إلا الله} أو على قوله: {إنما أنت نذير} وهو أحسن وأقرب - قوله: {ولقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة {نوحاً إلى قومه} أي الذين هم على لسانه؛ وما بعد ذلك من القصص تقريراً لمضمون هذا المثل وتثبيتاً وتسلية وتأييداً وتعزية لهذا النبي الكريم لئلا يضيق صدره بشيء مما أمر بإبلاغه حرصاً على إيمان أحد وإن كان أقرب الخلائق إليه وأعزهم عليه كما تقدمت الإشارة إليه في قوله تعالى: {فلا يكن في صدرك حرج منه} وقوله: {وضائق به صدرك} ويأتي في قوله: {وكُلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} فوضح أن هذه القصص لهذا المعنى سيقت، وأن سياقها في الأعراف وغيرها كان لغير ذلك كما تقدم وأن تضمن هذا الغرض بيان إهلاك من كانوا أشد من العرب قوة وأكثر جمعاً وأمكن أمراً وأقوى عناداً وأعظم فساداً وأحدّ شوكة وما اتفق في ديارهم من الطامات والأهوال المفظعات تحذيراً من مثل حالهم بارتكاب أفعالهم، ففرق بين ما يساق للشيء وما يلزم منه الشيء، ولهذا الغرض المقصود هنا طولت قصة نوح في هذه السورة ما لم يطوله في غيرها، وصدرت بقوله: {إني} أي قائلاً على قراءة الجمهور بالكسر، والتقدير عند ابن كثير وأبي عمرو والكسائي: ملتبساً بأني {لكم} أي خاصة {نذير مبين} أي مخوف بليغ التحذير، أبين ما أرسلت به غاية البيان، وذكر فيها أنه طالت مجادلته لهم وأنه لما أوضح له أمر الله تعوذ من السؤال فيه وفي كل ما يشبهه، وخللت(9/265)
قصته بقوله: {أم يقولون افتراه} خطاباً لهذا النبي الكريم وختمت بقوله: {فاصبر إن العاقبة للمتقين} وذكرت قصة إبراهيم عليه السلام لما ضمنته من أنه بشر الولد بما لم يجر بمثله عادة فلم يتردد فيه، وأنه جادل الرسل في قوم ابن أخيه لوط، وأنه لما تحقق حتم الأمر وبت الحكم سلم لربه مع كونه حليماً أواهاً منيباً إلى غير ذلك مما يؤمىء إليه سياق القصص، فكأنه قيل: إنما أنت نذير أرسلناك لتبلغ ما أرسلت به من الإنذار وإن شق عليهم وعزتنا لقد أرسلنا من قبلك رسلاً منذرين فدعوا إلى ما أمرت بالدعوة إليه وأنذروهم ما يشق عليهم من بأسنا امتثالاً لأمرنا وما تركوا شيئاً منه خوفاً من إعراض ولا رجاء في إقبال على أن أممهم قالوا لهم ما قالت لك أمتك كما يشير إليه قوله تعالى عن نوح: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله} - الآية، وقد كان في المخالفين من أممهم القريب منهم نسبه والعزيز عليهم أمره من ابن وصاحبة وغيرهما، هذا مع أن قصصهم دليل على قوله تعالى: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم} وزجر لهم عن مثل قولهم: {ما يحبسه} وتأييد لقوله: {ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة} - وغير ذلك مما تقدم، فقد علم من هذا الوجهُ في تكرير هذه القصص، وأنه في كل سورة لمقصد يخالف المقصد في غيرها وإن كان يستفاد(9/266)
من ذلك فوائد أخر: منها إظهار القدرة في بيان الإعجاز بتصريف المعنى في الوجوه المختلفة لما في ذلك من علو الطبقة في البلاغة لأنه ربما قال متعنت عند التحدي: قد استوفى اللفظ البليغ على الأسلوب الأكمل البديع في هذه القصص فلم تبق لنا ألفاظ نعبر بها عن هذه المعاني حتى نأتي بمثل هذه القصة؛ فأتى بها ثانياً إظهاراً لعجزه وقطعاً لحجته، وربما كررت ثالثاً ورابعاً توكيداً لذلك وتمكيناً للاعتبار بضروب البيان وتصبيراً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أذى قومه حالاً فحالاً، فإن قيل: فما بالها تأتي تارة في غاية البسط وتارة في غاية الإيجاز وتارة على الوسط؟ قيل: هذا من أعلى درجات البلاغة وأجل مراتب الفصاحة والبراعة، فإن قبل: فإنا نرى القصة تبسط في بعض السور غاية البسط ثم توجز في غيرها غاية الإيجاز ويؤتي فيها ما لم يؤت في المبسوطة كما في العنكبوت فإنه عين فيها مقدار لبثه وأنه كان ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلم لا استوعبت جميع المعاني في الموضع المبسوط كما هو الأليق بمقام البسط لا سيما لمن لا يخفى عليه شيء ولا ينسى، وإذا وقع حذف كان في الموجزة، قيل: قال شيخنا حافظ العصر أبو الفضل بن حجر: إن الإمام أبا حاتم بن حبان البستي ذكر في كتابه التقاسيم والأنواع: إنما لم يرتبه ليحفظ إذ لو رتبه ترتيباً سهلاً لاتكل من يكون عنده على سهولة الكشف منه فلا يتحفظه، وإذا وعر طريق الكشف(9/267)
كان أدعى إلى حفظه ليكون على ذكر من جميعه، وذكر أنه فعل ذلك اقتداء بالكتاب العزيز فإنه ربما أتى بالقصص غير مرتبة، قال شيخنا: ومن هنا يظهر أن من أسرار تخصيص بعض الموجزات بما ليس في المبسوط الحث على حفظ الجميع - انتهى.
وهذه فوائد ينبغي إهمالها بل تستعمل حيث أمكن، والعمدة في المناسبة الوجه الأول وهو أنها في كل سورة لمناسبة تخص تلك السورة، ثم يراعي في البسط وغيره المعاني المناسبة للمقصد الذي سيقت له القصة - والله الموفق. واللام في «لقد» للقسم: قال الإمام أبو الحسن على بن عيسى الرماني: لأنها تدخل على الفعل والحرف الذي يختص بالفعل مما يصح معناه معه. ولام الابتداء للاسم خاصة، ومعنى (قد) توقع الخبر للتقريب من الحال، يقال: قد ركب الأمير - لقوم يتوقعون ركوبه فعلى هذا القول جرى {ولقد أرسلنا} والإبانة: إظهار المعنى للنفس بما يمكن إدراكه. وأصله القطع، فالإبانة قطع المعنى من غيره ليظهر في نفسه - انتهى. والمقصود من الرسالة قوله سبحانه: {أن} أي نذير لأجل أن {لا تعبدوا} أي شيئاً أصلاً {إلا الله} أي الملك الأعظم - ومعنى النذارة قوله: {إني أخاف عليكم} وعظم العذاب المحذر منه بقوله: {عذاب يوم أليم*} وإذا كان اليوم مؤلماً فما الظن بما فيه من العذاب! فهو إسناد مجازي مثل نهاره صائم، ولم يذكر بشارة(9/268)
كما تقدم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {إنني لكم منه نذير وبشير} [هود: 2] إرشاداً إلى ما سيقت له القصة من تقرير معنى {إنما أنت نذير} [هود: 12] ولذلك صرح بالألم بخلاف الأعراف، وكذا ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول هذه من عذاب يوم كبير، وهما متقاربان؛ ثم ساق سبحانه جواب قومه على وجه هو في غاية التسلية والمناسبة للسياق بقوله: {فقال} أي فتسبب عن هذا النصح العظيم أن قال؛ ولما كان هذا بعد أن تبعه بعضهم قال: {الملأ} وبين أن الجدال مع الضلال بعد أن بين أنهم هم الأشراف زيادة في التسلية بقوله: {الذين كفروا} وبين أنهم اقارب أعزة بقوله: {من قومه} أي الذين هم في غاية القوة لما يريدون محاولة القيام به {ما نراك} أي شيئاً من الأشياء {إلا بشراً} اي آدمياً {مثلنا} أي في مطلق البشرية، لست بملك تصلح لما لا تصلح له من الرسالة، وهذا قول البراهمة، وهو منع نبوة البشر على الإطلاق، وهو قول من يحسد على فضل الله ويعمى عن جلي حكمته فيمنع أن يكون النبي بشراً ويجعل الإله حجراً.
ولما كانت العظمة عندهم منحصرة في عظمة الأتباع قالوا: {وما نراك} ولما انفوا الرؤية عنه فتشوف السامع إلى ما يقع عليه من المعاني، بينوا أن مرادهم رؤية من اتبعه فقالوا: {اتبعك} أي(9/269)
تكلف اتباعك {إلا الذين هم} أي خاصة {أراذلنا} أي كالحائك ونحوه، وليس منا رذل غيرهم، وهو جمع أرذل كأكلب جمع رذل ككلب، والرذل: الخسيس الدنيء، وهذا ينتج أنه لم يتبعك أحد له قدر؛ قالوا: و {اتبعك} عامل في قوله: {بادي الرأي} وهو ظرف أي اتبعوك بديهة من غير تأمل، فاتباعهم لا يدل على سداد لما اتبعوه من وجهين: رذالتهم في أنفسهم، وأنهم لم يفكروا فيه، لكن يضعفه إيراد الاتباع بصيغة الافتعال التي تدل على علاج ومجاذبة، فالأحسن إسناده - كما قالوه أيضاً - إلى أراذل. أي أنهم بحيث لا يتوقف ناظرهم عند أول وقوع بصره عليهم أنهم سفلة أسقاط، ويجوز أن يكون المراد «بادي رأيك» أي أنك تظن أنهم اتبعوك، ولم يتبعوك.
ولما كانوا لا يعظون إلا بالتوسع في الدنيا، قالوا: {وما نرى لكم} أي لك ولمن تبعك {علينا} وأغرقوا في النفي بقولهم: {من فضل} أي شرف ولا مال، وهذا - مع مامضى من قولهم - قول من يعرف الحق بالرجال ولا يعرف الرجال بالحق، وذلك أنه يستدل على كون الشيء حقاً بعظمة متبعه في الدنيا، وعلى كونه باطلاً بحقارته فيها، ومجموع قولهم يدل على أنهم يريدون: لو صح كون النبوة في البشر لكانت في واحد ممن أقروا له بالعلو في الأرض، وعمل {اتبعك} في {بادي} يمنعه تمادي(9/270)
الاتباع على الإيمان، فانتفى الطعن بعدم التأمل {بل نظنكم كاذبين*} أي لكم هذا الوصف لازماً دائماً لأنكم لم تتصفوا بما جعلناه مظنة الاتباع مما يوجب العظمة في القلوب والانقياد للنفوس بالتقدم في الدنيا بالمال والجاه؛ فكان داؤهم بطر الحق وغمط الناس، وهو احتقارهم، وهذا قد سرى إلى أكثر أهل الإسلام، فصاروا لا يعظمون إلا بذلك، وهو أجهل الجهل لأن الرسل أتت للتزهيد في الدنيا وانظر إلى رضاهم لأنفسهم بالعدول عن البينة إلى اتباع الظن ما أردأه! وهذا افظع مما حكى هنا من قوله قريش {لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك} وأبشع؛ والبشر: الإنسان لظهور بشرته أي ظاهر جلده لأن الغالب على غيره من الحيوان سترها بالصوف أو الشعر أو الوبر أو الريش؛ والمثل: الساد مسد غيره في الحس بمعنى أنه لو ظهر للمشاهدة لسد مسده؛ والرذل: الحقير بما عليه من صفات النقص وجمعه؛ والفضل: الزيادة من الخير، والإفضال: مضاعفة الخير التي توجب الشكر.(9/271)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
ولما كان ختام جوابهم أشده، بدأ في جوابه برده مبيناً لضلالاتهم مغضياً عن شناعاتهم شفقة عليهم ومحبة لنجاتهم، فقال تعالى(9/271)
حكاية عنه: {قال يا قوم} وشرع يكرر هذه اللفظة كل قليل تذكيراً لهم أنه منهم لتعطفهم الأرحام وتردهم القرابات عن حسد أو اتهامه إلى قبول ما يلقي إليهم من الكلام، وأشار بأداة البعد - مع قربهم - إلى مباعدتهم فيما يقتضي غاية القرب {أرأيتم} أي أخبروني {إن كنت} على سبيل الفرض منكم والتقدير {على بينة} أي برهان ساطع، وزاد ترغيباً فيه بقوله: {من ربي} أي الذي أوجدني وأحسن إليّ بالرسالة وغيرها يشهد بصحة دعواي شهادة لا يتطرق إليها عند المنصف شبهة فكيف بالظن! {وآتاني} فضلاً منه عليّ لا لمعنى فيّ أزيد عليكم به، بل {رحمة} أي إكراماً بالرسالة بعد النبوة، وعظمها بقوله: {من عنده} فيها فضل عظيم النور واضح الظهور.
ولما كانت البينة من الرحمة، وحد الضمير فقال: {فعميت} أي فتسبب عن تخصيصي بها أن أظلمت، ووقع ظلامها {عليكم} أي فعميتم انتم عنها لضعف عقولكم ولم يقع عليكم شيء من نورها، وذلك أن الدليل إذا كان أعمى عاد ضرره على التابع بالحيرة والضلال، وهو معنى قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالبناء للمفعول مشددة {أنلزمكموها} وقوله: {وأنتم لها كارهون} مع تسميته لها بينة - إشاره إلى أنها لم تعم ولا خفيت عليهم لقوة نورها وشدة ظهورها، وإنما هم معاندون في نفيهم لفضله وفضل من تبعه، والتعبير عن ذلك بالجملة الاسمية(9/272)
واسم الفاعل إشارة إلى أن أفعالهم أفعال من كراهته لها ثابتة مستحكمة، وكأنه لم يكن مأموراً بالقتال كما كان نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الأمر، والآية ناظرة إلى قوله تعالى: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99] ويجوز أن يكون ذلك كناية عن أنهم معاندون مع قطع النظر عن الجهاد وغيره فإن الأنبياء عليهم السلام مأمرون بالمجادلة للمعاندين إلى أن يلزموهم الحجة، وهي لا تفيد إلا الإلزام في الظاهر مع الإنكار والكراهة في الباطن، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة للكاملين، وبالموعظة والخطابة للمنافقين الذي لا يعاندون ويحسنون الظن في الداعي، فيكون المعنى أن البينة لم تنفعكم لشكاسة وإعوجاج في طباعكم، فلم يبق إلا الموعظة وهي لا تفيد إلا مع حسن الظن، وأما مع الكراهة فلا ينفعكم النصح، فلا فائدة في المجادلة إلا الإلزام، وهو مع الكراهة غير نافع لكم.
ولما كان نفي ذلك عاماً للفضل الدنيوي، وكان الاتصاف بقلة ما في اليد إنما يكون ضاراً إذا كان صاحبه يسأل غيره، نفى عنه هذا اللازم العائب فقال مجيباً عن نفيهم الفضل عنه وعن أتباعه بأنه قد يرد منهم على ذلك ثواباً دنيوياً: {ويا قوم} استعطافاً لهم {لا أسئلكم} أي في وقت من الأوقات {عليه} أي الإنذار كما يأخذ منكم من ينذركم أمر من يريد منكم من ينذركم أمر من يريد بكم بعض ما تكرهون(9/273)
في أمور دنياكم حتى تكون عاقبة ذلك أن تتهموني {مالاً إن} أي ما {أجري إلا على الله} أي الذي له الجلال والإكرام فبيده الخزائن كلها، ونبه بهذا على أنه لا غرض له من عرض دنيوي ينفر المدعو عنه فوجب تصديقه، وفيه تلقين للجواب عن قول قريش: لولا ألقي إليه كنز - كما سيأتي بأبين من ذلك عقب قصة يوسف عليه السلام في قوله: {وما تسئلهم عليه من أجر} لأن هذه القصص كالشيء الواحد متتابعة في بيان حقية هذا القرآن والتأسية في الاقتداء بالرسل في الصبر على أداء جميع الرسالة مع ما يلزم ذلك من جليل العبر وبديع الحكم، فلما اتحد الغرض منها مع تواليها اتحدت متفرقاتها.
ولما كان التعبير برذالة المتبع مما ينفر أهل الدنيا عن ذلك التابع، بين لهم أن شأنه غير شأنهم وأنه رقيق على من آمن به رفيق به رحيم له وإن كان متأخراً في الدنيا محروماً منها خوفاً من الله الذي اتبعوه فيه فقال: {وما أنا} وأغرق في النفي بقوله: {بطارد الذين آمنوا} أي أقروا بألسنتهم بالإيمان؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم {إنهم ملاقوا ربهم} أي المحسن إليهم بعد إيجادهم وترتيبهم لهدايتهم، فلو طردتهم لشكوني إليه فلا أرى لكم وجهاً في الإشارة إلى طردهم ولا في شيء مما أجبتموني به {ولكني أراكم} أي أعلمكم علماً هو كالرؤية {قوماً تجهلون*} أي تفعلون أفعال أهل الجهل فتكذبون(9/274)
الصادق وتعيرون المؤمنين بما لا يعنيهم وتنسون لقاء الله وتوقعون الأشياء في غير مواقعها، وفي تعبيره ب {تجهلون} دون {جاهلين} إشارة إلى أن الجهل متجدد لهم وهو غير عادتهم استعطافاً لهم إلى الحلم، ثم عطف إلى صريح الاستعطاف في سياق محذر من سطوات الله فقال: {ويا قوم} أي الذين هم أعز الناس عليّ {من ينصرني من الله} أي الذي له جميع العظمة {إن طردتهم} ولو لم يشكوني إليه لاطلاعه على ما دق وجل: ولما تم الجواب عن ازدرائهم، سبب عنه الإنكار لعدم تذكرهم ما قاله لهم بما يجدونه في أنفسهم فقال: {أفلا تذكرون*} أي ولو أدنى تذكر - بما يشير إليه الإدغام - فتعلموا أن من طرد صديقاً لكم عاديتموه وقصدتموه بالأذى، فترجعوا عما طرأ لكم من جهل إلى عادتكم مِنَ الحلم الباعث على التأمل الموقف على الحق؛ والطرد: إبعاد الشيء على جهة الهوان؛ والقوم: الجماعة الذين يقومون بالأمر، اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ والتذكير: طلب معنى قد كان حاضراً للنفس، والتفكر طلبه وإن لم يكن حاضراً.(9/275)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
ولما كان نفيهم للفضل شاملاً للأموال وعلم الغيب، أقرهم على ذلك منبهاً على خطئهم فيه بأنه لم يقل بينهم قط ما يكون سبباً له، فقال عاطفاً على قوله {لا أسئلكم عليه أجراً} ؛ {ولا أقول لكم} أي في وقت من الأوقات {عندي خزائن الله} أي الملك الأعظم فأتفضل عليكم بها؛(9/275)
ولما كان من الجائز أن يمكن الله من يشاء من خزائن الأرزاق ونحوها فيسوغ له أن يطلق ملك ذلك مجازاً، ولا يجوز أن يمكنه من علم الغيب، وهو ما غاب عن الخلق كلهم، لأنه خاصته سبحانه، قال عاطفاً على {أقول} لا على المقول: {ولا أعلم الغيب} لا حقيقة ولا مجازاً فأعلم وقت ما توعدون به أو ما في قلوب المؤمنين مما قد يتوهم به من السوء، وأعلمهم أنه لا مانع من إرسال البشر بقوله: {ولا أقول إني ملك} فتكون قوتي أفضل من قوتكم أو خلقي أعظم قدراً من خلقكم ونحو ذلك من الفضل الصوري الذي جعلتموه هو الفضل، فلا تكون الآية دليلاً على أفضلية الملائكة، وتقدم في الأنعام سر إسقاطه {لكم} .
ولما كان تعريضهم بنفي الملكية عنه من باب الإزراء، أتبعه تأكيد قبوله لمن آمن كائناً من كان وإن ازدروه بقوله: {ولا أقول للذين} أي لأجل الذين {تزدري} أي تحتقر {أعينكم} أي تقصرون به عن الفضل عند نظركم له وتعيبونه {لن يؤتيهم الله} أي الذي له الكمال كله {خيراً} ولما كان كأنه قيل: ما لك لا تقول ذلك؟ أجاب بما تقديره: لأني أعلم ضمائرهم ولا أحكم إلا على الظاهر: {الله} أي المحيط بكل شيء {أعلم} أي حتى منهم {بما في أنفسهم} ومن المعلوم أنه لا يظلم أحداً، فمن كان في نفسه خير جازاه عليه، ويجوز(9/276)
أن يكون هذا راجعاً إلى {بادي الرأي} بالنسبة إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تقدم؛ ثم علل كفه عن ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم ظلمه على ذلك التقدير: {إني إذاً} أي إذا قلت لهم ذلك {لمن الظالمين} اي العريقين في وضع الشيء في غير موضعه؛ والخزائن: أخبية المتاع الفاخرة، وخزائن الله مقدوراته لأنه يوجد منها ما يشاء، وفي وصفها بذلك بلاغة؛ والغيب: ذهاب الشيء عن الإدراك، ومنه الشاهد خلاف الغائب، وإذا قيل: علم غيب، كان معناه: علم من غير تعليم؛ والازدراء: الاحتقار، وهو افتعال من الزراية، زريت عليه - إذا عبته، وأزريت عليه - إذا قصرت به؛ والملك أصله مألك من الألوكة وهي الرسالة.
فلما استوفى نقض ما أبرموه في زعمهم من جوابهم على غاية الإنصاف واللين والاستعطاف، استأنف الحكاية عنهم بقوله: {قالوا} أي قول من لم يجد في رده شبهة يبديها ولا مدفعاً يغير به: {يا نوح قد جادلتنا} أي اردت فتلنا وصرفنا عن آرائنا بالحجاج وأردنا صرفك عن رأيك بمثل ذلك {فأكثرت} أي فتسبب عن ذلك وعن تضجرنا أنك أكثرت {جدالنا} أي كلامنا على صورة الجدال {فأتنا} أي فتسبب عن ذلك وعن تضجرنا أن نقول لك: لم يصح(9/277)
عندنا دعواك، ائتنا {بما تعدنا} من العذاب {إن كنت} أي كوناً هو جبلة لك {من الصادقين*} أي العريقين في الصدق في أنه يأتينا فصرحوا بالعناد المبعد من الإنصاف والاتصاف بالسداد وسموه باسمه ولم يسمحوا بأن يقولوا له: يا ابن عمنا، مرة واحدة كما كرر لهم: يا قوم، فكان المعنى أنا غير قابلين لشيء مما تقول وإن أكثرت وأطلت - بغير حجة منهم بل عناداً وكبراً فلا تتعب، بل قصر الأمر مما تتوعدنا به، وسموه وعداً سخرية به، أي أن هذا الذي جعلته وعيداً هو عندنا وعد حسن سار باعتبار أنا نحب حلوله، المعنى أنك لست قادراً على ذلك ولا أنت صادق فيه، فإن كان حقاً فائتنا به، فكأنه قيل: ماذا قال لهم؟ فقيل: {قال} جرياً على سنن قوله {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} : {إنما يأتيكم به الله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء فتبرأ من الحول والقوة ورد ذلك إلى من هو له، وأشار بقوله: {إن شاء} إلى أنه مخير في إيقاعه وإن كان قد تقدم قوله به إرشاداً إلى أنه سبحانه لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، بل ولا يسأل عما يفعل وإن كان لا يقع إلا ما أخبر به؛ ثم بين لهم عجزهم وخطأهم في تعرضهم للهلاك فقال: {وما أنتم بمعجزين*} أي في شيء من الأوقات لشيء مما يريده بكم سبحانه؛ والإكثار: الزيادة على مقدار الكفاية؛ والمجادلة: المقابلة بما يفتل الخصم عن مذهبه بحجة أو شبهة، وهو من الجدل وهو شدة الفتل والمطلوب به الرجوع عن المذهب، والمطلوب(9/278)
بالحجاج ظهور الحجة، فهو قد يكون مذموماً كالمراء، وذلك حيث يكون للتشكيك في الحق بعد ظهوره، وحيث قيد الجدال ب
{التي هي أحسن} [العنكبوت: 46] فالمراد به إظهار الحق.
ولما بين أنهم إنما هم في قبضته سبحانه، زاد في بيان عظمته وأن إرادته تضمحل معها كل إرادة في سياق دال على أنه بذلك ناصح لهم وأن نصحه خاص بهم، فقال جواباً لما وهموا من أن جداله لهم كلام بلا طائل: {ولا ينفعكم نصحي} وذكر إرادته لما يريد أن يذكره من إرادة الله فقال: {إن أردت} أي جمعت إلى فعل النصح إرادة {أن أنصح لكم} بإعلام موضع الغي ليتقى والرشد ليتبع، وجزاءه محذوف تقديره: لا ينفعكم نصحي {إن كان الله} أي الذي له الأمر كله {يريد أن يغويكم} أي يضلكم ويركبكم غير الصواب فإنه إرادته سبحانه تغلب إرادتي وفعلي معاً لا ينفعكم شيء إشارة إلى أنكم لا تقدرون على دفع العذاب بقوة فتكونوا غالبين، ولا بطاعة فتكونوا محبوبين مقربين إن كان الله يريد إهلاككم بالإغواء، وأن أردت أنا نجاتكم، ولم يقل: ولا ينفعكم نصحي إن نصحت لكم، إشارة إلى أني لا أملك إلا إرادتي لنصحكم، فإذا أردته فغاية ما يترتب عليه من فعلي وقوع النصح وإخلاصه لكم، وأما النفع به فلا شيء منه إليّ، بل هو تابع لمراد الله، فإن أراد غوايتكم حصلت(9/279)
لا محالة، ولم يقع ما قد يترتب على النصح من عمل المنصوح بمقتضاه المستجلب لنفع المستدفع للضر؛ ثم رغبهم في إحسانه ورهبهم من انتقامه معللاً لعدم ما لا يريده: {هو ربكم} أي الموجد لكم المدبر لأموركم فهو يتصرف وحده لما يريد.
