، ولكن فليلبس الناس والغدائر ويدعو الله بالتضرع، ويرجع كل إنسان عن طريقة السوء، وعن الاختطاف الذي في يده، وقالوا: من ذا الذي يعلم أن الله يقبل منا ويترحم علينا ويرد عنا غصبه ورجزه لكيلا نهلك، ونظر الله إلى أعمالهم أنهم قد تابوا عن طرقهم السوء فرد عنهم غضب رجزه ولم يبدهم، وحزن يونان حزناً شديداً، وتكره من ذلك جداً، وصلى قدام الرب وقال: أيها الرب! ألم تكن هذه كلمتي، وأنا بعد في بلادي ولذلك سبقت وفررت إلى ترسيس، قد عرفت بحق أنك الرحمن الإله الرؤوف، طويل صبرك وكثيرة نعمتك، وترد السوء الآن يا رب! انزع نفسي مني لأن الموت أنفع لي من الحياة، فقال له: جداً حزنت يا يونان، وخرج يونان من المدينة واتخذ له ثمة مظلة وجلس تحتها في الظل لينظر ما الذي يعرض للمدينة، وأمر الله الرب أصل القرع، ونبت وارتفع على رأس يونان، فكان ظل على رأسه فتفرج من شدته وفرح فرحاً كثيراً يونان بأصل القرع.(16/300)
وفي اليوم الآخر أمر الله الرب دودة في مطلع الصبح فضربت أصل القرع وقرضته، فلما طلعت الشمس أمر الله ريح السموم فيبست أصل القرع، وحميت الشمس في رأس يونان، واغتم وسال الموت لنفسه وقال: إنك يا رب تقدر تنزع نفسي مني، لأني لم أكن أخبر من إياي، وقال الرب ليونان: جداً حزنت على أصل القرع، فقال يونان: جدّاً أحزن حتى الموت، قال له الرب: أنت أشفقت على أصل القرع الذي لم تعن به ولم تربه، الذي في ليلة نبت، وفي ليلة يبس، فكيف لا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يدرون ما بين يمينهم من شمالهم وكثرة من الغدائر - انتهى. ولعل أصل القرع المذكور هنا كان نبت عليه حين خرج من بطن الحوت، فلما اتفق له ما ذكر هنا رجع إليه وقد زاد عظمه فبنى تحته عريشاً وجلس تحته، فكان منه ما كان، فلا يكون حينئذ ما هنا مخالفاً لما ذكر أهل الأخبار في هذه القصة - والله الموفق.(16/301)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
ولما كان الذي سبق ادعاؤه أمرين أحدهما أن هؤلاء المنذرين(16/301)
يسارعون في اقتفاء آثار آبائهم في الضلال، والثاني أن أكثر الأولين ضلوا، وسيقت دليلاً شهودياً على الثاني هذه القصص الست التي ما اهتدى من أهلها أمة بكمالها إلا قوم يونس عليه السلام، كان ذلك سبباً للأمر بإقامة الدليل على ضلال هؤلاء تبعاً لآبائهم بأمر ليس في بيان الضلال أوضح منه، فقال متهكماً بهم مخصصاً الأمر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إشارة إلى عظم هذه النتيجة وأنه لا يفهمها حق فهمها سواه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فاستفتهم} أي فاطلب من هؤلاء الذين يعرضون عن دعوتك إلى أباطيلهم أن يجيبوك فتوة منهم وكرماً: بأي دليل وبأي حجة حكموا بما يقولونه تبعاً لآبائهم في الملائكة الذين تقدم في فاطر أنهم رسل الله، وفي يس أنهم في غاية الشدة بحيث إن عذاب الأمة الكثيرة يكفي فيه واحد منهم، وبحيث إن صيحة واحده من أحدهم يميت الأحياء كلهم، وصيحة أخرى يحي الأموات كلهم، هذا إلى ما أفادته هذه السورة لهم من الصف والزجر والتلاوة حين ابتدأت بالإقسام بهم لأن لمقصودها نظراً عظيماً إلى أحوالهم في تجرديهم وتقديسهم، ويلزم من هذا الاستفتاء تنزيههم وتنزيه الذي خلقهم وذلك(16/302)
مقصود السورة، ولفت الكلام عن مظهر العظمة إلى ما هو دليل عليها فإن الرسول دال على قدر من أرسله فقال: {ألربك} أي خاصة وهو الملك الأعلى الذي رباك وأحسن إليك بهدايتك والهداية بك وغير ذلك من أمرك حتى كنت أكمل الخلق وأعلاهم في كل أمر يكون به الكمال والقرب من الله فاصطفاك لرسالته، ففي إفراد الضمير إشارة إلى أنه لا يختار إلا الأكمل الأشرف الأفضل.
ولما كان المراد تبكيتهم بكونهم جعلوا الأخس لله، وكانت الإناث أضعف من الذكور، ولكنها قد تطلق الأنوثة على غير الحيوان، وكانت الإناث في بعض الأجناس كالأسحار أشرف، عدل عن التعبير بالإناث وعبر بما ينص على المراد فقال: {البنات} أي دون البنين، وهم - مع أنهم مربون مقهورون - يأنفون منهم غاية الأنفة {ولهم} أي دونه {البنون *} مع أن الرب الذي خصوه بأدنى القبيلين تارة يخلق الذكر من تراب ويربيه أحسن تربية، وأخرى من غيره أو يخرجه من بطن حوت أو غمرات نار أو غير ذلك، فبأي وسيلة ادعوا له ولداً والولد لا يكون إلا بالتدريج في أطوار الخلق من النطفة إلى ما فوقها، ولا يرضى بذلك إلا عاجز فكيف بادعاء أدنى الصنفين من الولد، سبحان ربك رب العزة.
ولما كان دعواهم لأنوثة الملائكة متضمنة لادعاء العلم باختصاصه عند دعوى الولدية بأدنى القبيلتين أو ادعاء العلم بأنه خلقهم إناثاً بمشاهدة(16/303)
منهم أو كتاب منه إليهم، وأما العقل فإنه لا مدخل له في ذلك، قال معلماً بأنهم أهل لأن يبكتوا ويستهزأ بهم لأنه لا علم عندهم بإحدى الطريقين، ولا يقدرون أن يدعوا ذلك لئلا يفتضحوا فضيحة لا تنجبر أصلاً، عائداً إلى التصريح بمظهر العظمة التي إن لم يقتض اختيار الأكمل لم يقتض الاختصاص بالأدون لأنها منافية بكل اعتبار للدناءة {الملائكة} أي الذين حكموا عليهم بالأنوثة، وهم من أعظم رسلنا وأجل خواصنا ولم يروا منهم أحداً ولا سبيل لهم إلى العلم بأحوالهم باعترافهم بذلك، ولما تعين أن المراد بالأنوثة الخساسة، وكان في بعض الإناث قوة الذكور، عبر بالأنوثة إلزاماً لهم في حكمهم ذلك بخساستين فقال: {إناثاُ وهم} أي والحال أن هؤلاء الذين ينسبون إلى الله ما لا يليق به {شاهدون *} أي ثابت لهم شهود ذلك لا يغيبون عنه، فإنا كل يوم نجدد منهم من شئنا، قال الرازي: وكل واحد من الملائكة نوع برأسه، أما الآدميون فكلهم نوع واحد، وهو ناقص في ابتداء الفطرة، مستكمل، وله درجات في الترقي إلى أن يبلغ مقام المشاهدة، وهو أن تتجلى له حلية الحق الأول من ذاته وصفاته وترتيب أفعاله علماً لا ينفصل عنه ولا يغيب فيترقى في إدراكه عن المحسوسات والخيالات، ويترقى فعله عن أن(16/304)
يكون لمقتضى الغضب أو الشهوة، وبهذا يقرب من الله تعالى - انتهى.
ولما اشتد تشوف السامع إلى أن يعلم حقيقة قولهم الذي تسبب عنها هذا الاستفتاء أعلم سبحانه بذلك في قوله مؤكداً إشارة إلى أنه قول لا يكاد أن لا يقر أحد أنه قاله، معجباً منهم فيه منادياً عليهم بما أبان من فضيحتهم بما قدم من استفتائهم: {إلا أنهم من إفكهم} أي من أجل أن صرفهم الأمور عن وجوها عادتهم {ليقولون *} أي قولاً هم مستمرون عليه وإن كانوا لا يقدرون على إبرازه في مقام المناظرة، وعدل عن مظهر العظمة إلى إسم الجلالة العلم على الذات الجامعة لجميع الصفات إشارة إلى أن كل صفة من صفاته ونعت من نعوته يأبى الولدية فقال: {ولد الله} أي وجد له - وهو المحيط بصفات الكمال - ولد وهم على صفة الأنوثة أي أتى بالولد، فولد فعل ماض والجلالة فاعل، وقرىء شاذاً برفع «ولد» على أنه خبر مبتدأ محذوف، وجر الجلالة بالإضافة، والولد فعل بمعنى مفعول كالقبض، فلذلك يخبر به عن المفرد وغيره والمؤنث وغيره.
ولما أتى سبحانه بالاسم الأعظم إشارة إلى عظيم تعاليه عن ذلك، صرح به في قوله دالاً على الثبوت مؤكداً لأجل دعواهم أنهم صادقون: {وإنهم لكاذبون *} ودل على كذبهم أيضاً بإنكاره موبخاً لهم في أسلوب الخطاب زيادة في الإغضاب في قوله: {اصطفى} بهمزة الاستفهام(16/305)
الإنكاري، ومن أسقطها فهي عنده مقدرة مرادة، أي أخبروني هل اختار هذا السيد الذي أنتم مقرون بتمام علمه وشمول قدرته وعلو سؤدده ما تسترذلونه.
ولما كان التعبير بالبنت أكره إليهم من التعبير بالأنثى، والتعبير بالابن أحب إليهم من التعبير بالذكور وأنص على المراد لأن الذكر مشترك بين معان، قال: {البنات} اللاتي تستنكفون أنتم من لحوقهن بكم، وتستحيون من نسبتهن إليكم، حتى أن بعضكم ليصل في إبعادهن إلى الوأد {على البنين *} فكان حينئذ نظره لنفسه دون نظر أقلكم فضلاً عن أجلكم، ولذلك عظم حسناً وتناهى بلاغة قوله: {ما} أي يا معاشر العرب المدعين لصحة العقول وسداد الأنظار والفهوم! أيّ شيء {لكم} من الخير في هذا المقال؟ ثم زاد في التقريع عليه بقوله معجباً منهم: {كيف تحكمون *} أي في كل سألناكم عنه بمثل هذه الأحكام التي لا تصدر عمن له أدنى مسكة من عقله، وعبر بالحكم لاشتهاره فيما يبت فيأبى النقص، فكان التعبير به أعظم في تقريعهم حيث أطلقوه على ما لا أوهى منه.
ولما كان هذا شديد المنافاة للعقول، عظيم البعد عن الطباع، حسن جداً قوله أيضاً مبكتاً: {أفلا تذكرون *} أي أدنى تذكر بما أشارت إليه قراءة من خفف بما جمعت من التخفيف والحذف، فإن الأمر في غاية الظهور(16/306)
لما في عقولكم وطباعكم من أنكم لا ترضون لأنفسكم أخس المنازل، فكيف يختاره لنفسه ربكم الذي بيده كل شيء؟ وإنه لا يكون الولد مطلقاً إلا ممن له جنس، فيكون محتاجاً إلى جنسه، والمحتاج لا يكون إلهاً بوجه، وأشارت قراءة الجماعة بالتشديد والإدغام إلى أن الأمر يحتاج إلى مزيد تذكر بما أشار إليه التشديد مع دقة بما أشار إليه الإدغام لأجل حل شبهة من يرى أفعال من يحيي الموءودة فيظن أن ذلك رغبة منهم في الإناث، وليس ذلك إلا رغبة في دفع فساد القتل ورحمة للضعيف، ولم يقرأ بالفك إشارة إلى أن الأمر غني عن الدرجة العليا في التأمل.
ولما قررهم على شهود ذلك بما تضمن إبطاله عقلاً، فلم يبق من طرق الأدلة إلا السمع، عادل به قوله: {أم لكم} أي على ادعاء ذلك {سلطان} أي دليل سمعي بخبر سماوي قاهر، وأشار إلى أنه لا يتكلم في أحوال الملوك إلا بأمر واضح بقوله: {مبين *} .
ولما كان المراد بهذا - ولا بد - البرهان السمعي، بينه بما سبب عنه من قوله: {فأتوا بكتابكم} أي الذي أتاكم بذلك السلطان من الملك في أنه اختار لنفسه ذلك، ودل على كذبهم تلويحاً بعد أن أتى به تصريحاً وهو أنكى ما يكون بالإتيان بأداة الشك في قوله:(16/307)
{إن كنتم صادقين *} وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم وإنكار فظيع، والأساليب التي وردت عليها ناطقة بتسفيه أحلام المدعي لذلك وبجهل نفوسهم، واستركاك عقولهم، مع استهزاء وتهكم وتعجيب من أن يخطر مثل ذلك على بال فضلاً عن أن يتخذ معتقداً، ويتظاهر به مذهباً.(16/308)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
ولما تم إظهار ضلالهم، بكتهم في أسلوب آخر معرضاً عن خطابهم تخويفاً من إحلال عذابهم فقال: {وجعلوا} أي بعض العرب منابذين لما مضى بيانه من الأدلة {بينه وبين الجنة} أي الجن الذين هم شر الطوائف، وأنثهم إشارة إلى تحقيرهم عن هذا الأمر الذي أهلوهم له {نسباً} بأن قالوا: إنه - جلت سبحات وجهه وعظم تعالى جده - تزوج بنات سروات الجن، فأولد منهم الملائكة، ومن المعلوم أن أحداً لا يتزوج إلا من يجانسه، فأبعدوا غاية البعد لأنه لا مجانس له. ولما كان النسيب يكرم ولا يهان قال مؤنثاً لضميرهم زيادة في تحقيرهم: {ولقد علمت الجنة} أي مطلقاً السروات منهم والأسافل {إنهم} أي الجن كلهم {لمحضرون *} أي إليه بالبعث كرهاً ليعاملوا بالعدل مع بقية الخلائق يوم فصل القضاء، والتجلي في مظاهر العز والعظمة والكبرياء، فهم أقل من أن يدعى لهم ذلك.(16/308)
ولما ذكر اليوم الأعظم الذي يظهر فيه لكل أحد معاقد الصفات، وتتلاشى عند تلك المظاهر أعيان الكائنات، وتنمحي لدى تلك النعوت آثار الفانيات، وكان ذكره على وجه مبين بُعد الجن عن المناسبة، كان مجزأ للتنزيه وموضعاً بعد تلك الضلالات للتقديس نتيجة لذلك فقال مصرحاً باسم التسبيح الجامع لجميع أنواعه، والجلالة إشارة إلى عظم المقام: {سبحان الله} أي تنزه الذي له جميع العظمة تنزهاً يفوت الحصر {عما يصفون *} أي عما يصفه به جميع الخلائق الذين يجمعهم الإحضار ذلك اليوم، أو الكفار الذين ادعوا له الولد وجعلوا الملائكة من الولد {إلا عباد الله} أي الذين يصلحون للإضافة إلى الاسم الأعظم من حيث إطلاقه على الذات الأعظم ولذلك أظهر ولم يضمر، لأن الضمير يعود على عين الماضي، فربما أوهم تقييده بما ذكر في الأول فيفهم تقييد تشريفهم بالتسبيح، {المخلصين *} من جميع الخلائق أو من العرب وهم من أسلم منهم بعد نزول هذه السورة فإنهم لا يصفونه إلا بما أذن لهم فيه ولأجل أن هذه السورة سورة المتجردين عن علائق العوائق عن السير إليه، كرر وصف الإخلاص فيها كثيراً.
ولما نزه نفسه المقدس سبحانه عن كل نقص، دل على ذلك بأنهم(16/309)
وجميع ما يعبدونه من دونه لا يقدرون على شيء لم يقدره، فقال مسبباً عن التنزيه مؤكداً تكذيباً لمن يظن أن غير الله يملك شيئاً مواجهاً لهم بالخطاب لأنه أنكى وأجدر بالإغضاب: {فإنكم وما تعبدون *} أي من الأصنام وغيرها من كل من زعمتموه إلهاً. وابتدأ الخبر عن «أن» فصدره بالنافي فقال: {ما} وغلب المخاطبين المعبر عنهم بكاف الخطاب على من عطف عليهم وهم معبوادتهم تنبيهاً على أنهم عدم كما حقرهم بالتعبير عنهم بما دون «من» فقال مخاطباً: {أنتم عليه} أي على الله خاصة {بفاتنين *} أي بمغيرين أحداً من الناس بالإضلال {إلا من هو} أي في حكمه وتقديره {صال الجحيم *} أي معذب بعذابه لحكمه عليه بالشقاوة فعلم أنكم لا تقدرون أن تغيروا عليه إلا من غيره هو فبحكمه ضل لا بكم، نعوذ بك منك، لا مهرب منك إلا إليك، والمراد بتقديم الجار أن غيره قد يقدر على أن يفسد عليه من لا يريد فساده ويعجز عن رد المفسد، فالتعبير بأداة الاستعلاء تهكم بهم بمعنى أنه ليس في أيديكم من الإضلال إلا هذا الذي جعله لكم من التسبب، فإن كان عندكم غلبة فسموه بها، وتوحيد الضمير على لفظ «من» في الموضعين للإشارة إلى أن الميت على الشرك بعد بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العرب قليل، وقرئ شاذاً «صالوا» دفعاً لظن أنه واحد.(16/310)
ولما كان من المعلوم أن هذا الاستفتاء من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقع امتثالاً للأمر المصدر به، وبطل بهذه الجملة قدرتهم وقدرة معبوداتهم التي يدعون لها بعض القدرة، قال مؤكداً لذلك ومبطلاً لقدرة المخلصين أيضاً عطفاً على {فإنكم وما تعبدون} : {وما منا} أي نحن وأنتم ومعبوادتكم وغير ذلك، أحد {إلا له مقام معلوم *} قد قدره الله تعالى في الأزل، ثم أعلم الملائكة بما أراد منه فلا يقدر أحد من الخلق على أن يتجاوز ما أقامه فيه سبحانه نوع مجاوزة، فلكل من الملائكة مقام معروف لا يتعداه، والأولياء لهم مقام مستور بينهم وبين الله لا يطلع عليه أحد، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم مقام مشهور مؤيد بالمعجزات الظاهرة، لأنهم للخلق قدوة، فأمرهم على(16/311)
الشهرة، وأمر الأولياء على السترة - قاله القشيري، وغير المذكورين من أهل السعادة لهم مقام في الشقاوة معلوم عند الله تعالى وعند من أطلعه عليه من عباده.(16/312)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)
ولما سلب عن الكل كل شيء من القدرة إلا ما وهبهم، وكان الكفار يدعون أنهم يعبدون الله تعالى وينزهونه وأن الإشراك لا يقدح في ذلك، بين أن المخلصين خصواً دونهم بمواقف الصفاء، ومقامات الصدق والوفاء، لأن طاعتهم أبطلها إشراكهم، فقال مؤكداً ومخصصاً: {وإنا} أي يا معشر المخلصين {لنحن} أي دونكم {الصافون *} أي أنفسنا في الصلاة والجهاد وأجنحتنا في الهواء فيما أرسلنا به وغير ذلك لاجتماع قلوبنا على الطاعة {وإنا لنحن المسبحون *} أي المنزهون له سبحانه عن كل نقص مما ادعيتموه من البنات وبجوز أن يكون المعنى: لنا هذا الفعل، وهو الصف والتسبيح، ولا ينوي له مفعول البتة.
ولما بين ضلالهم وهداه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهدى من اتبعه - بما أشار إليه بصفة الربوبية التي أضافها إليه في قوله «ألربك» أعلم بأنهم زادوا على عيب الضلال في نفسه عيب الإخلاف للوعد والنقض لما(16/312)
أكدوه من العهد، فقال مؤكداً إشارة إلى أنه لا يكاد يصدق أن عاقلاً يؤكد على نفسه في أمر ثم يخلفه جواباً لمن يقول: هل نزهوه كما نزهه المخلصون: {وإن} أي فعلوا ذلك من الضلال بالشبه التي افتضحت بما كشفناه من ستورها ولم ينزهوا كما نزه المخلصون والحال أنهم {كانوا} قبل هذا {ليقولون} أي قولاً لا يزالون يجددونه مع ما فيه من التأكيد {لو أن عندنا ذكراً} أي على أيّ حال كان من أحواله من كتاب أو غيره {من الأولين} أي من الرسل الماضين {لكنا عباد الله} أي بحيث أنا نصير أهلاً للإضافة إلى المحيط بصفات الكمال {المخلصين *} أي في العبادة له بلا شائبة من شرك أصلاً.
ولما كان هذا الذكر - الذي أتاهم مع كونه أعظم ذكر أتى مصدقاً لكتب الأولين وكان الرسول الآتي به أعظم الرسل، فكان لذلك هو عين ما عقدوا عليه مع زيادة الشرف - سبباً لكفرهم قال: {فكفروا به} أي فتسبب عما عاهدوا عليه أنهم كفروا بذلك الذكر مع زيادته في الشرف على ما طلبوا بالإعجاز وغيره فتسبب عن ذلك تهديدهم ممن أخلفوا وعده، ونقضوا مع التأكيد عهده، فقال: {فسوف يعلمون *} أي بوعيد ليس هو من جنس كلامهم، بل هو مما لا خلف فيه بوجه.(16/313)
ولما كان التقدير كما أرشد إليه سياق التهديد: فلقد سبقت كلمتنا على من خالف رسلنا بالخذلان المهين، عطف عليه قوله: {ولقد سبقت} أي في الأزل {كلمتنا} أي على ما لنا من العظمة {لعبادنا} أي الذين أخلصوا لنا العبادة في كل حركة وسكون {المرسلين *} الذين زدناهم على شرف الإخلاص في العبودية شرف الرسالة.(16/314)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178)
ولما آذنت اللام بعلوهم، أوضح ذلك ببيان ما سماه كلمة لانتظامه في معنى واحد بقوله: {إنهم} وزاد في تأكيده في نظير ما عند الكفرة على ما تدل أعمالهم أنه في غاية البعد فقال: {لهم} أي خاصة {المنصورون *} أي الثابت نصرهم في الجدال والجلاد وإن وقع للكفار عليهم في الثاني ظهور ما. ولما خص بذلك المرسلين، عم فقال: {وإن جندنا} أي من المرسلين وأتباعهم، ولما كان مدلول الجند في اللغة العسكر والأعوان والمدينة وصنفاً من الخلق على حدة، قال جامعاً على المعنى دون اللفظ نصاً على المراد: {لهم} أي لا غيرهم {الغالبون *} أي وإن رئي أنهم مغلوبون لأن العاقبة لهم إن لم يكن في هذه الدار فهو في دار القرار، وقد جمع لهذا النبي الكريم فيهما، وسمى هذا كله كلمة لانتظامه معنى واحداً، ولا يضر انهزام في بعض المواطن من بعضهم ولا وهن قد يقع، وكفى دليلاً على هذا(16/314)
سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء الثلاثة بعده رضي الله عنهم.
ولما ثبت لا محالة بهذا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المنصور لأنه من المرسلين ومن جند الله، بل هو أعلاهم، سبب عن ذلك قوله: {فتولّ} أي فكلف نفسك الإعراض {عنهم} أي عن ردهم عن الضلال قسراً {حتى حين *} أي مبهم، وهو الوقت الذي عيناه لنصرك في الأزل {وأبصرهم} أي ببصرك وبصيرتك عند الحين الذي ضربناه لك وقبله: كيف تؤديهم أحوالهم وتقلباتهم كلما تقلبوا إلى سفول.
ولما كانوا قبل الإسلام عمياً صمًّا لأنهم لا يصدقون وعداً ولا وعيداً، ولا يفكرون في عاقبة، حذف المفعول من فعلهم فقال متوعداً محققاً بالتوسيف لا مبعداً: {فسوف يبصرون *} أي يحصل لهم الإبصار الذي لا غلط فيه بالعين والقلب بعد ما هم فيه من العمى، وهذا الحين واضح في يوم بدر وما كان من أمثاله قبل الفتح، فإنهم كان لهم في تلك الأوقات نوع من القوة، فلذلك أثبتهم نوع إثبات في أبصرهم.
ولما كانت عادتهم الاستعجال بما يهددون به استهزاء، كلما ورد عليهم تهديد، سبب عن ذلك الإنكار عليهم على وجه تهديد آخر لهم فقال: {أفبعذابنا} أي على ما علم له من العظمة بإضافته إلينا(16/315)
{يستعجلون} أي يطلبون أن يعجل لهم فيأتيهم قبل أوانه الذي ضربناه له. ولما علم من هذا أنه لا بشرى لهم يوم حلوله، ولا قرار عند نزوله، صرح بذلك في قوله: {فإذا} أي هددناهم وأنكرنا عليهم بسبب أنه إذا {نزل بساحتهم} أي غلب عليها لأن ذلك شأن النازل بالشيء من غير إذن صاحبه ولا يغلب عليها إلا وقد غلب على أهلها فبرك عليهم بروكاً لا يقدرون معه على البروز إلى تلك الساحة وهي الفناء الخالي عن الأبنية كأنه متحدث القوم وموضع راحتهم في أي وقت كان بروكه من ليل أو نهار، ولكن لما كانت عادتهم الإغارة صباحاً، قال على سبيل التمثيل مشيراً بالفاء إلى أنه السبب لا غيره {فساء صباح المنذرين *} أي الذين هم أهل للتخويف من هؤلاء وغيرهم وهذا التهديد لا يصلح لأن ينطبق على يوم الفتح ولقد صار من لم يتأهل لغير الإنذار فيه في غاية السوء، وهم الذين قتلهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك اليوم، ومنهم من تعلق بأستار الكعبة فلم يفده ذلك، ولكنهم كانوا قليلاً، والباقون إن كان ذلك الصباح على ما ساءهم منظره فلقد سرهم لعمر الله مخبره.(16/316)
ولما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي الرحمة لا يستأصل قومه بعذاب، قال دالاً على ذلك بتكرير الأمر تأكيداً للتسلية، ووعد النصرة مع ما فيه من زيادة المعنى على الأول، عاطفاً على «تولّ» الأولى: {وتول} أي كلف نفسك الصبر عليهم في ذلك اليوم الذي ينزل بهم العذاب الثاني والإعراض {عنهم حتى حين *} وكذا فعل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه حل بساحتهم يوم الفتح صباحاً، فلم يقدروا على مدافعة.(16/317)
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
ولما كابر بعضهم ودافع، لم يكن بأسرع من أن ولوا وطلبوا السلامة بالدخول فيما جعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علماً على التأمين، وقال حماس بن قيس أخو بني بكر لما دخل بيته لامرأته: أغلقي عليّ الباب، فعيرته بالهزيمة بعن أن كانت تنهاه عن منابذة المسلمين فلا ينتهي ويقول لها: لا بد، أن أخدمك بعضهم:
إنك لو شهدت يوم الحندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه(16/317)
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة ... يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضرباً فلا يسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت خلقنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
ولما كان هذا منطبقاً على يوم الفتح، وكان ذلك اليوم قد أحل الكفار محلاًّ صاروا به بحيث لا اعتبار لهم قال: {وأبصر} مسقطاً ضميرهم، أي أبصر ما تريد من شؤونك التي يهمك النظر فيها، وأما هم فصاروا بحيث لا يبالي بهم ولا يفكر في أمرهم ولا يلتفت إليهم، فإنا أبدلنا من عزتهم ذلاًّ، ومن كثرتهم قلاًّ، وجردنا تلك الأراضي من قاذورات الشرك، وأحللنا بها طهارة التنزيه وأقداس التحميد، وكذا كان، فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم وهو على درج الكعبة وهم تحته كالغنم المجموعة في اليوم المطير بعد أن قال «» لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده «: ما تظنون أني فاعل بكم يا معاشر قريش؟ قالوا:(16/318)
خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وقال له صفوان بن أمية: اجعلني بالخيار شهرين، قال: أنت بالخيار أربعة أشهر» ، ولم يكلف أحداً منهم الإسلام حتى أسلموا بعد ذلك طوعاً من عند آخرهم. ولما حاصر الطائف فعسرت عليه انصرف عنها، فما لبثوا أن أرسلوا إليه رسلهم وأسلموا فحسن إسلامهم ولم يرتد أحد منهم في الردة، وهذا من معنى {فسوف يبصرون *} .
ولما تقرر له سبحانه من العظمة ما ذكر، فكان الأمر أمره والخلق خلقه، ثبت تنزهه عن كل نقص واتصافه بكل كمال، فلذلك كانت نتيجة ذلك الختم بمجامع التنزيه والتحميد فقال: {سبحان ربك} أي المحسن إليك بإرسالك وإقامة الدليل الظاهر المحرر على صدقك بكل ما يكون من أحوال أعدائك من كلام أو سكوت، وتأييدك بكل قوة وإلباسك كل هيبة {رب العزة} أي التي هو مختص بها بما أفهمته الإضافة وأفاد شاهد الوجود وحاكم العقل، وقد علم بما ذكر في هذه السورة أنها تغلب كل شيء ولا يغلبها شيء، وفي إضافة الرب إليه وإلى العزة إشارة إلى اختصاصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل من وافقه في أمره عن جميع الخلق بالعزة وإن رئي في ظاهر الأمر غير ذلك {عما يصفون *} مما يقتضي النقائص لما ثبت(16/319)
من ضلالهم وبعدهم عن الحق.
ولما قدم السلام على من شاء تخصيصه في هذه السورة من رسله عمهم فقال عاطفاً على {سبحان} : {وسلام} أي تنزه له وسلامة وشرف وفخر وعلا {على المرسلين *} أي الواصفين له بما هو له أهل، الذين اصطفاهم، الصافين صفًّا، الزاجرين زجراً، التالين ذكراً، من البشر والملائكة المذكورين في هذه السورة وغيرهم لأجل ما حكم لهم من سبحانه في الأزل من العز والنصر {والحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي الجامع لجميع الأسماء الحسنى التي دل عليها مجموع خلقه، وإلى ذلك أشار بقوله: {رب العالمين *} فهو حينئذ الواحد المعتال، الذي تنزه عن الأكفاء والأمثال، والنظراء والأشكال، في كل شيء من الأقوال والأفعال، والشؤون والأحوال، ولقد ترافق آخرها - كما ترى - وأولها، وتعانق مفصلها وموصلها - والله الهادي إلى الصواب.(16/320)
(سورة ص)
المقصود منها بيان ما ذكر في آخر الصافات من أن جند الله هم الغالبون - وإن رئي أنهم ضعفاء، وإن تأخر نصرهم - غلبة آخرها سلامة للفريقين، لأنه سبحانه واحد لكونه محيطا بصفات الكمال كما أفهمه آخر الصافات من التنزيه والحمد وما معهما، وعلى ذلك دلت تسميتها بحرف " ص " لأن مخرجه من طرف اللسان، وبين أصول الثنيتين السفليتين، ولهمن الصفات الهمس والرخاوة والإطباق والاستعلاء والصفير، فكان دالا على ذلك لأن مخرجه أمكن مخارج الحروف وأوسعها وأخفها وأرشقها وأغلبها، ولأن ما له من الصفات العالية أكثر من ضدها وأفخم وأعلى وأضخم، ولذلك ذكر من فيها من الأنبياء الذين لم يكن على أيديهم إهلاك، بل ابتلوا وعرفوا وسلمهم الله من أعدائهم من الجن والإنس، وإلى ذلك الإشارة بما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غيره من أن معناه: الله صادق فيما وعد، أو صدق محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، أو صاد محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، قلوب الخلق واستمالها، وبه قرأ أبو عمرو في رواية شاذة على أنه فعل ماض من(16/321)
الصيد، وقرأ الحسن وغيره بكسر الصاد على أنه أمر من المصاداة وهي المعارضة أي عارض بما أنزلناه إليك الخلائق وجادلهم به فإنك تغلبهم لأن الصدق سيف الله في أرضه، ما وضعه على شيء إلا قطعه، وقد انبسط هذا الصدق الذي أشار إليه الصاد على كل صدق في الوجود فاستمال كل من فيه نوع من الصدق، ولهذا قال في السورة التي بعدها) والذي جاء بالصدق وصدق به) [الزمر: 33] فذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام شاهد وجودي على ما هو معنى الصاد عند العلماء الربانيين من أنه مطابقة ما بين الخلق والأمر، وتسمى سورة داود عليه السلام - كما قاله ابن الجوزي رحمه الله - وحاله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أدل أحوال من فيها من الأنبياء على هذا المقصود، لما كان فيه من الضعف أولا والملك آخرا) بسن الله (الذي يعز من انتمى إليه وإن كان ضعيفا لأن هـ العزيز) الرحمن (الذي له القدرة التامة على أن يرحم بالضراء كما يرحم بالسراء) الرحيم (الذي أكرم أهل وده، بالإعانة على لزوم شكره وحمده.(16/322)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)
ولما نزه ربنا سبحانه نفسه الأقدس في ختام تلك عن كل شائبة(16/322)
نقص، وأثبت له كل كمال ناصاً على العزة، وأوجب للمرسلين السلامة، افتتح هذه بالإشارة إلى دليل ذلك بخذلان من ينازع فيه فقال: {ص} أي إن أمرك - يا من أمرناه باستفتاء العصاة آخر الصافات وبشرناه بالنصر - مهيأ مع الضعف الذي أنتم به الآن والرخاوة والإطباق، وعلو وانتشار يملأ الآفاق {والقرآن} أي الجامع - مع البيان لكل خير - لأتباع لا يحصيهم العد، ولا يحيط بهم الحد. ولما كان القسم لا يليق ولا يحسن إلا بما يعتقد المقسم له شرفه قال: {ذي الذكر *} أي الموعظة والتذكير بما يعرف، والعلو والشرف والصدق الذي لا ريب فيه عند كل أحد، فكل من سمعه اعتقد شرفه وصدق الآتي به ليملأن شرفه المنزل عليه الأقطار، وليزيدن على كل مقدار، كما تقدمت الدلالة عليه بالحرف الأول، والذين كفروا وإن أظهروا الشك في ذلك وانتقصوه قولاً فإنهم لا ينتقصونه علماً {بل الذين كفروا} بما يظهرون من تكذيبه {في عزة} أي عسر وصعوبة ومغالبة بحمية الجاهلية مظروفون لها، فهي معمية لهم عن الحق لإحاطتهم بهم، وأنثها إشارة إلى ضعفها، وبشارة بسرعة زوالها وانقلابها إلى ذل {وشقاق *} أي إعراض وامتناع واستكبار على قبول الصدق من لساني الحال الذي أفصح به الوجود، والقال الذي(16/323)
صرح به الذكر فهداهم إلى ما هو في فطرهم وجبلاتهم بأرشق عبارة وأوضح إشارة لو كانوا يعقلون، فأعرضوا عن تدبره عناداً منهم لا اعتقاداً فإنهم لا يكذبوك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، وتنكيرهما للتعظيم، قال الرازي: حذف الجواب ليذهب فيه القلب كل مذهب ليكون أغزر وبحوره أزخر - انتهى.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما ذكر تعالى حال الأمم السالفة مع أنبيائهم في العتو والتكذيب، وأن ذلك أعقبهم الأخذ الوبيل والطويل، كان هذا مظنة لتذكير حال مشركي العرب وبيان سوء مرتكبهم وأنهم قد سبقوا إلى ذلك الارتكاب، فحل بالمعاند سوء العذاب، فبسط حال هؤلاء وسوء مقالهم ليعلم أنه لا فرق بينهم وبين مكذبي الأمم السالفة في استحقاق العذاب وسوء الانقلاب، وقد وقع التصريح بذلك في قوله تعالى {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد} إلى قوله: {إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} ولما أتبع سبحانه هذا بذكر استعجالهم في قوله {عجل لنا قطناً قبل يوم الحساب} أتبع ذلك بأمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر فقال {اصبر على ما يقولون} ثم آنسه بذكر الأنبياء وحال المقربين الأصفياء {وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} - انتهى.(16/324)
ولما كان للعلم الذي أراد الله إظهاره في هذا الوجود طريقان: حال ومقال، فأما الحال فهو ما تنطق به أحوال الموجودات التي أبدعها سبحانه في هذا الكون من علوم يدرك منها من أراد الله ما أراد، وأما المقال فهو هذا الذكر الذي هو ترجمة عن جميع الوجود، وكان سبحانه قد قدم الذكر لأنه أبين وأظهر، وأخبر أنهم أعرضوا عنه وشاققوه، وكان من شاقق الملك استحق الهلاك، وكان ما أبدوه من المغالبة أمراً غائظاً للمؤمنين، أتبعه ما يصلح لتخويف الكافرين وترجية المؤمنين مما أفصح به لسان الحال من إهلاك المنذرين، وهو أبين ما يكون من دلالاته، وأظهر ما يوجد من آياته، فقال استئنافاً: {كم أهلكنا} وكأن المنادين بما يذكر كانوا بعض المهلكين، وكانوا أقرب المهلكين إليهم في الزمان، فأدخل الجار لذلك، فقال دالاً على ابتداء الإهلاك: {من قبلهم} وأكد كثرتهم بقوله مميزاً: {من قرن} أي كانوا في شقاق مثل شقاقهم، لأنهم كانوا في نهاية الصلابة والحدة والمنعة - بما دل عليه «قرن» .
ولما تسبب عن مسهم بالعذاب دلهم قال جامعاً على معنى «قرن» لأنه أدل على عظمة الإهلاك: {فنادوا} أي بما كان يقال لهم: إنه سبب للنجاة من الإيمان والتوبة، واستعانوا بمن ينقذهم، أو فعلوا النداء(16/325)
ذعراً ودهشة من غير قصد منادي، فيكون الفعل لازماً، وقال الكلبي: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا تنادوا «مناص» أي عليكم بالفرار، فأجيبوا بأنه لا فرار لهم.
ولما قرر سبحانه في غير موضع أن التوبة لا تنفع إلا عند التمكن والاختيار لا عند الغلبة والاضطراب، قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى في جملة حالية بزيادة التاء التي أصلها هاء في «لا» أو في «حين» كما أكدوا بزيادتها في رب وثم، والهاء في أراق والتاء في مثال والان فقالوا: ربت وثمت وأهراق وتمثال وتالان {ولات} أي وليس الحين {حين مناص *} أي فراراً بتحرك بتقدم ولا تأخر، بحركة قوية ولا ضعيفة، فضلاً عن نجاة، قال ابن برجان: والنوص يعبر به تارة عن التقدم وتارة عن التأخر وهو كالجماح والنفار من الفرس، ونوص حمار رفعه رأسه كأنه نافر جامح.
ولما كان جعل المنذر منهم ليس محلاًّ للعجب فعدوه عجباً لما ظهر(16/326)
من تقسيمهم القول فيه، عجب منهم في قوله: {وعجبوا أن} أي لأجل أن {جاءهم} ولما كان تعجبهم من مطلق نذارته لا مبالغته فيها أتى باسم الفاعل دون فعيل فقال: {منذر منهم} أي من البشر ثم من العرب ثم من قريش ولم يكن من الملائكة مثلاً وكان ينبغي لهم أن لا يعجبوا من ذلك فإن كون النذير بما يحل من المصائب من القوم المنذرين - مع كونه أشرف لهم - أقعد في النذارة لأنهم أعرف به وبما هو منطو عليه من صدق وشفقة وغير ذلك، وهو الذي جرت به العوائد في القديم والحديث لكونهم إليه أميل، فهم لكلامه أقبل.
ولما كانوا أعرف الناس بهذا النذير صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أنه أصدقهم لهجة وأعلاهم همة وأنه منفي عنه كل نقيصة ووصمة، زاد في التعجيب بأن قال معبراً بالواو دون الفاء لأن وصفهم له بالسحر ليس شبيه هذا العجب: {وقال} ولما كانوا يسترون الحق مع معرفتهم إياه فهم جاحدون لا جاهلون، ومعاندون لا غافلون، أظهر موضع الإضمار(16/327)
إشارة إلى ذلك وإيذاناً بشديد غضبه في قوله: {الكافرون هذا} أي النذير.
ولما كان ما يبديه من الخوارق إعجازاً فعلاً وقولاً يجذب القلوب، وكان أقرب ما يقدحون به فيه السحر قذفوه به ولم يعبروا بصيغة مبالغة لئلا يكون ذلك إيضاحاً جاذباً للقلوب إليه فقالوا: {ساحر} أي لأنه يفرق بما أتى به بين المرء وزوجه، فاعترفوا - مع نسبتهم له إلى السحر وهم يعلمون أنهم كاذبون في ذلك - أن ما أتى به فوق ما لهم من القوى {كذاب *} أي في ادعائه أن ما سحر به حق ليس هو كسحر السحرة، وأتوا بوقاحة بصيغة المبالغة وقد كانوا قبل ذلك يسمونه الأمين وهم يعلمون أنه لم يتجدد له شيء إلا إتيانه بأصدق الصدق وأحق مع ترقيه في معارج الكمال من غير خفاء على أحد له أدنى تأمل.(16/328)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)
ولما ذكر قولهم الناشىء عن عجبهم، ذكر سببه ليعلم أن حالهم هو الذي يعجب منه لا حال من أنذرهم بقوله حاكياً قولهم إنكاراً لمضمون ما دخل عليه: {أجعل} أي صير بسبب ما يزعم أنه يوحى إليه {الآلهة} أي التي نعبدها {إلهاً واحداً} ولما كان الكلام في الإلهية التي هي أعظم أصول الدين، وكان هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل من تبعه بل وكل منصف ينكرون أن يكون هذا عجباً،(16/328)
بل العجب كل العجب ممن يقبل عقله أن يكون الإله أكثر من واحد، أكدوا قولهم لذلك وإعلاماً لضعفائهم تثبياً لهم بأنهم على غاية الثقة والاعتقاد لما يقولون، لم يزلزلهم ما رأوا من منذرهم من الأحوال الغريبة الدالة ولا بد على صدقه، فسموها سحراً لعجزهم عنها: {إن هذا} أي القول بالوحدانية {لشيء عجاب *} أي في غاية العجب - بما دلت عليه الضمة والصيغة، ولذلك قرئ شاذاً بتشديد الجيم، وهي أبلغ قال الاستاذ أبو القاسم القشيري: فلا هم عرفوا الإله ولا معنى الإلهية فإن الإلهية هي القدرة على الاختراع، وتقدير القادرين على الاختراع غير صحيح لما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه، وذلك يمنع من كمالهما، ولو لم يكونا كاملي الوصف لم يكونا إلهين، وكل أمر جر ثبوته سقوطه فهو باطل مطرح - انتهى. وستأتي الإشارة إلى الرد عليهم بقوله: {العزيز الوهاب} ثم بقوله: {وما من إله إلا الله الواحد القهار} .
ولما كان العجب فكيف بالعجاب جديراً بأن يلزم صاحبه ليزداد الناظر عجباً، بين أنهم فعلوا خلاف ذلك تصديقاً لمن نسبهم إليه من الشقاق فقال: {وانطلق} ولما كان ما فعلوه لا يفعله عاقل فربما ظن السامع أن المنطلق منهم أسقاط من الناس من غيرهم قال: {الملأ}(16/329)
أي الأشراف، وقال: {منهم} أي لا من غيرهم فكيف بالأسقاط منهم وكيف بغيرهم، ثم حقق الانطلاق مضمناً له القول لأنه من لوازمه بقوله: {أن امشوا} أي قائلاً كل منهم لذلك آمراً لنفسه ولصاحبه بالجد في المفارقة حالاً ومقالاً، وإذا وقف على «أن» ابتدئ بكسر الهمزة لأن أصله: امشيوا فالثالث مكسور كما أنه لو قيل لأمرأة: اغزي يبتدأ بالضم لأن الأصل: اغزوي كاخرجي {واصبروا على آلهتكم} أي لزوم عبادتها وعدم الالتفات إلى ما سواها، قال القشيري: وإذا تواصى الكفار فيما بينهم بالصبر على آلهتهم فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم.
ولما كان كل منهم قد أخذ ما سمعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلب وسلب لبه، على ما أشار إليه «ذي الذكر بل» فهو خائف من صاحبه أن يكون قد استحال عن اعتقاد التعدد بما يعرف من تزحزحه في نفسه، أكدوا قولهم: {إن هذا} أي الصبر على عبادة الآلهة {لشيء يراد *} أي هو أهل للإرادة فهو أهل لئلا ينفك عنه،(16/330)
أو الذي يدعو إليه شيء يريده هو ولا نعلم نحن ما هو على ما نحن عليه من الحذق، فهو شيء لا يعلم في نفسه.
ولما كان كأنه قيل: فما حال ما يقوله؟ قالوا جواباً واقفاً مع التقليد والعادة التي وجدوا عليها أسلافهم: {ما سمعنا بهذا} أي الذي تذكره من الوحداينة {في الملة الآخرة} وتقييدهم لها يدل على أنهم عالمون به في الملة الأولى، وأنهم عارفون بأن إبراهيم عليه السلام ومن وجد من أولاده الذين هم آباؤهم إلى عمرو بن لحي كانوا بعيدين من الشرك ملازمين للتوحيد وأنه لا شبهة لهم إلا كونه سبحانه لم يغير عليهم في هذه المدد الطوال، وكانوا أيضاً يعرفون البعث ولكنهم تناسوه، ذكر ابن الفرات في تأريخه يوم حليمة من أيام العرب وقال: إن حجر بن عمرو آكل المرار سار إلى بني أسد فقتلهم وسيرهم إلى تهامة فقال عبيد بن الأبرص من أبيات:
ومنعتهم نجداً فقد حلوا على وحل تهامه ... أنت المليك عليهم وهم العبيد إلى القيامه ... وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/331)
قال: «إن أول من سيب السوايب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وأني رأيته يجر أمعاءه في النار» وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أول من غير دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي بن قميئة» وروى البخاري في فتح مكة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرج من البيت صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام فقال: «قاتلهم الله! لقد علموا ما استقسما بها قط» فبطل ما يقال من أن أهل الفترة جهلوا جهلاً أسقط عنهم اللوم، ويؤيده ما في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: «في النار، فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار» أخرجه مسلم في آخر كتاب الإيمان، وقد مر في سبحان في قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} ما ينفع هنا، والقاطع للنزاع في هذا قوله {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدو الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} [النحل: 36] فما تركت هذه الآية أحداً حتى شملته وحكمت عليه بالجنة أو النار.(16/332)
ولما كان قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده جديراً بأن يزلزلهم فكيف إذا انضم إليه علمهم بأن أسلافهم لا سيما إسماعيل وأبوه إبراهيم عليهما السلام كانوا عليه، أكدوا قولهم: {إن} أي ما {هذا} أي الذي يقوله {إلا اختلاق *} أي تعمد الكذب مع أنه لا ملازمة بين عدم سماعهم فيها وبين كونه اختلاقاً، بل هو قول يعرف معانيه بأدنى تأمل، روى الترمذي - وقال: حسن صحيح - والنسائي وابن حبان في صحيحه وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبري وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش، وجاءه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعند أبي طالب مجلس رجل فقام أبو جهل كي يمنعه، قال: وشكوه ألى أبي طالب - زاد النسائي في الكبير وأبو يعلى: وقالوا: يقع في آلهتنا(16/333)
فقال: يا ابن أخي! ما تريد من قومك؟ قال:
«أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية، قال: كلمة واحدة، قال: كلمة واحدة، فقال: وما هي؟ فقال: يا عم، قولوا» لا إله إلا الله «فقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن إلا اختلاق، قال: فنزل فيهم القرآن» {ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفورا في عزة وشقاق} إلى قوله: {اختلاق} وفي التفاسير أنهم قالوا: كيف يسع الخلق كلهم إله واحد.
ولما كان مرادهم بهذه التأكيدات الدلالة على أنهم في غاية الثبات على ما كانوا عليه قبل دعائه، وأبى الله أن يبقى باطلاً بغير إمارة يقرنه بها تفضحه، وسلطان يبطله ويهتكه، أتبع ذلك حكاية قولهم الذي جعلوه دليلاً على حرمهم، فكان دالاً على عدم صدقهم في هذا الحكم الجازم غاية الجزم بالاختلاق المنادى عليهم بأن أصل دائهم والحامل لهم على تكذيبهم إنما هو الحسد، فقال دالاً بتعبيرهم بالإنزال على أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان جديراً بأن يتوهم فيه النبوة بما كان له قبل الوحي من التعبد والأحوال الشريفة(16/334)
وقدموا ما يدل على اختصاصه عناداً لما يعلمون من أحواله المقتضية للخصوصية بخلاف ما يذكر في القمر، وعبروا بحرف الاستعلاء إشارة إلى أن مثل هذا الذي يذكره لا يقوله إلا من غلب على عقله فقالوا: {أءنزل عليه} أي خاصة {الذكر} أي الذي خالف ما نحن عليه وصار يذكر به، وزادوا ما دلوا به على الاختصاص تصريحاً فقالوا: {من بيننا} ونحن أكبر سناً وأكثر شيئاً، وهذا كله كما ترى مع مناداته عليهم بالحسد العظيم ينادي عليهم غاية المناداة بالفضيحة، لأنه إن كان المدار على رعاية حق الآباء حتى لا يسوغ لأحد تغيير دينهم والطعن عليهم بدين محدث وإن قامت عليه الأدلة وتعاضدت على حقيته البراهين فما لآبائهم غيروا دين آبائهم لأجل ما أحدثه عمرو بن لحي - شخص ليس من قبيلتهم، وشهدوا على آبائهم بالضلال وهم عالمون بأن ما غيروه دين إسماعيل ومن قبله إبراهيم ومن تبعهما من صالحي أولادهما عليهم السلام، وإن كان المدار على المحدث حتى ساغ تغيير دين الأنبياء ومن تبعهم بإحسان عليهم السلام بما أحدثه عمرو بن لحي فما لهم لا يغيرون ما ابتدع من الضلال بما أتاهم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسموه محدثاً، وإن كان المدار على الحق فما لهم لا ينظرون الأدلة ويتبعون الحجج.
ولما كان هذا دالاًّ على أنهم ليسوا على ثقة مما جزموا به قال:(16/335)
{بل} أي إنهم ليسوا جازمين بما قالوا وإن أكدوه غاية التأكيد، بل {هم في شك} أي تردد محيط بهم مبتدئ لهم {من ذكري} أي فلهذا لا يثبتون فيه على قول واحد، أي إن أحوالهم في أقوالهم وأفعالهم أحوال الشاك. وعدل عن مظهر العظمة إلى الإفراد لأن هذا السياق للتوحيد فإلافراد أولى به وليكون نصاً على المراد بعد ذكر آلهتهم قطعاً لشبه متعنتيهم.
ولما كانوا في الحقيقة على ثقة من حقيقته وإن كان قولهم وفعلهم قول الشاك قال: {بل} أي ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك. ولما كانوا قد جرت لهم مصايب ومحن، وشدائد وفتن، ربما: ظنوا أنه لا يكون شيء من العذاب فوقها، نفى أن يكونوا ذاقوا شيئاً من عذابه الذي يرسله عند إرادة الانتقام، فعبر بما يفيد استغراق النفي في جميع الزمن الماضي فقال: {لما يذوقوا} من أول أمرهم إلى الآن {عذاب *} أي الذي أعددته للمكذبين فهم في عزة وشقاق، ولو ذاقوه لانحلت عرى عزائمهم، وصاروا أذل شيء وأحقره أدناه وأصغره! وإطباق(16/336)
أهل الرسم وأكثر القراء على حذف يائه رسماً وقراءة إشارة إلى أنه العذاب الأدنى المذهب لحمية الجاهلية، وإثبات يعقوب وحده لها في الحالين إشارة إلى أنه العذاب المعد لإهلاك الأمم الطاغية لا مطلق العذاب.(16/337)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
ولما أرشد إنكارهم خصوصيته بالذكر بنفي شكهم اللازم منه إثبات أنهم على علم بأنه مرسل، وأنه أحقهم بالرسالة إلى أن التقدير: أفيهم غيره من هو أهل لتلقي هذا الذكر حتى ينزله الله عليه ويترك هذا البشير النذير صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عادل به قوله: {أم عندهم} أي خاصة دون غيرهم {خزائن رحمة} ولما كان إنزال الوحي إحساناً إلى المنزل عليه، عدل عن إفراد الضمير إلى صفة الإحسان المفيدة للتربية، فقال مخاطباً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه أضخم لشأنه، وأفخم لمقداره ومكانه: {ربك} أي المحسن إليك بإنزاله ليخصوا به من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا {أهم يقسمون رحمة ربك} [الزخرف: 32] ولما كان لا يصلح للربوبية إلا الغالب لكل ما سواه، المفيض على من يشاء، ما يشاء، قال: {العزيز الوهاب *} أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، ويفيض على جهة التفضل ما يشاء على من يريد، وله صفة الإفاضة(16/337)
متكررة الآثار على الدوام، فلا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى.
ولما سلب عنهم التصرف في الخزائن، أتبعه نفي الملك عما شاهدوا منها وهو جزء يسير جداً فقال: {أم لهم} أي خاصة {ملك السماوات والأرض} ولما كان الحكم على ذلك لا يستلزم الحكم على الفضاء قال: {وما بينهما} أي لتكون كلمتهم في هذا الكون هي النافذة ويتكلموا في الأمور الإلهية ويسندوا ما شاؤوا من الأمور الجليلة إلى من شاؤوا، ثم بين عجزهم وبكتهم وقرعهم ووبخهم بما سبب عن ذلك من قوله: {فليرتقوا *} أي يتكلفوا الرقي إن كان لهم ذلك {في الأسباب *} أي الطرق الموصلة إلى السماء ليستووا على العرش الذي هو أمارة الملك فيدبروا العالم فيخصوا من شاؤوا بالرسالة ليعلم أن لهم ذلك وأنه لا يسوغ لأحد أن يختص دونهم بشيء.
ولما انتفى عنهم بما مضى وعن كل من يدعون ممالأته ومناصرته عن آلهتهم وغيرها خصائص الإلهية، أنتج ذلك أنهم من جملة عباده سبحانه، فعبر عن حالهم بأعلى ما يصلون إليه من التجمع والتعاضد الذي دل عليه ما تقدم الإخبار عنه من عزتهم وشقاقهم، ونفرتهم عن القبول وانطلاقهم، فقال مخبراً عن مبتدأ حذف لوضوح العلم به:(16/338)
{جند ما} أي ليسوا في شيء مما مضى وإنما هم جند حقيرون من بعض جنودنا متعاونون في نجدة بعضهم لبعض، قال أبو حيان: ويجوز أن تكون «ما» صفة أريد بها التعظيم على سبيل الهزء بهم أو التحقير لأن «ما» الصفة تستعمل لهذين المعنيين. وبين بعدهم من غير ما أقامهم فيه واستعملهم له من الرتب التي فرضها لهم وسفولهم عنها بقوله واصفاً لجند: {هنالك} أي في الحضيض عن هذه المرامي العالية، وبين أنه كثيراً ما تحزب أمثالهم على الرسل فما ضروا إلا أنفسهم بقوله واصفاً بعد وصف مفرداً تحقيراً: {مهزوم} أي له الانهزام صفة راسخة ثابتة {من الأحزاب *} أي الذين جرت عادتهم عزة وشقاقاً بالتحزب على الأنبياء ثم تكون عليهم الدائرة، وللرسل عليهم السلام العاقبة، فلا تكترث بهم أصلاً قال ابن برّجان: فكان أول جند مهزوم منهم جند غزوة بدر، ثم انبسط(16/339)
صدق الحديث على جنود كثيرة في وقائع مختلفة.
ولما أوجب ذلك التشوف إلى بيان الأحزاب الماضية، وكانوا أحقر شيء بالنسبة إليه سبحانه مع شدتهم في أنفسهم، بين ذلك بالتاء الدالة على الرتبة الثانية المؤخرة، وهي رتبة التأنيث اللازم منه الضعف فقال: {كذبت} ولما كانت نيتهم التكذيب لا إلى آخر، عدّوا مستغرقين للزمان فنزع الجار وقيل: {قبلهم} أي مثل تكذيبهم. ولما كان لأول المكذبين من الكثرة والقوة والاجتماع على طول الأزمان ما لم يكن لمن بعدهم، كانوا مع تقدمهم في الزمان أحق بالتقديم في هذا السياق فقال: {قوم نوح} واستمروا في عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم، ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام في أن يركبوا معه أو يدعو لهم فينجوا.
ولما كان لقوم هود عليه السلام بعدهم من الضخامة والعز ما ليس لغيرهم مع قوة الأبدان وعلوا الهمم واتساع الملك حتى بنوا جنة في الأرض، أتبعهم بهم، ومن مناسبتهم لهم في أن عذابهم بالريح التي هي سبب السحاب الحامل للماء فقال: {وعاد} مسمياً لهم بالاسم المنبه على ما كان لهم من المكنة بالملك، واستمروا في شقاقهم إلى أن خرجت عليهم الريح، ورأوها تحمل الإبل فيما بين السماء والأرض، وهجم(16/340)
عليهم أوائلها وهم يرون هوداً عليه السلام ومن معه من المؤمنين رضي الله عنهم في عافية منها، ولم يدعهم الشقاق يسألونه في الدعاء لهم ولا يذعنون لما دعاهم إليه.
ولما كان لهم من القوة والملك في جميع الأرض وبناء إرم ذات العماد ما يتضاءل معه ملك كل ملك، أتبعهم ملكاً ضخماً قهر غيره بعز سلطانه وكثرة أعوانه، حتى ادعى الألهية في زمانه، وتكبر بسعة ملكه والأنهار الجارية من تحته مع ما له من الوفاق لهم بأن عذابه كان بالريح باطناً وإن كان بالماء ظاهراً وذلك أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر أرسل الله الريح ففرقته طرقاً وأيبست تلك الطرق، ولما خلص بنو إسرائيل أمرها الله تعالى فسكنت، فانطبق البحر على فرعون وآله، فقال تعالى: {وفرعون} ذكره باسمه نصاً على حقيقة أمره وتصريحاً بكفره إبطالاً لما أظهره الأخابث من شره طعناً في الدين وتشكيكاً لضعفاء المسلمين.
ولما نص على كفره، وصفه بما يدل مع الدلالة على مشاركة عاد في ضخامة الأمر وعلى كفر قومه فقال: {ذو الأوتاد *} أي الأسباب الموجبة لثبات الملك وتقويته من علو السلطان بكثرة الأعوان والتفرد(16/341)
بالأوامر وسعة العقل ودقة المكر وكثرة الحيل بالسحر وغيره وجودة التدبير بالعدل فيما يزعم وصولة القهر، قال أبو حيان: وأصله من البيت المطنب بأوتاده - قال الأفوه الأودي:
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
واستمروا في عزة وشقاق وهم يضربون تارة بالطوفان وتارة بالجراد وتارة بالقمل، وأخرى بالضفادع وبغير ذلك، إلى أن رأوا آية البحر التي هي الغاية ولم يردهم شيء من ذلك عن شقاقهم إلى أن غرقوا على كفرهم عن بكرة أبيهم كما صرحت به هذه الآية.(16/342)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
ولما كانت ثمود أضخم الناس بعدهم بما لهم من إتقان الأبنية في الجبال والسهول والتوسع بعمارة الحدائق وإنباط العيون وغير ذلك من الأمور، مع مناسبتهم لهم في رؤية الآيات المحسوسة الظاهرة العظيمة أتبعهم بهم فقال: {وثمود} واستمروا فيما هم فيه إلى أن رأوا علامات العذاب من صفرة الوجوه ثم حمرتها ثم سوادها، ولم يكن لهم في ذلك زاجر يردهم عن عزتهم وشقاقهم.
ولما كان الحامل لثمود على المعصية الموجبة العذاب النساء لأن عاقر الناقة ما اجترأ على عقرها إلا لامرأة منهم جعلت له على عقرها(16/342)
زواجها، وكان الموجب لعذاب قوم لوط إتيان الذكور، فالجامع بينهم الشهوة الفرج مع الطباق بالذكور والإناث، مع أن عذاب ثمود برجف ديارهم، وعذاب قوم لوط بقلع مدائنهم وحملها ثم قلبها، أتبعهم بهم فقال معبراً بما يدل على قوتهم مضيفاً لهم إلى نبيهم عليه السلام لأنهم عدة مداين ليس لهم اسم جامع كقوم نوح عليه السلام: {وقوم لوط} أي الذين لهم قوة القيام بما يحاولونه واستمروا في عزتهم وشقاقهم حتى ضربوا بالعشا وطمس الأعين، ولم يقدروا على الوصول إلى ما أرادوا من الدخول إلى بيت لوط عليه السلام ولا التمكن مما أرادوا ولم يردهم ذلك عن عزتهم وشقاقهم، بل توعدوه بطلوع النهار.