ولما كان التقدير: فمنه مبدؤكم، عطف عليه قوله: {وإليه} أي لا إلى غيره {ترجعون*} أي بأيسر أمر وأهونه بالموت ثم البعث فيجازيكم على أعمالكم كما هي عادة الملوك مع عمالهم.(9/280)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
ولما كان مضمون هذه الآية نحو مضمون قوله: {إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} فإن النذير من ينصح المنذر، والوكيل هو المرجوع إليه في أمر الشيء الموكول إليه، وما قبلها تعريض بنسبة نوح عليه السلام إلى الافتراء، تلاه بما تلا به ذاك من النسبة إلى الافتراء وإشارة إلى أن هذه القصص كلها للتسلية في أمر النذارة والتأسية فكأنه قيل: أيقولون لك مثل هذه الأقوال فقد قالوها لنوح كما ترى، ثم والى عليهم من الإنذار ما لم يطعموا معه في ترك شيء مما أمرناه به أعجبهم أو أغضبهم، فلك به أسوة وحسبك به قدوة في أن تعد كلامهم عدماً وتقبل على ما أرسلناك به من بذل النصيحة بالنذارة: {أم يقولون} في القرآن {افتراه} إصراراً على ما تقولوه فدمغه الدليل وأدحضته الحجة فكأنه قيل: نعم، إنهم يقولون ذلك،(9/280)
فقيل: لا عليك فإنه قول يقصدون به مجرد العناد وهم يعلمون خلافه بعد ما قام عليهم من الحجج التي وصلوا معها إلى عين اليقين فلا يهمنك قولهم هذا، فإنهم يجعلونه وسيلة إلى تركك بعض ما يوحى إليك فلا تفعل، بل {قل} في جواب قولهم هذا {إن افتريته} أي قطعت كذبه {فعليَّ} أي خاصاً بي {إجرامي} أي وباله وعقابه دونكم وإذا استعلى عليَّ الإجرام عرف ذلك لأرباب العقول وظهر ظهوراً أفتضح به وأنتم أعرف الناس بأني أبعد من ذلك مما بين اجتماع الضدين وارتفاع النقيضين لما تعلمون مني من طهارة الشيم وعلو الهمم وطيب الذكر وشريف القدر وكريم الأمر، هذا لو كنت قادراً على ذلك فكيف وأنا وأنتم في العجز عنه سواء {وأنا بريء} أي غاية البراءة {مما تجرمون*} أي توجدون إجرامه، ليس عليَّ من إجرامكم عائد ضرر بعد أن أوضحته لكم وكشقت عنكم غطاء الشبه، إنما ضرره عليكم فاعملوا على تذكر هذا المعنى فإن سوق جوابهم على هذا الوجه أنكى لهم من إقامة حجة أخرى لأنهم يعلمون منه أنه إلزام لهم بالفضيحة لانقطاعهم لدى من له وعي، ويمكن أن يكون التقدير: هل انتبه قومك يا محمد فعلموا قبح مثل هذه الحال وأنها حال المعاندين، فرجعوا تكرماً عن ركوب مثلها واستحياء {أم يقولون افتراه} أي كذبه متعمداً استمراراً على العناد وتمادياً في البعاد كما تمادى قوم نوح فيحل(9/281)
بهم ما حل بهم، أي هل رجعوا بهذا المقدار من قصة قوم نوح أم هم مستمرون على ما نسبوك إليه في أوائل السورة من افترائه فيحتاجون إلى تكميل القصة بما وقع من عذابهم ليخافوا مثل مصابهم؛ وافتراء الكذب: افتعاله من قبل النفس فهو أخص من مطلق الكذب لأنه قد يكون تقليداً للغير.
ولما فرغ من هذه الجملة التي هي المقصود بهذا السياق كله وإن كانت اعتراضية في هذه القصة، رجع إلى إكمالها بياناً لأن نوحاً عليه السلام كان يكاشف قومه بجميع ما أمر به وإن عظمت مشقته عليهم بحيث لم يكن قط موضع رجاء لهم في أن يترك شيئاً منه وتحذيراً لكل من سمع قصتهم من أن يحل به ما حل بهم فقال: {وأوحي} أي من الذي لاموحي إلا هو وهو ملك الملوك {إلى نوح} بعد تلك الخطوب {أنه لن يؤمن} بما جئت به {من قومك إلا من} ولما كان الذي يجيب الإنسان إلى ما يسأله فيه يلوح عليه مخايل قبل الإجابة يتوقع السائل بها الإجابة، قال: {قد آمن فلا} أي فتسبب عن علمك بأنه قد تم شقاءهم أنا نقول لك: لا {تبتئس} أي يحصل لك بؤس، أي شدة يعظم عليك خطبها بكثرة تأملك في عواقبها {بما كانوا} أي بما جبلوا عليه {يفعلون*} فإنا نأخذ لك بحقك منهم قريباً، وكأنه كان أعلمه أنهم إن لم يجيبوه أغرقهم وأنجاه ومن معه في فلك يحملهم فيه على متن الماء فقال: {واصنع الفلك} حال(9/282)
كونك محفوظاً {بأعيننا} نحفظك أن تزيغ في عملها، وجمع مبالغة في الحفظ والرعاية على طريق التمثيل {ووحينا} فنحن نلهمك أصلح ما يكون من عملها وأنت تعلم ما لنا من العظمة التي تغلب كل شيء ولا يتعاظمها شيء، فلا تهتم بكونك لا تعرف صنعتها؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله أوحى إليه أن يصنعه مثل جؤجؤ الطائر - أي صدره. وأشار إلى شفقته على قومه وحبه لنجاتهم كما هو حال هذا النبي الكريم مع أمته فقال: {ولا تخاطبني} أي بنوع مخاطبة وإن قلت {في الذين ظلموا} أي أوجدوا الظلم واستمروا عليه في أن أنجيهم؛ ثم علل النهي بأن الحكم فيهم قد انبرم فقال: {إنهم مغرقون*} قد انبرم الأمر بذلك؛ والابتئاس: حزن في استكانة، لأن أصل البؤس الفقر والمسكنة؛ والوحي: إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء، وقد يكون إفهاماً من غير كلام بإشارة ونحوها، وقد يكون بكلام خفي؛ والفلك: السفينة، يؤنث ويذكر، واحده وجمعه سواء، وأصله الإدارة من الفلكة.
ولما أمره تعالى ونهاه، أخبر أنه امتثل ذلك بقوله عاطفاً على ما تقديره: فأيس من إيمان أحد منهم فترك دعاءهم وشرع يسلي نفسه: {ويصنع} أي صنعة ماهر جداً، له ملكة عظيمة بذلك الصنع {الفلك} فحلى فعله حالُ علمه بأنه سبحانه بت الأمر بأنه كان يعمل ما أمره به(9/283)
سبحانه ولم يخاطبه فيهم ولا أسف عليهم، وأشار إلى أنهم ازدادوا بغياً بقوله: {وكلما} أي والحال أنه كلما {مرَّ عليه ملأ} أي أشراف {من قومه} وأجاب «كلما» بقوله: {سخروا منه} أي ولم يمنعهم شرفهم من ذلك، وذلك أنهم رأوه يعاني ما لم يروا قبله مثله ليجري على الماء وهو في البر وهو على صفة من الهول عظيمة فعن الحسن أن طوالها ألف ذراع ومائتا ذراع وعرضها ستمائة، فقالوا: يانوح! ما تصنع؟ قال: أبني بيتاً على الماء، ويجوز أن يكون {سخروا} : صفة لملإ، وجواب {كلما} {قال} ، ولما أيأسه الله من خيرهم، ترك ما كان من لينه لهم واستعطافهم فعلم أن ذلك ما كان إلا له سبحانه، فقال حاكياً عنه استئنافاً: {قال إن تسخروا منا} ولما كانوا يظنون أنه غائب في عمله كان عندهم موضعاً لخزي والسخرية، وكان هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عالماً بأن عملهم سبب لخزيهم بالعذاب المستأصل، فكان المعنى: إن تسخروا منا - أي مني وممن يساعدني - لظن أن عملنا غير مثمر {فإنا نسخر} أي نوجد السخرية {منكم} جزاء لكم {كما تسخرون} منا الآن لأن عملنا منج وعملكم ليس مقتصراً على الضياع بل هو موجب لما توعدون من العذاب فأنتم المخزيون دوني.
ولما كان قوله {نسخر منكم} واقعاً موقع هذا الإخبار، حسن الإتيان بالفاء المؤذنة بتسبب العلم المذكور عنه في قوله: {فسوف تعلمون} أي بوعد لا خلف فيه(9/284)
{من يأتيه عذاب يخزيه} أي يفضحه فيذله، وكأن المراد به عذاب الدنيا {ويحل عليه} أي حلول الدين الذي لا محيد عنه {عذاب مقيم*} وهو عذاب الآخرة، وقد مضى نحوه في الأنعام عند قوله {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} ؛ والسخرية: إظهار ما يخالف الإبطان على جهة تفهم استضعاف العقل، من التسخير وهو التذليل استضعافاً بالقهر، وهي تفارق اللعب بأن فيها خدعة استنفاض، فلا تكون إلا بحيوان، واللعب قد يكون بجماد لأنه مطلق طلب الفرح؛ والخزي: العيب الذي تظهر فضيحته والعار به، ونظيره الذل والهوان؛ واستمر ذلك دأبه ودأبهم {حتى إذا جاء أمرنا} أي وقت إرادتنا لإهلاكم {وفار} أي غلا وطفح {التنور} وعن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد أنه الحقيقي الذي يخبز فيه، وهذا هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل، لأن صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل عبث كما قاله أهل الأصول {قلنا} بعظمتنا {احمل} ولما كان الله تعالى قد أمره أن يجعل لها غطاء - كما قاله أهل التفسير - لئلا تمتلىء من شدة الأمطار، كانت الظرفية فيها بخلاف غيرها من السفن واضحة فلذلك قال: {فيها} أي السفينة {من كل زوجين} من الحيوانات، والزوج فرد يكون معه آخر لا يكمل نفعه إلا به {اثنين} ذكراً وأنثى {وأهلك} أي احملهم، والأهل:(9/285)
العيال {إلا من سبق} غالباً {عليه القول} بأني أغرقه وهو امرأته وابنه كنعان {ومن} أي واحمل فيها من {آمن} قال أبو حيان: وكانت السفينة ثلاث طبقات: السفلى للوحوش، والوسطى للطعام والشراب، والعليا له ولمن آمن معه؛ ثم سلى المخاطب بهذه القصص صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكره نعمته بكثرة من اتبعه مع صدعهم بمؤلم الإنذار على قصر الزمان دون نوح عليهم السلام مع تطاول الزمن فقال: {وما} أي والحال أنه ما {آمن} كائناً {معه} أي بإنذاره {إلا قليل*} بسبب تقديرنا لا باغضائهم بما كوفحوا به من الإنذار؛ والتنور - قال أبو حيان: وزنه فعول عند أبي علي وهو أعجمي، وقال ثعلب: وزنه تفعول من النور، وأصله تنوور، همزت الواو ثم خففت وشدد الحرف الذي قبلها، والزوج قد كثر على الرجل الذي له امرأة؛ قال الرماني: وقال الحسن في
{ومن كل شيء خلقنا زوجين} [الذاريات: 49] : السماء زوج والأرض زوج، والشتاء زوج، والصيف زوج، والليل زوج، والنهار زوج، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء، ومعنى ذلك في صحيح البخاري وأقل ما قيل فيمن كان في السفينة ثمانية: نوح وامرأة له، وثلالة بنين: سام وحام ويافث، ونساؤهم؛ وأكثر ما قيل أنهم ثمانون - روي عن ابن عباس رضي الله عنهما.(9/286)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
ولما أتاه الأمر بذلك، بادر الامتثال فجمع من أمره الله به إلى السفينة بعد أن هيأها لهم {وقال} أي لمن أمر بحمله {اركبوا} ولما كانت الظرفية أغلب على السفينة قال: {فيها} أي السفينة؛ ولما أمرهم بالركوب فركبوا، استأنف قوله، أو أمرهم بالركوب قائلين: {بسم الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {مجراها ومرساها} أي إجرائها وإرساءها ومحلهما ووقتهما، وقرأ الحسن وقتادة وحميد العرج وإسماعيل بن مجالد عن عاصم بكسر الراء والسين كسراً خالصاً بعده ياءان خالصتان على أن الاسمين صفتان للجلالة؛ ثم علل نجاتهم بالإجراء والإرساء اعترافاً بأنه لا نجاة إلا بعفوه بقوله: {إن ربي} أي المحسن إلي بما دبر مني هذا الأمر وغيره، وزاد في التأكيد تطبيقاً لقلوب من معه معرفاً لهم بأن أحداً لن يقدر الله حق قدره وأن العبد لا يسعه إلا الغفران فقال: {لغفور} أي بالغ الستر للزلات والهفوات {رحيم*} أي بالغ الإكرام لم يريد، فركبوها واستمروا سائرين فيها يقولون: بسم الله {وهي} أي والحال أنها {تجري بهم} .
ولما كان الماء مهيئاً للإغراق، فكان السير على ظهره من الخوارق، وأشار إلى ذلك بالظرف فقال: {في موج} ونبه على علوه بقوله: {كالجبال} أي في عظمه وتراكمه وارتفاعه، فالجملة حال من فركبوها، المقدر لأنه لظهوره في قوة الملفوظ، وكان هذه الحال مع(9/287)
أن استدامة الركوب ركوب إشارة إلى شرعة امتلاء الأرض من الماء وصيرورته فيها أمثال الجبال عقب ركوبهم السفينة من غير كبير تراخ، قالوا: وكان أول ما ركب معه الذرة، وآخر ما ركب معه الحمار، وتعلق إبليس بذنبه فلم يستطع الدخول حتى قال له نوح عليه السلام: ادخل ولو كان الشيطان معك - كذا قالوا، وقيل: إنه منع الحية والعقرب وقال: إنكما سبب الضر، فقالا: احملنا ولك أن لا نضر أحداً ذكرك، فمن قال {سلام على نوح في العالمين * إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين} [الصافات: 79-80] لم تضراه. ولما كان ابتداء الحال في تفجر الأرض كلها عيوناً وانهمار السماء انهماراً - مرشداً إلى أن الحال سيصير إلى ما أخبر الله به من كون الموج كالجبال لا ينجي منه إلا السبب الذي أقامه سبحانه، تلا ذلك بأمر ابن نوح فقال عاطفاً على قوله {وقال اركبوا} {ونادى نوح ابنه} أي كنعان وهو لصلبه - نقله الرماني عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك {وكان} أي الابن {في معزل} أي عن أبيه في مكانه وفي دينه لأنه كان كافراً، وبين أن ذلك المعزل كان على بعض البعد بقوله: {يا بني} صغَّره تحنناً وتعطفاً {اركب} كائناً {معنا} أي في السفينة لتكون من الناجين {ولا تكن} أي بوجه من الوجوه {مع الكافرين*} أي في دين ولا مكان إشارة إلى أن حرص الرسل عليهم السلام(9/288)
وشفقتهم - وإن كانت مع رؤية الآيات العظام والأمور الهائلة - ليست سبباً للين القلوب وخضوع النفوس ما لم يأذن الله، انظر إلى استعطاف نوح عليه السلام بقوله {يا بني} مذكراً له بالنبوة مع تصغير التحنن والتراؤف وفظاظة الابن مع عدم سماحه بأن يقول: يا أبت، ولم يلن مع ما رأى من الآيات العظام ولا تناهى لشيء منها عن تقحم الجهل بدلاً من العلم وتعسف الشبهة بدلاً من الحجة.
ولما كان الحال حال دهش واختلال. كان السامع جديراً بأن لا يصبر بل يبادر إلى السؤال فيقول: فما قال؟ فقيل: {قال} قول من ليس له عقل تبعاً لمراد الله {سآوي إلى جبل يعصمني} أي بعلوه {من الماء} أي فلا أغرق {قال} أي نوح عليه السلام {لا عاصم} أي لا مانع من جبل ولا غير موجود {اليوم} أي لأحد {من أمر الله} أي الملك الأعظم المحيط أمره وقدرته وعلمه، وهو حكمه بالغرق على كل ذي روح لا يعيش في الماء {إلا من رحم} أي إلا مكان من رحمة الله فإنه مانع من ذلك وهو السفينة، أو لكن من رحمه الله فإن الله يعصمه.
ولما ركب نوح ومن أمره الله به وأراده. ولم تبق حاجة في تدرج ارتفاع الماء، فعلاً وطماً وغلب وعتاً فهال الأمر وزاد على الحد والقدر، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره: فلم يسمع ابنه ذلك(9/289)
منه بل عصى أباه كما عصى الله فأوى إلى الجبل الذي أراده فعلاً الماء عليه ولم يمكنه بعد ذلك اللحاق بأبيه ولا الوصول إليه: {وحال بينهما} أي بين الابن والجبل أو بينه وبين أبيه {الموج} المذكور في قوله {في موج كالجبال} {فكان} أي الابن بأهون أمر {من المغرقين*} وهم كل من لم يركب مع نوح عليه السلام من جميع أهل الأرض؛ قال أبو حيان: قل كانا يتراجعان الكلام فما استتمت لمراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكباً على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه وحيل بينه وبين نوح عليه السلام فغرق - انتهى. والركوب: العلو على ظهر الشيء، ركب الدابة والسفينة والبر والبحر؛ والجري: مر سريع؛ يقال: هذه العلة تجري في أحكامها، أي تمر من غير مانع، والموج جمع موجة - لقطعة عظيمة من الماء الكثير ترتفع عن حملته، وأعظم ما يكون ذلك إذا اشتدت الريح؛ والجبل: جسم عظيم الغلظ شاخص من الأرض هو لها كالوتد؛ والعصمة: المنع من الآفة {وقيل} أي بأدنى إشارة بعد هلاك أهل الأرض وخلوها من الكافرين وتدمير من في السهول والجبال من الخاسرين، وهو من إطلاق المسبب - وهو القول - على السبب - وهو لإرادة - لتصوير أمر ومأمور هو في غاية الطاعة فإنه أوقع في النفس.(9/290)
ولما كان كل شيء دون مقام الجلال والكبرياء والعزة بأمر لا يعلمه إلا الله، دل على ذلك بأداة البعد فقال {يا أرض ابلعي} أي اجذبي من غير مضغ إلى مكان خفي بالتدريج، وعين المبلوع لئلا يعم فتبتلع كل شيء على ظهرها من جبل وغيره، ولذلك أفرد ولم يجمع فقال: {ماءك} أي الذي تجدد على ظهرك للإغراق ليكون كالغذاء للآكل الذي يقوي بدنه فيقوى به على الإنبات وسائر المنافع وجعله ماءها لاتصاله بها اتصال الملك بالمالك {ويا سماء أقلعي} أي أمسكي عن الإمطار، ففعلتا مبادرتين لأمر الملك الذي لا يخرج عن مراده شيء {وغيض الماء} أي المعهود، حكم عليه بالدبوب في أعماق الأرض، من المتعدي فإنه يقال: غاض الماء وغاضه الله، كما يقال: نقض الشيء ونقضته أنا {وقضي الأمر} أي فرغ وانبتّ وانبرم في إهلاك من هلك ونجاة من نجا كما أراد الجليل على ما تقدم به وعده نوحاً عليه السلام، لم يقدر أحد أن يحبسه عنهم ولا أن يصرفه ولا أن يؤخره دقيقة ولا أصغر منها. فليحمد الله من أخر عنه العذاب ولا يقل ما «يحبسه» لئلا يأتيه مثل ما أتى هؤلاء أو من بعدهم {واستوت} أي استقرت واعتدلت السفينة {على الجودي} إشارة باسمه إلى أن الانتقام العام قد مضى، وما بقي إلا الجود بالماء والخير والخصب والرحمة العامة، وهو الجبل بالموصل بعد خمسة أشهر؛ قال قتادة: استقلت بهم(9/291)
لعشر خلون من رجب وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت بهم على الجودي شهراً، وهبط بهم يوم عاشوراء {وقيل} أي إعلاماً بهوان المهلكين والراحة منهم {بعداً} هو من بعد - بالكسر مراداً به البعد من حيث الهلاك، فإن حقيقته بعدُ بعيد لا يرجى منه عود، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء، وعبر بالمصدر لتعليقه باللام الدالة على الاستحقاق والختصاص {للقوم} أي المعهودين في هذه القصة التي كان فيها من شدة القيام فيما يحاولونه ما لا يعلمه أحد إلا الله {الظالمين*} أي العريقين في الظلم، وهذه الآية تسع عشرة لفظة فيها أحد وعشرون نوعاً من البديع - عدها أبو حيان وقال: وروي أن أعرابياً سمعها فقال: هذا كلام القادرين. وذكر الرماني عدة من معانيها، منها إخراج الأمر على جهة التعظيم لفاعله من غير معاناة ولا لغوب، ومنا حسن تقابل المعاني، ومنها حسن ائتلاف الألفاظ، ومنها حسن البيان في تصوير الحال، ومنها الإيجاز من غير إخلال، ومنها تقبل الفهم على أتم الكمال؛ والبلع: إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف؛ والإقلاع: إذهاب الشيء من أصله حتى لا يبقى له أثر؛ والغيض: غيبة الماء في ألأرض على جهة النشف وإبراز الكلام على البناء للمفعول أدل على الكبرياء والعظمة للفاعل للإشارة إلى أنه معلوم لأنه لا يقدر على مثل هذه الأفعال غيره، ونقل(9/292)
الأصبهاني عن صاحب المفتاح فيها كلاماً أغلى من الجوهر.(9/293)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
ولما كان الاستثناء من أهله في قوله: {إلا من سبق عليه القول} يجوز أن يراد به امرأته فقط، فتكون نجاة ابنه جائزة، وكان ما عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من فرط الشفقة على الخلق لا سيما الأقارب يحملهم على السعي في صلاحهم ما كان لذلك وجه كما تقدم مثل ذلك في قوله تعالى {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] لأن أجنحة الخلق كسيرة وأيديهم قصيرة وأمرهم ضعيف وحالهم رث، فأدنى هوان يورثهم الخسران، وأما جناب الحق ففسيح وشأنه عظيم وأمره عليّ، فلا يلحقه نقص بوجه ولا يدانيه ضرر ولا يعتري أمره وهن، لما كان ذلك كذلك، سأل نوح عليه السلام نجاة ولده كما أخبر عنه تعالى في قوله: {ونادى نوح ربه} أي الذي عوده بالإحسان الجزيل، ودل سبحانه بالعطف بالفاء دون أن يأتي بالاستئناف المفسر للنداء على أن ما ذكر هنا من نداء نوح عليه السلام بعض ندائه وأن هذا المذكور مرتب معقب على شيء منه سابق عليه أقربه أن يكون ما أرشده إليه سبحانه في سورة المؤمنين ويشعر به قوله تعالى بعد هذا جواباً له {يا نوح اهبط بسلام منا} فيكون(9/293)
تقدير الكلام قال: رب أنزلني منزلاً مباركاً - وما قدر له من الكلام {فقال} أي عقبة لما حمله على ذلك من رحمة النبوة وشفقة الأبوة وسجية البشر متعرضاً لنفحات الرحمة وعواطف العفو؛ أو الفاء تفصيل لمجمل «نادى» مثل ما في: توضأ فغسل {رب إن ابني} أي الذي غرق {من أهلي} أي وقد أمرتني بحمل أهلي، وذلك الأمر محتمل للإشارة إلى إرادة نجاتهم {وإن وعدك الحق} أي الكامل في نجاتهم إلا من سبق عليه القول، وقد علمت ذلك في المرأة الكافرة {وأنت أحكم الحاكمين*} لأنك أعلمهم، ومن كان أعلم كان أحكم فتعلم أن قولك {إلا من سبق عليه القول} يصح باستثنائها وحدها، فإن كان ابني ممن نجا فأتني به؛ وإن كان هذا الدعاء عند حيلولة الموج بينهما فالمعنى: فلا تهلكه {قال يا نوح} وأكد في نفي ما تقدم منه إثباته فقال: {إنه ليس من أهلك} أي المحكوم بنجاتهم لإيمانهم وكفره، ولهذا علل بقوله: {إنه عمل} أي ذو عمل، ولكنه جعله نفس العمل في قراءة الجماعة مبالغة في ذمه، وذلك لأن الجواهر متساوية الأقدام في نفس الوجود لا تشرف إلا بآثارها، فبين أنه ليس فيه أثر صالح أصلاً، ويثبت قراءة يعقوب والكسائي بالفعل أن من باشر السوء مطلق مباشرة وجبت البراءة منه، ولا سيما للأمر فلا يواصل إلا بإذن، وعبر بالعمل دون الفعل لزعمه أن أعماله مبنية على العلم، وأكده لما لا يخص من سؤال نوح عليه السلام هذا(9/294)
{غير صالح} بعلمي، وقد حكمت في هذا الأمر أني لا أنجي منه إلا من اتصف بالصلاح وأنا عليم بذات الصدور، وأنت يخفي عليك كثير من الأمور فربما ظننت الإيمان بمن ليس بؤمن لبنائك الأمر على ما نراه من ظاهره؛ وقد نقل الرماني عن الحسن أنه كان ينافق بإظهار الإيمان، وهذا يدل على أن الموافق في الدين ألصق ما يكون وإن كان في غاية البعد في النسب، والمخالف فيه أبعد ما يكون وإن كان في غاية القرب في النسب.
ولما تسبب عن هذا الجواب أن ترك السؤال كان أولى، ذكر أمراً كلياً يندرج فيه فقال: {فلا تسألن} أي بنوع من أنواع السؤال {ما ليس لك به علم} فلا تعلم أصواب السؤال فيه أم لا، لأن اللائق بأمثالك من أولى القرب بناء أمورهم على التحقيق وانتظار الإعلام منا، انظر إلى قول موسى عليه السلام في حديث الشفاعة في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها» ومن المعلوم أن تلك النفس كانت كافرة من آل فرعون {إني أعظك} بمواعظي كراهية {أن تكون} أي كوناً تتخلق به {من الجاهلين*} أي في عداد الذين يعملون بالظن لأنهم لا سبيل لهم إلى الوقوف على حقائق الأمور من قبلنا فتسأل مثل ما يسألون.
ولما انجلى للسامع ما هو فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من علو المقام وعظيم(9/295)
الشأن الموجب للعتاب على كثير من الصواب فتشوف للجواب، استأنف بيانه بقوله: {قال} أي مبادراً على ما يقتضيه له من كمال الصفات {رب} أي أيها المحسن إليّ، وأكد دلالة للسامعين على عظيم رغبته فقال: {إني أعوذ بك أن} أي من أن {أسألك} أي في شيء من الأشياء {ما ليس لي به علم} تأدباً بإذنك واتعاظاً بموعظتك وارتقاء لما رقيتني إليه من علو الدرجة ورفيع المنزلة {وإلا تغفر لي} أي الآن وفي المستقبل {وترحمني} أي تستر زلاتي وتمحها وتكرمني {أكن من الخاسرين*} أي العريقين في الخسارة فكأنه قيل: ماذا أجيب عن ذلك؟ فقيل: {قيل} بالبناء للمفعول دلالة على العظمة والجلال الذي تكون الأمور العظيمة لأجله بأدنى إشارة {يا نوح اهبط} أي من السفينة {بسلام} أي عظيم {منا} أي ومن سلمنا عليه فلا هلك يلحقه {وبركات} أي خيرات نامية عظيمة صالحة {عليك} أي خاصة بك {وعلى أمم} ناشئة {ممن معك} لكونهم على ما يرضينا ولا نمتعهم بالدنيا إلا قليلاً، ولهم إذا رجعوا إلينا نعيم مقيم، وقد دخل في هذا الكلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة {وأمم} أي منهم {سنمتعهم} في الدنيا بالسعة في الرزق والخفض في العيش على وفق علمنا وإرادتنا ولا بركات عليهم منا ولا سلام، فالآية من الاحتباك:(9/296)
ذكر البركات والسلام أولاً دليلاً على نفيهما ثانياً، والمتاع ثانياً، دليلاً على حذفه أولاً {ثم يمسهم منا} أي في الدارين أو في الآخرة أو فيهما {عذاب أليم*} لجريهم على غير هدينا وجرأتهم على ما يسخطنا، ويجوز أن يكون {وأمم} مبتدأ من غير تقدير صفة محذوفة، فيكون المسوغ للابتداء كون المقام مقام التفضيل؛ والعياذ: طلب النجاة بما يمنع من الشر؛ والبركة: ثبوت الخير بنمائه حالاً بعد حال، وأصله الثبوت، ومنه البروك والبركة لثبوت الماء فيها.
ذكر قصة نوح عليه السلام من التوراة وهو نوح بن لمك بن متوشلح بن خنوخ بن يارد بن مهلاليل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، وذلك لأنه في أوائل السفر الأول منها: وإن آدم طاف نحو حليلته فحبلت وولدت ابناً فسماه شيث وقال: الآن أخلف الله عليّ نسلاً آخر بدل هابيل الذي قتله قابيل، وذلك بعد أن عاش آدم مائة وثلاثين سنة، وكان جميع حياة آدم تسعمائة وثلاثين سنة، وعاش شيث مائة وخمس سنين فولد له أنوش، وكان(9/297)
جميع حياة شيث تسعمائة واثنتي عشرة سنة، فعاش أتوش تسعين سنة فولد له قينان وكان جيمع حياة أنوش تسعمائة وخمس سنة، وعاش قينان سبعين سنة فولد له مهلاليل وكان جميع حياة قينان تسعمائة وعشرين سنة، وعاش مهلاليل خمساً وستين سنة فولد له يارد وكانت مائة واثنتين وستين سنة فولد به خنوخ فكانت جميع حياة يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة، وعاش خنوخ خمساً وستين سنة فولد له متوشلح وكانت جميع حياة خنوخ ثلاثمائة وخمساً وستين سنة، وعاش متوشلح مائة وسبعاً وثمانين سنة فولد له لمك وكانت جميع حياة متوشلح تسعمائة وتسعاً وستين سنة، وعاش لمك مائة واثنتين وثمانين سنة فولد له ابن فسماه نوحاً، ثم قال: هذا يريحنا من أعمالنا، وكد أيدينا في الأرض التي قد لعنها الله، وكانت جميع أيام حياة لمك سبعمائة وسبعاً وسبعين سنة، وتوفي ونوح ابن خمسمائة سنة. فولد لنوح بنون: سام وحام ويافث، فلما بدأ الناس أن يكثروا على وجه الأرض وولد لهم البنات نظر بنو الأشارف منهم بنات العامة حساناً جداً فأخذوا منهم النساء على ما اختاروا وأحبوا، فقال الله عند ذلك: لا تحل عنايتي وشفتي على هؤلاء الناس لأنهم يتبعون أهواء الجسد واللحم وكانت على الأرض جبابرة في تلك الأيام ومن بعدها، لأن بني الأشراف دخلوا على بنات العامة فولد لهم جبابرة مذكورون، فرأى الرب أن شر الناس قد كثر(9/298)
على الأرض هوىء فكرهم وحقدهم ردىء في جميع الأيام، فقال الرب: أمحق الذين خلقت وأبيدهم عن جديد الأرض من الناس والبهائم حتى الهوام وطير السماء؛ وظفر نوح من الله برحمة ورأفة، وكان نوح رجلاً باراً تقياً في حقبه فأرضى الله، وفسدت الأرض بين يدي الله وامتلأت إثماً وفجوراً، فرأى الرب الإله أن الأرض قد فسدت وقال الله لنوح: قد وصل إلى أمر جميع الناس وسوء أعمالهم لأن الأرض قد امتلأت إثماً وفجوراً بسوء سيرتهم.
فهأنذا مفسدهم مع الأرض فاتخذ لك أنت تابوتاً مربعاً من خشب الساج - وفي نسخة: الشمشار - وأجعل في التابوت علالي. واطلها بالقار من داخلها وخارجها، وليكن طول الفلك ثلاثمائة ذراع. وعرضه خمسين ذراعاً، وسمكه ثلاثين ذراعاً، واجعل في التابوت كوى وليكن عرضها من أعلاها ذراعاً واحداً، واجعل باب الفلك في جانبه، واجعل فيه منازل أسفل وأوساط وعلالي. وها أنذا محدر ماء الطوفان على الأرض لأفسد به كل ذي لحم فيه نسمة الحياة من تحت السماء، ويبيد كل ما على الأرض، وأثبت عهدي بيني وبينك. وتدخل التابوت أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك، ومن كل حي من ذوي اللحوم من كل صنف اثنان لتحيى معك، ولتكن ذكوراً وإناثاً، من كل الطيور كأجناسها.(9/299)
ومن الأنعام لأصنافها، ومن كل الهوام التي تدب على الأرض لجواهرها، اثنين اثنين أدخل معك من كلها لتستحييها ذكراً وانثى، واجعل من كل ما يؤكل فاخزنه معك، وليكن مأكلك ومأكلها؛ فصنع نوح كل شيء كما أمر الله ثم قال الله لنوح: ادخل أنت وكل أهل بيتك إلى التابوت لأني إياك وجدت باراً تقياً في هذا الحقب، ومن كل الأنعام الزكية أدخل معك سبعة سبعة من الذكور والإناث، ومن الأنعام التي ليست بزكية أدخل معك اثنين ذكوراً وإناثاً. ومن الطير الزكي سبعة سبعة ذكوراً وإناثاً، ومن الطير الذي ليس بزكي اثنين اثنين ذكوراً وإناثاً، ليحي منها نسل على وجه الأرض، لأني من الآن إلى سبعة أيام أهبط القطر على وجه الأرض أربعين يوماً ولياليها، وأبيد كل ما خلقت على وجه الأرض؛ فصنع نوح كما أمره الرب الإله. فلما كان بعد بعد ذلك بسبعة ايام نزلت مياه الطوفان، تفجرت مياه الغمر وتفتحت مثاعب السماء. وأقبلت الأمطار على وجه الأرض أربعين نهاراً وأربعين ليلة، وفي هذا اليوم دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح ونساء بنيه الثلاث معه الفلك هم وجميع السباع لأجناسها وجميع الدواب لأصنافها وكل حشرة تدب على الأرض بجواهرها وجميع الطيور لأجناسها، ودخل مع نوح التابوت منكل عصفور ومن كل ذي جناحين اثنان اثنان، ومن كل ذي لحم فيه(9/300)
روح الحياة وكل شيء دخل من ذوي اللحوم دخلوا ذكوراً وإناثاً كما أمر الله نوحاً، ثم أغلق الله الرب الباب عليه، وكان الطوفان على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة، وكثرت المياه حتى احتملت التابوت فارتفع عن الأرض، وعزرت المياه وكثرت على الأرض جداً وجعل التابوت يسير على وجه الماء واشتدت المياه على وجه الأرض جداً جداً.
وتوارت جميع الجبال العالية الشاهقة التي تحت السماء، وارتفعت المياة من فوق كل جبل خمسة عشر ذراعاً، وباد كل ذي لحم على الأرض من الطيور أجمع والسباع والدواب وجميع الحشرة التي تدب على الأرض وجميع الناس والبهائم، ومات كل شيء كان فيه نسمة الحياة مما في اليبس. وبقي نوح ومن معه في الفلك، واشتدت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً؛ وإن الله ذكر نوحاً وكل السباع والدواب وجميع الطيور التي معه في التابوت. فأهاج الله ريحاً على وجه الأرض فسكنت المياه والأمطار. واشتدت ينابيع الغمر وميازيب وغاضت المياه بعد مائة وخمسين يوماً، وسكن التابوت ووقف في الشهر السابع لثلاث عشرة ليلة بقيت من الشهر على جبال قودي وجعلت المياه تنصرف وتنتقص إلى الشهر العاشر، وظهرت رؤوس الجبال في أول يوم الشهر العاشر، فلما كان بعد ذلك بأربعين(9/301)
يوماً فتح نوح الكوة التي عملها في التابوت فأرسل الغراب، فخرج الغراب من عنده فلم يعد إليه حتى يبست المياه عن وجه الأرض، ثم أرسل الحمامة من بعده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض فلم تجد الحمامة موضعاً لموطىء رجليها فرجعت إلى التابوت لأن المياه كانت بعد على وجه الأرض، فمد يده فأخذها وأدخلها إليه وانتظر سبعة أيام أخرى، ثم عاد فأرسل الحمامة فعادت عند المساء وفي منقارها ورقة زيتون، فعلم أن الماء قد غاض عن وجه الأرض فصبر أيضاً سبعة أيام أخر، ثم أرسل الحمامة فلم تعد إليه أيضاً، ففتح نوح باب الفلك فرأى فإذا وجه الأرض قد ظهر وجفت الأرض. فكلم الرب الإله نوحاً وقال له: اخرج من التابوت أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وكل السباع التي معك من كل ذي لحم والطيور والدواب، وأخرج كل الهوام التي تدب على الأرض معك، ولتتولد وتنمو في الأرض وتكثر وتزداد على الأرض. فخرج نوح ومن ذكر وبنى للرب مذبحاً وأخذ من جميع الدواب والطيور الزكية فأصعد منها على المذبح قرباناً للرب الإله، فقال الرب الإله: لا أعود ألعن الأرض أبداً من أجل أعمال الناس لأن هوى قلب الإنسان وحقده رديء منذ صباه ولا أعود أيضاً أبيد كل حي كما فعلت، ومن الآن جميع أيام الأرض(9/302)
يكون فيها الزرع والحصاد والبرد والحر والقيظ والشتاء، فبارك الله على نوح وبنيه وقال لهم: انموا واكثروا واملؤوا الأرض، وليغش رعبكم وخوفكم جميع السباع وبهائم الأرض وكل طيور السماء وكل دابة تدب على الأرض، وجميع حيتان البحور تكون تحت أيديكم، وكل الدواب الطاهرة الحية تكون لأكلكم، وقد جعلت الأشياء كلها حلالاً لكم مثل عشب البرية خضرها، وأما المخنوق الذي دمه فيه فلا تأكلوه فإن دمع نفسه، وأما دماؤكم من أنفسكم فأطلبها بالنهي من يد جميع الحيوان ومن يد جميع الناس، أي إنسان قتل أخاه طالبته بدمه، ومن سفك دم الإنسان سفك دمه لأن الله خلق آدم بصورته، وأنتم فانموا واكثروا وولدوا في الأرض وأكثروا فيها؛ وقال الله لنوح ولبنيه معه: هأنذا مثبت عهدي بيني وبينكم ومع أنسالكم من بعدهم ومع كل نفس حية منكم، ومع الطيور والدواب ومع كل سباع الأرض جميع الذين خرجوا من الفلك.
وأثبت عهدي بيني وبينكم فلا يبيد كل ذي لحم أيضاً بماء الطوفان ولا يهبط الطوفان أيضاً ليفسد جميع الأرض، قال الله لنوح: هذه علامة لعهدي الذي أجعله بيني وبينكم وبين كل نفس حية معكم في جميع أحقاب العالم، قد أظهرت قوسي في السحاب فهي أمارة ذكر العهد الذي(9/303)
بيني وبينك وبين أهل الأرض، فإذا أنشأت السحاب في الأرض وأظهرت قوس السحاب فاذكروا العهد الذي بيني وبينكم، وكان بنو نوح الذين خرجوا معه من التابوت سام وحام ويافث، وحاتم يكنى أبا كنعان، هؤلاء الثلاثة ثم بنو نوح، وتفرق الناس من هؤلاء في الأرض كلها؛ ثم ذكر أن نوحاً عليه السلام نام فرأى حام عريه فأظهر ذلك لأخويه، فتناول سام ويافث رداء فألقياه على أكتافهما ثم سعيا على أعقابهما مدبرين فواريا عرى أبيهما، فلما علم نوح ما صنع ابنه الأصغر دعا عليه أن يكون عبداً لأخويه، وكانت جميع أيام حياة نوح تسعمائة سنة وخمسين سنة، ثم توفي عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام؛ ثم ذكر أن الناس بعده أرادوا أن يبنوا صرحاً لاحقاً بالسماء، واجتمع جميعهم على ذلك لأن لغتهم كانت واحدة ورأيهم واحد ففرق الله ألسنتهم وفرقهم من هنالك على وجه الأرض ولم يبنوا القرية التي هموا بها، ولذلك سميت بابل وبوبال معناه بالعبراني: الشتات، وما في تفسير البغوي وغيره من أن عوج ابن عوق - بضمهما كما في القاموس - كان في زمن نوح وسلم من الطوفان، وأن الماء لم يجاوز ركبتيه ونحو هذا كذب بحت منابذ لقوله تعالى: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} [هود: 27] وقوله: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} وقوله: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} [نوح: 26] ونحوها، فإن(9/304)
كل من ذكر ذلك ذكر أن موسى عليه السلام قتله كافراً.(9/305)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
ولما تمت هذه القصة علىلنحو الوافي ببيان اجتهاد نوح علبه السلام في إبلاغ الإنذار من غير مراعاة إقبال ولا إدبار، وكانت مع ذلك دالة على علم تام واطلاع على دقائق لا سبيل إليها إلا من جهة الملك العلام، فهي على إزالة اللبس عن أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوضح من الشمس، قال تعالى منبهاً على ذلك: {تلك} أي هذه الأنباء البديعة الشأن الغريبة الأمر البعيدة عن طوق المعارض، العلية الرتب عن يد المتناول {من أنباء الغيب} أي أخباره العظيمة، ثم أشار إلى أنه لا يزال يجدد له أمثالها بالمضارع في قوله: {نوحيها إليك} فكأنه قيل: إن بعض أهل الكتاب يعلم بعض تفاصيلها، فأشار إلى أن ذلك مجموعة غيب وبما يعلمونه غيب نسبي بقوله: {ما كنت تعلمها} أي على هذا التفصيل {أنت} ولما كان خفاءها عن قومه دليلاً على خفائها عنه لأنه لم يخالط غيرهم قال: {ولا قومك} أي وإن كانوا أهل قوة في القيام على ما يحاولونه وعدداً كثيراً، ومنهم من يكتب ويخالط العلماء.
ولما كان زمان خفاء ذلك عنهم - وإن كان عاماً لهم - بعض الزمان الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل هذا} أي من إيحائي إليك حتى يطرق الوهم حينئذ أنك تعلمتها من أحد منهم وإن كان يعلم(9/305)
كثيراً منها أهل الكتاب كما رأيت عن نص التوراة فبان أن لا عرض لقومك إلا العناد {فاصبر} على ذلك ولا تفتر عن الإنذار فستكون لك العاقبة كما كانت لنوح لأجل تقواه {إن العاقبة} أي آخر الأمر من الفوز والنصر والسعادة {للمتقين*} أي العريقين في مخافة الله في كل زمن، وقد تضمنت القصة البيان عما يوجبه حال أهل الخير والإيمان وأهل الشر والطغيان من الاعتبار بالنبأ عن الفريقين ليجتبي حال هؤلاء ويتقي حال أولئك لسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.
ولما تم من ذلك ما هو كفيل بغرض السورة، وختم بأن العاقبة دائماً للمتقين، أتبع بالدليل على ذلك من قصص الأنبياء مع الوفاء بما سيقت له قصة نوح - على جميعهم السلام - من الحث على المجاهرة بالإنذار فقال تعالى: {وإلى} أي ولقد ارسلنا إلى {عاد أخاهم} وبينه فقال: {هوداً} ولما تقدم أمر نوح مع قومه، استشرف السامع إلى معرفة ما قال هود عليه السلام هل هو مثل قوله أو لا؟ فاستأنف الجواب بقوله: {قال يا قوم} الذين هم أعز الناس لدي {اعبدوا الله} أي ذا الجلال والإكرام وحده؛ ثم صرح وعلل فقال: {ما لكم} وأغرق في النفي فقال: {من إله} أي معبود بحق {غيره} فدعا إلى أصل الدين كما هو دأب سائر النبين والمرسلين؛ ثم ختم ذلك بمواجهتهم(9/306)
بما يسوءهم من الحق وما ثناه عن ذلك رجاء ولا خوف فقال: {إن} أي ما {أنتم إلا مفترون*} أي متعمدون الكذب على الله في إشراككم به سبحانه لأن ما على التوحيد من أدلة العقل غير خاف على عاقل فكيف مع تنبيه النقل! وذلك مكذب لمن أشرك، أي فاحذروا عقوبة المفتري؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك غرض غير نصحهم بقوله موضع «إني ناصح لكم بهذا الأمر فلا يسوءكم مواجهتي لكم فيه بما تكرهون» {يا قوم} مكرراً لاستعطاف {لا أسألكم} أي في المستقبل كما لم أسالكم في الماضي {عليه} أي على هذا الإنذار {أجراً} أي فلست موضع تهمة {إن} أي ما؛ {أجري} ثم وصف من توكل عليه سبحانه بما يدل على الكفاية فعليّ وجوب شكره فقال: {إلا على الذي فطرني} أي أبتدأ خلقي ولم يشاركه فيّ أحد فهو الغني المطلق لا أوجه رغبتي إلى غيره كما يجب على كل أحد لكونه فطرة.
ولما كان الخلاف الذي لا حظ فيه جهة الدنيا لا يحتاج الإنسان في الدلالة على أن صاحبه ملجأ إليه من جهة الله، وأنه لا نجاة إلا به إلى غير العقل، سبب عن قوله هذا الإنكار عليهم في قوله: {أفلا تعقلون*} .
ولما دعاهم مشيراً إلى ترهيبهم مستدلاً على الصدق بنفي الغرض، رغبهم في إدامة الخوف مما مضى بقوله: {ويا قوم} ومن هم(9/307)
أعز الناس عليّ ولهم قدرة على ما طلب منهم {استغفروا ربكم} أي اطلبوا غفرانه بطاعتكم له لما يجب له بإحسانه إليكم. وأشار إلى علو رتبة التوبة بأداة التراخي فقال: {ثم توبوا إليه} أي تسموا عالي هذه الرتبة بأن تطلبوا ستر الله لذنوبكم ثم ترجعوا إلى طاعته بالندم والإقلاع والاستمرار {يرسل السماء} أي الماء النازل منها أو السحاب بالماء {عليكم مدراراً} أي هاطلة بمطر غزير متتابع {ويزدكم قوة} أي عظيمة مجموعة {إلى قوتكم} ثم عطف على قوله {استغفروا} قوله: {ولا تتولوا} أي تكلفوا أنفسكم غير ما جبلت عليه من سلامة الانقياد فتبالغوا في الإعراض - بما أشار إليه إثبات التاء {مجرمين*} أي قاطعين لأنفسكم - ببناء أمركم على الظنون الفاسدة عن خيرات الدنيا والآخرة.(9/308)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
ولما محّض لهم النصح على غاية البيان، ما كان جوابهم إلا أن {قالوا} أي عاد بعد أن أظهر لهم هود عليه السلام من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر {يا هود} نادوه باسمه غلظة وجفاء {ما جئتنا ببينة} فأوضحوا لكل ذي لب أنهم مكابرون لقويم العقل وصريح النقل، فهم مفترون كما كان العرب يقولون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن أتاهم من الآيات على يده ما يفوت الحصر {لولا أنزل عليه(9/308)
آية من ربه} {وما نحن} وأغرقوا في النفي فقالوا: {بتاركي آلهتنا} مجاوزين لها أو صادرين {عن قولك} وتركهم للعطف بالفاء - المؤذنة بأن الأول سبب الثاني أي الواو في قولهم: {وما نحن لك} أي خاصة، وأغرقوا في التفي فقالوا: {بمؤمنين*} - دليل على أنهم تركوا إتباعه عناداً، لا أنهم يعتقدون أنه لم يأت ببينة؛ وإلى ذلك يرشد أيضاً تعبيرهم بالاسمية التي تدل على الثبات فإذا نفي لم ينتف الأصل؛ والبينة: الحجة الواضحة في الفصل بين الحق والباطل، والبيان: فصل المعنى من غيره حتى يظهر للنفس محرراً مما سواه، والحامل على ترك البينة بعد ظهورها صد الشبهة عنها أو تقليد الرؤساء في دفعها واتهام موردها أو اعتقاد أصول فاسدة تدعو إلى جحدها أو العناد للحسد ونحوه، والجامع له كله وجود الشبهة.
ولما قالوا هذا الكلام البين الفساد من غير تعرض لنقض ما قال لهم بنوع شبهة، كان كأنه قيل لهم: هذا الذي قلته لكم وهو لا أبين منه ولا أعدل، افرضوا أنه ما ظهر لكم صحته فما تقولون إنه حملني عليه مع أن فيه منابذتكم وأنتم أولاد عمي وأعز الناس عليّ؟ فقالوا: {إن نقول إلا اعتراك} أي أصابك وغشيك غشياناً التصق بك التصاق العروة بما هي فيه مع التعمد والقوة {بعض آلهتنا بسوء} من نحو الجنون والخبال فذاك الحامل لك على النهي عن عبادتها.(9/309)
ولما كان الطبع البشري قاضياً بأن الإنسان يخشى ممن مسه بسوء وهو يتوهم أنه قادر على ضرره فلا يواجهه بما يكره، وكان قولهم محركاً للسامع إلى الاستعلام عن حوابه لهم، استأنف سبحانه الإخبار عنه بقوله: {قال} نافياً لما قالوا مبيناً أن آلهتهم لا شيء ضاماً لهم معها، وأكد لأنهم بحيث لا يظنون أن أحداً لا يقول ما قاله {إني أشهد الله} أي الملك الأعظم ليقوم عذري عنده وعدل أدباً مع الله عن أن يقول: وأشهدكم - لئلا يتوهم تسوية - إلى صيغة الأمر تهاوناً بهم فقال: {واشهدوا} أي أنتم لتقويم الحجة عليكم لأيكم ويبين عجزكم ويعرف كل أحد أنكم بحيث يتهاون بكم وبدينكم ولا يبالي بكم ولا به {أني بريء مما تشركون*} وبين سفولها بقوله: {من دونه} كائناً ما كان ومن كان، فكيف إذا لم يكن إلا جماداً {فكيدوني} حال كونكم {جميعاً} أي فرادى إن شئتم أو مجتمعين أنتم وآلهتكم.
ولما كانت المعاجلة في الحرب أهول، وكان شأنها أصعب وأخطر، بين عظمها بأداة التراخي فقال: {ثم لا تنظرون*} والكيد: طلب الغيظ بالسر في مكر، وهذه الآية من أعلام النبوة الواضحة لهود عليه السلام، فكأنه قيل: هب أن آلهتنا لا شيء، فما حملك على الاجتراء(9/310)
على مخالفتنا نحن وأنت كثرتنا وقوتنا وأنت لا تزيد على أن تكون واحداً منا فقال: {إني} أي جسرت على ذلك لأني {توكلت} معتمداً {على الله} الملك المرهوب عقابه الذي لا ملك سواه ولا رب غيره؛ وبين إحاطة ملكه بقوله: {ربي وربكم} أي الذي أوجدنا ودبر أمورنا قبل أن يخلقنا فعلم ما يعمل كل منا في حق الآخرة لأنه {ما من دابة} أي صغرت أو كبرت {إلا هو آخذ} أي أخذ قهر وغلبة {بناصيتها} أي قادر عليها، وقد صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة، لأن الكل جارون مع مراده لا مع مرادهم بل لا ينفك أحد عن كراهة لبعض ما هو فيه فدل ذلك قطعاً على أنه بغير مراده وإنما هو بمراد قاهر قهره على ذلك وهو الملك الأعلى سبحانه؛ والناصية: شعر مقدم الرأس، ومن أخذ بناصيته فقد انقاد لأخذه لا يستطيع ميلاً {إن} أي لأن {ربي} أي المحسن إليّ بما أقامني فيه {على صراط} أي طريق واسع بين {مستقيم*} ظاهر أمره لكل أحد لا لبس فيه أصلاً ولا خلل ولا اضطراب ولا اعوجاج بوجه، فلذلك كان كل من في الكون يتألهه ويدعو ويخافه ويرجوه وإن اتخذ بعضهم من دونه شركاء، وأما ما يعبد من دونه فلا يعظمه إلا عابده، وأما غير عابده فإنه لا يقيم له وزناً؛ فصح بهذا غالب(9/311)
على كل شيء غلبة يعلمها كل موجود من غير خفاء أصلاً، فهو مرجو مرهوب بإجماع العقلاء بخلاف معبوداتكم، والحاصل أنه يلزم الصراط المستقيم الظهور، فيلزم عدم الاختلاف لانتفاء اللبس، فمن كان عليه كان عليّ القدر شهير الأمر، بصيراً بما يريد، مع الثبات والتمكن، مرهوب العاقبة، مقصوداً بالاتباع والمحبة، من لم يقبل إليه ضل، ومن أعرض عنه أخذ لكثرة أعوانه وعز سلطانه، فظهرت قدرته على عصمة من يتوكل عليه وعجز معبوداتهم معهم، لأن نواصي الكل بيده وهو ربها وربهم ورب كل شيء، فقد انطبق ختام الآية على قولهم {ما جئتنا ببينة} رداً له لأن من كان على صراط مستقيم لم يكن شيء أبين من أمره، وعلى جوابه في توكله وما في حيزه أتم انطباق؛ والناصية: مقدم الشعر من الرأس، وأصلها الاتصال من قولهم: مفازة تناصي مفازة - إذا كانت متصلة بها.(9/312)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
ولما استوفى تشييده أمره وهدم قولهم، أخذ يحذرهم فقال مبيناً أن العدول عما جاء به لا يكون إلا بمعالجة الطبع السليم: {فإن تولوا} ولو أدنى تولية - بما يشير إليه حذف التاء، فعليكم اللوم دوني، لأني فعلت ما عليّ {فقد} أي بسبب أني قد {أبلغتكم ما} أي كل شيء(9/312)
{أرسلت} أي تقدم إرسالي من عند من لا مرسل في الحقيقة غيره {به إليكم} كاملاً لم أدع منه شيئاً رجاء لإقبالكم ولا خوفاً من إعراضكم، فأبيتم إلا التكذيب لي والاستكبار عما جئت به، فالذي أرسلني ينتقم منكم فيهلككم {ويستخلف ربي} أي يوجد المحسن إليّ بإقامتي فيما يرضيه {قوماً غيركم} يخلفونكم في دياركم وأموالكم، فتكونون أعداءه، ويكون المستخلفون متعرضين لأن يكونوا أولياء مع كونهم ذوي بأس وقوة فيختص الضرر بكم {ولا تضرونه} أي الله بإعراضكم {شيئاً} ثم علل وعيده لهم بقوله مؤكداً لأن العاصي فاعل بعصيانه فعل من يظن أن الله غافل عنه: {إن ربي} أي المحسن إليّ المدبر لمصالحي.