ولما ذكر أهل المدر، أتبعهم طائفة من أهل الوبر يقاربونهم في الاستعصاء بالشجر، مع أن عذابهم بظلة النار كما كان لقوم لوط عليه السلام حجارة من نار فقال: {وأصحاب لئيْكَةِ} ثم عظم أمرهم تهويناً لأمر قريش وردعاً لهم بالحث على استحضار عذابهم فقال: {أولئك} أي العظماء في التجند والاجتماع على من يناوونه {الأحزاب *} أي الذين أقصى رتب هؤلاء في المخالفة أن يكونوا مثل حزب منهم.(16/343)
ولما كان في معرض المعارضة لتألبهم وشقاقهم، وتجمعهم على المناواة باطلاً واتفاقهم، ولما كانوا لما عندهم من العناد وحمية الجاهلية ربما أنكروا أن يكون هلاك هؤلاء الأحزاب لأجل التكذيب، وقالوا: هو عادة الدهر في الإهلاك والتخالف في أسباب الهلاك، قال مؤكداً بأنواع التأكيد: {إن} أي ما {كل} من هذه الفرق كان لهلاكه سبب من الأسباب {إلا} أنه {كذب الرسل} أي كلهم بتكذيب رسوله، فإن من كذب رسولاً واحداً مع ثبوت رسالته فقد استهان بمن أرسله، وذلك ملزوم لتكذيب جميع من يرسله لتساوي أقدام المعجزات التي ثبتت رسالتهم بها في إيجاب التصديق {فحق} أي فتسبب عن ذلك التكذيب أنه حق {عقاب *} أي ثبت عليه فلم يقدر على التخلص منه بوجه من الوجوه والعدول إلى إفراد الضمير مع أسلوب التكلم لأن المقام للتوحيد كما مضى وهو أنص على المراد، وتقدم السر في حذف الياء رسماً في جميع المصاحف، وقراءة عند أكثر القراء وفي إثباتها في الحالين ليعقوب وحده.
ولما كان السياق للشقاق والإذعان للذكر الذي هو الموعظة ذات الشرف:
ولا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
كان الحال مقتضياً للعقوبة بخلاف ما في «ق» فإن السياق لإنكارهم البعث(16/344)
وصحة النذارة وإثبات المجد، فكان الوعيد في ذلك كافياً.
ولما كان التقدير: فلقد أعقبنا كلاًّ من أولئك الأحزاب لما حق عليهم العقاب بنوع من الأنواع لا شك فيه عند أحد ولا ارتياب، عطف عليه قوله: {وما} ولما كانت قريش في شدة العناد والتصميم على الكفر والاستكبار عن الإذعان للحق وتعاطي جميع أسباب العذاب كأنهم ينتظرونه ويستعجلونه، عبر بما يدل على الانتظار. ولما كانوا لمعرفتهم بصدق الآتي إليهم والقطع بصحة ما يقول كأنهم يرون العذاب ولا يرجعون، جرد فعل الانتظار فقال: {ينظر} وحقرهم بقوله: {هؤلاء} أي الذين أدبروا عنك في عزة وشقاق، وغاية جهدهم أن يكونوا من الأحزاب الذين تحزبوا على جندنا فأخذناهم بما هو مشهور من وقائعنا ومعروف من أيامنا بأصناف العذاب، ولم تغن عنهم كثرتهم ولا قوتهم شيئاً ولم يضر جندنا ضعفهم ولا قلتهم {إلا صيحة} وحقر أمرهم بالإشارة إلى أن أقل شيء من عذابه كافٍ في إهلاكهم فقال {واحدة} ولما كان السياق للتهديد فعلم به أن الوصف بالوحدة للتعظيم، بينه بقوله: {ما لها} أي الصيحة {من فواق *} أي مزيد أيّ شيء من جنسها يكون فوقها، يقال: فاق أصحابه فوقاً وفواقاً، علاهم، وقرأه(16/345)
حمزة بالضم فيكون كناية عن سرعة الهلاك بها من غير تأخر أصلاً، فإن الفواق كغراب ما يأخذ المحتضر عند النزاع، والمعنى أنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى زيادة على الصيحة الموصوفة لأنه لا صيحة فوقها، ففي ذلك تعظيم أقل شيء من عذابه وتحقير أعلى شيء من أمرهم ويجوز أن تكون القرءاتان من فواق الحلب، قال الصغائي: والفواق والفواق أي بالضم والفتح: ما بين الحلبتين من الوقت لأنها تحلب ثم تترك سريعة يرضعها الفصيل لتدر قال في القاموس: أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع، فالمعنى: ما لها من رجوع كما يرجع اللبن في الضرع عن الفواق وكما يرجع المريض بالإفاقة من المرض إلى الصحة، أو ما لها من انفصال وافتراق بقدر ما يتنفس فيه أحد أقل تنفس وأقصره زمناً كما هي عادة الأصوات المألوفة يكون فيها ترجيع يوجب في الصوت تقطعاً يصير به وقعه ضعيفاً فاتراً، واعتماده على مخرجه رخواً، بل هي صماء على نمط واحد لا تفجأ أحداً إلا مات إلا من ثبته الله تعالى، ويجوز أن يكون من فواق المحتضر، أي أنه ليس فيها مقدمة للموت غير قرع الصوت، وهذا موافق لقولهم: ما لها(16/346)
من نظرة وراحة - والله أعلم.
ولما عجب منهم بما مضى، وأبطل شبههم وعرفهم أنهم قد عرضوا أنفسهم للهلاك تعريضاً قريباً، أتبع ذلك تعجيباً أشد من الأول فقال: {وقالوا} أي استهزاء غير هائبين ما هددناهم به ولا ناظرين في عاقبته: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {عجل لنا} أي إحساناً إلينا {قطنا} أي نصيباً من العذاب الذي توعدنا به وكتابنا الذي كتبت فيه ذلك وأحصيت فيه أعمالنا، وأصله من قط الشيء - إذا قطعه، ومنه قط القلم، وأكثر استعماله في الكتاب.
ولما كان المراد بهذا المبالغة في الاستهزاء بطلب العذاب في جميع الأزمان التي بينهم وبين القيامة، أسقطوا حرف الجر وقالوا: {قبل يوم الحساب *} فجعلوا جميع الزمان الذي بينهم وبينه ظرفاً لذلك، وجعلوا تعجيله من الإحسان إليهم دلالة على الإعراق في الاستهزاء، وعبر بالقط زيادة في التنبيه على ركوب الهوى من غير دليل فإن مادته دائرة في الأغلب على ما يكره، واشتقاقه من القط وهو القطع، فالقط النصيب والصك وكتاب المحاسبة لأنه قطعه من الورق،(16/347)
والحساب قطعة من الأمور وهو يقطع فيه بما هو له والساعة - لأنها قطعة من الزمان وتقطقط الرجل: ركب رأسه أي تبع هواه الذي هو قطعة من أمره، وجاءت الخيل قطاقط أي قطعاً وجماعات في تفرقة، والقط: القطع، والقطط: القصير الجعد، والطقطقة: حكاية صوت الحجارة، فكأنهم قالوا: عجل من ذلك ما يكون مقطوعاً به لا شك فيه ويسمع صوته على غاية الشدة فيهلك ويفرق بين الأحباب ويكتب في كل صك، ويتلى خبره في سائر الأحقاب، فإن ذلك هو أنا لا نرجع عنه لشيء أصلاً، فسبحان الحليم الذي أكرمنا ورحمنا بنبي الرحمة، فلم يعجل لنا النقمة، وأقبل بقلوبنا إليه، وقصر هممنا بعد أن كانت في أشد بعد عليه. ولما بلغ السيل في ركوبهم الباطل عناداً - الزبى، وتجاوز في طغيانه رؤوس الربى، وكان سؤالهم في تعجيل العذاب استهزاء مع ما قدموا من الإكذاب، والكلام البعيد عن الصواب، ربما اقتضى أن يسأل في تعجيل ما طلبوا، وربما أوقع في ظن أن إعراضهم والابتلاء بهم ربما كان لشيء في البلاء أو المبلغ، بين تعالى أن عادته الابتلاء للصالحين رفعة لدرجاتهم، فقال تعالى مسلياً ومعزياً ومؤسياً لهذا النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن تقدمه من إخوانه الأنبياء(16/348)
والمرسلين، مذكراً له بما قاسوا من الشدائد وما لاقوا من المحن، وحاثاً على العمل بأعمالهم آمراً بالتأني والتؤدة والحلم، ومحذراً من العجلة والتبرم والضجر، وبدأ بأهل الشرف لأن السياق لشرف القرآن الذي يلزم منه شرف صاحبه تعريفاً بأنه لا يلزم من الشرف الراحة في الدنيا، ومنبهاً على أن شرفه محوج عن قرب بكثرة الأتباع إلى الحكم بين ذوي الخصومات والنزاع الذي لا قوام له إلا بالحلم والأناة والصبر، وبدأ من أهل الشرف بمن كان أول أمره مثل أول أمر هذا النبي الكريم في استضعاف قومه له وآخر أمره ملكاً ثابت الأركان مهيب السلطان، ليكون حاله مثلاً له فيحصل به تمام التسلية: {اصبر} وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال: {على ما} وزاد في الحث عليه بالمضارع فقال: {يقولون} أي يجددون قوله في كل حين من الأقوال المنكية الموجعة المبكية، فإنه ليس لنقص فيك، ولكنه لحكم تجل عن الوصف، مدارها زيادة شرفك ورفعة درجاتك، وصرف الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء ما يذكر من التسخير لذلك: {واذكر عبدنا} أي الذي أخلصناه لنا وأخلص نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا، وأبدل منه أو بقوله: {داود ذا الأيد} أي القوى العظيمة في تخليص نفسه من علائق الأجسام، فكانت قوته(16/349)
في ذلك سبباً لعروجه إلى المراتب العظام.
ولما كان أعظم الجهاد الإنقاذ من حفائر الهفوات وأوامر الشهوات، بالإصعاد في مدارج الكمالات، ومعارج الإقبال، وكان ذلك لا يكاد يوجد في الآدميين لما حفوا به من الشهوات وركز في طباعهم من الغفلات، علل قوته بقوله مؤكداً: {إنه أواب *} أي رجاع إلى الله تعالى ليصير إلى ما خلقه عليه من أحسن تقويم بالعقل المحض أطلق العلو درجة درجة على الرجوع، لأن ذلك دون الرتبة التي تكون نهاية عند الموت، فكان المقضي له بها أنزل نفسه عنها، ثم صار يرجع إليها كل لحظة بما يكابد من المجاهدات والمنازلات والمحاولات حتى وصل إليها بعد التجرد عن الهوى كله. ولما كان الإنسان لا يزال يتقرب إلى الله تعالى حتى يحبه فإذا أحبه صار يفعل به سبحانه، وظهرت على يديه الخوارق، قال مستأنفاً جواباً لمن سأل عن جزائه على ذلك الجهاد، مؤكداً له لما طبع عليه البشر من إنكار الخوارق لتقيده بالمألوفات: {إنا} أي على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء {سخرنا الجبال} أي التي هي أقسى من قلوب قومك فإنها أعظم الأراضي صلابة وقوة وعلواً ورفعة، بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل الأنف، ثم قيد ذلك بقوله: {معه} أي مصاحبة له فلم يوجد ذلك التسخير(16/350)
ظاهراً لأحد بعده ولا قبله، ولما كان وجود التسبيح من الجبال شيئاً فشيئاً أعجب لأنها جماد، عبر بالفعل المضارع، فقال مصوراً لتلك الحال معبراً بضمير الإناث إشارة إلى أنها بعد ما لها من الصلابة صارت في غاية اللين والرخاوة، يسبح كل جبل منها بصوت غير مشبه بصوت الآخر، لأن ذلك أقرب إلى التمييز والعلم بتسبيح كل على انفراده: {يسبحن} ولم يقل: «مسبحة» أو «تسبح» لئلا يظن أن تسبيحها بصوت واحد ليشكل الأمر في بعضها، وهو يمكن أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً بمعنى أنهن ينقدن له بالتسبيح قالاً وحالاً انقياد المختار المطيع لله.
ولما كان في سياق الأوبة، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذي إلف إلى مألفه مع أنه وقت الفتور والاستراحة من المتاعب قال: {بالعشي} أي تقوية للعامل وتذكيراً للغافل. ولما كان في سياق الفيض والتشريف بالقرآن قال: {والإشراق *} أي في وقت ارتفاع الشمس عن انتشاب الناس في الأشغال، واشتغالهم بالمآكل والملاذ من الأقوال والأفعال، تذكيراً لهم وترجيعاً عن مألوفاتهم إلى تقديس ربهم سبحانه، وليس الإشراق طلوع الشمس، إنما هو صفاؤها(16/351)
وضوءها، وشروقها طلوعها، وروت أم هانىء رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في بيتها الضحى وقال لها: «هذه صلاة الإشراق» وفي الجامع لعبد الرزاق أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلاة الضحى في القرآن، ولكن لا يغوص عليها إلا غائص، ثم قرأ هذه الآية. وإليها الإشارة أيضاً - والله أعلم - بصلاة الأوابين {واذكر عبدنا داود ذا الأيد أنه أواب} {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد أنه أواب} {يا جبال أوبي معه} {والطير محشورة كل له أواب} روى مسلم في صحيحه وعبد بن حميد في مسنده والدارمي في جامعه المسمى بالمسند عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال» ، ولفظ الدارمي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج عليهم وهو يصلون بعد طلوع الشمس فقال: «صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال» ، ولفظ عبد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاهم في مسجد قباء فرآهم يصلون الضحى فقال: «هذه صلاة الأوابين وكانوا يصلونها إذا رمضت الفصال» أي بركت من شدة الحر وإحراقه أخفافها، من الرمض - بالتحريك، وهو شدة الشمس على الرمل وغيره، والرمضاء: الشديدة الحر.(16/352)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
ولما أخبر سبحانه عن تسخير أثقل الأشياء وأثبتها له، أتبعها أخفها وأكثرها انتقالاً، وعبر فيها بالاسم الدال على الاجتماع جملة والثبات لأنه أدل على القدرة فقال معبراً باسم الجمع دون الجمع إشارة إلى أنها في شدة الاجتماع كأنها شي واحد، ذكر حالها في وصف صالح للواحد، وجعله مؤنثاً إشارة إلى ما تقدم من الرخاوة اللازمة للإناث المقتضية لغاية الطواعية والقبول لتصرف الأحكام: {والطير} أي سخرناها له حال كونها {محشورة} أي مجموعة إليه كرهاً من كل جانب دفعة واحدة - بما دل التعبير بالاسم دون الفعل وهو أدل على القدرة وهي أشد نفرة من قومك وأعسر ضبطاً وهذا كما كان الحصى يسبح في يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي يد بعض أصحابه، وكما تحرك الجبل فضربه برجله وقال: «اسكن أحد» فسكن، وكما حشر الدبر على رأس عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح رضي الله عنه فمنع من أخذه ليتلعب به، فلما جاء الليل أرسل الله سيلاً فاحتمله إلى حيث لم يعرف له خبر ولا وقف له على أثر {كل} أي كل واحد من الجبال والطير {له أواب *} أي رجاع لأجل داود عليه السلام خاصة(16/353)
عن مألوفه لا بمعنى آخر مما ألفته، فكلما رجع هو عن حكمه وما هو فيه من الشغل بالخلق إلى تسبيح الحق رجعت معه بذلك الجبال والطير، وجعل الخبر مفرداً إشارة إلى إلى شدة زجلها بالتأديب وعظمته، والإفراد أيضاً يفيد الحكم على كل فرد، ولو جمع لطرقه احتمال أن الحكم على المجموع يقيد الجمع، فكأن داود عليه السلام يفهم تسبيح الجبال والطير، وينقاد له كل منهما إذا أمره بالتسبيح، وكل من تحقق بحاله ساعده كل شيء - قاله القشيري، ففي هذا إشارة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنا متى شئنا جعلنا قومك معك في التسخير هكذا، فلا تيأس منهم على شدة نفرتهم وقوة سماجتهم وغرتهم، فإنا جعلناهم كذلك لتروض نفسك بهم وتزداد بالصبر عليهم جلالاً، وعلواً ورفعة وكمالاً - إلى غير ذلك من الحكم التي لا تسعها العقول، ولا تيأس من لينهم لك ورجوعهم إليك فإنهم لا يعدون أن يكونوا كالجبال قوة وصلابة، أو الطير نفرة وطيشاً وخفة، فمتى شئنا جعلناهم لك مثل ما جعلنا الجبال والطير مع داود عليه السلام، بل أمرهم أيسر وشأنهم أهون.
ولما كان هذا دالاً على الملك من حيث أنه التصرف في الأشياء العظيمة قسراً، فكان كأنه قيل: كل ذلك إثباتاً لنبوته وتعظيماً لملكه،(16/354)
قال: {وشددنا} أي بما لنا من العظمة {ملكه} بغير ذلك مما يحتاج إليه الملك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان أشد ملوك الأرض سلطاناً.
ولما كان أعظم المثبتات للملك المعرفة قال: {وآتيناه} أي بعظمتنا {الحكمة} أي النبوة التي ينشأ عنها العلم بالأشياء على ما هي عليه، ووضع الأشياء في أحكم مواضعها، فالحكمة العمل بالعلم. ولما كان تمامه بقطع النزاع قال: {وفصل الخطاب *} أي ومعرفة الفرق بين ما يلتبس في كلام المخاطبين له من غير كبير روية في ذلك، بل يفرق بديهة بين المتشابهات بحيث لا يدع لبساً يمكن أن يكون معه نزاع لغير معاند وكسوناه عزاً وهيبة ووقاراً يمنع أن يجترىء أحد على العناد في شيء من أمره بعد ذلك البيان الذي فصل بين المتشابهات، وميز بين المشكلات الغامضات، وإذا تكلم وقف على المفاصل، فيبين من سرده للحديث معانيه، ويضع الشيء في أحكم مبانيه.
ولما كان السياق للتدريب على الصبر والتثبيت الشافي والتدبر التام والابتلاء لأهل القرب، وكان المظنون بمن أوتي فصل الخطاب(16/355)
أن لا يقع له لبس في حكم ولا عجلة في أمر، وكان التقدير: هل أتتك هذه الأنباء، عطف عليه - مبيناً عواقب العجلة معلماً أن على من أعطى المعارف أن لا يزال ناظراً إلى من أعطاه ذلك سائلاً له التفهيم، استعجازاً لنفسه متصوراً لمقام العبودية التي كرر التنبيه عليها في هذه السورة بنحو قوله: «نعم العبد» قوله في سياق ظاهره الاستفهام وباطنه التنبيه على ما في ذلك من الغرابة خبره العظيم جداً، وأفرده وإن كان المراد الجمع دلالة على أنهم على كلمة واحدة في إظهار الخصومة لا يظهر لأحد منهم أنه متوسط مثلاً ونحو ذلك.
ولما كان الخصم مصدراً يقع على الواحد فما فوقه ذكراً كان أو أنثى، وكان يصح تسمية ربقة المتخاصمين خصماً لأنهم في صورة الخصم قال: {إذا} أي خبر تخاصمهم حين {تسوروا} أي صعدوا السور ونزلوا من هم ومن معهم، آخذاً من السور وهو الوثوب {المحراب *} أي أشرف ما في موضع العبادة الذي كان داود عليه السلام به، وهو كناية عن أنهم جاؤوه في يوم العبادة ومن غير الباب، فخالفوا عادة الناس في الأمرين، وكأن المحراب الذي تسوروه كان فيه باب من داخل باب آخر، فنبه على ذلك بأن أبدل(16/356)
من «إذ» الأول قوله: {إذ} أي حين {دخلوا} وصرح باسمه رفعاً للبس وإشعاراً بما له من قرب المنزلة وعظيم الود فقال: {على داود} ابتلاء منا له مع ما له من ضخامة الملك وعظم القرب منا، وبين أن ذلك كان على وجه يهول أمره إما لكونه في موضع لا يقدر عليه أحد أو غير ذلك بقوله: {ففزع} أي ذعر وفرق وخاف {منهم} أي مع ما هو فيه من ضخامة الملك وشجاعة القلب وعلم الحكمة وعز السلطان.
ولما كان كأنه قيل: فما قالوا له؟ قال: {قالوا لا تخف} ولما كان ذلك موجباً لذهاب الفكر في شأنهم كل مذهب، عينوا أمرهم بقولهم: {خصمان} أي نحن فريقان في خصومة، ثم بينوا ذلك بقولهم: {بغى بعضنا} أي طلب طلبة علو واستطالة {على بعض} فأبهم أولاً ليفصل ثانياً فيكون أوقع في النفس، ولما تسبب عن هذا سؤاله في الحكم قالوا: {فاحكم بيننا بالحق} أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، وإنما سألاه ذلك مع العلم بأنه لا يحكم إلا بالعدل ليكون أجدر بالمعاتبة عند أدنى هفوة {ولا تشطط} أي لا توقع البعد ومجاوزة الحد لا في العبارة عن ذلك بحيث يلتبس علينا المراد ولا في غير ذلك،(16/357)
أو ولا تمعن في تتبع مداق الأمور فإني أرضى بالحق على أدنى الوجوه، ولذا أتى به من الرباعي والثلاثي بمعناه، قال أبو عبيد: شط في الحكم وأشط - إذا جار، ولذا أيضاً فك الإدغام إشارة إلى أن النهي إنما هو عن الشطط الواضح جداً. ولما كان الحق له أعلى وأدنى وأوسط، طلبوا التعريف بالأوسط فقالوا {واهدنا} أي أرشدنا {إلى سواء} أي وسط {الصراط *} أي الطريق الواضح، فلا يكون بسبب التوسط ميل إلى أحد الجانبين: الإفراط في تتبع مداق الأمر والتفريط في إهمال ذلك.(16/358)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
ولما كانت هذه الدعوى بأمر مستغرب يكاد أن لا يسمعه أحد إلا أنكره ساق الكلام مؤكداً فقال: {إن هذا} يشير إلى شخص من الداخلين، ثم أبدل منه قوله: {أخي} أي في الدين والصحبة، ثم أخبر عنه بقوله: {له تسع وتسعون نعجة} ويجوز أن يكون {أخي} هو الخبر والتأكيد حينئذ لأجل استبعاد مخاصمة الأخ وعدوانه على أخيه ويكون ما بعده استئنافاً {ولي} أي أنا أيها المدعي {نعجة} ولما كان ذلك محتملاً لأن يكون جنساً أكده بقوله: {واحدة} ثم سبب عنه قوله: {فقال} أي الذي له الأكثر: {أكفلنيها} أي أعطنيها لأكون كافلاً لها {وعزني} أي غلبني وقوى عليّ واشتد وأغلظ بي {في الخطاب *} أي الكلام الذي له شأن من جدال(16/358)
وغيره بأن حاورني إلى أن أملّني فسكت عجزاً عن التمادي معه، ولم يقنع مني بشيء دون مراده.
ولما تمت الدعوى، حصل التشوف إلى الجواب فاستؤنف قوله: {قال} أي على تقدير صحة ما قلت، وذلك أنه لما رأى الخصم قد سكت ولم ينكر مما قال المدعي شيئاً، وربما أظهر هيئة تدل على تصديقه قال ذلك فعوتب وإن كان له مخرج، كل ذلك تدريباً على التثبت في القضاء وأن لا ينحي نحو القرآئن، وأن لا يقنع فيه إلا بمثل الشمس، وأكد قوله في سياق القسم ردعاً للظالم على تقدير صحة الدعوى بالمبالغة في إنكار فعله لأن حال من فعل شيئاً مؤذن بإنكار كونه ظالماً وكون فعله ظلماً. مفتتحاً لقوله بحرف التوقع لاقتضاء حال الدعوى له: {لقد ظلمك} أي والله قد أوقع ما فعله معك في غير موقعه على تقدير صحة دعواك {بسؤال نعجتك} أي بأن سألك أن يضمها، وأفاد أن ذلك على وجه الاختصاص بقوله: {إلى نعاجه} بنفسه أو بغيره نيابة عنه ولذا لم يقل: بسؤاله ثم عطف على ذلك أمراً كلياً جامعاً لهم ولغيرهم واعظاً ومرغباً ومرهباً ولما كانت الخلطة موجبة لظن الألفة لوجود العدل والنصفة واستبعاد وجود البغي معها، أكد قوله واعظاً للباغي إن كان وملوحاً بالإغضاء والصلح(16/359)
للمظلوم: {وإن كثيراً من الخلطاء} أي مطلقاً منكم ومن غيركم {ليبغي} أي يتعدى ويستطيل {بعضهم} عالياً {على بعض} فيريدون غير الحق {إلا الذين آمنوا} من الخلطاء {وعملوا} أي تصديقاً لما ادعوه من الإيمان {الصالحات} أي كلها فإنهم لا يقع منهم بغي {وقليل} وأكد قلتهم وعجب منها بما أبهم في قوله: {ما} مثل نعماً ولأمرها {هم} وأخر هذا المبتدأ وقدم الخبر اهتماماً به لأن المراد التعريف بشدة الأسف على أن العدل في غاية القلة، أي فتأس بهم أيها المدعي وكن منهم أيها المدعى عليه.
ولما أتم ذلك ذهب الداخلون عليه فلم ير منهم أحداً فوقع في نفسه أنه لا خصومة، وأنهم إنما أرادوا أن يجربوه في الحكم ويدربوه عليه، وأنه يجوز للشخص أن يقول ما لم يقع إذا انبنى عليه فائدة عظيمة تعين ذلك الكلام طريقاً للوصول إليها أو كان أحسن الطرق مع خلو الأمر عن فساد، وحاصله أنه تذكر كلام، والمراد به بعض لوازمه، فهو مثل دلالة التضمن في المفردات، وهذا مثل قول سليمان عليه السلام «ائتوني بالسكين أشقه بينهما» وليس مراده إلا ما يلزم عن ذلك من(16/360)
معرفة الصادقة والكاذبة بإباء الأم لذلك وتسليم المدعية كذباً، وتحقيقه أنه لا ملازمة بين الكلام وإرادة المعنى المطابقي لمفردات ألفاظه بدليل لغو اليمين، وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصفية رضي الله عنها
«عقرى حلقى» ولأم سلمة رضي الله عنها «تربت يمينك» وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد» مشير إلى أن الكلام قد لا يراد به معناه، ومن هنا كان الحكم في ألفاظ الكنايات أنه لا يقع بها شيء إلا إن اقترن بقصد المعنى، ولما كان هذا القدر معلوماً عطف عليه قوله: {وظن داود} أي بذهابهم قبل فصل الأمر وقد دهمه من ذلك أمر عظيم من عظمة الله لا عهد له بمثله {أنما فتناه} أي اختبرناه بهذه الحكومة في الأحكام التي يلزم الملوك مثلها ليتبين أمرهم فيها. وعلم أنه بادر إلى نسبة المدعى عليه إلى أنه ظلم من قبل أن يسمع كلامه ويسأله المدعي الحكم، فعاتبه الله على ذلك، والأنبياء عليهم السلام لعلو مقاماتهم يعاتبون على مثل هذا، وهو من قصر الموصوف على الصفة قلباً، أي هذه القصة مقصورة على الفتنة لا تعلق لها بالخصوصة، ولو كان المراد ما قيل من قصة المرأة التي على كل مسلم تنزيهه وسائر إخوانه عليهم السلام عن مثلها لقيل «وعلم داود» ولم يقل: وظن -(16/361)
كما يشهد بذلك كل من له أدنى ذوق في المحاورات - والله الموفق، وقال الزمخشري: وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين، وهو حد الفرية على الأنبياء عليهم السلام، وروي أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز، وعنده رجل من أهل الحق، فكذب المحدث به وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله عز وجل فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما ينبغي إظهارها عليه، فقال عمر بن عبد العزيز: لسماعي هذا الكلام أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس.
وتلك القصة وأمثالها من كذب اليهود، وأخبرني بعض من أسلم منهم أنهم يتعمدون ذلك في حق داود عليه السلام لأن عيسى عليه السلام من ذريته ليجدوا السبيل إلى الطعن فيه.
ولما ظن هذا، سبب له تحقيق ما وصفه الله من الأوبة فعبر عن ذلك بقوله: {فاستغفر} ولما استغرقته العظمة التي هذا مخرها، رجع إلى ذكر الإحسان واللطف فقال: {ربه} أي طلب الغفران(16/362)
من مولاه الذي أحسن إليه بإحلاله ذلك المحل العظيم من أن يعود للحكم للأول بدون أن يسمع الآخر {وخر} أي سقط من قيامه توبة لربه عن ذلك، ولما كان الخرور قد يكون لغير العبادة قال: {راكعاً} أي ساجداً لأن الخرور لا يكون إلا للسقوط على الأرض، ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسره بالسجود فيما روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد في «ص» وقال: «سجدها داود توبة ونسجدها شكراً» وعبر بالركوع عن السجود ليفهم أنه كان عن قيام وأنه في غاية السرعة لقوة الاهتمام به وتوفر الداعي إليه بحيث إنه وصل إلى السجود في مقدار ما يصل غيره إلى الركوع، قال ابن التياني في كتابه الموعب: وكل شيء يكب لوجهه فتمس ركبته الأرض بعد أن يطأطىء رأسه فهو راكع. ابن دريد: الراكع الذي يكبو على وجهه - انتهى. والركعة - بالضم: الهوة من الأرض، كأنها سميت بذلك لأنها تسقط فيها على الوجه، وكأنها هي أصل المادة، وقال في القاموس: ركع أي صلى، فحينئذ(16/363)
يكون المعنى: سقط مصلياً، ومعلوم أن صلاتهم لا ركوع فيها وقد تقدم ذلك في آل عمران والبقرة {وأناب *} أي تاب أي رجع عن أن يعود لمثلها. ولما كان الحال قد يشكل في الإخبار عن المغفرة لو عبر بضمير الغائب لإيهام أن ربه غير المتكلم، وكان الغفران لا يحسن إلا مع القدرة، عاد إلى مظهر العظمة إثباتاً للكمال ونفياً للنقص: فقال: {فغفرنا} أي بسبب ذلك وفي أثره على عظمتنا وتمام قدرتنا غفراً يناسب مقداره ما لنا من العظمة {له ذلك} أي الوقوع في الحديث عن إسناد الظلم إلى أحد بدون سماع لكلامه، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشترط على ربه سبحانه لأجل هذه القصة أن كل من سبه أو دعا عليه وليس أهلاً لذلك أن يكون ذلك له صلاة وبركة ورحمة، والحاصل أن هذه القضية لتدريب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصبر على قومه، والثاني فإن هذه السورة على ما روي عن جابر بن زيد من أوائل ما أنزل بمكة، وعلى هذا دل الحديث السابق عن ابن عباس رضي الله عنهما في شكوى المشركين منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عمه أبي طالب الوقوع في آلهتهم فإنه كان في أوائل الأمر، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول ما دعاهم لم يؤمر بذكر آلهتهم فلم يجيبوه ولم يبعدوا عن كل البعد، ثم أمره الله بذكر ألهتهم فناكروه حينئذ(16/364)
وباعدوه، وتقدموا ذلك بالشكوى إلى أبي طالب مرة بعد أخرى ليرده عنه، فكانت هذه الدعوى تدريباً لداود عليه السلام في الأحكام، وذكرها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدريباً له على الأناة في جميع أموره على الداوم.
ولما كان ذكر هذا ربما أوهم شيئاً في مقامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سيق في أسلوب التأكيد قوله: {وإن له} أي مع الغفران، وعظم ذلك بمظهر العظمة لأن ما ينسب إلى العظيم لا يكون إلا عظيماً فقال: {عندنا} وزاد في إظهار الاهتمام بذلك نفياً لذلك الذي ربما توهم فأكد قوله: {لزلفى} أي قربة عظيمة ثابتة بعد المغفرة {وحسن مآب *} أي مرجع في كل ما يؤمل من الخير، وفوق ذلك فهذا معلم ولا بد بأن هذه القضية لم يجر إلى ذكرها إلا الترقية في رتب الكمال لا غير ذلك، وأدل دليل على ما ذكرته - أن هذه الفتنة إنما هي بالتدريب في الحكم لا بامرأة ولا غيرها وأن ما ذكروه من قصة المرأة باطل وإن اشتهر فكم من باطل مشهور ومذكور هو عين الزور - قوله تعالى عقبها على هيئة الاستثمار منها صارفاً القول عن مظهر(16/365)
العظمة إلى المواجهة بلذيذ الخطاب، على نحو ما يجري بين الأحباب {يا داود} .
ولما كان مضمون الخبر لزيادة عظمة مما من شأنه أن تستنكره نفوس البشر، أكده لذلك وإظهاراً لأنه مما يرغب فيه لحسنه وجميل أثره وينشط غاية النشاط لذكره فقال: {إنا} أي على ما لنا من العظمة {جعلناك} فلا تحسب لشيء من أسبابه حساباً ولا تخش له عاقبة {خليفة} أي من قبلنا تنفذ أوامرنا في عبادنا فحكمك حكمنا، وحذف ما يعلم أنه مراد من نحو {قلنا} إشارة إلى أنه استقبل بهذا الكلام الألذ عند فراغه من السجود إعلاماً بصدق ظنه، وقال: {في الأرض} أي كلها إشارة إلى إطلاق أمره في جميعها، فلا جناح عليه فيما فعل في أي بلد أرادها، ولم يذكر المخلوف تعظيماً له بالإشارة إلى أن كل ما جوزه العقل فيه فهو كذلك فهو كان خليفة في بيت المقدس بالفعل على ما اقتضاه صريح الكلام بالتعبير بفي، وأشار الإطلاق والتعبير بآل إلى أنها الأرض الكاملة لانبساط الحق منها بإبراهيم عليه السلام وذريته على سائر الأرض وهو خليفة في جميع الأرض بالقوة بمعنى أنه مهما حكم فيها صح، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرسل إلى قومه خاصة فيكون(16/366)
ما يؤديه إليه واجباً عليه، وأما بقية الناس فأمره معهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهما فعله منه صح ومضى، ثم كان خليفة في جميع الأرض حقيقة بالفعل بابنه سليمان عليه السلام فاستوفى الإطلاق {وآل} المكملة أقصى ما يراد منه، إعلاماً بأن كلام القدير كله كذلك وإن لم يظهر في الحالة الراهنة، وذلك كما أن المنزل عليه هذا الذكر وبسببه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان خليفة بالفعل في أرض العرب التي هي الأرض كلها لأن الأرض دحيت منها وبيتها لأول بيت وضع للناس وهو قيام لهم، ومن انبسط القيام بالنور والعدل على جميع الأرض وفي جميع الأرض بالقوة بمعنى أنه مهما حكم به فيها مضى، فقد أعطى تميماً الداري رضي الله عنه أرض بلد الخليل من بلاد الشام قبل أن يفتح وصح ونفذ، وأعطى شويلاً رضي الله عنه بنت بقيلة من أهل الحيرة وصح ذلك ونفذ وقبض كل منهما عند الفتح ما أعطاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو من ذرية داود عليه السلام ثم في جميع الوجود يوم القيامة يوم الشفاعة العظمى يوم يكون الأنبياء كلهم تحت لوائه، ويغبطه الأولون والاخرون بذلك المقام المحمود.(16/367)
ولما تمت النعمة، سبب عنها قوله: {فاحكم بين الناس} أي الذين يتحاكمون إليك من أي قوم كانوا {بالحق} أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع. ولما كان أعدى عدو للإنسان نفسه التي بين جنبيه لما لها من الشهوات، وأعظم جناياته وأقبح خطاياه ما تأثر عنها من غير استناد إلى أمر الله، مشيراً بصيغة الافتعال إلى أنه سبحانه عفا الخطرات، وما بادر الإنسان الرجوع عنه والخلاص منه توبة إلى الله تعالى: {ولا تتبع الهوى} أي ما يهوى بصاحبه فيسقطه من أوج الرضوان إلى حضيض الشيطان، ثم سبب عنه قوله: {فيضلك} أي ذلك الاتباع أو الهوى لأن النفس إذا ضربت على ذلك صار لها خلقاً فغلب صاحبها عن ردها عنه، ولفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى تعظيماً لأمر سبيله، وحثاً على لزومه والتشرف بحلوله، فقال: {عن سبيل الله} أي طريقه التي شرعها للوصول إليه بما أنزل من النقل المؤيد بأدلة ما خلق من العقل، ولا يوصل إليه بدونها لأن اتباعه يوجب الانهماك في اللذات الجسمانية، والإهمال لتكميل القوى الروحانية، الموصلة إلى السعادة الأبدية، فإن دواعي البدن والروح متضادتان فبقدر زيادة إحداهما تنقص الأخرى.(16/368)
ولما كانت النفس نزاعة إلى الهوى، ميالة عن السوى، قال معللاً للنهي مؤكداً لما للنفس من التعللات عند المخالفة بالكرم والمغفرة الدافع للعذاب: {إن الذين يضلون} أي يوجدون الضلال بإهمالهم التقوى الموجب لاتباع الهوى المقتضي لأن يكون متبعه ضالاً {عن سبيل الله} إعادة تفخيماً لأمره وتيمناً بذكره وإيذاناً بأن سبيله مأمور به مطلقاً من غير تقييد بداود عليه السلام ولا غيره فيه {لهم عذاب شديد} أي بسبب ضلالهم.
ولما أمر سبحانه ونهى، وذكر أن السبب في النهي كراهة الضلال وعلم منه أن سبب الضلال الهوى، ذكر سبب هذا السبب فقال معبراً بالنسيان إشارة إلى أنه من شدة ظهوره كما كان محفوظاً فنسي، وفك المصدر لأنه أصرح لأنه لو عبر بالمصدر لأمكن إضافته إلى المفعول، واختيرت {ما} دون {إن} لأن صورتها صورة الموصول الاسمي، وهو أبلغ مما هو حرف صورة ومعنى: {بما نسبوا يوم الحساب} أي عاملوه معاملة المنسي بعضهم بالإنكار وبعضهم بخبث الأعمال، فإنهم لو ذكروه حقيقة لما تابعوا الهوى المقتضي للضلال على أنه مما لا يجهله من له أدنى مسكة من عقل فإنه لا يخطر في عقل عاقل أصلاً أن أقل الناس وأجهلهم يرسل أحداً إلى مزرعة له يعملها، ثم لا يحاسبه عليها(16/369)
فكيف إذا كان حكيماً فكيف إذا كان ملكاً فكيف وهو ملك الملوك، وقال الغزالي في آخر كتاب العلم من الإحياء في الكلام على العقل: ثم لما كان الإيمان مركوزاً في النفوس بالفطرة انقسم الناس إلى من أعرض فنسي، وهم الكفار، وإلى من جال فكره فتذكر، وكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها، ولذلك قال تعالى {لعلهم يتذكرون} {وليتذكر أولوا الألباب} {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به} [المائدة: 7] {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17] وتسمية هذا النمط تذكراً ليس ببعيد، وكأن التذكر ضربان: أحدهما أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه، لكن غابت بعد الوجود، والآخر أن يكون عن صورة كانت متضمنة فيه الفطرة، وهذه حقائق ظاهرة لناظر بنور البصيرة ثقيلة على من يستروح إلى السماع والتقليد دون الكشف والعيان - انتهى. وقد علم من هذه القصة وما قبلها أن المعنى: اصبر على ما يقولون الآن، فلننصرك فيما يأتي من الزمان، ولنؤيدنك كما أيدنا داود العظيم الشأن.(16/370)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
ولما كان التقدير: فما قضيناه في الأزل بيوم الحساب وتوعدنا به سدى، عطف عليه قوله صارفاً الكلام عن الغيبة إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن العظيم تأبى له عظمته غير الجد العظيم:(16/370)
{وما خلقنا} أي على ما لنا من العظمة، ويجوز أن تكون الجملة حالية. ولما كان السياق لما وقع من الشقاق عناداً لا جهلاً، ذكر من السماوات ما لا يمكن النزاع فيه مع أن اللفظ للجنس فيشمل الكل فقال: {السماء} أي التي ترونها {والأرض وما بينهما} مما تحسونه من الرياح وغيرها خلقا {باطلاً} أي لغير غاية أردناها بذلك من حساب من فيهما كما يحاسب أقل من فيكم إجزاء، ومجازاة من فيهما بالثواب لمن أطاع والعقاب لمن عصى كما يفعل أقل ملوككم فإن أدنى الناس عقلاً لا يبني بناء ضخماً إلا لغاية أرادها، وتلك الغاية هي الفصل بين الناس الذين أعطيناهم القوى والقدر في هذه الدار، وبثثنا بينهم الأسباب الموجبة لانتشار الصفاء فيهم والأكدار، وأعطيناهم العقول تنبيهاً على ما يراد، وأرسلنا فيهم الرسل، وأنزلنا إليهم الكتب، بالتعريف بما يرضينا ويسخطنا، فنابذوا كل ذلك فلو تركناهم بلا جمع لهم ولا إنصاف بينها لكان هذا الخلق كله باطلاً لا حكمة فيه أصلاً، لأن خلقه للضر أو النفع أو لا لواحد منهما، والأول باطل لأنه غير لائق بالرحيم الكريم، والثالث باطل لأنه كان في حال العدم كذلك، فلم يبق للإيجاد مرجح، فتعين الوسط وهو النفع، وهو لا يكون بالدنيا لأن ضرها أكثر من نفعها، وتحمل ضر كثير لنفع(16/371)
غير لائق بالحكيم الكريم، فتعين ما وقع الوعد الصادق به من نفع الآخرة المطابق لما ذكر من عقل العقلاء وسير النبلاء.
ولما كان هذا - وهو منابذة الحكمة - عظيماً جداً، عظمه بقوله: {ذلك} أي الأمر البعيد عن الصواب {ظن الذين كفروا} أي من أوقع هذا الظن في وقت ما، فقد أوجد الكفر لأنه جحد الحكمة التي هي البعث لإظهار صفات الكمال والمجازاة بالثواب والعقاب، ومن جحد الحكمة فقد سفه الخالق، فكان إقراره بأنه خالق كلا إقرار فكان كافراً به، ثم سبب عن هذا الظن قوله: {فويل} أي هلاك عظيم بسبب هذا الظن، وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {للذين كفروا} أي مطلقاً بهذا الظن وبغيره {من} أي مبتدأ من {النار *} أي الحكم عليهم بها.
ولما كان التقدير: أفنحن نخلق ذلك باطلاً؟ فلا يكون له مآل يظهر فيه حكمته ونحن منزهون عن العبث، عطف عليه قوله إنكاراً لما يلزم من ترك البعث من التسوية بين ما حقه المفاوتة فيه، وذلك أشد من العبث وإن كان له أن يفعل ذلك لأنه لا يقبح منه شيء: {أم نجعل} أي على عظمتنا {الذين آمنوا} أي امتثالاً(16/372)
لأوامرنا {وعملوا} أي تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} من الأعمال كالذين أفسدوا وعملوا السيئات أم نجعل المصلحين في الأرض {كالمفسدين} أي المطبوعين على الفساد الراسخين فيه {في الأرض} أي بالكفر وغيره، والتسوية بينهم لا يشك عاقل في أنها سفه {أم نجعل} على ما لنا من العز والمنعة الذين اتقوا كالذين فجروا أم نصيّر {المتقين} أي الراسخين من المؤمنين في التقوى الموجبة للتوقف عن كل ما لم يدل عليه دليل {كالفجار *} أي الخارجين من غير توقف عن دائرة التقوى من هؤلاء الذين كفروا أو من غيرهم في أن كلاًّ من المذكورين يعيش على ما أدى إليه الحال في الدنيا، وفي الأغلب يكون عيش الطالح أرفع من عيش الصالح، ثم يموت ولا يكون شيء بعد ذلك، ولا شك أن المساواة بين المصلح والمفسد والمتقي والمارق لا يراها حكيم ولا غيره من سائر أنواع العقلاء فهو لا يفعلها سبحانه وإن كان له أن يفعل ذلك، فإنه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، وقد علم أن الآية من الاحتباك، وأنه مشير إلى احتباك آخر، فإنه ذكر {الذين أمنوا} أولاً دليلاً على {الذين أفسدوا} ثانياً، وذكر {المفسدين} ثانياً دليلاً {على المؤمنين} أولاً، وأفهم ذلك ذكر {الذين اتقوا} وأضدادهم وسر ما ذكر وما حذف أنه ذكر أدنى أسنان الإيمان تنبيهاً على شرفه وأنه سبب السعادة وإن كان على(16/373)
أدنى الوجوه وذكر أعلى أحوال الفساد، إشارة إلى أنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء وذكر أعلى أحوال التقوى إيماء إلى أنه لا يوصف بها ويستحق جزاءها إلا الراسخ فيها ترغيباً للمؤمن في أن يترقى إلى أوجها.
ولما ثبت بما ذكر من أول السورة إلى هنا ما ذكر في هذا الذكر من البراهين التي لا يأباها إلا مدخول الفكر مخالط العقل، ثبت أنه ذو الذكر والشرف الأعظم فقال تعالى منبهاً على ذلك تنبيهاً على أنه القانون الذي يعرف به الصلاح ليتبع والفساد ليجتنب مخبراً على مبتدأ تقديره هو: {كتاب} أي له من العظمة ما لا يحاط به، ووصفه بقوله: {أنزلناه} أي بما من العظمة {إليك} وذلك من عظمته لأنك اعظم الخلق، ثم أخبر عن مبتدأ آخر مبين لما قبله على طريق الاستئناف فقال: {مبارك} أي دائم الخير كثير النفع ثابت كل ما فيه ثباتاً لا يزول أبداً ولا ينسخه كتاب ولا شيء.
ولما ذكر ما له من العظمة إشارة وعبارة، ذكر غاية إنزاله المأمور بها فقال: {ليدبروا} بالفوقانية وتخفيف الدال بالخطاب(16/374)
في قراءة أبي جعفر مشرفاً للأمة بضمهم بالخطاب إلى حضرته الشماء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولافتاً للقول في قراءة الجماعة بالغيب وتشديد الدال إلى من يحتاج إلى التنبيه على العلل، لما له من الشواغل الموقعة في الخلل، وأما هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففي غاية الإتعام للنظر، والتدبر بأجلى الفكر، من حين الإنزال، لعلمه بعلة الإنزال بحيث إنه من شدة إتعابه لنفسه الشريفة بالتخفيف وضمن له تعالى جمعه وقرآنه {آياته} أي لينظروا في عواقب كل آية وما تؤدي إليه وتوصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر، فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه كان كمن له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نتوج لا يستولدها، وكان جديراً بأن يضيع حدوده فيخسر خسراناً مبيناً.
ولما كان كل أحد مأموراً بأن ينتبه بكل ما يرى ويسمع على ما وراءه ولم يكن في وسع كل أحد الوصول إلى النهاية في ذلك، قنع منهم بما دونها فأدغمت تاء التفعل في فاء الكلمة إشارة إلى ذلك كما تشير إليه قراءة أبي جعفر، وربما كانت قراءة الجماعة إشارة إلى الاجتهاد في فهم(16/375)
خفاياه - والله أعلم.
ولما كان السياق للذكر، وأسند إلى خلاصة الخلق، وكان استحضار ما كان عند الإنسان وغفل عنه لا يشق لظهوره، أظهر التاء حثاً على بذل الجهد في إعمال الفكر والمداومة على ذلك فإنه يفضي بعد المقدمات الظنية إلى أمور يقينية قطعية إما محسوسة أولها شاهد في الحس فقال: {وليتذكر} أي بعد التدبر تذكراً عظيماً جلياً - بما أشار إليه الإظهار {أولوا الألباب *} أي كل ما أرشد إليه مما عرفه الله لهم في أنفسهم وفي الآفاق فإنهم يجدون ذلك معلوماً لهم بحس أو غيره في أنفسهم أو غيرها، لا يخرج شيء مما في القرآن عن النظر إلى شيء معلوم للإنسان لا نزاع له فيه أصلاً، ولكن الله تعالى يبديه لمن يشاء ويخفيه عمن يشاء {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [فصلت: 53] وأظهره يوم القيامة فإنه مركوز في طبع كل أحد أن الرئيس لا يدع من تحت يده بغير حساب أصلاً.
ولما كان الإنسان وإن أطال التدبر وأقبل بكليته على التذكر لا بد له من نسيان وغفلة وذهول، ولما كان الممدوح إنما هو الرجاع «لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» وكان الله تعالى هو الملك الذي لا شريك له والمالك الذي له الملك كله فهو يرفع(16/376)
من يشاء ممن لا يخطر في وهم أن يرتفع، ويخفض من يشاء ممن علا في الملك حتى لا يقع في خاطر أنه يحصل له خلل ولا سيما إن كان على أعلى خلال الطاعة ليبين لكل ذي لب أن الفاعل لذلك هو الفاعل المختار، فلا يزال خيره مرجواً، وانتقامه مرهوباً مخشياً، قال تعالى: {ووهبنا} أي بما لنا من الحكمة والعظمة {لدواد سليمان} فجاء عديم النظير في ذلك الزمان ديناً ودنياً وعلماً وحكمة وحلماً وعظمة ورحمة، ولذلك نبه على أمثال هذه المعاني باستئناف الإخبار عما حرك النفس إلى السؤال عنها من إسناد الهبة إلى نون العظمة فقال: {نعم العبد} ولما كان السياق لسرعة الانتباه من الغفلات، والتفضي من الهفوات، والتوبة من الزلات، وبيان أن الابتلاء ليس منحصراً في العقوبات، بل قد يكون لرفعة الدرجات، وكان هذا بعيداً من العادات، علل مدحه مؤكداً له بقوله: {إنه أواب *} أي رجاع إلى الازدياد من الاجتهاد في المبالغة في الشكر والصبر على الضر كلما علا من مقام بالاستغفار منه وعده مع ما له من الكمال مما يرغب عنه.(16/377)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
ولما كانت الخيل من أعظم ما زين للناس من حب الشهوات،(16/377)
وكان السياق للعزة والشقاق الدالين على عظيم الاحتياج إلى ما يكف ذلك مما أعظمه الخيل، ذكر فيها آمراً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دل على أنه مع ما له من عظمة الملك كثير الأوبة عظيمها لأن من لم يكن ذلك له طبعاً لم يقدر على ما فعل فقال: {إذ} أي اذكر لتقف على شاهد ما أخبرناك به حين {عرض عليه بالعشيّ} أي فيما بعد زوال الشمس {الصافنات} أي الخيول العربية الخالصة التي لا تكاد تتمالك بجميع قوائمها الاعتماد على الأرض اختيالاً بأنفسها وقرباً من الطيران بلطافتها وهمتها وإظهاراً لقوتها ورشاقتها وخفتها، قال في القاموس: صفن الفرس يصفن صفوناً: قام على ثلاث قوائم وطرف حافز الرابعة، وقال القزاز: قام على ثلاث قوائم وقائمة يرفعها عن الأرض أو ينال سنبكها الأرض ليستريح بذلك، وأكثر ما تصفن الخيل العتاق، قال: وقالوا: كل ذي حافز يفعله ولكنه من الجياد أكثر، لا يكاد يكون إلا في العراب الخلص، وقيل: الصافن الذي يجمع يديه ويثني طرف سنبك إحدى رجليه، وقيل: الصافن الذي يرفع سنبك إحدى يديه فإذا رفع طرف سنبك إحدى رجليه فهو مخيم، وقد أخام - إذا فعل ذلك.
ولما تحرر أنه يجوز أن يجمل الصافن على غير العتيق وإن كان قليلاً، حقق أن المراد الوصف بالجودة واقفة وجارية فقال: {الجياد *} أي التي تجود في جريها بأعظم ما تقدر عليه، جمع جواد،(16/378)
فلم تزل تعرض عليه حتى فاتته صلاة آخر النهار، وكان المفروض على من تقدمنا ركعتين أول النهار وركعتين آخره، فانتبه في الحال.
ولما كان بيان ضخامة ملكه وكثرة هيبته وعزته مع زيادة أوبته لتحصل التأسية به في حسن ائتماره وانتهائه والتسلية بابتلائه مع ذلك من شرفه وبهائه، أشار إلى كثرة الخيل جداً وزيادة محبته له وسرعة أوبته بقوله: {فقال} ولما كان اللائق بحاله والمعروف من فعاله أنه لا يؤثر على ذكر الله شيئاً فلا يكاد أحد ممن شاهد ذلك يظن به ذلك بل يوجهون له في ذلك وجوهاً ويحملونه على محامل تليق بما يعرفونه من حال من الإقبال على الله والغنا عما سواه، أكد قوله تواضعاً لله تعالى ليعتقدوا أنه بشر يجوز عليه ما يجوز عليهم لولا عصمة الله: {إني} ولما كان الحب أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلا بكثرة الاشتغال به، وكان الاشتغال قد يكون لغير الحب فهو غير دال عليه إلا بقرائن قال اعترافاً: {أحببت} أي أوجدت وأظهرت بما ظهر مني من الاشتغال بالخيل مقروناً ذلك بأدلة الود {حب الخير}(16/379)
وهو المال بل خلاصة المال وسبب كل خير دنيوي وأخروي
«الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» أظهرت ذلك بغاية الرغبة غافلاً {عن ذكر ربي} المحسن إليّ بهذه الخيل التي شغلتني وغيرها، فلم أذكره بالصلاة التي كانت وظيفة الوقت وإن كان غرضي لها لكونه في طاعته ذكراً له. ولم يزل ذلك بي {حتى توارت} أي الشمس المفهومة من «العشي» {بالحجاب *} وهي الأرض التي حالت بيننا وبينها فصارت وراءها حقيقة.
ولما اشتد تشوف السامع إلى الفعل الذي أوجب له الوصف بأواب بعد سماع قوله في لومه نفسه ليجمع بين معرفة القول والفعل، أجيب بقوله: {ردوها} أي قال سليمان عليه السلام: ردوا {عليّ} الخيول التي شغلتني. ولما كان التقدير: فردوها عليه، نسق به قوله: {فطفق} أي أخذ يفعل ظافراً بمراده لازماً له مصمماً عليه واصلاً له معتمداً على الله في التقوية على العدو لا على الأسباب التي من أعظمها الخيل مفارقاً ما كان سبب ذهوله عن الذكر معرضاً عما يمكن أن يتعلق به القلب متقرباً به إلى الله تعالى كما يتقرب في هذه الملة(16/380)
بالضحايا {مسحاً} أي يوقع المسح - أي القطع - فيها بالسيف إيقاعاً عظيماً. ولما كان السيف إنما يقع في جزء يسير من العضوين أدخل الباء فقال: {بالسوق} أي منها {والأعناق *} يضربها ضرباً بسيف ماض وساعد شديد وصنع سديد يمضي فيها من غير وقفة أصلاً حتى كأنه يمسحه مسحاً على ظاهر جلودها كما يقال: مسح علاوته، أي ضرب عنقه - والله أعلم.
ولما ظهر بهذا ما له من ضخامة الملك وعز السلطان، وكانت الأوبة عظيمة جداً، وكان الثبات على مقام الشهود مع حفظه من جميع جهاته أعظم، نبه عليه بقوله مؤكداً لما طبعت عليه النفوس من ظن أن الأواب لا ينبغي أن يواجه بالعتاب: {ولقد فتنا} أي بما لنا من العظمة {سليمان} أي مع إسراعه بالرجوع إلى الله والتنبه لما فيه رضاه نوعاً من الفتنة، الله أعلم بحقيقتها، فأسفرت تلك الفتنة عن رسوخه في مقام الأوبة فتنبه لما أردنا بها من تدريبه على ما أقمناه فيه كما فعلنا بأبيه داود عليهما السلام فاقتد بهما في الاستبصار بالبلاء، فإنا نريد بك أمراً عظيماً جليلاً شريفاً كريماً {وألقينا} أي بما لنا من العظمة {على كرسيه} الذي كانت تهابه أسود الفيل.(16/381)
ولما كانت العبرة إنما هي بالمعاني، فمن كان معناه ناقصاً كان كأنه جسد لا روح فيه، له صورة بلا معنى، قال: {جسداً} فغلب على ذلك المكان الشريف مع ما كنا شرفناه به من هيبة النبوة المقرونة بالملك بحيث لم يكن أحد يظن أن أحداً يقدر على أن يدنو إليه فضلاً عن أن يغلب عليه، فمكنا هذا الجسد منه تمكيناً لا كلفة عليه فيه، بل كان ذلك بحيث كأنه ألقى عليه بغير اختياره ليعلم أن الملك إنما هو لنا، نفعل ما نشاء بمن نشاء، فالسعادة لمن رجانا والويل لمن يأمن مكرنا فلا يخشانا، فعما قليل تصير هذه البلدة في قبضتك، وأهلها مع العزة والشقاق طوع مشيئتك ويكون لك بذلك أمر لا يكون لأحد بعدك كما أنه ما كان لأحد كان قبلك من نفوذ الأمر وضخامة العز وإحلال الساحة الحرام بقدر الحاجة وسعة الملك وبقاء الذكر، والذي أنت فيه الآن ابتلاء واختبار وتدريب على ما يأتي من الأمور الكبار.
ولما كان المراد بإطلاق الجسد عليه التعريف بأنه لا معنى له، لا أنه لا روح فيه، أطلقه ولم يتبعه ما يبين أنه جماد كما فعل في(16/382)
العجل حيث قال «له خوار» فبين بذلك أنه لا روح له، وإن صح أن هذا الجسد هو صخر الجني وأن سببه سجود الجرادة امرأة سليمان عليه السلام لصورة أبيها بغير علم نبي الله سليمان عليه السلام ولا إرادته، فالإشارة بذلك في التسلية أنا سلبنا الملك من صفينا لصورة رفع سجود بعض من ينسب إليه لها في بيته أمره ولا إرادته ولا علمه، فكيف بمن يسجد لهذه الأوثان في البيت الحرام فعما قليل نزيل أمرهم ونخمد شرهم ونمحو ذكرهم.
ولما كانت الإنابة رجوعاً إلى ما كان، فهي استرجاع لما فات قال: {ثم أناب *} وفسر الإنابة ليعلم أنه تعالى فتنه مع أنه عبد عظيم المنزلة مجاب الدعوة بقوله جوباً لمن سأل عنها: {قال ربّ} أي أيها المحسن إلي {اغفر لي} أي الأمر الذي كانت الإنابة بسببه. ولما قدم أمر الآخرة، أتبعه قوله: {وهب لي} أي بخصوصي {ملكاً لا ينبغي} أي لا يوجد طلبه وجوداً تحصل معه المطاوعة والتسهل {لأحد} في زمان ما طال أو قصر سواء كان كاملاً في الصورة والمعنى أو جسداً خالياً عن العز كما حصلت به الفتنة من قبل، وبعّض الزمان بذكر الجار فقال: {من بعدي} حتى أتمكن من كل ما أريد من التقرب(16/383)
إليك وجهاد من عاداك، ويكون ذلك إمارة لي على قبول توبتي ولا تحصل لي فتنة بإلقاء شيء على مكان حكمي ولا غيره وهذا يشعر بأن الفتنة كانت في الملك وكذا ذكر الإلقاء على الكرسي مضافاً إليه من غير أن ينسب إليه هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء، وهو مناسب لعقر الخيل الذي هو إذهاب ما به العز - والله أعلم، وبهذا التقدير علم أنه لو ذكر الظرف من غير حرف لأوهم تقيد الدعوة بملك يستغرق الزمان الذي بعده، ثم علل ما طلبه من الإعطاء والمنع بقوله على سبيل التأكيد إسقاطاً لما غلب على النفوس من رؤية الأسباب: {إنك أنت} أي وحدك {الوهاب *} أي العظيم المواهب مع التكرار كلما أردت، فتعطي بسبب وبغير سبب من تشاء وتمنع من تشاء.
ولما تسبب عن دعائه الإجابة، أعلم به سبحانه بقوله: {فسخرنا} أي ذللنا بما لنا من العظمة {له الريح} لإرهاب العدو وبلوغ المقاصد عوضاً عن الخيل التي خرج عنها لأجلنا؛ ثم بين التسخير بقوله مستأنفاً: {تجري بأمره رخاء} أي حال كونها لينة غاية اللين منقادة يدرك بها ما لا يدرك بالخيل {غدوها شهر ورواحها شهر} وكل من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وهو هنا مبالغة من الرخاوة. ولما كانت إصابته لما يشاء ملازمة لإرادته، عبر بها عنها لأنها المقصود بالذات فقال: {حيث أصاب *} أي أراد إصابة شيء من الأشياء، وقد جعل الله(16/384)
لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من ذلك وهو أن العدو يرعب منه إلى مسيرة شهر من جوانبه الأربعة فيه أربعة أشهر {والشياطين} أي الذين عندهم خفة الريح مع الاقتران بالروح سخرناهم له؛ ثم نبه على منفعتهم بالإبدال منهم فقال: {كل} وعبر ببناء المبالغة في سياق الامتنان فقال: {بناء وغواص *} أي عظيم في البناء صاعداً في جو السماء والغوص نازلاً في أعماق الماء، يستخرج الدر وغيره من منافع البحر.(16/385)
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)
ولما دل على مطلق تسخيرهم، دل على أنه قهر وغلبة كما هو شأن أيالة الملك وصولة العز فقال: {وآخرين} أي سخرناهم له من الشياطين حال كونهم {مقرنين} بأمره إلى من يشاكلهم أو مقرونة أيديهم بأرجلهم أو بأعناقهم، وعبر به مثقلاً دون «مقرونين» مثلاً إشارة إلى شدة وثاقهم وعظيم تقرينهم. ولما كانت مانعة لهم من التصرف في أنفسهم، جعلوا كأنهم بأجمعهم فيها وإن لم يكن فيها إلا بعض أعضائهم مثل {جعلوا أصابعهم في آذانهم} [نوح: 7] فقال: {في الأصفاد *} أي القيود التي يوثق بها الأسرى من حديد أو قيد أو غير ذلك، جمع صفد - بالتحريك، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/385)
قال: «إن عفريتاً من الجن تفلت عليّ البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان {هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} فرددته خاسئاً» ، وقد حكمه الله في بعض الجن، فحمي من الذين يطعنون دار مولده ودار هجرته، روى أحمد في مسنده بسند حسن إن شاء الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منهما ملك، فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون» هذا في البلدين، وأما المدينة خاصة ففيها أحاديث عدة عن عدة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، وقد عوض الله نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشياطين التأييد بجيوش الملائكة في غزواته، وقد كان نبينا عبداً كما اختار فلم يكن له حاجة بغير ذلك.
ولما كان ذلك ملكاً عظيماً، نبه على عظمته بكثرته ودوامه وعظمة مؤتيه فقال مستأنفاً بتقدير: قلنا له ونحوه: {هذا} أي الأمر الكبير {عطاؤنا} أي على ما لنا من العظمة؛ ثم سبب عن ذلك(16/386)
إطلاق التصرف الذي هو أعظم المقاصد، فكم من مالك لشيء وهو مغلول اليد عن التصرف فيه، فقال بادئاً بما يوجب الحب ويقبل بالقلوب دالاً على عظمته وظهور أمره بفك الإدغام: {فامنن} أي أعط من شئت عطاء مبتدئاً من غير تسبب من المعطي: {أو أمسك} أي عمن شئت.
ولما كان هذا عطاء يفوت الوصف عظمه، زاده تعظيماً بكثرته وتسهيله وسلامة العاقبة فيه فقال: {بغير} أي كائناً كل ذلك من العطاء والمن خالياً عن {حساب *} لأنك لا تخشى من نقصه وربك هو المعطي والآمر، ولا من كونه مما يسأل عنه في الآخرة لأنه قد أذن لك، فنفي الحساب عنه يفيد شيئين الكثرة وعدم الدرك في إعطاء أو منع، وجعله مصدراً مزيداً يفهم أنه إنما ينفي عنه حساب يعتد به لا مطلق حسب بالتخمين كما يكون في الأشياء التي تعيي الحاصر فيقرب أمرها بنوع حدس.
ولما رفع الحرج عنه في الدارين، أثبت المزيد فقال عاطفاً على ما تقديره: هذا له في الدنيا، مؤكداً زيادة في الطمأنية لكونه خارقاً لما حكم به من العادة في أنه كل ما زاد عن الكفاف في الدنيا كان ناقصاً(16/387)
للحظ في الآخرة: {وإن له} أي خاصاً به {عندنا} أي في الآخرة {لزلفى} أي قربى عظيمة {وحسن مآب *} أي مرجع.
ولما انقضى الخبر عن الملك الأواب الذي ملك الدنيا بالفعل قهراً وغلبة شرقاً وغرباً، وكان أيوب عليه السلام في ثروة الملوك وإن لم يكن ملكاً بالفعل، وكان تكذيب من كذب بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو بتسليط الله الشياطين بوسوسته عليهم، وأمره سبحانه بالصبر على ذلك وقص عليه من أخبار الأوابين تعليماً لحسن الأوبة إن وهن الصبر، أتبعه الإخبار عن الصابر الأواب الذي لم يتأوه إلا من وسوسة الشيطان لزوجه بما كان يفتنها ليزداد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذكر هذه الأخبار صبراً ويتضاعف إقباله على الله تعالى وتضرعه له اقتداء بإخوانه الذين لم تشغلهم عنه منحة السراء ولا محنة الضراء، وتذكيراً لقدرة الله على كل ما يريده تنبيهاً على أنه قادر على رد قريش عما هم فيه ونصر المستضعفين من عباده عليهم بأيسر سعي فقال: {واذكر عبدنا} أي الذي هو أهل للإضافة إلى عظيم جنابنا، وبينه بقوله: {أيوب} وهو من الروم من أولاد عيص بن إسحاق عليهم السلام لتتأسى بحاله فنصبر على قومك وإن رأيت ما لا(16/388)
صبر لك عليه دعوت الله في إصلاحه.
ولما أمره بذكره، بين أن معظم المراد بعض أحواله الشريفة ليتأسى به فقال مبدلاً منه بدل اشتمال: {إذ} أي اذكر حاله الذي كان حين: {نادى} وصرف القول عن مظهر العظمة إلى صفة الإحسان لأنه موطنه لاقتضاء حاله ذلك فقال: {ربه} : أي المحسن إليه الذي عرف إحسانه إليه في تربيته ببلائه كما عرف امتنانه بظاهر نعمائه وآلائه، ثم ذكر المنادى به حاكياً له بلفظه فقال مشيراً بالتأكيد إلى أنه - وإن كان حاله فيما عهد من شدة صبره مقتضياً عدم الشكوى - أتاه ما لا صبر عليه: {إني} أي رب أدعوك بسبب أني. ولما كان هنا في سياق التصبير عظم الأمر بإسناد الضر إلى أعدى الأعداء إلهاباً إلى الإجابة وأدباً مع الله فقال: {مسّني} أي وأنا من أوليائك {الشيطان} أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة بتسليطك له {بنصب} أي ضر ومشقة وهم داء ووجع وبلاء يثقل صاحبه فيتبعه ويعيده ويكده ويجهده ويصل به إلى الغاية من كل ذلك، وقرئ بضم الصاد أيضاً وقرئ بالتحريك كالرُشد والرَشد، وكان ذلك إشارة إلى أحوال الضر في الشدة والخفة فالمسكن أدناه، والمحرك أوسطه، والمثقل بالضم أعلاه {وعذاب *} أي نكد قوي جداً دائم مانع من(16/389)
كل ما يلذ، ويمكن أن يساغ ويستطعم أجمله، ونكره تنكير لتعظيم استغنائه على وجازته عن جمل طوال ودعاء عريض إعلاماً بأن السيل قد بلغ الزبى، وأوهن البلاء القوي، ولم يذكره بلفظ إبليس الذي هو من معنى اليأس وانقطاع الرجاء دلالة على أنه هو راج فضل الله غير آيس من روحه، وذلك أن الله تعالى سلطه على إهلاك أهله وولده وماله فصبر ثم سلطه على بدنه إلى أن سقط لحمه واستمر على ذلك مدداً طوالاً، فلذلك ثم تراءى لزوجته رضي الله عنها في زي طبيب وقال لها: أنا أداويه ولا أريد أن يقول لي، إذا عوفي أنت شفيتني، وقيل: قال لها: لو سجد لي سجدة واحدة شفيته، فأتته وحدثته بذلك فأخبرها وعرفها أنه الشيطان، وحذرها منه وخاف غائلته عليها، فدعا الله بما تقدم وشدد النكير والتعظيم لما وسوس لها به بأن حلف ليضربنها مائة ضربة، ردعاً لها عن الإصغاء إلى شيء من ذلك، وتهويناً لما يلقاه من بلائه في جنبه.(16/390)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)
ولما تشوف السامع إلى جوابه عن ذلك، استأنف قوله: {اركض} أي قلنا له: اضرب الأرض وأوجد الركض وهو(16/390)
المشي والتحريك والإسراع والاستحثاث {برجلك} يخرج منها ماء نافع حسن لتغتسل فيه وتشرب منه ففعل فأنبعنا له عيناً، فقيل له: {هذا} بإشارة القريب إشارة إلى تسهله {مغتسل} أي ماء يغتسل به وموضعه وزمانه {بارد} أي يبرد حر الظاهر {وشراب *} يبرد حر الباطن.
ولما كان التقدير: ففعل اغتسل فبرأ ظاهره وسر باطنه، عطف عليه قوله صارفاً القول إلى مظهر الجلال تنبيهاً على عظمة الفعل: {ووهبنا} أي بما لنا من العظمة {له أهله} أي الذين كان الشيطان سلط عليهم بأن أحييناهم، وجمع اعتباراً بالمعنى لأنه أفخم وأقرب إلى فهم المراد فقال: {ومثلهم} وأعلم باجتماع الكل في آنٍ واحد فقال: {معهم} جددناهم له وليعلم من يسمع ذلك أنه لا عبرة بشيء من الدنيا وأنها وكل ما فيها عرض زائل لا ثبات له أصلاً إلا ما كان لنا، فإنه من الباقيات الصالحات، فلا يغير أحد بشيء منها ولا يشتغل عنا أصلاً، ويعلم من هذا من صدقه القدروة على البعث بمجرد تصديقه له ومن توقف فيه سأل أهل الكتاب فعلم ذلك بتصديقهم له، ثم علل سبحانه فعله ذلك بقوله: {رحمة} ولما كان في مقام الحث على الصبر عظم الأمر بقوله: {منا} فإنه أعظم من التعبير في سورة الأنبياء بعندنا، ليكون ذلك أحث على لزوم الصبر، وإذا نظرت إلى ختام الآيتين عرفت تفاوت العبارتين ولاح لك أن مقام الصبر لا يساويه(16/391)
شيء، لأن الطريق إليه سبحانه لا ينفك شيء منه عن صبر وقهر للنفس وجبر، لأنها بالإجماع خلاف ما تدعو إليه الطبائع {وذكرى} أي إكراماً وتذكيراً عظيماً {لأولي الألباب *} أي الأفهام الصافية، جعلنا ذلك لرحمته ولتذكير غيره من الموصوفين على طول الزمان ليتأسى به كل مبتلى ويرجو مثل ما رجا، فإن رحمة الله واسعة، وهو عند القلوب المنكسرة، فما بينه وبين الإجابة إلا حسن الإنابة، فمن دام إقباله عليه أغناه عن غيره:
لكل شيء إذا فارقته عوض ... وليس لله إن فارقت من عوض
ولما أجمل العذاب الصالح لألم الظاهر، وذكر المخلص منه، أتبعه التنبيه على أعظمه وهو ألم الباطن، بل أبطن الباطن التعلق بالاعتقاد فيما وسوس لزوجه رضي الله عنها بما كاد يزلها فحلف ليضربنها مائة لئلا تعود إلى شيء من ذلك فيزلها عن مقامها كما أزل غيرها فأرشده سبحانه وتعالى إلى المخلص من ذلك الحلف على أخف وجه لأنها كانت صابرة محسنة، فشكر الله لها ذلك، وجعل هذا المخلص بعدها سنة باقية لعباده تعظيماً لأجرها وتطييباً لذكرها فقال عاطفاً على(16/392)
{اركض} {وخذ بيدك} أي التي قد صارت في غاية الصحة {ضغثاً} أي حزمة صغيرة من حشيش فيها مائة عود كشمراخ النخلة، قال الفراء: هو كل ما جمعته من شيء مثل الحزمة الرطبة، وقال السمين: وأصل المادة يدل على جميع المختلطات {فأضرب به} أي مطلق ضرب ضربة واحدة {ولا تحنث} في يمينك أي تأثم بترك ما حلفت على فعله، فهذا تخفيف على كل منهما لصبره، ولعل الكفارة لم تكن فيهم وخصنا الله بها مع شرعه فينا ما أرخصه له تشريفاً لنا، وكل هذا إعلاماً بأن الله تعالى ابتلاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بدنه وولده وماله، ولم يبق له إلا زوجة فوسوس لها الشيطان طمعاً في إيذائهما كما آذى آدم وحواء عليهما السلام، إلى أن قارب منها بعض ما يريد، والمراد بالإعلام به تذكير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه إن كان مكن الشيطان من الوسوسة لأقاربه والإغواء والإضلال فقد منّ عليه بزوجه أعظم وزراء الصدق وكثير من أقاربه الأعمام وبني الأعمام وغيرهم، وحفظ له بدنه وماله ليزداد شكره لله تعالى، وفي القصة إشارة إلى أنه قادر على أن يطيع له من يشاء، فإنه قادر على التصرف في المعاني كقدرته على التصرف في الذوات، وأنه سبحانه يهب لهذا النبي الكريم قومه العرب الذين هم الآن أشد الناس(16/393)
عليه وغيرهم فيطيعه الكل.
ولما كان الصبر والأفعال المرضية عزيزة في العباد لا تكاد توجد فلا يكاد يصدق بها، علل سبحانه هذا الإكرام له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكده، فقال على سبيل الاستنتاج مما تقدم رداً على من يظن أن الشكوى إليه تنافي الصبر، وإشارة إلى أن السر في التذكير به التأسي في الصبر: {إنا} أي على ما لنا من العظمة {وجدناه} أي في عالم الشهادة طبق ما كان لنا في عالم الغيب ليتجدد للناس من العلم بذلك ما كنا به عالمين، ولما كان السياق للحث على مطلق الصبر في قوله تعالى {واصبر على ما يقولون} [المزمل: 10] أتى باسم الفاعل مجرداً على مبالغة فقال: {صابراً} ثم استأنف قوله: {نعم العبد} ثم علل بقوله مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك: {إنه أواب *} أي رجاع بكليته إلى الله سبحانه على خلاف ما يدعو إليه طبع البشر، قال الرازي في اللوامع: قال ابن عطاء: واقف معنا بحسن الأدب لا يغيره دوام النعمة، ولا يزعجه تواتر البلاء والمحنة، روى عبد بن حميد في مسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: وضع رجل يده على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا(16/394)
الأجر، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالقمل حتى يقتله وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالفقر حتى يأخذ العباة فيحويها وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء» .
ولما ذكر سبحانه من ابتلاه في بدنه وماله وولده ثم جعل له الماء برداً وسلاماً وعافية ونظاماً وشفاء وقواماً، عطف عليه من ابتلاه بالنار على أيدي الجبابرة فجعلها عليه برداً وسلاماً باعتماده عليه وصبره لديه، ونجاه من كيدهم، وجعل أيده بمفرده فوق أيدهم، ثم ابتلاه بالهجرة لوطنه وأهله وعشيرته وسكنه، ثم بذبح ابنه، فصبر على ذلك كله، اعتماداً على فضل الله ومنّة فقال: {واذكر عبدنا} بالتوحيد في رواية ابن كثير للجنس أو لإبراهيم وحده عليه السلام لأنه أصل من عطف عليه ديناً وأبوة، فبين الله أساس عطفه عليه في المدح بالعبودية أيضاً، ثم بين المراد بقوله: {إبراهيم} وعطف على العبد لا على مبينه لئلا يلزم بيان واحد بجماعة إذا أريد به إبراهيم وحده لا الجنس ابنه لصبره على دينه في الغربة بين عباد الأوثان ومباعدي الإيمان، فلم يلفت لفتهم ولا داناهم، بل أرسل إلى أقاربه في(16/395)
بلاد الشرق، فتزوج منه من وافقته على دينه الحق، واستمر على إخلاص العبادة لا يأخذه في الله لومة لائم إلى أن مضى لسبيله فقال: {وإسحاق} ثم أتبعه ولده الذي قفا أثره، وصبر صبره، وابتلى بفقد ولده، وبهجة كبده، فصبر أتم الصبر في ذلك الضر، وأبلغ في الحمد والشكر، فقال تعالى: {ويعقوب} وألحقهما سبحانه بأبيها بعد أن بينت قراءة الإفراد إصالته في المدح بالعبودية فعطفهما عليه نفسه في قراءة غير ابن كثير {عبادنا} بالجمع كما قال تعالى {والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم} [الطور: 21] .
ولما اجتعموا بالعطف أو البدل وصفهم بقوله: {أولي الأيدي} أي القوة الشديدة والأعمال السديدة لأن الأيدي أعظم آلات ذلك {والأبصار *} أي الحواس الظاهرة والباطنة التي هي حقيقة بأن تذكر وتمدح بها لقوة إدراكها وعظمة نفوذها فيما هو جدير بأن يراعى من جلال الله ومراقبته في الحركات والسكنات سراً وعلناً، وعبر عن ذلك بالأبصار لأنها أقوى مبادئه، ومن لم يكن مثلهم كان مسلوب القوة والعقل، فلم يكن له عقل فكان عدماً، فهو أعظم توبيخ لمن رزقه الله قوة وعقلاً، ثم لا يصرفه في عبادة الله والمجاهدة فيه سبحانه.(16/396)
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
ولما اشتد تشوف السامع لما استحقوا به هذا الذكر، قال مؤكداً إشارة إلى محبته سبحانه لمدحهم ورداً على من ينسب إليهم أو إلى أحد منهم ما لا يليق كما كذبه اليهود فيما بدلوه من التوراة في حق إسحاق عليه السلام في بعض المواضع معدياً للفعل بالهمزة إشارة إلى أنه جذبهم من العوائق إليه جذبة واحدة هي في غاية السرعة: {إنا أخلصناهم} أي لنا إخلاصاً يليق بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة {بخالصة} أي أعمال وأحوال ومقامات وبلايا ومحن هي سالمة عن شوب ما، فصاروا بالصبر عليها في غاية الخلوص.
ولما كان سبب الإخلاص تذكر يوم الدين وما يبرز فيه من صفات الجلال والجمال وينكشف فيه من الأمور التي لا توصف عظمتها، بينها بقوله: {ذكرى الدار} أي تذكرهم تلك الخالصة تذكيراً عظيماً لا يغيب عنهم أصلاً الدار التي لا يستحق غيرها أن يسمى داراً بوجه بحيث نسوا بذكر هذا الغائب ذكر ما يشاهدونه من دار الدنيا فهم لا ينظرون إليه أصلاً بغضاً فيها فقد أنساهم هذا الغائب الثابت الشاهد الزائل عكس ما عليه العامة، وإضافة نافع وأبي جعفر وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه لخالصة مؤيد لما قلت من أن ذكرى بيان لأنها إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى أنهم لا يعملون شيئاً إلا وهو(16/397)
مقرب للآخرة، فالمعنى أن ذكرهم لها خالص عن سواه لا يشاركه فيه شيء ولا يشوبه شوب أصلاً.
ولما دلت هذه الجملة على هذا المدح البليغ، عطف عليه ما يلازم الإخلاص فقال مؤكداً لمثل ما تقدم من التنبيه على أنهم ممن يغتبط بمدحهم، ورداً على من ربما ظن خلاف ذلك بكثرة مصائبهم في الدنيا: {وإنهم عندنا} أي على ما لنا من العظمة والخبرة {لمن المصطفين} المبالغ في تصفيتهم مبالغة كأنها بعلاج {الأخيار *} الذين كل واحد منهم بخير بليغ في الخير، وإصابتنا إياهم بالمصائب دليل ذلك لا دليل عكسه كما يظنه من طمس قلبه، والآية من الاحتباك: ذكر {أخلصناهم} أولاً دليل على {اصطفيناهم} ثانياً، و {المصطفين} دليلاً على {المخلصين} أولاً، وسر ذلك أن الإخلاص يلزم منه الاصطفاء، لا سيما إذا أسنده إليه بخلاف العكس بدليل {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه} [فاطر: 32] .
ولما أتم الأمر بذكر الخليل وابنه عليهما السلام الذي لم يخرج من كنفه قط ونافلته المبشر به للتأسي بهم في صبرهم الدين وإن خالفهم من خالفهم، أتبعه ولده الذي أمر بالتجرد عنه مرة بالإسكان عند البيت الحرام ليصير أصلاً برأسه في أشرف البقاع، ومرة بالأمر بذبحه في تلك المشاعر الكرام، فصار ما أضيف إليه من الأحوال(16/398)
والأفعال من المناسك العظام عليه الصلاة والسلام، وأفرده بالذكر دلالة على أنه أصل عظيم برأسه من أصول الأئمة الأعلام، فقال: {واذكر إسماعيل} أي أباك وما صبر عليه من البلاء بالغربة والانفراد والوحدة والإشراف على الموت في الله غير مرة وما صار إليه بعد ذلك البلاء من الفرج والرئاسة والذكر في هذه البلدة {واليسع} أي الذي استخلفه إلياس عليه السلام على بني إسرائيل فجمعهم الله عليه بعد ذلك الخلاف الشديد الذي كان منهم لإلياس عليه السلام {وذا الكفل} أي النصيب العظيم بالوفاء بما يكفله من كل أمر عليّ، وعمل صالح زكي.
ولما تقدم وصف من قبل إبراهيم عليه السلام بالأوبة وخصوا بالتصريح، لما كان لهم من الشواغل عنها بكل من محنة السراء ومحنة الضراء وكذلك بالعبودية سواء، وكان الأمر بالذكر مع حذف الوصف المذكور لأجله والإشارة إليه بالتلويح ولا مانع من ذكره - دالاً على غاية المدح له لذهاب الوهم في تطلبه كل مذهب، قال معمّماً للوصف بالعبودية والأوبة بها جميع المذكورين، عاطفاً بما أرشد إليه العطف على غير مذكور على ما تقديره: إنهم أوابون، ليكون تعليلاً لذكرهم بما علل به ذكر أول مذكور فيهم:(16/399)
{وكل} أي من هؤلاء المذكورين في هذه السورة من الأنبياء قائمون بحق العبودية فهم من خيار عبادنا من هؤلاء الثلاثة ومن قبلهم {من الأخيار *} أي كما أن كلاًّ منهم أواب بالعراقة في وصف الصبر - كما مضى في الأنبياء، وبغير ذلك من كل خير على أن الصبر - جامع لجميع الطريق، فهم الذين يجب الاقتداء بهم في الصبر على الدين ولزوم طريق المتقين.
ولما أتم سبحانه ما أراد من ذكر هؤلاء الأصفياء عليهم السلام الذين عافاهم بصبرهم وعافى من دعوهم، فجعلهم سبحانه سبب الفلاح ولم يجعلهم سبباً للهلاك، قال مؤكداً لشرفهم وشرف ما ذكروا به، حاثاً على إدامة تذكره وتأمله وتدبره للعمل به، مبيناً ما لهم في الآخرة على ما ذكر من أعمالهم وما لمن نكب عن طريقهم على سبيل التفصيل: {وهذا} أي ما تلوناه عليك من أمورهم وأمور غيرهم {ذكر} أي شرف في الدنيا وموعظة من ذكر القرآن ذي الذكر، ثم عطف على قوله {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد} ما لأضدادهم، فقال مؤكداً رداً على من ينكر ذلك من كفار العرب(16/400)
وغيرهم: {وإن} ويجوز - وهو أحسن - أن يكون معطوفاً على «هذا» وتقديره: هذا ذكر للصابرين.
ولما أداهم إليه صبرهم في الدنيا وأن لهم على ما وهبناهم من الأعمال الصالحة التي مجمعها الصبر لمرجعاً حسناً، ولكنه أظهر الوصف الذي أداهم إلى هذا المآب تعميماً لكل من اقتدى بهم حثاً على الاقتداء فقال: {للمتقين} أي جميع العريقين في وصف التقوى الذين يلزمون لتقواهم الصراط المستقيم {لحسن مآب *} أي مصير ومرجع ولما شوق سبحانه إلى هذا الجزاء أبدل منه أو بينه بقوله: {جنات عدن} أي إقامة في استمراء وطيب عيش ونمو وامتلاء وشرف أصل.
ولما كانت من الأعلام الغالبة، نصب عنها على الحال قوله: {مفتحة} أي تفتيحاً كثيراً وبليغاً من غير أن يعانوا في فتحها شيئاً من نصب أو طلب أو تعب، وأشار جعل هذا الوصف مفرداً أن تفتحيها على كثرتها كان لهم في آن واحد حتى كأنها باب واحد {لهم} أي لا لغيرهم {الأبواب} التي لها والتي فيها فلا يلحقهم في دخولها ذل الحجاب ولا كلفة الاستئذان، تستقبلهم الملائكة(16/401)
بالتبجيل والإكرام.(16/402)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)
ولما ذكر إقامتهم ويسر دخولهم، وصف حالهم إذ ذاك فقال: {متكئين فيها} أي ليس لهم شغل سوى النعيم ولا عليهم كلفة أصلاً. ولما كان المتكىء لا يتم نعيمه إلا إن كان مخدوماً، دل على سؤددهم بقوله: {يدعون فيها} اي كلما أرادوا من غير مانع أصلاً ولا حاجة إلى قيام ولا قعود يترك به الاتكاء. ولما كان أكلهم إنما هو للتفكه لا لحفظ الجسد من آفة قال: {بفاكهة كثيرة} فسمى جميع مآكلهم فاكهة، ولما كانت الفاكهة لا يمل منها، والشراب لا يؤخذ إلا بقدر الكفاية، وصفها دونه فقال: {وشراب *} .
ولما كان الأكل والشرب داعيين إلى النساء لا سيما مع الراحة قال: {وعندهم} أي لهم من غير مفارقة أصلاً. ولما كان سياق الامتنان مفهماً كثرة الممتن به لا سيما إذا كان من العظيم، أتى بجمع القلة مريداً به الكثرة لأنه أشهر وأوضح وأرشق من «قواصر» المشترك بين جمع قاصر وقوصرة - بالتشديد والتخفيف - لوعاء التمر فقال: {قاصرات} ولما كن على خلق واحد في العفة وكمال الجمال وحد فقال:(16/402)
{الطرف} أي طرفهن لعفتهن وطرف أزواجهن لحسنهن، ولما لم تنقص صيغة جمع القلة المعنى، لكونه في سياق المدح والامتنان، وكان يستعار للكثرة، أتى على نمط الفواصل بقوله: {أتراب *} أي على سن واحد مع أزواجهن وهو الشباب، سمي القرين ترباً لمس التراب جلده وجلد قرينه في وقت واحد، قال البغوي: بنات ثلاث وثلاثين سنة، لأن ذلك ادعى للتآلف فإن التحاب بين الأقران أشد وأثبت.
ولما ذكر هذا النعيم لأهل الطاعة، وقدم ذلك العذاب لأهل المعصية قال: {هذا} أي الذي ذكر هنا والذي مضى {ما} وبني للمفعول اختصاراً وتحقيقاً للتحتم قوله: {توعدون} من الوعد والإيعاد، وقراءة الغيب على الأسلوب الماضي، ومن خاطب لفت الكلام للتلذيذ بالخطاب تنشيطاً لهممهم وإيقاظاً لقلوبهم {ليوم الحساب *} أي ليكون في ذلك اليوم.
ولما كان هذا يصدق بأن يوجد ثم ينقطع كما هو المعهود من حال الدنيا، أخبر أنه على غير هذا المنوال فقال: {إن هذا} أي المشار إليه إشارة الحاضر الذي لا يغيب {لرزقنا} أي للرزق الذي(16/403)
يستحق الإضافة إلينا في مظهر العظمة، فلذلك كانت النتيجة: {ما له من نفاد *} أي فناء وانقطاع، بل هو كالماء المتواصل في نبعه، كلما أخذ منه شيء أخلف في الحال بحيث إنه لا يميز المأخوذ من الموجود بوجه من الوجوه، فيكون في ذلك تلذيذ وتنعيم لأهل الجنة بكثرة ما عنده، وبمشاهدة ما كانوا يعتقدونه ويثبتونه لله تعالى من القدرة على الإعادة في كل وقت، جزاء وفاقاً عكس ما يأتي لأهل النار.
ولما كانت النفوس نزاعة للهوى ميالة إلى الردى، فكانت محتاجة إلى مزيد تخويف وشديد تهويل، قال تعالى متوعداً لمن ترك التأسي بهؤلاء السادة في أحوال العبادة، مؤكداً لما مضى من إيعاد العصاة وتخويف العتاة: {هذا} أي الأمر العظيم الذي هو جدير بأن يجعل نصب العين وهو أنه لكل من الفريقين ما ذكر وإن أنكره الكفرة، وحذف الخبر بعد إثباته في الأول أهول ليذهب الوهم فيه كل مذهب {وإن للطاغين} أي الذين لم يصبروا على تنزيلهم أنفسهم في منازلها بالصبر على ما أمروا به فرفعوا أنفسهم فوق قدرها، وتجاوزوا الحد وعلوا في الكفر به وأسرفوا في المعاصي والظلم وتجبروا وتكبروا فكانوا أحمق الناس {لشر مآب *} أي مصير ومرجع،(16/404)
وأبدل منه أو بينه بقوله: {جهنم} أي الشديدة الاضطرام الملاقية لمن يدخلها بغاية العبوسة والتجهم.
ولما كان اختصاصهم بها ليس بصريح في عذابهم، استأنف التصريح به في قوله: {يصلونها} أي يدخلونها فيباشرون شدائدها. ولما أفهم هذا غاية الكراهة لها وأنه لا فراش لهم غير جمرها، فكان التقدير: فيكون مهاداً لهم لتحيط بهم فيعمهم صليها، سبب عنه قوله: {فبئس المهاد *} أي الفراش هي، فإن فائدة الفراش تنعيم الجسد، وهذه تذيب الجلد واللحم ثم يعود في الحال كلما ذاب عاد عقوبة لهم ليريهم الله ما كانوا يكذبون به من الإعادة في كل وقت دائماً أبداً، كما كانوا يعتقدون ذلك دائماً أبداً جزاء وفاقاً عكس ما لأهل الجنة من التنعيم والتلذيذ بإعادة كل ما قطعوا من فاكهتها وأكلوا من طيرها، لأنهم يعتقدون الإعادة فنالوا هذه السعادة.
ولما قدم أن لأهل الطاعة فاكهة وشراباً، وكان ما وصف به مأوى العصاة لا يكون إلا عذاباً، وكان مفهماً لا محالة أن الحرارة تسيل من أهل النار عصارة من صديد وغيره قال: {هذا} أي العذاب للطاغين {فليذوقوه} ثم فسره بقوله: {حميم} أي ماء حار، وأشار بالعطف بالواو إلى تمكنه في كل من الوصفين فقال: {وغساق *}(16/405)
أي سيل منتن عظيم جداً بارد أسود مظلم شديد في جميع هذه الصفات من صديد ونحوه وهو في قراءة الجماعة بالتخفيف اسم كالعذاب والنكال من غسقت عينه، أي سالت، وغسق الشيء، أي امتلأ، ومنه الغاسق للقمر لامتلائه وكماله، وفي قراءة حمزة والكسائي وحفص بالتشديد صفة كالخباز والضراب، تشير إلى شدة أمره في جميع ما استعمل فيه من السيلان والبرد والسواد.
ولما كان في النار - أجارنا الله منها بعفوه ورحمته - ما لا يعد من أنواع العقاب، قال عاطفاً على هذا، {وآخر} أي من أنواع المذوقات - على قراءة البصريين بالجمع لأخرى، ومذوق على قراءة غيرهما بالإفراد، وهو حينئذ للجنس، وأخبر عن المبتدأ بقوله: {من شكلة} أي شكل هذا المذوق ولما كان المراد الكثرة في المعذبين وهم الطاغون وفي عذابهم مع افتراقه بالأنواع وإن اتحد في جنس العذاب، صرح بها في قوله: {أزواج *} أي هم أو هي أو هو، أي جنس عذابهم أنواع كثيرة.
ولما كان مما أفهمه الكتاب في هذا الخطاب أن الطاغين الداخلين إلى جهنم أصناف كثيرة، وكانت العادة جارية بأن الأصناف إذا اجتمعوا(16/406)
كانت محاورات ولا سيما إن كانوا من الطغاة العتاة، تحرك السامع إلى تعرف ذلك فقال تعالى مستأنفاً جوابه بما يدل على تقاولهم بأقبح المقاولة وهو التخاصم الناشىء عن التباغض والتدابر الذي من شأنه أن يقع بين الذين دبروا أمراً فعاد عليهم بالوبال في أن كلاًّ منهم يحيل ما وقع به العكس على صاحبه، وذلك أشد لعذابهم: {هذا} أي قال أطغى الطغاة لما دخلوها أولاً كما هم أهل له لأنهم ضالون مضلون ورأوا جمعاً من الأتباع داخلاً عليهم: هذا {فوج} أي جماعة كثيفة مشاة مسرعون. ولما كانوا يدخلونها من شدة ما تدفعهم الزبانية على هيئة الواثب قال مشيراً بالتعبير بالوصف مفرداً إلى أنهم في الموافقة فيه والتسابق كأنهم نفس واحدة: {مقتحم} أي رام بنفسه في الشدة بشدة فجاءة بلا روية كائناً {معكم} .
ولما كان أهل النار يؤذي بعضهم بعضاً بالشهيق والزفير والزحام والدفاع والبكاء والعويل وما يسيل من بعضهم على بعض من القيح والصديد وغير ذلك من أنواع النكد، ولا سيما إن كانوا أتباعاً لهم في الدنيا، فصاروا مثلهم في ذلك الدخول في الرتبة، لا يتحاشون عن دفاعهم وخصامهم ونزاعهم، قالوا استئنافاً: {لا مرحباً} ثم بينوا المدعو عليه فقالوا: {بهم} وهي كلمة واقعة في أتم مواقعها لأنها دالة على(16/407)
التضجر والبغضة مع الصدق في أهل مدلولها الذي هو مصادقة الضيق، مفعل من الرحب مصدر ميمي وهو السعة، أي لا كان بهم سعة أصلاً ولا اتسعت بهم هذه الأماكن ولا هذه الأزمان ولا حصلت لهم ولا بهم راحة، ولذلك عللوا استحقاقهم لهذا الدعاء بقولهم مؤكدين لما كان استقر في نفوسهم وتطاول عليه الزمان من إنكارهم له: {إنهم صالوا النار *} أي ومن صليها صادف من الضيق ما لم يصادفه أحد وآذى كل من جاوره.(16/408)
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
ولما كان من المعلوم على ما جرت به العوائد أنهم يتأثرون من هذا القول فيحصل التشوق إلى ما يكون من أمرهم هل يجيبونهم أم تمنعهم هيبتهم على ما كانوا في الدنيا، اعلم بما يعلم منه انقطاع الأسباب هناك، فلا يكون من أحد منهم خوف من آخر، فقال مستأنفاً: {قالوا} أي الأتباع المعبر عنهم بالفوج لسفولهم وبطون أمرهم: {بل أنتم} أي خاصة أيها الرؤساء {لا مرحباً} وبينوا بقولهم: {بكم} أي هذا الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به منا، ثم عللوا قولهم بما أفهم أنهم شاركوهم في الضلال وزادوا عليهم بالإضلال(16/408)
فقالوا: {أنتم} أي خاصة {قدمتموه} أي الاقتحام في العذاب بما أقحمتمونا فيه من أسبابه وقدمتم في دار الغرور من تزيينه {لنا} ولما كان الاقتحام وهو الوثوب أو الدخول على شيء بسرعة كأنها الوثوب ينتهي منه إلى استقرار، وكان الفريقان قد استقروا في مقاعدهم في النار، سببوا عن ذلك قولهم: {فبئس القرار *} أي قراركم.
ولما كان قول الأتباع هذا مفهماً لأنهم علموا أن سبب ما وصلوا إليه من الشقاء هو الرؤساء، وكان هذا موجباً لنهاية غيظهم منهم، تشوف السامع لما يكون من أمرهم معهم؟ هل يكتفون بما أجابوهم به أو يكون أمنهم شيء آخر؟ فاستأنف قوله إعلاماً بأنهم لم يكتفوا بذلك وعلموا أنهم لا يقدرون على الانتقام منهم: {قالوا} أي الأتباع: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا الذي منعنا هؤلاء عن الشكر له {من قدم لنا هذا} أي العذاب بما قدم لنا من الأسباب التي اقتحمناه، وقدموا ذلك اهتماماً به وأجابوا الشرط بقولهم: {فزده} أي على العذاب الذي استحقه بما استحققنا به نحن وهو الضلال {عذاباً ضعفاً} أي زائداً على ذلك مثله مرة أخرى بالإضلال، وقيدوه طلباً لفخامته بقولهم معبرين بالظرف لإفهام الضيق الذي تقدم الدعاء(16/409)
المجاب فيه به ليكون عذاباً آخر فهو أبلغ مما في الأعراف لأن السياق هنا للطاغين وهناك لمطلق الكافرين {في النار *} أي كائناً فيها، وهذا مثل الآية الأخرى ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيراً أي مثل عذابنا مرّتين.
ولما ذكر من اقتحامهم في العذاب وتقاولهم بما دل على خزيهم وحسرتهم وحزنهم، أعلم بما دل على زيادة خسرانهم وحسرتهم وهوانهم بمعرفتهم بنجاة المؤمنين الذين كانوا يهزؤون بهم ويذلونهم فقال: {وقالوا} أي الفريقان: الرؤساء والأتباع بعد أن قضوا وطرهم مما لم يغن عنهم شيئاً من تخاصمهم: {ما} أي أيّ شيء حصل {لنا} مانعاً في أنا {لا نرى} أي في المحل الذي أدخلناه {رجالاً} يعنون فقراء المؤمنين {كنا نعدهم} أي في دار الدنيا {من الأشرار *} أي الأراذل الذين لا خير فيهم بأنهم قد قطعوا الرحم، وفرقوا بين العشيرة وأفسدوا ذات البين، وغيروا الدين بكونهم لا يزالون يخالفون الناس في أقوالهم وأفعالهم، مع ما كانوا فيه من الضعف والذل والهوان وسوء الحال في الدنيا، فيظن أهلها نقص حظهم منه وكثرة مصائبهم فيها لسوء حالهم عند الله وما دروا أنه تعالى يحمي أحباءه منها كما(16/410)
يحمي الإنسان عليله الطعام والشراب ومن يرد به خيراً يصب منه.
ولما كانوا يسخرون من المؤمنين ويستهزئون بهم، وهم ليسوا موضعاً لذلك، بل حالهم في جِدهم وجَدهم في غاية البعد عن ذلك، قالوا مستفهمين، أما على قراءة الحرميين وابن عامر وعاصم فتحقيقاً، وأما على قراءة غيرهم فتقديراً: {اتخذناهم} أي كلفنا أنفسنا وعالجناها في أخذهم {سخرياً} أي نسخر منهم ونستهزئ بهم - على قراءة الكسر، ونسخرهم أي نستخدمهم على قراءة الضم، وهم ليسوا أهلاً لذلك، بل كانوا خيراً منا فلم يدخلوا هنا لعدم شرارتهم، وكأنهم إلى تجويز كونهم في النار معهم ومنعهم من رؤيتهم أميل، فدلوا على ذلك بتأنيث الفعل ناسبين خفاءهم عنهم إلى رخاوة في أبصارهم على قوتها في ذلك الحين فقالوا: {أم زاغت} أي مالت متجاوزة {عنهم} .
ولما كان تعالى يعيد الخلق في القيامة على غاية الإحكام في أبدانهم ومعانيها فتكون أبصارهم أحد ما يمكن أن تكون وأنفذه «اسمع بهم وابصر يوم يأتوننا فبصرك اليوم حديد» عدوا أبصارهم في الدنيا بالنسبة إليها عدماً، فلذلك عرفوا قولهم: {الأبصار *} أي منا التي لا أبصار في الحقيقة سواها فلم نرها وهم فينا ومعنا في النار ولكن حجبهم عنا بعض أوديتها وجبالها ولهبها. ف {أم} معادلة لجملة السخرية، وقد(16/411)
علم بهاذ التقدير أن معنى الآية إلى إنفصال حقيقي معناه: أهم معنا أم لا؟ فهي من الاحتباك: أثبت الاتخاذ المذكور الذي يلزمه بحكم العناد بين الجملتين عدم كون المستسخر بهم معهم في النار أولاً دليلاً على ضده ثانياً، وهو كونهم معهم فيها، وأثبت زيغ الأبصار ثانياً اللازم منه بمثل ذلك كونهم معهم في النار دليلاً على ضده أولاً وهو كونهم ليسوا معهم، وسر ذلك أن الموضع لتسحرهم ولومهم لأنفسهم، في غلطهم والذي ذكر عنهم أقعد في ذلك.
ولما كان هذا أمراً رائعاً جداً زاجراً لمن له عقل فتأمله مجرداً لنفسه من الهوى، وكانت الجدود تمنعهم عن التصديق به، كان موضعاً لتأكيد الخبر عنه فقال: {إن ذلك} أي الأمر العظيم الذي تقدم الإخبار به {لحق} أي ثابت لا بد من وقوعه إذا وقع مضمونة وافق الواقع منه هذا الإخبار عنه، ولما كان أشق ما فيه عليهم وأنكأ تخاصمهم جعله هو المخبر به وحده، فقال مبيناً له مخبراً عن مبتدإ استئنافاً تقديره: هو {تخاصم أهل النار *} لأنه ما أناره لهم إلا الشر والنكد فسمي تخاصماً.(16/412)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
ولما كانت قد جرت عادتهم عند التخويف أن يقولوا: عجل لنا هذا إن كنت صادقاً فينا ادعيت، ومن المقطوع به أنه لا يقدر على ذلك إلا الإله فصاروا كأنهم نسبوه إلى أنه ادعى الإلهية، قال تعالى منبهاً على ذلك آمراً له بالجواب: {قل} أي لمن يقول لك ذلك: {إنما أنا منذر} أي مخوف لمن عصى، ولم أدّع أني إله، ليطلب مني ذلك فإنه لا يقدر على مثله إلا الإله، فهو قصر قلب للموصوف على الصفة، وأفرد قاصراً للصفة في قوله: {وما} وأعرق في النفي بقوله: {من إله} أي معبود بحق لكونه محيطاً بصفات الكمال. ولما كان السياق للتوحيد الذي هو أصل الدين، لفت القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه وأبين فقال: {إلا الله} وللإحاطة عبر بالاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى ولو شاركه شيء لم يكن محيطاً وللتفرد قال مبرهناً على ذلك: {الواحد} أي بكل اعتبار فلا يمكن أن يكون له جزء أو يكون له شبيه محتاجاً مكافئاً {القهار *} أي الذي يقهر غيره على ما يريد، وهذا برهان على أنه الإله وحده وأن آلهتهم بعيدة عن استحقاق الإلهية لتعددها وتكافئها بالمشابهة واحتياجها.
ولما وصف نفسه سبحانه بذلك، دل عليه بقوله: {رب السماوات} أي مبدعها وحافظها على علوها وسعتها وإحكامها بما لها من الزينة والمنافع، وجمع لأن المقام للقدرة، وإقامة الدليل على تعددها سهل(16/413)
{والأرض} على سعتها وضخامتها وكثافتها وما فيها من العجائب.
ولما كان القائل مخيراً كما قال ابن مالك في الكافية الشافية عند اختلاط العقلاء بغيرهم في إطلاق ما شاء من «مَن» التي أغلب إطلاقها على العقلاء و «ما» التي هي بعكس ذلك، وكان ربما وقع في وهم أن تمكنه تعالى من العقلاء دون تمكنه من غيرهم لما لهم من الحيل التي يحترزون بها عن المحذور، وينظرون بها في عواقب الأمور، أشار إلى أن حكمه فيهم كحكمه في غيرهم من غير فرق بالتعبير عنهم ب «ما» التي أصلها وأغلب استعمالها لمن لا يعقل، وسياق العظمة بالوحدانية وآثارها دال على دخولها في العبادة قطعاً فقال: {وما بينهما} أي الخافقين من الفضاء والهواء وغيرهما من العناصر والنبات والحيوانات العقلاء وغيرها، ربي كل شيء من ذلك إيجاداً وإبقاء على ما يريد وإن كره ذلك المربوب، فدل ذلك على قهره، وتفرده في جميع أمره.
ولما كان السياق للإنذار، كرر ما يدل على القهر فقال: {العزيز} أي الذي يعز الوصول إليه ويغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، ولما ثبت أنه يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، وكانت دلالة الوصفين العظيمين على الوعيد أظهر من إشعارها بالوعد، كان موضع قولهم،(16/414)
فما له لا يعجل بالهلاك لمن يخالفه فقال: {الغفار *} أي المكرر ستره لما يشاء من الذنوب حلماً إلى وقت الماحي لها بالكلية بالنسبة إلى من يشاء من العباد كما فعل مع أكثر الصحابة رضي الله عنهم حيث غفر لهم ما اقترفوه قبل الإسلام.
ولما ثبت بهذا وحدانيته وقدرته ولم يزعهم ذلك عن ضلالهم، ولا ردهم عن عتوهم ومحالهم، مع كونه موجباً لأن يقبل كل أحد عليه ولا يعدل أبداً عنه، قال آمراً له بما ينبههم على عظيم خطئهم: {قل هو} أي هذا الأمر الذي تلوته عليكم من الأخبار عن الماضي والآتي من القيامة المشتملة على التخاصم المذكور وغيرها والأحكام والمواعظ، فثبت بمضمونه الوحدانية، وتحقق بإعجازه مع ثبوت الوحدانية وتمام القدرة وجميع صفات الكمال أنه كلام الله: {نبؤا عظيم *} أي خبر يفوت الوصف في الجلال والعظم بدلالة العبارة والصفة لا يعرض عن مثله إلا غافل لا وعي له ولا شيء من رأى.
ولما كانوا يدعون أنهم أعظم الناس إقبالاً على الغرائب، وتنقيباً عن الدقائق والجلائل من المناقب، بكتهم بقوله واصفاً له: {أنتم عنه}(16/415)
أي خاصة لا عن غيره والحال أن غيره من المهملات ولما كان أكثرهم متهيئاً للإسلام والرجوع عن الكفران لم يقل: مدبرون، ولا «يعرضون» بل قال: {معرضون *} أي ثابت لكم الإعراض في هذا الحين، وقد كان ينبغي لكم الإقبال عليه خاصة والإعراض عن كل ما عداه لأن في ذلك السعادة الكاملة، ولو أقبلتم عليه بالتدبر لعلمتم قطعاً صدقي وأني ما أريد بكم إلا السعادة في الدنيا والآخرة، فبادرتم الإقبال إليّ والقبول لما أقول.
ولما قصر نفسه الشريفة على الإنذار، وكانوا ينازعون فيه وينسبونه إلى الكذب، دل على صدقه وعلى عظيم هذا النبأ بقوله: {ما كان لي} وأعرق في النفي بالتأكيد في قوله: {من علم} أي من جهة أحد من الناس كما تعرفون ذلك من حالي له إحاطة ما {بالملإ} أي الفريق المتصف بالشرف {الأعلى} وهم الملائكة أهل السماوات العلى وآدم وإبليس، وكأن مخاطبة الله لهم كانت بواسطة ملك كما هو أليق بالكبرياء والجلال، فصح أن المقاولة بين الملأ {إذ} أي حين، ولما أفرد وصف الملأ إيذاناً بأنهم في الاتفاق في علو رتبة الطاعة كأنهم شيء واحد، جمع لئلا يظن حقيقة الوحدة فقال: {يختصمون *} أي في شأن آدم عليه السلام، أول خليفة في الأرض(16/416)
بل الخليفة المطلق، لأن خلافه أولاده من خلافته، وفي الكفارات الواقعة من بينه، كما أنه ما كان لي من علم بأهل النار إذ يختصمون، ولا بالخصم الذين دخلوا على داود عليه السلام الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض إذ يختصمون، وقد علمت ذلك علماً مطابقاً للحق بشهادة الكتب القديمة وأنتم تعلمون أني لم أخالط عالماً قط، فهذا علم من أعلام النبوة واضح في أني لم أعلم ذلك إلا بالوحي لكوني رسول الله وعبر هنا بالمضارع - وإن كان قد وقع ومضى من أول الدهر - تذكيراً بذلك الحال وإعلاماً بما هم فيه الآن من مثله في الدرجات، كما سيأتي قريباً في الحديث القدسي، وعبر في تخاصم أهل النار - وهو لم يأت - بالماضي تنبيهاً على أن وقوعه مما لا ريب فيه، فكأنه وقع وفرغ منه لأنه قد فرغ من قضائه من لا يرد له قضاء، لأنه الواحد فلا شريك له ولا منازع.
ولما كانوا ربما قالوا في تعنتهم: فلعله مثل ما أوحي إليك بعلم ما لم تكن تعلم، يوحي إليك بالقدرة على ما لم تكن تقدر عليه، فتعجل لنا الموت ثم البعث لنرى ما أخبرتنا به من التخاصم مصوراً، لعلناً نصدقك فيما أتيت به، قال مجيباً لهم قاصراً للوحي على قصره على النذارة وهي إبلاغ ما أنزل إليه، لا تعجيل شيء مما توعدوا به: {إن} أي ما {يوحى} أي في وقت من الأوقات، وبناه للمفعول لأن(16/417)
ذلك كاف في تنبيههم على موضع الإشارة في أن دعواه إنما هي النبوة لا الإلهية {إليّ إلا} ولما كان الوحي قولاً قرأ أبو جعفر بكسر {إنما أنا نذير} أي قصري على النذارة لا أني أنجز ما يتوعد به الله؛ فإنما مفعول يوحى القائم مقام الفاعل في القراءتين وإن اختلف التوجيهان فالتقدير على قراءة الجماعة بالفتح: إلا الإنذار أو إلا كوني نذيراً، وعلى قراءة الكسر: إلا هذا القول وهو أني أقول لكم كذا {مبين *} أي لا أدع لبساً فيما ابلغه بوجه من الوجوه.(16/418)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
ولما دل على أنه نذير، وأزال ما ربما أوردوه عليه، أتبعه ظرف اختصام الملأ الأعلى، أو بدل «إذ» الأولى فقال: {إذ} أي حين {قال} ودل على أنه هذا كله إحسان إليه وإنعام عليه بذكر الوصف الدال على ذلك، ولفت القول عن التكلم إلى الخطاب لأنه أقعد في المدح وأدل على أنه كلام الله كما في قوله: {قل من كان عدواً لجبريل} [البقرة: 97] دليلاً يوهم أنه ظرف ليوحى أو لنذير فقال: {ربك} أي المحسن إليك بجعلك خير المخلوقين وأكرمهم عليه فإنه أعطاك الكوثر، وهو كل ما يمكن أن تحتاج إليه {للملائكة} وهم الملأ الأعلى وإبليس منهم(16/418)
لأنه كان إذ ذاك معهم وفي عدادهم. ولما كانوا عالمين بما دلهم عليه دليل من الله كما تقدم في سورة البقرة أن البشر يقع منه الفساد، فكانوا يبعدون أن يخلق سبحانه من فيه فساد لأنه الحكيم الذي لا حكيم سواه، أكد لهم سبحانه قوله: {إني خالق بشراً} أي شخصاً ظاهر البشرة لا ساتر له من ريش ولا شعر ولا غيرهما ليكون التأكيد دليلاً على ما مضى من مراجعتهم لله تعالى التي أشار إليها بالاختصام، وبين أصله بقوله معلقاً بخالق أو بوصف بشر: {من طين *} اجعله خليفتي في الأرض وإن كان في ذلك فساد لأني أريد أن أظهر حلمي ورحمتي وعفوي وغير ذلك من صفاتي التي لا يحسن في الحكمة إظهارها إلا مع الذنوب «لو لم تذنبوا فتستغفروا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» قال القشيري: وإخباره للملائكة بذلك يدل على تفخيم شأن آدم عليه السلام لأنه خلق ما خلق من الكونين والجنة والنار والعرش والكرسي والملائكة، ولم يقل في صفة شيء منها ما قاله في صفة آدم عليه السلام وأولاده، ولم يأمر بالسجود لشيء غيره.
ولما أخبرهم سبحانه بما يريد أن يفعل، سبب عنه قوله: {فإذا سويته} أي هيأنه بإتمام خلقه لما يراد منه من قبول الروح وما يترتب عليه {ونفخت فيه من روحي} فصار حساساً متنفساً، سبه سبحانه إفاضته الروح بما يتأثر عن نفخ الإنسان من لهب النيران، وغير ذلك من التحريك والإسكان، والزيادة والنقصان، وأضافه سبحانه إليه تشريفاً له،(16/419)
{فقعوا له} أي خاصة {ساجدين *} أي اسجدوا له للتكرمة امتثالاً لأمري سجوداً هو بغاية ما يكون من الطواعية والاختيار والمحبة لتكونوا كأنكم وقعتم بغير اختيار، ففعلوا ما أمرهم به سبحانه من غير توقف، ولذلك ذكر فعلهم مع جواز تأنيثه فقال: {فسجد} أي عند ما نفخ فيه الروح {الملائكة} على ما أمرهم الله، ولما كان إسناد الخبر إلى الجميع قد يراد به أكثرهم، أكد بقوله: {كلهم} إرادة لرفع المجاز.
ولما كان لا يقدح في ذلك واحد مثلاً أو قليل لا يعبأ بهم لضعف أو نحوه، رفع ذلك بقوله: {أجمعون*} مع إفادة أن السجود كان في آن واحد إعلاماً بشدة انقيادهم، وحسن تأهبهم للطاعة واستعدادهم، ثم زاد في إيضاح العموم بالاستثناء الذي هو معياره فقال: {إلا إبليس} عبر عنه بهذا الاسم لكونه من الإبلاس وهو انقطاع الرجاء إشارة إلى أنه في أول خطاب الله له بالإنكار عليه على كيفية علم منها تأبد الغضب عليه وتحتم العقوبة له.
ولما عرف بالاستثناء أنه لم يسجد، وكان مبنى السورة على استكبار الكفرة بكونهم في عزة وشقاق، بين أن المانع له من السجود(16/420)
الكبر تنفيراً عنه مقتصراً في شرح الاختصام عليه وعلى ما يتصل به فقال: {استكبر} أي طلب أن يكون أكبر من أن يؤمر بالسجود له وأوجد الكبر على أمر الله، وكان من المستكبرين العريقين في هذا الوصف كما استكبرتم أيها الكفرة على رسولنا، وسنرفع رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما رفعنا آدم صفينا عليه السلام على من استكبر عن السجود له، ونجعله خليفة هذا الوجود كما جعلنا آدم عليه السلام، وأشرنا إلى ذلك في هذه السورة بافتتاحها بخليفة واختتامها بخليفة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذكر كل من أحوالهما.
ولما كان الفعل الماضي ربما أوهم أنه حدث فيه وصف لم يكن، وكان التقدير: فكفر بذلك، عطفاً عليه بياناً لأنه جبل على الكفر ولم يحدث منه إلا ظهور ذلك للخلق قوله: {وكان} أي جبلة وطبعاً {من الكافرين *} أي عريقاً في وصف الكفر الذي منشؤه الكبر على الحق المستلزم للذل للباطل، فالآية من الاحتباك: ذكر فعل الاستكبار أولاً، دليلاً على فعل الكفر ثانياً ووصف الكفر ثانياً دليلاً على وصف الاستكبار أولاً، وسر ذلك أن ما ذكره أقعد في التحذير بأن من وقع منه كبر جره إلى الكفر.(16/421)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
ولما كان من خالف أمر الملك جديراً بأن يحدث إليه أمر ينتقم به منه، فتشوف السامع لما كان من الملك إليه، استأنف البيان لذلك بقوله: {قال} وبين أنه بمحل البعد بقوله: {يا} وبين يأسه من(16/421)
الرحمة، وأنه لا جواب له اصلاً بتعبيره بقوله: {إبليس ما} أي، أي شيء {منعك أن تسجد} وبين ما يوجب طاعته ولو أمر بتعظيم ما لا يعقل بقوله معبراً بأداة ما لا يعقل عمن كان عند السجود له عاقلاً كامل العقل: {لما خلقت} فأنا العالم به وبما يستحقه دون غيري، وما أمرت بالسجود له إلا لحكمة في الأمر وابتلاء للغير، وأكد بيان ذلك بذكر اليد وتثنيتها فقال: {بيدي} أي من غير توسط سبب من بين هذا النوع وما ذاك إلا لمزيد اختصاص، والمراد باليد هنا صفة شريفة غير النعمة والقدرة معلومة له سبحانه ولمن تبحر في علمي اللغة والسنّة، خص بها خلق آدم عليه السلام تشريفاً له وفي تثنية اليد إشارة إلى أنه ربما أظهر فيه معاني الشمال وإن كان كل من يديه مباركاً، ثم قسم المانع إلى طلب العلو ووجود العلو مع الإنكار عليه في الاستناد إلى شيء منهما، فقال في صيغة استفهام التقرير مع الإنكار والتقريع، بياناً لأنه يلزمه لا محالة زيادة على ما كفر به أن يكون على أحد هذين الأمرين: {أستكبرت} أي طلبت أن تكون أعلى منه وأنت تعلم أنك دونه فأنت بذلك ظالم، فكنت من المستكبرين العريقين في وصف الظلم، فإن من اجترأ على أدناه أوشك أن يصل إلى أعلاه {أم كنت} أي مما لك من الجبلة الراسخة {من العالين *} أي الكبراء المستحقين للكبر وأنا لا أعلم ذلك فنقصتك من منزلتك فكنت جائراً في أمري(16/422)
لك بما أمرتك به، فلذلك علوت بنفسك فلم تسجد له، هذا المراد لا ما يقوله بعض الملاحدة من أن العالين جماعة من الملائكة لم يسجدوا لأنهم لم يؤمروا لأن ذلك قدح في العموم المؤكد هذا التأكيد العظيم، وفي تفسير العلماء له من غير شبهة، والآية من الاحتباك؛ دل فعل الاستكبار أولاً على فعل العلو ثانياً، ووصف العلو ثانياً على وصف الاستكبار أولاً، وسر ذلك ان إنكار الفعل المطلق مستلزم لإنكار المقيد لأنه المطلق بزيادة، وإنكار الوصف مستلزم لإنكار الفعل لأنه جزوه مع أن إنكار الفعل من هذا مستلزم لإنكار الفعل من ذاك، فيكون كل من الفعلين مدلولاً على إنكاره مرتين: تارة بإنكار فعل عديله وأخرى بإنكار وصفه نفسه والوصفان كذلك وفعل الكبر أجدر بالإنكار من فعل العلو و «أم» معادلة لهمزة الاستفهام وإن حذفت من قراءة بعضهم لدلالة «أم» عليها وإن اختلف الفعل، قال أبو حيان: قال سيبويه: تقول: أضربت زيداً أم قتلته، فالبدء هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيهما كان، ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت: أي ذلك كان - انتهى.(16/423)
ولما صدعه سبحانه بهذا الإنكار، دل على إبلاسه بقوله مستأنفاً: {قال} مدعياً لأنه من العالين: {أنا خير منه} أي فلا حكمة في أمري بالسجود له، ثم بين ما ادعاه بقوله: {خلقتني من نار} أي وهي في غاية القوة والإشراق {وخلقته من طين *} أي وهو في غاية الكدورة والضعف، واستؤنف بيان ما حصل التشوف إليه من علم جوابه بقوله معرضاً عن القدح في جوابه لظهور سقوطه بأن المخلوق المربوب لا اعتراض له على ربه بوجه: {قال فاخرج} أي بسبب تكبرك ونسبتك الحكيم الذي لا اعتراض عليه إلى الجور {منها} أي من الجنة محل الطهر عن الأدواء الظاهرة والباطنة، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأجل ادعاء أنه أهل لأقرب القرب: {فإنك رجيم *} أي مستحق للطرد والرجم وهو الرمي بالحجارة الذي هو للمبالغة في الطرد.
ولما كان الطرد قد يكون في وقت يسير، بين أنه دائم بقوله، مؤكداً إشارة إلى الإعلام بما في نفسه من مزيد الكبر: {وإن عليك} أي خاصة. ولما كان السياق هنا للتكلم في غير مظهر العظمة لم يأت بلام الكلام بخلاف الحجر فقال: {لعنتي} أي إبعادي مع الطرد والخزي والهوان والذل مستعل ذلك عليك دائماً قاهراً لك لا تقدر على الانفكاك(16/424)
عنه بوجه، وأما غيرك فلا يتعين للعن بل يكون بين الرجاء والخوف لا علم للخلائق بأنه مقطوع بلعنة ما دام حياً إلا من أخبر عنه نبي من الأنبياء بذلك، ثم غيى هذا اللعن بقوله: {إلى يوم الدين *} أي فإذا جاء ذلك اليوم أخذ في المجازاة لكل عامل بما عمل ولم يبق لمذنب وقت يتدارك فيه ما فاته، وحينئذ يعلم أهل الاستحقاق للعن كلهم، ولم يبق علم ذلك خاصاً بإبليس، بل يقع العلم بجميع أهل اللعنة، فالغاية لعلم الاختصاص باللعن لا للعن.
ولما كان ذلك، تشوف السامع إلى ما كان منه فأخبر سبحانه به في سياق معلم أنه منعه التوفيق فلم يسأل التخفيف ولا عطف نحو التوبة، بل أدركه الخذلان بالتمادي في الطغيان، فطلب ما يزداد به لعنة من الإضلال والإعراق في الضلال ضد ما أنعم به على آدم عليه السلام، فقال ذاكراً صفة الإحسان والتسبيب لسؤال الإنظار لما جرأه عليهما من ظاهر العبارة في أن اللعنة مغباة بيوم الدين: {قال رب} أي أيها المحسن إليّ بإيجادي وجعلي في عداد الملائكة الكرام {فأنظرني} أي بسبب ما عذبتني به من الطرد {إلى يوم يبعثون *} أي آدم وذريته الذين تبعثهم ببعث جميع الخلائق: {قال} مؤكداً لأن(16/425)
مثل ذلك في خرقه للعادة لا يكاد يتصور: {فإنك} أي بسبب هذا السؤال {من المنظرين *} وهذا يدل أن مثل هذا الإنظار لغيره أيضاً.(16/426)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
ولما دبج في عبارته بما يقتضي السؤال في أن لا يموت، فإن يوم البعث ظرف لفيض الحياة لا لغيضها ولبسطها لا لقبضها، منعه ذلك بقوله: {إلى يوم الوقت} ولما كان تدبيجه في السؤال قد أفهم تجاهله بما هو أعلم الخلق به من تحتم الموت لكل من لم يكن في دار الخلد الذي أبلغ الله تعالى في الإعلام به، قال: {المعلوم *} وهو الصعقة الأولى وما يتبعها.
ولما كانت هذه الإجابة سبباً لأن يخضع وينيب شكراً عليها، وأن يطغى ويتمرد ويخيب لأنها تسليط، وتهيئة للشر، فاستشرف السامع إلى معرفة ما يكون من هذين المسببين، عرف أنه منعه الخذلان من اختيار الإحسان بقوله: {قال فبعزتك} أي التي أبت أن يكون لغيرك فعل لا بغير ذلك، ويجوز أن تكون الباء للقسم {لأغوينهم} أي ذرية آدم عليه السلام {أجمعين *} قال القشيري: ولو عرف عزته لما(16/426)
أقسم بها على مخالفته.
ولما كان عالماً بأن القادر ما خلق آدم عليه السلام وشرفه بما شرفه به ليشقي ذريته كلهم قال: {إلا عبادك} فأضافهم إليه سبحانه تنبيهاً على أن غيرهم قد انسلخوا من التشرف بعبوديته بالنسبة إلى من أطاعوه. ولما كان يمكن أن يكون المستثنى، من غير البشر قيد بقوله: {منهم المخلصين *} أي الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته فأخلصوا قصدهم لها، وعرف من الاستثناء أنهم قليل وأن الغواة هم الأصل.