ولما كان الأهم في هذا السياق بيان استعلائه وقدرته، قدم قوله: {على كل شيء} صغيراً أو كبيراً جليل أو حقير {حفيظ*} أي عالم بكل شيء وقادر على كل شيء وبالغ الحفظ له، فيعلم ما يعمل محفوظه فيجازيه بما يستحق من نعمه ونقمه، فهو تعليل لاستخلاف غيرهم وتنزهه عن لحوق ضرر، لأن الحفظ: الحراسة، ويلزمها العلم والقدرة، فمن القدرة حافظ العين، أي لا يغلبه نوم، والحفيظة - للحمية والغضب، ومنهما معاً المحافظة - للمواظبة على الشيء؛ والتوالي عن الشيء: الذهاب إلى غير جهته إعراضاً عنه؛ والإبلاغ: إلحاق الشيء نهايته؛(9/313)
والاستخلاف: جعل الثاني بدلاً من الأول يقوم مقامه؛ والضر: إيجاب الألم بفعله أو التسبب له.
ولما تم ذلك كان كأنه قيل: فلم يرجعوا ولم يرعووا لبينة ولا رغبة ولا رهبة فأنزلنا بهم أمرنا {ولما جاء أمرنا} أي وقت إرادتنا لإهلاك عاد {نجينا} أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة {هوداً والذين آمنوا} كائنين {معه} في الإيمان والنجاة من قومهم فلم يقدروا أن يصلوا إليهم بسوء مع اجتهادهم في ذلك وإعجابهم بقواهم ويقال: إن الذين آمنوا كانوا أربعة آلاف.
ولما كان سبحانه بحيث لا يجب عليه لأحد شيء لأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق وإن اجتهد في طاعته، فإن طاعته نعمة منه عليه، أشار إلى ذلك بقوله: {برحمة منا} تحقيقاً لتوكل عبدناً؛ ولما بين إنجاءهم من قومهم بين إنجاءهم مما أهلكهم به فقال مكرراً ذكر التنجية دلالة على أن عذابهم كان في غاية الفظاعة: {ونجيناهم} أي بما لنا من العظمة، وبين فظاعة ما أهلك به أعداءهم بقوله: {من عذاب غليظ*} أي أهلكنا به مخالفيهم وهو الريح الصرصر، وهذا أولى من حمله على عذاب الآخرة لما يأتي من قوله {ومن خزي يومئذ} كأنهم كانوا إذا رأوا مخايل العذاب قصدوا نبيهم ومن آمن به ليهلكوهم قبلهم كما(9/314)
صرح به في قصة صالح؛ والنجاة: السلامة من الهلاك؛ وحقيقة الغلظة عظم الجثة، فاستعير للعذاب لثقله على النفس وطول مكثه.
ولما تمت قصتهم على هذا الوجه لابديع والأسلوب المطرب، قال تعالى عاطفاً على قوله {تلك من أنباء الغيب} : {وتلك عاد} أي قصة القوم البعداء البغضاء، ما كنت تعلمها على هذا التفصيل أنت ولا قومك ولا أهل الكتاب، وإنما نفيت عن أهل الكتاب لأنهم لا يعلمون إلا ما له أصل عن أنبيائهم، وهذه وقصة ثمود ليستا في التوراة ولا شيء من أسفار أنبيائهم، وسألت بعض علمائهم فلم أجد عنده شيئاً من علمها ولا حرفاً واحداً ولا سمع بعاد ولا هود، وتلخيص قصتهم أنهم {جحدوا} أي كذبوا عناداً واستهانة {بآيات ربهم} المحسن إليهم {وعصوا رسله} فإن من عصى واحداً منهم فقد عصى الكل لاتفاقهم على أمر واحد مع التساوي في مطلق المعجزة {واتبعوا} أي بغاية جهدهم {أمر كل جبار} أي قاهر بليغ القهر يجبر غيره على ما يريد، وهذا يدل على أنه لا عذر في أصل الدين بوجه فإن الضمائر لا يعلمها إلا الله فيمكن كل أحد مخالفة الجبار فيه {عنيد*} أي طاغ باغ لا يقبل الحق بوجه، فأهلكوا ولم يمنعهم تجبرهم ولا أغنى عنهم عنادهم وتكبرهم {وأُتبعوا} جميعاً بعد(9/315)
إهلاكهم بأيسر وجه لعظيم قدرة المتبع {في هذه الدنيا} حقرها في هذه العبارة بما أشارت إليه الإشارة مع التصغير، وبما دل على الدنو وبأن من اغتر بها فهو ممن وقف مع الشاهد لما له من الجمود {لعنة} أي طرداً وبعداً وإهلاكاً {ويوم القيامة} أي كذلك بل أشد، فكأنه قيل: أفما لمصيبتهم من تلاف؟ فقيل: لا، {ألا} مفتتحاً للإخبار عنهم بهذه الأداة التي لا تذكر إلا بين يدي كلام يعظم موقعه ويجل خطبه، والتأكيد في الإخبار بكفرهم تحقيق لحالهم، وفيه من أدلة النبوة وأعلام الرسالة الرد على طائفة قد حدثت بالقرب من زماننا يصوّبون جيمع الملل وخصوا عاداً هذه لكونها أغناهم بأن قالوا: إنهم من المقربين إلى الله وإنهم بعين الرضى منه، فالله المسؤول في الإدالة عليهم وشفاء الصدور منهم، وهم أتباع ابن عربي الكافر العنيد أهل الاتحاد، المجاهرون بعظيم الإلحاد، المستخفون برب العباد، فلذلك قال تعالى مبيناً لحالهم بياناً لا خفاء معه: {إن عاداً كفروا} ولم يقصر الفعل، بل عداه إعظاماً لطغيانهم فقال: {ربهم} أي غطوا جميع أنوار الظاهر الذي لا يصح أصلاً خفاءه لأنه لا نعمة على مخلوق إلا منه، فكان كفرهم أغلظ الكفر، ومع ذلك فلم ينثن هود عليه السلام عن إبلاغهم جميع ما أمر به ولا ترك شيئاً مما أوحي إليه فلك به أسوة حسنة وفيهم قدوة، ومن كفر من(9/316)
أحسن إليه بعد بعداً لا قرب معه.
ولما كان الأمر عظيماً والخطب جليلاً، كرر الأداة التي تقال عند الأمور الجليلة فقال: {ألا بعداً لعاد} هو من بعد - بكسر العين إذا كان بعده بالهلاك، وبينهم بقوله: {قوم هود} تحقيقاً لهم لأنهم عادان: الأولى والآخرة، وإيماء إلى أن استحقاقهم للإبعاد بما جرى لهو عليه السلام معهم من الإنكار والدعاء عليهم بعد الهلاك كناية عن الإخبار بأنهم كانوا مستحقين للهلاك؛ والجحد: الخبر عما يعلم صحته أنه لا يعلمها، وهو ضد الاعتراف كما أن النفي ضد الإثبات، فهو خبر بمجرد العدم فهو أعم؛ والعصيان خلاف ما أمر به الداعي على طريق الإيجاب؛ واللعنة: الدعاء بالإبعاد، وأصلها الإبعاد من الخير؛ والإتباع: جعل الثاني على أثر الأول، والإبلاغ أخص منه، والمراد هنا بلوغها لهم لأن الذي قضى بذلك قادر وقد ألحق بهم عذاب الدنيا المبعد لهم من مظان الرحمة.(9/317)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
ولما انقضت قصة عاد على ما أراد سبحانه، أتبعها قصة من كانوا عقبهم في الزمن ومثلهم في سكنى أرض العرب وعبادة الأوثان والمناسبة في الأمر المعذب به لأن الموصل للصيحة إلى الأسماع هو الريح(9/317)
وفي خفاء أمرهم، مفصلاً على أهل ذلك الزمان فقال: {*وإلى} أي ولقد أرسلنا إلى {ثمود أخاهم} وبينه بقوله: {صالحاً} ثم أخرج قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تقدير سؤال فقال: {قال يا قوم} أي يا من يعز عليّ أن يحصل لهم سوء {اعبدوا الله} أي الملك الأعظم وحده لأن عبادتكم له مع غيره ليست بشيء؛ ثم استأنف تفسير ذلك فقال: {ما لكم} أغرق في النفي فقال: {من إله غيره} جرياً على منهاج الدعاة إلى الله في أصل الدين، وهو إفراد المنعم بالعبادة.
ولما أمرهم بذلك، ذكرهم قدرته ونعمته مرغباً مرهباً فقال: {هو} أي وحده {أنشأكم} أي ابتدأ خلقكم {من الأرض} بخلق آدم عليه السلام منها بغير واسطة وبخلقكم من المني من الدم وهو من الغذاء وهو من النبات وهو من الأرض كما أنشأ أوثانكم منها {و} وفع مقداركم عليه بأن {استعمركم} أي أهلكم لما لم يؤهل له الأوثان من أن تكونا عماراً {فيها} فلا تنسوا حق إلهكم وما فضلكم به من حق أنفسكم بخضوعكم لما لا يساويكم فكيف بمن أنشأكم وإياها؛ والإنشاء: الابتداء بالإيجاد من غير استعانة بشيء من الأسباب.
ولما بين لهم سبحانه عظمته، وكان الشيطان قد شبه عليهم لأنه لعظمته لا يوصل إليه بوسيلة كما هو حال الملوك وألقى إليهم أن الأوثان(9/318)
وسائل، نفى ذلك مبيناً طريق الرجوع إليه بقوله: {فاستغفروه} أي فأقبلوا بكل قلوبكم عليه طالبين أن يستر ذنوبكم؛ وذكر شرط المغفرة بقوله مشيراً بأداة البعد إلى عظيم المنزلة: {ثم توبوا} أي ارجعوا بجميع قلوبكم {إليه} ثم علل ذلك بلطفه وعطفه ترغيباً في الإقبال إليه فقال مؤكداً لأن من يرى إمهاله للعصاة يظن الظنون ومن عصاه كان عمله عمل من ينكر قربه وإجابته: {إن ربي} الذي أخلصت له العبادة لإحسانه إليّ وأدعوكم إلى الإخلاص له لإحسانه إليكم {قريب} من كل من أقبل إليه من غير حاجة إلى معاناة مشي ولا حركة جارحة {مجيب*} لكل من ناداه لا كمعبوداتكم في الأمرين معاً.
ولما دعاهم إلى الحق ونصب لهم عليه من الأدلة ما هم به معترفون وذكرهم نعمه مومئاً إلى التحذير من نقمه، وسهل لهم طريق الوصول إليه، ما كان جوابهم إلا أن سلخوه من طور البشرية لمحض التقليد، فلذلك استأنف الإخبار عن جوابهم بقوله: {قالوا} أي ثمود {يا صالح} نادوه باسمه قلة أدب منهم وجفاء {قد كنت فينا} أي فيما بينا إذا تذاكرنا أمرك {مرجواً} أي في حيز من يصح أن يرجى أن يكون فيه خير وسؤدد ورشد وصلاح، واستغرقوا الزمان فحذفوا الجار وقالوا: {قبل هذا} أي الذي دعوتنا إليه فأما بعد هذا فانسلخت من هذا العداد؛ ثم بينوا ما أوجب سقوطه عندهم بقولهم منكرين إنكار(9/319)
محترق {أتنهانا} أي مطلق نهي {أن نعبد} أي دائماً {ما يعبد آباؤنا} وعبروا بصيغة المضارع تصويراً للحال كأن آباءهم موجودون فلا تمكن مخالفتهم إجلالاً لهم، فأجلوا من يرونه سبباً قريباً في وجودهم ولم يهابوا من أوجدهم وآباءهم أولاً من الأرض وثانياً من النطف، ثم خولهم فيما هم فيه، ثم فزعوا - في أصل الدين بعد ذكر الحامل لهم على الكفر المانع لهم من تركه - إلى البهت بأن ما يوجب القطع لكل عاقل من آيته الباهرة لم يؤثر عندهم إلا ما هو دون الظن في ترك إجابته، فقالوا مؤكدين لأن شكهم حقيق بأن ينكر لأنه في أمر واضح جداً لا يحتمل الشك أصلاً: {وإننا لفي شك} وزادوا التأكيد بالنون واللام وبالإشارة بالظرف إلى إحاطة الشك بهم {مما} ولما كان الداعي واحداً وهو صالح عليه السلام لم يلحق بالفعل غير نون واحدة هي ضميرهم بخلاف ما في سورة إبراهيم عليه السلام فلذلك قالوا: {تدعونا إليه} من عبادة الله وحده {مريب*} أي موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين؛ والرجاء: تعلق النفس لمجيء الخير على جهة الظن، ونظيره الأمل والطمع؛ والنهي: المنع من الفعل بصيغة لا تفعل.(9/320)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
ولما أبرزوا له أمرهم في قالب الشك على سبيل الجزم، قابلهم بمثله على سبيل الفرض إنصافاً لهم لئلا يلائم الخطاب حال المخاطبين، فاستأنف سبحانه الإخبار عنه بذلك في قوله: {قال} أي صالح نادياً لهم إلى النظر في أمره برفق {يا قوم أرءيتم} أي أخبروني {إن كنت} أورده بصيغة الشك لأن خطابه للجاحدين {على بينة من ربي} أي المحسن إليّ، لا شك عندي فيها {وآتاني منه رحمة} أي أوامر هي سبب الرحمة {فمن ينصرني} وأظهر موضع الإضمار وعبر بالاسم الأعظم لاقتضاء المقام التهويل فقال: {من الله} أي الملك الأعظم {إن عصيته} أي إن وقوعكم في الشك على زعمكم حملكم على هيئة الإباء في التلبس بأعمالهم مع زوالهم واضمحلالهم لو كانوا موجودين وعصيتموهم لم تبالوا بهم، وأما أنا فالذي أمرني بعبادته حي قادر على جزاء من يطيعه أو يعصيه، وأقل ما يحمل على طاعته الشك في عقوبته، وهو كاف للعاقل في ترك الخطر {فما} أي فتسبب عن نهيكم لي عن الدعاء إليه سبحانه أنكم ما {تزيدونني} بذلك شيئاً في عملي بما ترمونه مني من عطفي عنه باتباعكم في عملكم أو الكف عنكم لأصير في عداد من يرجى عندكم ممن له عقل {غير تخسير*} أي إيقاعي في الخسارة على هذا التقدير: فلا تطمعوا في تركي لشيء من مخالفتكم ما دمتم(9/321)
على ما أنتم عليه، والآية كما ترى ناظرة إلى قوله تعالى {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} .
ولما أخبرهم أن معصية الله خسران، ذكرهم أمر الناقة التي أخرجها سبحانه لهم من الأرض شاهداً على كونهم مساوين للأوثان في كونهم منها مفضلين عليها بالحياة محذراً لهم من شديد انتقامه فقال: {ويا قوم هذه} إشارة إلى حاضر، وذلكم بعد أن أخرجها لهم سبحانه عندما دعاه صالح عليه السلام؛ وبين الإشارة بقوله: {ناقة الله} أي الملك الأعلى، ثم بني حالاً من {آية} مقدماً عليها لئلا يكون صفة لها فقال: {لكم} أي خاصة لنظركم إياها عندما خرجت ولكل من سمع بها بعدكم، وليس الخبر كالمعاينة، أشير إليها حال كونها {آية} بكون الله تعالى أخرجها لكم من صخرة، وهي عشراء على حسب ما اقترحتم وأنتم تشاهدون وبكونها تنفرد بشرب يوم، وتنفردون كلكم بشرب يوم وتنفرد برعي يوم، وتنفرد جميع الحيوانات من دوابكم ووحوش بلادكم برعي يوم إلى غير ذلك مما أنتم له مبصرون وبه عارفون {فذروها} أي اتركوها على أيّ حالة كان ترككم لها {تأكل} أي مما أرادت {في أرض الله} أي الملك الذي له الأمر كله التي خلقها منها {ولا تمسوها بسوء} والأكل: مضغ يقع عند بلع؛ والمس مطلق الإصابة ويكون بين الحيوان وغيره، واللمس أخص منه لما فيه من الإدراك(9/322)
{فيأخذكم} أي فيتسبب عن ذلك أن يأخذكم {عذاب قريب*} أي من زمن إصابتكم لها بالسوء؛ ثم اشار إلى قرب مخالفتهم لأمره فيها بقوله مسبباً عن أوامره ونواهيه ومعقباً: {فعقروها} أي الناقة {فقال} أي عند بلوغه الخبر {تمتعوا} أي أنتم تعيشون {في داركم} أي داركم هذه، وهي بلدة الحجر {ثلاثة أيام} أي بغير زيادة عليها، فانظروا ماذا يغني عنكم تلذذكم وترفهكم وإن اجتهدتم فيه.
ولما كان كأنه قيل: هل في هذا الوعيد مثنوية، قال مجيباً: {ذلك} أي الوعد العالي الرتبة في الصدق والغضب {وعد غير مكذوب*} أي فيه؛ والتمتع: التلذذ بالمدركات الحسان من المناظر والأصوات وغيرها مما يدرك بالحواس، وسميت البلاد داراً لأنها جامعة لأهلها - كما تجمع الدار - ويدار فيها، وأشار إلى تعقب العذاب للأيام وتسببه عن الوعيد المعين بقوله: {فلما جاء أمرنا} بالفاء بخلاف ما في قصة هود وشعيب عليهما السلام، أي مع مضي الأيام كان أول ما فعالنا أن {نجينا} بنا لنا من العظمة أولياءنا {صالحاً والذين آمنوا معه} من كيد قومهم، وبين أن إحسانه سبحانه لا يكون إلا فضلاً منه بقوله: {برحمة منا} وذلك أنه عليه السلام قال لهم: تصبحون(9/323)
غداً يوم مؤنس - يعني الخميس - ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم عروبة - يعني الجمعة - ووجوهكم محمرة، ثم تصبحون يوم شبار ووجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب يوم أول - أي الأحد - فقال التسعة رهط الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحاً، فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا، وإن كان كاذباً قد كنا ألحقناه بناقته، فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم! ثم هموا به فقامت عشيرته دونهم ولبسوا السلاح وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبداً فقد وعدكم أن العذاب يكون بكم بعد ثلاث، فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضباً، وإن كان كاذباً فأنتم وراء ما تريدون، فانصرفوا فلما أصبحت وجوههم مصفرة عرفوا أنه قد صدقهم، فطلبوه ليقتلوه فجاء إلى بطن منهم يقال له (بنو غنم) فنزل على سيدهم رجل فغيبه عنده، فعدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه فقالوا: يا نبي الله! إنهم يعذبوننا لندلهم عليك، أفندلهم؟ قال:(9/324)
نعم، فدلوهم عليه فأتوه فقال الغنمي: نعم عندي ولا سبيل إليه، فتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم كذا ذكر ذلك البغوي عن ابن اسحاق ووهب وغيرهما مطولاً.
ولما ذكر نجاتهم من كل هلكة، ذكر نجاتهم من خصوص ما عذب به قومهم فقال: {ومن} أي ونجيناهم من {خزي} أي ذل وفضيحة {يومئذ} أي يوم إذ جاء أمرنا بإهلاكهم بالصيحة وحل بهم دونهم فرقاً بين أوليائنا وأعدائنا، وحذف «نجينا» هنا يدل على أن عذابهم دون عذاب عاد؛ ثم عقب ذلك بتعليله إهلاكاً وإنجاء باختصاصه بصفات القهر والغلبة والانتقام فقال: {إن ربك} أي المحسن إليك كما أحسن إلى الأنبياء من قبلك {هو} أي وحده {القوي} فهو يغلب كل شيء {العزيز*} أي القادر على منع غيره من غير أن يقدر أحد عليه أو على الامتناع منه، من عز الشيء أي امتنع، ومنه العزاز - للأرض الصلبة الممتنعة بذلك عن التصرف فيها؛ والخزي: العيب الذي تظهر فضيحته ويستحي من مثله؛ ثم بين إيقاعه بأعدائه بعد إنجائه لأوليائه فقال معظماً للأخذ بتذكير الفعل: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} وأشار إلى عظمة هذه الصيحة(9/325)
بإسقاط علامة التأنيث وسبب عنها قوله: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين*} أي ساقطين على وجوههم، وقيل: جاثين على الركب موتى لا حراك بهم، وتقدم سر التعبير بالديار مع الصيحة والدار مع الرجفة في الأعراف، وخصت هود بما ذكر فيها لأن مقصودها أعظم نظر إلى التفصيل، وكل من الديار والصيحة أقرب إلى ذلك.
ولما كان الجثوم كناية عن الموت أوضحه بقوله: {كأن} أي كأنهم {لم يغنوا} أي يقيموا أغنياء لاهين بالغناء {فيها} ثم نبه - على ما استحقوا به ذلك لمن لعله يغفل فيسأل - بقوله مفتتحاً بالأداة التي لا تقال إلا عند الأمور الهائلة: {ألا إن ثموداً} قراءة الصرف دالة على الاستخفاف بهم لطيشهم في المعصية {كفروا ربهم} أي أوقعوا التغطية والستر على المحسن إليهم بالخلق والرزق والإرسال وهو الظاهر وبصفاته وأفعاله، فلا يخفى على أحد أصلاً، فإيصال الفعل دون قصره كما في أكثر أضرابه بيان لغلظة كفرهم؛ ثم كرر ذلك تأكيداً له وإعلاماً بتأبيد هلاكهم بقوله: {ألا بعداً لثمود*} ترك صرفهم في قراءة غير الكسائي إيذاناً بدوام لبثهم في الطرد والبعد؛ والصيحة: صوت عظيم من فم حي، والجثوم لدوام مكان واحد أو السقوط على الوجه، وقيل: القعود على الركب؛ وقال {أصبحوا} زيادة في التخويف والتأسيف(9/326)
بما وقع لهم من التحسير لو أدركه أحد منهم لأن الإنسان يفرح إذا أصبح بقيامه من نومه مستريحاً قادراً على ما يريد من الحركات للاستمتاع بما يشتهي من التصرفات، فأصبح هؤلاء - بعد هذه الصفة على ما قص الله - خفوتا أجمعين كنفس واحدة رجالاً ونساء صغاراً وكباراً كأنهم بم يكونوا أصلاً، ولا أصدروا فصلاً ولا وصلاً كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة كأن لم يغنوا أي يقيموا لانقطاع آثارهم إلا ما بقي من أجسادهم الدالة على الخزي؛ والمغاني: المنازل، وأصل الغناء الاكتفاء؛ ومعنى «ألا» التنبيه؛ قال الرماني: وهي ألف الاستفهام دخلت على «لا» فالألف تقتضي معنى، و «لا» تنفي معنى، فاقتضى الكلام بهما معنى التنبيه مع نفي الغفلة - انتهى.
وكان حقيقته - والله أعلم - أن «لا» دخلت على ما بعدها فنفته، ثم دخلت عليها همزة الإنكار فنفتها، ومن المعلوم أن نفي النفي إثبات فرجع المعنى كما كان على أتم وجوه التنبيه والتأكيد، لأن إثبات المعنى بعد نفيه آكد من إثباته عرياً عن النفي ولا سيما إذا كان المفيد لذلك الإنكار، وهذا المعنى مطرد في ألا العرضية وهلا التخصيصية ونحوهما، ويمشي في كل صلة بأن تردها إلى أصل مدلولها في اللغة ثم تتصرف بما يقتضيه الحال -(9/327)
والله الهادي! ولما جاز الصرف في ثمود باعتبار أنه اسم أبي القبيلة وعدمه باعتبار إطلاقه على القبيلة اختير الصرف في النصب فقط لخفته.(9/328)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
ولما انقضت القصة على هذا الوجه الرائع، أتبعها قصة لوط عليه السلام إذ كانت أشهر الوقائع بعدها وهي أفظع منها وأروع، وقدم عليها ما يتعلق بها من أمر إبراهيم عليها لسلام ذكر بشراه لما في ذلك كله من التنبيه لمن تعنت بطلب إنزال الملائكة في قولهم {أو جاء معه ملك} على أن ذلك ليس عزيزاً عليه. وقد أكثر من فعله ولكن نزولهم مرهب، وأمرهم عند المكاشفة مرعب، وأما مع الستر فلا يقطع تعنتهم، هذا مع ما في ذلك من مناسبة أمر هذا الولد لأمر الناقة في تكوين كل منهما بخارق للعادة إشارة إلى تمام القدرة وكمال العلم المبني عليه أمر السورة في إحكام الكتاب وتفصيله وتناسب جدالي نوح وإبراهيم عليهما السلام في أن كلاً منهما شفقة على الكافرين ورجاء لنجاتهم من العذاب بحسن المثاب، ولعله سبحانه كرر «لقد» في صدرها عطفاً على ما في قصة نوح للتنبيه على مثل الأغراض، لأن «قد» للتوقع فجاءت لتؤذن بأن السامع في حال توقع لذلك لأنه إذا انقضت قصة الخبر عما بعدها فقال تعالى: {ولقد} قال الرماني: ودخلت اللام لتأكيد الخبر كما يؤكد(9/328)
القسم {جاءت رسلنا} أي الذين عظمتهم من عظمتنا، قيل: كانوا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام {إبراهيم} هو خليل الله عليه السلام {بالبشرى} أي التي هي من أعظم البشائر وهي إكرامه بإسحاق عليه السلام ولداً له من زوجته سارة رضي الله عنها، جاءوه في الصفة التي يحبها وهي صفة الأضياف، فلم يعرفهم مع أنه الخليل بل إنكارهم كما قال تعالى في الذاريات {قال سلام قوم منكرون} [الذاريات: 25] فيحمل إنكاره أولاً على الاستغراب بمعنى أنه لم ير عليهم زيّ أهل تلك البلاد ولا أثر سفر، فكأنه قيل: ما كان من أمرهم؟ فقيل: {قالوا سلاماً} أي سلمنا عليك سلاماً عظيماً {قال سلام} أي ثابت دائم عليكم لا زوال له أبداً، فللرفع مزية على النصب لأنه إخبار عن ثابت، والنصب تجديد ما لم يكن، فصار مندرجاً في {فحيوا بأحسن منها} [النساء: 86] ثم أكرم نزلهم وذهب يفعل ما طبعه الله عليه من سجايا الكرم وأفعال الكرام في أدب الضيافة من التعجيل مع الإتقان {فما لبث} أي فتسبب عن مجيئهم وتعقبه أنه ما تأخر {أن جاء بعجل حنيذ*} أي مشوي على حجارة محماة في أخدود وفوقه حجارة محماة ليشتد نضجه، فكان بعد الشيّ يقطر دسمه لأنه سمين، كل ذلك وهو لا يعرف أنهم ملائكة، بل هو قاطع بأنهم ممن يأكل، وهذا ناظر إلى قول قوم نوح(9/329)
{وما نرى لكم علينا من فضل} وقوله {ولا أقول للذين تزدري أعينكم} الآية، أي إن الله جعل المعاني في القلوب وناط بها السعادة والشقاوة، وقد تخفي تلك المعاني كما خفي على أكمل أهل ذلك الزمان أن ضيفه ملائكة حتى خاف منهم وقد أتوه بالبشرى، فلا ينبغي لأحد أن يحتقر أحداً إلا بما أذن الله فيه.