ولما حصل التشوف إلى جوابه، دل عليه بقوله: {قال فالحق} أي فبسبب إغوائك وغوايتهم أقول الحق {والحق} أي لا غيره أبداً {أقول *} أي لا أقول إلا الحق، فإن كل شيء قلته ثبت، فلم يقدر أحد على نقضه ولا نقصه. ولما كانت إجابته بالإنظار ربما كانت سبباً لطمعه في الخلاص، قطع رجاءه بما أبرزه في أسلوب التأكيد من قوله جواباً لقسم مقدر وبياناً للحق، وفي قراءة عاصم وحمزة برفع {فالحق} يكون هو المقسم به أي فالحق قسمي، والجواب {لأملأن} وما بينهما اعتراض مبين أن هذا مما لا يخلف اصلاً {جهنم} أي النار العظيمة التي من شأنها تجهم من حكم بدخوله إياها {منك} أي نفسك وكل من كان على شاكلتك من جنسك من(16/427)
جميع الجن {وممن} .
ولما كان الأغلب على سياقات هذه السورة سلامة العاقبة، كان توحيد الضمير في {تبع} أولى، وليفهم الحكم على كل فرد ثم الحكم على المجموع فقال: {تبعك} ولما كان ربما قال متعنت: إن المالىء لجهنم من غير البشر قال: {منهم} أي الناس الذين طلبت الإمهال لأجلهم، وأكد ضمير {منك} والموصول في {ممن} بقوله: {أجمعين *} لا تفاوت في ذلك بين أحد منكم، وهذا الخصام الذي بين سبحانه أنه كان بين الملأ الأعلى كان سبباً لهم إلى انكشاف علوم كثيرة منها أن السجود والتحيات والاستغفار والكفارات سبب الوصول إلى الله والقربات، فصاروا بعد ذلك يختصمون فيها، فكانت هذه القضية سبباً لاطلاع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أسرار الملك والملكوت، وإلى ذلك الإشارة بالحديث الذي رواه أحمد والترمذي - وقال: حسن غريب - والدارمي والبغوي في تفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«إني نعست فاستثقلت(16/428)
نوماً فأتاني ربي» - وفي رواية؛ «آتٍ من ربي - في أحسن صورة، فقال لي يا محمد، قلت: لبيك ربي وسعديك، قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى، فقلت لا يا رب» - وفي رواية: «قلت: أنت أعلم أي رب مرتين - قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي - أو قال: نحري - فعلمت ما في السماوات وما في الأرض» - وفي رواية: «ما بين المشرق والمغرب» - وفي رواية الدارمي والبغوي: «ثم تلا هذه الآية {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت: نعم، في الدرجات والكفارات، قال: وما هن؟ قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره» - وفي رواية: «في السبرات - وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال: من فعل ذك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد، قلت: لبيك وسعديك، قال: إذا صليت فقل» اللهم إني أسالك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك(16/429)
غير مفتون «قال:» والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام «، قال المنذري: الملأ الأعلى: الملائكة المقربون، والسبرات - بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة: جمع سبرة، وهي شدة البرد، وعزاه شيخنا في تخريج أحاديث الفردوس إلى أحمد والترمذي عن معاذ رضي الله عنه أيضاً وقال: وفي الباب عن ثوبان رضي الله عنه عند أحمد بن منيع وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وأبي رافع وأبي أمامة وأبي عبيدة وأسامة وجابر بن سمرة وجبير بن مطعم وأسامة بن عمير وأنس رضي الله عنهم عند أحمد، فهذا اختصام سبب العلم بتفاصيله الاختصام الأول وهو ما في شأن آدم عليه السلام وذريته، والعلم الموهوب لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبب السؤال عن هذا الاختصام كالعلم الموهوب لأبيه آدم عليه عليه السلام بسبب ذلك الاختصام، وهذا الاختصام - والله أعلم - هو اختلافهم في مقادير جزاء العاملين من الثواب المشار إليه بالدرجات الحامل عليها العقل الداعي إلى أحسن تقويم، والعقاب المشار إليه بالكفارات الداعي إلى أسبابها الوساوس الشيطانية الرادة إلى أسفل سافلين التي سأل إبليس الإنظار لأجلها، وسبب اختلافهم في(16/430)
مقادير الجزاء اختلاف مقادير الأعمال الباطنة من صحة النيات وقوة العزائم وشدة المجاهدات ولينها على حسب دواعي الحظوظ والشهوات التي كان سبب علمهم بهذا الاختصام في أمر آدم عليه السلام وما نشأ عنه تفصيله بأمور دقيقة المأخذ المظهرة لأن الفضل ليس بالأمور الظاهرة وإنما هو بما يهبه الله من الأمور الباطنة وسمي تقاولهم في ذلك اختصاماً دلالة على عظمة ما تقاولوا فيه، لأن الخصومة لا تكون إلا بسبب أمر نفيس، فالمعنى أن الملائكة كل واحد منهم مشغول بما أقيم فيه من الخدمة، فليس بينهم تقاول يكون بغاية الجد والرغبة كما هو شأن الخصام إلا في هذا لشدة عجبهم منه لما يعملون من صعوبة هذه الأمور على الآدمي لما عنده من الشواغل والصوارف عنها بما وهبهم الله من العلم جزاء لانقيادهم للطاعة بالسجود بعد ذلك الخصام فنزوع الآدمي عن صوارفه وحظوظه إلى ما للملائكة من الصفوف في الطاعة والإعراض أصلاً عن المعصية غاية في العجب، وعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما في السماوات وما في الأرض علم عام لما كان في حين الرؤيا ظهر له به ملكوتهما، ونسبة ذلك كله إلى علم الله تعالى كالنسبة التي ذكرها الخضر لموسى عليهما السلام في نفرة العصفور من البحر، والذي ذكره العلماء في ذلك أنه تقريب للإفهام فإنه لا نسبة في الحقيقة لعلم أحد من علمه تعالى ولا بنقص علمه أصلاً سبحانه عما يلم بنقص أو يدني إلى وهن
{قل(16/431)
لو كان البحر مداداً} [الكهف: 109] {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} [لقمان: 27] {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا} [المائدة: 109] ويقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ناس اختلجوا دونه عن حوضه «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فيقول: فسحقاً سحقاً» .
ولما تم ما أراد من الدليل على أن ما ذكره لهم نبأ عظيم هم عنه معرضون بما أخبر به من الغيب مع ما له من الإعجاز، فثبت بذلك ما اقتضى أنه صادق في نسبته إلى الله تعالى، وختم بالتحذير من اتباع إبليس، أمره بالبراءة من طريقه وأن ينفي عن نفسه ما قد يحمل على التقول بقوله: {قل} أي لأمتك: {ما أسئلكم} سؤالاً مستعلياً، وعلق به لا «بأجر» قوله: {عليه} أي على التبليغ والإنذار مما أنتم متعرضون له من الهلاك بالإعراض، فأداة الاستعلاء للاحتراز عن سؤال المودة في القربى وحسن الاتباع فإنهما مسؤولان وهما روح الدين، ولكن سؤالهما ليس مستعلياً على الإبلاغ بحيث إنهما لو انتفيا انتفى، وأعرق في النفي بقوله: {من أجر} أي فيكون لكم في الرد شبهة {وما أنا من المتكلفين *} أي المتحلين بما ليسوا من أهله من قول(16/432)
ولا فعل، الذين يكلفون أنفسهم تزوير الكلام والتصنع فيه وترتيبه على طريق من الطرق بنظم أو نثر سجع أو خطب أو غير ذلك، أو وضع أنفسهم في غير مواضعها، كما فعل إبليس، لست منهم بسبيل ولا أعد في عدادهم بوجه، لا أفعل أفعالهم ولا أحبهم ولا أتعصب لهم، فهو أبلغ من «وما أنا متكلفاً» قد عرفتموني طول عمري كذلك، ومن المعلوم أن ذلك لو كان في غريزتي لما كففت عنه طول زماني النمو من الصبي والشباب اللذين توجد فيهما الغرائز ولا توجد بعدهما، فإذا ثبت أن ذلك لم يكن لي إذ ذاك ثبت أنه متعذر بعده، لما تقرر من أنه لا توجد غريزة بعد الوقوف عن النمو في سن الثلاث والأربعين، فإذا علم أني لست كذلك علم أني مأمور بما أنا فيه من القول والفعل، فأنا من المكلفين لا المتكلفين، فكل من قال أو فعل ما لم يؤمر به فهو متكلف، وروى الثعلبي بسنده من حديث سلمة بن نفيل رضي الله عنه مرفوعاً والبيهقي في الشعب من قول علي بن أرطاة وأبو نعيم في الحلية من قول وهب: علامة المتكلف ثلاث: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم.
ولما أثبت المقتضيات لأنه من عند الله وأزال الموانع، بين حقيقته التي لا يتعداها إلى ما نسبوه إليه بقوله: {إن} أي ما {هو إلا ذكر}(16/433)
أي عظة وشرف {للعالمين *} أي كلهم يفهم كل فرد ما تحتمله قواه ذكياً كان أو غبياً على ما هو عليه من العلو الذي لا يدانيه فيه كلام بخلاف الشعر والكهانة التي محطها السجع والكذب في الإختبار ببعض المغيبات، فإنهما مع سفول رتبتهما لا يفهمهما من العالمين إلا ذاك وذاك.
ولما كان التقدير: أنا عالم بذلك، عطف عليه قوله جواباً لقسم: {ولتعلمن} أي أنتم أيضاً {نبأه} أي صدقي في جميع ما أنبأتكم به فيه وعنه من الأخبار العظيمة وفيما أشار إليه افتتاح هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة بخليفة وختامهم بخليفة من أن عزتكم تصير إلى ذل وشقاقكم يصير إلى مسالمة وألفة، وكثرتكم تصير إلى قل، وأن ما أنا فيه الآن يفضي بي إلى خلافة الله في أرضه، وأن أوسط أمري يصير إلى مثل خلافة الأول في جميع جزيرة العرب التي هي أرض المسجد الأعظم الذي هو قبل المسجد الأقصى الذي هو محل خلافته، ثم يزاد أمر خلافتي في سائر البلاد ولا يزال حتى يعم الأرض بطولها والعرض على يد ابنه عيسى عليه السلام خاتمة أكابر أتباعي(16/434)
وأنصاري وأشياعي، وترك الجار إعلاماً باستغراق العلم لزمان البعد فقال: {بعد حين *} أي مبهم عندكم معلوم لي في الدنيا إذا ظهر عبادي عليكم وفي الآخرة مطلقاً، وإنما أخروا إلى هذا الحين ليبلغ في الإعذار إليهم فتنقطع حججهم وتتناهى ذنوبهم التي يستحقون الأخذ بها، ولقد والله علموا ذلك ثم ندموا من مات منهم ومن عاش قبل مضي عشرين سنة من إعلاء كلمته وإظهار رسالته وإتمام دينه، واستمر العلم لهم ولمن بعدهم بما بث فيه من العلوم، وجمع فيه من شريف الرسوم، وأظهر مما تقدم الوعد به فيه إلى هذا الزمان، وإلى أن يفنى كل فان، ثم يبعثوا إلى الجنان أو النيران، فقد أثبتت هذه الآية من كون القرآن ذكراً ما أثبتته أول آية فيها على أتم وجه مع زيادة الوعيد، فانعطف الآخر على الأول، واتصل به أحسن اتصال وأجمل، ونظر إلى أول الزمر أعظم نظر وأكمل، فلله در هذا الانتظام، فهو لعمري أضوأ من شمس الضحى وأتم من بدر التمام، فسبحان من أنزله وأجمله وفصله، وفضله وشرفه وكرمه - والله أعلم.(16/435)
سورة الزمر
مقصودها الدلالة على أنه سبحانه وتعالى صادق الوعد،، أنه غالب لكل شيء، فلا يعجل لأنه لا يفوته شيء، ويضع الأشياء في أوفق محالها يعرف ذلك أولو الألباب المميزون بين القشر واللباب، وعلى ذلك دلت تسميتها الزمر لأنها إشارة إلى أنه أنزل كلا من المحشورين داره المعدة له بعد الإعذار في الإنذار، والحكم بينهم بما استحقته أعمالهم، عدلا منه سبحانه في أهل النار، وفضلا على المتقين الأبرار، وكذا تسميتها) تنزيل (لمن تأمل آيتها، وحقق عبارتها وإشارتها، وكذا) الغرف (، لأنها إشارة إلى حكمه سبحانه في الفريقين أهل الظلل النارية والغرف النورية، تسمية للشيء بأشرف جزئيه، فالقول فيها كالقول في الزمر سواء، ويزيد أهل الغرف ختام آيتهم) وعد الله لا يخاف الله الميعاد () بسم الله (الذي تمت كلمته فع أمره) الرحمن (الذي وضع، رحمته العامة أحكم وضع فدق لذي الأفهام سره) الرحيم (الذي خص أولياءه بالتوفيق لطاعته فعمهم بره.(16/436)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
لما تبين من التهديد في ص أنه سبحانه قادر على ما يريد، ثم ختمها بأن القرآن ذكر للعالمين، وأن كل ما فيه لا بد أن يرى لأنه واقع لا محالة لكن من غير عجلة، فكانوا ربما قال متعنتهم: ما له إذا كان قادراً لا يعجل ما يريده بعد حين، علل ذلك بأنه {تنزيل} أي بحسب التدريج لموافقة المصالح في أوقاتها وتقريبه للأفهام على ما له من العلو حتى صار ذكراً للعالمين، ووضع موضع الضمير قوله: {الكتاب} للدلالة على جمعه لكل صلاح، أي لا بد أن يرى جميع ما فيه لأن الشأن العظيم إنزاله على سبيل التنجيم للتقريب في فهمه وإيقاع كل شيء منه في أحسن أوقاته من غير عجلة ولا توان، ثم أخبر عن هذا التنزيل بقوله: {من الله} أي المتصف بجميع صفات الكمال {العزيز} فلا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {الحكيم *} الذي يضع الأشياء في محالها التي هي أوفق لها، فلكونه منه لا من غيره كان ذكراً للعالمين، صادقاً في كل ما يخبر به، حكيماً في جميع أموره.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما بنيت سورة ص على ذكر المشركين وعنادهم وسوء ارتكابهم واتخاذهم الأنداد والشركاء، ناسب ذلك ما افتتحت به سورة الزمر من الأمر بالإخلاص الذي هو نقيض(16/437)
حال من تقدم، وذكر ما عنه يكون وهو الكتاب، فقال تعالى {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين} {ألا لله الدين الخالص} وجاء قوله تعالى {والذين اتخذوا من دونه أولياء} - الآية في معرض أن لو قيل: عليك بالإخلاص ودع من أشرك ولم يخلص، فسترى حاله، وهل ينفعهم اعتذارهم بقولهم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وهؤلاء هم الذين بنيت سورة ص على ذكرهم، ثم وبخهم الله تعالى وقرعهم فقال {لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى} - الآية، فنزه نفسه عن عظيم مرتكبهم بقوله سبحانه {هو الله الواحد القهار} ثم ذكر بما فيه أعظم شاهد من خلق السماوات والأرض وتكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل وذكر آيتي النهار والليل ثم خلق الكل من البشر من نفس واحدة، وهي نفس آدم عليه السلام، ولما حرك تعالى إلى الاعتبار بعظيم هذه الآيات وكانت أوضح شيء وأدل شاهد، عقب ذلك بما يشير إلى معنى التعجب من توقفهم بعد وضوح الدلائل، ثم بين تعالى أنه غني من الكل بقوله {إن تكفروا فإن الله غني عنكم} ثم قال(16/438)
{ولا يرضة لعباده الكفر} فبين أن من اصطفاه وقربه واجتباه من العباد لا يرضى له بالكفر، وحصل من ذلك مفهوم الكلام أن الواقع من الكفر إنما وقع بإرادته ورضاه لمن ابتلاه به ثم أنس من آمن ولم يتبع سبيل الشيطان وقبيلته من المشار إليهم في السورة قبل فقال تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى}
{إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الأسراء: 7] {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} ثم تناسجت الآي والتحمت الجمل إلى خاتمة السورة - انتهى.
ولما أخبر أنه من عنده، علل ذلك بما ثبت به جميع ما مضى من الخير، فقال صارفاً القول عن الغيبة منبهاً على زيادة عظمته بذكر إنزاله ثانياً، مبرزاً له في أسلوب العظمة مختبراً أنه خص به أعظم خلقه، معبراً بالإنزال الظاهر في الكل تجوزاً عن الحكم الجازم الذي لا مرد له: {إنا} أي على ما لنا من العظمة {أنزلنا} أي بما لنا من العظمة، وقرن هذه العظمة بحرف الغاية المقتضي للواسطة إشارة إلى أن هذا كان في البداية بدلالة اتباعه بالأمر بالعبادة، بخلاف ما يأتي في هذه السورة فإنه للنهاية بصيرورته خلقاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان بحرف الاستعلاء أنسب دلالة على أن ثقله الموجب لتفطر القدم وسبب اللمم خاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قرب منه(16/439)
ويسره وسهولته لأمته فقال: {إليك} أي خاصة بواسطة الملك، لا يقدر أحد من الخلق أن يدعي مشاركتك في شيء من ذلك، فتكون دعواه موجبة لنوع من اللبس، وأظهر موضع الإضمار تفخيماً بالتنبيه على ما فيه من جمع الأصول والفروع واللطائف والمعارف {الكتاب} أي الجامع لكل خير مع البيان القاطع والحكم الجازم بالماضي والآتي، والكائن، متلبساً {بالحق} وهو مطابقة الواقع لجميع أخباره، فالواقع تابع لأخباره، لا يرى له خبر إلا طابقه مطابقة لاخفاء بشيء منها، لا حلية له ولا لباس إلا الحق، فلا دليل على كونه من عنده من ذلك، فليتبعوا خبره، ولينظروا عينه وأثره.
ولما ثبت بهذا أنه خصه سبحانه بشيء عجز عنه كل أحد، ثبت أنه سبحانه الإله وحده، فتسبب عن ذلك قوله لفتاً للقول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه بلحظ جميع صفات الكمال لأجل العبادة تعظيماً لقدرها لأنها المقصود بالذات: {فاعبد الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال حال كونك {مخلصاً} والإخلاص هو القصد إلى الله بالنية بلا علة {له} أي وحده {الدين *} بمعانقة الأمر على غاية الخضوع لأنه خصك بهذا الأمر العظيم فهو أهل منك لذلك وخسأ عنك الأعداء، فلا أحد منهم يقدر على الوصول إليك بما يوهن شيئاً من أمرك فأخلص لتكون رأس المخلصين الذين تقدم آخر سورة ص أنه لا سبيل للشيطان(16/440)
عليهم وتقدم ذكر كثير من رؤوسهم، ووقع الحث على الاقتداء بهم بما ذكر من أمداحهم لأجل صبرهم في إخلاصهم، قال الرازي: قال الجنيد: الإخلاص أصل كل عمل وهو مربوط بأول الأعمال، وهو تصفية النية ومنوط بأواخر الأعمال بأن لا يلتفت إليها ولا يتحدث بها ويضمر في جميع الأحوال، وهو إفراد الله بالعمل، وفي الخبر «أنا أغنى الشركاء عن الشرك» .
ولما أمره سبحانه بهذا الأمر، نادى باستحقاقه لذلك وأنه لم يطلب غير حقه، وأن ذلك لا يتصور أن يكون لغيره، فقال في جواب من كأنه قال: لم منعه من الالتفات إلى غيره؟ منادياً إشارة إلى أنه لا مكافئ له فلا يسع أحداً يبلغه هذا النداء إلا الخضوع طائعاً أو كارهاً: {ألا لله} أي الملك الأعلى وحده {الدين الخالص} لأنه له الأمر والخلق لا يشركه فيه أحد، فكما تفرد بأن خلقك وخلق كل ما لك من شيء فكذلك ينبغي أن تفرده بالطاعة، ولأنه إذا عبده أحد مخلصاً كفاه كل شيء، وأما غيره فلو أخلص له أحد لم يمكن أن يكفيه شيئاً من الأشياء فضلاً عن كل شيء والدين الذي هو أهل للإخلاص هو الإسلام الذي كان في كل ملة المنبني على القواعد(16/441)
الخمس المثبتة بالإخلاص المحض الناشئ من المراقبة في الأوامر والنواهي وجميع ما يرضي الشارع للدين أو يسخطه، فتكون جملته لله من غير شهوة ظاهرة أو باطنة في شهرة ولا غيرها، وإنما استحقه سبحانه دون غيره لأنه هو الذي شرعه ولا أمر لأحد معه فكيف يشركه من لا أمر له بوجه من الوجوه، وأما ما كان فيه أدنى شرك فهو رد على عامله والله غني حميد، وهذه كما ترى مناداة لعمري تخضع لها الأعناق فتنكس الرؤوس ولا يوجد لها جواب إلا بنعم وعزته وأي وكبريائه وعظمته، قال القشيري: وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد اللهم إلا أن يكون بأمره فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته فأطاعه لا يخرج عن الاحتساب باحتسابه أمره فيه، ولولا هذا لما صح أن يكون في العالم مخلص، قال ابن برجان: وذلك - أي ترك الإخلاص - كله مولد عن حب البقاء في الدنيا ونسيان لقاء الله تعالى، ثم قال ما معناه: إن ذلك من الشرك، وهو ثلاثة أنواع: شرك في الإلهية وهو أن يرى مع الله إلهاً آخر، وهو شرك المجوس والمجسمة: والوثنية، ويضاهيه غلط القدرية، الثاني شرك في العبادة بالرياء وإضافة العمل إلى النفس، والثالث الشرك الخفي وهو الشهوة الخفية، وهو أن يخفي العمل ويخاف من إظهار ويحب لو اطلع عليه ومدح بأسراره، ومن أحسن العون على الإخلاص الحياء من الله(16/442)
أن تتزين لغيره بعمل ألهمك إياه وقواك عليه وخلت فيه وزعمت تطلب التقرب إليه فأتاك عدوه إبليس الذي عاداه فيك فتطيعه فيما يضرك ولا ينفعك، فاستعن على عبادتك بالستر فاستر حسناتك كما تستر سيئاتك، فإن عمل السر يزيد على عمل العلانية سبعين ضعفاً، وذلك كالشجرة إذا ظهرت عروقها ضعف شربها، وأضر بها حرارة الهواء وبرده، وتعرضت للآفات من قطع ويبس وغير ذلك ولم تحسن فروعها وخف ورقها فقل نفعها، وإذا غاصت عروقها غابت عن الآفات وأمنت القطع من أيدي الناس، فكثر شربها فجرى ماؤها فيها، فتزايدت لذلك فروعها واخضر ورقها وكثر خيرها وطاب ثمرها لجانيها، فكذلك العمل إذا كانت له أصول في القلب مستورة زكا في نفسه وطهر من الأدناس وكثر خيره وطاب ثوابه لعامله، وإذا بدا لم يؤمن عليه من أبصار الناظرين، وإذا خفي لم يبق ما يخاف منه إلا العجب ومحبة أن يطلع عليه، وهي الشهوة الخفية، ومن قولهم «من عرف الله بعد الضلالة وعرف الإخلاص بعد الرياء وأنزل الموت حق منزلته لم يغفل عن الموت والاستعداد له بما أمكنه» انتهى.
ولما أخبر سبحانه عما له وحده، وكان محط أمر الإنسان بل جميع الحيوان على الهداية إلى مصالحه ليفعلها ومفاسدة ليتركها، وأرشد(16/443)
السياق إلى أن التقدير: فمن أخلص له الدين هداه في جميع أموره، وإن اشتد الإشكال، وتراكمت وجوه الضلال، عطف عليه الإخبار عمن لزم الضلال، والغي والمحال، فقال محذراً من مثل حاله، بما حكم عليه في مآله: {والذين} ولما كان الإنسان مفطوراً على الخضوع للملك الديان، ولا يلتفت إلى غيره إلا بمعالجة النفس بما لها من الهوى والطغيان، عبر بصيغة الافتعال فقال: {اتخذوا} أي عالجوا عقولهم حتى صرفوها عن الله فأخذوا، ونبههم على خطئهم في رضاهم بالأدنى على الأعلى بقوله: {من دونه} ومعلوم أن كل شيء دونه {أولياء} أي يكلون إليهم أمورهم، ويدخل فيهم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله مع اعترافهم بأن الله تفرد بخلقهم ورزقهم.
ولما كان من العجب العجيب فعلهم، هذا بين ما وجهوا به فعلهم ليكون آية بينة في أنه لا هدى لهم فقال: {ما} أي قائلين لمن أخلصوا له الدين إذا أنكروا عليهم أن يتخذوا من دونه ولياً: ما {نعبدهم} لشيء من الأشياء {إلا ليقربونا} ونبه سبحانه على بعدهم عن الصواب بالتعبير بالاسم الأعظم مع حرف الغاية فقال: {إلى الله} الذي له معاقد العز ومجامع العظمة، تقريباً عظيماً على وجه التدريج ويزلفونا إليه {زلفى} أي تقريباً حسناً سهلاً بهجاً زائداً نامياً متعالياً، قال القشيري: ولم يقولوا هذا من قبل الله ولا بإذنه، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم، فرد الله عليهم، وفي هذا إشارة إلى ما يفعله العبد(16/444)
من القرب بنشاط نفسه من غير أن يقتضيه حكم الوقت، فكل ذلك اتباع هوى - انتهى - والآية من الاحتباك: ذكر فعل التقريب أولاً دليلاً على فعل الزلف ثانياً، واسم الزلف ثانياً دليلاً على الاسم من التقريب أولاً، وسره أنهم أرادوا بهذا الاعتذار المسكت عن قبيح صنيعهم، فأتى سبحانه في حكايته عنهم بالتأكيد على أبلغ وجه لأن الدلالة على المعنى بلفظين أجدر في ثباته وتكثيره من لفظ واحد وبدأ بأرشق الفعلين وأشهرهما وأخفهما وأوضحهما، وقد خسر لعمري غاية الخسارة قوم تمذهبوا بأقبح المذاهب وجعلوا عذرهم هذه الآية التي ذم الله المعتذر بها، وعلى ذلك فقد راج اعتذارهم بها على كثير من العقول، وهم أهل الاتحاد الذين لا أسخف من عقولهم ولا أجمد من أذهانهم.
ولما كان إنما محط دينهم الهوى، وكان كل من تبع الهوى لا ينفك عن الاضطراب في نفسه، فكيف إذا كان معه غيره فكيف إذا كانوا كثيراً فيكثر الخلاف والنزاع وإن لم يحصل ذلك بالفعل كان بالقوة، ولذلك كلن لكل قبيلة ممن يعبد الأصنام صنم غير صنم الأخرى وكان بعض القبائل يعبد الشعرى، وبعضهم يعبد الملائكة وبعضهم غير ذلك(16/445)
{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53] نبه على ذلك مهدداً لهم بقوله مخبراً مؤكداًَ لأجل إنكارهم: {إن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال. ولما لم يقيد الحكم بالقيامة وكانوا معترفين بأن المصائب في الدنيا منه قال: {يحكم بينهم} من غير تأكيد آخر أي بين جميع المخالفين في الأديان وغيرها من المتخذين للأولياء من دونه ومن المخلصين وغيرهم فلا بد أن ينصر أهل الحق على جميع أهل الباطل.
ولما كانوا أوزاعاً أكثر قبائلهم على خلاف ما يعتقده غيرها، قال: {في ما} أي في الدين الذي والأمر الذي. ولما كان تحكيمهم للهوى موفراً لدواعيهم على الاختلاف، وكان الاتخاذ الذي يبنى الكلام عليه له نظر عظيم إلى علاج الباطن بخلاف سورة يونس اثبت الضمير هنا فقال: {هم} أي بضمائرهم {فيه يختلفون *} أي ليس لهم أصل يضبطهم، فهو لا يرجعون إلا إلى الخلف كيف ما تقلبوا لأنهم مظروفون لذلك العمل الذي مبناه الهوى هو منشأ الاختلاف، فكيف إذا انضم إلى ذلك خلاف المخلصين وإنكارهم عليهم الذي أرشد إليه اعتذارهم، فظهر من هذا أن اختلاف الأئمة في فهم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقواعد استنبطوها من ذلك لا يخرجون(16/446)
عنها ليس خلافاً بل وفاق لوحدة ما يرجعون إليه من الأصل الصحيح الثابت عن الله، ومن هذا إنكار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عمر وأبي وغيرهما رضي الله عنهم لما أنكر كل منهم على من خالفه في القراءة وقال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فلا تختلفوا» ، فلا فرق بين أن يستند كل من الأمرين إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقلاً أو اجتهاداً لأنه في قوة الاتفاق لوحدة مرجعه - والله الموفق، ويجوز أن يكون الضمير في «بينهم» لهم ولمعبوداتهم فإنهم ليس منهم معبود صامت ولا ناطق إلا وهو صارخ بلسان حاله إن لم ينطق لسان قاله بأنه مقهور مربوب عابد لا معبود، فهم مع من يعبدهم في غاية الخلاف.(16/447)
ولما كان من الأمر الواضح أن الدين لا يكون صالحاً إلا أن انتظم بنظام غير مختل، وكان الدين إذا كان معوجاً داعياً إلى التفرق منادياً على نفسه بالانخلاع عنه والبعد منه فكان الحال مقتضياً للتعجب ممن تدين به، فضلاً عمن يدوم عليه، فضلاً عمن لا ينتبه عند التنبيه، فضلاً عمن يقاتل دون ذلك، أجاب من كأنه قال: سبب عكوفهم على هذا الضلال الذي أوجب لهم قطعاً الاختلاف بالفعل أو بالقوة، فقال مؤكداً تكذيباً لمن ينكر ما تضمنه هذا الإخبار وإن(16/448)
ظهر لبعض العمى غير ذلك مما يبدو من الكذبة والكفرة من أعمال مزينة وأفكار دقيقة فتظن هدى وإنما هي استدراج. ولما أرشد السياق إلى أن المعنى: لأنهم غير مهتدين لأن الله لم يخلق الهداية في قلوبهم، نسق به قوله: {إن الله} أي الملك القادر القاهر الحكيم. ولما كان الأصل: لا يهديهم وأراد سبحانه التعميم وتعليق الحكم بالوصف تنفيراً عنه قال: {لا يهدي} أي لا يخلق الهداية في قلب {من هو} أي لضميره {كاذب} أي مرتكب الكذب عريق فيه حتى أداه كذبه إلى أن يقول على ملك الملوك أن شيئاً يقرب إليه بغير إذنه، ويخضع بالعبادة التي هي نهاية التعظيم، فهي لا تليق بغير من ينعم غاية الإنعام لمن لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولم يعبر في الكذب بصيغة مبالغة لأن الذين السياق لهم لم يقع منهم كذب إلا في ادعائهم أنهم يقربونهم.
ولما كان من كفر في حين من الدهر قد ضاعف كفره لكثرة ما على الوحدانية من الدلائل وما لله عليه من الإحسان، وكان هؤلاء الذين لهم السياق قد كفروا بتأهيلهم لشركائهم للعبادة ولعبادتهم بالفعل ولادعائهم فيهم التقريب قال {كفار} بصيغة المبالغة، والأحسن أن يقال: إن المبالغة لإفهام أن الذي لا يهديه إنما هو من ختم عليه سبحانه الموت على ذلك، قال القشيري: والإشارة إلى تهديد من يتعرض لغير مقامه ويدعي شيئاً ليس بصادق فيه فالله لا يهديه قط إلى ما فيه سداده ورشده، وعقوبته أن يحرمه ذلك الشيء الذي تصدى له بدعواه قبل تحققه بوجوده وذوقه.(16/449)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
ولما أخبر سبحانه بالحكم بينهم، فكان ذلك مع تضمنه التهديد وافياً بنفي الشريك، كافياً في ذلك لأن المحكوم فيه لا يجوز أن يكون قسيماً للحاكم، فلم يبق في شيء من ذلك شبهة إلا عند ادعاء الولدية، قال نافياً لها على سبيل الاستئناف جواباً لمن يقول: فما حال من يتولى الولد؟ - قال القشيري: والمحال يذكر على جهة الإبعاد أن لو كان كيف حكمه -: {لو أراد الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال {أن يتخذ} أي يتكلف كما هو دأبكم، ولا يسوغ في عقل أن الإله يكون متكلفاً {ولداً} أي كما زعم من زعم ذلك، ولما كان الولد لا يراد إلا أن يكون خياراً، وكان الله قادراً على كل شيء، عدل عن أن يقول {لاتخذ} إلى قوله: {لاصطفى} أي اختار على سبيل التبني {مما يخلق} أي يبدعه في أسرع من الطرف، وعبر بالأداة التي أكثر استعمالها فيما لا يعقل إشارة إلى أنه قادر على جعل أقل الأشياء(16/449)
أجلّها على سبيل التكرار والاستمرار - كما أشار إليه التعبير بالمضارع فقال: {ما يشاء} أي مما يقوم مقام الولد فإنه لا يحتاج إلى التطوير في إتيان الولد إلا من لا يقدر على الإبداع بغير ذلك.
ولما كان لا يرضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء، لكنه لم يرد ذلك فلم يكن، فهذا أقصى ما يمكن أن يجوز خلقاً شريفاً ويسميه ولداً إشارة إلى شدة إكرامه له وتشريفه إياه، أو يقربه غاية التقريب كما فعل بالملائكة وعيسى عليهم السلام، فكان ذلك سبباً لغلطكم فيهم حتى دعيتم أنهم أولاد ثم زعمتم أنهم بنات، فكنتم كاذبين من جهتين، هذا غاية الإمكان، وأما أنه يجوز عليه التوليد فلا، بل هو مما يحيله العقل، لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج، والإله لا يتصور في عقل أن يكون محتاجاً أصلاً، قال ابن برجان ما معناه: كان معهود الولادة على وجهين، فولد منسوب إلى والده بنوة وولادة ورحماً، فهذا ليس له في الوجود العلي وجود، ولا في الإمكان تمكن، ولا في الفعل مساغ بوجه من الوجوه، وولد بمعنى التبني والاتخاذ، وقد كانت العرب وغيرها من الأمم يفعلونه حتى نسخة القرآن، فلا يبعد أن تكون هذه العبارة كانت جائزة في الكتب قبلنا، فلما أعضل(16/450)
بهم الداء وألحدوا في ذلك عن سواء القصد الذي هو الاصطفاء إلى بنوة الولادة أضلهم الله وأعمى أبصارهم وسد السبيل عن العبادة عن ذلك، وكشف معنى الاصطفاء، وأظهر معنى الولاية، ونسخ ذلك بهذا، لأن هذا لا يداخله لبس، وذلك كله لبيان كمال هذه الأمة وعلوها في كل أمر.
ولما كانت نسبة الولد إليه كنسبة الشريك أو أشنع، وانتفى الأمران بما تقدم من الدليل بالحكم باعترافهم بأن حكمه سبحانه نافذ في كل شيء لشهادة الوجود، ولقيام الأدلة على عدم الحاجة إلى شيء أصلاً فضلاً عن الولد، نزه نفسه بما يليق بجلاله من التنزيه في هذا المقام، فقال: {سبحانه} أي له التنزيه التام عن كل نقيصة، ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي لتفرده فقال: {هو} أي الفاعل لهذا الفعال، والقائل لهذه الأقوال، ظاهراً وباطناً {الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال، ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال: {الواحد} أي الذي لا ينقسم أصلاً، ولا يكون له مثل فلا يكون له صاحبة ولا ولد، لأنه لو كان شيء من ذلك لما كان لا مجانساً ولا جنس له ولا شبه بوجه من الوجوه {القهار *} أي الذي له هذه الصفة، فكل شيء تحت قهره آلهتهم وغيرها على سبيل التكرار والاستمرار،(16/451)
فصح من غير شك أنه لا يحتاج إلى شيء أصلاً، وجُعل ما لا حاجة إليه ولا داعي يبعث عليه عبث ينزه عنه العاقل فكيف من له الكمال كله.
ولما أثبت هذه الصفات التي نفت أن يكون له شريك أو ولد، وأثبتت له الكمال المطلق، دل عليها بقوله: {خلق السماوات والأرض} أي أبدعهما من العدم {بالحق} أي خلقاً متلبساً بالأمر الثابت الذي ليس بخيال ولا سحر، على وجه لا نقص فيه بوجه، ولا تفاوت ولا خلل يقول أحد فيه أنه مناف للحكمة ولما كان من أدل الأشياء على صفتي الوحدانية والقهر، وتمام القدرة وكمال الأمر، بعد إيجاد الخافقين اختلاف الملوين، وكان التكوير - وهو إدارة الشيء على الشيء بسرعة وإحاطته به بحيث يعلو عليه ويغلبه ويغطيه - أدل على صفة القهر من الإيلاج، قال مبيناً لوقت إيجاد الملوين: {يكور} أي خلقهما أي صورهما في حال كونه يلف ويلوي ويدير فيغطي مع السرعة والعلو والغلة تكويراً كثيراً متجدداً مستمراً إلى أجله {الّيل على النهار} بأن يستره به فلا يدع له أثراً، ولعظمة هذا الصنع أعاد العامل فقال: {ويكور النهار} عالياً تكويره وتغطيته {على الّيل} فيذهبه كذلك(16/452)
ويدخل في هذا الزيادة في كل منهما بما ينقص من الآخر لأنه إذا ذهب أحدهما وأتى الآخر مكانه، فكأن الآتي لف على الذاهب وألبسه كما يلف اللباس على اللابس، أو أنه شبه الذاهب في خفائه بالآتي بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامع الأبصار، أو أن كلاًّ منهما لما كان يكر على الآخر كروراً متتابعاً شبه ذلك بتتابع أكوار بعضها على بعض، فتغيب ما تحتها.
ولما كانت الظلمة سابقة على الضياء، وكان الليل إنما هو ظلمة يسبقها ضياء بطلوع الشمس، رتب سبحانه هذا الترتيب على حسب الإيجاد، ولذلك قدم آية النهار فقال معبراً بالماضي بخلقه الآيتين مسخرتين على منهاج معلوم لكل منها لا يتعداه، وحد محدود لا يتخطاه {وسخر} أي ذلل وأكره وقهر وكلف لما يريد من غير نفع للمسخر {الشمس} أي التي محت ما كان من الظلام فأوجبت اسم النهار {والقمر} أي آية الليل.
ولما أخبر بقهرهما، بين ما صرفهما فيه، فقال بياناً لهذا(16/453)
التسخير: {كل} أي منهما {يجري} أي بقضائنا الذي لا مرد له، وهذا آية لاختلاف أحوال العبد لأن خلقه جامع، فيختلف في القبض والبسط والجمع والفرق والأخذ والرد والصحو والسكر، وفي نجوم العقل، وأقمار العلم، وشموس المعرفة، ونهار التوحيد، وليل الشك والجحد، ونهار الوصل وليالي الهجر والفراق، وكيفية اختلافها وزيادتها ونقصانها - قاله القشيري.
ولما كان مقصود السورة العزة التي محطها الغلبة، وكان السياق للقهر، وكان القضاء لعلة لا يتخلف عنها المعلول أدل على القهر من ذكر الغاية مجردة عن العلة قال: {لأجل مسمى} أي لمنتهى الدور ومنقطع الحركة. ولما ثبت بهذا قهره، قال منادياً رشقاً في قلوب المنكرين: {ألا هو} أي وحده {العزيز} ولما كان ربما قال متعنت: فما له لا يأخذ من يخالفه؟ وكانت صفة القهر والعزة ربما أقنطت العصاة فأخرتهم عن الإقبال، قال مبيناً لسبب التأخير ومستعطفاً: {الغفار *} أي الذي له صفة الستر على الذنوب متكررة فيمحو ذنوب من يشاء عيناً، وأثراً بمغفرته ويأخذ من يشاء بعزته.
ولما كان خلق الحيوان أدل على الوحدانية والقهر بما خالف به الجمادات من الحياة التي لا يقدر على الانفكاك عنها قبل أجله،(16/454)
وبما له من أمور اضطرارية لا محيص له عنها، وأمور اختيارية موكولة في الظاهر إلى مشيئته، وكان أعجبه خلقاً الإنسان بما له من قوة النطق، قال دالاً على ما دل عليه بخلق الخافقين لافتاً القول إلى خطاب النوع كله إيذاناً بتأهلهم للخطاب، وترقيهم في عُلا الأسباب، من غير عطف إيذاناً بأن كلاًّ من خلقهم وخلق ما قبلهم مستقل بالدلالة على ما سيق له: {خلقكم} أي أيها الناس المدعون لإلهية غيره {من نفس واحدة} هي آدم عليه السلام.
ولما كان إيجادنا منها بعد شق الأنثى منها، قال عاطفاً على ما تقديره: أوجدها من تراب، مبيناً بلفظ الجعل أن الذكر هو سببها ومادتها منبهاً بأداة التراخي على القهر الذي السياق له بالتراخي في الزمان بتأخير المسبب عن سببه المقتضي له إلى حين مشيئته لأن إيجادها منه كان بعد مدة من إيجاده، والأصل في الأسباب ترتب المسببات عليها من غير مهلة وعلى التراخي في الرتبة أيضاً بأن ذلك - لكونه شديد المباينة لأصله - من أعجب العجب: {ثم} أي بعد حين، وعبر بالجعل لأنه كافٍ في نفي الشركة التي هذا أسلوبها وليبين أنه ما خلق آدم عليه السلام إلا ليكون سبباً لما يحدث عنه من الذرية ليترتب على ذلك إظهار ما له(16/455)
سبحانه من صفات الكمال فقال: {جعل منها} أي تلك النفس {زوجها} أي ونقلكم بعد خلقكم منه إليها ثم أبرزكم إلى الوجود الخارجي منها، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون المعنى لأن السياق لإحاطة العلم المدلول عليه بإنزال الكتاب وما تبعه: قدر خلقكم على ما أنتم عليه من العدد والألوان وجميع الهيئات حين خلق آدم بأن هيأه لأن تفيضوا منه، فلا تزيدون على ما قدره شيئاً ولا تنقصون وأن تفيض منه زوجه، وذلك قبل خلق حواء منه، ثم أوجدها فكان الفيض منها فيضاً منه فالكل منه، ولهذا ورد الحديث في مسند أحمد بن منيع عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«خلق الله آدم يوم خلقه وضرب على كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في يساره: إلى النار ولا أبالي» .
ولما كان تنويع الحيوان إلى أنواع متباينة أدل على القدرة التي هي منشأ القهر، وكان سبحانه موصوفاً بالعلو، وكان أكثر الأنعام أشد من الإنسان، فكان تسخيره له وتذليله إنزالاً عن قوته(16/456)
وإيهاناً لشدته، قال دالاً على ذلك الإنشاء والجعل بلفظ الإنزال: {وأنزل لكم} أي خاصة {من الأنعام} أي الإبل بنوعيها، والبقر كذلك، والضأن والمعز. ولما لم يكن عند العرب البخاتي والجواميس لم يذكرها سبحانه، واقتصر على ما عندهم، وقال: {ثمانية أزواج} أي من كل نوع زوجين ذكراً وأنثى، والزوج اسم لواحد معه آخر لا يكمل نفعه إلا به، وإذا نظرت هذه العبارة مع العبارة عن خلق الإنسان فهمت أن الأنعام خلق كل ذكرها وأنثاها على انفراده، لا أن أحداً منها من صاحبه، وذلك أدل على إطلاق التصرف وتنويعه مما لو جعل خلقها مثل خلق الآدمي.
ولما كان تكوينهم في تطويرهم عجباً قال مستأنفاً بياناً لما أجمل قبل: {يخلقكم} أي يقدر إيجادكم أنتم والأنعام على ما أنتم عليه من أخلاط العناصر {في بطون أمهاتكم} ولما كان تطوير الخلق داخل البطن حيث لا تصل إليه يد مخلوق ولا بصره، قال دالاً على عظمته ودلالته على تمام القدرة والقهر: {خلقاً} ودل على تكوينه شيئاً بعد شيء بإثبات الحرف فقال: {من بعد خلق} أي في تنقلات الأطوار وتقلبات الأدوار. ولما كان الحيوان لا يعرف ما هو إلا(16/457)
في التطوير الرابع، وكان الجهل ظلمة قال: {في ظلمات ثلاث} ظلمة النطفة ثم العلقة ثم المضغة، فإذا صار عظاماً مكسوة لحماً عرف هل هو ذكر أو أنثى فزالت عنه ظلمات الجهل، وصار خلقاً آخر، وقيل؛ ظلمة البطن والرحم والمشيمة - نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وعزاه ابن أبي الدنيا في كتاب القناعة إلى عيسى ابن مريم عليه السلام.
ولما ثبت له سبحانه كمال العظمة والقهر، قال مستأنفاً ما أنتجه الكلام السابق معظماً باداة البعد رميم الجمع: {ذلكم} أي العالي المراتب شهادتكم أيها الخلق كلكم، بعضكم بلسان قاله، وبعضكم بناطق حاله، الذي جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا أفعاله، ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد، أخبر عن اسم الإشارة فقال: {الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال، ونبه على جهلهم مما يعلمون من ربوبيته لعملهم بالشرك عمل جاهل بذلك فقال واصفاً: {ربكم} أي المالك والمربي لكم بالخلق والرزق. ولما كان المربي قد لا يكون ملكاً قال نتيجة لما سبق: {له} أي وحده {الملك} ولما كان المختص بالملك قد لا يكون إلهاً، قال مثبتاً له الإلهية على ما يقتضيه من الوحدانية وهو(16/458)
بمنزلة نتيجة النتيجة: {لا إله إلا هو} .
ولما تكفل هذا السياق بوجوب الإخلاص في الإقبال عليه والإعراض عما سواه، لأن الكل تحت قهره، وشمول نهيه وأمره، سبب عنه قوله: {فأنى} أي فكيف ومن أي وجه {تصرفون *} أي قهراً عن الإخلاص له إلى الإشراك به بصارف ما وإن كان عظيماً، ونبه بالبناء للمفعول مع هذا على أنهم مقهورون في فعل ما هم عليه لأنهم تابعون للهلاك المحض، تاركون للأدلة التي لا خفاء في شيء منها، ومعلوم أنه لا يترك أحد الدليل في الفيافي العطشة الذي إن تركه هلك إلا قهراً؛ وأن الناس هيئوا لطريق الهدى بما خلقوا عليه من أحسن تقويم بسلامة الفطر واستقامة العقول، وأشار إلى هذا لأنهم يأنفون من النسبة إلى القهر وأن يفعلوا شيئاً بغير اختيار لما عندهم من الأنفة وعلو الهمم والعظمة.(16/459)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
ولما ظهرت الأدلة وبهرت الحجج، بين ما على من غطاها بالإصرار، وما لمن تاب ورجع التذكار، فقال مستأنفاً لما هو نتيجة ما مضى، معرفاً لهم نعمته عليهم بأنه ما تعبد لشيء يخصه من نفع أو ضر، وإنما هو لمصالحهم خاصة بادئاً بما هو من درء المفاسد: {إن تكفروا}(16/459)
أي تستروا الأدلة فتصروا على الانصراف عنه بالإشراك {فإن الله} لأنه جامع لصفات الكمال {غني عنكم} أي فلا يضره كفركم ولا تنفعه طاعتكم، وأما أنتم فلا غنى لكم عنه بوجه، ولا بد أن يحكم بينكم فلم تضروا إلا أنفسكم {ولا يرضى} لكم - هكذا كان الأصل بدليل ما سبقه ولحقه، وإنما أظهر ليعم وليذكرهم بما يجدونه في أنفسهم من أن أحداً منهم لا يرضى لعبده أن يؤدي خرجه إلى غيره بغير إذنه فقال: {لعباده} أي الذين تفرد بإيجادهم وتربيتهم {الكفر} بالإقبال على سواه وأنتم لا ترضون ذلك لعبيدكم مع أن ملككم لهم في غاية الضعف، ومعنى عدم الرضى أنه لا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه أو يثيب فاعله ويمدحه، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ويذم عليه ويعاقب مرتكبه {وإن تشكروا} أي بالعبادة والإخلاص فيها {يرضه} أي الشكر الدال عليه فعله {لكم} أي الرضى اللائق بجنابه سبحانه بأن يقركم عليه أو يأمركم به ويثيبكم على فعله، والقسمان بإرادته، واختلاف القراء في هائه دال على مراتب الشكر - والله أعلم، فالوصل للواصلين إلى النهاية على اختلاف مراتبهم في(16/460)
الوصول والاختلاس للمتوسطين والإسكان لمن في الدرجة الأولى منه.
ولما كان في سياق الحكم والقهر، وكانت عادة القهارين أن يكلفوا بعض الناس ببعض ويأخذوهم بجوائرهم لينتظم لهم العلو على الكل لعدم إحاطة علمهم بكل مخالف لأمرهم، بين أنه سبحانه على غير ذلك فقال: {ولا تزر وازرة} أي وازرة كانت {وزر أخرى} بل وزر كل نفس عليها لا يتعداها يحفظ عليها مدة كونها في دار العمل، والإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وزر غيره، وإنما هو وزر نفسه، فوزر الفاعل على الفعل، ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي {ثم إلى ربكم} أي وحده لا إلى أحد ممن أشركتموه به {مرجعكم} أي بالبعث بعد الموت إلى دار الجزاء. ولما كان الجزاء تابعاً للعلم، قال معبراً عنه به: {فينبئكم} أي فيتسبب عن البعث أنه يخبركم إخباراً عظيماً {بما كنتم تعملون} أي بما كان في طبعكم العمل به سواء عملتموه بالفعل أم لا ثم يجازيكم عليه إن شاء.
ولما كان المراد - كما أشار إليه بكان - الإخبار بجميع الأعمال الكائنة بالفعل أو القوة، حسن التعليل بقوله: {إنه عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور *} أي بصاحبتها من الخواطر والعزوم، وذلك بما دلت عليه الصحبة - كل ما لم يبرز إلى الخارج، فهو بما برز أعلم.(16/461)
ولما ذكر سبحانه أنه المختص بالملك وحده، وأتبعه بما يرضيه وما يسخطه، أقام الدليل على ذلك الاختصاص مع أنه أوضح من الشمس بدليل وجداني لكل أحد على وجه ذمهم فيه بالتناقض الذي هم أعظم البأس ذماً له ونفرة منه وذماً به فقال: {وإذا} وهي - والله أعلم - حالية من واو {تصرفون} وكان الأصل: مسكم، ولكنه عمم ودل بلفت القول عن الخطاب على الوصف الموجب للنسيان فقال: {مس الإنسان} أي هذا النوع الآنس بنفسه مؤمنه وكافره {ضر} أي ضر كان من جهة يتوقعها - بما أشار إليه الظرف بمطابقة المقصود السورة مع تهديد آخر التي قبلها {دعا ربه} أي الحسن إليه الذي تقدم تنبيهكم من غفلتكم عليه بقوله «ذلكم الله ربكم» ذاكراً صفة إحسانه {منيباً} أي راجعاً رجوعاً عظيماً {إليه} بباطنه مخلصاً في ذلك عالماً أنه لا يكفيه أمره غيره ضرورة يجدها في نفسه لأن الضر أزال عنه الأموية والحظوظ، معرضاً عما كان يزعم من الشركاء معرفاً لسان حاله أنه لا شريك له سبحانه كما هو الحق فتطابق في حال الضراء الحق والاعتقاد.
ولما كان الإنسان لما جبل عليه من الجزع واليأس إذا كان في(16/462)
ضر استبعد كل البعد أن يكشف عنه، لتقيده بالجزئيات وقصوره على التعلق بالأسباب، أشار إلى ذلك مع الإشارة إلى الوعد بتحقيق الفرج فقال: {ثم} أي بعد استبعاده جداً. ولما كان الرخاء محققاً، وهو أكثر من الشدة، عبر بأداة التحقق، فقال منبهاً بالتعبير ب «خول» على أن غطاءه ابتداء فضل منه لا يستحق أحد عليه شيئاً لأن التخويل لا يكون جزاء بل ابتداء: {إذا خوله} أي أعطاه عطاء متمكناً ابتداء، وجعله حسن القيام عليه قادراً على إجادة تعهده {نعمة منه} ومكنه فيها {نسي} أي مع دعائه أن يشكر على الإحسان، فكانت مدة تخويله ظرف نسيانه، فعلم أن صلاحه بالضراء {ما} أي الأمر الذي {كان يدعوا} ربه على وجه الإخلاص {إليه} إلى كشفه من ذلك الضر الذي كان، وأعلم بتقارب وقتي النسيان والإنابة بإثبات الجار فقال: {من قبل} أي قبل حال التخويل {وجعل} زيادة على الكفران بنسيان الإحسان {لله} أي الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والعقل والسمع {أنداداً} أي لكونه يتأهلهم، فينزلهم بذلك منزلة من يكون قادراً على المعارضة والمعاندة، فقد علم من التعبير بالنسيان أنه عالم بربه، ولذلك دعاه في كشف ضره وأنه جعل علمه عند الإحسان إليه جهلاً، فكان كمن لا يعلم من سائر الحيوانات العجم.(16/463)
ولما كان ذلك في غاية الضلال، لكونه - مع أنه خطأ - موجباً لقطع الإحسان وعدم الإجابة في كشف الضر مرة أخرى وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس، وكان هذا الضلال في غاية الظهور، وكان العاقل لا يفعل شيئاً إلا لعلة، عظمهم تهكماً بهم عن أن يكونوا ضلوا هذا الضلال الظاهر من غير قصد إليه، فقال مشيراً إلى ذلك كله: {ليضل} أي بنفسه عند فتح الياء، ويضل غيره عند من ضمها {عن سبليه} أي الطريق الموصل إلى رضوانه، الموجب للفوز بإحسانه.
ولما كان من المعلوم المحقق المقطوع به المركوز في الفطر الأولى المستمر فيما بعدها أن الملك لا يدع من يعصيه بغير عقاب، وكان قد ثبت بقضية الإجماع وقت الاضطرار أنه لا يلتفت إلى أحد سوى الله وكان من التفت - بعد أن أنجاه الله من ضرره وأسبغ عليه من نعمه - كافراً من غير شك عند ذي عقل، وكان من كان بهذه المثابة في هذه الدار هم أهل النعم الكبار، والتمتع الصافي عن الأكدار، كان من المعلوم أنه لا بد من عقوبته في دار القرار، فقال تعالى مبيناً(16/464)
لأن هذا التمتع إنما هو سبب هذا الكفران استدراجاً مع الإعراض المؤذن بالغضب {قل} أي يا أحب خلقنا إلينا المستحق للإقبال عليه بالخطاب، لهذا الذي قد حكم بكفره مهدداً له بما يقوته بلذيذ عيشه في الدنيا من الفيض من الجناب الأقدس ويؤول إليه أمره من العذاب الأكبر: {تمتع} أي في هذه الدنيا التي هي وكل ما فيها - مع كونه زائلاً - يفيض إلى الله، فهو من جملة المقت إلا لمن صرفه في طاعة الله.
ولما ذكر تمتيعه بالخسيس، ذكر سببه الخسيس تعظيماً لأجور المؤمنين لانصرافهم عن الكفر مع علمهم بأنه من أسباب التمنيع وبياناً لذوي الهمم العوال من غيرهم فقال: {بكفرك} ثم أشار إلى قلة زمن الدنيا وما فيها في جنب الآخرة فقال: {قليلاً} ثم علل ذلك بما إذا غمس في عذابه أنعم أهل الدنيا غمسة واحدة قال: ما رأيت نعيماً قط، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم بالنار، ودفعاً لما استقر في نفوسهم أن تنعيمهم في الدنيا إنما هو لقربهم من الله ومحبته لهم، وأن ذلك يتصل بنعيم الآخرة على تقدير كونها: {إنك} وهذا الأمر هنا يراد به الزجر، تقديره: إن تمتعت هكذا كنت {من أصحاب النار *} أي الذين لم يخلفوا إلا لها {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس(16/465)
لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179] .
ولما أرشدت «أم» قطعاً في قراءة من شدد إدغاماً لإحدى الميمين في الأخرى أن التقدير شرحاً لأحوال المؤمنين بعد أحوال المشركين: أهذا - الذي يدعو الله مرة، وغيره ممن يجعله له نداً أخرى - أسد طريقة وأقوم قيلاً: {أمّن هو} والتقدير في قراءة نافع وابن كثير وحمزة بالتخفيف: أمن هو بهذه الصفة خير أم ذلك الكافر الناسي لمن أحسن إليه، ويرجح التقدير بالاستفهام دون النداء إنكار التسوية بين العالم الذي حداه علمه على القنوت والذي لا يعلم حقيقة أو مجازاً لعدم الانتفاع بعلمه {قانت} أي مخلص في عبادته الله تعالى دائماً {آناء الّيل} أي جميع ساعاته.
ولما كان المقام للإخلاص، وكان الإخلاص أقرب مقرب إلى الله لأنه التجرد عن جميع الأغيار، وكان السجود أليق الأشياء بهذا الحال، ولذلك كان أقرب مقرب للعبد من ربه، لأنه خاص بالله تعالى، قال: {ساجداً} أي وراكعاً ودل على تمكنه من الوصفين بالعطف فقال: {وقائماً} أي وقاعداً، وعبر بالاسم تنبيهاً على دوام إخلاصه في حال سجوده وقيامه، والآية من الاحتباك: ذكر السجود دليلاً على الركوع والقيام دليلاً على القعود، والسر في ذكر ما ذكر وترك ما ترك أن(16/466)
السجود يدل على العبادة، وقرن القيام به دال على أنه قيام منه فهو عبادة، وذلك مع الإيذان بأنهما أعظم الأركان، فهو ندب إلى تطويلهما على الركنين الآخرين لأن القعود إنما هو للرفق بالاستراحة والركوع إنما أريد به إخلاص الأركان للعبادة، لأنه لا يمكن عادة أن يكون لغيرها، وأما السجود فيطرقه احتمال السقوط والقيام والقعود مما جرت به العوائد، فلما ضم إليهما الركوع تمحضاً للخضوع بين يدي الملك العليم العزيز الرحيم.
ولما كان الإنسان محل الفتور والغفلة والنسيان، وكان ذلك في محل الغفران، وكان لا يمكن صلاحه إلا بالخوف من الملك الديان، قال معللاً أو مستأنفاً جواباً لمن كأنه يقول: ما له يتعب نفسه هذا التعب ويكدها هذا الكد: {يحذر الآخرة} أي عذاب الله فيها، فهو دائم التجدد لذلك كلما غفل عنه. ولما ذكر الخوف، أتبعه قرينه الذي لا يصح بدونه فقال: {ويرجوا رحمة ربه} أي الذي لم يزل ينقلب في إنعامه.
ولما كان الحامل على الخوف والرجاء والعمل إنما هو العلم النافع، وكان العلم الذي لا ينفع كالجهل أو الجهل خير، كان جواب ما تقدم من الاستفهام: لا يستويان، لأن المخلص عالم والمشرك جاهل. فأمره بالجواب بقوله: {قل} أي لا يستويان، لأن الحامل على الإخلاص العلم وعلى الإشراك الجهل وقلة العقل، ثم أنكر على من يشك في ذلك فقل(16/467)
له: {هل يستوي} أي في الرتبة {الذين يعلمون} أي فيعملون على مقتضى العلم، فأداهم علمهم إلى التوحيد والإخلاص في الدين {والذين لا يعلمون} فليست أعمالهم على مقتضى العلم إما لجهل وإما لإعراض عن مقتضى العلم فصاروا لا علم لهم لأنه لا انتفاع لهم به لأنهم لو تأملوا أدنى تأمل مع تجريد الأنفس من الهوى لرجعوا إليه من أنه لا يرضى أحد أصلاً لعبده أن يخالف أمره، وإلى أنه لا يطلق العلم إلا على العامل أرشد قول ابن هشام في السيرة
{ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} [آل عمران: 188] أن يقول الناس: علماء، وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى ولا حق.
ولما كان مدار السداد التذكر. وكان مدار التذكر الذي به الصلاح والفساد هو القلب لأنه مركز العقل الذي هو آلة العلم، وكان القلب الذي لا يحمل على الصلاح عدماً، بل العدم خير منه، قال: {إنما يتذكر} أي تذكراً عظيماً بما أفهمه إظهار التاء فيعلم أن المحسن لا يرضى بالإحسان إلى من يأكل خيره ويعبد غيره {أولوا الألباب *} أي العقول الصافية والقلوب النيرة وهم الموصوفون آخر آل عمران بقوله تعالى: {الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} [آل عمران: 191] إلى(16/468)
آخرها، وما أحسن التعبير هنا باللب الذي هو خلاصة الشيء لأن السياق للإخلاص، قال الرازي في اللوامع: قال الإمام محمد بن علي الترمذي: خلق الله تعالى الأشياء مسخرة للآدمي، وخلق الآدمي للخدمة، ووضع فيه أنواره ليخرج الخدمة لله تعالى من باطنه بالحاجة، فالآدمي مندوب إلى العلم بالله تعالى وبأوامره حسب ما خلق له، والخدمة والقنوت بقلبك بين يديه ماثلاً منتصباً محقاً مبادراً مسارعاً سائقاً مركبك في جميع أمورك بالحب له، وعلم الخدمة علم البساطين: بساط القدرة وبساط العبودة فإذا طالعت بساط القدرة بعقل وافر وهو أن تعرف نفسك وتركيبك من روحاني وجسماني، وطالعت بساط العبودة بكياسة تامة أدركت تدبيره في العبودة وباطن أمره ونهيه وعلل التحريم والتحليل، وبسط الله بساط الربوبية من باب القدرة، وبسط بساط العبودة من باب العظمة، ثم كان آخر خلقه سبحانه هذا الإنسان الذي بسط له هذين البساطين، وجمع فيه العالمين، وزاد على ما فيهما من قبول الأمر اختياراً وطوعاً، وكل شيء أعطاك إنما أعطاك لتبرزه إلى جوارحك، وتستعمله فيما خلق له، فلو لم يعطك منك لم يطلب منك، فلا تطلب الزكاة ممن لا مال له، ولا الصلاة قياماً ممن لا رجل له.(16/469)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)
ولما ثبت أن القانت خير، وكان المخالف له كثيراً، وكان أعظم(16/469)
حامل له على القنوت التقوى، وكانت كثرة المخالف أعظم مزلزل، وكان الإنسان - لما له من النقصان - أحوج شيء إلى التثبيت، وكان التثبيت من المجانس، والتأنيس من المشاكل أسكن للقلب وأشرح للصدر، أمر أكمل الخلق وأحسنهم ملاطفة بتثبيتهم فقال: {قل} ولما كان الثبات لا يرسخ مع كثرة المخالف، وتوالي الزلزال والمتالف، إلا إذ كان عن الملك، جعل ذلك عنه سبحانه ليجتمع عليه الخالق والأقرب إليه من الخلائق، فقال: {يا عباد} دون أن يقول: يا عباد الله، مثلاً تذكيراً لهم تسكيناً لقلوبهم بما علم من أن التقدير. قال الله، وتشريفاً لهم بالإضافة إليه بالضمير الدال على اللطف وشدة الخصوصية، وإعلاماً لهم بأنه حاضر لا يغيب عنهم بوجه: {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى حالاتها.