ولما وضع الطعام بين أيديهم لم يلموا به {فلما رأى أيديهم} أي الرسل عقب الوضع سواء {لا تصل إليه} أي إلى العجل الذي وضعه ليأكلوه {نكِرهم} أي اشتدت نكارته لهم وانفعل لذلك، وهذا يدل على ما قال بعض العلماء: إن نكر أبلغ من أنكر {وأوجس} أي أضمر مخفياً في قلبه {منهم خيفة} أي عظيمة لما رأى من أحوالهم وشاهد من جلالهم، وأصل الوجوس: الدخول، والدليل - على أن خوفه كان لعلمه بالتوسم أنهم ملائكة نزلوا لأمر يكرهه من تعذيب من يعز عليه أو نحو هذا - أنهم {قالوا لا تخف} ثم عللوا ذلك بقولهم {إنآ أرسلنآ} أي ممن لا يرد أمره {إلى قوم لوط} فإنهم نفوا الخوف عنه بالإعلام بمن أرسلوا إليه، لا بكونهم ملائكة، قالوا ذلك وبشروه بالولد {وامرأته} أي جاءته الرسل بالبشرى أي ذكروها له والحال أن زوجة إبراهيم التي هي كاملة المروءة وهي سارة {قآئمة} قيل: على باب الخيمة لأجل ما لعلها(9/330)
تفوز به من المعاونة على خدمتهم، فسمعت البشارة بالولد التي دل عليها فيما مضى قوله {بالبشرى} {فضحكت} أي تعجبت من تلك البشرى لزوجها مع كبره، وربما طنته من غيرها لأنها - مع أنها كانت عقيماً - عجوز، فهو من إطلاق المسبب على السبب إشارة إلى أنه تعجب عظيم {فبشرناها} أي فتسبب عن تعجبها أنا أعدنا لها البشرى مشافهة بلسان الملائكة تشريفاً لها وتحقيقاً أنه منها {بإسحاق} تلده {ومن وراء إسحاق يعقوب} أي يكون يعقوب ابناً لإسحاق، والذي يدل على ما قدّرته - من أنهم بشروه بالولد قبل امرأته فسمعت فعجبت - ما يأتي عن نص التوراة، والحكم العدل على ذلك كله قوله تعالى في الذاريات {قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها} [الذاريات: 28-29]- الآية.
ولما شافهوها بذلك، صرحت بوجه العجب من أنه جامع بين عجبين في كونه منه ومنها بأن {قالت يا ويلتي} وهي كلمة تؤذن بأمر فظيع تخف على أفواه النساء ويستعملنها إلى اليوم، لكنهن غيرن في لفظها كما غير كثير من الكلام؛ والويل: حلول الشر؛ والألف في آخره بدل عن ياء الإضافة، كنى بها هنا عن العجب الشديد لما فيه من الشهرة ومراجمة الظنون؛ وقال الرماني: إن(9/331)
معناها الإيذان بورود الأمر الفظيع كما تقول العرب: يا للدواهي! أي تعالين فإنه من أحيانك فحضور ما حضر من أشكالك.
ولما كان ما بشرت به منكراً في نفسه بحسب العادة قالت: {ءَألد وأنا} أي والحال أني {عجوز وهذا} أي من هو حاضري {بعلي شيخاً} ثم ترجمت ذلك بما هو نتيجته فقالت مؤكدة لأنه - لما له من خرق العوائد - في حيز المنكر عند الناس: {إن هذا} أي الأمر المبشر به {لشيء عجيب} فكأنه قيل: فماذا قيل لها؟ فقيل: {قالوا} أي الملائكة متعجبين من تعجبها {أتعجبين من أمر الله} أي الذي له الكمال كله، وهو لا ينبغي لك لأنك معتادة من الله بما ليس لغيركم من الخوارق، والعجب إنما يكون مما خرج عن أشكاله وخفي سببه، وأنت - لثبات علمك بالسبب الذي هو قدرة الله على كل شيء وحضوره لديك مع اصطفاء الله لكم وتكرر خرقه للعوائد في شؤونكم - لست كغيرك ممن ليس كذلك؛ ثم عللوا إنكارهم لتعجبها بقولهم: {رحمت الله} أي كرامة الذي له الإحاطة بصفات الجلال والإكرام {وبركاته} أي خيراته النامية الثابتة {عليكم} وبينوا خصوصيتهم بإسقاط أداة النداء مدحة لهم فقال: {أهل البيت} قد تمرنتم على مشاهدة العجائب لكثرة ما ترون من آثاره بمثل ذلك(9/332)
وغيره؛ ثم علل إحسانه إليهم مؤكداً تثبيتاً لأصل الكلام الذي أنكرته فقال: {إنه} أي بخصوص هذا الإحسان {حميد مجيد} أي كثير التعرف إلى من يشاء من جلائل التعمم وعظيم المقدور بما يعرف أنه مستحق الحمد على المجد، وهو الكرم الذي ينشأ عنه الجود، فلما سمعوا ذلك واطمأنوا، أخذ في قص ما كان بعده، فقال مشيراً بالفاء إلى قلة زمن الإنكار الذي هو سبب الفزع: {فلما ذهب} بانكشاف الأمر {عن إبراهيم الروعُ} أي الخوف والفزع الشديد {وجآءته البشرى} فامتلأ سروراً {يجادلنا} أي أخذ يفعل معنا بمجادلة رسلنا فعل المجادل الذي يكثر كلامه إرادة الفتل مخاطبه عما يقوله {في قوم لوط} أي يسألنا في نجاتهم سؤالاً يحرص فيه حرص المجادل في صرف الشيء، من الجدل وهو الفتل، ووضع المضارع موضع الماضي إشارة إلى تكرر المجادلة مع تصوير الحال، أي جادلنا فيهم جدالاً كثيراً؛ ثم علل مجادلته بقوله: {إن إبراهيم لحليم} أي بليغ الحلم، وهو إمهال صاحب الذنب على ما يقتضيه العقل {أواه} أي رجاع للتأوه خوفاً من التقصير {منيب} أي رجاع إلى الله بالسبق في ارتقاء درج القرب، فهو - لما عنده هذه المحاسن - لا يزال يتوقع الإقلاع من العصاة.
ولما كان أكثر المجادلة لما عنده من الشفقة على عباد الله لما له(9/333)
من هذه الصفات الجليلة، أعلمه الله أن الأمر قد ختم بقوله حكاية أن الرسل قالت له بعد طول المجادلة منادين بالأداة التي هي أم الباب إعلاماً بأن ما بعدها عظيم الشأن عالي المنزلة: {يا إبراهيم أعرض} أي بكليتك {عن هذا} أي السؤال في نجاتهم؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأنه بمجادلته في حيز من ينكر بتّ الأمر: {إنه قد} افتتحه بحرف التوقع لأنه موضعه {جآء أمر ربك} أي الذي عودك بإحسانه الجم، فلولا أنه حتم الأمر بعذابهم لأمهلهم لأجلك، ولذا عطف على العلة قوله مؤكداً إعلاماً بأنه أمر قد انبرم ومضى: {وإنهم آتيهم} أي إتياناً ثابتاً {عذاب غير مردود} أي بوجه من الوجوه من أحد كائناً من كان؛ الإعراض: الانصراف، وحقيقته الذهاب عن الشيء في جهة العرض؛ والرد: إذهاب الشيء إلى ما جاء منه كالرجع؛ والدفع أعم لأنه قد يكون إلى جهة القدام؛ فلما علم مراد الله فيهم، قدمه على مراده ولم ينطق بعده ببنت شفة.
ذكر هذه القصة من التوراة: قال في السفر الأول: واستعلن الله لإبراهيم في مرج - وفي نسخة: بين بلوط ممرى الأموراني - وكان جالساً على باب خيمته إذ اشتد النهار، فرفع عينيه فنظر فإذا هو بثلاثة رجال وقوف على رأسه، فلما رآهم أحضر إليهم من باب الخيمة(9/334)
وسجد على الأرضِ وقال: يا رب - وفي نسخة: يا ولي الله - إن كان لي عندك مودة فلا تبعد عن عبدك حتى آتي بما أغسل به أرجلكم، واتكئوا تحت الشجرة وأصيبوا شيئاً من الطعام تقرون به أنفسكم، ثم حينئذٍ تجوزون لأنكم مررتم بعبدكم بغتة فقالوا له: اصنع كما قلت، فاستعجل إبراهيم فأحضر إلى الخيمة إلى سارة وقال: عجلي بثلاثة آصع من درمك - وفي نسخة: دقيق سميد - فاعجنيه واخبزي منه مليلاً، وسعى إلى قطيع البقر فأخذ عجلاً سميناً شاباً فدفعه إل الغلام وأمر بتعجيل صنعته وأخذ سمناً ولبناً والعجل الذي صنع له أيضاً فقربه إليهم، وكان هو واقفاً بين أيديهم تحت الشجرة وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: في الخيمة، فقال له: إني أرجع إليك في مثل هذا الحين من قابل وهي في الحياة ولها منك ابن، فسمعت سارة وهي على باب الخيمة مستترة وكان هو خلفها، وكان إبراهيم وسارة قد شاخا وقدم سنهما وانقطع عن سارة سبيل النساء، فضحكت سارة في قلبها وقالت: أمن بعد ما بليت أرجع شابة وسيدي قد شاخ؟ فقال الله لإبراهيم: لم ضحكت سارة وقالت: أني لي بالولد وقد شخت؟ أيعسر هذا على الله؟ إني أرجع إليك في مثل هذا الحين من قابل وهي حية ولها ابن، فجحدت سارة وقالت: كلا ما ضحكت، لأنها فزعت، فقال: كلا! ولكنك قد ضحكت، ثم قام(9/335)
الرجال وتعمدوا طريق سدوم وعامورا، وانطلق معهم إبراهيم ليشيعهم. وقال الله: أأكتم عبدي إبراهيم شيئاً مما أصنع؟ وإبراهيم يكون رئيساً لشعب عظيم كبير، وتتبارك به شعوب الأرض، لأني عالم أنه يوصي بنيه وأهل بيته من بعده أن يحفظوا طرق الرب ليعملوا بالبر والعدل، لأن الرب يكمل لإبراهيم جميع ما وعده به.
فقال الرب لإبراهيم: لقد وصل إليّ حديث سدوم وعاموراً وقد كثرت خطاياهم جداً، ثم ولى القوم ومضوا إلى سدوم، وكان إبراهيم بعد واقفاً قدام الرب، فدنا إبراهيم وقال: يا رب! تهلك الأبرار مع الفجار بغضب واحد؟ إن كان في القرية خمسون باراً أتهلكهم بغضب واحد؟ حاشاك يا رب أن تصنع هذا الصنيع وتهلك البريء مع السقيم، ويكون البريء بحال السقيم، حاشا لك يا حاكم الأرض كلها! لا يكون هذا من صنيعك! فقال الرب: إن وجدت بسدوم خمسين باراً في القرية عفوت عن جميع البلد من أجلهم، فأجاب إبراهيم وقال: إني قد بدأت بالكلام بين يدي الرب، وإنما أنا تراب ورماد، فإن نقص من الخمسين باراً خمسة تخرب القرية كلها من أجل الخمسة؟ فقال: لا أخربها إن وجدت بها خمسة وأربعين باراً، فعاد إبراهيم وقال له: فإن وجد فيها أربعون؟(9/336)
فقال: لا أخربها إن وجدت فيها أربعين، فقال: لا يمكن الرب كلامي فأتكلم، فإن كان هناك ثلاثون؟ فقال: لا أخربها إن وجدت فيها ثلاثين، فقال: إني قد أمعنت في الكلام بين يدي الرب، فإن وجد بها عشرون؟ فقال: لا أخربها من أجل العشرين، فقال لانشقن على الرب، فأتكلم هذه المرة يارب فقط، فإن وجد بها عشرة رهط؟ فقال: لا أفسدها من أجل العشرة؛ فارتفع استعلان الرب عن إبراهيم لما فرغ إبراهيم من كلامه ورجع إبراهيم إلى موضعه - انتهى. وقد مضى أمر حبل سارة وولادها في البقرة.(9/337)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
ولما انقضى أمر إنبائهم ببشارة الأولياء وهلاك الأعداء، وعلم من ذلك أنهم لا ينزلون إلاّ للأمور الهائلة والأحوال المعجبة، أخذ يقص أمرهم مع لوط عليه السلام، فقال عاطفاً على ما تقديره: فعلوا مع إبراهيم انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام ما ذكر، ثم فارقوه نحو لوط، ولم يذكر الحرف المصدري لأن سياقه ومقصود السورة لا يقتضي ذلك كما نشير إليه في العنكبوت: {ولما جآءت رسلنا} على ما قارنهم من عظمتنا {لوطاً} بعد انفصالهم عن إبراهيم عليه السلام، وبين البلدين ثمانية أميال، وقيل: أربعة فراسخ، استضافوه فلم يجد بداً(9/337)
من قبولهم على ما أوصى الله بالضيف مطابقاً لعوائد أهل المكارم، فقبلهم وأزمع المقاتلة عنهم لما رأى من حسن أشكالهم ورونق جمالهم مع ما يعلم من قبح أفعال قومه وخبث سرائرهم، ولما جاؤوه على هذه الصفة {سيء بهم} أي حصلت له المساءة بسبب مجيئهم إلى قريته لما يعلم من لؤم أهلها، والتعبير عن هذا المعنى بالمبني للمفعول أحضر وأوقع في النفس وأرشق {وضاق بهم ذرعاً} أي ذرعه أي اتساعه في كل وقت قوة أوتيها، وهو مثل يقال لمن لم يجد من المكروه مخلصاً، ومادة ذرع - بأيّ ترتيب كان - تدور على الاتساع لأنه لا يذرع إلاّ الكثير، وذرع الرمل: اتسع، وموت ذريع: فاش، والمذرع: الذي أمه عربية وأبوه غير عربي، فهو أكثر أنتشاراً ممن انحصر في أحدهما؛ والذريعة: ما يختلي به الصيد، فهو يوسع له من الأمل ما يحمله على الإقدام، وحلقة يتعلم عليها الرمي، لأنها تسع السهم، أو لأن مصيبها واسع الأمر في صناعة الرمي، والوسيلة لأنها توصل المتوسل؛ والذعر: الخوف، لاتساع الفكر فيه وتجويز أدنى احتمال؛ والعذر: إيساع الحيلة في وجه يزيل ما ظهر من التقصير، من العذوّر - للحمار الواسع الجوف، وهو أيضاً الملك لسعته، والعذار: أوسع ما في الوجه، وأعذرت الغلام: ختنته، أي أوسعت(9/338)
أكرته، والإعذار - لطعام الختان ونحوه منه، وعذرة الجارية موجبة لعذرها في النفرة للخوف على نفسها، والعذرة: وجع في الحلق، وهو سقوطه حتى يغمز، كأنه شبه بعذرة البكر في سده الحلق بما يوجب الغمز، وكذا العذرة - للناصية لبذل الجهد في المدافعة عنها، والعذراء: نجم إذا طلع اشتد الحر فاتسع بساط الأرض، والعذرة - بفتح ثم كسر: فناء الدار، وبه سمي الحدث، والعذراء: شيء من حديد يعذب به الإنسان، كأنه سمي لأنه يوسع الخوف بما يجنب ما يوجب الاعتذار، فلا تزال تلك الحديدة بكراً لا يوجد من يعذب بها، وأما عذر - بالتشديد - إذا قصر فهو للسلب، أي فعل ما لا يوجد له عذر، وكذا تعذر الأمر أي صعب، يعني أنه تحنّب العذر فلم يبق لسهولته وجه، وأعذر - إذا كثرت عيوبه، أي دخل فيما يطلب له العذر كأنجد.
ولما ذكر حاله، ذكر قاله بقوله: {وقال} أي لوط {هذا} أي اليوم {يوم عصيب*} أي شديد جداً لما أعلم من جهالة مَن أنا بين ظهرانيهم، وهو مشتق من العصب وهو أطناب المفاصل وروابطها، ومدراه على الشدة {وجاءه قومه} أي الذين فيهم قوة المحاولة {يهرعون} أي كأنهم يحملهم على ذلك حامل لا يستطيعون دفعه {إليه} أي في غاية الإسراع فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه،(9/339)
فهو يضطرب لذلك، أو لأجل الرعب من لوط عليه السلام أو من الملائكة عليهم السلام.
ولما كان وجدانهم - فكيف عصيانهم - لم يستغرق زمن القبل، أدخل الجار فقال: {ومن قبل} أي قبل هذا المجيء {كانوا} أي جبلة وطبعاً {يعملون} أي مع الاستمرار {السيئات} أي الفواحش التي تسوء غاية المساءة فضربوا بها ومرنوا عليها حتى زال عندهم استقباحها، فهو يعرف ما يريدون، وكأنهم كانوا لا يدعون مليحاً ولا غيره من الغرباء، فلذلك لم يذكر أن الرسل عليهم السلام كانوا على هيئة المرد الحسان، ولا قيد الذكران في قصتهم في موضع من المواضع بالمرودية. فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل: {قال يا قوم} مستعطفاً لهم {هؤلاء بناتي} حادياً لهم إلى الحياء والكرم.
ولما كان كأنه قيل: ما نفعل بهن؟ قال: {هن} ولما كان في مقام المدافعة باللين، قال إرخاء للعنان في تسليم طهارة ما يفعلونه على زعمهم مشيراً بلطافة إلى خبث ما يريدونه: {أطهر لكم} وليس المراد من هذا حقيقته، بل تنبيه القوم على أنهم لا يصلون إليهم إلا إن وصلوا إلى بناته لأن الخزي فيهما على حد سواء أو في الضيف أعظم، ومثل(9/340)
هذا أن يشفع الإنسان فيمن يضرب، فإذا عظم الأمر ألقى نفسه عليه فصورته أنه فعله ليقيه الضرب بنفسه، ومعناه احترامه باحترامه، وعلى هذا يدل قوله في الآية الأخرى {إن كنتم فاعلين} وهنا قوله: {فاتقوا الله} أي الملك الأعظم في هذا الأمر الذي تريدونه {ولا تخزون} أي توقعوا بي الفضيحة التي فيها الذل والهوان والعار {في ضيفي} إذ لا يشك ذو مسكة من أمره في أن التقوى إذا حصلت منعت من الأمرين، وأن الخزي على تقدير عدمها في البنات أعظم لأنه عار لازم للزوم البنات للأب، وكل هذا دليل على أنه لا يشك أنهم آدميون ولم يلم بخاطر أنهم ملائكة، فهو تنبيه للكفار على أنه لا ينتفع بإنزال الملائكة إلا البار الراشد التابع للحق؛ ثم أنكر أشد الإنكار حالهم في أنهم لا يكون منهم رشيد حثاً على الإقلاع عن الغي ولزوم سبيل الرشد فقال: {أليس منكم رجل} أي كامل الرجولية {رشيد*} كامل الرشد ليكفكم عن هذا القبيح، فلم يكن منهم ذلك، بل {قالوا لقد علمت} أي يا لوط مجرين الكلام على حقيقته غير معرجين على ما كني به عنه {ما لنا في بناتك} وأغرقوا في النفي فقالوا: {من حق} أي حاجة ثابتة، ولم يريدوا به ضد الباطل لأن البنات والضيف في نفي حقهم عنهم سواء، وأكدوا معلمين بما لهم(9/341)
من الرغبة في الفجور وقاحة وجرأة فقالوا: {وإنك لتعلم} أي علماً لا تشك فيه {ما نريد*} وهو إتيان الذكور للتطرق والتطرف، فحملوا عرضه لبناته على الحقيقة خبثاً منهم وشرعوا يبنون على ذلك بوقاحة وعدم مبالاة بالعظائم، فأخبر تعالى عن قوله لهم على طريق الاستئناف بقوله: {قال} أي متمنياً أن يكون له بهم طاقة ليروا ما يصنع من الإيقاع بهم متفجعاً على فوات ذلك {لو أن لي بكم} أي في دفعكم {قوة} بنفسي {أو} لو أني {آوي} من الأعوان والأنصار {إلى ركن شديد*} أي جماعة هم كالركن الموصوف بالشدة لحلت بينكم وبين ما جئتم له، وحذفه أبلغ لذهاب النفس فيه كل مذهب؛ والسوء: ما يظهر مكروهه لصاحبه؛ والعصيب: الشديد في الشر خاصة كأنه التف شره؛ والقوة خاصة يمكن أن يقع بها الفعل وأن لا يقع؛ والركن: معتمد البناء بعد الأساس، والركن هنا من هو مثله؛ والشدة: مجمع يصعب معه الإمكان، ووصفه الركن بالشدة وهو يتضمنها تأكيد يدل على أن قومه كانوا في غاية القوة والجلادة، وأنه كان يود معاجلتهم لو قدر.
وذلك أن مادة (ركن) بكل ترتيب تدور على الرزانة، من ركن - بالضم بمعنى رزن، ويلزمهما القوة، ومنه الركن للجانب الأقوى والأمر العظيم وما يتقوى به من ملك وجند وغيره والعز(9/342)
والمنعة، ومن ذلك النكر بالضم للدهاء والفطنة، والنكر للمنكر والأمر الشديد وما يخرج من الزحير من دم أو قيح، ونكر الأمر: صعب وطريق ينكور: على غير قصد، والمنكر ضد المعروف لأن الشيء إذا جهل صعب أمره، وتناكر القوم: تعادوا، والتنكر: التغير من حال يسر إلى حال يكره، والمكنر - كمحدث: الضخم السمج، ويلزم الرزانة أيضاً الميل والسكون، ومنه ركن إليه - بالفتح: مال وسكن، وركن بالمنزل - بالكسر: أقام؛ والكنارة - بالكسر والتشديد: الشقة من ثياب الكتان، لأنه يمال إليه لبهجته، وكذا الكنارات للعيدان والطبول، والكران ككتاب للعود أو الصنج، أو يكون ذلك من الشدة لقوة أصواتها - والله أعلم.(9/343)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
فلما عظم الشقاق وضاق الخناق كان كأنه قيل: فما قال له الرسل؟ فقيل: {قالوا} ودلوا بحرف النداء الموضوع للبعد على أنه كان قد خرج عن الدار وأجاف بابها وأن الصياح كان شديداً {يا لوط} إنك لتأوي إلى ركن شديد؛ ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنا رسل ربك} أي المحسن إليك بإحسانك وكل ما ترى مما يسوءك ويسرك؛ ثم لما ثبت له ذلك كان من المحقق أنه سبب في ألا يدانيه معه سوء فأوضحوه بقولهم: {لن يصلوا إليك} من غير احتياج(9/343)
إلى الربط بالفاء، أي ونحن مهلكوهم وقالبوا مدنهم بهم {فأسر} أي سر بالليل ماضياً {بأهلك} موقعاً ذلك السير والإسراء {بقطع} أي بطائفة، أي والحال أنه قد بقي عند خروجك جانب {من الَّيل ولا يلتفت} أي ينظر إلى ورائه ولا يتخلف {منكم أحد} أي لا تلتفت أنت ولا تدع أحداً من أهلك يلتفت {إلا امرأتك} استثناء من «أحد» بالرفع والنصب لأن المنهي كالمنفي في جواز الوجهين، والنهي له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالفعل بالنسبة إليه منهي، وبالنسبة إليهم منفي. ويمكن أن يكون أخرجها معه لأن معنى الاستثناء أنه غير مأمور بالإسراء بها إلا أنه منهي عنه، واستثناءها من الالتفات معهم مفهم أنه لا حجر عليه في الإسراء بها، أو أنه خلفها فتبعتهم والتفتت، فيكون قراءة النصب من {أهلك} ، وقراءة الرفع من {أحد} ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل مخالفتها للمستثنى منه في عدم النهي، ولذلك عللوا ما أفهمه إهمالها من الإسراء والنهي من أنها تلتفت بقولهم مؤكدين لأن تعلق الأمل بنجاتها شديد رحمة لها: {إنه} أي الشأن {مصيبها}(9/344)
لا محالة {ما أصابهم} سواء التفت أو لا، تخلفت أو لا، ثم ظهر لي من التعبير في حقها باسم الفاعل وفي حقهم بالماضي أنه حكم بإصابة العذاب لهم عند هذا القول للوط عليه السلام لأن ذنوبهم تمت، وأما هي قإنما يبرم الحكم بذلك في حقها عند تمام ذنوبها التي رتبت عليها الإصابة وذلك عند الالتفات.
ولما عبروا بالماضي تحقيقاً للوقوع وتنبيهاً على أنه تقدم دخولها معهم في أسباب العذاب، كان منبهاً لأن يقال: كان الإيقاع بهم قد دنا بهم جداً؟ فقيل: نعم، وأكد تحقيقاً للوقوع تلذيذاً به ولأنه - لقرب الوقت - بحيث ينكر: {إن موعدهم} أي لابتداء الأخذ {الصبح} وكأن لوطاً عليه السلام أبطأ في جميع أهله وما يصلحهم، فكان فعله فعل من يستبعد الصبح، فأنكروا ذلك بقولهم: {أليس الصبح بقريب*} أي فأسرع الخروج بمن أمرت بهم؛ والإسراء: سير الليل كالسرى.
ولما انقضى تسكين لوط عليه السلام والتقدم إليه فيما يفعل، أخبر تعالى عن حال قومه فقال: {فلما جاء أمرنا} بالفاء لما مضى في قصة صالح عليه السلام من التسبيب والتعقيب، أي فلما خرج منها لوط بأهله جاءنا أمرنا، ولما جاء أمرنا الذي هو عذابنا والأمر به {جعلنا} بما لنا من العظمة {عاليها} أي عالي مدنهم وهم فيها(9/345)
{سافلها وأمطرنا عليها} أي على مدنهم بعد قلبها من أجلهم وسيأتي في سورة الحجر سر الإتيان هنا بضمير «ها» دون ضمير «هم» {حجارة من سجيل} أي مرسلة من مكان هو في غاية العلو {منضود} بالحجارة هي فيه متراكبة بعضها على بعض حال كونها {مسومة} أي معلمة بعلامات تدل على أنها معدة للعذاب من السيما والسومة وهي العلامة تجعل للإبل السائمة لتتميز إذا اختلطت في المرعى، وفي الذاريات
{حجارة من طين} [الذاريات: 33] وذلك أن الحجارة أصلها تراب يجعل الله فيه بواسطة الماء قابلية للاستحجار كما جعل فيه قابلية التحول إلى المعدن من الذهب والفضة والحديد وغيرها، فباعتبار أصله هو طين، وباعتبار أوله حجر وكبريت ونار، ولعل حجر الكبريت أثقل الحجارة مع ما فيه من قوة النار وقبح الريح؛ ثم فخمها بقوله: {عند ربك} وعبر بالرب إشارة إلى كثرة إحسانه وإليه وأنه إنما أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإنذار وحمة لأمته التي جعلها خير الأمم وسيجعلها أكثر الأمم، ولا يهلكها كما أهلكهم؛ ومادة سجل - بأي ترتيب كان - تدور على العلو، من الجلس لما ارتفع عن الغور وهو النجد، ويلزم منه الغلظ والعلو، ومن الغلظ الجلس للغليظ من الأرض والجمل الوثيق، ويلزم العلو التصويب ومن جلس - إذا قعد؛ والسجل للدلو العظيمة، ويكون غالباً في مقابلتها أخرى، كلما نزلت واحدة طلعت الأخرى، فتاتي المساجلة بمعنى المباراة والمفاخرة،(9/346)
والسجل: الضرع العظيم، والسجل - بالكسر وشد اللام: الكتاب لأنه يذكر فيه ما يكون به المفاخرة والمغالبة؛ وسلج الطعام: بلعه، والسلجان: نبات رخو، كأنه سمي بذلك لأن أغصانه تأخذ إلى أسفل لرخاوتها، وقد دل على هذا المعنى في هذه الآية بثلاثة أشياء: الإمطار، ولفظ «على» ، وسجيل.
ولما كان المعنى أنها من مكان هو في غاية العلو ليعظم وقعها، حسن كل الحسن اتباع ذلك قوله: {وما هي} على شدة بعد مكانها {من الظالمين} أي من أحد من العريقين في الظلم في ذلك الزمان ولا هذا ولا زمن من الأزمان {ببعيد} لئلا يتوهم الاحتياج في وصولها إلى المرمى بها إلى زمن طويل.
ذكر هذه القصة من التوراة: قال في السفر الأول بعد ما مضى في قصة بشرى إبراهيم عليه السلام: فأتى الملكان إلى سدوم عشاء، وكان لوط جالساً على باب سدوم، فنظر إليهما لوط فتلقاهما، ثم خرّ على وجهه ساجداً على الأرض وقال: إني طالب إليكما يا سيدي، اعدلا إلى منزل عبدكما فبيتا فيه واغسلا أقدامكما وبكرا فانطلقا في طريقكما، فقالا: كلا! ولكنا نبيت في السوق، فألح عليهما لوط إلحاحاً شديداً فانصرفا معه ودخلا منزله فأعد لهما طعاماً، ومن قبل وقت الهجوع إذا أهل القرية أهل سدوم قد أحاطوا بالباب من الشبان إلى المشايخ جميع الشعب بأسره،(9/347)
فدعوا بلوط وقالوا له: أين الرجلان اللذان أتياك ممسيين أخرجهما إلينا فنعرفهما - وفي نسخة: حتى نواقعهما - فخرج لوط إليهم وأغلق الباب خلفه، فقال لهم لوط: لا تسيئوا بي يا إخوة! هذا لي بنتان لم يمسهما رجل، أخرجهما إليكم فاصنعوا بهما ما حسن في أعينكم، ولا ترتكبوا من هذين الرجلين شيئاً لأنهما ولجا ظلال بيتي، فقالوا له: تنح عنا، إن واحداً أتى ليسكن بيتنا فصار يحكم فينا، فالآن نسيء إليك أكثر منهما، فجاهد لوط القوم جداً فدنوا ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما فأدخلا لوطاً إليهما إلى منزله، ثم إن القوم الذين كانوا بالباب ضربوا بالعشى من كبيرهم حتى صغيرهم فأعيوا في طلب الباب، فقال الملكان للوط: ماتصنع هاهنا؟ اعمد إلى أختانك وبينك وبناتك وجميع ما لك في هذه القرية فأخرجهم من هذه البلدة لأنا نريد الخسف بالبلدة لأن فعالهم وخبث صنيعهم قد بلغ الرب، فأرسلنا الرب لنفسدها، فخرج لوط وكلم أختانه وأزواج بناته وقال لهم: قوموا فاخرجوا من هذه القرية فإن الرب مزمع لخرابها، وكان عند أختانه كالمستهزىء بهم، فلما كان عند طلوع الصبح ألح الملكان على لوط وقالا له: قم فأخرج امرأتك وابنتيك اللتين معك لكيلا تبتلي بخطايا أهل هذه القرية، فابطأ لوط فأخذ الملكان بيده وبيد امرأته وابنتيه لأن الله رحمه فأخرجاه وصيراه خارجاً عن القرية، فلما أخرجاهم خارجاً(9/348)
قالا له: انج بنفسك ولا تلتفتن إلى خلفك ولا تقف في شيء من جميع القاع، والتجىء إلى جبل وخلص نفسك، فقال لهما لوط: أطلب إليكما يا سيدي أن أظفر الآن لأن عبدكما برحمة ورأفة وكثرت نعماكما إليّ لتحيي نفسي، لست أقدر أن أنجو إلى الجبل، لعل الشر يرهقني فأموت، وهذه القرية هي قريبة للهرب إليها وهي صغيرة، أتأذنان لي بالهرب إليها لأنها حقيرة، فلتحييا نفسي، فقال له: قد شفعتك في هذا أيضاً فلا أقلب هذه القرية التي سألت، أسرع فانج نفسك إلى هناك، لأنا لسنا نقدر أن نعمل شيئاً حتى تدخلها، ولذلك سميت تلك القرية صاغار - وفي نسخة: زغر - فشرقت الشمس على الأرض وقد دخل لوط صاغار، وفي نسخة: زغر - فأهبط الرب على سدوم وعامورا ناراً وكبريتاً من بين يدي الرب من السماء فقلب هذه القرى والقاع بأسره، وأهلك جميع سكانها وجميع من فيها وجمع نبت الأرض، فالتفتت امرأته إلى خلفها لتنظر فصارت نصبة ملح، فأدلج إبراهيم باكراً إلى الموضع الذي كان يقف فيه بين يدي الرب؛ فمد بصره نحو سدوم وعامورا وإلى جميع أرض القاع فنظر فإذا دخان القرية يرتفع كدخان الأخدود، فلما خسف الله قرى القاع ذكر الله إبراهيم فأرسل لوطاً من المأفوكة إذ قلب الله القرى التي كان ينزلها لوط فطلع لوط من(9/349)
صاغار - وفي نسخة: زغر - فسكن الجبل هو وابنتاه معه لأنه تخوف أن يسكن صاغار، فجلس في مغارة.(9/350)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
ولما انتهت القصة معلمة لما قام به لوط عليه السلام من أمر الله غير وانٍ لرغبة ولا رهبة وبما في إنزال الملائكة من الخطر، أتبعت أقرب القصص الشهيرة إليها في الزمن فقال تعالى: {*وإلى} أي ولقد أرسلنا إلى {مدين} وهم قبيلة أبيهم مدين بن إبراهيم عليه السلام {أخاهم شعيباً} فكأن قائلاً قال: ما قال لهم؟ فقيل: {قال} ما قال إخوانه من الأنبياء في البداءة بأصل الدين: {يا قوم} مستعطفاً لهم مظهراً غاية الشفقة {اعبدوا الله} أي الملك الأعلى غير مشركين به شيئاً لأنه واحد {ما لكم} وأغرق في النفي فقال: {من إله غيره} فلقد اتفقت - كما ترى - كلمتهم واتحدت إلى الله وحده دعوتهم، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعاً من تباعد أعصارهم وتنائي ديارهم وأن بعضهم لم يلم بالعلوم ولا عرف أخبار الناس إلا من الحي القيوم؛ قال الإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه «رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية» في ذكر الأنبياء: اتحدت مصادرهم كأنهم بنيان مرصوص، عبروا(9/350)
بألسنة مختلفة تنتهي إلى بحر متصل بالقلوب متحد بها يستمد من البحر المحيط بعالمي الشهادة والغيب، واختلفت الموارد من الشرائع بحسب ما اقتضت الحكمة الإلهية من مصلحة أهل كل زمان وكل ملة، فما ضر اختلافهم في الفروع مع اتحادهم في الأصول، وقال قبل ذلك: إن الفلاسفة لما لم يغترفوا من بحار الأنبياء وقفت بهم أفراس أفكارهم في عالم الشهادة، فلما حاولوا الخوض في الإلهيات انكشفت عورة جهلهم وافتضحوا باضطرابهم واختلافهم {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى} [الحشر: 14] القطع بهم سير الفكر في منتهى عالم الملك والشهادة، ولم يدخل إسكندر نظرهم ظلمات عالم الغيوب حتى يظفروا بعين الحياة التي من شرب منها لا يموت - انتهى.
ولما دعا إلى العدل فيما بينهم وبين الله، دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في أقبح ما كانوا قد اتخذوه بعد الشرك ديدناً فقال: {ولا تنقصوا} أي بوجه من الوجوه {المكيال والميزان} لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته؛ والكيل: تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة؛ والوزن: تعديله في الخفة والثقل، فالكيل للعدل في الكمية والوزن للعدل في الكيفية؛ ثم علل ذلك بقوله: {إني أراكم بخير} أي بسعة تغنيكم عن البخس - مرهباً ومرغباً بالإشارة(9/351)
إلى أن الكفر موجب للنقمة كما أن الشكر موجب للنعمة.
ولما كان كأنه قيل: فإني أخاف عليكم الفقر بالنقص، عطف عليه مؤكداً لإنكارهم: {وإني أخاف عليكم} به وبالشرك {عذاب يوم محيط*} بكم صغاراً وكباراً وبأموالهم طيباً وخبيثاً، أي مهلك كقوله {وأحيط بثمره} [الكهف: 42] وأصله من إحاطة العدو، ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ لأنه محيط بما فيه من عذاب وغيره، والعذاب محيط بالمعذب فذكر المحيط بالمحيط أهول، وهو الدائر بالشيء من كل جانب، وذلك يكون بالتقاء طرفيه؛ والنقصان: أخذ شيء من المقدار كما أن الزيادة ضم شيء إليه، وكلاهما خروج عن المقدار؛ والوزن، تعديل الشيء بالميزان، كما أن الكيل تعديله بالمكيال، ومن الإحاطة ما رواه ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
«لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا» .
ولما كان عدم النقص قد يفهم منه التقريب، أتبعه بما ينفي هذا الاحتمال وللتنبيه على أنه لا يكفي الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها، ولأن التصريح(9/352)
بالأمر بالشيء بعد النهي عن ضده أوكد، فقال مستعطفاً لهم بالتذكير بأنه منهم يسوءه ما يسوءهم وبأنهم لما أعطاهم الله من القوة جديرون بأن يعرضوا عن تعاطي سفساف الأخلاق ورذائلها: {ويا قوم} أي أيها الذين لهم قوة في القيام فيما ينوبهم {أوفوا} أي أتموا إتماماً حسناً {المكيال والميزان} أي، المكيل والموزون وآلتهما؛ وأكده بقوله: {بالقسط} أي العدل السوي، فصار الوفاء مأموراً به في هاتين الجملتين مراراً تأكيداً له وحرصاً عليه وإظهاراً لعموم نفعه وشمول بركته، فزال بالمجموع توهم المجاز على أبلغ وجه، وقد مضى في الأنعام ويأتي في هذه السورة عند {غير منقوص} أن الشيء يطلق مجازاً على ما قاربه؛ ثم أكده أيضاً بتعميم النهي عن كل نقص بذلك وغيره في جميع الأموال فقال: {ولا تبخسوا} أي تنقصوا على وجه الجحد والإهانة {الناس أشياءهم} ثم بين أن أفعالهم ثمرة الهجوم عن غير فكر لأنها ليست ناشئة عن شرع فأولها سفه وآخرها فساد فقال: {ولا تعثوا في الأرض} أي تتصرفوا وتضطربوا فيها عن غير بصيرة ولا تأمل حال كونكم {مفسدين*} أي فاعلين ما يكون فساداً في المعنى كما كان فساداً في الصورة، فهو دعاء إلى تقديم التأمل والتروي على كل فعل وذلك لأن مادة «عثى» بكل ترتيب دائرة على الطلب عن غير بصيرة، من العيث - للأرض السهلة، فإنها لسهولتها(9/353)
يغتر بها فيسلكها الغبي بلا دليل فيأتي الخفاء والجهل، ومنه التعييث - لطلب الأعمى الشيء؛ والأعثى: الأحمق الثقيل، واللون إلى السواد، والكثير الشعر، ويلزم ذلك اتباع الهوى فيأتي الإفساد والمسارعة فيه، وذلك هو معنى العثى؛ قال أئمة اللغة: عثى وعاث: أفسد، وفي مختصر العين للزبيدي: عثى في الأرض بمعنى عاث يعيث عيثاً، وهو الإسراع في الفساد، فالمعنى على ما قال الجمهور: ولا تفعلوا الفساد عمداً وهو واضح، وعلى ما قدّرته من أصل المعنى الذي هو للمدار أوضح، وعلى ما قال الزبيدي: ولا تسرعوا فيه، فلا يظن أنه يكون الإسراع حينئذ قيداً حتى ينصب النهي إليه، بل هو إشارة إلى أنه لا يكون الإقدام بلا تأمل إلا كذلك لملاءمته للشهوة - والله أعلم؛ والوفاء: تمام الحق؛ والبخس: النقص، فهو أخص من الظلم لأنه وضع الشيء في غير موضعه.(9/354)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
ولما كان نظرهم بعد الشرك مقصوراً على الأموال، وكان نهيه عما نهى عنه موجباً لمحقها في زعمهم، كانوا كأنهم قالوا: إنا إذا اتبعناك فيما قلت فنيت أموالنا أو قلت فتضعضعت أحوالنا، فلا يبقى لنا شيء؟ فقال: {بقيت الله} أي فضل الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال، وبركته في أموالكم وجميع أحوالكم وإبقائه عليكم نظره إليكم الموجب(9/354)
لعفوه الذي هو ثمرة اتباع أمره {خير لكم} مما تظنونه زيادة بالنقص والظلم، وذلك أن بقية الشيء ما فضل منه، وتكون أيضاً بمعنى البقيا، من أبقى عليه يبقي إبقاء، واستبقيت فلاناً - إذا عفوت عن ذنبه، كأن ذلك الذنب أوجب فناء وده أو فناه عندك، فإذا استبقيته فقد تركت ما كان وجب، ويقولون: أراك تبقي هذا ببصرك - إذا كان ينظر إليه - قاله الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع، وسيأتي في آخر السورة بيان ما تدور عليه المادة.
ولما كانت خيرية ما يبقيه العدل من الظهور بمحل لا يخفى على ذي لب، تركها وبين شرطها بقوله: {إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {مؤمنين} أي راسخين في الإيمان إشارة إلى أن خيريتها لغير المؤمن مبنية على غير أساس، فهي غير مجدية إلا في الدنيا، فهي عدم لسرعة الزوال والنزوح عنها والارتحال، ودلت الواو العاطفة على غير مذكور أن المعنى: فآمنوا فاعلين ما أمرتكم به لتظفروا بالخير فإنما أنا نذير {وما أنا} وقدم ما يتوهمونه من قصده للاستعلاء نافياً له فقال: {عليكم} وأعرق في النفي فقال: {بحفيظ*} أعلم جميع أعمالكم وأحوالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فساداً؛ وأصل البقية ترك شيء من شيء قد مضى.(9/355)
ولما كان الحاصل ما دعاهم إليه ترك ما كان عليه آباؤهم من السفه في حق الخالق بالشرك والخلائق بالخيانة، وكان ذلك الترك عندهم قطيعة وسفهاً، كان ذلك محكاً للعقول ومحزاً للآراء يعرف به نافذها من جامدها، فكان كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا يا شعيب} سموه باسمه جفاء وغلظة وانكروا عليه مستهزئين بصلاته {أصلواتك تأمرك} أي تفعل معك فعل من كان يأمر دائماً بتكليفنا {أن نترك ما يعبد} أي على سبيل المواظبة {آباؤنا أو} نترك {أن نفعل} أي دائماً {في أموالنا ما نشاء} من قطع الدرهم والدينار وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفساداً للمال، يعنون أن ما تأمرنا به لا يمشي على منهاج العقل، فما يأمرك به إلا ما نراك تفعله من هذا الشيء الذي تسميه صلاة، أي أنه من وداي: فعلك للصلاة؛ ومادة صلا - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بجميع تقاليبها - تدور على الوصلة، فالصلاة لصلة العبد بربه، وكذا الدعاء والاستغفار، وصلوات اليهود: كنائسهم اللاتي تجمعهم، والصلا: وسط الظهر ومجمعه وما حول الذنب أيضاً، والمصلى من الخيل: التابع للسابق، وصال الفحل - إذا حمل على العانة، ولصوت الرجل ولَصَيته: عبته، كأنك ألصقت به العيب، والواصلة واضحة في ذلك، وكأنها الحقيقة التي تفرعت منها جميع معاني المادة، وسيأتي شرح ذلك عند قوله تعالى {بالغدو والآصال}(9/356)
في سورة الرعد إن شاء الله، فمعنى الآية حينئذ: أما تعانيه من الصلوات: الحقيقية ذات الأركان، والمعنوية من الدعاء والاستغفار وجميع أفعال البر الحاملة على أنواع الوصل الناهية عن كل قطيعة تأمرك بمجاهرتنا لآبائنا بالقطيعة مع تقدير حضورهم ومشاهدتهم لما نفعل مما يخالف أغراضهم وبترك التنمية لأموالنا بالنقص وهو مع مخالفة أفعال الآباء تبذير فهو سفه - فدارت شبهتهم في الأمرين على تلقيد الآباء وتنزيههم عن الغلط لاحتمال أن يكون لأفعالهم وجه من الصواب خفي عنهم، وزادت في ألأموال بظن التبذير - فقد صرت بدعائنا إلى كل من الأمرين حينئذ داعياً إلى ضد ما أنت متلبس به {إنك} إذاً {لأنت} وحدك {الحليم} في رضاك بما يغضب منه ذوو الأرحام {الرشيد*} في تضييع الأموال، يريدون بهذا كما زعموا - سلخه من كل ما هو متصف به دونهم من هاتين الصفتين الفائقتين بما خيل إليهم سفههم أنه دليل عليه قاطع، وعنوا بذلك نسبته إلى السفه والغي على طريق التهكم.
ولما اتهموه بالقطيعة والسفه، شرع في إبطال ما قالوا ونفي التهمة فيهن وأخرج مخرج الجواب لمن كأنه قال: ما أجابهم به؟ فقيل:(9/357)
{قال يا قوم} مستعطفاً لهم بما بينهم من عواطف القرابة منبهاً لهم على حسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض والتقدير ليكون أدعى إلى الوفاق والإنصاف {أرءيتم} أي أخبروني {إن كنت} أي كوناً هو في غاية الثبات {على بينة} أي برهان {من ربي} الذي أحسن إليّ بما هو إحسان إليكم، وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله: {و} قد {رزقني} وعظم الرزق بقوله: {منه رزقاً حسناً} جليلاً ومالاً جماً حلالاً لم أظلم فيه أحداً، والجواب محذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب، ويمكن أن يقال فيه: هل يسع عاقلاً أن ينسبني إلى السفه بتبذير المال بترك الظلم، أو يسعني أن أحلم عمن عبد غيره وأترك دعاءكم إلى الله، فقد بان بهذا أني ما أمرتكم بما يسوءكم من ترك ما ألفتم وتعرضت لغضبكم كلكم، وتركت مثل أفعالكم إلا خوفاً من غضبه ورجاء لرضاه، فظهر أن لا تهمة في شيء من أمري ولا خطأ، ما فعلت قط ما نهيتكم عنه فيما مضى {وما أريد} أي في وقت من الأوقات {أن أخالفكم} أي بأن أذهب وحدي {إلى ما أنهاكم عنه} في المستقبل، وما نقص مال بترك مثل أفعالكم، فهو إرشاد إلى النظر في باب:
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهيت عنه فأنت حكيم(9/358)
وقد نبهت هذه الأجوبة الثلاثة على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتي ويذر أحد حقوق ثلاثه أهمها وأعلاها حق الله وثانيها حق النفس وثالثها حق العباد على وجه الإخلاص في الكل فثبت ببعده عن التهمة مع سداد الأفعال وحسن المقاصد - حلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورشده، فلذلك أتبعه بما تضمن معناه مصرحاً به فقال: {إن} أي ما {أريد} أي شيئاً من الأشياء {إلا الإصلاح} وأقر بالعجز فقال: {ما استطعت} أي مدة استطاعتي للاصلاح وهو كما أردت فإن مالي - مع اجتنابي ما أنتم عليه - صالح، ليس بدون مال أحد منكم، فعلم، مشاهدة أن لا تبذير في العدل، وأما التوحيد فهو - مع انتفاء التهمة عنى فيه - دعاء إلى القادر على كل شيء الذي لا خير إلى منه ولا محيص عن الرجوع إلأيه؛ ثم تبرأ من الحول والقوة، وأسند الأمر إلى من هو له فقال: {وما توفيقي} إي فيما استطعت من فعل الإصلاح {إلا بالله} أي الذي له الكمال كله؛ ثم بين أنه الأهل لأن يرجى فقال مشيراً إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مرتب العلم بالمبدأ {عليه} أي وحده {توكلت} ولما طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتي ويذر من الله والاستعانة به في مجامع أمره وأقبل عليه بكليته وحسم أطماع الكفار عنه وأظهر الفراغ عنهم وعدم المبالاة بهم، وكان في قوله {ما استطعت}(9/359)
إقرار بأنه محل التقصير، أخبر بأنه لا يزال يجدد التوبة لعظم الأمر، وعبر عن ذلك بعبارة صالحة للتحذير من يوم البعث تهديداً لهم فقال منبهاً على معرفة المعاد ليكمل الإيمان بالله واليوم الآخر: {وإليه} أي خاصة {أنيب*} أي أرجع معنى سبقي للتوبة وحساً تيقني بالبعث بعد الموت؛ والوفيق: خلق قدرة ما هو وفق الأمر من الطاعة، من الموافقة للمطابقة؛ والتوكل على الله: تفويض الأمر إليه على الرضاء بتدبيره مع التمسك بطاعته.(9/360)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
ولما بين لهم عذره بما انتفت به تهمته، أتبعه بما يدلهم على أن الحق وضح لهم وضوحاً لم يبق معه إلا المعاندة، فحذرهم عواقبها وذكرهم أمر من ارتكابها فقال: {ويا قوم} وأعز الناس عليّ {لا يجرمنكم} أي يحملنكم {شقاقي} أي شقاقكم لي على {أن يصيبكم} من العذاب {مثل ما} أي العذاب الذي {أصاب قوم نوح} بعد طول أعمارهم وتنائي أقطارهم {أو قوم هود} على شدة أبدانهم وتمادي أمانهم {أو قوم صالح} مع نحتهم البيوت من الصخور وتشييدهم عوالي القصور.
ولما كان للمقاربة أثر المشاكلة والمناسبة، غير الأسلوب تعظيماً للتهويل فقال: {وما قوم لوط} أي على قبح أعمالهم وسوء(9/360)
حالهم وقوة أخذهم ووبالهم {منكم ببعيد*} أي لا في الزمان ولا في المكان فأنتم أجدر الناس بذكر حالهم للاتعاظ بها، وإنما فسرت جرم بحمل لأن ابن القطاع نقل أنه يقال: جرمت الرجل: حملته على الشيء، وقد عزا الرماني تفسيرها بذلك للحسن وقتادة، ويجوز أن تفسر بما تدور عليه المادة من القطع، أي لا يقطعنكم شقاقي عن اتباع ما أدعوكم إليه خوف أن يصيبكم، وقد جوزه الرماني.
ولما رهبهم، أتبعه الترغيب في سياق مؤذن بأنهم إن لم يبادروا إلى المتاب بادرهم العذاب، بقوله عاطفاً لهذا الأمر على ذلك النهي المتقدم: {واستغفروا ربكم} أي اطلبوا ستر المحسن إليكم، ونبه على مقدار التوبة بأداة التراخي فقال: {ثم توبوا إليه} ثم علل ذلك مرغباً في الاقبال عليه بقوله: {إن ربي} أي المختص لي بما ترون من الإحسان ديناً ودنيا {رحيم ودود*} أي بليغ الإكرام لمن يرجع إليه بأن يحفظه على ما يرضاه بليغ التحبب إليه، ولم يبدأه بالاستعطاف على عادته بقوله: يا قوم، إشارة إلى أنه لم يبق لي وقت آمن فيه وقوع العذاب حتى أشتغل فيه بالاستعطاف، فربما كان الأمر أعجل من ذلك فاطلبوا مغفرته بأن بأن تجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليها بالتوبة؛ فثم على بابها في الترتيب، وأما التراخي فباعتبار عظم مقدار التوبة وعلو رتبتها(9/361)
لأن الغفران لا يحصل بالطلب إلا إن اقترن بها، هذا الشأن في كل كبيرة من أنها لا تكفر إلا بالتوبة، وذلك لأن الطاعة المفعولة بعدها يكون مثلها كبيرة في جنس الطاعات كما أن تلك كبيرة في جنس المعاصي فلا تقوى الطاعة على محوها وتكرر الطاعات يقابله تكرر المعاصي بالإصرار الذي هو بمنزلة تكرير المعصية في كل حال، فلما رأوه لا ينزع عنهم ولم يقدروا لكلامه على جواب، أيأسوه من الرجوع إليه بأن أنزلوا أنفسهم عناداً في الفهم لهذا الكلام الواضح جداً إلى عداد البهائم، وهددوه فأخبر تعالى عنهم بذلك استئنافاً في جواب من يقول: ما قالوا بعد هذا الدعاء الحسن؟ بقوله: {قالوا يا شعيب} منادين له باسمه جفاء وغلظة {ما نفقه} أي الآن لأن «ما» تخص بالحال {كثيراً مما تقول} وإذا لم يفهم الكثير من الكلام لم يفهم مقصوده، يعنون: خفض عليك واترك كلامك فإنا لا نفهمه تهاوناً به كما يقول الإنسان لخصمه إذا نسبه إلى الهذيان: أنا لا أدري ما تقول، ولما كان غرضهم مع العناد قطع الأمر، خصواً عدم الفهم بالكثير ليكون أقرب إلى الإمكان، وكأنهم - والله أعلم - أشاروا إلى أنه كلام غير منتظم فلا حاصل له ولا لمضمونه وجود في الخارج.