ولما كان الإحسان ربما جراً على المحسن، أشار سبحانه إلى سداد قول العارفين «اجلس على البساط وإياك والانبساط» ونبه بلفت القول عن مظهر التكلم إلى الوصف بما يدل على أن العاقل من(16/470)
أوجب له الإحسان إجلالاً وإكباراً، وأثمر له العطف والتقريب ذلاًّ في نفسه وصغاراً، وخوفاً وانكساراً، مما أقله قطع الإحسان فقال: {اتقوا ربكم} أي اجعلوا بينكم وبين غضب المحسن إليكم وقاية بأن تترقوا في درجات طاعته مخلصين له كما خلقكم لكم لا لغرض له ليرسخ إيمانكم ويقوي إحسانكم، وهذا أدل دليل على أن الإيمان يكون مع عدم التقوى.
ولما أرشدهم بالاسم الناظر إلى الإحسان إلى أن يقولوا: فما لنا إن فعلنا؟ قال مجيباً معللاً: {للذين أحسنوا} أي لكم، ولكنه أظهر الوصف الدال على سبب جزائهم تشويقاً إلى الازدياد منه، ولما كان العمل لا ينفع إلا في دار التكليف قال: {في هذه} باسم الإشارة زيادة في التعيين {الدنيا} أي الدنية الوضرة التي لا تطهر الحياة فيها إلا بالتقديس بعبادة الخالق والتخلق بأوصافه {حسنة} أي عظيمة في الدنيا بالنصر والمعونة مع كثرة المخالف وفي الآخرة بالثواب، ويجوز أن يكون معنى {أحسنوا} أوقعوا الإحسان، ومعلوم أنه في هذه الدنيا، فيكون ما بعده مبتدأ وخبراً، لكنه يصير خاصاً بثواب الدنيا، فالأول حسن.
ولما كان ربما عرض للإنسان في أرض من يمنعه الإحسان، ويحمله على العصيان، حث سبحانه على الهجرة إلى حيث يزول عنه(16/471)
ذلك المانع، تنبيهاً على أن مثل هذا ليس عذراً في التقصير كما قيل:
وإذا نبا بك منزل فتحول ... فقال: {وأرض الله} أي الذي له الملك كله والعظمة الشاملة {واسعة} ووجوده بعلمه وقدرته في كل أرض على حد سواء، فالمتقيد بمكان منها ضعيف العزم واهن اليقين، فلا عذر للمفرط في الإحسان بعدم الهجرة.
ولما كان الصبر على هجرة الوطن ولا سيما إن كان ثّم أهل وعشيرة شديداً جداً، ذكر ما للصابر على ذلك لمن تشوف إلى السؤال عنه فقال: {إنما يوفى} أي التوفية العظمية {الصابرون} أي على ما تكرهه النفوس في مخالفة الهوى واتباع أوامر الملك الأعلى من الهجرة وغيرها {أجرهم بغير حساب *} أي على وجه من الكثرة لا يمكن في العادة حسبانه، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل، وكل عمل يمكن عده وحصره إلا الصبر فإنه دائم مع الأنفاس، وهو معنى من المعاني الباطنة لا يطلع خلق على مقداره في قوته وضعفه وشدته ولينه لأنه مع خفائه يتفاوت مقداره، وتتعاظم آثاره، بحسب الهمم في علوها وسفولها، وسموها ونزولها، ويجوز أن يكون المعنى أن من كمل صبره بما أشارت إليه لام الكمال - لم يكن عليه حساب، لما رواه البزار وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة(16/472)
بها لمم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي، قال: «إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت ولا حساب عليك» ، قالت: بل أصبر ولا حساب علي.
ولما كانت الأعين ناظرة إلى الأمر هل يفعل ما يأمر به ومقيده بالرئيس لتأتسي به، وكان أعظم الصابرين من جاهد نفسه حتى خلص أعمالها من الشوائب وحماها من الحظوظ والعوائق، وصانها من الفتور والشواغل، أمره بما يرغبهم في المجاهدة، ويكشف لهم عن حلاوة الصبر، بقوله: {قل} ولما كان الرئيس لقربه من الملك بحيث يظن أنه يسامحه في كثير مما يكلف به غيره أكد قوله: {إني أمرت} وبني الفعل لما لم يسم فاعله تعظيماً للأمر بأنه قطع ومضى بحيث لم يبق فيه مشوبة، وأقام مقام الفاعل دليلاً على أنه العمدة للحث على لزومه قوله: {أن أعبد الله} أي الذي الخلق كلهم سواء بالنسبة إلى قبضته وعلوه وعظمته لأنه غني عن كل شيء {مخلصاً له الدين *} أي العبادة التي يرجى منه الجزاء عليها.
ولما كان الرئيس إذا سابق إلى شيء شوق النفوس إليه، وأوجب عليها العكوف عليه قال: {وأمرت} أي، وقع الأمر لي وانبرم بأوامر عظيمة وراء ما أمرتم به لا تطيقونها {لأن} أي لأجل(16/473)
أن {أكون} في وقتي وفي شرعي {أول} أي أعظم {المسلمين *} أي المنقادين في الرتبة الحائزين قصب السبق بكل اعتبار لأوامر الإله الذي لا فوز إلا بامتثال أوامره أو أسبق الكائنين منهم في زماني، فجهة هذا الفعل غير جهة الأول، فلذلك عطف عليه لأنه لإحراز قصب السبق، والأول لمطلق الإخلاص في العبادة.
ولما كان ما أمر به مفهماً لأن يكون مع ترغيب ومع ترهيب، وكان ربما ظن أن الرئيس لا يرهب الملك لأمور ترجى منه أو تخشى، وكان تكرير الأمر بإبلاغ المأمورين أوقع في قلوبهم وأشد إقبالاً بنفوسهم قال تعالى: {قل} أي لأمتك، وأكد - لما في الأوهام أن الرئيس لا يخاف - قوله {إني أخاف} أي مع تأمينه لي بغفران ما تقدم وما تأخر إخلاصاً في إجلاله وإعظامه وفعلاً لما على العبد لمولاه الذي له جميع الكبرياء والعظمة، ولما كان وصف الإحسان ربما جراً على العصيان، يبن أنه لا يكون ذلك إلا لعدم العرفان فقال: {إن عصيت ربي} أي المحسن إليّ المربي لي بكل جميل فتركت الإخلاص له {عذاب يوم عظيم *} وإذا كان اليوم عظيماً، فكيف يكون عذابه.(16/474)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
ولما بين ما أمر به، وأعلم أنه يخاف من مخالفة الأمر له بذلك فأفهم أنه ممتثل لما أمر به، أمره سبحانه بأن يصرح بذلك لأن التصريح(16/474)
من المزية ما لا يخفى فقال: {قل الله} أي المحيط بصفات الكمال وحده {أعبد} تخصيصاً له بذلك، لا أنحو أصلاً بالعبادة نحو غيره أبداً {مخلصاً له} وحده {ديني *} أي امتثالاً لما أمرت به فلا أشينه بشائبة أصلاً لا طلباً لجنّة ولا خوفاً من نار فإنه قد غفر لي ما تقدم وما تأخر، فصارت عبادتي لآجل وجهه وكونه مستحقاً للعبادة خاصة شوقاً إليه وحباً له وحياء منه وأما الرغبة فيما عنده سبحانه والخوف من سطواته التي جماعها قطع الإحسان الذي هو عند الأغبياء أدنى ما يخاف فإنما خوفي لأجل إعطاء المقام حقه من ذل العبودية وعز الربوبية.
ولما علم من هذا غاية الامتثال بغاية الرغبة والرهبة وهم يعلمون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقواهم قلباً وأصفاهم لباً، وأجرأهم نفساً وأصدقهم وأشجعهم عشيرة وحزباً، كان خوف غيره من باب الأولى، فسبب عنهد تهديدهم أعظم تهديد بقوله: {فاعبدوا} أي أنتم أيها الداعون له في وقت الضراء المعرضون عنه في وقت الرخاء {ما شئتم} أي من جماد أو غيره. ونبّه على سفول رتبة كل شيء بالنسبة إليه سبحانه تسفيهاً لمن يلتفت إلى سواه بقوله: {من دونه} فإن عبادة ما دونه تؤدي إلى قطع إحسانه، ولا إحسان إلا إحسانه، فإذا انقطع حصل كل سوء، وفي ذلك جميع الخسارة.
ولما كانوا يدعون الذكاء، ويفعلون ما لا يفعله عاقل، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على غباوتهم بما يصيرون إليه من شقاوتهم فقال:(16/475)
{قل إن الخاسرين} أي الذين خسارتهم هي الخسارة لكونها النهاية في العطب {الذين خسروا أنفسهم} أي بدخولهم النار التي هي معدن الهلاك لعبادتهم غير الله من كل ما يوجب الطغيان. ولما كان أعز ما على الإنسان بعد نفسه أهله الذين عزه بهم قال: {وأهليهم} أي لأنهم إن كانوا مثلهم فحالهم في الخسارة كحالهم، ولا يمكن أحداً منهم أن يواسي صاحبه بوجه فإنه لكل منهم شأن يغنيه، وإن كانوا ناجين فلا اجتماع بينهم.
ولما كانت العاقبة هي المقصودة بالذات، قال: {يوم القيامة} لأن ذلك اليوم هو الفيصل لا يمكن لما فات فيه تدارك أصلاً ولما كان في ذلك غاية الهول. كرر التعريف بغباوتهم تنبيهاً على رسخوهم في ذلك الوصف على طريق النتيجة لما أفهمه ما قبله فقال منادياً لأنه أهول مبالغاً بالاستئناف وحرف التنبيه وضمير الفصل وتعريف الخبر ووصفه: {ألا ذلك} أي الأمر العظيم البعيد الرتبة في الخسارة جداً {هو} أي وحده {الخسران} أتى بصيغة الفعلان المفهم مطلقاً للمبالغة فكيف إذا بنيت على الضم الذي هو أثقل الحركات، وزاد في تقريعهم بالغباوة بقوله: {المبين *} .
ولما علم بهذا أنه البين في نفسه المنادي بما فيه من القباحة بأنه لا خسران غيره، فصله بقوله على طريق التهكم بهم: {لهم} فإن عادة(16/476)
اللام عند مصاحبة المجرور ولا سيما الضمير إفهام المحبوب للضمير لا سيما مع ذكر الظلل وأشار إلى قربها منهم بإثبات الجار فقال: {من فوقهم ظلل} ولما أوهمهم ذلك الراحة، أزال ذلك بقوله: {من النار} وذلك أنكأ مما لو أفهمهم الشر من أول الأمر. ولما كان في القرار - كائناً ما كان على أي حال كان نوع من الراحة بالسكون، بين أنهم معلقون في غمرات الاضطراب، يصعدهم اللهيب تارة، ويهبطهم انعكاسه عليهم برجوعه إليهم أخرى، فلا قرار لهم أصلاً كما يكون الحب في الماء على النار، يغلي به صاعداً وسافلاً، لا يقر في أسفل القدر أصلاً لقوله: {ومن تحتهم} .
ولما كان كون الظلة المأخوذة من الظل من تحت في غاية الغرابة، أعادها ولم يكتف بالأولى، ولم يعد ذكر النار لفهمها في التحت من باب الأولى فقال: {ظلل} ومما يدل على ما فهمته من عدم القرار ما رواه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا، فسألنا يوماً قلنا: لا، قال: لكني رأيت(16/477)
رجلين أتياني فأخذا بيدي وأخرجاني إلى الأرض المقدسة» - فذكره بطوله حتى قال: «فانطلقنا إلى نقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، توقد تحته نار، فإذا فيه رجال ونساء عراة فيأتيهم اللهيب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجون فإذا خمدت رجعوا» فذكره وهو طويل عظيم، ثم فسرهم بالزناة.
لما كان هذا أمراً مهولاً، وهو لا يرهبونه ولا يرجعون عن غيّهم به، ذكر فائدته مع الزيادة في تعظيمه فقال: {ذلك} أي الأمر العظيم الشأن {يخوف الله} أي الملك الأعظم الذي صفاته الجبروت والكبر {به عباده} أي الذين لهم أقلية الإقبال عليه ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم فيعيذهم منه. ولما أهلهم للإضافة إليه وخوفهم سطواته، أقبل عليهم عند تهيئتهم للاستماع منبهاً على أنه تخويف استعطاف فقال: {يا عباد فاتقون *} أي سببوا عن ذلك أن تجعلوا بينكم وبين ما يسخطني وقاية مما يرضيني لأرضى عنكم.
ولما ذكر ما لمن عبد الطاغوت، عطف عليه أضدادهم ليقترن الوعد بالوعيد، فيحصل كمال الترغيب والترهيب فقال: {والذين اجتنبوا} أي كلفوا أنفسهم ذلك لما لها في الانسياق إليه من الهوى مع تزيين الشيطان «حفت النار بالشهوات» ولما كان للإجمال ثم البيان موقع عظيم، قال: {الطاغوت} وهو كل ما عبد من دون الله، فلغوت من(16/478)
الطغيان وهو صيغة مبالغة، وفيه مبالغة أخرى بجعل الذات عين المعنى، ودل على عكس من تبعها بتعكيس حروفها، ولما ذكر اجتنابها مطلقاً ترغيباً فيه، بين خلاصة ما يجتنب لأجله مع التنفير منها بتأنيثها الذي أبصره المنيبون بتقوية الله لهم عليها حتى كانوا ذكراناً وهم إناثاً عكس ما تقدم للكفار في البقرة، فقال مبدلاً منها بدل اشتمال: {أن يعبدوها} .
ولما ذكر اجتناب الشرك، أتبعه التزام التوحيد فقال: {وأنابوا} أي رجعوا رجوعاً عظيماً أزالوا فيه النوبة وجعلوها إقبالة واحدة لا صرف فيها {إلى الله} أي المحيط بصفات الكمال فلا معدل عنه {لهم البشرى} في الدنيا على ألسنة الرسل وعند الموت تتلقاهم الملائكة فقد ربحوا ربحاً لا خسارة معه لأنهم انتفعوا بكلام الله فأخلصوا دينهم له فبشرهم - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال مسبباً عن عملهم، صارفاً القول إلى التكلم بالإفراد تشريفاً للمبشرين الموصوفين: {فبشر عباد *} أي الذين أهلوا أنفسهم بقصر هممهم عليّ للإضافة إليّ {الذين يستمعون} أي بجميع قلوبهم {القول} أي هذا الجنس من كل قائل ليسوا جفاة عساة إذا أقبلوا على(16/479)
شيء أعرضوا عن غيره بغير دليل {فيتبعون} أي بكل عزائمهم بعد انتقاده: {أحسنه} بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى هوى، ويدخل في هذه الآية دخولاً بيناً حث أهل الكتاب على اتباع هذا القرآن العظيم، فإن كتب الله كلها حسنة، وهذا القرآن أحسنها كلاماً، ومعاني ونظاماً، لا يشك في هذا أحد له أدنى ذوق.
ولما بين عملهم، أنتج ذلك مدحهم فقال مظهراً زيادة المحبة لهم والاهتمام بشأنهم بالتأكيد: {أولئك} أي العالو الهمة والرتبة خاصة {الذين} ولما كان في هؤلاء المجتبين العالو الرتبة جداً وغيره، أبرز المفعول فقال محولاً الأسلوب إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم هدايتهم، {هداهم الله} بما له من صفات الكمال فبين سبحانه أن لا وصول إليه إلا به، وهذا بخلاف آية الأنعام حيث ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال {أولئك الذين هدى الله} فحذف المفعول لتصير هدايتهم مكررة بوجوب تسليط العامل على الموصول الذي أعاد عليه الضمير في هذه الآية، وكرر الإشارة زيادة في تعظيمهم فقال: {وأولئك هم} أي خاصة {أولوا الألباب *} أي العقول الصافية عن شوب كدر.
ولما خص سبحانه البشارة بالمحسنين، علم أن غيرهم قد حكم بشقاوته،(16/480)
وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جبل عليه من عظيم الرحمة ومزيد الشفقة جديراً بالأسف على من أعرض، سبب عن أسفه عليهم قوله: {أفمن حق} وأسقط تاء التأنيث الدالة على اللين تأكيداً للنهي عن الأسف عليهم {عليه كلمة العذاب} بإبائه وتوليه، فكان لذلك منغمساً في النار التي أبرمنا القضاء بأنها جزاء الفجار لا يمكن إنقاذه منها، أفأنت تنقذه من إعراضه الذي غمسه في النار؟ ثم دل على هذا الذي قدرته بقوله مؤكداً بإعادة حرف الاستفهام لأجل طول الكلام ولتهويل الأمر وتفخيمه للنهي عن تعليق الهم بهم لما عنده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جبلة العطف والرقة على عباد الله: {أفأنت تنقذ} أي تخلص وتمنع وتنجي، ووضع موضع ضميره قوله شهادة عليه بما هو مستحقه ولا يمكن غير الله فكه منه {من في النار *} متمكناً فيها شديد الانغماس في طبقاتها، والرسوخ بحيث إنها قد أحاطت به من كل جانب، وكان الأصل: أنت تنقذ من حق عليه العذاب، فقدم المفعول وجعله عمدة الكلام ليقرع السمع ويترقب الخبر عنه، ثم حذف خبره ليكون أهول فتذهب النفس فيه كل مذهب، ثم أنكر أن يكون أعلى الخلق ينقذه، فغيره من باب الأولى، فصار الكلام بذلك من الرونق والبهجة والهول والإرهاب ما لا يقدر البشر على مثله.(16/481)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
ولما بين أن من عبد الأنداد هالك لخروجه عن دائرة العقل بجرأة(16/481)
وعدم تدبير، بين ما لأضدادهم، فقال صارفاً القول عن الاسم الأعظم إلى وصف الإحسان إشارة إلى كرم المتقين بما لهم من إصالة الرأي التي أوجبت خوفهم مع تذكر الإحسان ليدل على أن خوفهم عند تذكر الانتقام أولى: {لكن الذين اتقوا ربهم} أي جعلوا بينهم وبين سخط المحسن إليهم وقاية في كل حركة وسكنة، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك إلا بنظر يدلهم على رضاه {لهم غرف} أي علالي من الجنة يسكنونها في نظير ظلل الكفار. ولما كانت الغرف في قرار تقر به العيون لم يقل «من فوقهم» كما قال في أهل النار وقال: {من فوقها غرف} أي شديدة العلو. ولما كان ربما ظن أن الطبقة الثانية السماء، لأن الغرفة أصلها العالي، ولذلك سميت السماء السابعة غرفة، وأن تكون الغرفة مثل ظلل النار ليس لها قرار، قال تحقيقاً للحقيقة مفرداً كما هو المطرد في وصف جمع الكثرة لما يعقل: {مبنية} . ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء، وكان الجاري أشرف وأحسن قال: {تجري من تحتها} أي الغرف من الطبقة السفلى والطبقة العليا من غير تفاوت بين العلو والسفل، لأن القدرة صالحة لأكثر من ذلك {الأنهار} .
ولما ذكر يوم القيامة وما يكون فيه، بين أنه أمر لا بد منه بقوله، راداً السياق إلى الاسم الأعظم الذي لا يتصور مع استحضار ما له من الجلال إخلاف: {وعد الله} مؤكداً لمضمون الجملة بصيغة المصدر(16/482)
الدال على الفعل الناصب له، وهو واجب الإضمار والإضافة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات، ثم أتبع ذلك بيان ما يلزم من كونه وعده بقوله على سبيل النتيجة: {لا يخلف الله} أي الملك الذي لا شريك له يمنعه من شيء يريده. ولما كان الرعي لزمان الوعد ومكانه إنما يكون للمحافظة عليه فهو أبلغ من رعيه نفسه، عبر بالمفعال فقال: {الميعاد *} لأنه لا سبب أصلاً يحمله على الإخلاف.
ولما أخبر سبحانه بقدرته على البعث، دل عليها بما يتكرر مشاهدته من مثلها، وخص المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخطاب حثاً على تأمل هذا الدليل تنبيهاً على عظمته فقال مقدراً: {ألم تر} أي مما يدلك على قدرته سبحانه على إعادة ما اضمحل وتمزق، وأرفت وتفرق: {أن الله} أي الذي له كل صفة كمال {أنزل من السماء} أي التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهره على ذلك {ماء} كما تشاهدونه في كل عام {فسلكه} أي في خلال التراب حال كونه {ينابيع} أي عيوناً فائرة {في الأرض} فقهره على الصعود بعد أن غيبه في أعماقها بالفيض والصوب بعد أن كان قسره على الانضباط في العلو ثم أكرهه على النزول على مقدار معلوم وكيفية مدبرة وأمر مقسوم، قال الشعبي والضحاك: كل ماء في(16/483)
الأرض من السماء ينزل إلى الصخرة ثم يقسم منها العيون والركايا.
ولما كان إخراج النبات متراخياً عن نزول المطر، عبر بثم، وفيها أيضاً تنبيه على تعظيم الأمر فيما تلاها بأنه محل الشاهد فقال: {ثم يخرج} أي والله {به} أي الماء {زرعاً} ولما كان اختلاف المسبب مع اتحاد السبب أعجب في الصنعة وأدل على بديع القدرة، قال: {مختلفاً ألوانه} أي في الأصناف والكيفيات والطبائع والطعوم وغير ذلك مع اتحاد الماء الذي جمعه من أعماق الأرض بعد أن تفتت فيها وصار تراباً.
ولما كان الإيقاف بعد قوة الإشراف دالاً على القهر ونفوذ الأمر، قال إشارة إلى أن الخروج عن الحد غير محمود في شيء من الأشياء فإنه يعود عليه النقص {ثم يهيج} وزاد في تعظيم هذا المعنى للحث على تدبره بإسناده إلى خير الخلق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {فتراه} أي فيتسبب عن هيجه وهو شدة ثورانه في نموه بعد التمام بتوقيع الانصرام أنك تراه {مصفراً} آخذاً في الجفاف بعد تلك الزهرة والبهجة والنضرة. ولما كان السياق لإظهار القدرة التامة، عبر بالجعل مسنداً إليه سبحانه بخلاف آية الحديد التي عبر فيها بالكون لأن السياق ثَم لأن الدنيا عدم فقال: {ثم يجعله حطاماً} أي مكسراً مفتتاً بالياً.
ولما تم هذا المنوال البديع الدال بلا شك لكل من رآه على أن فاعله قادر على الإعادة لما يريد بعد الإبادة، كما قدر على الإيجاد(16/484)
من العدم والإفادة لكل ما لم يكن، قال على سبيل التأكيد للتنبيه على أن إنكارهم غاية في الحمق والجمود: {إن في ذلك} أي التدبير على هذا الوجه {لذكرى} أي تذكيراً عظيماً واضحاً على البعث وما يكون بعده، فإن النبات كالإنسان سواء، يكون ماء، ثم ينعقد بشراً، ثم يخرج طفلاً، ثم يكون شاباً، ثم يكون كهلاً، ثم شيخاً ثم هرماً، ثم تراباً مفتتاً في الأرض، ثم يجمعه فيخرجه كما أخرج الماء النبات: {لأولي الألباب *} أي العقول الصافية جداً كما نبه عليه بخصوص الخطاب في أول هذا الباب للمنزل عليه هذا الكتاب، وأما غيره وغير من تبعه بإحسان فهم كبهائم الحيوان.
ولما كان الذي قرر به أمراً فيما يظنه السامع ظاهراً كما كان جديراً بأن ينكر بعض الواقفين مع الظواهر تخصيص الألباء به، سبب عن ذلك الإنكار في قوله: {أفمن شرح الله} أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل {صدره للإسلام} أي للانقياد للدليل، فكان قلبه ليناً فانقاد للإيمان فاهتدى لباطن هذا الدليل {فهو} أي فيتسبب عن إسلام ظاهره وباطنه للداعي أن كان {على نور} أي بيان عظيم بكتاب، به يأخذ، وبه يعطي، وإليه في كل أمر ينتهي قد استعلى عليه فهو كأنه راكبه، يصرفه حيث يشاء، وزاد في بيان عظيم هدايته بلفت(16/485)
القول إلى مظهر الإحسان فقال: {من ربه} أي المحسن إليه إحسانه في انقياده، فبشرى له فهو على صراط مستقيم، كمن جعل صدره ضيقاً حرجاً فكان قلبه قاسياً، فكان في الظلام خابطاً، فويل له - هكذا كان الأصل ولكن قيل: {فويل للقاسية قلوبهم} أي لضيق صدورهم، وزاد في بيان ما بلاهم به من عظيم القسوة بلفت القول إلى الاسم الدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى فقال: {من ذكر الله} فإن من تبتدئ قسوته مما تطمئن به القلوب وتلين له الجلود، من مدح الجامع لصفات الكمال فهو أقسى من الجلمود.
ولما كان من رسم بهذا الخزي أخسر الناس صفقة أنتج وصفه قوله تعالى: {أولئك} أي الأباعد الأباغض {في ضلال مبين *} أي واضح في نفسه موضح أمره لكل أحد، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً الشرح والنور دليلاً على حذف ضده ثانياً، وثانياً الويل للقاسي والضلال دليلاً على حذف ضده أولاً - روى البيهقي في الشعب والبغوي من طريق الثعلبي والحكيم الترمذي من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ هذه الآية، قال: فقلنا: يا رسول الله! كيف انشراح صدورهم؟ قال: إذا دخل النور القلب(16/486)
انشرح وانفسح قلنا: يا رسول الله؟ فما علاقة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: والنور الذي من قبله سبحانه نور اللوائح بنجوم العلم، ثم نور اللوامع ببيان الفهم، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد، فعند ذلك لا وجد ولا قصد، ولا قرب ولا بعد، كلا بل هو الله الواحد القهار، وذلك كما قيل: المؤمن بقوة عقله يوجب استقلاله بعلمه إلى أن يبدو ومنه كمال تمكنه من وقادة بصيرته، ثم إذا بدا له لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مقمرة، فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة، فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره أنوار تلك الكواكب.
ولما كان من المستبعد جداً أن يقسو قلب من ذكر الله، بينه الله وصوره في أعظم الذكر فإنه كان للذين آمنوا هدى وشفاء، وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وفي أبصارهم عمى، فقال مفخماً للمنزل بجعل الاسم الأعظم مبتدأ وبناء الكلام عليه: {الله} أي الفعال(16/487)
لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال {نزّل} أي بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة {أحسن الحديث} وأعظم الذكر، ولولا أنه هو الذي نزله لما كان الأحسن، ولقدر - ولو يوماً واحداً - على الإتيان بشيء من مثله، وأبدل من «أحسن» قوله: {كتاباً} أي جامعاً لكل خير {متشابهاً} أي في البلاغة المعجزة والموعظة الحسنة، لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى، مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتحد زمانه أو لا، والاختلاف في المختلف في الزمان أكثر، ولم يقل: مشتبهاً، لئلا يظن أنه كله غير واضح الدلالة لا يمدح به.
ولما كان مفصلاً إلى سور وآيات وجمل، وصفه بالجمع في قوله: {مثاني} جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير أي تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلاً في أصل المعنى، ولا يمل من تكراره، وترداد قراءته وتأمله واعتباره، مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده: المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والرحمة العامة والرحمة الخاصة، والجنة والنار، والنعيم(16/488)
والشقاء والضلال والهدى، والسراء والضراء، والبشارة والنذارة، فلا ترتب على شيء من ذلك جزاء صريحاً إلا ثني بإفهام ما لضده تلويحاً، فكان مذكوراً مرتين، ومرغباً فيه أو مرهباً منه كرتين، ويجوز أن يكون التقدير: متشابهة مثانيه، فيكون نصبه على التمييز، وفائدة التكرير أن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عوداً على بدء لم يرسخ عندها ولم يعمل عمله، ومن ثم كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكرر قوله ثلاث مرات فأكثر.
ولما كان التكرار يمل، ذكر أن من خصائص هذا الكتاب أنه يطرب مع التكرار، ويزداد حلاوة ولو ثنى آناء الليل وأطراف النهار، فقال: {تقشعر} أي تهتز وتتجمع وتتقبض تقبضاً شديداً، من القشع وهو الأديم اليابس، وزيد حرفاً لزيادة المعنى، واختير حرف التكرير إشارة إلى المبالغة فيه، وكونه حرف التطوير أشد للمناسبة {منه جلود} أي ظواهر أجسام {الذين يخشون} أي يخافون خوفاً شديداً ويلتذون لذة توجب إجلالاً وهيبة، فيكون ذلك سبب ذلك، وزاد في مدحهم بأنهم يخافون المحسن، فهم عند ذكر أوصاف الجلال أشد خوفاً، فلذلك لفت القول إلى وصف الإحسان فقال:(16/489)
{ربهم} أي المربي لهم والمحسن إليهم لاهتزاز قلوبهم، روى الطبراني عن العباس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت خطاياه» ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر برجل من أهل العراق ساقط، قال: فما بال هذا؟ قال: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط، قال ابن عمر رضي الله عنهما: إنا لنخشى الله وما نسقط وإن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {ثم تلين} أي تمتد وتنعم، وقدم ما صرح فيه بالاقشعرار الذي يلزمه اليبس، وأخر القلوب إبعاداً لها عما قد يفهم يبساً فيوهم قسوة فقال: {جلودهم} لتراجعهم بعد برهة إلى الرجاء وإن اشتدت صلابتها {وقلوبهم} وذكره لتجدد لين القلوب مع الجلود دال على تقدير اقشعرارها معها من شدة الخشية فإن الخشية لا تكون إلا في القلب، وكان سر حذف التصريح بذلك تنزيههاً عن ذكر ما قد يفهم القسوة.
ولما كان القلب شديد الاضطراب والتقلب، دل على حفظه له بنافذ أمره وباهر عظمته بالتعدية ب «إلى» ليكون المعنى: ساكنة مطمئنة(16/490)
{إلى ذكر الله} أي ذي الجلال والإكرام، فإن الأصل في ذكره الرجاء لأن رحمته سبقت غضبه، وأظهر موضع الإضمار لأحسن الحديث لئلا يوهم أن الضمير للرب، فيكون شبهة لأهل الاتحاد أو غيرهم من أرباب البدع، ولم يقل: إلى الحديث أو الكتاب - مثلاً، بل عدل إلى ما عرف أنه ذكره سبحانه ليكون أفخم لشأنه، وزاده فخامة بصرف القول عن الوصف المقتضي للإحسان إلى الاسم الجامع للجلال والإكرام.
ولما كان ما ذكر من الآثار عجباً، دل على عظمته بقوله على طريق الاستنتاج: {ذلك} أي الأمر العظيم الغريب من الحديث المنزل والقبض والبسط {هدى الله} أي الذي لا يتمنع عليه شيء {يهدي به من يشاء} ومن هداه الله فما له من مضل، ويضل به من يشاء فلا تتأثر جلودهم لقساوة قلوبهم، فيكون هدى لناس ضلالاً لآخرين {ومن يضلل الله} أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء إضلالاً راسخاً في قلبه بما أشعر به الفك ليخرج الضلال العارض {فما له من هاد *} لأنه لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، لأنه الواحد في ملكه، فلا شريك له، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً إطلاق أمره في الهداية دليلاً على حذف مثله في الضلال، وثانياً انسداد باب الهداية على من أضله دليلاً على وحذف مثله فيمن هداه وهي دامغة للقدرية.(16/491)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
ولما أتم الإنكار على من سوى، بين من شرح صدره ومن ضيق، وما تبعه وختم بأن الأول مهتد، والثاني ضال، شرع في بيان ما لكل منهما نشراً مشوشاً في أسلوب الإنكار أيضاً، فقال مشيراً إلى أن الضلال سبب العذاب، والهدى سبب النعيم، وحذف هنا المنعم الذي سبب له النعيم لين قلبه كما حذف القاسي القلب في آية الشرح الذي سببت له قسوته العذاب، لتتقابل الآيتان، وتتعادل العبارتان: {أفمن} وأفرد على لفظ {من} لئلا يظن أن الوجوه الأكابر فقال: {يتقي} ودل على أن يده التي جرت العادة بأنه يتقي بها المخاوف مغلولة بقوله: {بوجهه} الذي كان يقيه المخاوف ويحميه منها بجعله وهو أشرف أعضائه وقاية يقي به غيره من بدنه {سوء العذاب} أي شدته ومكروهه لأنه تابع نفسه على هواها حتى قسا قلبه وفسد لبه {يوم القيامة} لأنه يرمي به في النار منكوساً وهو مكبل، لا شيء له من أعضائه مطلق يرد به عن وجهه في عنقه صخرة من الكبريت مثل الجبل العظيم، ويسحب في النار على وجهه، كمن أمن العذاب فهو يتلقى النعيم بقلبه وقالبه.
ولما كان مطلق التوبيخ والتقريع متكئاً، بني للمفعول قوله: {وقيل} له - هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم به وجمع تنبيهاً على أن كثرتهم لم تغن عنهم شيئاً(16/492)
فقال: {للظالمين} أي الذين تركوا طريق الهدى واتبعوا الهوى فضلوا وأضلوا: {ذوقوا ما} أي جزاء ما {كنتم تكسبون *} أي تعدونه فائدة وثمرة لأعمالكم وتصرفاتكم، وقيل لأهل النعيم: طيبوا نفساً وقروا عيناً جزاء بما كنتم تعلمون، فالآية من الاحتباك: ذكر الاستفهام أولاً دليلاً على حذف متعلقه ثانياً، وما يقال للظالم ثانياً دليلاً على ما يقال للعدل أولاً.
ولما ذكر ما أعد لهم من الآخرة، وكانوا في مدة كفرهم كالحيوانات العجم لا ينظرون إلا الجزئيات الحاضرة، خوفهم بما يعملونه في الدنيا، فقال على طريق الاستئناف في جواب من يقول: فهل يعذبون في الدنيا: {كذب الذين} وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال: {من قبلهم} أي مثل سبأ وقوم تبع وأنظارهم: {فأتاهم العذاب} وكان أمرهم علينا يسيراً، وأشار إلى أنه لم يغنهم حذرهم بقوله: {من حيث} أي من جهة {لا يشعرون *} أنه يأتي منها عذاب، جعل إتيانه من مأمنهم ليكون ذلك أوجع للمعذب، وأدل على القدرة بأنه سواء عنده تعالى الإتيان بالعذاب من جهة يتوقع منها ومن جهة لا يتوقع أن يأتي منها شر ما، فضلاً عما أخذوا به، بل لا يتوقع إلا الخير.(16/493)
لما بين سفههم وشدة حمقهم باستعجالهم بالعذاب استهزاء، سبب عنه تبكيت من لم يتعظ بحالهم فقال: {فأذاقهم الله} أي الذي لا راد لأمره {الخزي} أي الذل الناشئ عن الفضيحة والعذاب الكبير بما رادوه من إخزاء الرسل بتكذبيهم {في الحياة الدنيا} أي العاجلة الدنية.
ولما كان انتظار الفرج مما يسلي، قال معلماً أن عذابهم دائم على سبيل الترقي إلى ما هو أشد، وأكده إنكارهم إياه: {ولعذاب الآخرة} أي الذي انتقلوا إليه بالموت ويصيرون إليه البعث: {أكبر} من العذاب الذي أهلكهم في الدنيا، وأشدهم إخزاء، فالآية من الاحتباك: ذكر الخزي أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والأكبر ثانياً دليلاً على الكبير أولاً، وسره تغليظ الأمر عليهم بالجمع بين الخزي والعذاب بما فعلوا برسله عليهم الصلاة والسلام بخلاف ما يأتي في فصلت. فإن سيافه للطعن في الوحدانية، وهي لكثرة أدلتها وبعدها عن الشكوك وعظيم المتصف بها وعدم تأثيره بشيء يكفي في نكال الكافر به مطلق العذاب.
ولما كان من علم أن فعله يورث نكالاً كف عنه ولا يكفون ولا يتعظون قال: {لو كانوا يعلمون *} أي لو كان لهم علم ما لعلموا أنه أكبر فاتعظوا وآمنوا، ولكنه لا علم لهم أصلاً، بل هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لأن الجزئيات لا تنفعهم كما تنفع سائر الحيوانات، فإن الشاة ترى الذئب فتنفر منه إدراكاً لأن بينها وبينه عداوة بما خلق(16/494)
الله في طبعه من أكل أمثالها، وهؤلاء يرون ما حل بأمثالهم من العذاب لتكذيبهم الرسل فلا يفرون منه إلى التصديق.
ولما ذكر سبحانه حال الأولين موعظة للعرب، فكان كأنه قيل صرفاً للقول إلى مظهر العظمة تذكيراً بما في الأناة من المنة لأن حالها يقتضي المعاجلة بالأخذ والمبادرة بإحلال السطوة، ضربنا لكم حالهم مثلا لحالكم لتعتبروا به، فإن الأمثال يفهم بها المعاني الغائبة، وتصير كأنها محسوسة مشاهدة، عطف عليه قوله مؤكداً لإنكارهم أن يكون في القرآن بيان شاف وادعائهم أنه إنما هو شعر وكهانة وسحر: {ولقد ضربنا} على ما لنا من العظمة. ولما كان في سياق المفاضلة بين المتقي وغيره من أوائل السورة حين قال {أمن هو قانت} إلى أن ختم بقوله {أفمن يتقي بوجهه} وأسس ذلك كله على ابتداء الخلق من نفس واحدة، كانت العناية في هذا السياق بالمخاطبين أكثر، فقدم قوله: {للناس} أي عامة لأن رسالة رسولكم عامة.
ولما كان المتعنت كثيراً، عين المحدث عنه بالإشارة التي هي أعرف المعارف، وجعلها ما يعبر به عن القرب، إشارة إلى أنه لما أتى به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلع القلوب وملأها، فلا حاضر فيها سواه وإن كان المعاند يقول غير ذلك فقوله زور وبهتان وإثم وعدوان، فقال: {في هذا القرآن} أي الجامع لكل علم. ولما كانت كلماته سبحانه لا تنفد وعجائبه لا تعد ولا تحد، وكان في(16/495)
سياق التعجيب من توقفهم قال {من كل مثل} أي يكفي ضربه في البيان لإقامة الحجة البالغة، ثم بين علة الضرب بقوله: {لعلهم يتذكرون *} أي ليكون حالهم بعد ضربه حال من يرجى تذكره بما ضرب له ما يعرفه في الكون في نفسه أو في الآفاق تذكراً واضحاً مكشوفاً - بما أرشد إليه الإظهار، فيتعظ لما في تلك الامثال المسوقة في أحسن المقال المنسوقة بما يلائمها من الأوضاع والأشكال من البيان وأوضح البرهان.
ولما كان ذلك غاية في الشرف، دل على زيادة شرفه بحال مؤكدة دالة على شدة عنادهم، تسمى موطئه لأن الحال في الحقيقة ما بعدها بقوله: {قرآناً} أي حال كون ذلك المضروب جامعاً لكن ما يحتاج إليه، ويجوز أن يكون النصب على المدح {عربياً} جارياً على قوانين لسانهم في جمعه باتساعه ووضوحه واحتمال اللفظ الواحد منه لمعان كثيرة، فكيف إذا انضم إلى غيره فصار كلاماً. ولما كان الشيء قد يكون مستقيماً بالفعل وهو معوج بالقوة، قال تعالى: {غير ذي عوج} أي ليس بمنسوب إلى شيء من العوج ولا من(16/496)
شأنه العوج، فلا يصح أن يكون معوجاً أصلاً في شيء من نظمه ولا معناه باختلاف ولا غيره كما في آية الكهف سواء، وفي الإتيان بعوج الذي هو مختص بالمعاني بيان أن الوصف له حقيقة، فهو أبلغ من غير معوج، لأنه يحتمل إرادة أهله على المجاز.
ولما كان التذكر بالتذكير لكونه أبلغ للوعظ حاملاً، ولا بد للعاقل على الخوف المسبب للنجاة قال: {لعلهم يتقون *} أي ليكون حالهم بعد التذكير الناشىء عن التذكير حال من يرجى له أن يجعل بينه وبين غضب الله وقاية.(16/497)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
ولما أقام سبحانه الدليل المنير على التفاوت العظيم، بين من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يدعو الله مخلصاً له الدين وبين من يدعو لله أنداداً، وختم بضرب الأمثال، وكان الأمثال أبين فيما يراد من الأحوال، قال منبهاً على عظمتها بلفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال: {ضرب الله} أي الملك الأعظم المتفرد بصفات الكمال {مثلاً} لهذين الرجلين مع أنه لا يشك ذو عقل أن المشرك لا يداني المخلص فضلاً عن أن يقول: إن المشرك أعظم كما يقوله المشركون. ولما كان الذكر أقوى من الأنثى، وأعرف بمواقع النفع والضر، وكان كونه بالغاً أعظم لقوته وأشد لشكيمته، فيكون أنفى للعار عن نفسه وأدفع للظلم عن جانبه وأذب عن حماه، قال مبيناً للمثل مشيراً إلى تبكيت الكفار ورضاهم لأنفسهم بما لا يرضاه لنفسه(16/497)
أدنى الأرقاء {رجلاً فيه} أي خاصة. ولما كانت معبوداتهم - لكونها من جملة المخلوقات - كثيرة الأشباه والنظائر، عبر عنها بجمع الكثرة فقال: {شركاء} في الظاهر من الأصنام وفي الباطن من الحظوظ والشهوات، ووصف الشركاء بقوله: {متشاكسون} أي مختلفون عسرون يتجاذبون مع سوء الأخلاق وضيقها وقباحة الشركة، فليس أحد منهم يرضى بالإنصاف، فهو لا يقدر أن يرضيهم أصلاً {ورجلاً سلماً} أي من نزاع {لرجل} فليس فيه لغيره شركة ولا علاقة أصلاً، فهو أجدر بأن يقدر على رضاه مع راحته من تجاذب الشركاء - هذا على قراءة المكي والبصري، وعلى قراءة الباقين بحذف الألف وفتح اللام وهو وصف بالمصدر على المبالغة.
ولما انكشف الحال فيها جداً قال: {هل يستويان} أي الرجلان يكون أحدهما مساوياً للآخر بوجه من الوجوه ولو بغاية الجهد والعناية. ولما كان الاستواء مبهماً قال: {مثلاً} أي من جهة المثل، أي هل يستوي مثلهما أي يجمعهما مثل واحد حتى أن يكونا هما متساويين فهو تمييز محول في الأصل عن الفاعل، والجواب في هذا الاستفهام الإنكاري قطعاً: لا سواء، بل مثل الرجل السالم في غاية الحسن فكذا ممثوله وهو القانت المخلص، ومثل الرجل الذي وقع فيه التشاكس في غاية القبح فكذا ممثوله وهو الداعي للأنداد.(16/498)
ولما علم بهذا المثل المضروب للرجلين سفول المشترك وهو الداعي للأنداد، وعلو السالم وهو القانت، ظهر بذلك بلا ريب حقارة المتشاركين وجلالة المتفرد وهو الله، فأنتج قطعاً قوله: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} الذي لا مكافئ له، يعلم ذلك كل أحد لما له من الظهور لما عليه من الدلائل، فلا يصح أن يكون له شريك {بل أكثرهم} أي الناس {لا يعلمون *} لأنهم يعملون لما لا يليق بهذا العلم فيشركون به إما جلياً وإما خفياً، ويجوز أن يقال: له الكمال كله، فليس الملتفتون إلى غيره أدنى التفات علماء، بل لا علم لهم أصلاً، وهم المشركون شركاً جلياً، وأما أصحاب الشرك الخفي فهم، وإن كان لهم علم - فليس بكامل.
ولما كان السالم مثلاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأتباعه، والآخر للمخالفين، وكان سبحانه قد أثبت جهلهم، وكان الجاهل ذا حمية وإباء لما يدعى إليه من الحق وعصبيته:
والجاهلون لأهل العلم اعداء ... فكان لذلك التفكير في أمرهم وما يؤدي إليه من التقاعد من الأتباع والتصويب بالأذى ولا سيما وهم أكثر من أهل العلم مؤدياً(16/499)
إلى الأسف وشديد القلق فكان موضع أن يقال: فما يعمل؟ وكان لا ينبغي في الحقيقة أن يقلق إلا من ظن دوام النكد، قال تعالى مسلياً ومعزياً وموسياً في سياق التأكيد، تنبيهاً على أن من قلق كان حاله مقتضياً لإنكار انقطاع التأكيد: {إنك} فخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن الخطاب إذا كان للرأس كان أصدع لأتباعه، فكل موضع كان للأتباع وخص فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخطاب دونهم فهم المخاطبون في الحقيقة على وجه أبلغ.
ولما لم يكن لممكن من نفسه إلا العدم قال: {ميت} أي الآن لأن هذه صفة لازمة بخلاف «مايت» يعني: فكن كالميت بين يدي الغاسل فإنك مستريح قريباً عما تقاسي من أنكادهم، وراجع إلى ربك ليجازيك على طاعتك له {وإنهم} أي العباد كلهم أتباعك وغيرهم {ميتون} فمنقطع ما هم فيه من اللدد والعيش والرغد.
ولما كان الشفاء الكامل إنما يكون بأخذ الثار، وإذلال الظالم، قال مشيراً بأداة التراخي إلى مدة البرزخ مؤكداً لأجل إنكارهم البعث فضلاً عن القصاص صادعاً لهم بالخطاب بعد الغيبة: {ثم إنكم} أي أيها العباد كلكم، فإن كل أحد مسؤول عن نفسه وعن غيره(16/500)
هل راعى حق الله فيه، أو أنت وهم من باب تغليب المخاطب وإن كان واحداً لعظمته على الغائبين، وزاد في إثبات المعنى بقوله: {يوم القيامة} فساقه مساق ما خلاف فيه، وبين أن ذلك الحال مخالف لهذا الحال لانقطاع الأسباب بقوله، صارفاً القول إلى وصف التربية الذي يحق له الفضل على الطائع والعدل في العاصي {عند ربكم} أي المربي لكم بالخلق والرزق فلا يجوز في الحكمة أن يدعكم يبغي بعضكم على بعض كما هو مشاهد من غير حساب كما أن أقلكم عقلاً لا يرضى بذلك في عبيده الذين ملكه الله إياهم ملكاً ضعيفاً، أو ولاه عليهم ولاية مزلزلة، فكيف بمن فوقه فكيف بالحكماء {تختصمون *} أي تبالغون في الخصومة ليأخذ بيد المظلوم وينتقم له من الظالم، ويجازي كلاًّ بما عمل، أما في الشر فسوءاً بسوء، لا يظلم مثقال ذرة ولا ما دونه، وأما في الخير فالحسنة بعشرة أمثالها - إلى ما فوق ذلك مما لا يعلمه غيره، فلا ينبغي أبداً لمظلوم أن يتوهم دوام نكده وعدم الأخذ بيده فيقتصر في العمل ويجنح إلى شيء من الخوف والوجل، بل عليه أن يفرح بما يجزل ثوابه، ويسر بما ييسر حسابه، ويشتغل بما يخلص به نفسه في يوم التلاق الذي الناس فيه فريقان، ولا يشتغل بما لا يكون(16/501)
من تصفية دار الكدر عن الأكدار، وقرارة الدنس عن الأقذاء والأقذار، فإن الدوام فيها محال على حال من الأحوال، قال القشيري: نعاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعى المسلمين إليهم ففرغوا بأنفسهم عن مأتمهم، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث، ومن لم يتفرغ عن مأتم نفسه وأنواع غمومه وهمومه، فليس له من هذا الحديث شمة، وإذا فرغ قلب عن حديث نفسه وعن الكون بجملته، فحينئذ يجد الخير من ربه وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم، وأنشد بعضهم يعني في لسان الحال بما قدمنا:
كتبت إليكم بعد موتي بليلة ... ولم أدر أني بعد موتي أكتب
انتهى. ومن المعلوم أنهم إذا أماتوا نفوسهم حييت أرواحهم فانفسحت صدورهم وانتعشت قوى قلوبهم فاتسعت علومهم واستنارت فهومهم وتجلت لهم حقائق الأمور فحدثوا عن مشاهدة {الناس نيام} فإذا ماتوا انتبهوا.
ولما أخبر سبحانه بأنهم جعلوا لله أنداداً، وأعلم بأنهم كذبة في ذلك كافرون ساترون للحق، وأنه لا يهدي من هو كاذب كفار، وأخبر أنه لا بد من خصام الداعي لهم بين يديه سبحانه، لآنه لا يجوز(16/502)
في الحكمة تركهم هملاً كما هو مقرر في العقول وموجود في الفطر الأولى، ومعلوم بالمشاهدة من أحوالهم فينعم على المظلوم، وينتقم من الظالم، وكان الكاذب في أقل الأشياء ظالماً، وأظلم منه الكاذب على الأكابر، وأظلم الظالمين الكاذب على الله، قال تعالى مسبباً عما مضى: {فمن أظلم} أي منهم - هكذ كان الأصل ولكنه قال: {ممن كذب} تعميماً وتعليقاً بالوصف، فكفر بستر الصدق الثابت وإظهار ما لا حقيقة له.
ولما كان الكذب عظيم القباحة في نفسه فكيف إذا كان كما مضى على الأكابر فكيف إذا كانوا ملوكاً، فكيف إذا كان على ملك الملوك، لفت القول إلى مظهر الاسم الأعظم تنبيهاً على ذلك فقال: {على الله} أي الذي الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره، فمن نازعه واحدة منهما قصمه، فزعم فب كذبه أن له سبحانه أنداداً، وشركاء وأولاداً.
ولما كان وقوع الحساب يوم القيامة حقاً لكونه واقعاً لا محالة وقوعاً يطابق الخبر عنه، لما علم من أنه لا يليق في الحكمة غيره لما علم من أن أقل الخلق لا يرضى أن يترك عبيده سدى، فكيف بالخالق؟ فكان الخبر به صدقاً لوقوع العلم القطعي بأنه يطابق ذلك الواقع قال: {وكذب} أي أوقع التكذيب لكل من أخبره {بالصدق} أي الإخبار بأن الله واحد وأنه يبعث الخلائق للجزاء المطابق(16/503)
كل منهما للواقع لما دل على ذلك من الدلائل المشاهدة {إذ جاءه} أي من غير توقف ولا نظر في دليل، كما هو دأب المعاندين، أولئك هم الكافرون لهم ما يضرهم من عذاب جهنم، ذلك جزاء المسيئين.
ولما كان قد تقرر كالشمس أنه لا يسوغ في عقل العاقل ترك الخلق سدى، فكان يوم الدين معلوماً قطعاً، وكان معنى هذا الاستفهام الإنكاري نفي مدخوله فترجمته: ليس أحد أكذب منهم، وكان عرف اللغة في تسليط هذا النفي على صيغة أفعل إثبات مدلول أفعل ليكون المعنى أنهم أكذب الخلق، فكان التقدير: أليس هذا الكاذب المكذب عاقلاً يخشى أن يحاسبه الله الذي خلقه؟ أليس الله المتصف بجميع صفات الكمال يحاسب عباده كما يحاسب كل من الخلائق من تحت يده؟ أليس يحبس الظالم منهم في دار انتقامه كما يفعل أدنى الحكام؟ أليس دار انتقامه جهنم التي تلقى داخلها بعبوسة وتجهم؟ نسق به قوله: {أليس في جهنم} أي النار التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى الحق وأهله {مثوى} أي منزل مهيأ للإقامة فيه على وجه اللزوم لهم هكذا كان الأصل، ولكنه قال تعميماً وتعليلاً بالوصف مبيناً أن الكذب كفر أي ستر للصدق وغظهار لما لا حقيقة له، والتكذيب بالصدق كذلك {للكافرين *} أي الذين ستروا كذبهم فألبسوه ملابس الصدق وستروا الصدق الذي كذبوا به،(16/504)
ذلك جزاء المسيئين لأنهم ليسوا بمتقين، فأقام سبحانه هذه المقدمة دليلاً على تلك المقدمات كلها.
ولما ذكر سبحانه الظالمين بالكذب ذكر أضدادهم الذين يخاصمونهم عند ربهم وهم المحسنون بالصدق فقال: {والذي} أي الفريق الذي {جاء بالصدق} أي الخبر المطابق للواقع، فصدق على الله، وتعريفه يدل على كماله، فيشير إلى أن الإتيان به ديدنه لا يتعمد كذباً {وصدق به} أي بكل صدق سمعه وقام عليه الدليل، وليس هو بجموده عدو ما لم يعلم، فهو يكذب بكل ما لم يسمع، فمن أعدل منه لكونه صدق على الله وصدق بالصدق إذ جاءه واستمر عليه، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة الموصوف بهذا الوصف من الصدق، وهذا الفريق هو الرسل وأتباعهم، ولذلك حصر التقوى فيهم، فقال مشيراً بالجمع إلى عظمتهم وإن كانوا قليلاً: {أولئك} أي العالو الترتبة {هم} أي خاصة {المتقون *} الذين جانبوا الظلم، فليس لجهنم عليهم سبيل، ولا لهم فيها منزل ولا مقيل، بل الجنة منزلهم، أليس في الجنة منزل للمتقين؟ فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً المثوى في(16/505)
جهنم دليلاً على حذف ضده ثانياً، والاتقاء ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم من الكفر وسوء الجزاء. وأسرّ ما للمسلم من قصر التقوى عليه، وذكر أحب جزائه إليه، والإشارة إلى عراقته في الإحسان وفي الآيات احتباك آخر وهو أنه ذكر الكذب والتكذيب أولاً دليلاً على الصدق والتصديق ثانياً، والاتقاء وجزاءه وما يتبعه ثانياً دليلاً على ضده أولاً، وسره أنه ذكر في شق المسيء أنكأ ما يكون من الكذب والتكذيب في أقبح مواضعه، ولا سيما عند العرب، وأسر ما يكون في شق المحسن من استقامة الطبع وحسن الجزاء.(16/506)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
ولما مدحهم على تقواهم، قال في جواب من سأل عن ثوابهم، فقال لافتاً القول إلى صفة الإحسان تعريفاً بمزيد إكرامهم: {لهم ما يشآءون} أي يتجدد لهم إرادته متى أرادوه {عند ربهم} أي المحسن إليهم اللطيف بهم في الدنيا والآخرة لأنهم سلموا له في الأولى ما يشاء، فسلم لهم في الأخرى ما يشاؤون. ولما كان أعظم الجزاء، مدحه على وجه بين علته وأوجب عمومه فقال: {ذلك} أي الثواب الكبير {جزاء المحسنين *} أي كل من اتصف بالإحسان كما اتصفوا به بالتقوى، فأحبه الله سبحانه كما أحبهم، فكان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي(16/506)
يمشي بها.
ولما كان العاقل من قدم في كل أمر الأهم فالأهم فميز بين خير الخيرين فأتبعه، وشر الشرين فاجتنبه، كان المحسن من جعل أكبر ذنوبه نصب عينيه وعمل على هدمه، فلذلك علل الإحسان بقوله: {ليكفر} أي يستر ستراً عظيماً كأنه قال: المحسنين الذين أحسنوا لهذا الغرض، ويجوز أن يكون التعليل للجزاء، وعبر بالاسم الأعظم لفتاً عن صفة الإحسان إشارة إلى عظيم الاجتهاد في العمل والإيذان بأنه لا يقدر على الغفران لمن يريد إلا مطلق التصرف فقال: {الله} أي الذي نصب المحسن جلاله وجماله بين عينيه، فاستغرق في صفاته ابتغاء مرضاته، فعبده كأنه يراه، وحقق باعترافهم بالخطأ وقصدهم التكفير لما أهمهم فعلهم له بقوله: {عنهم أسوأ} العمل {الذي عملوا} وتابوا عنه بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود وقد علم أنه إذا محي الأكبر انمحى الأصغر لأن الحسنات يذهبن السيئات، فلله در أهل البصائر والإخلاص في الإعلان والسرائر ولما أخبر بالتطهير من اوضار السيىء، أتبعه الإخبار بالتنوير بأنوار الحسن فقال: {ويجزيهم أجرهم}(16/507)
أي الذي تفضل عليهم بالوعد به.
ولما كان تعالى يزيد العمل الصالح ويربيه، زاد الجار في الجزاء إعلاماً بأنه يجعل الأعمال الصالحة كلها مثل أعلاها فقال: {بأحسن} ولما كان مقصود هذه السورة أخص من مقصود سورة النحل، وكانت «الذي» و «من» أقل إبهاماً من «ما» قال: {الذي} أي العمل الذي، وهو كالأول من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه كخاتم فضة، وأشار إلى مداومتهم على الخير بالتعبير بالكون والمضارع فقال: {كانوا يعملون *} مجددين له وقتاً بعد وقت لأنه في طبائعهم فهم عريقون في تعاطيه، فمن كان في هذه الدار محسناً في وقت ما يعبد الله كأنه يراه فهو في الآخرة كل حين يراه، قال القشيري، ثم يجب أن يكون على أحسن الأعمال أحسن الثواب، وأحسن الثواب الرؤية، فيجب أن يكون على الدوام. وهذا استدلال قوي.
ولما فهم من قوله: «وكذب بالصدق إذ جاءه» أن المشركين يكذبونه، وكان من طبع الآدمي الاهتمام بمثل ذلك ولا سيما إذا كان المكذب كثيراً وقوياً، وتقرر أنه سبحانه الحكم العدل بين المتخاصمين وغيرهم في الدنيا والآخرة، ولزم كل سامع الإقرار بالآخرة، وبشر المحسنين وحذر المسيئين، وكان من المعلوم أنهم يحذرونه آلهتهم كما يحذرهم إلهه، حسن كل الحسن قوله مقراً للكفاية غاية الإقرار، ومنكراً(16/508)
لنفيها كل الإنكار: {أليس الله} أي الجامع لصفات العظمة كلها المنعوت بنعوت الكمال من الجلال والجمال، وأكد المراد بزيادة الجار لما عندهم من الجزم بأنهم غالبون فقال: {بكاف} وحقق المناط بالإضافة في قوله: {عبده} أي الخالص له الذي لم يشرك به أصلاً كما تقدم في المثل ممن كذبه وقصد مساءته فينصره عليهم حتى يظهر دينه ويعلي أمره ويغنيه عن أن يحتاج إلى غيره أو يجنح إلى سواه، باعتقاد أن في يده شيئاً يستقل به، وهاذ لا ينافي السعي في الأسباب مع اعتقاد أنها بيد الله، فإن شاء ربط بها المسببات، وإن شاء أعقمها، بل السعي أكمل، لأن ترتيب الأسباب بوضع الحكيم، فالسعي في طرحها ينافي وضع الحكمة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر: عباده - بالجمع بمعنى الرسول وأتباعه.
ولما كان الجواب قطعاً: بلى، إنه ليكفي من يشاء، والأصنام الممثلون بالشركاء المتشاكسين لا يكفون من تولاهم، بني على ذلك حالاً عجيباً من أحوالهم، فقال معجباً منهم ومتهكماً بهم: {ويخوفونك} أي عباد الأصنام يعلمون أن الله يكفي من أراد وأن الأصنام لا كفاية عندها بوجه والحال أنهم يخوفونك. ولما كان الخوف ممن له اختيار، فإن كان عاقلاً كان أقوى لمخالفته، وكان من المعلوم بديهة أنه لا اختيار لهم(16/509)
فضلاً عن العقل، قال تهكماً بهم بالتعبير بما يعبر به عن الذكور العقلاء لكونهم ينزلونهم بالعبادة وغيرها منزلة العقلاء مع اعترافهم بأنهم لا عقل لهم، فصاروا بذلك ضحكة وشهرة بين الناس: {بالذين} وبين حقارتهم بقوله: {من دونه} وهم معبوداتهم ضلالاً عن المحجة فيقولون: إنا نخشى عليك أن يخبلك آلهتنا كما قالت عاد لهود عليه السلام {أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 54] وسيأتي التعبير عنهم بالتانيث زيادة في توبيخهم.