ولما كان في ذلك إشارة إلى أنه ضعيف العقل لأن كلامة مثل كلام المجانين،(9/362)
أتبعوه قولهم: {وإنا لنراك} أي رؤية مجددة مستمرة {فينا ضعيفاً} أي في البدن وغيره، فلا تتعرض لسخطنا فإنك لا تقدر على الامتناع من مكروه نحله بك بقوة عقل ولا جسم ولا عشيرة، وأشاروا إلى ضعف العشيرة بتعبيرهم بالرهط في قولهم: {ولولا رهطك لرجمناك} أي قتلناك شر قتلة - فإن الرهط من ثلاثة إلى عشرة وأكثر ما قيل: إن فخذه أربعون - فما أنت علينا بممتنع لضعفك وقلة قومك {وما أنت} أي خاصة، لأن «ما» لنفي الحال اختصاص بالزمان، والقياس أن يكون مدخولها فعلاً أو شبهه، وحيث أوليت الاسم لا سيما الضمير دل على أن التقديم للاهتمام والاختصاص {علينا بعزيز*} بكريم مودود، تقول: أعززت فلاناً - إذا كان له عندك ود، بل قومك هم الأعزة عندنا لموافقتهم لنا، ولو كان المراد: ما عززت علينا، لكان الجواب: لم لا أعز وقد شرفني الله - أو نحو هذا، ويصح أن يراد بالعزيز القوي الممتنع، ويصير إفهامه لامتناع رهطه محمولاً على أن المانع لهم موافقتهم لهم لا قوتهم؛ والفقه: فهم الكلام على ما تضمن من المعنى، وقد صار اسماً لضرب من علوم الدين، وأصل الرهط: الشدة، من الترهيط لشدة الأكل، ومنه الراهطاء: حجر اليربوع لشدته وتوثقه ليخبأ فيه ولد.(9/363)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
ولما كان تخصيصهم نفي العزة به يفهم أن رهطه عليهم أعزة، أنكر عليهم ذلك في سياق مهدد لهم فقال تعالى حاكياً عنه استئنافاً: {قال}(9/363)
أي شعيب {يا قوم} ولم يخل الأمر من جذب واستعطاف بذكر الرحم العاطفة {أرهطي} أي أقاربي الأقربون منكم {أعز عليكم من الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرةً حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم ولم تنظروا إلى الله في قربي منه بما ظهر عليّ من كرامته {واتخذتموه} أي بما كلفتم به أنفسكم مما هو خلاف الفطرة الأولى {وراءكم} أي أعرضتم عنه إعراض من جعل الشيء وراءه؛ وحقق معنى الوراء بقوله: {ظهرياً} أي جعلتموه كالشيء الغائب عنكم المنسي عندكم الذي لا يعبأ به، ولم تراقبوه فيّ لنسبتي إليه بالرسالة والعبودية.
ولما كان معنى الكلام لأجل الإنكار: إنكم عكستم في الفعل فلم تعرفوا الحق لأهله إذ كان ينبغي لكم أن لا تنسوا الله بل تراقبوه في كل أموركم، حسن تعليل هذا المفهوم بقوله: {إن ربي} أي المحسن إليّ؛ ولما كان المراد المبالغة في إحاطة علمه تعالى بأعمالهم قدم قوله: {بما تعملون محيط*} من جليل وحقير، فهو مقتدر في كل فعل من أفعالكم على إنفاذه وإبطاله، فهو محيط بكم لا يرده عن نصرتي منكم والإيقاع بكم مراعاة أحد لعزة ولا قوة، بل لكم عنده أجل هو مؤخركم إليه لأنه لا يخشى الفوت؛ والاتخاذ: أخذ الشيء لأمر يستمر في المستأنف كاتخاذ البيت؛ والمحيط: المدير على الشيء كالحائط يحصره بحيث(9/364)
لا يفوته منه شيء.
ولما ختم الآية بتهديدهم بما بين أن تهديدهم له عدم لا يبالي به، أتبعه ما يصدقه من أنه ليس بتارك شيئاً من عمله مما جبلوا به، وزاد في التهديد فقال: {ويا قوم اعملوا} أي أوقعوا العمل لكل ما تريدون قارين مستعلين {على مكانتكم} أي حالكم الذي تتمكنون به من العمل {إني عامل} على ما صار لي مكانة، أي حالاً أتمكن به من العمل لا أنفك عنه ما أنا عامل من تحذيري لمن كفر وتبشيري لمن آمن وقيامي بكل ما أوجب عليّ الملك غير هائب لكم ولا خائف منكم ولا طامع في مؤالفتكم ولا معتمد على سواه.
ولما كانت ملازمتهم لأعمالهم سبباً لوقوع العذاب المتوعد به ووقوعه سبباً للعلم بمن يخزي لمن يعلم أي هذين الأمرين يراد، ذكره بعد هذا التهديد فحسن حذف الفاء من قوله: {سوف تعلمون*} أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر زمانه، وسوقه مساق الجواب لمن كأنه قال: ما المراد بهذا الأمر بالعمل المبالغ قبل في النهي عنه؟ وقد تقدم في قصة نوح عليه السلام ما يوضحه.
وأحسن منه أنهم لما قالوا {ما نفقه كثيراً مما تقول} كذبهم - في إخراج الكلام على تقدير سؤال من هو منصب الفكر كله إلى كلامه - قائل: ماذا يكون إذا عملنا وعملت؟ فهذا وصل خفي مشير إلى تقدير السؤال ولو ذكر الفاء لكان(9/365)
وصلاً ظاهراً، وقد ظهر الفرق بين كلام الله العالم بالإسباب وما يتصل بها من المسبباب المأمور بها أشرف خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سورة الأنعام والزمر والكلام المحكي عن نبيه شعيب عليه السلام في هذه السورة {من} أي أينا أو الذي {يأتيه عذاب يخزيه} ولما كان من مضمون قولهم {ما نفقه كثيراً مما تقول} النسبة إلى الكذب لأنه التكلم بما ليس له نسبة في الواقع تطابقه، قال: {ومن هو كاذب} أي مني ومنكم، فالتقدير إن كانت «من» موصولة: ستعلمون المخزي بالعذاب والكذب أنا وأنتم، وإن كانت استفهامية: أينا يأتيه عذاب يخزيه وأينا هو كاذب، فالزموا مكانتكم لا تتقدموا عنها {وارتقبوا} أي انتظروا ما يكون من عواقبها.
ولما كانوا يكذبونه وينكرون قوله، أكد فقال: {إني معكم رقيب*} لمثل ذلك، وإنما قدرت هذا المعطوف عليه لفصل الكلام في قوله {سوف} ويجوز عطفه على {اعملوا} وجرد ولم يقل: مرتقب، إشارة إلى أن همه الاجتهاد في العمل بما أمره الله لأنه مبالغ في ارتقاب عاقبته معهم استهانة بهم.
ولما كان كأنه قيل: فأخذوا الكلام على ظاهره ولم ينتفعوا بصادع وعيده وباهره، فاستمروا على ما هم عليه من القبيح إلى أن جاء أمرنا في الأجل المضروب له، قال عاطفاً عليه، وكان العطف بالواو(9/366)
لأنه لم يتقدم وعيد بوقت معين - كما في قصتي صالح ولوط عليهما السلام - يتسبب عنه المجيء ويتعقبه: {ولما جاء أمرنا} أي تعلق إرادتنا بالعذاب {نجينا} بما لنا من العظمة {شعيباً} أي تنجية عظيمة {والذين آمنوا} كائنين {معه} منهم ومما عذبناهم به، وكان إنجاءنا لهم {برحمة منا} ولما ذكر نجاة المؤمنين، أتبعه هلاك الكافرين فقال: {وأخذت الذين ظلموا} أي أوقعوا الظلم ولم يتوبوا {الصيحة} وكأنها كانت دون صيحة ثمود لأنهم كانوا أضعف منهم فلذلك أبرز علامة التأنيث في هذه دون تلك.
ولما ذكر الصيحة ذكر ما تسبب عنها فقال: {فأصبحوا} أي في الوقت الذي يتوقع الإنسان فيه السرور وكل خير {في ديارهم جاثمين*} أي ساقطين لازمين لمكانهم.
ولما كان الجثوم قد لا يكون بالموت، أوضح المراد بقوله: {كأن لم يغنوا فيها} أي لم يقيموا في ديارهم أغنياء متصرفين مترددين مع الغواني لاهين بالغناء؛ ولما كان مضمون ذلك الإبعاد أكده بقوله: {ألا بعداً لمدين} بعداً مع أنه بمعنى ضد القرب معه هلاك، فهو من بعد بالكسر وأيد ما فهمته من أن أمرهم كان أخف من أمر ثمود بقوله: {كما بعدت ثمود} .(9/367)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
ولما كان شعيب ختن موسى عليهما السلام، كان ذكر قصته هنا(9/367)
متوقعاً مع ما حرك إلى توقعها من ذكر كتابه أول السورة وما في عصا موسى من مناسبة ناقة من ختم بالتشبيه بحالهم، فذكرها بعدها مفتتحاً لها بحرف التوقع فقال مؤكداً تنبيهاً على أن فرعون فعل فعل قريش في الإدبار عن الآيات العظيمة ولم يترك موسى عليه السلام شيئاً مما أوحي إليه من إنذاره: {ولقد أرسلنا} أعاد الفعل وأبرزه في مظهر العظمة إشارة إلى باهر معجزاته {موسى بآياتنا} أي المعجزات التي أظهرها {وسلطان} أي أمر قاهر للقبط، والظاهر أنه حكاية موسى عليه السلام منه على ما كان له من السطوة والتحرق عليه {مبين*} أي بين بنفسه، وهو في قوة بيانه كأنه مبين لغيره ما فيه من الأسرار، والآية تعم الأمارة والدليل القاطع، والسلطان يخص القاطع، والمبين يخص ما فيه جلاء {إلى فرعون} طاغية القبط {وملئه} أي أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب، لأن القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل.
ولما كان الناصح لنفسه من لا يتبع أحداً إلا فيما يعلم أنه صواب، قال معجباً من الملأ مشيراً إلى سرعة تكذيبهم بالبينات وإتباعهم فيما ضلاله لا يخفى على من له مسكة: {فاتبعوا} أي فتسبب عن هذا الأمر الباهر أن عصى فرعون وحمل ملؤه أنفسهم على أن تبعوا لإرادتنا ذلك(9/368)
منهم {أمر فرعون} أي كل ما يفهمون عنه أنه يهواه ويأمره به وتبعهم السفلة فأطبقوا على المنابذة إلا من شاء الله منهم {وما} أي والحال أنه ما {أمر فرعون برشيد*} أي سديد، مع أن في هذا التعقيب بعد ذكر ثمود من التذكير بآيتي الناقة والعصا إشارة إلى القدرة على البعث المذكور أول السورة الموجب خوفه لكل خير كما أن ذلك أيضاً كان من فوائد تعقيب قصة إبراهيم لقصة صالح عليهما السلام، واقتصر هنا على ذكر فرعون وقومه لأن المقصود من هذه القصص - كما تقدم - التثبيت في المكافحة بإبلاغ الإنذار وإن اشتدت كراهية المبلغين وقل المتبع منهم، وأن لا يترك شيء منه خوف إصرارهم أو إدبارهم ولا رجاء إقبالهم وكثرة مؤمنيهم، وهذه حال آل فرعون، وأما بنو إسرائيل فإنهم لم يتوقفوا إلا خوفاً من فرعون في أول الأمر، ثم أطبق كلهم على الإتباع، ثم صاروا بعد ذلك كل قليل يبدلون لا كراهية للإنذار بل لغير ذلك من الأمور وعجائب المقدور كما بين في قصصهم؛ والملأ: الأشراف الذين تملأ الصدور هيبتهم عند رؤيتهم؛ والإتباع، طلب، طلب الثاني للتصرف بتصرف الأول في أي جهة أخذ، وقد يكون عن كره بخلاف الطاعة؛ والأمر: الإيجاب بصيغة «أفعل» وهو يتضمن إرادة المأمور به في الجملة، وقد لا يراد امتثال عين(9/369)
المأمور؛ والرشيد: القائد إلى الخير الهادي إليه؛ ثم أوضح عدم رشد أمر فرعون بقوله: {يقدم قومه} أي الذين كان لهم قوة المدافعة {يوم القيامة} ويكونون له تبعاً كما كانوا في الدنيا، وأشار بإيراد ما حقه المضارع ماضياً إلى تحقق وقوعه تحقق ما وقع ومضى فقال: {فأوردهم النار} أي كما أوردهم في الدنيا غطاءها وهو البحر.
ولما كان التقدير: فبئس الواردون، عطف عليه بيان الفعل والمفعول فقال: {وبئس الورد المورود*} كما كان البحر إذ وردوه أقبح ورد ورده إنسان، لأن الورد يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، وهذا يفيد ضد ذاك.
ولما كان فرعون موصوفاً بعظم الحال وكثرة الجنود والأموال وضخامة المملكة، حقر تعالى دنياه بتحقير جميع الدنيا التي هي منها بإسقاطها في الذكر اكتفاء بالإشارة إليها ولم يثبتها كما في قصة عاد فقال: {وأتبعوا} ببنائه للمفعول لأن المنكي الفعل لا كونه من معين {في هذه} أي الحياة الخسيسة {لعنة} فهم يلعنون فيها من كل لاعن من المسلمين وغيرهم من أهل الملل فلعنة الله على من حسَّن حالهم وارتضى ضلالهم لإضلال العباد من أهل الإلحاد بفتنة الاتحاد {ويوم القيامة} أيضاً يلعنهم اللاعنون، حتى أهل الاتحاد الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين؛ ثم بين ما يحق أن يقوله سامع ذلك بقوله: {بئس الرفد المرفود*} أي التبع المتبوع والعون(9/370)
المعان، فإن اللعنة تابعة لعذابهم في الدنيا ومتبوعة باللعنة في الآخرة والعذاب رفد لها وهي رفد له، ومادة «رفد» تدور على التبع، أو يكون المراد أن لعنهم لا يزال مترادفاً تابعاً بعضه لبعض، فكل لعنة تابعة لشيء من الخزي: عذاب أو لعن، متبوعة بلعنة مضافة إليها، وسمي ذلك رفداً وهو حقيقة العون من باب قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع ومعنى {يقدم} أنه يكون قدامهم غير سائق لهم، بل هم على أثره متلاحقين، فيكون دخولهم إلى النار معاً؛ والقيامة: القومة من الموت للحساب؛ والإتباع: طلب الثاني للحاق بالأول كيف تصرف؛ واللعن من الله: الإبعاد من الرحمة بالحكم بذلك، ومن العباد: الدعاء به.(9/371)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
ولما كانت هذه الأخبار على غاية منا التحذير، لا يعرفه إلا بالغ في العلم، كان من المعلوم قطعاً أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأت بها إلا من عند الله للعلم المشاهد بأنه لم يعان علماً ولا ألم بعالم يوماً، هذا مع ما اشتملت عليه من أنواع البلاغة وتضمنته من أنحاء الفصاحة وأومأت إليه بحسن سياقاتها من صروف الحكم وإفادة تفصيلها من فنون المعارف، فلذلك استحقت أن يشار إليها بأداة البعد إيماء إلى بعد المرتبة وعلو الأمر فقال تعالى: {ذلك} أي النبأ العظيم والخطب الجسيم {من أنباء القرى}(9/371)
وأكد هذا المعنى بلفظ النبأ لأنه الخبر فيه عظيم الشأن، ومنه النبي، وأشار بالتعبير بالمضارع في قوله: {نقصه عليك} إلى أنا كما قصصناها عليك في هذا الحال للمقصد المتقدم سنقصها عليك لغير ذلك من الأغراض في فنون البلاغة وتصاريف الحكم كما سترى عند قصه؛ ثم أشار - بما أخبر من حلها بقوله: {منها} أي القرى {قائم وحصيد*} إلى أنك مثل ما سمعت ما قصصنا عليك من أمرها بأذنك ووعيته بقلبك تحسها بعينك بمشاهدة أبنيتها وآثارها قائمة ومستحصدة، أي متهدمة لم يبق من بنيانها إلا بعض جدرانها.
ولما كان فيما تقدم في هذه السورة من القصص أشد تهديد وأعظم وعيد لمن له تبصرة، صرح لغليظي الأكباد بأن الموجب للايقاع بهم إنما هو الظلم، فقال تعالى عاطفاً على نحو أن يقال: فعلنا بهم وأنبأناك به: {وما ظلمناهم} في شي منه {ولكن ظلموا أنفسهم} واعتمدوا على أندادهم معرضين عن جنابنا آمنين من عذابنا فأخذناهم {فما} أي فتسبب عن اعتمادهم على غيرنا أنه ما {أغنت عنهم} أي بوجه من الوجوه {آلهتهم التي} وصور حالهم الماضية فقال: {يدعون} أي دعوها واستمروا على دعائهم لها إلى حين الأخذ، وين خسة رتبتها فقال: {من دون الله} أي الذي له جميع(9/372)
صفات الكمال؛ وذكر مفعول «اغنت» معرقاً في النفي فقال: {من شيء} أي وإن قل {لما جاء أمر} أي عذاب {ربك} أي المحسن إليك بتأخير العذاب المستأصل عن أمتك وجعلك نبي الرحمة {وما زادوهم} في أحوالهم التي كانت لهم قبل عبادتهم إياها {غير تتبيب*} أي إهلاك وتخسير، فإنهم كانوا في عداد من يرجى فلاحه، فلما تورطوا في عبادتها ونشبوا في غوايتها وبعدوا عن الاستقامة بضلالتها خسروا أنفسهم التي هي رأس المال فكيف لهم بعد ذلك بالأرباح؛ والقص: إتباع الأثر، فهو هنا الإخبار بالأمور التي يتلو بعضها بعضاً؛ والدعاء: طلب الطالب الفعل من غيره، ونداء الشيء باسمه بحرف النداء، وكلا الأمرين مرادان؛ و {من دون الله} : من منزلة أدنى من منزلة عبادة الله لأنه من الأدون، وهو الأقرب إلى جهة السفل؛ والتب: الهلك والخسر.
ولما كان المقصود من ذلك رمي قلوب العرب بما فيه من سهام التهديد ليقلعوا عما تمكنوا فيه من عمى التقليد، قال تعالى معلماً بأن الذي أوقع بأولئك لظلمهم وهو لكل ظالم بالمرصاد سواء ظلم نفسه أو غيره: {وكذلك} أي ومثل ذلك الأخذ العظيم {أخذ ربك}(9/373)
ذكّره بوصف الإحسان ما له إليه من البر لئلا يخاف على قومه من مثل هذا الأخذ {إذا أخذ القرى} أي أهلها وإن كانوا غير من تقدم الإخبار عنهم وإن عظموا وكثروا، ولكن الإخبار عنها أهول لأنه يفهم أنه ربما يعمها الهلاك لأجلهم بشدة الغضب من فعلهم كقرى قوم لوط عليه السلام {وهي ظالمة} روى البخاري في التفسير عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ {وكذلك أخذ ربك} الآية.
ولما كان مثل هذا الآخذ لا يداينه مخلوق ولا يقدر عليه ملك، حسن كل الحسن إتباع ذلك قوله: {إن أخذه أليم} أي مؤلم قاطع للآمال مالىء البدن والروح والنفس بالنكال {شديد*} أي صعب مفتت للقوى، ولعله عبر هنا باسم الرب مضيفاً له إلى المنبأ بهذه الأنباء مكرراً لذلك في هذا المقام الذي ربما سبق فيه الوهم إلى أنه باسم الجبار والمنتقم مثلاً أليق، إشارة إلى أنه سبحانه يربيك أحسن تربية في إظهارك على الدين كله وانقياد العظماء لأمرك وذل الأعزة لسطوتك وخفض الرؤوس لعلو شأنك، فلا تتكلف أنت شيئاً من قصد إجابتهم إلى إنزال آية أو ترك ما يغيظ من إنذار ونحو ذلك - والله الموفق.
ولما كان مما جر هذه القصص وهذه المواعظ تكذيبهم لما يوعدون(9/374)
من العذاب الناشىء عن إنكار البعث المذكور في قوله تعالى: {ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت} ، أشار تعالى إلى تحقق أمر الآخرة وأنه مما ينبغي الاهتمام به رداً للمقطع على المطلع، وإعلاماً بأنه لا فرق بينه وبين ما تحقق إيقاعه من عذاب هذه الأمم في القدرة عليه بقوله مؤكداً لأجل جحودهم أن يكون في شيء مما مضى دلالة عليه بوجه من الوجوه: {إن في ذلك} أي النبأ العظيم والقصص والوعظ بما يذكر {لآية} أي لعلامة عظيمة ودلالة بتة ولما كان وجود الشيء عدماً بالنسبة إلى ما لا نفع له به، قال: {لمن خاف عذاب} يوم الحياة {الآخرة} لأنه نفع خاص به، وإنما كان آية له لأنه إذا نظر إلى إهلاكه للظالمين إهلاكاً عاماً بسبب ظلمهم وإنجائه للمؤمنين، علم أنه قادر على ما يريد، وأنه لا بد أن يجازي كلاًّ بما فعل، فإذا رأى أن ظلمه كثيرين يموتون بغير انتقام، علم أنه لا بد من يوم يجازيهم فيه، وهو اليوم الذي أخبرت به عنه رسله، وزاد في الإشارة إلى تهويله بإعادة اسم الإشارة في قوله: {ذلك} أي اليوم العظيم الذي يكون فيه عذاب الآخرة {يوم} وأشار - إلى يسر البعث وسهولته عليه وأنه أمر ثابت لا بد منه - باسم المفعول من قوله: {مجموع له} أي لإظهار العدل فيه(9/375)
والفضل {الناس} أي كل من فيه أهلية التحرك والاضطراب وما ثمّ يوم غيره يكون بهذه الصفة أصلاً.
ولما لم يسبقه يوم اجتمع فيه جميع الخلق من الجن والإنس والملائكة وجميع الحيوانات أحياء، وكان ذلك مسوغاً لأن تعد شهادة غيره عدماً فقال تعالى: {وذلك} أي اليوم العظيم {يوم مشهود*} أي هو نفسه لهم ولغيرهم من جميع الخلق، فيكون تنوينه للتعظيم بدلالة المقام، أو يكون المعنى أنه أهل لأن يشهد، وتتوفر الدواعي على حضوره لما فيه من عجائب الأمور والأهوال العظام والمواقف الصعبة، فلا يكون ثم شغل إلا نظر ما فيه والإحاطة بحوادثه خوف التلاف ورجاء الخلاص؛ والآية: العلامة العظيمة لما فيها من البيان عن الأمر الكبير؛ والخوف: انزعاج النفس بتوقع الشر، وضده الأمن وهو سكون النفس بتوقع الخير؛ والعذاب: استمرار الألم.(9/376)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
ولما تقدم قولهم {ما يحبسه} كان كأنه قيل في الرد عليهم: نحن قادرون على تعجيله، وهو - كما أشرنا إليه في هذه الآية - عندنا متى شئنا في غاية السهولة: {وما نؤخره} أي اليوم أو الجزاء مع ما لنا من العظمة والقدرة التامة على إيجاده لشيء من الأشياء {إلا لأجل} أي لأجل انتهاء أجل {معدود*} سبق في الأزل تقديره ممن لا يبدل القول لديه وكل شيء في حكمه، فهو لا يخشى الفوت؛ ومادة «أجل» بتراكيبها الأربعة: أجل وجأل وجلأ ولجأ تدور على المدة المضروبة للشيء، فالأجل - محركة: مدة الشيء وغاية الوقت في الموت وحلول الدين(9/376)
من تسمية الجزء باسم الكل، والتأجيل: تحديد الأجل، ويلزمه التأخير، ومنه أجل الشيء كفرح - إذا تأخر، والآجلة: الآخرة، وأجل الشيء - بالفتح: حبسه ومنعه، لأن الأجل حابس ومانع للمؤجل، ومنه أجلى كجمزى، وهو مرعى لهم معروف كأنه لحسنه يحبس الراعي فيه، وأجل الشر عليهم: حناه وأثاره وهيجه، ولأهله: كسب وجمع واحتال، لأن ذلك كله من لوازم ذي الأجل، أو المعنى أنه أوجد أجل ذلك، وكمقعد ومعظم: مستنفع الماء، لأنه محيط به إحاطة الأجل بالمؤجل، وأجله فيه تأجيلاً: جمعه فتأجل، والمأجل: الحوض يحبس فيه الماء، وأجلوا ما لهم: حبسوه في المرعى، والاجل - بالكسر: قطيع من بقر الوحش، تشبيهاً له في اجتماعه من حيث إنه أحصن له بالأجل لأنه - كما قيل - حصن حصين، والاجل - بالكسر أيضاً: وجع في العنق، لأنه من أسباب حلول الأجل، وأجله: داواه منه، وبالضم جمع أجيل للمتأخر وللمجتمع من الطين يجعل حول النخلة، لإحاطته بها إحاطة الأجل وتحصينه لها، وتأجل القوم: تجمعوا، لأن التجمع أحصن لهم، وأجل - بفتحتين ثم سكون: جواب كنعم وزناً ومعنى إلا أنه أحسن منه في التصديق، ونعم منه في الاستفهام، وحقيقة ذلك الإخبار بأن أجل - أي وقت - ذلك الفعل الموجب أو المستفهم(9/377)
عنه قد حضر، وفعلت ذلك من أجلك - من غير «من» - ومن أجلك، ومن أجلاك ومن أجلالك ويكسر في الكل، أي من جللك - قاله في القاموس، وقال في فصل الجيم: وفعلته من جلك - بالضم - وجلالك وجللك - محركة - وتجلتك وإجلالك - بالكسر، ومن أجل إجلالك ومن أجلك بمعنى - انتهى. وحقيقته أن فعلي مبتدىء من أجلك - بالتحريك، أو تكون «من» سببية، اي أجلك سبب فيه، ولولا وجودك ما فعلته فهو لتعظيمك؛ والملجأ واللجأ - محركة: المعقل والملاذ، كأنه شبه بالأجل، ومنه لجأ إليه - كمنع وفرح: لاذ، وألجأ أمره إلى الله: أسنده، وألجأ فلاناً إلى كذا: اضطره، والتلجئة: الإكراه، واللجأ - محركاً: الضفدع، لالتجائها إلى الماء؛ ومن ذلك الجيأل - كصقيل، وجيأل وجيألة ممنوعين، وجيل بلا همز كله اسم الضبع لكثرة لجائها إلى وجارها، ومنه جئل - كفرح - جألاناً: عرج، كأنه تشبيه بمشيتها، لأن من أسمائها العرجاء، أو تشبيه بمشية الراقي في درج الملجأ، أي الحصن، وكذا الأجل - كقنب وقبر - وهو ذكر الأوعال، لأن قرونه كالحصن له، وجيألة الجرح: غثيثه، وهو مرية، لأنه من أسباب قرب الأجل، وكذا الاجئلال - أي الفزع - ربما كان سبباً(9/378)
لذلك، وربما كان سبباً للمبادرة إلى الحصن، وجأل - كمنع: ذهب وجاء، والصوف: جمعه واجتمع - لازم متعد، كله من لوازم الأجل بمعنى المدة، وجلأ بالرجل - كمنع: صرعته، وبثوبه: رماه، كأنه جعله في قوة من حضر أجله، وإن شئت قلت في ضبط ذلك: إن المادة - مع دورانها على المدة - تارة تنظر إلى نفس المدة، وتارة إلى آخرها، وتارة إلى امتدادها وتأخرها، وتارة إلى ما يدني منه، وتارة إلى منفعتها، وتارة إلى ما يلزم فيها، فمن النظر إلى نفس المدة: التأجيل بمعنى تحديد الأجل، وهو مدة الشيء، وفعلت هذا من أجلك، أي لولا وجودك ما فعلته، وأجل بمعنى نعم، أي حضرت مدة الفعل، ومن النظر إلى الآخر: دنا الأجل - في الموت والدّين، ومن النظر إلى التأخر: أجل الشيء - إذا تأخر، والآجلة: الآخرة، ومن النظر إلى السبب المدني: الأجل - بالكسر - لوجع في العنق، وجيألة الجرح - لغثيثه أي مريه، وجلأ بالرجل: صرعه وبثوبه: رماه، وأجل الشر عليهم: جناه، أو أثاره وهيجه، والاجئلال: الفزع، ومن النظر إلى المنفعة وهي أن التأجيل الذي هو تحديد الأجل للشيء مانع من أخذه دون ما ضرب له من المدة: الاجل - بالكسر - للقطيع من بقر الوحش، وأجل الشيء: حبسه ومنعه، وأجلى كجمزي: مرعي(9/379)
لهم معروف، وتأجل القوم: تجمعوا، وجأل الصوف جمعه، واللجأ والملجأ: المعقل والملاذ، والضفدع للزومها ملجأها من الماء، والجيأل للضبع للزومها وجارها، ولذلك تسمى أم عامر، وجئل - كفرح: عرج، كأنه شبه بمشيتها لأنها تسمى العرجاء، والأجل كقنب وقبر - لذكر الأوعال، لتحصنه بقرونه، والأجل - بالضم: المجتمع من الطين يجعل حول النخلة، والمآجل: الحوض يحبس فيه الماء، ومستنقع الماء مطلقاً، وأجله تأجيلاً: جمعه، ومن النظر إلى ما يلزم في المدة: أجل لأهله: كسب وجمع وجلب واحتال، وجأل - كمنع: جاء وذهب؛ فقد تبين أن المراد بالأجل هنا الحين.