ولما كان من الحق الواضح كالشمس أن ما قالوه لا يقوله عاقل، وكان التقدير: فقد أظلهم الله إهانة لهم وهداك إكراماً لك، بين أنه سبحانه قسرهم على ذلك ليكون إضلاله لهم آية كما أن هداه لمن هداه آية، فقال مخففاً عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إذهاب نفسه عليهم حسرات دامغاً للقدرية: {ومن يضلل الله} أي الذي له الأمر كله فلا يرد أمره {فما له} لأجل أنه هو الذي أضله {من هاد} أي فخفض من حزنك عليهم {ومن يهد الله} أي الذي لا يعجزه شيء أبداً {فما له من مضل} فهو سبحانه يهدي من شاء منهم إن أراد.
ولما لم تبق شبهة ولا شيء من شك أن الهادي المضل إنما هو الله وحده وأنه جعل شيئاً واحداً سبباً لضلال قوم ليكون ضلالهم(16/510)
في الظاهر علة للنقمة، وهدى لآخرين فيكون هداهم سبباً للنعمة، بلغ النهاية في الحسن قوله: {أليس الله} أي الذي بيده كل شيء {بعزيز} أي غالب لما يريد في إضلاله قوماً يدعون أنهم النهاية في كمال العقول لما هدى به غيرهم {ذي انتقام *} أي له هذا الوصف، فمن أراد النقمة منه سلط عليه ما يريد مما يحزنه ويذله كما أنه إذا أراد يعميه عن أنور النور ويضله.(16/511)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
ولما علم بهذه البراهين أنه سبحانه المتصرف في المعاني بتصرفه في القلوب بالهداية والإضلال، وكان التقدير: فلئن قررتم بهذا الاستفهام الإنكاري ليقولن: بلى! عطف عليه بيان أن الخالق للذات كما أنه المالك للمعاني والصفات، فقال مفسداً لدينهم باعترافهم بأصلين: القدرة التامة له والعجز الكامل لمعبوداتهم: {ولئن سألتهم} أي فقلت لمن شئت منهم فرادى أو مجتمعين: {من خلق السماوات} أي على ما لها من الاتساع والعظمة والارتفاع {والأرض} على ما لها من العجائب وفيها من الانتفاع {ليقولن} بعد تخويفهم لك بشركائهم الذين هم من جملة خلق من أرسلك بما أنت فيه: الذي خلقها {الله} أي وحده الذي لا سمي له وإلباس بوجه في أمره، ولا يصدهم عن ذلك الحياء من التناقض ولا الخوف من التهافت بالتعارض.(16/511)
ولما كان هذا مخيراً لأن بين ولا بد أنهم لا يقبلون ولا يعرضون كان كأنه قيل: فماذا أصنع؟ فقال: {قل} مسبباً عن اعترافهم له سبحانه بجميع الأمر قوله مقرراً بالفرع بعد إقرارهم بالأصل ومقرعاً بتخويفهم ممن ليس له أمر بعقد ولا حل: {أفرءيتم} .
ولما كان السائل النصوح ينبغي له أنه ينبه الخصم على محل النكتة لينتبه من غفلته فيرجع عن غلطته عبر بأداة ما لا يعقل عن معبوداتهم بعد التعبير عنها سابقاً بأداة الذكور العقلاء بياناً لغلطهم، فقال معبراً عن مفعول {رأيت} الأول والثاني جملة الاستفهام، {ما تدعون} أي دعاء عبادة، وقرر بعدهم عن التخويف بهم بادعاء إلهيتهم بقوله: {من دون الله} أي الذي هو ذو الجلال والإكرام فلا شيء إلا وهو من دونه وتحت قهره، ولما كانت العافية أكثر من البلوى، أشار إليها بأداة الشك ونبه على مزيد عظمته سبحانه بإعادة الاسم الأعظم فقال: {إن أرادني الله} أي الذي لا راد لأمره ولما كان درأ المفاسد مقدماً قال: {بضر} أي إن أطعتكم في الجنوح إليها خوفاً منها، وبالغ في تنبيههم نصحاً لهم ليرجعوا عن ظاهر غيهم بما ذكر من دناءتها وسفولها بالتأنيث بعد سفولها بعدم العقل مع دناءتها وبعد التهكم بهم بالتعبير عنها بأداة الذكور العقلاء فقال:(16/512)
{هل هن} أي هذه الأوثان التي تعبدونها {كاشفات} أي عني مع اعترافكم بأنه لا خلق لها وأنها مخلوقة لله تعالى {ضره} أي الذي أصابني به نوعاً من الكشف، لأرجوها في وقت شدتي {أو أرادني برحمة} لطاعتي إياه في توحيده، وخلع ما سواه من عبيده {هل هن ممسكات} أي عني {رحمته} أي لأجل عصياني لهن نوع إمساك، لأطيعكم في الخوف منهن - هذه قراءة أبي عمرو بالتنوين وإعمال اسم الفاعل بنصب ما بعده، وهو الأصل في اسم الفاعل، والباقون بالإضافة، ولا فائدة غير التخفيف، وقد يتخيل منها أن الأوثان مختصة بهذا المعنى معروفة.
ولما كان من المعلوم أنهم يسكتون عند هذا السؤال لما يعلمون من لزوم التناقض أن أجابوا بالباطل، ومن بطلان دينهم أن أجابوا بالحق، وكان الجواب قطعاً عن هذا: لا سوء نطقوا أو اسكتوا، تحرر أنه لا متصرف بوجه إلا الله، فكانت النتيجة قوله: {قل} إذا ألقمتهم الحجر: {حسبي} أي كافي {الله} الذي أفردته بالعبادة لأنه له الأمر كله مما يخوفونني به ومن غيره {عليه} وحده لأن له الكمال كله {يتوكل المتوكلون *} أي الذين يريدون أن يعلو أمرهم كل أمر، وأمره بالقول إعلاماً بأن حالهم عند هذا السؤال التناقض(16/513)
الظاهر جداً.
ولما كانوا مع هذه الحجج القاطعة، والأدلة القامعة والبراهين الساطعة، التي لا دافع لها بوجه، كالبهائم لا يبصرون إلا الجزئيات حال وقوعها، قال مهدداً مع الاستعطاف: {قل يا قوم} أي يا أقاربي الذين أرتجيهم عند الملمات وفيهم كفاية في القيام بما يحاولونه {اعملوا} أي افعلوا افعالاً مبنية على العلم {على مكانتكم} أي حالتكم التي ترتبتم فيها وجمدتم عليها لأنه جبلة لكم من الكون والمكنة لتبصروا حقائق الأمور، فتنتقلوا عن أحوالكم السافلة إلى المنازل العالية، فكأنه يشير إلى أنهم كالحيوانات العجم، لا اختيار لهم ويعرّض بالعمل الذي مبناه العلم والمكانة التي محطها الجمود بأن أفعالهم ليس فيها ما ينبني على العلم، وإنما هي جزاف لا اعتبار لها ولا وزن لها. ثم أجاب من عساه أن يقول له منهم: فماذا تعمل أنت؟ بقوله: {إني عامل} على كفاية الله لي، ليس لي نظر إلى سواه، ولا أخشى غيره، وليس لي مكانة ألتزم الجمود عليها، بل أنا واقف على ما يرد من عند الله، إن نقلني انتقلت وإن أمرني بغير ذلك امتثلت وأنا مرتقب كل وقت للزيادة، ثم سبب عن قول من لعله يقول منهم: وماذا عساه يكون قوله؟ إيذاناً بأنه على ثقة من أمره، لأن المخبر له به الله: {فسوف تعلمون *} أي بوعد لا خلف فيه(16/514)
{من يأتيه} أي منا ومنكم {عذاب يخزيه} بأن يزيل عنه كل شيء يمكنه أن يستعذبه {ويحل عليه} أي يجب في وقته، من حل عليه الحق يحل بالكسر أي وجب، والدين: صار حالاً بحضور أجله {عذاب مقيم *} لإقامته على حالته وجموده على ضلالته، ومن يؤتيه الله انتصاراً يعليه وينقله إلى نعيم عظيم، لانتقاله بارتقائه في مدارج الكمال، بأوامر ذي الجلال والجمال، ولقد علموا ذلك في قصة المستهزئين ثم في وقعة بدر فإن من أهلكه الله منهم جعل إهلاكه أول عذابه ونقله به إلى عذاب البرزخ ثم عذاب النار، فلا انفكاك له من العذاب، ولا رجاء لحسن المآب.
ولما تجلت عرائس هذه المعاني آخذة بالألباب، ولمعت سيوف تلك المباني من المثاني قاطعة الرقاب، وختمها بما ختم من صادع الإرهاب، أنتجت ولا بد قوله معللاً لإتيان ما توعدهم به مؤكداً لما لهم من الإنكار لمضمون هذا الإخبار: {إنا أنزلنا} أي بما لنا من باهر العظمة ونافذ الكلمة.
ولما كان توسط الملك خفياً. لم يعده فأسقط حرف الغاية إفهاماً لأنه في الحقيقة بلا واسطة بعد أن أثبت وساطته أول السورة فقال مقروناً بالأمر بالعبادة إشارة إلى بداية الحال، فلما حصل التمكن فصار الكتاب خلقاً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصار ظهوره فيه هادياً لغيره، نبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال: {عليك} أي خاصة(16/515)
لا على غيرك من أهل هذا الزمان، لأنك عندنا الخالص لنا دون أهل القريتين ودون أهل الأرض كلهم، لم يكن لشيء دوننا فيك حظ {الكتاب} الجامع لكل خير لكونه في غاية الكمال بما دل عليه «ال» {للناس} عامة لأن رسالتك عامة {بالحق} مصاحباً له، لا يقدر الخلق على أن يزيحوا معنى من معانيه عن قصده، ولا لفظاً من ألفاظه عن سبيله وحده، بل هو معجز في معانيه - حاضرة كانت أو غائبه - ونظومه، وألفاظه وأسماء سوره وآياته وجميع رسومه، فلا بد من إتيان ما فيه من وعد ووعيد.
ولما تسبب عن علم ذلك وجوب المبادرة إلى الإذعان له لفوز الدارين، حسن جداً قوله تعالى تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعظيم ما له من الشفقة عليهم وتهديداً لهم: {فمن اهتدى} أي طاوع الهادي {فلنفسه} أي فاهتداؤه خاص نفعه بها ليس له فيه إلا أجر التسبب {ومن ضل} أي وقع منه ضلال بمخالفته لداعي الفطرة ثم داعي الرسالة عن علم وتعمد، أو إهمال للنظر وتهاون. ولما كان ربما وقع في وهم أنه يحلق الداعي بعد البيان ومن إثم الضال، وكان السياق لتهديد الضالين. زاد في التأكيد فقال: {فإنما يضل عليها} أي ليس عليك شيء من ضلاله، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
ولما هدى السياق إلى أن التقدير: فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم(16/516)
على الهدى، عطف عليه قوله: {وما أنت} أي في هذا الحال، ولمزيد العناية بنفي القهر أداة الاستعلاء فقال: {عليهم بوكيل *} لتحفظهم عن الضلال، فإن الرسالة إليهم لإقامة الحجة لا لقدرة الرسول على هدايتهم ولا لعجز المرسل عن ذلك.(16/517)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
ولما كان الوكيل في الشيء لا تصلح وكالته فيه إلا إن كان قادراً عليه بطريق من الطرق، وكان حفظهم على الهدى وعن الضلال لا يكون عليه إلا لحاضر لا يغيب ولا يعتريه نوم ولا يطرقه موت، لم تصح وكالة أحد من الخلق فيه، وكان كأنه قيل: لأنه لو وكل إليك أمرهم لضاعوا عند نومك وموتك، فدل عليه بما أدى معناه وزاد عليه من الفوائد ما يعرف بالتأمل من تشبيه الهداية بالحياة واليقظة والضلال بالموت والنوم، فكما أنه لا يقدر على الإماتة والإنامة إلا الله فكذلك لا يقدر على الهداية والإضلال إلا الله، فمن عرف هذه الدقيقة عرف سر الله في القدرة، ومن عرف السر فيه هانت عليه المصائب، فهي تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لفت القول إلى التعبير بالاسم الأعظم لاقتضاء الحال له، وأسند التوفي إليه سبحانه لأنه في بيان أنه لا يصلح للوكالة غيره أصلاً، فقال: {الله} أي الذي له مجامع الكمال، وليس لشائبة نقص إليه سبيل {يتوفى الأنفس} التي ماتت عند انقضاء(16/517)
آجالها، أي يفعل في وفاتها فعل من يجتهد في ذلك بأن يقبضها وافية لا يدع شيئاً منها في شيء من الجسد، وعبر عن جمع الكثرة بجمع القلة إشارة إلى أنها وإن تجاوزت الحصر فهي كنفس واحدة، ولعله لم يوحده لئلا يظن أن الوحدة على حقيقتها {حين موتها} أي منعها من التصرف في أجسادها في هذه الحياة الدنيا كائنة في مماتها محبوسة فيه مظروفة له، وعطف على الأنفس قوله: {والتي} أي ويتوفى الأنفس التي {لم تمت} لأنها لم تنقض آجالها حين نومها كائنة {في منامها} بمنعها من التصرف بالحس والإدراك ما دام النوم موجوداً مظروفة له لا شيء منها في الجسد على حال اليقظة، فالجامع بينهما عدم الإدراك والشعور والتصرف، ولو قيل: بموتها وبمنامها، لم يفد أن كلاًّ من الموت والوفاة آية مغايرة للأخرى.
ولما كان النوم منقضياً، دلنا بقرانه بالموت على أن الموت أيضاً منقض، ولا بد لأن الفاعل لكل منهما واحد، فسبب عن ذلك قوله: {فيمسك} أي فيتسبب عن الوفاتين أنه يمسك عنده {التي قضى} أي ختم وحكم وبت بتاً مقدراً مفروغاً منه، وقراءة البناء للمفعول موضحة لهذا المعنى بزيادة اليسر والسهولة {عليها الموت} مظروفة لمماتها، لا تقدر على تصريف جسدها ما دام الموت محيطاً بها كما أن النائمة كذلك ما دام النوم محيطاً بها {ويرسل الأخرى} أي التي أخر موتها، وجعلها مظروفة للمنام لأنها لم ينقض أجلها(16/518)
الذي ضربه لها بأن يفنى بالمنام فيوقظها لتصريف أبدانها، ويجعل ذلك الإمساك للميتة، والإرسال للنائمة {إلى أجل مسمى} لبعث الميتة ولموت النائمة، لا يعلمه غيره، فإذا جاء ذلك الأجل أمات النائمة وبعث الميتة، وقد ظهر من التقدير الذي هدى إليه قطعاً السياق أن النفس التي تنام هي التي تموت وهي الروح، قال ابن الصلاح في فتاويه: وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنّة - انتهى.
روى الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن ابن عباس رضي الله الله عنهما قال: تلتقي أرواح الأحياء والأموات، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل» باسمك ربي وضعت جنبي اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين «» وظهر أيضاَ أن الآية من الاحتباك: ذكر الحين أولاً دليلاً على تقدير مثله في النوم ثانياً، والمنام ثانياً دليلاً على حذف الممات أولاً.
ولما تم هذا على الأسلوب الرفيع، والنظم المنيع، نبه على عظمته وما فيه من الأسرار بقوله مؤكداً قرعاً بمن يرميه بالأساطير وغيرها من الأباطيل: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الوفاة(16/519)
والنوم على هذه الكيفية والعبارة عنه على هذا الوجه {لآيات} أي على أنه لا يقدر على الإحياء والحفظ غيره، وأنه قادر على البعث وغيره من كل ما يريده {لقوم} أي ذوي قوة في مزاولة الأمور. ولما كان هذا الأمر لا يحتاج إلى غير تجريد النفس من الشواغل والتدبر قال: {يتفكرون *} أي في عظمة هذا التدبير ليعلم به عظمة الله، وذلك أن النفس جوهر روحاني له في التعلق بالبدن ثلاث حالات: إحداهما أن يقع ضوء النفس على البدن ظاهراً وباطناً، وذلك هو الحياة مع اليقظة، وثانيتها انقطاع ضوء النفس عن البدن ظاهراً لا باطناً، وذلك بالنوم، وثالثها انقطاع ذلك ظاهراً وباطناً وهو بالموت، فالموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام، والنوم انقطاع ناقص، فلا يقدر على إيجاد شيء واحد على نوعين، ثم يجعلهما في شيء واحد على التعاقب ويفصل كلاًّ منهما من الآخر إلا هو سبحانه، وكلما قدر على إنهاء الموتة الصغرى بحد جعله لها فهو قادر على إنهاء الكبرى بمثل ذلك.
ولما أنتج هذا ولا بد نحو أن يقال توعداً لهم: هل علموا أنه لا يقوم شيء مقامه، ولا يكون شيء إلا بإذنه، ولا يقرب أحد من القدرة على شيء من فعله، فكيف بالقرب من رتبته فضلاً عن(16/520)
مماثلته، فرجعوا عن ضلالهم، عادله بقوله: {أم اتخذوا} أي كلفوا أنفسهم بعد وضوح الدلائل عندها أن أخذوا {من دون الله} أي الذي لا مكافئ له مداني {شفعاء} أي تقربهم إليه زلفى في الدنيا وفي الآخرة على تقدير كونها مع قيام الأدلة الشهودية عندهم على أنه لا يشفع أحد إلا عند من يصح أن يكافئه بوجه من الوجوه، ولذلك نبه على المعنى بقوله معرضاً عنهم إشارة إلى سفولهم عن الفهم: {قل أولو} أي أيتخذونهم لذلك ولو {كانوا لا يملكون شيئاً} أي لا تتجدد لهم هذه الصفة {ولا يعقلون *} كما يشاهد من حال أصنامكم.
ولما نفى صلاحية أصنامهم لهذا الأمر، أشار إلى نفيه عما سواه بقصر الأمر عليه فقال: {قل لله} أي المحتوي على صفات الكمال وحده {الشفاعة} أي هذا الجنس {جميعاً} فلا يملك أحد سواه منها شيئاً لكنه يأذن إن شاء فيما يريد منها لمن لمن يشاء من عباده. ولما كان كل ما سواه ملكاً له، وكان من المقرر أن المملوك لا يصح أن يملك شيئاً يملكه سيده، لأن الملكين لا يتواردان على شيء واحد من جهة واحدة، علل ذلك بقوله: {له} أي وحده {ملك السماوات والأرض} أي التي لا تشاهدون من ملكه سواهما والشفاعة من ملكهما.(16/521)
ولما كان المملوك ملكاً ضعيفاً قد يتغلب على مالكه فيناظره فيتأهل للشفاعة عنده، نفى ذلك في حقه سبحانه بقوله دالاًّ على عظمة القهر بأداة التراخي فقال: {ثم إليه} أي لا إلى غيره {ترجعون *} معنى في الدنيا بأن ينفذ فيكم جميع أمره وحساً ظاهراً ومعنى في الآخرة.(16/522)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
ولما دل على أن شفعاءهم ليست بأهل للشفاعة، وعلى أن الأمر كله مقصور عليه، وختم بأنه لا بد من الرجوع إليه المقتضي لأن تصرف الهمم كلها نحوه، وتوجه العزائم جميعها تلقاءه، ولأنه لا يخشى سواه ولا يرجى غيره، ذكر حالاً من أحوالهم فقال: {وإذا} أي الحال ما ذكرناه وإذا {ذكر} وأعاد الاسم الأعظم ولم يضمره تعظيماً لأمره زيادة في تقبيح حالهم فقال: {الله} أي الذي لا عظيم غيره ولا أمر لسواه {وحده} أي دون شفعائهم التي قد وضح أنه لا شفاعة لهم: {اشمأزّت} أي نفرت كراهية وذعراً واستكباراً مع تمعر الوجه وتقبضه قلوبهم - هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {قلوب الذين لا يؤمنون} أي لا يجددون إيماناً {بالآخرة} بياناً لأن الحامل لهم على ذلك إضاعة اعتقاد ما ختم به الآية من الرجوع(16/522)
إليه الذي أتمه وأظهره رجوع الآخرة {وإذا ذكر الذين} وبكت بهم في رضاهم بالأدنى فقال: {من دونه} أي الأوثان، وأكد فرط جهلهم في اتباعهم الباطل وجمودهم عليه دون تلبث لنظر في دليل، أو سماع لقال أو قيل، بقوله: {إذا هم} أي بضمائرهم المفيضة على ظواهرهم {يستبشرون *} أي فاجؤوا طلب البشر وإيقاعه وتجديده على سبيل الثبات في ذلك كله سواء ذكر معهم الله أو لا، فالاستبشار حينئذ إنما هو بالانداد، والاشمئزاز والاستبشار متقابلان لأن الاشمئزاز: امتلاء القلب غماً وغيظاً فيظهر أثره، وهو الانقباض في أديم الوجه، والاستبشار: امتلاء القلب سروراً حتى يظهر أثره، وهو الانبساط والتهلل في الوجه - قال الزمخشري، والعمل في «إذا» الأولى هو العامل في الفجائية، أي فاجؤوا الاستبشار وقت هذا الذكر، وعبر بالفعل أولاً وبالاسمية ثانياً، ليفيد ذمهم على مطلق الاشمئزاز ولو كان على أدنى الأحوال، وعلى ثبات الاستبشار تقبيحاً لمطلق الكفر، ثم الثبات عليه فتحاً لباب التوبة.
ولما نفى صلاحية الوكالة على الناس في الهدى والضلال لغيره ودل على ذلك بملكه وملكه وأخبر بتعمدهم الباطل، أنتج ذلك وجب اللجاء إليه والإعراض عما سواه وقصر العزم عليه فقال(16/523)
معلماً بذلك ومعلماً لما يقال عند مخالفة الداعي باتباع الهوى: {قل} أي يا من نزل عليه الكتاب فلا يفهم عنا حق الفهم غيره راغباً إلى ربك في أن ينصرك عليهم في الدنيا والآخرة: {اللهم} أي يا الله، وهذا نداء محض ويستعمل أيضاً على نحوين آخرين - ذكرهما ابن الخشاب الموصلي في كتابه النهاية شرح الكفاية - أحدهما أن تذكر لتمكين الجواب في نفس السائل كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لضمام بن ثعلبة رضي الله عنه حيث قال: «الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس، فقال: اللهم نعم»
- إلى آخر ما قاله له، وسره أن المسؤول إذا ذكر الله في جوابه. كان ذكره إياه أبعث للسائل على تصديقه لأنه أوقر في صدره إن لم يتصد لذكر الله ولم يكن بصدده، وهو ممن يدين باستعمال الكذب، والثاني أن يدل به على الندرة وقلة وقوع المذكور كقول المصنفين: لا يكون كذا اللهم إلا إذ كان كذا - كأنه استغفر الله من جزمه أو لا يسد الباب في أنه لا يكون غير ما ذكره فقال: اللهم اغفر لي فإنه يمكن أن يكون كذا - انتهى. ثم أبدل عند سيبويه ووصف عند غيره فقال: {فاطر} أي مبدع من العدم {السماوات} أي كلهم {والأرض} أي جنسها. ولما كانت القدرة(16/524)
لا تتم إلا بتمام العلم قال: {عالم الغيب والشهادة} أي ما لا يصح علمه للخلق وما يصح.
ولما كان غيره سبحانه لا يمكن له ذلك، حسن التخصيص في قوله: {أنت} أي وحدك {تحكم بين عبادك} أي أنا وهم وغيرنا في الدنيا والآخرة لا محيص عن ذلك ولا يصح في الحكمة سواه كما أن كل أحد يحكم بين عبيده ومن تحت أمره لا يسوغ في رأيه غير ذلك {في ما كانوا} أي دائماً بما اقتضته جبلاتهم التي جبلتهم عليها {فيه يختلفون *} وأما غيرك فإنه لا يعلم جميع ما يفعلون، فلا يقدر على الحكم بينهم، وأما غير ما هم عريقون في الاختلاف فيه فلا يحكم بينهم فيه لأنه أما ما هيؤوا بفطرهم السليمة وعقولهم القويمة للاتفاق عليه فهو الحق وأما ما يعرض لهم الاختلاف فيه لا على سبيل القصد أو بقصد غير ثابت فهو مما تذهبه الحسنات فعرف أن تقديم الظرف إنما وهو للاختصاص لا الفاصلة.
ولما كان التقدير: فيعذب الظالمين فلو علموا ذلك لما ظنوا بادعائهم له سبحانه ولداً وشركاء يقربونهم إليه زلفى منهم بجلاله ونزاهته عما ادعوه له وكماله، عطف عليه تهويلاً للأمر قوله: {ولو أن} وكان الأصل: لهم - ولكنه قال تعميماً وتعليقاً بالوصف: {للذين ظلموا} أي وقعوا(16/525)
في الظلم في شيء من الأشياء ولو قال {ما في الأرض} ولما كان الأمر عظيماً أكد ذلك بقوله: {جميعاً} وزاد في تعظيمه بقوله: {ومثله} وقال: {معه} ليفهم بدل الكل جملة لا على سبيل التقطيع {لافتدوا} أي لاجتهدوا في طلب أن يفدوا {به} أنفسهم {من سوء العذاب} وبين الوقت تعظيماً له وزيادة في هوله فقال: {يوم القيامة} روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذاباً: لو أن لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت صلب آدم عليه السلام أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي»
قوله: أردت أي فعلت معك بالأمر فعل المريد وهو معنى قوله في رواية: قد سألتك.
ولما كان التقدير: ولو كان لهم ذلك وافتدوا به ما قبل منهم ولا نفعهم، ولأن ذلك الوقت وقت الجزاء لا وقت العمل، واليوم وقت العمل لا وقت الجزاء، فلو أنفقوا فيه أيسر شيء على وجهه قبل منهم، عطف عليه من أصله لا على جزائه قوله معظماً الأمر بصرف القول إلى الاسم الأعظم: {وبدا} أي ظهر ظهوراً تاماً {لهم} في ذلك اليوم {من الله} أي الملك الأعظم، وهول أمره بإبهامه ليكون ضد {فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] فقال: {ما لم يكونوا} بحسب(16/526)
جبلاتهم وما فطروا عليه من الإهمال والتهاون {يحتسبون *} أي لم يكن في طبائعهم أن يتعمدوا أن يحسبوه وتجوزه عقولهم من العذاب، وما كان كذلك كان أشق على النفس وأروع للقلب {وبدا لهم} أي ظهر ظهوراً تاماً كأنه في البادية لا مانع منه {سيئات ما} ولما كان في سياق الافتداء، وكان الإنسان يبذل عند الافتداء في فكاك نفسه الرغائب والنفائس، عبر هنا بالكسب الذي من مدلوله الخلاصة والعصارة التي هي سر الشيء فهو أخص من العمل، ولذا جعله الأشعري مناط الجزاء، فقال مبيناً أن خالص عملهم ساقط فكيف بغيره، وهذا بخلاف ما في الجاثية {كسبوا} أي الشيء الذي عملوه برغبة مجتهدين فيه لظنهم نفعه وأنه خاص أعمالهم وأجلها وأنفعها {وحاق} أي أحاط على جهة اللزوم والأذى {بهم ما} أي جزاء الشيء الذي {كانوا به} أي دائماً كأنهم جبلوا عليه {يستهزئون *} أي يطلبون ويوجدون الهزء والسخرية به من النار وجميع ما كانوا يتوعدون به.
ولما أخبر عن ظهور هذا لهم، علله بأنهم كانوا يفعلون ما لم يكن في العادة يتوقع منهم، وهو مجازاة الإحسان بالإساءة وقد كانوا جديرين(16/527)
بضده فقال: {فإذا} أي وقع لهم ذلك بسبب أنهم إذا مسهم، ولكنه أخبر عن النوع الذي هم منه بما هو مطبوع عليه فقال: {مس الإنسان ضر} أيّ ضر كان من جهة يتوقعها كما تقدم في التي في أول السورة، ويجوز أن يكون مسبباً عن الإخبار بافتدائهم بما يقدرون عليه وأن يكون مسبباً عن اشمئزازهم من توحيد الله تعجيباً من حالهم في تعكيسهم وضلالهم، وتقدم في الآية التي في أول السورة سر كونها بالواو، ولفت القول إلى مظهر العظمة دالاً على أن أغلب الناس لا يرجى اعترافه بالحق وإذعانه لأهل الإحسان إلا إذا مس بأضرار فقال: {دعانا} عالماً بعظمتنا دون آلهته مع اشمئزازه من ذكرنا واستبشاره بذكرها.
ولما كان ذلك الضر عظيماً يبعد الخلاص عنه من جهة أنه لا حيلة لمخلوق في دفعه، أشار إلى عظمته وطول زمنه بأداة التراخي فقال مقبحاً عليه نسيانه للضر مع عظمه في نفسه ومع طول زمنه: {ثم إذا خولناه} أي أعطيناه على عظمتنا متفضلين عليه محسنين القيام بأمره وجعلناه خليقاً بحاله جديراً بتدبيره على غير عمل عمله محققين لظنه الخير فينا وأحسنا تربيتنا له والقيام عليه مع ما فرط(16/528)
في حقنا {نعمة منا} ليس لأحد غيرنا فيها شائبة منّ ولولا عظمتنا ما كانت {قال} ناسياً لما كان فيه من الضر وإن كان قد طال أمده، قاصراً لها على نفسه غير متخلق بما نبهناه على التخلق به من إحساننا إليه وإقبالنا عليه عند إذعانه، مذكراً لضميرها تفخيماً لها، وبنى الفعل للمجهول إشارة إلى أنه لا نظر له في تعرف المعطي من هو يشكره، وإنما نظره في عظمة النعمة وعظمة نفسه، وإنها على مقدار ما: {إنما أوتيته} أي هذا المنعم به عليّ الذي هو كبير وعظيم لأني عظيم فأنا أعطي على مقداري، و «ما» هي الزائدة الكافة لأن للدلالة على الحصر، ويجوز أن تكون موصولة هي اسم إن وخبرها قوله: {على} إي إيتاء مستعلياً متمكناً على {علم} أي عظيم، وجد مني بطريق الكسب والاجتهاد ووجوده الطلب والاحتيال، فكان ذلك سبباً لمجيئه إليّ أو علم من الله باستحقاقه له.
ولما كان التقدير: ليس كذلك ولا هي نعمة، قال دالاً على شؤم ذلك المعطي وحقارته لأنه من أسباب إضلاله بالتأنيث(16/529)
{بل هي} أي العطية والنعمة {فتنة} لاختباره هل يشكر أم يكفر لتقام عليه الحجة. فإن أدت إلى النار كانت استدراجاً، وأنث الضمير تحقيراً لها بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى ولأنها أدت إلى الغرور بعد أن ذكر ضميرها أولاً تعظيماً لها لإيجاب شكرها.
ولما كان من المفتونين من ينتبه وهم الأقل، قال جامعاً تنبيهاً على إرادة الجنس وأن تعبيره أولاً بإفراد الضمير إشارة إلى أن أكثر الناس كأنهم في ذلك الخلق النحس نفس واحدة: {ولكن أكثرهم} أي أكثر هؤلاء القائلين لهذا الكلام {لا يعلمون *} أي لا يتجدد لهم علم أصلاً لأنهم طبعوا على الجلافة والجهل والغباوة، فلو أنهم إذا دعونا وهم في جهنم أجبناهم وأنعمنا عليهم نعمتنا ونسبوها إلى غيرنا كما كانوا يفعلون في الدنيا سواء.(16/530)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
ولما كان كفار قريش مقصودين بهذا قصداً عظيماً وإن كان شاملاً بإطلاقه غيرهم من الأولين والآخرين قال موضحاً لذلك: {قد قالها} أي مقالتهم {إنما أوتيته على علم} {الذين من قبلهم} أي ممن هو أشد منهم قوة وأكثر جمعاً كما قال قارون ومن رضي حاله فتمنى ماله {فما أغنى عنهم} أي أولئك الماضين {ما كانوا} بما اقتضته(16/530)
جبلاتهم {يكسبون *} أي يجددون على الاستمرار كسبه من المال والجاه وإن كان مليء السهل والجبل: {فأصابهم} أي إصابة شديدة بما دل عليه تذكير الفعل - أي تسبب عن عدم الإغناء أنه أصابهم {سيئات ما كسبوا} أي وبال ذلك وما يسوء من آثاره {والذين ظلموا} أي أوقعوا الأشياء في غير محالها {من هؤلاء} أي قومك الذين لا يتدبرون القرآن فإنهم لو تدبروا آياته عرفوا ولكن سبق عليهم العمى {سيصيبهم} أي إصابة شديدة جداً بوعد لا خلف فيه كما أصاب من قبلهم {سيئات ما كسبوا} أي عملوا من الأشر والبطر فيه أعمال من يظن أنه لا تناله مصيبة في الدنيا وأنه لا يبعث إلى ما أعددنا له من الأهوال في الآخرة، ولقد أصابهم ذلك، فأول ما أصابهم ما كشف عنه الزمان من وقعة بدر ثم ما تبعه إلى ما لا آخر له.
ولما ثبت أن الضار النافع إنما هو الله، من شاء أعطاه، ومن شاء منعه، ومن شاء استلبه ووضعه بعد ما رفعه، وكان التقدير: ألم(16/531)
يعلموا أن ما جمعه من قبلهم لم يدفع عنهم أمر الله، عطف قوله: {أولم} ولما كان السياق لنفي العلم عن الأكثر، وكان مقصود السورة بيان أنه صادق الوعد ومطلق العلم كافٍ فيه، عبر بالعلم بخلاف ما مضى في الروم فقال: {يعلموا} أي بما رأوا في أعمارهم من التجارب. ولفت الكلام إلى الاسم الأعظم تعظيماً للمقام ودفعاً للبس والتعنت بغاية الإفهام: {أن الله} أي الذي له الجلال والجمال {يبسط} أي هو وحده {الرزق} غاية البسط {لمن يشاء} وإن كان لا حيلة له ولا قوة {يقدر} أي يضيق مع النكد بأمر قاهر على من هو أوسع الناس باعاً في الحيل وأمكنهم في الدول، ومن المعلوم أنه لولا أن ذلك كله منه وحده لما كان أحد ممن له قوة في الجسم وتمكن في العلم فقيراً أصلاً.
ولما كان هذا أمراً لا ينكره أحد، عده مسلماً وقال: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم، وأكده لأن أفعالهم أفعال من ينكر أن يكون فيه عبرة {لآيات لقوم} ذوي قوة وهمم عليه {يؤمنون *} أي هيئوا لأن يوجد منهم الإيمان فيجددوا التصديق في كل وقت تجديداً مستمراً بأن الأمور كلها من الله فيخافوه ويرجوه ويشكروه ولا يكفروه، وأما غيرهم فقد حقت عليه الكلمة بما هيىء له من عمل النار، فلا يمكنه الإيمان فليس له في ذلك آيات لأنها لا تنفعه.(16/532)
ولما حذر سبحانه في هذه السورة ولا سيما في هذه الآيات فطال التحذير، وأودعها من التهديد وصادع الإنذار والوعيد العظيم الكثير، وختم بالحث على الإيمان، والنظر السديد في العرفان، وكانت كثرة الوعيد ربما أيأست ونفرت وأوحشت، وصدت عن العطف وأبعدت، قال تعالى مستعطفاً مترفقاً بالشاردين عن بابه متلطفاً جامعاً بين العاطفين، كلام ذوي النعمة على لسان نبي الرحمة صارفاً القول إلى خطابه بعد أسلوب الغيبة: {قل} أي يا أكرم الخلق وأرحمهم بالعباد، ولفت عما تقتضيه «قل» من الغيبة إلى معنى الخطاب زيادة في الاستعطاف، وزاد في الترفق بذكر العبودية والإضافة إلى ضميره عرياً عن التعظيم فقال: {يا} أي ربكم المحسن إليكم يقول: يا {عبادي} فلذذهم بعد تلك المرارات بحلاوة الإضافة إلى جنابه تقريباً من بابه. ولما أضاف، طمع المطيعون أن يكونوا هم المقصودين، فرفعوا رؤوسهم، ونكس العاصون وقالوا: من نحن حتى يصوب نحونا هذا المقال؟ فقال تعالى جابراً لهم: {الذين أسرفوا} أي تجاوزوا الحد في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى صارت لهم أحمال ثقال {على أنفسهم} فأبعدوها عن الحضرات الربانية، وأركسوها في الدنايا الشيطانية، فانقلب الحال، فهؤلاء الذين نكسوا رؤوسهم انتعشوا وزالت ذلتهم والذين رفعوا(16/533)
رؤوسهم أطرقوا وزالت صولتهم - قاله القشيري، وأفهم تقييد الإسراف أن الإسراف على الغير لا يغفر إلا بالخروج عن عهدة ذلك الغير {لا تقنطوا} أي ينقطع رجاؤكم وتيأسوا وتمتنعوا - وعظم الترجية بصرف القول عن التكلم وإضافة الرحمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الجلال والإكرام فقال: {من رحمة الله} أي إكرام المحيط بكل صفات الكمال، فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة، ولعظم المقام أضاف إلى الاسم الأعظم، ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد لظنهم أن كثرة الوعيد منعت الغفران، وحتمت الجزاء بالانتقام، وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للحال، وتأكيداً بما فيه من معنى الإحاطة والجمع لإرادة العموم: {إن الله} أي الجامع لجميع نعوت الجمال والجلال والإكرام، فكما أنه متصف بالانتقام وهو متصف بالعفو والغفران {يغفر} إن شاء {الذنوب} ولما أفهمت اللام الاستغراق أكده فقال: {جميعاً} ولا يبالي، لكنه سبق منه القول أنه إنما يغفر الشرك بالتوبة عنه، وأما غيره فيغفره إن شاء بتوبة وإن شاء بلا توبة، ولا يقدر أحد أن يمنعه من شيء من ذلك.
ولما كان لا يعهد في الناس مثل هذا بل لو أراد ملك من ملوك الدنيا العفو عن أهل الجرائم، قام عليه جنده فانحل عقده وانثلم حده،(16/534)
علل هذه العلة بما يخصه، فقال مؤكداً لاستبعاد ذلك بالقياس على ما يعهدون: {إنه هو} أي وحده {الغفور} أي البليغ المغفرة بحيث يمحو الذنوب مهما شاء عيناً وأثراً، فلا يعاقب ولا يعاتب {الرحيم *} أي المكرم بعد المغفرة ولا يقدر أحد أصلاً على نوع اعتراض عليه، ولا توجيه طعن إليه.(16/535)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
ولما كان التقدير: فأقلعوا عن ذنوبكم، فإنها قاطعة عن الخير، مبعدة عن الكمال، عطف عليه استعطافاً قوله دالاً على أن الغفران المتقدم إنما هو إذا شاء التفضل سبحانه بتوبة وبغير توبة: {وأنيبوا} أي ارجعوا بكلياتكم وكلوا حوائجكم وأسندوا أموركم واجعلوا طريقكم {إلى} ولفت الكلام إلى صفة الإحسان زيادة في الاستعطاف فقال: {ربكم} أي الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه {وأسلموا له} أي أوجدوا إسلام جميع ما ملكه لكم من الأعيان والمعاني متبرئين عنه لأجله فإنه لو شاء سلبكموه، فإذا لم تكونوا مالكيه ملكاً تاماً فعدوا أنفسكم عارية عنه غير مالكة له ولا قادرة، وكان الذي لكم بالإصالة ما كان.
ولما كان ذلك شديداً لأن الكف عما أشرفت النفس على بلوغ الوطر منه في غاية المرارة، قال مهدداً لهم دالاً بحرف الابتداء على(16/535)
رضاه منهم بإيقاع ما أقر به في اليسير من الزمان لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره الله حق قدره باستغراق الزمان في الطاعة وإن كان إبهام الأجل يحدو العاقل على استغراقه فيها: {من قبل أن يأتيكم} أي وأنتم صاغرون {العذاب} أي القاطع لكل العذوبة المجرّع لكل مرارة وصعوبة. ولما كان الإنسان ربما توقع ضرراً في إقدامه على ما له فيه لذة، وحاول دفعه، قال معظماً لهذا العذاب مشيراً بأداة التراخي إلى أنه لا يمكن دفعه ولو طال المدى: {ثم لا تنصرون *} أي لا يتجدد لكم نوع نصر أبداً.
ولما أمر برؤية الأمور كلها من الله وإسلام القياد كله إليه، أمر بما هو أعلى من ذلك، وهو المجاهدة بقتل النفس فقال: {واتبعوا} أي عالجوا أنفسكم وكلفوها أن تتبع {أحسن ما أنزل} واصلاً {إليكم} على سبيل العدل كالإحسان الذي هو أعلى من العفو الذي هو فرق الانتقام باتباع هذا القرآن الذي هو أحسن ما نزل من كتب الله وباتباع أحاسن ما فيه، فتصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من ظلمك، هذا في حق الخلائق ومثله في عبادة الخالق بأن تكون «كأنك تراه» الذي هو أعلى من استحضار «إنه يراك» الذي هو أعلى من أدائها مع الغفلة عن ذلك.(16/536)
ولما كان هذا شديداً على النفس، رغب فيه بقوله مظهراً صفة الإحسان موضع الإضمار: {من ربكم} أي الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم. ولما كان من النفوس ما هو كالبهائم لا ينقاد إلا بالضرب، قال منبهاً أيضاً علة رفقه بإثبات الجار: {من قبل أن يأتيكم} أي على ما بكم من العجز عن الدفاع {العذاب} أي الأمر الذي يزيل ما يعذب ويحلو لكم في الدنيا أو في الآخرة.
ولما كان الأخذ على غرة أصعب على النفوس قال: {بغتة} ولما كان الإنسان قد يشعر بالشيء مرة ثم ينساه فيباغته، نفى ذلك بقوله: {وأنتم لا تشعرون *} أي ليس عندكم شعور بإتيانه لا في حال إتيانه ولا قبله بوجه من الوجوه لفرط غفلتكم، ليكون افظع ما يكون على النفس لشدة مخالفته لما هو مستقر فيها وهي متوطنة عليه من ضده.
ولما كان للإنسان عند وقوع الخسران أقوال وأحوال لو تخيلها قبل هجومه لحسب حسابه فباعد أسبابه. علل الإقبال على الاتباع بغاية الجهد والنزاع فقال: {أن} أي كراهة أن {تقول} ولما كان الموقع للإنسان في النقصان إنما هو حظوظه وشهواته المخالفة لعقله، عبر بقوله: {نفس} أي عند وقوع العذاب لها، وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد {يا حسرتى} والتحسر: الاغتمام على ما فات والتندم عليه، وألحق الألف بدلاً من الياء(16/537)
تعظيماً له، أي يا طول غماه لانكشاف ما فيه صلاحي عني وبعده مني فلا وصول لي إليه لاستدراك ما فات منه، وذلك عند انكشاف أحوالها، وحلول أوجالها وأهوالها ودل على تجاوز هذا التحسر الحد قراءة أبي جعفر «حسرتاي» بالجميع بين العوض وهو الألف والمعوض عنه وهو الياء، وحل المصدر لأن ما حل إليه أصرح في الإسناد وأفخم، وأدل على المراد وأعظم، فقال: {على ما فرطت} أي بما ضيعت فانفرط مني نظامه، وتعذر انضمامه والتئامه.
ولما كان حق كل أحد قريباً منه حساً أو معنى حنى كأنه إلى جنبه، وكان بالجنب قوام الشيء ولكنه قد يفرط فيه لكونه منحرفاً عن الوجاه والعيان، فيدل التفريط فيه على نسبة المفرط لصاحبه إلى الغفلة عنه، وذلك أمر لا يغفر، قال: {في جنب} وصرف القول إلى الاسم الأعظم لزيادة التهويل بقوله: {الله} أي حق الملك الأعظم الذي هو غير مغفول عنه ولا متهاون به.
ولما كان المضرور المعذب المقهور يبالغ في الاعتراف، رجاء(16/538)
القبول والانصراف، قال مؤكداً مبالغة في الإعلام بالإقلاع عما كان يقتضيه حاله، ويصرح به مقاله، من أنه على الحق واجد الجد: {وإن} أي والحال أني {كنت} أي كان ذلك في طبعي {لمن الساخرين *} أي المستهزئين المتكبرين المنزلين أنفسهم في غير منزلتها، وذلك أنه ما كفاني المعصية حتى كنت أسخر من أهل الطاعة، أي تقول: هذا لعله يقيل منها ويعفي عنها على عادة المترققين في وقت الشدائد، لعلهم يعادون إلى أجمل العوائد.
ولما كانت النفس إذا وقعت في ورطة لا تدع وجهاً محتملاً حتى تتعلق بأذياله، وتمت بحباله وتفتر بمحاله، قال حاكياً كذبها حيث لا يغني إلا الصدق: {أو تقول} أي عند نزول ما لا قبل لها به {لو أن} وأظهر ولم يضمر إظهاراً للتعظيم وتلذذاً بذكر الاسم الشريف فقال: {الله} أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل {هداني} أي ببيان الطريق {لكنت} أي ملازماً ملازمة المطبوع على كوني {من المتقين *} أي الذي لا يقدمون على فعل ما لم يدلهم عليه دليل.(16/539)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
ولما ذكر حالها في الاعتراف بالبطلان، ثم الفزع إلى الزور(16/539)
والبهتان، أتبعه التمني الذي لا يفيد غير الخسران، فقال: {أو تقول} أي تلك النفس المفرطة {حين ترى العذاب} أي الذي هاجمها للرحمة أو النقمة: {لو أن} أي يا ليت {لي كرة} أي رجعة إلى دار العمل لأتمكن منه {فأكون} أي فيتسبب عن رجوعي إليها أن أكون {من المحسنين *} أي العاملين بالإحسان الذي دعا إليه القرآن، هذا الإعراب - وهو عطفه على الجواب - أوفق لبقية الآيات التي من سلكه.
ولما حذر سبحانه بما يكون للمأخوذ من سيىء الأحوال وفظيع الأهوال، وكان معنى ما تقدم من كذبه وتمنيه أنه ما جاءني بيان ولا كان لي وقت أتمكن فيه من العمل، قال تعالى مكذباً له: {بلى} أي قد كان لك الأمران كلاهما {قد جاءتك} ولفت القول إلى التكلم مع تجريد الضمير عن مظهر العظمة لما تقدم من موجبات استحضارها إعلاماً بتناهي الغضب بعد لفته إلى تذكير النفس المخاطبة المشير إلى أنها فعلت في العصيان فعل الأقوياء الشداد من التكذيب والكبر مع القدرة في الظاهر على تأمل الآيات، واستيضاح الدلالات، والمشي على طرق الهدايات بعد ما أشار تأنيثها إلى ضعفها عن حمل العذاب وغلبة النقائص لها فقال: {آياتي} على عظمتها في البيان الذي ليس مثله بيان في وقت كنت فيه متمكناً من العمل بالجنان واللسان والأركان(16/540)
{فكذبت بها} جرأة على الله وقلة مبالاة بالعواقب {واستكبرت} أي عددت نفسك كبيراً عن قبولها {وكنت} أي كوناً كأنه جبلة لك لشدة توغلك فيه وحرصك عليه {من الكافرين *} أي العريقين في ستر ما ظهر من أنوار الهداية للتكذيب تكبراً لم يكن لك مانع من الإحسان إلا ذلك لا عدم البيان ولا عدم الزمان القابل للعمل.
ولما كان قد تعمد الكذب عند مس العذاب في عدم البيان والوقت القابل، قال تعالى محذراً من حاله وحال أمثاله، ولفت القول إلى من لا يفهمه حق فهمه غيره تسلية له وزيادة في التخويف لغيره: {ويوم القيامة} أي الذي لا يصح في الحكمة تركه {ترى} أي يا محسن {الذين كذبوا} وزاد في تقبيح حالهم في اجترائهم بلفت القول إلى الاسم الأعظم فقال: {على الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال بأن وصفوه بما لا يليق به وهو منزه عنه من أنه فعل ما لا يليق بالحكمة من التكليف مع عدم البيان، ومن خلق الخلق يعدو بعضكم على بعض من غير حساب يقع فيه الإنصاف بين الظالم والمظلوم، أو ادعوا له شريكاً أو نحو ذلك، قال ابن الجوزي: وقال الحسن: هم الذين يقولون: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل - انتهى، وكأنه عنى المعتزلة الذين اعتزلوا مجلسه وابتدعوا قولهم: إنهم يخلقون أفعالهم، ويدخل فيه كل من تكلم في الدين بجهل، وكل من كذب وهو(16/541)
يعلم أنه كاذب في أيّ شيء كان، فإنه من حيث إن فعله فعل من يظن أن الله لا يعلم كذبه أو لا يقدر على جزائه كأنه كذب على الله - تراهم بالعين حال كونهم {وجوههم مسودة} مبتدأ وخبر، وهو حال الموصول أي ثابت سوادها زائد البشاعة والمعظم في الشناعة بجعل ذلك إمارة عليهم ليعرفهم من يراهم بما كذبوا في الدنيا فإنهم لم يستحيوا من الكذب المخزي، أليس ذلك زاجراً عن مطلق الكذب فكيف بالكذب على الله الذي جهنم سجنه فكيف بالمتكبرين عليه {أليس في جهنم} أي التي تلقى فيها بالتجهم والعبوسة {مثوى} أي منزل {للمتكبرين *} الذي تكبروا على اتباع أمر الله.
ولما ذكر حال الذين أشقاهم، أتبعهم حال الذين أسعدهم، فقال عاطفاً لجملة على جملة لا على «ترى» المظروف ليوم القيامة، إشارة إلى أن هذا فعله معهم في الدارين وإشارة إلى كثرة التنجية لكثرة الأهوال كثرة تفوت الحصر: {وينجي} أي مطلق إنجاء لبعض من اتقى بما أشارت إليه قراءة يعقوب بالتخفيف، وتنجية عظمية لبعضهم بما أفادته قراءة الباقين بالتشديد، وأظهر ولم يضمر زيادة على تعظيم حالهم وتسكين قلوبهم {الله} أي يفعل بما له من صفات الكمال في نجاتهم فعل المبالغ في ذلك {الذين اتقوا}(16/542)
أي بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه فكما وقاهم في الدنيا من المخالفات حماهم هناك من العقوبات {بمفازتهم} أي بسبب أنهم عدوا أنفسهم في مفازة بعيدة مخوفة فوقفوا فيها عن كل عمل إلا بدليل لئلا يمشوا بغير دليل فيهلكوا، فأدتهم تقواهم إلى الفوز، وهو الظفر بالمراد وزمانه ومكانه الذي سميت المفازة به تفاؤلاً، ولذلك فسر ابن عباس رضي الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة لأنها سبب الفوز، وقرئ بالجمع باعتبار أنواع المصدر، وذلك كله بعناية الله بهم في الدارين، فمفازة كل أحد في الأخرى على قدر مفازته بالطاعات في الدنيا.
ولما كان كأنه قيل: ما فعل في تنجيتهم؟ قال ذاكراً نتيجة التنجية {لا يمسهم السوء} أي هذا النوع فلا يخافون {ولا هم يحزنون *} أي ولا يطرق بواطنهم حزن على فائت لأنهم لا يفوت لهم شيء أصلاً.
ولما كان المخوف منه والمحزون عليه جامعين لكل ما في الكون فكان لا يقدر على دفعهما إلا المبدع القيوم، قال مستأنفاً أو معللاً مظهراً الاسم الأعظم تعظيماً للمقام: {الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً(16/543)
الذي نجاهم {خالق كل شيء} فلا يكون شيء أصلاً إلا بخلقه، وهو لا يخلق ما يتوقعون منه خوفاً، ولا يقع لهم عليه حزن. ولما دل هذا على القدرة الشاملة، كان ولا بد معها من العلم الكامل قال: {وهو} وعبر بأداة الاستعلاء لأنه من أحسن مجزأتها {على كل شيء} أي مع القهر والغلبة {وكيل *} أي حفيظ لجميع ما يريد منه، قيوم لا عجز يلم بساحته ولا غفلة.(16/544)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
ولما كان الخافقان خزائن الكائنات، وكان لا يتصرف في الخزائن إلا ذو المفاتيح، قال دالاً على وكالته: {له} أي وحده {مقاليد} واحدها مقلاد مثل مفتاح، ومقليد مثل قنديل، وهي المفاتيح والأمور الجامعة القوية وهي استعارة لشدة التمكن من {السماوات} أي جميع أعدادها {والأرض} أي جنسها خزائنهما وأمورهما ومفاتيحهما الجامعة لكل ما فيهما، فلا يمكن أن يكون فيهما شيء ولا أن يتصرف فيه شيء منهما ولا فيهما أحد إلا بإذنه فلا بدع في تنجيته الذين اتقوا.
ولما كان التقدير: فالذين آمنوا بالله وتقبلوا آياته أولئك هم الفائزون، عطف عليه قوله الذي اقتضاه سياق التهديد: {والذين كفروا} أي لبسوا ما اتضح لهم من الدلالات، وجحدوا أن تكون الأمور كلها بيده {بآيات الله} أي الذي لا ظاهر غيرها، فإنه(16/544)
ليس في الوجود إلا ذاته سبحانه وهي غيب لا يمكن المخلوق دركها، وأفعاله وهي أظهر الأشياء، وصفاته وهي غيب من جهة شهادة من جهة أخرى {أولئك} البعداء البغضاء {هم} خاصة {الخاسرون *} فإنهم خسروا نفوسهم وكل شيء يتصل بها على وجع النفع لأن كفرهم أقبح الكفر من حيث إنه متعلق بأظهر الأشياء.
ولما قامت هذه الدلائل كما ترى قيام الأعلام، فانجابت دياجير الظلام، وكان الجهلة قد دعوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال المفسرون في أول سورة ص - إلى أن يكف عن آلهتهم، وكان الإقرار عليها عبادة لها، تسبب عن ذلك أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يصدعهم به بقوله: {قل} ولما كان مقام الغيرة يقتضي محو الأغيار، وكان الغير إذا انمحى تبعه جميع أعراضه، قدم الغير المفعول لأعبد المفعول - على تقدير «أن» - لتأمر فقال: {أفغير الله} أي الملك الأعظم الذي لا يقر على فساد أصلاً.
ولما كان تقديم الإنكار على فعلهم لهم أرجع، وتأخير ما سبق من الكلام لإنكاره أروع، وكان مد الصوت أوكد في معنى الكلام وأفزع وأهول وأفظع، قال صارفاً الكلام إلى خطابهم، لأنه(16/545)
أقعد في إرهابهم وأشد في اكتئابهم {تأمروني} بالإدغام المقتضي للمد في قراءة أكثر القراء. ولعل الإدغام إشارة إلى أنهم حالوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر آلهتهم على سبيل المكر والخداع. ولما قرر الإنكار لإثبات إلإغيار، أتم تقرير ذكر العامل في {غير} قال حاذفاً «أن» المصدرية لتصير صلتها في حيز الإنكار: {أعبد} وهو مرفوع لأن «أن» لما حذفت بطل عملها، ولم يراع أيضاً حكمها ليقال: إنه يمتنع نصب «غير» بها لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول.
ولما كانت عبادة غير الله أجهل الجهل، وكان الجهل محط كل سفول، قال: {أيها الجاهلون *} أي العريقون في الجهل، وهو التقدم في الأمور المنبهمة بغير علم - قاله الحرالي في سورة البقرة.
ولما كان التقديم يدل على الاختصاص، وكانوا لم يدعوه للتخصيص، بل للكف المقتضي للشرك، بين أنه تخصيص من حيث إن الإله غني عن كل شيء فهو لا يقبل عملاً فيه شرك، ومتى حصل أدنى شرك كان في ذلك العمل كله للذي أشرك، فكان التقدير بياناً لسبب أمره بأن يقول لهم ما تقدم منكراً عليهم: قل كذا، فلقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك وجوب التوحيد، فعطف عليه قوله مؤكداً لأجل ما استقر في النفوس من أن من عمل لأحد شيئاً قبل(16/546)
سواء كان على وجه الشركة أولا: {ولقد} ولما كان الموحي معلوماً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بني للمفعول قوله: {أوحي إليك} ولما كان التعميم أدعى إلى التقبل قال: {وإلى الذين} ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان لبعض الناس قال: {من قبلك} ولما كان الحكم على قوم ربما كان حكماً على المجموع مع قيد الجمع خص بياناً لأنه مع كونه حكماً على المجموع حكم على كل فرد، ولأن خطاب الرئيس خطاب لأتباعه لأنه مقتداهم.
ولما كان الموحى إليهم أنه من أشرك حبط عمله سواء كان هو أو غيره، صح قوله بالإفراد موضع نحو أن الإشراك محبط للعمل وقائم مقام الفاعل، وعدل عنه إلى ما ذكر لأنه أعظم في النهي وأقعد في الزجر لمن يتأهل له من الأمة، وأكد لأن المشركين ينكرون معناه غاية الإنكار: {لئن} أي أوحى إلى كل منكم هذا اللفظ وهو وعزتي لئن {أشركت} أي شيئاً من الأشياء في شيء من عملك بالله وهو من فرض المحال، ذكره هكذا ليكون أروع للأتباع، والفعل بعد إن الشرطية للاستقبال، فعدل هنا عن التعبير بالمضارع للمطابقة بين اللفظ والمعنى لأن الآية سبقت للتعريض بالكفار فكان التعبير بالماضي أنسب ليدل بلفظه على أن من وقع منه شرك(16/547)
فقد خسر، وبمعناه على أن الذي يقنع منه ذلك فهو كذلك.
ولما تقرر الترهيب أجاب الشرط والقسم بقوله: {ليحبطن} أي ليفسدن فيبطلن عملك فلا يبقى له أثراً ما من جهة القادر فلأنه أشرك به فيه وهو غني لا يقبل إلا الخالص، لأنه لا حاجة إلى شيء، وأما من جهة غيره فلأنه لا يقدر على شيء. ولما كان السياق للتهديد، وكانت العبادة شاملة لمت تقدم على الشرك من الأعمال وما تأخر عنه، لم يقيده بالاتصال بالموت اكتفاء بتقييده في آية البقرة وقال: {ولتكونن} أي لأجل حبوطه {من الخاسرين *} فإنه من ذهب جميع عمله لا شك في خسارته، والخطاب للرؤساء على هذا النحو - وإن كان المراد به في الحقيقة أتباعهم - أزجر للأتباع، وأهز للقلوب منهم والأسماع.
ولما كان التقدير قطعاً: فلا تشرك، بنى عليه قوله: {بل الله} أي المتصف بجميع صفات الكمال وحده بسبب هذا النهي العظيم والتهديد الفظيع مهما وقعت منك عبادة ما {فاعبد} أي مخلصاً له العبادة، فحذف الشرط، عوض عنه بتقديم المفعول. ولما كانت عبادته لا يمكن أن تقع إلا شكراً لما له من عموم النعم سابقاً ولاحقاً، وشكر المنعم واجب، نبه على ذلك قوله: {وكن من الشاكرين *} أي العريقين في هذا الوصف لأنه جعلك خير الخلائق.
ولما كان التقدير: فما أحسن هؤلاء ولا أجملوا حين دعوك(16/548)
للإشراك بالله، وما عبدوه حق عبادته إذ أشركوا به، عطف عليه قوله: {وما قدروا} وأظهر الاسم الأعظم في أحسن مواطنه فقال: {الله} أي الملك الأعظم {حق قدره} أي ما عظموه كما يجب له فإنه لو استغرق الزمان في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عدل به غيره.
ولما ذكر تعظيم كل شيء ينسب إليه، دل على باهر قدرته الذي هو لازم القبض والطي بما يكون من الحال في طي هذا الكون، فقال كناية عن العظمة بذلك: {والأرض} أي والحال أنها، وقدمها لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها. ولما كان ما يدركون منها من السعة والكبر كافياً في العظمة وأن لم يدركوا أنه سبع، أكد بما يصلح لجميع طبقاتها تنبيهاً للبصراء على أنها سبع من غير تصريح به فقال: {جميعاً} ولما كان أحقر ما عند الإنسان وأخفه عليه ما يحويه في قبضته، مثل بذلك في قوله مخبراً عن المبتدأ مفرداً بفتح القاف لأنه أقعد في تحقير الأشياء العظيمة بالنسبة إلى جليل عظمته: {قبضته} .(16/549)
ولما كان في الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة، وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال: {يوم القيامة} ولا قبضة هناك حقيقية ولا مجازاً، وكذا الطي واليمين، وإنما تمثيل وتخييل لتمام القدرة. ولما كانوا يعلمون أن السماوات سبع متطابقة بما يشاهدون من سير النجوم، جمع ليكون مع {جميعاً} كالتصريح في جميع الأرض أيضاً في قوله: {والسماوات مطويات} ولما كان العالم العلوي أشرف، شرفه عند التمثيل باليمين فقال: {بيمينه} ولما كان هذا إنما هو تمثيل بما نعهد والمراد به الغاية في القدرة، نزه نفسه المقدس عما ربما تشبث به المجسم والمشبه فقال: {سبحانه} أي تنزه من هذه القدرة قدرته عن كل شائبة نقص وما يؤدي إلى النقص من الشرك والتجسيم وما شاكله {وتعالى} علواً لا يحاط به {عما يشركون *} أي إن علوه عن ذلك علو من يبالغ فيه، فهو في غاية من العلو لا يكون وراءها غاية لأنه لو كان له شريك لنازعه هذه القدرة أو بعضها فمنعه شيئاً منها، وهذه معبوداتهم لا قدرة لها على شيء، روى البخاري في صحيحه في التوحيد وغيره من عبد الله رضي عنه قال:
«جاء حبر من اليهود إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إذا(16/550)
كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع والماء والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يميزهن ثم يقول: أنا الملك، فلقد رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحك حتى بدت نواجذه - تعجيباً وتصديقاً لقوله - ثم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وما قدروا الله حق قدره} - إلى: - {يشركون} [الأنعام: 91] » وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك اين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون» ، وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض» .(16/551)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
ولما دل على عظيم قدره بعض ما يكون يوم القيامة، أتبعه ما لا يحتمله القوي من أحوال ذلك اليوم دليلاً آخر، فقال دالاً على عظيم قدرته وعزه وعظمته بالبناء للمفعول: {ونفخ في الصور} أي القرن العاطف للأشياء المقبل بها نحو صوته المميل لها عن أحوالها العالي عليها(16/551)
في ذلك اليوم بعد بعث الخلائق وهي النفخة الأولى بعد البعث التي هي بعد نفختي الموت والبعث المذكورتين في سورة يس، والمراد بها - والله أعلم - إلقاء الرعب والمخافة والهول في القلوب إظهاراً للعظمة وتردياً بالكبرياء والعز في عزة يوم المحشر ليكون أول ما يفجأهم يوم الدين ما لا يحتمله القوي، ولا تطيقه الأحلام والنهى، كما كان آخر ما فجأهم في يوم الدنيا وإن افترقا في التأثير، فإن تلك أثرت الموت، وهذه أثرت الغشي لأنه لا موت بعد البعث، وهي الثالثة من النفخات {فصعق} أي مغشياً عليه {من في السماوات} ولما كان المقام التهويل، وكان التصريح أهول، أعاد الفاعل بلفظه فقال: {ومن في الأرض} .
ولما كان منهم من لا يصعق ليعرف دائماً أنه في كل فعل من أفعاله مختار قادر جبار، استثناه فقال: {إلا من شاء الله} أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز، فيجعل الشيء الواحد هلاكاً لقوم دون قوم، وصعقاً لقوم دون قوم، يجعل ذلك الذي كان به الهلاك به الحياة وذلك الذي كان به الغشي به الإفاقة وإن كان بالنسبة إليهم على حد سواء، إعلاماً بأن الفاعل لما يريد لا الأثر، قيل: المستثنون الشهداء وقيل: غيرهم {ثم نفخ فيه أخرى}(16/552)
أي نفخة ثانية من هذه، وهي رابعة من النفخة المميتة، ودل على سرعة تأثيرها بالفجاءة في قوله: {فإذا هم قيام} أي قائمون كلهم {ينظرون *} أي يقبلون أبصارهم أو ينتظرون ما يأتي بعد ذلك من أمثاله من دلائل العظمة، وهاتان النفختان هما المرادتان في حديث تخاصم اليهود مع المسلم الذي لطم وجهه، وفي آخره: «يصعق الناس يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور» - وقد رواه البخاري في الخصومات في موضعين، وفي أحاديث الأنبياء في موضعين، وفي الرقاق وفي التوحيد ومسلم في الفضائل، وأبو داود في السنة، والنسائي في التفسير والنعوت، وبتفصيل رواياته وجمع ألفاظها يعلم أن ما ذكرته هو المراد روى البخاري ومسلم في أحاديث الأنبياء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما يهودي يعرض سلعة له - وقال البخاري: سلعته - أعطى بها شيئاً كرهه أو لم يرضه، قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر! فسمعه رجل من الأنصار فلطم - وقال البخاري: فقام فلطم وجهه،(16/553)
قال: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا، فذهب اليهودي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً، وقال: فلان لطم وجهي، - وقال البخاري: فما بال فلان لطم وجهي؟ - فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لم لطمت وجهه؟ قال: قال يا رسول الله» والذي اصطفى موسى على البشر «وأنت بين أظهرنا، فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى عرف الغضب في وجهه، ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث»
- وفي رواية مسلم: «أو في أول من بعث - فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور أو بعث قبلي ولا أقول: إن أحداً أفضل من يونس بن متى» وفي رواية للبخاري في تفسير الزمر: «إني من أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخة» وفي رواية للبخاري في الخصومات والرقاق وأحاديث الأنبياء وهي لمسلم أيضاً قالا: استب رجلان: رجل من المسلمين ورجل من اليهود - وفي رواية لمسلم: رجل من اليهود ورجل من المسلمين - فقال المسلم: والذي اصفطى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(16/554)
على العالمين، قال البخاري في كتاب التوحيد وأحاديث الأنبياء: في قسم يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، قال البخاري: فغضب المسلم عند ذلك فلطم وجه اليهودي، وقال مسلم وكذلك البخاري في التوحيد والخصومات وأحاديث الأنبياء: فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، قال البخاري في الخصومات: فدعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلم فسأله عن ذلك فأخبره - ثم اتفقا: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون» قال البخاري في الرقاق والخصومات وأحاديث الأنبياء ونسخة في التوحيد: «يوم القيامة فأكون في أول من يفيق» ، وفي رواية له في الخصومات؛ «فأصعق معهم» ، وفي رواية له في الرقاق وفي رواية في التوحيد وهي رواية لمسلم وأبي داود: «فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش» ، وقال أبو داود: «في جانب العرش، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله» ، وفي رواية: «فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أو اكتفى بصعقة الطور»
، وفي رواية للبخاري في أحاديث الأنبياء: «فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق أو كان ممن استثنى الله» - ولم يذكر قبلي وروى الحديث الترمذي في تفسير سورة الزمر وابن ماجه في الزهد:(16/555)
قال: قال اليهودي، وقال ابن ماجه: رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى وموسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يداً فصك بها وجهه - وقال ابن ماجه: فلطمه - قال: تقول هذا وفينا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ونفخ في الصور» - وقال ابن ماجه: تقول هذا وفينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «قال الله تعالى: ونفخ في الصور - فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى آخذ» - وقال ابن ماجه: «فإذا أنا بموسى آخذ - بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أرفع رأسه قبلي أم كان ممن استثنى الله، ومن قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية للبخاري في الرقاق: «يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق» ، قال: ورواه أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه، وللبخاري في الخصومات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس جاء يهودي فقال: يا أبا القاسم! ضرب وجهي رجل من أصحابك، قال: من؟ قال: رجل من الأنصار، قال: ادعوه، قال: ضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف» والذي اصطفى موسى على البشر «قلت: أي(16/556)
خبيث على محمد، فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض» - وفي رواية في أحاديث الأنبياء: «فأكون أول من يفيق - فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقته الأولى» ، وفي رواية في أحاديث الأنبياء: «فلا أدري أفاق قبلي أو حوسب بصعقة الطور» والله أعلم - هذا ما رأيته من ألفاظ الحديث في الكتب الستة، وأما معنى صعق فإنه صاح ومات فجأة أو غشي عليه، قال في القاموس: الصاعقة الموت وكل عذاب مهلك وصيحة العذاب، وصعق كسمع صعقاً ويحرك وصعقة وتصعاقاً: غشي عليه. والصعق محركة: شدة الصوت، وككتف: الشديد الصوت، وقال عبد الحق في الواعي: الأزهري: الصاعقة - يعني بالفتح - وأصعقتهم - إذا أصابتهم فصعقوا وصعقوا، ومنه حديث الحسن: ينتظر بالمصعوق ثلاثاً ما لم يخافوا عليه نتناً - يعني الذي مات فجأة، قال: والصاعقة مصدر جاء على فاعلة، تقول: سمعت صاعقة الرعد وثاغية الشاء، وقوله:(16/557)
{وخر موسى صعقاً} [الأعراف: 143] أي مغشياً عليه، دل على ذلك قوله سبحانه {فلما أفاق} إنما يقال: أفاق من العلة والغشية وبعث من الموت، قال: وجملة الصاعقة الصوت مع النار، وقال أبو عبد الله يعني القزاز: الصعق هو أن يسمع الإنسان صوت الهدة الشديدة فيصعق لذلك عقله، واشتقاق الصاعقة من هذا، سميت صاعقة لشدة صوتها وتقول: إنه لصعق، أي شديد الصوت، وكذا هو صعاق - انتهى.
فتحرر من هذا أن الصعق يطلق على الموت فجأة، وعلى الغشي كذلك، وأن الإفاقة لا تكون إلا عن غشي لا عن موت، فعلم أن الصعقة في هذه الآية إنما هي غشي لأن الثانية عنها إفاقة، وأيضاً فمن الأمر المحقق أنه لا يموت أحد من أهل البرزخ فكيف بالأنبياء عليهم السلام، فالصواب حمل الصعقة المذكورة في الحديث على الغشي أو ما يشبهه، ويؤيده التجويز لأن تكون صعقة الطور جزاء عنها، وعلى تقدير أن تكون غشياً إن قلنا إنه يكون بنفخة الإماتة يلزم عليه أن لا يكون للغشي ولا لعدمه مدخل في الشك في أن موسى عليه السلام أفاق قبل أو لم يحصل له غشي أصلاً، لأن الذي يكون به بطشه بالعرش - وهو بروحه وجسه - إنما هو البعث من الموت لا الإفاقة من الغشي ولا عدم الغشي قبل البعث، فالذي يوضح الأمر ولا يدع فيه لبساً أن يكون ذلك بعد البعث، وتكون حينئذ النفخات أربعاً: الأولى لإماتة الأحياء، الثانية لإحياء جميع الموتى، وهاتان هما المذكورتان في سورة يس،(16/558)
ولذلك لما ذكرهما صرح في أمرهما بما لا يحتمل غيره {ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} الثالثة لابتدائهم بعد البعث بالهول الشديد، والحال يقتضيه لأن ذلك اليوم يوم الأهوال والارعاب والارهاب، وإظهار العظمة والجلال لتقطيع الأسباب، والذي يدل عليه في هذا الحديث قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كثير من رواياته: «فإن الناس يصعقون يوم القيامة» فإن يوم القيامة اسم للوقت الذي أوله البعث وآخره تكامل دخول كل فريق إلى داره ومحل استقراره، وأما صعقة الموت فإنها في دار الدنيا وهي للإنامة لا للإقامة، ويضعف حمله على ما قبل البعث الروايات الصحيحة الجازمة بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول من تنشق عنه الأرض، وما حكاه الكرماني من الإجماع على ذلك ولا فخر فيه إلا بحصول البعث لا بإظهار الجسد من غير بعث، فهذا الجزم ينافي ذلك الشك، فإذا كان المراد بما في الحديث الغشي كانت نفخة أخرى للإيقاظ منه، وهاتان المرادتان بما في هذه السورة كما في رواية السورة كما في رواية الترمذي وما في النمل، ولذلك عبر عنها بالفزع، ويؤيد ذلك التعبير في رواية البخاري في التفسير بالنفخة الآخرة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أوتي(16/559)
جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، ولو أنهما نفختان فقط كان التعبير بالآخرة قاصراً عما تفيده الثانية مع المساواة في عدة الحروف، وهو مما لا يظن ببليغ، فكيف بأبلغ الخلق المؤيد بروح القدس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان العدول عن الثانية إلى الآخرة مفيداً أنها أربع، ولعل ذلك معنى
{أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين} [غافر: 11] وسميت إماتة لشدة الغشي بها لعظم أمرها ومعنى زلزلة الساعة التي تسكر، ويؤيده التعبير عن القيام منها بالإفاقة لا بالبعث، ولا يعكر على هذا شيء إلا رواية البخاري في الخصومات: «فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا أنا بموسى» - إلى آخره، فالظاهر أن راويها وهم، أو روي بالمعنى فما وفى بالغرض، والراجح روايات من قالوا: «فأكون أول من يفيق» - بالكثرة وبزوال الإشكال، هذا ما كان ظهر لي في النظر في المعنى وتطبيق الآيات والأحاديث عليه، ثم رأيت شيخنا حافظ عصره أحمد بن علي بن حجر الكناني العسقلاني المصري رحمه الله نقل ما جمعت به بين الروايات في كتاب الأنبياء من شرحه للبخاري عن القاضي عياض فقال: وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض. وأقره على ذلك ثم نقل عن ابن حزم عين ما قلته في النفخات فقال ما نصه: تكميل: زعم ابن حزم أن النفخات يوم القيامة أربع: الأولى نفخة إماتة يموت فيها من بقي في الأرض،(16/560)
حياً، ثانيها نفخة إحياء فيقوم كل ميت، والثالثة نفخة فزع وصعق يفيقون منها كالمغشي عليهم، لا يموت منها أحد، والرابعة إفاقة من ذلك الغشي، ثم رده شيخنا بأن الصعقات أربع، ولا يستلزم كون النفخات أكثر من اثنتين، وذلك أنه ينفخ في الصور النفخة الأولى فيموت من كان حياً ويغشى على من كان ميتاً، فهاتان صعقتان في النفخة الأولى، وينفخ النفخة الثانية فيفيق من كان مغشياً عليه ويحيى من كان ميتاً، فهاتان اثنتان في النفخة الثانية، وهذا الرد مردود لمن حقق ما قلته بأدنى تأمل، ويلزم عليه أن يكون أصفياء الله أشد حالاً وفزعاً ممن تقوم عليهم الساعة وهم شر عباد الله، والعجب أن الذي رده على ابن حزم سلّمه لعياض - والله الموفق.(16/561)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
ولما ذكر إقامتهم بالحياة التي هي نور البدن، أتبعه إقامتهم بنور جميع الكون ظاهراً بالضياء الحسي، وباطناً بالحكم على طريق العدل الذي هو نور الوجود الظاهري والباطني على الحقيقة كما أن ظلم ظلامة كذلك فقال: {وأشرقت} أي أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة {الأرض} أي التي أوجدت لحشرهم، وعدل الكلام عن الاسم الأعظم إلى صفة الإحسان لغلبة الرحمة لا سيما في ذلك اليوم فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بها فقال: {بنور ربها} أي الذي رباها بالإحسان إليها بجعلها محلاًّ للعدل والفضل، لا يكون فيها شيء غير ذلك أصلاً،(16/561)
وذلك النور الذي هو شيء واحد يبصر به قوم دون آخرين كما كانت النفخة تارة للهلاك وتارة للحياة.
ولما كان العلم هو النور في الحقيقة، وكان الكتاب أساس العلم وكان لذلك اليوم من العظمة ما يفوت الوصف ولذلك كذب به الكفار أتى فيما يكون فيه بإذنه بصيغة المجهول على طريقة كلام القادرين إشارة إلى هوانه وأنه طوع أمره لا كلفة عليه في شيء من ذلك وكذا ما بعده من الأفعال زيادة في تصوير عظمة اليوم بعظمة الأمر فيه فقال: {ووضع الكتاب} أي الذي أنزل إلى كل أمة لتعمل به.
ولما كان الأنبياء أعم من المرسلين، وكان للنبي وهو المبعوث ليعمل من أمره أن يأمر بالمعروف، وقد يتبعه من أراد الله به الخير، وكان عدتهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً، وهي قليلة جداً بالنسبة إلى جميع الناس، عبر بهم دون المرسلين وبجمع القلة فقال: {وجاء بالنبيين} للشهادة على أممهم بالبلاغ. ولما كان أقل ما يكون الشهود ضعف المكلفين، عبر بجمع الكثرة فقال: {والشهداء} أي الذين وكلوا بالمكلفين فشاهدوا أعمالهم فشهدوا بها وضبطوها فأصلت الأصول وصورت الدعاوى وأقيمت البينات على حسبها من(16/562)
طاعة أو معصية، ووقع الجزاء على حسب ذلك، فظهر العدل رحمة للكفار، وبان الفضل رحمة للمسلمين {وقضى بينهم} أي بين العباد الذين فعل ذلك كله لأجلهم، ولما كان السياق ظاهراً في عموم الفضل عدلاً وفضلاً كما يأتي التنبيه عليه قال: {بالحق} بأن يطابق الواقع من المثوبات والعقوبات ما وقع الخبر به في الكتب على ألسنة الرسل.
ولما كان المراد كمال الحق باعتبار عمومه لجميع الأشخاص والأعمال وكان ربما طرقه احتمال تخصيص ما، أزال ذلك بقوله: {وهم} أي باطناً وظاهراً {لا يظلمون *} أي لا يتجدد لهم ظلم في وقت أصلاً، فلا يزادون في جزاء السيئة على المثل شيئاً ولا ينقصون في جزاء الحسنة عن العشر شيئاً.
ولما كان ذلك ربما كان بالنسبة إلى ما وقع فيه الحكم، وليس نصاً في شمول الحكم لكل عمل، نص عليه بقوله، ذاكراً الوفاء والعمل لاقتضاء السياق ذلك بذكر الكتاب وما في حيزه من النبيين والشهداء والقضاء الحق، وذلك كله أليق بذكر العمل المؤسس على العلم، والوفاء الذي هو الركن الأعظم في الحق ومساق العلم، والعلم والوفاء أوفق لجعل العمل نفسه هو الجزاء بأن يصور بما يستحقه من الصور المليحة إن كان ثواباً والقبيحة إن كان عقاباً، والفرق بينه وبين العقل المؤسس(16/563)
على الشهوة وقوة الداعية: {ووفيت كل نفس} ولما كانت التوفية في الجزاء على غاية التحرير والمبالغة في الوفاء والمشاكلة في الصورة والمعنى، جعل الموفي نفس العمل فقال: {ما عملت} أي من الحسنات، لذلك عبر بالعمل الذي لا يكون إلا مع العلم وأفهم الختام تقدير «والله أعلم بما يعملون» .
ولما كان المراد بالشهداء إقامة الحقوق على ما يتعارفه العباد وكان ذلك ربما أوهم نقصاً في العلم قال: {وهو أعلم} أي من العاملين والشهداء عليهم {بما يفعلون *} أي مما عمل به بداعية من النفس سواء كان مع مراعاة العلم أو لا. فالآية من الاحتباك: ذكر ما عملت أولاً يدل على ما فعلت ثانياً، وذكر ما يفعلون ثانياً يدل عليه ما يفعلون أولاً، وسره أن ما ذكر أوفق للمراد من نفي الظلم على حكم الوعد بالعدل والفضل لأن فيه الجزاء على كل ما بني على علم، وأما المشتهي فما ذكر أنه يجازى عليه بل الله يعلمه.
ولما كان الأغلب على هذه المقامات التحذير، قدم في هذه التوفية حال أهل الغضب فقال: {وسبق} أي بأمر يسير من قبلنا بعد إقامة الحساب سوقاً عنيفاً {الذين كفروا} أي غطوا أنوار عقولهم، فالتبست عليهم الأمور فضلوا {إلى جهنم} أي الدركة التي تلقاهم بالعبوسة كما تلقوا الأوامر والنواهي والقائمين بها بمثل ذلك، فإن ذلك لازم لتغطية العقل {زمراً} أي جماعات في تفرقة(16/564)
بعضهم على إثر بعض - قاله أبو عبيد - أصنافاً مصنفين، كل شخص مع من يلائمه في الطريقة والزمرة، مأخوذة من الزمر وهو صوت فيه التباس كالزمر المعروف لأن ذلك الصوت من لازم الجمع.
ولما كان إغلاق الباب المقصود عن قاصده دالاًّ على صغاره، دل على أن أمرهم كذلك بقوله ذاكراً غاية السوق: {حتى إذ جاءوها} أي على صفة الذل والصغار، وأجاب «إذا» بقوله: {فتحت أبوابها} أي بولغ كما يفعل في أبواب السجن لأهل الجرائم بعد تكاملهم عندها في الإسراع في فتحها ليخرج إليهم ما كان محبوساً بإغلاقها من الحرارة التي يلقاهم ذكاؤها وشرارها على حالة هي أمر من لقاء البهام التي اختاروها في الدنيا على تقبل ما خالف أهويتهم من حسن الكلام.
ولما كان المصاب ربما رجا الرحمة، فإذا وجد من يبكته كان تبكيته أشد عليه مما هو فيه قال: {وقال لهم خزنتها} إنكاراً عليهم وتقريعاً وتوبيخاً: {ألم يأتكم رسل} ولما كان قيام الحجة بالمجانس أقوى قال واصفاً لرسل: {منكم} أي لتسهل عليكم مراجعتهم.
ولما كانت المتابعة بالتذكير أوقع في النفس قال آتياً بصفة أخرى معبراً بالتلاوة التي هي أنسب لما يدور عليه مقصد السورة من العبادة لما للنفوس من النقائص الفقيرة إلى متابعة التذكير: {يتلون} أي يوالون {عليكم آيات} ولما كان أمر المحسن أخف على النفس(16/565)
فيكون أدعى إلى القبول قالوا: {ربكم} أي بالبشارة إن تابعتم. ولما كان الإنذار أبلغ في الزجر قالوا: {وينذرونكم لقاء يومكم} ولما كانت الإشارة أعلى في التشخيص قالوا: {هذا} إشارة إلى يوم البعث كله، أي من الملك الجبار إن نازعتم، فالآية من الاحتباك: ذكر الرب أولاً دلالة على حذف الجبروت ثانياً والإنذار ثانياً دليلاً على البشارة أولاً {قالوا بلى} أي قد أتونا وتلوا علينا وحذرونا.
ولما كان عدم إقبالهم على الخلاص مما وقعوا فيه مع كونه يسيراً من أعجب العجب، بينوا موجبه بقولهم: {ولكن حقت} أي وجبت وجوباً يطابقه الواقع، لا يقدر معه على الانفكاك عنه {كلمة العذاب} أي التي سبقت في الأزل علينا - هكذا كان الأصل، ولكنهم قالوا: {على الكافرين *} تخصيصاً بأهل هذا الوصف وبياناً لأنه موجب دخولهم وهو تغطيتهم للأنوار التي أتتهم بها الرسل.
ولما فرغوا من إهانتهم بتبكيتهم، أنكوهم بالأمر بالدخول، وعبر بالمبني للمفعول إشارة ألى أنهم وصلوا إلى أقصى ما يكون من الذل بحيث إنهم يمتثلون قول كل قائل جل أو قل، فقيل في جواب من كأنه قال: ماذا وقع بعد هذا التقريع؟ : {قيل} أي لهم جواباً لكلامهم: {ادخلوا أبواب جهنم} أي طبقاتها المتجهمة لداخليها. ولما كان الإخبار بالخلود حين الدخول أوجع لهم قالوا: {خالدين} أي(16/566)
مقدرين الخلود {فيها} ولما كان سبب كفرهم بالأدلة هو التكبر، سبب عن الأمر بالدخول قوله معرى عن التأكيد لأنه يقال في الآخرة ولا تكذيب فيها يقتضي التأكيد ولم يتقدم منهم هنا كذب كالنحل بل اعتراف وتندم {فبئس مثوى} أي منزل ومقام {المتكبرين *} أي الذين أوجب تكبرهم حقوق كلمة العذاب عليهم، فلذلك تعاطوا أسبابها.(16/567)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
ولما ذكر أحوال الكافرين، أتبعه أحوال أضدادهم فقال: {وسيق} وسوقهم إلى المكان الطيب يدل على أن موقفهم كان طيباً لأن من كان في أدنى نكد فهيئ له مكان هنيء لا يحتاج في الذهاب إليه إلى سوق، فشتان ما بين السوقين! هذا سوق إكرام، وذاك سوق إهانة وانتقام، وهذا لعمري من بدائع أنواع البديع، وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وعلى هيئتها في حق الأبرار فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم، فسبحان من أنزله معجز المباني، متمكن المعاني، عذب الموارد والمثاني.
ولما كان هذا ليس لجميع السعداء بل للخلص منهم، دل على ذلك بقوله: {الذين اتقوا} أي لا جميع المؤمنين {ربهم} أي الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة، روى أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه(16/567)
عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، فقيل: ما أطول هذا اليوم؟ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة» وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تجتمعون يوم القيامة» - فذكر الحديث حتى قال: «قالوا: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار» ويمكن أن يكون السوق إشارة إلى قسر المقادير للفريقين على الأفعال التي هي أسباب الدارين {إلى الجنة زمراً} أهل الصلاة المنقطعين إليها المستكثرين منها على حدة، وأهل الصوم كذلك - إلى غير من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه.
ولما ذكر السوق، ذكر غايته بقوله: {حتى إذا جاءوها} ولما كان إغلاق الباب عن الآتي يدل على تهاون به، وفي وقوفه إلى أن يفتح له نوع هوان قال: {وفتحت} أي والحال أنها قد فتحت {أبوابها} أي إكراماً لهم قبل وصولهم إليها بنفس الفتح وبما يخرج إليهم(16/568)
من رائحتها، ويرون من زهرتها وبهجتها، ليكون ذلك لهم سائقاً ثانياً إلى ما لم يروا مثله ولا رأوا عنه ثانياً.
ولما ذكر إكرامهم بأحوال الدار، ذكر إكرامهم بالخزنة الأبرار، فقال عطفاً على جواب «إذا» بما تقديره: تلقتهم خزنتها بكل ما يسرهم: {وقال لهم خزنتها} أي حين الوصول: {سلام عليكم} تعجيلاً للمسرة لهم بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها. ولما كانت داراً لا تصلح إلا للمطهرين قالوا: {طبتم} أي صلحتم لسكناها، فلا تحول لكم عنها أصلاً، ثم سببوا عن ذلك تنبيهاً على أنها دار الطيب، فلا يدخلها إلا مناسب لها، قولهم: {فادخلوها} فأنتج ذلك {خالدين *} ولعل فائدة الحذف لجواب «إذا» أن تذهب النفس فيه من الإكرام كل مذهب وتعلم أنه لا محيط به الوصف، ومن أنسب الأشياء أن يكون دخولهم من غير مانع من إغلاق باب أو منع بواب، بل مأذوناً لهم مرحباً بهم إلى ملك الأبد.
ولما كان التقدير: فدخلوها، عطف عليه قوله: {وقالوا} أي جميع الداخلين: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال، وعدلوا إلى الاسم الأعظم حثاً لأنفسهم على استحضار جميع ما تمكنهم معرفته من الصفات فقالوا: {لله} أي الملك الأعظم {الذي صدقنا وعده} في قوله تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً فطابق قوله الواقع(16/569)
الذي وجدناه في هذه الساعة {وأورثنا} كما وعدنا {الأرض} التي لا أرض في الحقيقة غيرها وهي أرض الجنة التي لا كدر فيها بوجه وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، بأن جعل حالنا فيها في تمام الملك وعدم التسبب في الحقيقة فيه حال الوارث الذي هو بعد موروثه ولا شيء بعده ولا منازع له حال كوننا {نتبوأ} أي نتخذ منازل هي أهل لمن خرج منها أن يشتهي العود إليها، وبينوا الأرض بقولهم في موضع الضمير: {من الجنة} أي كلها {حيث نشاء} لاتساعها فلا حاجة لأحد فيها أن ينازع أحداً في مكان أصلاً، ولا يشتهي إلا مكانه. ولما كانت بهذا الوصف الجليل، تسبب عنه مدحها بقوله: {فنعم} أجرنا - هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {أجر العاملين *} ترغيباً في الأعمال وحثاً على عدم الاتكال.
ولما ذكر سبحانه الذين ركب فيهم الشهوات، وما وصلوا إليه من المقامات، أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات، فقال صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق أنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره: {وترى} معبراً بأخص من الإبصار الأخص من النظر كما بين في البقرة في قوله تعالى {وإن القوة لله جميعاً} [البقرة: 165] {الملائكة} القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق {حافين} أي محدقين ومستديرين وطائفين في جموع لا يحصيها إلا الله. من الخف وهو الجمع، والحفة(16/570)
وهو جماعة الناس، والأعداد الكثيرة، وهو جمع حاف، وهو الواحد من الجماعة المحدقة.
ولما كان عظيم الشيء من عظم صاحبه، وكان لا يحيط بعظمة العرش حق الإحاطة إلا الله تعالى، أشار إلى ذلك بإدخال الجاز فقال: {من حول العرش} أي الموضع الذي يدار فيه به ويحاط به منه، من الحول وهو الإحاطة والانعطاف والإدارة. محدقين ببعض أحفته أي جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت بالتسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفاً من ربهم، فإدخال {من} يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله، لا يملؤون ما حوله، حال كونهم {يسبحون بحمد} وصرف القول إلى وصف الإحسان مدحاً لهم بالتشمير لشكر المنعم وتدريباً لغيرهم فقال: {ربهم} أي يبالغون في التنزيه عن النقص بأن يتوهم متوهم أنه محتاج إلى عرش أو غيره، وأن يحويه مكان متلبسين بإثبات الكمال للمحسن إليهم بإلزامهم بالعبادة من غير شاغل يشغلهم، ولا منازع من شهوة أو حظ يغفلهم، تلذذاً بذكره وتشرفاً بتقديسه، ولأن حقه إظهار تعظميه على الدوام كما أنه متصل الإنعام.
ولما تقدم ذكر الحكم بين أهل الشهوات بما برز عليهم من الشهادات،(16/571)
ذكر هنا الحكم بينهم وبين الملائكة الذين فاضوا في أصل خلقهم بقولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} الآية فقال: {وقضى بينهم} أي بين أهل الشهوات وأهل العصمة والثبات. ولما كان السياق عاماً في الترغيب والترهيب عدلاً وفضلاً، بخلاف سياق سورة يونس عليه السلام، قال: {بالحق} بأن طوبق بما أنزلنا فيهم في الكتب التي وضعناها لحسابهم الواقع، فمن طغى منهم أسكناه لظى بعدلنا، ومن اتقى نعمناه في جنة المأوى بفضلنا، لجهادهم ما فيهم من الشهوات حتى ثبتوا على الطاعات، مع ما ينزعهم من الطبائع إلى الجهالات، وأما الملائكة فأبقيناهم على حالهم في العبادات: {وقيل} أي من كل قائل: آخر الأمور كلها {الحمد} أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال، وعدل بالقول إلى ما هو حق بهذا المقام فقال: {لله} ذي الجلال والإكرام، علمنا ذلك في هذا اليوم عمل اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين.
ولما كان ذلك اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر، قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم: {رب العالمين *} أي الذي ابتدأهم،(16/572)
أولاً من العدم وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير، وأبقاهم رابعاً لا إلى خير، فقد حقق وعده كما أنزل في كتابه وصدق وعيده لأعدائه كما قال في كتابه، فتحقق أنه تنزيله، فقد ختم الأمر بإثبات الكمال باسم الحمد عند دخول الجنان والنيران كما ابتدأ به عند ابتداء الخلق في أول الإنعام، فله الإحاطة بالكمال في أن الأمر كما قال كتابه على كل حال، فقد انطبق آخرها على أولها بأن الكتاب تنزيله لمطابقة كل ما فيه للواقع عندما يأتي تأويله، وبأن الكتاب الحامل على التقوى المسببة للجنة أنزل للإبقاء الأول، فمن أتبعه كان له سبباً للإبقاء الثاني، وهذا الآخر هو عين أول سورة غافر فسبحان من أنزله معجزاً نظامه، فائتاً القوى أول كل شيء منه وختامه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين.(16/573)
مقصودها الاستدلال على آخر التي قبلها من تصنيف الناس في الآخرة إلى صنفين، وتوفية كل ما يستحقه على سبيل العدل، بأن الفاعل ذلك له العزة الكاملة والعلم الشامل، وقد بين ما يغضبه وما يرضيه غاية البيان على وجه الحكمة، فمن لم يسلم أمره كله إليه وجادل في آياته الدالة على القيامة أو غيرها بقوله أو فعله فإنه يخزيه فيعذبه ويرديه، وعلى ذلك دلت تسميتها بغافر، فإنه لا يقدر على غفران ما يشاء لمن يشاء إلا كامل العزة، ولا يعلم جميع الذنوب ليسمى غافراً لها إلا بالغ العلم،(17/1)
وكذا في جميع الأوصاف التي في الآية من المثاب والعقاب، وكذا الطول فإنه لا يقدر على التطول المطلق إلا من كان كذلك، فإن من كان ناقص العزة فهو قابل لأنه يمنعه من بعض التطولات مانع، ولن يكون ذلك إلا بنقصان العلم، وكذا الدلالة بتسميتها بالمؤمن فإن قصته تدل على هذا المقصد ولا سيما أمر القيامة الذي هو جل المقصود والمدار الأعظم لمعرفة المعبود) بسم الله (الملك الأعظم الذي يعطي كلاً من عباده ما يستحقه، فلا يقدر أحد أن يناقض في شيء من ذلك لا يعارض) الرحمن (الذي عمهم برحمته في الدنيا بالخلق والرزق والبيان لا خفاء معه) الرحيم (الذي يخص برحمته من يشاء من عباده فيجعله حكيماً، وفي تلك الأرض وملكوت السماء عظيماً)(17/2)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
{حم*} أي هذه حكمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي خصه بها الرحمن الرحيم الحميد المجيد مما له من صفة الكمال.
لما كان ختام التي قبلها إثبات الكمال لله بصدقه في وعده ووعيده بإنزال كل فريق في داره التي أعدها له، ثبت أن الكتاب الذي فيه ذلك منه، وأنه تام العزة كامل العلم جامع لجميع صفات الكمال فقال: {تنزيل الكتاب} أي الجامع من الحدود والأحكام والمعارف والاكرام لكل ما يحتاج إليه بإنزاله بالتدريج على حسب المصالح والتقريب للأفهام الجامدة القاصرة، والتدريب للألباب السائرة(17/2)
في جو المعاني والطائرة {من الله} أي الجامع لجميع صفات الكمال. ولما كان النظر هنا من بين جميع الصفات إلى العزة والعلم أكثر، لأجل أن المقام لإثبات الصدق وعداً ووعيداً قال: {العزيز العليم *} .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما افتتح سبحانه سورة الزمر بالإخلاص وذكر سببه والحامل بإذن الله عليه وهو الكتاب، وأعقب ذلك بالتعويض بذكر من بنيت على وصفهم سورة ص وتتابعت الآي في ذلك الغرض إلى توبيخهم بما ضربه سبحانه من المثل الموضح في قوله {ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل} ووصف الشركاء بالمشاكسة إذ بذلك الغرض يتضح عدم استمرار مراد لأحدهم، وذكر قبح اعتذار لهم بقولهم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] ثم أعقب تعالى بالإعلام بقهره وعزته حتى لا يتخبل مخذول شذوذ أمر عن يده وقهره، فقال الله تعالى {أليس الله بكاف عبده} - إلى قوله: {أليس الله بعزيز ذي انتقام} [الزمر: 37] ثم أتبع ذلك بحال أندادهم من أنها لا تضر ولا تنفع فقال {قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله أن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته} [الزمر: 38] ثم أتبع هذا بما يناسبه من شواهد عزته فقال {قل لله الشفاعة جميعاً} [الزمر: 44] {قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة} {أو لم يعلموا(17/3)
أن الله يبسط الرزق لما يشاء ويقدر} {الله خالق كل شيء} {له مقاليد السماوات والأرض} ثم عنفهم وقرَّعهم بجهلهم فقال تعالى {أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} ثم قال تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} ثم اتبع تعالى - ذلك بذكر آثار العزة والقهر فذكر النفخ في الصور للصعق ثم نفخة القيام والجزاء ومصير الفريقين، فتبارك المتفرد بالعزة والقهر، فلما انطوت هذه الآي من آثار عزته وقهره على ما أشير إلى بعضه، أعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {حمتنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} فذكر من أسمائه سبحانه هذين الاسمين العظيمين تنبيهاً على انفراده بموجبهما وأنه العزيز الحق القاهر للخلق لعلمه تعالى بأوجه الحكمة التي خفيت عن الخلق ما أخر الجزاء الحتم للدار الآخرة، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار، مع قهره للكل في الدارين معاً، وكونهم غير خارجين عن ملكه وقهره، ثم قال تعالى {غافر الذنب وقابل التوب} تأنيساً لمن استجاب بحمده، وأناب بلطفه، وجرياً على حكم الرحمة وتغليبها، ثم قال {شديد العقاب ذي الطول} ليأخذ المؤمن بلازم عبوديته من الخوف والرجاء، واكتنف قوله {شديد العقاب} بقوله {غافر الذنب وقابل التوب} وقوله {ذي الطول} وأشار سبحانه بقوله - {فلا يغررك تقلبهم في البلاد} - إلى قوله قبل {وأورثنا الأرض} وكأنه في تقدير: إذا(17/4)
كانت العاقبة لك ولأتباعك فلا عليك من تقلبهم في البلاد، ثم بين تعالى أن حالهم في هذا كحال الأمم قبلهم، وجدالهم في الآيات كجدالهم، وأن ذلك لما حق عليهم من كلمة العذاب، وسبق لهم في أم الكتاب - انتهى.
ولما تقدم آخر تلك أن كلمة العذاب حقت على الكافرين، فكان ذلك ربما أيأس من تلبس بكفر من الفلاح، وأوهمه أن انسلاخه من الكفر غير ممكن، وكان الغفران - وهو محو الذنب عيناً وأثراً - مترتباً على العلم به، والتمكن من الغفران وما رتب عليه من الأوصاف نتيجة العزة، دل عليهما مستعطفاً لكل عاص ومقصر بقوله: {غافر الذنب} أي بتوبة وغير توبة إن شاء، وهذا الوصف له دائماً فهو معرفة. قال السمين: نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن تجعل محضة وتوصف بها المعارف إلا الصفة المشبهة، ولم يستثن الكوفيون شيئاً.
ولما أفهم تقديمه على التوبة أنه غير متوقف عليها فيما عدا الشرك، وكان المشركون يقولون: قد أشركنا وقتلنا وبالغنا في المعاصي فلا يقبل رجوعنا فلا فائدة لنا في إسلامنا، رغبهم في التوبة بذكرها وبالعطف(17/5)
بالواو الدالة على تمكن الوصف إعلاماً بأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب فقال: {وقابل التوب} وجرد المصدر ليفهم أن أدنى ما يطلق عليه الاسم كاف وجعله اسم جنس كأخواته أنسب من جعله بينها جمعاً كتمر وتمرة. ولما كان الاقتصار على الترغيب بما أطمع عذر المتمادي من سطوته، فقال معرياً عن الواو لئلا يؤنس ما يشعر به كل من العطف والصفة المشبهة من التمكن، وذلك إعلاماً بخفي لطفه في أن رحمته سبقت غضبه، وأنه لو أبدى كل ما عنده من العزة لأهلك كل من عليها كما أشير إليه بالمفاعلة في {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} [النحل: 61] فإن الفعل إذا كان بين اثنين كان أبلغ: {شديد العقاب *} على أن تنكيره وإبهامه - كما قال الزمخشري - للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر، لزيادة الإنذار وهي أخفى من دلالة الواو لو أوتي بها.
ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب من الأخذ، أتبعه التشويق إلى الفضل، فقال معرياً عن الواو لأن التمام لا يقتضي المبالغة، والحذف غير مخل بالغرض فإن دليل العقل قائم على كمال صفاته سبحانه: {ذي الطول} أي سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة، لا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه، ثم علل تمكنه في كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال: {لا إله إلا هو} ولما أنتج(17/6)
هذا كله تفرده، أنتج قطعاً قوله: {إليه} أي وحده {المصير *} أي في المعنى في الدنيا، وفي الحس والمعنى في الآخرة، ليظهر كل من هذه الصفات ظهوراً تاماً، بحيث لا يبقى في شيء من ذلك لبس، فإنه لا يصح في الحكمة أن يبغي أحد على العباد ثم يموت في عزة من غير نقمة فيضيع ذلك المبغي عليه، لأن هذا أمر لا يرضى أقل الناس أن يكون بين عبيده.
ولما تبين ما للقرآن من البيان الجامع بحسب نزوله جواباً لما يعرض لهم من الشبه، فدل بإزاحته كل علة عى ما وصف سبحانه به نفسه المقدس من العزة والعلم بياناً لا خفاء في شيء منه، أنتج قول ذماً لمن يريد إبطاله وإخفاءه: {ما يجادل} أي يخاصم ويماري ويريد أن يفتل الأمور إلى مراده {في آيات} وأظهر موضع الإضمار تعظيماً للآيات فقال: {الله} أي في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدالة كالشمس على أنه إليه المصير، بأن يغش نفسه بالشك في ذلك لشبه يميل معها، أو غيره بالتشكيك له، أو في شيء غير ذلك مما أخبر به تعالى {إلا الذين كفروا} أي غطوا مرائي عقولهم وأنوار بصائرهم لبساً على أنفسهم وتلبيساً على غيرهم.
ولما ثبت أن الحشر لا بد منه، وأن الله تعالى قادر كل قدرة(17/7)
لأنه لا شريك له وهو محيط بجميع أوصاف الكمال، تسبب عن ذلك قوله: {فلا يغررك تقلبهم} أي تنقلهم بالتجارات والفوائد والجيوش والعساكر وإقبال الدنيا عليهم {في البلاد *} فإنه لا يكون التفعل بالقلب إلا عن قهر وغلبة، فتظن لإمهالنا إياهم أنهم على حق، أو أن أحداً يحميهم علينا، فلا بد من صيرورتهم عن قريب إلينا صاغرين داخرين، وتأخيرهم إنما هو ليبلغ الكتاب أجله.(17/8)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
ولما نهى عن الاغترار بما لا قوة لاحد على صرفه من نفسه إلا بتأييد من الله، علله بما يحقق معنى النهي من أن التقلب وما يثمره لا يصح أن يكون معتمداً ليزهد فيه كل من سمع هاتين الآيتين، فقال مشيراً بتأنيث الفعل إلى ضعفهم عن المقاومة، وتلاشيهم عند المصادمة، وإن كانوا في غاية القوة بالنسبة إلى أبناء جنسهم: {كذبت} ولما كان تكذيبهم عظيماً وكان زمانه قديماً وما قبله من الزمان قليلاً بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم، جعل مستغرقاً بجميع الزمان، فقال من غير خافض: {قبلهم} ولما كان الناس على زمن نوح عليه السلام حزباً واحداً مجتمعين على أمر واحد ولسان جامع، وحدهم فقال: {قوم نوح} أي وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام(17/8)
بما يحاولونه وكانوا حزباً واحداً لم يفرقهم شيء. ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان، وكان للاجمال من الروع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل قال: {والأحزاب} أي الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً، ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله: {من بعدهم} .
ولما كان التذكيب وحده كافياً في الأذى، دل على أنهم زادوا عليه بالمبالغة في المناصبة بالمعاندة، وقدم قصد الإهلاك لأنه أول ما يريده العدو فإن عجز عنه نزل إلى ما دونه فقال: {وهمَّت كل أمة} أي من الأحزاب المذكورين {برسولهم} أي الذي أرسلناه إليهم. ولما كان الأخذ يعبر عنه عن الغلبة والقهر والاستصغار مع الغضب قال: {ليأخذوه} ولما كان سوق الكلام هكذا دالاً على أنهم عجزوا عن الأخذ، ذكر أنهم بذلوا جهدهم في المغالبة بغيره، فقال حاذفاً للمفعول تعميماً: {وجادلوا بالباطل} أي الأمر الذي لا حقيقة له، وليس له من ذاته إلا الزوال، كما تفعل قريش ومن انضوى إليهم من العرب، ثم بين علة مجادلتهم فقال: {ليدحضوا} أي ليزلقوا فيزيلوا {به الحق} أي الثابت ثباتاً لا حيلة في إزالته.
ولما كان من المعلوم لكل ذي لب أن فاعل ذلك مغلوب، وأن(17/9)
فعله مسبب لغضب المرسل عليه، قال صارفاً القول إلى المتكلم دفعاً للالباس، وإشارة إلى شدة الغضب وجرده عن مظهر العظمة استصغاراً لهم: {فأخذتهم} أي أهلكتهم وهم صاغرون غضباً عليهم وإهانة لهم. ولما كان أخذه عظيماً، دل على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عن حاله لزيادة عظمتها في قوة بطشها وسرعة إهلاكها وخرقها للعوائد فقال: {فكيف كان عقاب *} ومن نظر ديارهم وتقرى آثارهم وقف على بعض ما أشرنا إليه ونبهنا عليه، وحذف ياء المتكلم إشارة إلى أن أدنى من عذابه بأدنى نسبة كاف في المراد وإن كان المعذب جميع العباد.
ولما كان التقدير: فحقت عليهم كلمة الله لأخذهم على هذا الجدال إنهم أصحاب النار التي جادلوا فيها، عطف عليه قوله: {وكذلك} أي ومثل ما حقت عليهم كلمتنا بالأخذ، فلم يقدروا على التفصي من حقوقها {حقت} بالأخذ والنكال {كلمت} وصرف الكلام إلى صفة الإحسان تلطفاً به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبشارة له بالرفق بقومه فقال: {ربك} أي المحسن إليك بجميع أنواع الإحسان فهو لا يدع أعداءك.
ولما كان السياق للمجادلة بالباطل وهي فتل الخصم من اعتقاده الحق،(17/10)
وذلك تغطية للدليل الحق وتلبيس، كان الحال أحق بالتعبير بالكفر الذي معناه التغطية فلذا قال تعالى: {على الذين كفروا} أي أوقعوا الكفر وقتاً ما كلهم سواء هؤلاء العرب وغيرهم، لأن علة الإهلاك واحدة، وهي التكذيب الدال على أن من تلبس به مخلوق للنار، ثم أبدل من «الكلمة» فقال: {أنهم أصحاب النار *} أي من كفر في حين من الأحيان فهو مستحق للنار في الأخرى كما أنه مستحق للأخذ في الدنيا لا يبالي الله به بالة، فمن تداركته الرحمة بالتوبة، ومن أوبقته اللعنة بالإصرار هلك.
ولما بين عداوة الكفار للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم رضي الله عنهم بقوله: {وما يجادل في آيات الله} ما بعده، وكان ذلك أمراً غائظاً محزناً موجعاً، وختم ذلك ببيان حقوق كلمة العذاب عليهم تسلية لمن عادوهم فيه سبحانه، زاد في تسليتهم شرحاً لصدورهم وتثبيتاً لقلوبهم ببيان ولاية الملائكة المقربين لهم مع كونهم أخص الخلق بحضرته سبحانه وأقربهم من محل أنسه وموطن قدسه وبيان حقوق رحمته للذين آمنوا بدعاء أهل حضرته لهم فقال، أو يقال: إنه لما بين حقوق كلمة العذاب، كان كأنه قيل: فكيف النجاة؟ قيل: بايقاع الإيمان بالتوبة عن الكفران ليكون موقعه أهلاً للشفاعة فيه من أهل الحضرة العلية،(17/11)
فيغفر له إن تاب ما قدم من الكفر، فقال مظهراً لشرف الإيمان وفضله: {الذين يحملون العرش} وهم المقربون وهم أربعة كما يذكر إن شاء الله تعالى في الحاقه، فإذا كانت القيامة كانوا ثمانية، وهل هم أشخاص أو صفوف فيه كلام يذكر إن شاء الله تعالى {ومن حوله} وهم جميع الملائكة وغيرهم ممن ربما أراد الله كونه محيطاً به كما تقدم في التي قبلها {وترى الملائكة حافين من حول العرش} أي طائفين به، فأفادت هذه العبارة النص على الجميع مع تصوير العظمة.
ولما كان ربما وقع في وهم أنه سبحانه محتاج إلى حملهم لعرشه أو إلى عرشه أو إلى شيء، نبه بالتسبيح على أنه غنيّ عن كل شيء وأن المراد بالعرش والحملة ونحو ذلك إظهار عظته لنا في مثل محسوسة لطفاً منه بنا تنزلاً إلى ما تسعه عقولنا وتحمله أفهامنا، فقال مخبراً عن المبتدأ وما عطف عليه: {يسبحون} أي ينزهون أي يوقعون تنزيهه سبحانه عن كل شائبة نقص ملتبسين {بحمد} وصرف القول إلى ضميرهم إعلاماً بأن الكل عبيده من العلويين والسفليين القريب والبعيد، وكائنون تحت تصرفه وقهره، وإحسانه وجبره، فقال: {ربهم} أي باحاطة المحسن إليهم بأوصاف الكمال.
ولما كان تعالى باطناً لا يحيط أحد به علماً، أشار إلى أنهم مع أنهم أهل الحضرة هم من وراء حجاب الكبر وأردية العظمة، لا فرق بينهم(17/12)
في ذلك وبين ما هو في الأرض السفلى بقوله: {ويؤمنون به} لأن الإيمان إنما يكون بالغيب. ولما كانوا لقربهم أشد الخلق خوفاً لأنه على قدر القرب من تلك الحضرات يكون الخوف، فهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء السادسة وهكذا، وكانوا قد علموا من تعظيم الله تعالى للنوع الإنساني ما لم يعلمه غيرهم لأمره سبحانه لهم بتعظيمه بما اختص به سبحانه من السجود، وكان من أقرب ما يقترب به إلى الملك التقرب إلى أهل وده، نبه سبحانه على ذلك كله بقوله: {ويستغفرون} أي يطلبون محو الذنوب أعياناً وآثاراً.
ولما كان الاشتراك في الإيمان أشد من الاتحاد في النسب، قال دالاً على أن الاتصاف بذلك يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة وأبعثه على إمحاض الشفقة: {للذين آمنوا} أي أوقعوا هذه الحقيقة لما بينهم من أخوة الإيمان ومجانسته وإن اختلف جنسهم في حقيقة التركيب وإن وقع منهم بعد ذلك خلل يحق عليهم الكلمة لولا العفو {وما قدروا الله حق قدره} {ويعفو عن كثير} «لن يدخل أحد الجنة بعمله» . ولما ذكر استغفارهم بين عبارتهم عنه بقوله: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بالإيمان وغيره. ولما كان المراد بيان اتساع رحمته(17/13)
سبحانه وعلمه، وكان ذلك أمراً لا يحتمله العقول، عدل إلى أسلوب التمييز تنبيهاً على ذلك مع ما فيه من هز السامع وتشويقه بالإبهام إلى الإعلام فقال: {وسعت كل شيء} ثم بين جهة التوسع بقوله تميزاً محولاً عن الفاعل: {رحمة} أي رحمتك أي بإيجاده من العدم فما فوق ذلك {وعلماً} أي وأحاط بهم علمك، فمن أكرمته فعن علم بما جلبته عليه مما يقتضي إهانة أو إكراماً.
ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء من تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وغير ذلك، قالوا منبهين على ذلك: {فاغفر للذين تابوا} أي رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوا أعيانها وآثارها، فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها {واتبعوا} أي كلفوا أنفسهم على ما لها من العوج أن لزموا {سبيلك} المستقيم الذي لا لبس فيه. ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب، وكان سبحانه له أن يعذب من لا ذنب له، وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا: {وقهم عذاب الجحيم *} أي اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بذلك، ولا يبدل القول لديك، وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء.(17/14)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)
ولما كانت النجاة من العذاب لا تستلزم الثواب، قالوا مكررين صفة(17/14)
الإحسان زيادة في الرقة في طلب الامتنان: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بتوفيق أحبابنا الذين لذذونا بالمشاركة في عبادك بالجنان واللسان والأركان {وأدخلهم جنات عدن} أي إقامة لا عناد فيها. ولما كانوا عالمين بأن سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء ولا يقبح منه شيء، نبهوا على ذلك بقولهم: {التي وعدتهم} مع الزيادة في التملق واللطافة في الحث وإدخالهم لأجل استعمالك إياهم الصالحات.
ولما كان الإنسان لا يطيب له نعيم دون أن يشاركه فيه أحبابه الذين كانوا يشاركونه في العبادة قالوا مقدمين أحق الناس بالإجلال: {ومن صلح من آبائهم} ثم أتبعوهم ألصقهم بالبال فقالوا: {وأزواجهم وذرياتهم} . ولما كان فاعل هذا منا ربما نسب إلى ذل أو سفه، وربما عجز عن الغفران لشخص لكثرة المعارضين، عللوا بقولهم مؤكدين لأجل نسبة الكفار العز إلى غيره، ومن ذلك تسميتهم العزى: {إنك أنت} أي وحدك {العزيز} فأنت تغفر لمن شئت غير منسوب إلى وهن {الحكيم *} فكل فعل لك في أتم مواضعه فلذلك لا يتهيأ لأحد نقضه ولا نقصه.
ولما كان الإنسان قد يغفر له ويكرم، وفيه من الأخلاق ما ربما(17/15)
حمله على بعض الأفعال الناقصة دعوا لهم بالكمال فقالوا: {وقهم السيئات} أي بأن تجعل بينهم وبينها وقاية بأن تطهرهم من الأخلاق الحاملة عليها بتطهير القلوب بنزع كل ما يكره منها أو بأن يغفرها لهم ولا يجازيهم عليها، وعظموا هذه الطهارة ترغيباً في حمل النفس في هذه الدار على لزومها بقمع النفوس وإماتة الحظوظ بقولهم: {ومن تق السيئات} أي جزاءها كلها {يومئذ} أي يوم إذ تدخل فريقاً الجنة وفريقاً النار المسببة عن السيئات أو إذ تزلف الجنة للمتقين وتبرز الجحيم للغاوين: {فقد رحمته} أي الرحمة الكاملة التي لا يستحق غيرها أن يسمى معها رحمة، فإن تمام النعيم لا يكون إلا بها لزوال التحاسد والتباغض والنجاة من النار باجتناب السيئات ولذلك قالوا: {وذلك} أي الأمر العظيم جداً {هو} أي وحده {الفوز العظيم *} فالآية من الاحتباك: ذكر إدخال الجنات أولاً دليلاً على حذف النجاة من النار ثانياً، ووقاية السيئات ثانياً دليلاً على التوفيق للصالحات أولاً، وسر ذلك التشويق إلى المحبوب - وهو الجنان - بعمل المحبوب - وهو الصالح - والتنفير من النيران باجتناب الممقوت من الأعمال، وهو السيء فذكر المسبب أولاً وحذف السبب لأنه لا سبب في الحقيقة إلا الرحمة، وذكر السبب ثانياً(17/16)
في إدخال النار وحذف المسبب.
ولما أتم الذين آمنوا، فتشوفت النفس إلى معرفة ما لأضدادهم، قال مستأنفاً مؤكداً لإنكارهم هذه المناداة بانكار يومها: {إن الذين كفروا} أي أوقعوا الكفر ولو لحظة {ينادون} أي يوم القيامة بنداء يناديهم به من أراد الله من جنوده أو في الدار أرفع نعماً - أنهم آثر عند الله من فقراء المؤمنين، أكد قوله: {لمقت الله} أي الملك الأعظم إياكم بخذلانكم {أكبر من مقتكم} وقوله: {أنفسكم} مثل قوله تعالى: {انظر كيف كذبوا على أنفسهم} جاز على سبيل الإشارة إلى تنزه الحضرة المقدسة عما لزم فعلهم من المقت، فإن من دعا إلى أحد فأعرض عنه إلى غيره كان إعراضه مقتاً للمعرض عنه، وهذا المقت منهم الموجب لمقت الله لهم موصل لهم إلى عذاب يمقتون به أنفسهم، والمقت أشد البغض؛ ثم ذكر ظرف مقتهم العائد وباله عليهم بقوله: {إذا} أي حين، وأشار إلى أن الإيمان لظهور دلائله ينبغي أن يقبل من أي داع كان، فبنى الفعل لما لم يسم فاعله فقال: {تُدعون إلى الإيمان} أي بالله وما جاء من عنده {فتكفرون *} أي فتوقعون الكفر الذي هو تغطية الآيات موضع إظهارها والإذعان بها،(17/17)
وهذا أعظم العقاب عند أولي الألباب، لأن من علم أن مولاه عليه غضبان علم أنه لا ينفعه بكاء ولا يغني عنه شفاعة ولا حيلة في خلاصه بوجه.
ولما كان من أعظم ذنوبهم إنكار البعث، وكانوا قد استقروا العوائد، وسبروا ما جرت به الأقدار في الدهور والمدائد، من أن كل ثان لا بد له من ثالث، وكان الإحياء لا يطلق عرفاً إلا من كان عن موت، حكى سبحانه جوابهم بقوله الذي محطه الإقرار بالبعث والترفق بالاعتراف بالذنب حيث لا ينفع لفوات شرطه وهو الغيب: {قالوا ربنا} أي أيها المحسن إلينا بما تقدم في دار الدنيا {أمتَّنا اثنتين} قيل: واحدة عند انقضاء الآجال في الحياة الدنيا وأخرى بالصعق بعد البعث أو الإرقاد بعد سؤال القبر، والصحيح أن تفسيرها آية البقرة {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم} [آية: 28] وأما الصعق فليس بموت، وما في القبر فليس بحياة حتى يكون عنه موت، وإنما هو إقدار على الكلام كما أقدر سبحانه الحصى على التسبيح والحجر على التسليم، والضب على الشهادتين، والفرس حين قال لها(17/18)
فارسها ثبي إطلال على قولها وثباً وسورة البقرة {وأحييتنا اثنين} واحدة في البطن، وأخرى بالبعث بعد الموت، أو واحدة بالبعث وأخرى بالإقامة من الصعق، أو الإقامة في القبر، فشاهدنا قدرتك على البعث {فاعترفنا} أي فتسبب عن ذلك أنّا اعترفنا بعد تكرر الإحياء {بذنوبنا} الحاصلة بسبب إنكار البعث لأن من لم يخش العاقبة بالغ في متابعة الهوى، فذلك توبة لنا {فهل إلى خروج} أي من النار ولو على أدنى أنواع الخروج بالرجوع إلى الدنيا فنعمل صالحاً {من سبيل} فنسلكه فنخرج ثم تكون لنا موتة ثالثة وإحياءة ثالثة إلى الجنة التي جعلتها جزاء من أقر بالبعث.
ولما كان الجواب قطعاً: لا سبيل إلى ذلك، علله بقوله: {ذلكم} أي القضاء النافذ العظيم العالي بتخليدكم في النار مقتاً منه لكم {بأنه} أي كان بسبب أنه {إذا دُعي الله} أي وجدت ولو مرة واحدة دعوة الملك الأعظم من أي داع كان {وحده} أي محكوماً له بالوحدة أو منفرداً من غير شريك {كفرتم} أي هذا طبعكم دائماً رجعتم إلى الدنيا أولاً {وإن يشرَك به} أي يوقع الإشراك به ويجدد ولو بعدد الأنفاس من أي مشرك كان {تؤمنوا} أي بالشركاء وتجددوا ذلك غير متحاشين ومن تجديد الكفر وهذا مفهم لأن(17/19)
حب الله للإنسان أكبر من حبه له الدال عليه توفيقه له في أنه إذا ذكر الله وحده آمن، وإن ذكر معه غيره على طريقة تؤل إلى الشركة كفر بذلك الغير وجعل الأمر لله وحده {فالحكم} أي فتسبب عن القطع بأن لا رجعة، وأن الكفار ما ضروا إلا أنفسهم مع ادعائهم العقول الراجحة ونفوذ ذلك أن كل حكم {لله} أي المحيط بصفات الكمال خاص به لا دخل للعوائد في أحكامه بل مهما شاء فعل إجراء على العوائد او خرقاً لها {العلي} أي وحده عن أن يكون له شريك، فكذب قول أبي سفيان يوم أحد «اعل هبل» وقول ابن عربي أحد أتباع فرعون أكذب وأقبح وأبطل حيث قال: العلي علا عن من وما ثم إلا هو، فعليه الخزي واللعنة وعلى من قال بقوله وعلى من توقف في لعنه.
ولما كانت النفوس لا تنقاد غاية الانقياد للحاكم إلا مع العظمة الزائدة والقدم في المجد، قال معبراً بما يجمع العظمة والقدم: {الكبير *} الذي لا يليق الكبر إلا له، وكبر كل متكبر وكبر كل كبير متضائل تحت دائرة كبره وكبره، وعذابه مناسب لكبريائه فما أسفه من شقي بالكبراء فإنهم يلجئون أنفسهم إلى أن يقولوا ما لا يجديهم {ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا} : ولما قصر الحكم عليه دل على ذلك(17/20)
بقوله ذاكراً من آيات الآفاق العلوية ما يرد الموفق عن غيه: {هو} أي وحده {الذي يريكم} أي بالبصر والبصيرة {آياته} أي علاماته الدالة على تفرده بصفات الكمال تكميلاً لنفوسكم، فينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بإعادة ما تحطم فيها من الحبوب فتفتتت بعد موتها بصيرورة ذلك الحب تراباً لا تميز له عن ترابها فيتذكر به البعث لمن انمحق فصار تراباً وضل في تراب الأرض حتى لا تميز له عنه من طبعه الإنابة، وهو الرجوع عما هو عليه من الجهل إلى الدليل بما ركز في فطرته من العلم، وذلك هو معنى قوله: {وينزل لكم} أي خاصاً بنفعكم أو ضركم {من السماء} أي جهة العلو الدالة على قهر ما نزل منها بإمساكه إلى حين الحكم بنزوله {رزقاً} لإقامة أبدانكم من الثمار والأقوات بانزال الماء فهو سبحانه يدلكم عليه ويتحبب إليكم لتنفعوا أنفسكم وأنتم تتبغضون إليه وتتعامون عنه لتضروها {وما يتذكر} ذلك تذكراً تاماً - بما أشار إليه الإظهار - فيقيس عليه بعث من أكلته الهوام، وانمحق باقيه في الأرض {إلا من ينيب *} أي له أهلية التجديد في كل وقت للرجوع إلى(17/21)
الدليل بأن يكون حنيفاً ميالاً للطافته مع الدليل حيثما مال. ما هو بحلف جامد ما الفه، ولا يحول عنه أصلاً، لا يصغي إلي قال ولا قيل، ولو قام على خطابه كل دليل.(17/22)
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
ولما كان كل من الناس يدعي أنه لا يعدل عن الدليل، وكان كل أحد مأموراً بالنظر في الدليل مأموراً بالإنابة لما دل عليه من التوجه إلى الله وحده، كان ذلك سبباً في معرفة الكل التوحيد الموجب لاعتقاده القدرة التامة الموجب لاعتقاد البعث، فكان سبباً لإخلاصهم، فقال تعالى مسبباً عنه: {فادعوا} وصرح بالاسم الأعظم تدريباً للمخلصين على كيفية الإخلاص فقال: {الله} أي المتوحد بصفات الكمال دعاء خضوع وتعبد بعد الإنابة بعد النظر في الدليل {مخلصين له الدين} أي الأفعال التي يقع الجزاء عليها، فمن كان يصدق بالجزاء وبأن ربه غني لا يقبل إلا خالصاً اجتهد في تصفية أعماله، فيأتي بها في غاية الخلوص عن كل ما يمكن أن يكدر من غير شائبة شرك جلي أو خفي كما أن معبوده واحد من غير شائبة نقص.
ولما كانت مخالفة الجنس شديدة لما تدعو إليه من المخاصمة الموجبة للمشاققة الموجبة لاستطابة الموت قال تعالى: {ولو كره} أي الدعاء منكم {الكافرون *} أي الساترون لأنوار عقولهم، والإخلاص أن(17/22)
يفعل العباد لربهم مثل ما فعل لهم فلا يفعلوا فعلاً من أمر أو نهي إلا لوجهه خاصة من غير غرض لأنفسهم بجلب شيء من نفع أو ضر، وذلك لأنه سبحانه فعل لهم كل إحسان من الخلق والرزق ولأنفسهم خاصة لا لغرض يعود عليه - سبحانه وما أعز شأنه - بنفع ولا ضر، فلا يكون شكرهم له إلا بما تقدم، لكنه لما علم سبحانه بأن أباح لهم العمل لأجل الرجاء في ثوابه والخوف من عقابه، ولم يجعل ذلك قادحاً في الإخلاص، قال الاستاذ أبو القاسم القشيري: ولولا إذنه في ذلك لما كان في العالم مخلص.
ولما كان الإخلاص لا يتأتى إلا ممن رفعه إشراق الروح عن كدورات الأجسام، وطارت به أنوارها عن حضيض ظلمات الجهل إلى عرش العرفان، فصار إذ كان الملك الديان سمعه الذي يسمع به، بمعنى أنه لا يفعل بشيء من هذه الجوارح إلا ما أمره به سبحانه يتصرف في الأكوان بإذن الفتاح العليم تكسب القلوب من ضياء أنواره ويحيى ميت الهمم بصافي أسراره، نبه سبحانه على ذلك حثاً عليه(17/23)
وتشويقاً إليه بقوله ممثلاً بما يفهمه العباد مخبراً عن مبتدأ محذوف تقديره: هو {رفيع الدرجات} أي فلا يصل إلى حضرته الشماء إلا من علا في معارج العبادات ومدارج الكمالات.
ولما كنا لا نعرف ملكاً إلا بغلبته على سرير الملك، وكانت درج كل ملك ما يتوصل بها إلى عرشه، أشار سبحانه بجميع القلة إلى السماوات التي هي دون عرشه سبحانه، ثم أشار إلى أن الدرج إليه لا تحصى بوجه، لأنا لو أنفقنا عمر الدنيا في اصطناع درج للتوصل إلى السماء الدنيا ما وصلنا، فكيف بما فوقها فكيف وعلوه سبحانه، ليس هو بمسافة بل علو عظمة ونفوذ كلمة تنقطع دونها الآمال وتفنى الأيام والليال، والكاشف لذلك أتم كشف تعبيره في {سأل} بصيغة منتهى الجموع {المعارج} - ثم قال ممثلاً لنا بما نعرف: {ذو العرش} أي الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو، فهو محيط لجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان، وعال بجلاله وعظمه عن كل ما يخطر في الأذهان.
ولما كان الملوك يلقون أوامرهم من مراتب عظمائهم إلى من أخلصوا في ودادهم قال: {يلقي الروح} أي الذي تحيى به الأرواح(17/24)
حياة الأشباح بالأرواح {من أمره} أي من كلامه، ولا شك أن الذي يلقي ليس الكلام النفسي وإنما هو ما يدل عليه، وهو الذي يقبل النزول والتلاوة والكتابة ونحو ذلك. ولما كان أمره عالياً على كل أمر، أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال: {على من يشاء} ولما كان ما رأوه من الملوك لا يتمكنون من رفع كل من أرادوا من رقيقهم، نبه على عظمته بقوله: {من عباده} وأشار بذلك مع الإشارة إلى أنه مطلق الأمر لا يسوغ لأحد الاعتراض عليه، ولو اعترض كان اعتراضه أقل من أن يلتفت إليه أو يعول بحال عليه إلى توهية قولهم {أو أنزل عليه الذكر من بيننا} [ص: 8] بأنه عليه السلام المخلص في عباده لم يمل إلى شيء من أوثانهم ساعة ما ولا صرف لحظة عن الإله الحق طرفة عين، فلذلك اختصه من بينهم بهذا الروح الذي لا روح في الوجود سواه، فمن أقبل عليه وأخلص في تلاوته والعمل بما يدعو إليه والبعد عما ينهى عنه صار ذا روح موات يحيي الأموات ويزري بالنيرات. قال الرازي: قال ابن عطاء: حياة القلب على حسب ما ألقي إليه من الروح، فمنهم من ألقي إليه روح الرسالة، ومنهم من ألقي إليه روح النبوة، ومنهم من ألقي إليه روح الصديقية والكشف والمشاهدة، ومنهم من ألقي إليه روح العلم والمعرفة، ومنهم من ألقي إليه روح العبادة(17/25)
والخدمة، ومنهم من ألقي إليه روح الحياة فقط، ليس له علم بالله ولا مقام مع الله، فهو ميت في الباطن، وله الحياة البهيمية التي يهتدي بها إلى المعاش دون المعاد - انتهى. وبالجملة فكل من هذه الأرواح منطق لمن ألقي عليه مطلق للسانه ببديع بيانه وإن اختلف نطقهم في بيانهم، وتصرفهم في عظيم شأنهم.
ولما بين سر اختصاصه بالإرسال لهذا النبي الكريم، أتبع ذلك بما يزيده بياناً من ثمرة الإرسال فقال: {لينذر} أي الذي اختصه سبحانه بروحه، وعبر بما يقتضيه تصنيف الناس الذي هو مقصود السورة من الاجتماع، وأزال وهم من قد يستحيل لقاء سبحانه لرفعه درجاته وسفول درجات غيره {يوم التلاق *} أي الذي لا يستحق أن يوصف بالتلاقي على الحقيقة غيره لكونه يلتقي فيه الأولون والآخرون وأهل السماوات والأرض ولا حيلة لأحد منهم في فراق غريمه بغير فصل على وجه العدل، وإلى هذا المعنى أشارت قراءة ابن كثير باثبات الياء في الحالين وهو واضح جداً في إفراد حزبي الأسعدين والأخسرين فإنه تلاق لا آخر له، وأشارت قراءة الجمهور بالحذف في الحالين إلى تلاقي هذين الجزئين: أحدهما بالآخر(17/26)
فإنه - والله أعلم - قل ما يكون حتى يفترقا بالأمر بكل إلى داره: الأسعدين بغير حساب، والأخسرين لا يقام لهم وزن، وأشار الإثبات في الموقف دون الوصل إلى الأمر الوسط وهي لمن بقي لقاءهم يمتد إلى حين القصاص لبعضهم من بعض.
ولما أفهم ذلك عدم الحجاب من بيوت أو جبال، أو أشجار أو تلال، أو غير ذلك من سائر ذوات الظلال، نبه عليه في قوله معيداً ذكر اليوم لأنه أهول له: {يوم هم} أي بظواهرهم وبواطنهم {بارزون} أي برزوا لا ساتر فيه أصلاً.
ولما كان من المعلوم عندهم إنما لا ساتر له معلوم، أجرهم على ما يعهدون، وعبر بعبارة تعم ذلك فقال مستأنفاً في جواب من ظن أنه قد يخفي عليه شيء عن الساتر معظماً الأمر بإظهار الاسم الأعظم: {لا يخفى على الله} أي المحيط علماً وقدرة {منهم شيء} أي من ذواتهم ولا معانيهم سواء ظهروا أو استتروا في هذا اليوم وفي غيره.
ولما كان من العادة المستمرة أن الملك العظيم إذا أرسل جيشه إلى من طال تمردهم عليه وعنادهم له فظفروا بهم وأحضروهم إليه أن يناديهم مناديه وهم وقوف بين يديه قد أخرستهم هيبته وأذلتهم عظمته(17/27)
بلسان قاله أو لسان حاله بما يبكهم به ويوبخهم ويؤسفهم على ما مضى من عصيانهم ويندمهم قال: {لمن الملك اليوم} أي يا من كانوا يعملون أعمال من يظن أنه لا يقدر عليه أحد، فيجيبون بلسان الحال أو المقال كما قال بعض من قال:
سكت الدهر طويلاً عنهم ... قد أبكاهم دماً حين نطق
{لله} أي الذي له جميع صفات الكمال، ثم دل على ذلك بقوله: {الواحد} أي الذي لا يمكن أن يكون له ثان بشركة ولا قسمة ولا غيرها {القهار *} أي الذي يقهر من يشاء متكرراً وصفه بذلك دائماً أبداً لما ثبت من غناه المطلق بوحدانيته الحقيقة.
ولما أخبر عن إذعان كل نفس بانقطاع الأسباب، أخبرهم بما يزيد رعبهم، ويبعث رغبهم ورهبهم، وهو نتيجة تفدره بالملك قال: {اليوم تجزى} أي تقضى وتكافأ، بناه للمفعول لأن المرغب المرهب نفس الجزاء ولبيان سهولته عليه سبحانه {كل نفس} لا تترك نفس واحدة لأن العلم قد شملهم والقدرة قد أحاطت بهم وعمتهم، والحكمة قد منعت من إهمال أحد منهم.(17/28)
ولما كان السياق للملك والقهر يقتضي الجزاء واعتماد الكسب الذي هو محط التكليف بالأمر والنهي ويقتضي النظر في الأسباب، لأن ذلك شأن الملك، قال معبراً بالباء والكسب: {بما} أي بسبب ما {كسبت} أي عملت، وهي تظن أنه يفيدها سواء بسواء بالكيل الذي كالت يكال لها.
ولما كانت السببية مفهمة للعدل، فإن الزيادة تكون بغير سبب، قال معللاً نافياً مثل ما كانوا يتعاطونه من ظلم بعضهم لبعض في الدنيا: {لا ظلم} أي بوجه من الوجوه {اليوم} ولما كان استيفاء الخلائق بالمجازاة أمراً لا يمكن في العادة ضبطه، ولا يتأنى حفظه وربطه، فكيف إذا قصدت المساواة في مثاقيل الدر فما دونها:
بميزان قسط لا يخيس شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل
ضافت النفوس من خوف الطول، فخفف عنها بقوله معلماً أن أموره على غير ما يعهدونه، ولذلك أكد وعظم باظهار الاسم الأعظم: {إن الله} أي التام القدرة الشامل العلم {سريع الحساب *} أي بليغ السرعة فيه، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره في وقت حساب ذلك الغير، ولا يشغله شأن عن شأن لأنه لا يحتاج إلى تكلف عد، ولا يفتقر إلى مراجعة كتاب، ولا شيء، فكان في ذلك ترجية للفريقين(17/29)
وتخويف، لأن الظالم يخشى إسراع الأخذ بالعذاب، والمؤمن يرجو إسراع البسط بالثواب.(17/30)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
ولما تم هذا على هذا الوجه المهول، وكان يوم القيامة له أسماء تدل على أهواله باعتبار مواقفه وأحواله، منها يوم البعث وهو ظاهر، ومنها يوم التلاق لما تقدم، ومنها يوم التغابن لغبن أكثر من فيه خسارته، ومنها يوم الآزفة لقربه وسرعة أخذه، وكان كأنه قيل خطاباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأمن ممن ألقينا هذا الروح الأعظم من أمرنا فأنذرهم ما مضى من يوم التلاقي وما عقبناه به، عطف عليه قوله زيادة في بيان هوله إعلاماً بأنه مع ثبوته وثبوت التلاقي فيه قريب تحذيراً من تزيين إبليس للشهوات وتقريره بالتسويف بالتوبة: {وأنذرهم} أي هؤلاء المعرضين إعراض من لا يجوز الممكن {يوم الآزفة} أي الحالة الدائبة العاجلة السريعة جداً مع الضيق في الوقت وسوء العيش لأكثر الناس، وهي القيامة، كرر ذكرها الإنذار منها تصريحاً وتلويحاً تهويلاً لها وتعظيماً لشأنها.
ولما ذكر اليوم، هول أمره بما يحصل فيه من المشاق فقال:(17/30)
{إذ القلوب} أي من كل من حضره. ولما كان هذا الرعب على وجه غريب باطن، عبر ب «لدى» فقال: {لدى الحناجر} أي حناجر المجموعين فيه إلا من شاء الله، وهي جمع حنجور وهي الحلقوم وزناً ومعنى، يعني أنها زالت عن أمكانها صاعدة من كثرة الرعب حتى كادت تخرج وصارت مواضعها من الأفئدة هواء، وكانت الأفئدة معترضة كالشجا لا هي ترجع إلى مقارها فيستريحوا ولا تخرج فيموتوا.
ولما كان الحديث - وإن كان في الظاهر عن القلوب - إنما هو عن أصحابها، جمع على طريقة جمع العقلاء، وزاده حسناً أن القلوب محل الكظم، وبها صلاح الجملة وفسادها، وقد أسند إليها ما يسند للعقلاء فقال: {كاظمين} أي ممتلئين خوفاً ورعباً وحزناً، ساكتين مكروبين، قد انسدت مجاري أنفاسهم وأخذ بجميع إحساسهم. ولما كان من المعلوم أن ذلك الكرب إنما هو للخوف من ديان ذلك اليوم، وكان من المعهود أن الصداقات تنفع في مثل ذلك اليوم والشفاعات، قال مستأنفاً: {ما للظالمين} أي العريقين في الظلم منهم {من حميم} أي قريب صادق في مودتهم مهتم بأمورهم(17/31)
مزيل لكروبهم، قال ابن برجان: والحميم: الماء الحار الناهي في الحرارة، سمي القريب به لأنه يحمي لقريبه غضباً، والغضب حرارة تعرض في القلب تخرج إلى الوجه فيحمر وتنتفخ الأوداج فيستشيط غيظاً {ولا شفيع يطاع *} أي ليس لهم شفيع أصلاً لأن الشفيع يعلم أنه لو شفع ما أطيع فهو لا ينفع، وقد يشفع في بعضهم بعض المقربين لعلامة فيهم يحصل بها اشتباه يظن بهم أنهم ممن يستحق الشفاعة فينبه على أنهم ليسوا بذلك، فيبرأ منهم.
ولما كانت الشفاعة إنما تقع وتنفع بشرط براءة المشفوع له من الذنب إما بالاعتراف بما نسب إليه والإقلاع عنه، وإما بالاعتذار عنه، وكان ذلك إنما يجري عند المخلوقين على الظاهر، ولذلك كانوا ربما وقع لهم الغلط فيمن لو علموا باطنه لما قبلوا الشفاعة فيه، علل تعالى ما تقدم بعلمه أن المشفوع له ليس بأهل لقبول الشفاعة فيه لإحاطة علمه فقال: {يعلم خائنة} ولما كان السياق هنا للابلاغ في أن علمه تعالى محيط بكل كلي وجزئي، فكان من المعلوم أن الحال يقتضي جمع الكثرة، وأنه ما عدل عنه إلى جمع القلة إلا للاشارة إلى أن علمه تعالى بالكثير كعلمه بالقليل الكل، عليه هين، فالكثير عنده في ذلك قليل فلذا قال: {الأعين} أي خيانتها التي هي أخفى ما يقع من أفعال الظاهر، جعل الخيانة مبالغة في الوصف وهي الإشارة بالعين،(17/32)
قال أبو حيان: من كسر وغمز ونظر يفهم منه ما يراد - انتهى.
وذلك يفعل بفعل ما يخالف الظاهر، ولما ذكر أخفى أفعال الظاهر، أتبعه أخفى ما في الباطن فقال: {وما تخفي الصدور *} أي عن المشفوع عنده وغير ذلك.
ولما كان العفو عن الظالم الذي لا يرجع عن ظلمه نقصاً، لكونه لا حكمة فيه، عبر بالاسم الأعظم في جملة حالية فقال: {والله} أي والحال أن المتصف بجميع صفات الكمال {يقضي بالحق} أي الثابت الذي لا يصح أصلاً نفيه، فلو قضى فيمن يعلم أنه ليس بأهل للشفاعة فيه بقبول الشفاعة لنفى الحق وأثبت الباطل فخالف ذلك الكمال {والذين يدعون} أي الظالمون - على قراءة الجماعة، وأيها الظالمون - على قراءة نافع وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالخطاب للمواجهة بالإزراء. ولما كانت المراتب دون عظمته سبحانه لا تنحصر ولا يحتوي عليها كلها شيء، أثبت الجار فقال: {من دونه} أي سواه، ومن المعلوم أنهم خلقه فهم دون رتبته لأنهم في قهره {لا يقضون بشيء} من الأشياء أصلاً، فضلاً عن أن يقضوا بما يعارض حكمه، فلا مانع له من القضاء بالحق، فلا مقتضى لقبول الشفاعة فيمن يعلم عراقته في(17/33)
الظلم أنه لا ينفك عنه.
ولما أخبر أنه لا فعل لشركائهم، وأن الأمر له وحده، علل ذلك بقوله مرهباً من الخيانة وغيرها من الشر، مرغباً في كل خير، مؤكداً لأجل أن أفعالهم تقتضي إنكاراً ذلك: {إن الله} عبر به لأن السياق لتحقير شركائهم وبيان أنها في غاية النقصان {هو} أي وحده. ولما ذكر ما هو غيب، وصفه بأظهر ظاهر فقال: {السميع} أي لكل ما يمكن أن يسمع {البصير *} أي بالبصر والعلم لكل ما يمكن أن يبصر ويعلم، فلا إدراك لشركائهم أصلاً ولا لشيء غيره بالحقيقة، ومن لا إدراك له ولا قضاء له، فثبت أن الأمر له وحده، فما تنفعهم شفاعة الشافعين ولا تقبل فيهم من أحد شفاعة بعد الشفاعة العامة التي هي خاصة بنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فإن كل أحد يحجم عنها حتى يصل الأمر إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: أنا لها أنا لها، ثم يذهب إلى المكان الذي أذن له فيشفع، فيشفعه الله تعالى فيفصل سبحانه بين الخلائق ليذهب كل أحد إلى داره: جنته أو ناره، روى الشيخان: البخاري ومسلم عن أبي هريرة(17/34)
رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوة فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة، فقال:
«أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذاك، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحملون، فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم، فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فذكر سؤالهم أكابر الأنبياء، وكل واحد منهم يحيل على الذي بعده إلى أن يقول عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يأتونه: أنا لها، فينطلق فيسجد تحت العرش» - وهو مروي عن غير أبي هريرة عن أنس وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكن لم أر فيه التصريح بالشفاعة العامة بعد رفع رأسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السجود إلا فيما رواه البخاري في الزكاة من صحيحه في باب «من سأل الناس تكثراً» عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي(17/35)
بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم» ، وكذا فيما رواه أيو يعلى في مسنده فقال: حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في طائفة من أصحابه فقال: «إن الله تبارك وتعالى لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فذكر النفخ فيه للموت ثم للبعث ثم ذكر الحشر» - وهو حديث طويل جداً إلى أن قال: «ثم يقفون موقفاً واحداً مقدار سبعين عاماً لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون دماً وتعرقون إلى أن يبلغ ذلك منكم أن يلجمكم أو يبلغ الأذقان، فتضجون وتقولون: من يشفع لنا إلى ربنا يقضى بيننا، فتقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلاً، فتأتون آدم فتطلبون ذلك إليه فيأبى فيقول: ما أنا بصاحب ذلك، ثم يستقربون الأنبياء نبياً نبياً كلما جاؤوا نبياً أبى عليهم، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حتى تأتوني، فأنطلق حتى آتي الفحص فأخر ساجداً(17/36)
فقال أبو هريرة: يا رسول الله! ما الفحص؟ قال: قدام العرش - حتى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني فيقول لي: يا محمد! فأقول: نعم يا رب! فيقول: ما شأنك - وهو أعلم فأقول: يا رب وعدتني فشفعني في خلقك فاقض بينهم، قال: قد شفعتك أنا آتيكم فأقضي بينكم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأرجع فأقف مع الناس فبينما نحن وقوف سمعنا حساً من السماء شديداً فنزل أهل السماء الدنيا مثل من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا، وهو آت ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثل من نزل من الملائكة، ومثل الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا، وهو آت، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار تبارك وتعالى في ظلل من الغمام، والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهو اليوم على أربعة - إلى أن قال: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يهتف بصوته فيقول: يا معشر الجن والإنس! إني قد أنصت لكم من يوم خلقتكم إلى يوم يومكم هذا أسمع قولكم، وأبصر أعمالكم، فانصتوا لي فإنما هي أعمالكم(17/37)
وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ثم يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم، ثم يقول الله عز وجل {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون} [يس: 60-63]- أو بها تكذبون - شك أبو عاصم، {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} [يس: 59] فتسمى النار وتجثو الأمم وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها فيقضي بين خلقه»
- فذكره وهو طويل جداً، ثم ذكر الصراط وبعض الشفاعات الخاصة في أهل الجنة، فذكر دخولهم الجنة ثم أنهم يشفعون في بعض أهل النار إلى أن قال: «ثم يأذن الله في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع»
إلى أن قال: «ثم يقول الله عز وجل: بقيت أنا وأنا أرحم الراحمين. فيدخل الله يده في جهنم فيخرج منها لا يحصيه غيره» وروى ابن حبان في صحيحه - قال المنذري: ولا أعلم في إسناده مطعناً - عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقول إبراهيم عليه السلام يوم القيامة. يا رباه، فيقول الرب جل وعلا: يا لبيكاه، فيقول إبراهيم: يا رب حرقت بني - فيقول الله: أخرجوا من النار من كان في قلبه ذرة أو شعيرة من الإيمان» وروى الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وأحمد بن منيع: «يلقى رجل(17/38)
أباه يوم القيامة فيقول: يا أبة! أي ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن، فيقول: هل أنت مطيعي اليوم، فيقول: نعم، فيقول خذ بازرتي، فيأخذ بازرته، ثم ينطلق حتى يأتي الله وهو يعرض بعض الخلق، فيقول: يا عبدي! ادخل من أي أبواب الجنة شئت، فيقول: أي ربي، وأبي معي فإنك وعدتني أن لن تخزيني، فيعرض عنه ويقضي بين الخلق ويعرضهم ثم ينظر إليه فيقول: يا ابن آدم ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول: أي ربي وأبي معي فإنك قد وعدتني أن لن تخزيني قال: فيمسخ الله أباه ضبعاً أمذر أو أمجر» - شك أبو جعفر أحد رواة ابن منيع - «فيأخذ بأنفه فيقول: أبوك هو، فيقول: ما هو بأبي، فيهوي في النار» وهو في البخاري في أحاديث الأنبياء وتفسير الشعراء بلفظ: «يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آذر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم عليه السلام: ألم أقل لك: لا تعصني، فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى عن أبي الأبعد، فيقول الله تعالى:(17/39)
إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال لإبراهيم عليه السلام: انظر ما تحت رجلك فينظر فإذا هو بذيخ - وهو ذكر الضبعان - متلطخ فيؤخذ بقوامه فيلقى في النار» ، وروى أبو يعلى الموصلي والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة فتقطعه النار يريد أن يدخله الجنة، قال: فينادى أن الجنة لا يدخلها مشرك، ألا إن الله قد حرم الجنة على كل مشرك قال: فيقول: أي رب! أبي، فيحول في صورة قبيحة وريح منتنة فيتركه، فكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرون أنه إبراهيم عليه السلام» ، وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب على المنبر يقول:
«إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيدة وعداً علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الخلائق يكسى إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم(17/40)
شهيداً ما دمت فيهم} - إلى قوله: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118] » ورواه الترمذي والنسائي بنحوه، ومن نحو ما قال عيسى عليه السلام قول إبراهيم عيله السلام كما حكاه الله عنه {فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} وروى مسلم في الإيمان من صحيحه والنسائي في التفسير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام» {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فأنه مني} الآية - وقال عيسى عليه السلام {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فرفع يديه وقال: اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي - وبكى «، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله: فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» ، وللشيخين في الحوض والفتن ومسلم في فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سهل بن سعد وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أنا فرطكم على الحوض، من مر على شرب، ومن شرب لم يظمأ(17/41)
أبداً، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم» - زاد أبو سعيد رضي الله عنه: فأقول: «إنهم مني - فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي» ولمسلم وابن ماجه - وهذا لفظه - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر خطبته في الحج ثم قال: «ألا وإني فرطكم على الحوض وأكاثر بكم الأمم، ولا تسودوا وجهي، ألا وإني مستنقذ أناساً ومستنقذ مني أناس فأقول: يا رب: أصحابي أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ولفظ مسلم: «أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواماً ثم لأغلبن عليهم فأقول: يا رب! أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ولمسلم عن عائشة رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول وهو بين ظهراني أصحابه:
«إني على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم، فوالله ليقطعن دوني رجال فلأقولن: أي رب! مني ومن أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ما زالوا(17/42)
يرجعون على أعقابهم» وللشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ترد عليّ أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله! تعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما ليست لغيركم تردون عليّ غرّاً محجلين من آثار الوضوء، ولتصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول يا رب هؤلاء أصحابي، فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟ وفي رواية: بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج من بيني وبينهم رجل، فقال: هلم؛ فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، فقلت: ما شأنهم، فقال: إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم. أي ضوالها - أي الناجي قليل، وفي رواية لمسلم في الوضوء: ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً» قال المنذري:(17/43)
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً.(17/44)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
ولما وعظهم سبحانه بصادق الأخبار عن قوم نوح ومن تبعهم من الكفار، وختمه بالإنذار بما يقع في دار القرار للظالمين الأشرار، أتبعه الوعظ والتخويف بالمشاهدة من تتبع الديار والاعتبار، بما كان لهم فيها من عجائب الآثار، من الحصون والقصور وسائر الأبنية الصغار والكبار، فقال موبخاً ومقرراً عاطفاً على ما تقديره ألم يتعظوا بما أخبرناهم به من الظالمين الأولين من تبعهم من الإهلاك في الدنيا المتصل بالشقاء في الأخرى: {أو لم يسيروا} ولما كان المتقدمون من الكثرة والشدة والمكنة بحيث لا يعلمه إلا الله ولا يقدر آدمي على الإحاطة بمساكنهم، نبه عليه بقوله: {في الأرض} أي أي أرض ساروا فيها وعظتهم بما حوت من الأعلام.
ولما كان السير سبباً للنظر قال: {فينظروا} أي نظر اعتبار كما هو شأن أرباب البصائر الذين يزعمون أنهم أعلاهم. ولما كانت الأحوال المنظور فيها المعتبر بها شديدة الغرابة، نبه عليها بقوله: {كيف} أي أنها أهل لأن يسأل عنها، ونبه على أن التصاقها بهم في غاية العراقة بحيث لا انفكاك لها بقوله: {كان عاقبة} أي آخر(17/44)
أمر {الذين كانوا} أي سكاناً للأرض عريقين في عمارتها. ولما كان المنتفع بالوعظ يكفيه أدنى شيء منه، نبه على ذلك بالجار فقال: {من قبلهم} أي قبل زمانهم {كانوا} ولما كان السياق لمجادلة قريش لإدحاض الحق مع سماعهم لأخبار الأولين، كانوا كأنهم ادعوا أنهم أشد الناس، فاقتضى الحال تأكيد الخبر بأن الأولين أشد منهم، فأكدر أمرهم فيما نسبه إليهم معبراً بضمير الفصل بقوله: {هم} أي المتقدمون، لما لهم من القوى الظاهرة والباطنة.
ولما كان مرجع المجادلة القوة لا الكثرة، وقال استئنافاً في جواب من لعله يقول: ما كان أمرهم؟ : {أشد منهم} أي هؤلاء - قرأه ابن عامر {منكم} بالكاف كما هو في مصحف أهل الشام على الالتفات للتنصيص على المراد {قوة} أي ذواتاً ومعاني {و} أشد {آثاراً في الأرض} لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليها ألوف من السنين، وأما المتأخرون فتنطمس آثارهم في أقل من قرن.
ولما كانت قوتهم ومكنتهم سبباً لإعجابهم وتكبرهم على أمر ربهم ومخالفة رسله، فكان ذلك سبب هلاكهم قال: {فأخذهم الله} أي(17/45)
الذي له صفات الكمال أخذ غلبة وقهر وسطوة، ولما لم يتقدم شيء يسند إليه أخذهم، قال مبيناً ما أخذوا به: {بذنوبهم} أي التي سببت لهم الأخذ ولم يغن عنهم شيء من ذلك الذي أبطرهم حتى عتوا به على ربهم ولا شفع فيهم شافع {وما كان لهم} أي من شركائهم الذين ضلوا بهم كهؤلاء ومن غيرهم {من الله} أي عوض المتصف بجميع صفات الكمال، أو كوناً مبتدئاً من جهة عظمته وجلاله، وأكد النفي بزيادة الجار فقال: {من واق *} أي يقيهم مراده سبحانه فيهم، لا من شركائهم ولا من غيرهم، فعلم أن الذين من دونه لا يقضون بشيء، ويجوز أن تكون «من» الأولى ابتدائية على بابها تنبيهاً على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدئ من جهته سبحانه لهم وقاية لم تكن لهم باقية بخلاف من عاقبه الله عقوبة تأديب، فإن عذابه يكون سبب بقائه لما يحصل له منه سبحانه من الوقاية.
ولما ذكر سبحانه أخذهم ذكر سببه بما حاصله أن الاستهانة بالرسول استهانة بمن أرسله في قوله: {ذلك} أي الأخذ العظيم ولما كان مقصود السورة تصنيف الناس في الآخرة صنفين، فكانوا إحدى عمدتي الكلام، أتى بضميرهم فقال: {بأنهم} أي الذين كانوا من قبل {كانت تأتيهم} أي شيئاً فشيئاً في الزمان الماضي على وجه قضاه سبحانه فأنفذه {رسلهم} أي الذين هم منهم {بالبينات}(17/46)
أي الآيات الدالة على صدقهم دلالة هي من وضوح الأمر بحيث لا يسع منصفاً إنكارها.
ولما كان مطلق الكفر كافياً في العذاب، عبر بالماضي فقال: {فكفروا} أي سببوا عن إتيان الرسل عليهم الصلاة والسلام الكفر موضع ما كان إتيانهم سبباً له من الإيمان.
ولما سبب لهم كفرهم الهلاك قال: {فأخذهم} أي أخذ غضب {الله} أي الملك الأعظم. ولما كان قوله {فكفروا} معلماً بسبب أخذهم لم يقل: بكفرهم، كما قال سابقاً: بذنوبهم، لإرشاد السباق إليه. ولما كان اجتراؤهم على العظائم فعل منكر للقدرة، قال مؤكداً لعملهم عمل من لا يخافه: {إنه قوي} لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {شديد العقاب *} .
ولما كان ذلك عجباً لأن البينات تمنع من الكفر، فكان تقدير لمن ينكر الإرسال على هذه الصفة: فلقد أرسلناهم كذلك، وكان موسى عليه السلام من أجل المرسلين آيات، عطف على ذلك تسلية ونذارة لمن أدبر، وإشارة لمن استبصر قوله: {ولقد} ولفت القول إلى مظهر العظمة كما في الآيات التي أظهرها بحضرة هذا(17/47)
الملك المتعاظم من الهول والعظم الذي تصاغرت به نفسه وتحاقرت عنده همته وانطمس حسه، فقال: {أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة {موسى بآياتنا} أي الدالة على جلالنا {وسلطان} أي أمر قاهر عظيم جداً، لا حيلة لهم في مدافعة شيء منه {مبين *} أي بين في نفسه مناد لكل من يمكن إطلاعه عليه أنه ظاهر جداً، وذلك الأمر هو الذي كان يمنع فرعون من الوصول ألى أذاه مع ما له من القوة والسلطان {إلى فرعون} أي ملك مصر. ولما كان الأكابر أول من يتوجه إليه الأمر لأن بانقيادهم ينقاد غيرهم قال: {وهامان} أي وزيره. ولما كان من أعجب العجب أن يكذب الرسول من جاء لنصرته واستنقاذه من شدته قال: {وقارون} أي قريب موسى عليه السلام {فقالوا} أي هؤلاء ومن تبعهم، أما من عدا قارون فأولاً وآخراً بالقوة والفعل، وأما قارون ففعله آخراً بين أنه مطبوع على الكفر وإن آمن أولاً، وإن هذا كان قوله وإن لم يقله بالفعل في ذلك الزمان فقد قاله في التيه، فدل ذلك على أنه(17/48)
لم يزل قائلاً به، لأنه لم يتب منه {ساحر} لعجزهم عن مقاهرته، ولم يقل، «سحار» لئلا يتوهم أحد أنه يمدحه بالبراعة في علم السحر فتتحرك الهمم للإقبال عليه للاستفادة منه وهو خبر مبتدأ محذوف، ثم وصفوه بقولهم: {كذاب *} لخوفهم من تصديق الناس له، فبعث أخصّ عباده به إلى أخسّ عباده عنده ليقيم الحجة عليه، وأمهله عندما قابل بالتكذيب وحلم عنه حتى أعذر إليه غاية الإعذار.
ولما أجمل أمره كله في هاتين الآيتين، شرع في تفصيله فقال مشيراً إلى مباردتهم إلى العناد من غير توقف أصلاً التي أشار إليها حذف المبتدأ والاقتصار على الخبر الذي هو محط الفائدة: {فلما جاءهم} أي موسى عليه السلام {بالحق} أي بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه كائناً {من عندنا} على ما لنا من القهر، فآمن معه طائفة من قومه {قالوا} أي فرعون وأتباعه {اقتلوا} أي قتلاً حقيقياً بإزالة الروح {أبناء الذين آمنوا} أي به فكانوا {معه} أي(17/49)
خصوهم بذلك واتركوا من عداهم لعلهم يكذبونه {واستحيوا نساءهم} أي اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن.
ولما كان هذا أمراً صاداً في العادة لمن يؤمن عن الإيمان وراداً لمن آمن إلى الكفران، أشار إلى أنه سبحان خرق العادة بإبطاله فقال: {وما} أي والحال أنه ما كيدهم - هكذا كان الأصل ولكنه قال: {كيد الكافرين} تعميماً وتعليقاً بالوصف {إلا في ضلال} أي مجانبة للسدد الموصل إلى الظفر والفوز لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم، بل كان فيه تبارهم وهلاكهم، وكذا أفعال الفجرة مع أولياء الله، ما حفر أحد منهم لأحدم منهم حفرة مكر إلا أركبه الله فيها.
ولما أخبر تعالى بفعله بمن تابع موسى عليه السلام، أخبر عن فعله معه بما علم به أنه عاجز فقال: {وقال فرعون} أي أعظم الكفرة في ذلك الوقت لرؤساء أتباعه عندما علم أنه عاجز عن قتله وملاّه ما رأى منه خوفاً وذعراً، دافعاً عن نفسه ما يقال من أنه ما ترك موسى عليه السلام مع استهانته به إلا عجزاً عنه، موهماً أن آله هم الذين يردونه عنه، وأنه لولا ذلك قتله: {ذروني} أي اتركوني(17/50)
على أيّ حالة كانت {أقتل موسى} وزاد في إيهام الأغبياء والمناداة على نفسه عند البصراء بالفضيحة بقوله: {وليدع ربه} أي الذي يدعوه ويدعي إحسانه إليه بما يظهر على يديه من هذه الخوارق، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه الأمر صعب جداً لأنه كان منهم من يوهي أمره بأنه لا يؤثر ما هو فيه شيئاً أصلاً تقرباً إلى فرعون، وإظهاراً للثبات على متابعته {إني أخاف} أي إن تركته {أن يبدل دينكم} أي الذي أنتم عليه من نسبة الفعل إلى الطبيعة بما يدعو إليه من عبادة إلهه.
ولما ألهبهم بهذا الكلام إلى ممالأتهم له على موسى عليه السلام، زاد في ذلك بقوله: {وأن يظهر} أي بسببه - على قراءة الجماعة بفتح حرف المضارعة {في الأرض} أي كلها {الفساد *} وقرأ المدنيان والبصريان وحفص بالضم إسناداً إلى ضمير موسى عليه السلام وبنصب الفساد أي بفساد المعائش فإنه إذا غلب علينا قوي على من سوانا، فسفك الدماء وسبى الذرية، وانتهب الأموال، ففسدت الدنيا مع فساد الدين، فسمى اللعين الصلاح - لمخالفته لطريقته الفاسدة - فساداً كما هو(17/51)
شأن كل مفسد مع المصلحين، وقرأ الكوفيون ويعقوب «أو أن» بمعنى أنه يخاف وقوع أحد الأمرين: التبديل أو ظهور ما هو عليه مما سماه فساداً، وإن لم يحصل التبديل عاجلاً فإنه يحصل به الوهن.(17/52)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
ولما أعلم بمقالة العدو، أتبعه الإعلام بقول الولي فقال: {وقال موسى} إبطالاً لهذا القول وإزالة لآثاره مؤكداً لما استقر في النفوس من قدرة فرعون: {إني عذت} أي اعتصمت عند ابتداء الرسالة {بربي} ورغبهم في الاعتصام به وثبتهم بقوله: {وربكم} أي المحسن إلينا أجمعين، فأرسلني لاستنقاذكم من أعداء الدين والدنيا {من كل متكبر} أي عاتٍ طاغ متعظم على الحق هذا وغيره {لا يؤمن} أي لا يتجدد له تصديق {بيوم الحساب *} من ربه له وهو يعلم أنه لا بد من حسابه هو لمن تحت يده من رعاياه وعبيده فيحكم على ربه بما لا يحكم به على نفسه، ومعنى العوذ أنه لا وصول لأحد منهم إلى قتلي بسبب عوذي، هذا أمر قد فرغ منه مرسلي لخلاصكم، القادر على كل شيء.
ولما انقضى كلام الرأسين، وكانت عادة من لم يكن لهم نظام من الله رابط أن قلوبهم لا تكاد تجتمع وأنه لا بد أن يجاهر بعضهم بما عنده ولو عظم شأن الملك القائم بأمرهم، واجتهد في جمع مفترق(17/52)
علنهم وسرهم، قال تعالى مخبراً عن كلام بعض الأتباع في بعض ذلك: {وقال رجل} أي كامل في رجوليته {مؤمن} أي راسخ الإيمان فيما جاء به موسى عليه السلام. ولما كان للإنسان، إذا عم الطغيان، أن يسكن بين أهل العدوان، إذا نصح بحسب الإمكان، أفاد ذلك بقوله: {من آل فرعون} أي وجوههم ورؤسائهم {يكتم إيمانه} أي يخفيه إخفاء شديداً خوفاً على نفسه لأن الواحد إذا شذ عن قبيلة يطمع فيه ما لا يطمع إذا كان واحداً من جماعة مختلفة، مخيلاً لهم بما يوقفهم عن الإقدام على قتله من غير تصريح بالإيمان.
ولما رآهم قد عزموا على القتل عزماً قوياً أوقع عليه اسم القتل، فقال منكراً له غاية الإنكار: {أتقتلون رجلاً} أي هو عظيم في الرجال حساً ومعنى، ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال: {أن} أي لأجل أن {يقول} ولو على سبيل التكرير: {ربي} أي المربي لي والمحسن إليّ {الله} أي الجامع لصفات الكمال {وقد} أي والحال أنه قد {جاءكم بالبينات} أي الآيات الظاهرات من غير لبس {من ربكم} أي الذي لا إحسان عندكم إلا منه، وكما أن ربوبيته له اقتضت عنه الاعتراف له بها فكذلك ينبغي أن تكون ربوبيته لكم داعية لكم إلى(17/53)
اعترافكم له بها.
ولما كان كلامه هذا يكاد أن يصرح بإيمانه، وصله بما يشككهم في أمره ويوقفهم عن ضره، فقال مشيراً إلى أنه لا يخلو حاله من أن يكون صادقاً أو كاذباً، مقدماً القسم الذي هو أنفى للتهمة عنه وأدعى للقبول منه: {وإن} أي والحال أنه إن.
ولما كان المقام لضيقه غاية الضيق بالكون بين شرور ثلاثة عظيمة: قتلهم خير الناس إذ ذاك، وإتيانهم بالعذاب، واطلاعهم على إيمانه، فأقل ما يدعوهم ذلك إلى اتهامه إن لم يحملهم على إعدامه داعية للإيجاز في الوعظ والمسارعة إلى الإتيان بأقل ما يمكن، حذف النون فقال: {يك كاذباً فعليه} أي خاصة {كذبه} يضره ذلك وليس عليكم منه ضرر، ولم يقل: أو صادقاً، وإن كان الحال مقتضياً لغاية الإيجاز لئلا يكون قد نقص الجانب المقصود بالذات حقه، فيكون قد أخل ببعض الأدب، فقال مظهراً لفعل الكون عادلاً عما له إلى ما عليهم معادلاً لما ذكره عليه ونقصه عنه إظهاراً للنصفة ودفعاً للتهمة عن نفسه: {وإن يك} حذف نونه لمثل ما مضى {صادقاً يصبكم} أي على وجه العقوبة من الله وله صدقه(17/54)
ينفعه ولا ينفعكم شيئاً.
ولما كان العاقل من نظر لنفسه فلم يرد كلام خصمه من غير حجة، وكان أقل ما يكون من توعد من بانت مخايل صدقه البعض، قال ملزماً الحجة بالبعض، غير ناف لما فوقه إظهاراً للانصاف وأنه لم يوصله حقه فضلاً عن التعصب له نفياً للتهمة عن نفسه: {بعض الذي} وقال: {يعدكم} دون «يوعدكم» إشارة إلى أنهم إن وافوه أصابهم جميع ما وعدهموه من الخير، وإلا دهاهم ما توعدهم من الشر، والآية من الاحتباك: ذكر اختصاصه بضر الكذب أولاً دليلاً على ضده وهو اختصاصه بنفع الصدق ثانياً، وإصابتهم ثانياً دليلاً على إصابته أولاً، وسره أنه ذكر الضار في الموضعين، لأنه أنفع في الوعظ لأن من شأن النفس الإسراع في الهرب منه، ولقد قام أعظم من هذا المقام - كما في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما - أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو مظهر إيمانه وقد جد الجد بتحقق الشروع في الفعل حيث اخذ المشركون بمجامع ثوب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يطوف بالبيت فالتزمه أبو بكر رضي الله عنه وهو يقول هذه الآية، ودموعه(17/55)
تجري على لحيته حتى فرج الله وقد مزقوا كثيراً من شعر رأسه - رضي الله عنه.
ولما كان فرعون قد نسب موسى عليه الصلاة والسلام بما زعمه من إرادته إظهار الفساد إلى الإسراف بعد ما نسبه إليه من الكذب، علل هذا المؤمن قوله هذا الحسن في شقي التقسيم بما ينطبق إلى فرعون منفراً منه مع صلاحيته لإرادة موسى عليه الصلاة والسلام على ما زعمه فيه فرعون فقال: {إن الله} أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز {لا يهدي} أي إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر {من هو مسرف} أي بإظهار الفساد متجاوز للحد، وكأنه رضي الله عنه جوز أن يتأخر شيء مما توعد به فيسموه كذباً، ولذا قال {يصبكم بعض الذي يعدكم} فعلق الأمر بالمبالغة فقال: {كذاب *} لأن أول خذلانه وضلاله تعمقه في الكذب، ويهدي من هو مقتصد صادق، فإن كان كاذباً كما زعمتم ضره كذبه، ولم يهتد لوجه يخلصه، وإن كان صادقاً أصابتكم العقوبة ولم تهتدوا لما ينجيكم، لاتصافكم(17/56)
بالوصفين.
ولما خيلهم بهذا الكلام الذي يمكنه توجيهه، شرع في وعظهم إظهاراً للنصيحة لهم والتحسر عليهم فقال مذكراً لهم بنعمة الله عليهم محذراً لهم من سلبها مستعطفاً بذكر أنه منهم: {يا قوم} وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحاً بالمقصود فقال: {لكم الملك} ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله: {اليوم} وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله: {ظاهرين} أي غالبين على بني إسرائيل وغيرهم، وما زال أهل البلاء يتوقعون الرخاء، وأهل الرخاء يتوقعون البلاء، ونبه على الإله الواحد القهار الذي له ملك السماوات فملك الأرض من باب الأولى، بقوله معبراً بأداة الظرف الدالة على الاحتياج ترهيباً لهم: {في الأرض} أي أرض مصر التي هي لحسنها وجمعها المنافع كالأرض كلها، قد غلبتم الناس عليها.
ولما علم من هذا أنهم لا يملكون جميع الكون، تسبب عنه أن المالك للكل هو الإله الحق والملك المطلق الذي لا مانع لما يريد، فلا ينبغي لأحد من عبيده أن يتعرض إلى ما لا قبل له به من سخطه، فلذلك قال: {فمن ينصرنا} أي أنا وأنتم، أدرج نفسه فيهم عن ذكر الشر بعد إفراده لهم بالملك إبعاداً للتهمة وحثاً على قبول النصيحة: {من بأس الله} أي الذي له الملك كله، ونبه بأداة الشك على أن عذابه لهم أمر ممكن، والعاقل من يجوز الجائز ويسعى(17/57)
في التدرع منه فقال: {إن جاءنا} أي غضباً لهذا الذي يدعي أنه أرسله، ويجوز أن يكون صادقاً، بل يجب اعتقاد ذلك لما أظهره من الدلائل، وفي قوله هذا تسجيل عليهم بأنهم يعرفون أن الله ملك الملوك ورب الأرباب، وكذا قول موسى عليه السلام {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض} [الاسراء: 102] وأن ادعاء فرعون الإلهية إنما هو محض عناد.
ولما سمع فرعون ما لا طعن له فيه، فكان بحيث يخاف من بقية قومه إن أفحش في أمر هذا المؤمن، فتشوف السامع لجوابه، أخبر تعالى أنه رد رداً دون رد بقوله: {قال فرعون} أي لقومه جواباً لما قاله هذا المؤمن دالاً بالحيدة عن حاق جوابه على الانقطاع بالعجز عن نقض شيء من كلامه: {ما أريكم} أي من الآراء {إلا ما أرى} أي إنه الصواب على قدر مبلغ علمي، أي إن ما أظهرته لكم هو الذي أبطنه. ولما كان في كلام المؤمن تعريض في أمر الهداية، وكان الإنسان ربما يتوافق قلبه ولسانه، ويكون تطابقهما على ضلال، قال: {وما أهديكم} أي بما أشرت به من قتل موسى عليه السلام وغيره {إلا سبيل الرشاد *} أي الذي أرى أنه صواب، لا أبطن شيئاً وأظهر غيره، وربما يكون في هذا تنبيه لهم على ما يلوح(17/58)
من كلام المؤمن لأنه ارتاب في أمره، وفي هذا أنه في غاية الرعب من أمر موسى عليه السلام لاستشارته لقومه في أمره واحتمال هذه المراجعات التي يلوح منها أنه يكاد ينفطر غيظاً منه ولكنه يتجلد.
ولما ظهر لهذا المؤمن رضي الله عنه أن فرعون ذل لكلامه، ولم يستطع مصارحته، ارتفع إلى أصرح من الأسلوب الأول فأخبرنا تعالى عنه بقوله مكتفياً في وصفه بالفعل الماضي لأنه في مقام الوعظ الذي ينبغي أن يكون من أدنى متصف بالإيمان بعد أن ذكر عراقته في الوصف لأجل أنه كان في مقام المجاهدة والمدافعة عن الرسول عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام الذي لا يقدم عليه إلا راسخ القدم في الدين: {وقال الذي آمن} أي بعد قول فرعون هذا الكلام الذي هو أبرد من الثلج الذي دل على جهله وعجزه وذله {يا قوم} وأكد لما رأى عندهم من إنكار أمره وخاف منهم من اتهامه فقال: {إني أخاف عليكم} أي من المكابرة في أمر موسى عليه الصلاة والسلام. ولما كان أقل ما يخشى يكفي العاقل، وكانت قدرة الله سبحانه عليهم كلهم على حد سواء لا تفاوت فيها فكان هلاكهم كلهم كهلاك نفس واحدة، أفرد فقال: {مثل يوم الأحزاب *} مع أن إفراده أروع وأقوى في التخويف وأفظع للاشارة إلى قوة الله تعالى وأنه قادر على(17/59)
إهلاكهم في أقل زمان.(17/60)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
ولما أجمل فصل وبين أو بدل بعد أن هول، فقال بادئاً بمن كان عذابهم مثل عذابهم، ودأبهم شبيهاً بدأبهم: {مثل دأب} أي عادة {قوم نوح} أي فيما دهمهم من الهلاك الذي محقهم فلم يطيقوه مع ما كان فيهم من قوة المحاولة والمقاومة لما يريدونه {وعاد وثمود} مع ما بلغكم من جبروتكم. ولما كان هؤلاء أقوى الأمم، اكتفى بهم وأجمل من بعدهم فقال: {والذين} وأشار بالجار إلى التخصيص بالعذاب لئلا يقال: هذه عادة الدهر، فقال: {من بعدهم} أي بالقرب من زمانهم لا جميع من جاء بعدهم.
ولما كان التقدير: أهلكهم الله وما ظلمهم، عبر عنه تعميماً مقروناً بما تضمنه من الخبر بدليله فقال: {وما الله} أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال. ولما كان في مقام الوعظ لهم ومراده ردهم عن غيهم بكل حال، علق الأمر بالإرادة لأنها متى ارتفعت انتفى الظلم، ونكر تعميماً فقال: {يريد ظلماً} أي يتجدد منه أن يعلق إرادته وقتاً ما بنوع ظلم {للعباد *} لأن أحد لا يتوجه أبداً إلى أنه يظلم عبيده الذين هم تحت قهره، وطوع مشيئته وأمره، ومتى لم يعرفوا حقه وأرادوا البغي على من يعرف حقه عاقبهم ولا بد، وإلا كان كفه ظلماً(17/60)
للمبغي عليهم.
ولما أشرق من آفاق هذا الوعظ شمس البعث ونور الحشر، لأنه لا يسوغ أصلاً أن ملكاً يدع عبيده يبغي بعضهم على بعض من غير إنصاف بينهم ونحن نرى أكثر الخلق يموت مقهوراً من ظالمه، ومكسوراً من حاكمه، فعلم قطعاً أن الموت الذي لم يقدر ولا يقدر أحد أصلاً أن يسلم منه إنما هو سوق إلى دار العرض وساحة الجزاء للقرض - كما جرت به عادة الملوك إذا وكلوا بمن يأمرون باحضاره إليهم لعرضه عليهم ليظهر التجلي في صفات الجبروت والعدل، ومظاهر الكرم الفضل قال: {ويا قوم} ولما كانوا منكرين للبعث أكد فقال: {إني أخاف} وعبر بأداة الاستعلاء زيادة في التخويف فقال: {عليكم} ولما كان قد سماه فيما مضى بالتلاقي والآزفة لما ذكر، عرف هنا أن الخلق فيه وجلون خائفون وأنهم لكثرة الجمع ينادُون وينادَون للرفعة أو الضعة وغير ذلك من الأمور المتنوعة التي مجموعها يدل على ظهور الجبروت وذل الخلق لما يظهر لهم من الكبرياء والعظموت فقال: {يوم التناد *} أي أهواله وما يقع فيه، فينادي الجبار سبحانه بقوله {ألم أعهد إليكم(17/61)
يا بني آدم أن لا تعبدو الشيطان} وينادونه «بلى يا ربنا» وتنادي الملائكة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب «يا فلان ابن فلان أقبل لفصل النزاع» وينادي ذلك العبد «ألا سمعاً وطاعة» وينادي الفائز «ألا نعم أجر العاملين» وينادي الخائب «ألا بئس منقلب الظالمين» وينادي أصحاب الأعراف وأهل الجنة أهل النار وأهل النار أهل الجنة وينادي الكل حين يذبح الموت، ويدعى كل أناس بإمامهم، وتتنادى الملائكة وقد أحاطوا بالثقلين صفوفاً مترتبة ترتب السماوات التي كانوا بها بالتسبيح والتقديس، وترتفع الأصوات بالضجيج، بعضهم بالسرور وبعضهم بالويل والثبور، وتنادي ألسن النيران: أي الجبارون أين المتكبرون، وتنادي الجنة، أين المشمرون في مرضاة الله والصابرون، فيا له يوماً يذل فيه العصاة العتاة ويعز المنكسرة قلوبهم من أجل الله وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما في آخرين بتشديد الدال من التناد على أنه مصدر تنادّ من ند البعير - إذا هرب ونفر، وهو كقوله يوم
{يفر المرء من أخيه} [عبس: 34] وتقدم في حذف ياء التلاق وإثباتها ما يمكن الفطن تنزيله هنا. ولما كانت عادة المتنادين الإقبال، وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال مبدلاً أو مبيناً:(17/62)
{يوم تولون مدبرين} أي حين تخرج ألسنة النيران فتخطف أهل الكفران، وتزفر زفرات يخر أهل الموقف من خشيتها، فترى كل أمة جاثية ويفرون فلا يقصدون مكاناً إلا وجدوا به الملائكة صافين كما قال تعالى {والملك على أرجائها} [الحاقة: 17] وينادي المنادي {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} [الرحمن: 33] .
ولما كان المدبر إنما يقصد في إدباره معقلاً يمنعه ويستره أو فئة تحميه وتنصره، قال مبيناً حالهم: {ما لكم من الله} أي الملك الجبار الذي لا ند له، وأعرق في النفي فقال: {من عاصم} أي مانع يمنعكم مما يراد فما لكم من عاصم أصلاً، فإنه سبحانه يجير ولا يجار عليه.
ولما كان التقدير: لضلالكم في الدنيا فإن حالكم في ذلك اليوم مكتسب من احوالكم في هذا اليوم، عطف عليه قوله معمماً: {ومن يضلل اللهُ} أي الملك المحيط بكل شيء الباطن في اردية الجلال الظاهر في مظاهر القهر والجمال، إضلالاً جبله عليه فهو في غاية البيان - بما أشار إليه الفلك {فما له من هاد *} أي إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه، وأما الضلال العارض فيزيله الله لمن يشاء من عباده، وهذا لا يعرف إلا بالخاتمة كما قاله الإمام أبو الحسن الأشعري: فمن مات على شيء فهو مجبول عليه.(17/63)
ولما كان حاصل ما مضى من حالهم في أمر موسى عليه السلام أنه جاءهم بالبينات فشكوا فيها، وختم بتحذيرهم من عذاب الدنيا والآخرة، عطف عليه شك آبائهم في مثل ذلك، فقال مبيناً أنهم مستحقون لما حذر منه العذاب ليشكروا نعمة الله في إمهاله إياهم ويحذروا نقمته إن تمادوا وأكد لأجل إنكارهم أن يكونوا أتو ببينة، وافتتح بحرف التوقع لأن حالهم اقتضت توقع ذلك ودعت إليه: {ولقد جاءكم} أي جاء آباءكم يا معشر القبط، ولكنه عبر بذلك دلالة على أنهم على مذهب الآباء كما جرت به العادة من التقليد، ومن أنهم على طبائعهم لا سيما إن كانوا لم يفارقوا مساكنهم: {يوسف} أي نبي الله ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ولما لم يكن مجيئه مستغرقاً لما تقدم موسى عليه السلام من الزمان أدخل الجار فقال: {من قبل} أي قبل زمن موسى عليه السلام: {بالبينات} أي الآيات الظاهرات ولا سيما في أمر يوم التناد {فما زلتم} بكسر الزاي من زال يزال أي ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم {في شك} أي محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن {مما جاءكم به} من التوحيد وما يتبعه، ودل على تمادي شكهم بقوله: {حتى إذا هلك} وكأنه عبر بالهلاك إيهاماً لهم أنه غير معظم له، وأنه إنما يقول ما يشعر بالتعظيم لأجل محض النصيحة والنظر في العاقبة {قلتم} أي(17/64)
من عند أنفسكم بغير دليل كراهة لما جاء به وتضجرا منه جهلاً بالله تعالى: {لن يبعث الله} أي الذي له صفات الكمال.
ولما كان مرادهم استغراق النفي حتى لا يقع البعث في زمن من الأزمان وإن قل، أدخل الجار فقال: {من بعده} أي يوسف عليه السلام {رسولا} وهذا ليس إقراراً منهم برسالته، بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده، والحجر على الملك الأعظم في عباده وبلاده والإخبار عنه بما ينافي كماله.
ولما كان كأنه قيل: هذا ضلال عظيم هل ضل أحد مثله؟ أجيب بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الضلال العظيم الشأن {يضل} وأبرز الاسم ولم يضمره لئلا يخص الإضلال بالحيثية الماضية، وجعله الجلالة تعظيماً للأمر لصلاحية الحال لذلك وكذا ما يأتي بعده {الله} أي بما له من صفات القهر {من هو مسرف} أي متعال في الأمور خارج عن الحدود طالب للارتفاع عن طور البشر.
ولما كان السياق للشك في الرسالة والقول بالظن الذي يلزم منه اتهام القادر سبحانه بالعجز أو مجانبة الحكمة قال: {مرتاب *}(17/65)
أي يشك فيما لا يقبل الشك ويتهم غيره بما لا حظّ للتهمة فيه، أي ديدنه التذبذب في الأمور الدينية، فلا يكاد يحقق أمراً من الأمور، ولا إسراف ولا ارتياب أعظم من حال المشرك فإنه منع الحق أهله وبذله لمن لا يستحقه بوجه، وهذه الآية دليل على أن القبط طول الدهر على ما نشاهده من أنه لا ثقة بدخولهم في الدين الحق، ولا ثبات لهم في الأعمال الصالحة.(17/66)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
ولما ظهر ظهوراً لا يحتمل شكاً بما أتى به موسى عليه السلام من البينات أن شكهم في رسالة الماضي وجزمهم في الحكم بنفي رسالة الآتي أعظم ضلال وأنه من الجدال الذي لا معنى له إلا فتل المحق عما هو عليه من الحق إلى ما عليه المجادل من الضلال، وصل بذلك قوله على سبيل الاستنتاج ذماً لهم بعبارة تعم غيرهم: {الذين} أي جدال من {يجادلون} أي يقاتلون ويخاصمون خصاماً شديداً {في آيات الله} أي المحيطة بأوصاف الكمال لا سيما الآيات الدالة على يوم التناد، فإنها أظهر الآيات على وجوده سبحانه وعلى ما هو عليه من الصفات والأفعال وما يجوز عليه أو يستحيل.
ولما كان الجدال بالتي هي أحسن مشروعاً، وهو بما أمر به(17/66)
قال: {بغير سلطان} أي تسليط ودليل {أتاهم} أي من عند من له الأمر كله {كبر} أي عظم هو، أي الجدال المقدر مضافاً قبل {الذين} وبين ما أبهم من هذا العظم بتمييز محول عن الفاعل فقال: {مقتاً عند الله} أي الملك الأعظم {وعند الذين آمنوا} أي الذين هم خاصته.
ولما كان فاعل هذا لا يكون إلا مظلم القلب، فكان التقدير: أولئك طبع الله على قلوبهم، وصل به استنئافاً قوله: {كذلك} أي مثل هذا الطبع العظيم {يطبع} أي يختم ختماً فيه العطب {الله} أي الذي له جميع العظمة {على كل قلب} ولما كان فعل كل ذي روح إنما هو بقلبه، نسب الفعل إليه في قراءة أبي عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين عنه بالتنوين فوصفه بقوله: {متكبر} أي متكلف ما ليس له وليس لأحد غير الله {جبار *} أي ظاهر الكبر قويّه قهار وقراءة الباقين بالإضافة مثلها سراء في أن السور داخل القلب ليعم جميع أفراده غير أن الوصف بالكبر والجبروت للشخص لا للقلب، وهي أبين من القراءة الشاذة بتقديم القلب على كل لأن(17/67)
تقديم كل نص في استغراق أفراد القلوب ممن اتصف بهذا الوصف، ومن المقطوع به أن آحاد القلوب موزعة على آحاد الأشخاص لأنه لا يكون لشخص أكثر من قلب بخلاف ما إذا قدم القلب فإنه قد يدعي أن الشخص الواحد، وأن السور لأجل جمعه لأنواع الكبر والجبروت فيكون المعنى: على قلب شخص جامع لكل فرد من أفراد التكبر والتجبر - والله الموفق.
ولما ذكر الطبع المذكور، دل عليه بما ذكر من قول فرعون وفعله عطفاً على ما مضى من قوله وقول المؤمن، فإنه قصد ما لا مطمع في نيله تيهاً وحماقة تكبراً وتجبراً لكثافة قلبه وفساد لبه، فصار به ضحكة لكل من سمعه هذا إن كان ظن أنه يصل إلى ما أراد وإن كان قصد بذلك التلبيس على قومه للمدافعة عن اتباع موسى عليه السلام إلى وقت ما فقد نادى عليهم بالجهل، والإغراق في قلة الحزم والشهامة والعقل، فقال تعال: {وقال فرعون} أي بعد قول المؤمن هذا، معرضاً عن جوابه لأنه لم يجد فيه مطعناً: {يا هامان} وهو وزيره {ابنِ} وعرفه بشدة اهتمامه به بالإضافة إليه في قوله: {لي صرحاً} أي بناء ظاهراً يعلوه لكل أحد.
قال البغوي: لا يخفى على الناظر وإن بعد. وأصله من التصريح وهو الإظهار، وتعليله بالترجي الذي لا يكون إلا في الممكن دليل على أنه كان يلبس على قومه وهو يعرف الحق،(17/68)