ولما كان كأنه قيل: يا ليت شعري ماذا يكون حال الناس إذا أتى ذلك الأجل وفيها الجبابرة والرؤساء وذوو العظمة والكبراء! أجيب بقوله: {يوم يأت} أي ذلك الأجل لا يقدرون على الامتناع بل ولا على مطلق الكلام، وحذف ابن عامر وعاصم وحمزة الياء اجتزاء عنها بالكسرة كما هو فاشٍ في لغة هذيل، وكان ذلك إشارة إلى أن شدة هوله تمنع أهل الموقف الكلام أصلاً في مقدار ثلثية، ثم يؤذن لهم في الكلام في الثلث الآخر بدلالة المحذوف وقرينة الاستثناء، فإن العادة أني يكون المستثنى أقل من المستثنى منه {لا تكلم} ولو أقل كلام بدلالة حذف التاء {نفس} من جميع الخلق في ذلك اليوم(9/380)
الذي هو يوم الآخرة، وهو ظرف هذا الأجل وهو يوم طويل جداً ذو ألوان وفنون وأهوال وشؤون، تارة يؤذن فيه في الكلام، وتارة يكون على الأفواه الختام، وتارة يسكتهم الخوف والحسرة والآلام، وتارة ينطقهم الجدال والخصام {إلا بإذنه} أي بإذن ربك المكرر ذكره في هذه الآيات إشارة إلى حسن التربية وإحكام التدبير.
ولما علم من هذا أنه يوم عظمة وقهر، سبب عن تلك العظمة تقسيم الحاضرين فقال: {فمنهم} أي الخلائق الحاضرين لأمره {شقي} ثبتت له الشقاوة فيسر في الدنيا لأعمالها {وسعيد*} ثبتت له السعادة فمشى على منوالها؛ والتأخير: الإذهاب عن جهة الشيء بالإبعاد منه، وضده التقديم؛ والأجل: الوقت المضروب لوقوع أمر من الأمور؛ واللام تدل على العلة والغرض والحكمة بخلاف «إلى» ؛ والشقاء: قوة أسباب البلاء.
ولما كان أكثر الخلق هالكاً مع أن المقام مقام تهديد وتهويل، بدأ تعالى بالأشقياء ترتيباً للنشر على ترتيب اللف فقال: {فأما الذين شقوا} أي أدركهم العسر والشدة {ففي النار} أي محكوم لهم بأنهم يدخلون الناء التي هي النار لو علمتم {لهم فيها زفير} أي عظيم جداً {وشهيق*} من زفر - إذا أخرج نفسه بعد مدِّه إياه، وشهيق - إذ تردد البكاء في صدره - قاله في القاموس؛ وقال ابن كثير في تفسير(9/381)
سورة الأنبياء: الزفير خروج أنفاسهم، والشهيق: ولوج أنفسهم؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الزفير: الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف، وعن الضحاك ومقاتل: الزفير أول نهيق الحمار، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا رده في جوفه، وسيأتي كلام الزماني في ذلك {خالدين فيها} أي بلا انقطاع، وعبر عنه بقوله جرياً على أساليب العرب: {ما دامت السماوات والأرض} .
ولما كان له شيء لا يقبح منه شيء وهو قادر على كل شيء، دل على ذلك بقوله: {إلا ما شاء} أي مدة شاءها فإنه لا يحكم لهم بذلك فيها فلا يدخلونها.
ولما كان الحال في هذه السورة مقتضياً - كما تقدم - لتسلية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما أخبر به سبحانه في قوله {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} - الآية، من ضيق صدره، ولذلك أتى بهذه القصص كما مضى بيان ذلك، عبر باسم الرب إشارة إلى أنه يحسن إليه بكل ما يسر قلبه ويشرح صدره فقال: {ربك} وقد جرى الناس في هذا الاستثناء على ظاهره ثم أطالوا الاختلاف في تعيين المدة المستثناة، والذي ظهر لي - والله أعلم - أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين وأن الشرك لا يغفر والإيمان موجب للجنة فكان ربما ظن أنه لا يمكن غير ذلك كما ظنه المعتزلة لا سيما إذا تؤمل القطع في مثل قوله {أن الله لا يغفر أن يشرك به} مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(9/382)
جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمر فيه إلى الله تعالى كغيره من الأمور، له أن يفعل في كلها ما يشاء وإن جزم القول فيه، لكنه لا يقع غير ما أخبر به، وهذا كما تقول: اسكن هذه الدار عمرك إلاّ ما شاء زيد، وقد لا يشاء زيد شيئاً، فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر كذلك الاستثناء لا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة، ثم رأيت الإمام أباً أحمد البغوي قد ذكر معنى هذا آخر ما أورده في تفسيره من الأقوال في الآية وحكي نحوه عن الفراء، ومثله بأن تقول: والله لأضربنك إلاّ إن أرى، وعزيمتك أن تضربه، وعزاه الطحاوي في بيان المشكل إلى أهل اللغة منهم الفراء.
ولما كان تخليد الكفار من الحكم بالقسط بين الفريقين لأنه من أكبر تنعيم المؤمنين الذين عادوهم في الله كما تقدم التنبيه عليه أول سورة يونس عليه السلام عند قوله {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} كان ربما توهم أن الاستثناء لو أُخذ على ظاهره لم يكن إخراجهم من النار حيناً، نفى هذا التوهم بقوله: {إن ربك} أي المحسن إليك {فعال لما يريد} أي لا يجوز عليه البدء بالرجوع عما أراد ولا المنع عن مراده ولا يتعذر عليه شيء منه مع كثرة المرادات فلا اعتراض عليه ولا يلزمه لأحد شيء، بل له أن يخلد العاصين في الجنة ويخلد(9/383)
الطائعين في النار، ولكنه كما ثبت ذلك ليعتقد لكونه من صفة الكمال ثبت أنه لا يفعل ذلك سبحانه ولا يبدل القول لديه لأن ذلك من صفات الكمال أيضاً مع أن في ختم الآية بذلك ترجية لأهل النار في إخراجهم منها زيادة في عذابهم.(9/384)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
ولما تم أمر الأشقياء، عطف عليه قسيمهم فقال: {وأما الذين سعدوا} أي فازوا بمطالبهم وتيسر أمرهم {ففي الجنة} أي التي صارت معلومة من الدين بالضرورة {خالدين فيها} دائماً أبداً {ما دامت السماوات والأرض} على ما جرت به عادة العرب في إرادة التأبيد بلا آخر بمثل هذا {إلاّ ما شآء ربك} وأدل دليل على ما قلت في الاستثناء قوله: {عطاء} هو نصب على المصدر {غير مجذوذ} أي مقطوع ولا مكسور ولا مفصول - لعطاء من الأعطية ولا مفرق ولا مستهان به: لأنهم لو انفكوا من النعيم حقيقة أو معنى ولو لحظة لكان مقطوعاً أو منقوصاً؛ وفي الختم بذلك من الجزم بالدوام طمأنينة لأهل الجنة زيادة في نعيمهم عكس ما كان لأهل النار؛ قال أبو الحسن الرماني: والزفير: ترديد النفس مع الصوت حتى تنتفخ الضلوع، وأصله الشدة من المزفور الخلق، والزفر: الحمل على الظهر، لشدته، والزفر: السيد لأنه يطيق حمل الشدائد، وزفرت النار - إذا سمعت لها صوتاً في شدة توقدها، والشهيق: صوت فظيع يخرج من الجوف بمد النفس، وأصله الطول المفرط من قولهم: جبل شاهق(9/384)
أي ممتنع طولاً؛ والخالد: الكائن في الشيء أبداً، والدائم: الباقي أبداً، ولهذا يوصف الله تعالى بالدائم دون الخالد.
ولما أخبره تعالى بوقوع القضاء بتمييز الناس في اليوم المشهود إلى القسمين المذكورين على الحكم المشروح مرهباً ومرغباً، كان ذلك كافياً في الثبات على أمر الله والمضيّ لإنفاذ جميع ما أرسل به وإن شق اعتماداً على النصرة في ذلك اليوم بحضرة تلك الجموع، فكان ذلك سبباً للنهي عن القلق في شيء من الأشياء وإن جل وقعه وتعاظم خطبه، فقال تعالى: {فلا} ولما كان ما تضمنه هذا التقسيم أمراً عظيماً وخطباً جسيماً، اقتضى عظيم تشوف النفس وشديد شوقها لعلم ما سبب عنه، فاقتضى ذلك حذف النون من «كان» إيجازاً في الكلام للإسراع بالإيقاف على المراد والإبلاغ في نفي الكون على أعلى الوجوه فقال: {تك} أي في حالة من الأحوال {في مرية} والمرية: الشك مع ظهور الدلالة للتهمة - قاله الرماني {مما يعبد هؤلآء} أي لا تفعل فعل من هو في مرية بأن تضطرب من أجل ما يعبدون مواظبين على عبادتهم مجددين ذلك في كل حي فتنجع نفسك في إرادة مبادرتهم إلى امتثال الأوامر في النزوع عن ذلك بالكف عن مكاشفتهم بغائظ الإنذار(9/385)
والطلب لإجابة مقترحاتهم رجاء الأزدجار كما مضى في قوله تعالى {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} - الآية، وذلك أن مادة مرى - بأيّ ترتيب كان - تدور على الاضطراب، وقد يلزمه الطرح والفصل: رمى يرمي رمياً، والمرماة: ظلف الشاة لأنه يطرح، والرمي: قطع من السحاب رقاق؛ والريم: البراح، ما يريم يفعل كذا: ما يزال، والريم: الدرج للاضطراب فيها، والقبر لنبذه في جانب من الأرض وطرح الميت فيه، وريم فلان بالمكان: أقام به مجاوزاً لغيره منفصلاً عنه كأنه رمى بنفسه فيه، وريمت السحابة - إذا دامت فلم تقلع، لأن من شأنها رمي القطر، ومرى الضرع: مسحه للحلب، والريح تمري السحاب، والمري: المعدة لقذفها ما فيها، والمرية: الشك، أي تزلزل الاعتقاد، والميرة: جلب الطعام؛ ثم استأنف تعالى خبراً هو بمنزلة العلة لذلك فقال: {ما يعبدون} أي يوقعون العبادة على وجه الاستمرار {إلاّ كما يعبد آباؤهم} ولما كانت عبادتهم في قليل من الزمن الماضي أدخل الجار فقال: {من قبل} أي أنهم لم يفعلوا ذلك لشبهة إذا كشف عنها القناع رجعوا، بل لمحض تقليد الآباء مع استحضارهم لتلبسهم بالعبادة كأنهم حاضرون لديهم يشاهدونهم مع العمى عن النظر في الدلائل والحجج كما كان من قصصنا عليك أخبارهم من الأمم في تقليد الآباء سواء بسواء مع عظيم شكيمتهم وشدة عصبتهم للأجانب(9/386)
فكيف بالأقارب فكيف بالآباء! فأقم عليهم الحجة بإبلاغ جميع ما نأمرك به كما فعل من قصصنا عليك أنباءهم من إخوانك من الرسل غير مخطر في البال شيئاً مما قد يترتب عليه إلى أن ينفذ ما نريد من أوامرنا كما سبق في العلم فلا تستعجل فإنا ندبر الأمر في سفول شأنهم وعلو شأنك كما نريد {وإنا} بما لنا من العظمة {لموفوهم نصيبهم} من الخير والشر من الآجال وغيرها وما هو ثابت ثباتاً لا يفارق أصلاً؛ ولما كانت التوفية قد تطلق على مجرد الإعطاء وقد يكون ذلك على التقريب، نفى هذا الاحتمال بقوله: {غير منقوص} والنصيب: القسم المجعول لصاحبه كالحظ؛ والمنقوص: المقدار المأخوذ جزء منه؛ والنقص: أخذ جزء من المقدار.
ولما ذكر في هذه الآية إعراضهم عن الإتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب، سلاه بأخيه عليهما السلام لأن الحال إذا عم خف، وابتدأ ذكره بحرف التوقع بما دعا إلى توقعه من قرب ذكره مع فرعون مع ذكر كتابه أول السورة فقال تعالى: {ولقد آتينا} أي بما لنا من العظمة {موسى الكتاب} أي التوراة الجامعة للخير.
ولما كان الضار والمسلي نفس الاختلاف، بني للمفعول قوله: {فاختلف فيه} فآمن به قوم وكفر به آخرون مع أنه إمام ورحمة(9/387)
وكتب سبحانه له فيه من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء، وكان معجباً لأهل ذلك الزمان كما اختلف في كتابك مع إعجابه لأهل هذا الزمان وبيانه للهدى أتم بيان، إشارة إلى أن الخلق مهما جاءهم عن الله، وهو لا يكون إلاّ مصحوباً بالأدلة القاطعة نأوا عنه واختلفوا فيه، ومهما تلقفوه عن آبائهم تلقوه بالقبول وناضلوا عنه وسمحوا فيه بالمهج وإن كان منابذاً للعقول، فكان قوم موسى باختلافهم في الكتاب كل قليل يأبى فريق منهم بعض أحكامه ويريدون نقض إبرامه كما سلف بيانه غير مرة عن نص التوراة وسفر يوشع إلى أن آل أمرهم الآن إلى أن صاروا ثلاث فرق: ربانيين، وقرابين، وسامرة؛ يضلل بعضهم بعضاً، ومع ذلك فلم يعاجلهم بالأخذ مع قدرته على ذلك كما فعل بمن قص أمره من الأمم لما سبق من حكمه بتأخيرهم إلى الأجل المعدود، وفصل بين هذا وبين قصة موسى عليه السلام مع فرعون ليكون مع ما دعا إلى تقديم ما تقدم من الآيات أوقع في التسلية وأبلغ في التعزية والتأسية كما هو شأن كل ما ألقي إلى المحتاج شيئاً فشيئاً {ولولا كلمة} أي عظيمة لا يمكن تغييرها لأنها من كلام الملك الأعظم {سبقت من ربك} أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك رحمة للعالمين {لقُضي} أي لوقع القضاء {بينهم} أي بين من اختلف في(9/388)
كتاب موسى عاجلاً، ولكن سبقت الكلمة أن القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة كما قال في سورة يونس {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} - الآية.
ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين أنه به، فقال مؤكداً لأن كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك: {وإنهم لفي شك} أي عظيم محيط بهم {منه} أي من القضاء أو الكتاب {مريب} أي موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من الجلال ويتبدى لهم في قبة الزمان من خارق الأحوال {وإن كلاًّ} من المختلفين في الحق من قوم موسى وغيرهم ممن هو على الحق وممن هو على الباطل؛ و {إن} عند نافع وابن كثير وأبي بكر عن عاصم عاملة مع تخفيفها من الثقيلة في قراءة غيرهم اعتباراً بأصلها {لما} هي في قراءة ابن عامر وحمزة وعاصم بالتشديد الجازمة حذف فعلها - قال ابن الحاجب: وهو شائع فصيح، وفي قراءة غيرهم بالتخفيف مركبة من لام الابتداء و {ما} المؤكدة بنفي نقيض ما أثبته الكلام ليكون ثبوته مع نفي نقيضه على أبلغ وجه.
ولما كان الشرط في حذف الفعل بعد «لما» الجازمة أن يكون مما يتوقع بوقوع فعل قبلها يدل عليه، كان التقدير: يقض بينهم، وسيقضي(9/389)
وهو معنى ما قرن بعدها بلام القسم من قوله: {ليوفينهم ربك} أي المحسن إليك بإقامتك على المنهاج الأعدل والفضل من العباد {أعمالهم} لا يدع منها شيئاً لأنه لا يخفى عليه منها شيء، والسياق يقتضي أن يكون {ما} في {لما} في قراءة التخفيف للتأكيد على النحو الذي مر غير مرة أن النافي إذا زيد في سياق الإثبات كان كأنه نفي النقيض تأكيداً لمثبت {إنه بما يعملون} قدم الظرف لتأكيد الخبر {خبير} فإذا علمت أن شأنك في أمتك شأن الرسل في أممهم وأنه لا بد من الاختلاف في شأن الرسول والكتاب كما جرت بذلك السنة الإلهية وأن الجزاء بالأعمال كلها لا يد منه {فاستقم} أي أوجد القوم بغاية جهدك بسبب أنك لا تكلف إلاّ نفسك وأن الذي أرسلك لا يغفل عن شيء، ومن استقام استقيم له.
ولما كان من المقطوع به أن الآمر له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَن له الأمر كله، بني للمفعول قوله: {كمآ أمرت} أي كما استقام إخوانك من الأنبياء في جميع الأصول والفروع سواء كان في نفسك أو في تبليغ غيرك معتدلاً بين الإفراط والتفريط ولا يضيق صدرك من استهزائهم وتعنتهم واقتراحهم للآيات وإرادتهم أن تترك بعض ما يوحى إليك من التشنيع عليهم والعيب لدينهم بل صارحهم بالأمر واتركهم وأهواءهم، نحن ندبر الأمر كما نريد على حسب ما نعلم.(9/390)
ولما كان الفاصل بين المعطوف والمعطوف عليه يقوم مقام تأكيد الضمير المستتر، عطف عليه قوله: {ومن} أي وليستقم أيضاً من {تاب} عن الكفر مؤمناً {معك} على ما أمروا تاركين القلق من استبطائهم للنصرة كما روى البخاري وابو داود والنسائي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: «شكونا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا: ألا تدعو الله لنا، فقعد وهو محمر وجهه فقال: كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع فوق رأسه فيشق باثنين، وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» ؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما نزلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آية أشد ولا أشق من هذه الآية. والاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة.
ولما كانت وسطاً بين إفراط وتفريط وكان التفريط لا يكاد يسلم منه إلا الفرد النادر، وهو في الأغلب يورث انكسار النفس واحتقارها والخوف من الله، وكان الإفراط يورث إعجاباً، وربما(9/391)
أفضى بالإنسان إلى ظن أنه شارع فينسلخ لذلك من الدين، طوى التفريط ونهى عن الإفراط فقال: {ولا تطغوا} أي تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطاً، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب نفوسكم لا لحاجته إلى ذلك ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره، والدين متين لن يشاده أحد إلا غلبه، فقد رضي منكم سبحانه الاقتصاد في العمل مع حسن المقاصد، ويجوز أن يكون المعنى: ولا تبطركم النعمة فتخرجكم عن طريق الاستقامة يمنة أو يسرة.
ولما نهي عن الإفراط وهو الزيادة تصريحاً، فأفهم النهي عن التفريط، وهو النقص عن المأمور تلويحاً من باب الأولى، على ذلك مؤكداً تنزيلاً لمن يفرط أو يفرط منزلة المنكر فقال: {إنه بما تعملون} قدم الظرف لما تقدم من تأكيد الإبصار {بصير*} ومادة «طغى» واوية ويائية بكل ترتيب تدور على مجاوزة الحد مع العلو، فالغطاء: ما ستر به الشيء عالياً عليه، ولا يكون ساتراً لجميعه إلا إذا فضل عنه فتجاوز حده، وغطى الليل - إذا غشي، وكل شي ارتفع فهو غاط. وطغى السيل - إذا جاء بماء كثير، والبحر: هاجت أمواجه،(9/392)
والطغيان: مجاوزة الحد في العصيان، والغائط والغيط: المطمئن من الأرض، لأن ما كان كذلك وكانت أرضه طيبة كانت لا تزال ريّاً فيعلو ما نبت فيها ويخصب فيتجاوز الحد في ذلك، ومنه الغوطة - لموضع بالشام كثير الماء والشجر.(9/393)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
ولما نهي عن الإفراط في الدين، أتبعه النهي عن التفريط بالتقصير فيه بسفول الهمم على وجه عام، وكان الحب في الله والبغض منه أوثق عرى الإيمان، إشارة إلى ضده الذي هو أوثق عرى الشيطان فقال: {ولا تركنوا} أي شيئاً من ركون، وقال: {إلى الذين ظلموا} أي وجد منهم الظلم ولم يقل الظالمين، أي بالميل إليهم بأن تثاقل أنفسكم نحوهم للميل إلى أعمالهم ولو بالرضى به والتشبه بهم والتزيّي بزيهم، وحاصل الآيتين: لا تظلموا بأنفسكم ولا تستحسنوا أفعال الظالمين، وفسر الزمخشري الركون بالميل اليسير، وهو حسن من جهة المعنى لكني لن أره لغيره من أهل اللغة، وقال الرماني - وهو أقرب: الركون: السكون إلى الشيء بالمحبة والانصباب إليه، ونقيضه النفور عنه. وهو على التفسير الثاني في {تطغوا} من عطف الخاص على العام، والآية ملتفتة إلى قوله تعالى {فلعلك تارك(9/393)
بعض ما يُوحى إليك} {فتمسكم النار} أي فتسبب عن ركونكم إليهم مسُّها لكم فلا تقدروا على التخلص منها بنوع حيلة من أنفسكم؛ ومن إجلال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إفراده بالخطاب في الأمر بأفعال الخير، والإتيان بضمير الجمع في النهي عن أفعال الشر - نبه على ذلك الإمام أبو حيان.
ولما كان كل موجود سوى الله في قهره وتحت أمره، قال تعالى: {وما لكم} ولما كان دون رتبته تعالى من الرتب والذوات ما لا يحصيه غيره سبحانه، أدخل الجار تبعيضاً فقال: {من دون الله} أي الملك لأعظم، وأعرق في النفي فقال: {من أولياء} أي يخلصونكم من عذابه لما تقرر أن {دون} من الأدون وهو الأقرب إلى جهة السفل؛ والولي: المختص بأن من شأنه تولي المعونة عند الحاجة، وأشار إلى أن نصر مَنْ لا ناصر له من الله محال بأداة البعد وبناء للمفعول فقال: {ثم لا تنصرون*} أي ثم إذاً فإنكم هذا وذاك فما أبعدكم من النصرة!
ولما كان العلم حاصلاً بما سبق من الحكم من أن الآدمي محل العجز والتقصير، أتبع ذلك بأعلى مكفر لما يوجبه العجز ويقضي به الفتور والوهن من الصغائر وأعمه وأجلبه للاستقامة، وذلك يدل على أنها بعد الإيمان أفضل العبادات، فقال تعالى: {وأقم الصلاة}(9/394)
أي اعملها على استواء {طرفي النهار} بالصبح والعصر كما كان مفروضاً بمكة في أول الأمر قبل الإسراء، ويمكن أن يراد مع ذلك الظهر لأنها من الطرف الثاني {وزُلفاً} أي طوائف ودرجات وأوقات، جمع زلفة {من الَّيل} يمكن أن يكون المراد به التهجد، فقد كان مفروضاً في أول الإسلام، ويمكن أن يراد المغرب والعشاء مع الوتر أو التهجد؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن الحسنات} أي الطاعات كلها الصلاة وغيرها المبنية على أساس الإيمان {يذهبن السيئات} أي الصغائر، وأما الكبائر التي يعبر عنها بالفواحش ونحوه فقد تقدم في قصة شعيب عليه السلام عند قوله {ثم توبوا إليه} أنه لا يكفرها إلا التوبة لما فيها من الإشعار بالتهاون بالدين، واجتنابها لا يكفر إلا إذا كان عن نية صالحة كما أفهمه صيغة الافتعال من قوله
{إن تجتنبوا} [النساء: 30] ؛ روى البخاري في التفسير عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر له ذلك فأنزل الله عليه {أقم الصلاة طرفي النهار} - الآية، قال الرجل: ألي هذه؟ قال: لمن عمل بها من أمتي» وهذا الحديث يؤيد قول ابن عباس رضي الله عنهما: إن هذه الآية من هذه السورة المكية المدنية.
ولما تم هذا على هذا الوجه الأعلى والترتيب الأولى، قال تعالى(9/395)
مادحاً له ليعرف مقداره فيلزم: {ذلك} أي الأمر العالي الرتبة الذي تقدم من الترغيب والترهيب والتسلية وتعليم الداء والدواء للخلاص من الشقاء {ذكرى} أي ذكر عظيم {للذاكرين*} أي لمن فيه أهلية الذكر والانتباه به بحضور القلب وصفاء الفكر ونفوذ الفهم.
ولما كان الصبر لله على المكاره أعلى الطاعة، أتبع ذلك قوله: {واصبر} أي ليكن منك صبر على الطاعات وعن المعاصي ولا تترك إنذارهم بما أمرت به مهما كان ولا تخفهم، فإن العاقبة لك إذا فعلت؛ ولما كان المقام الصبر صعباً والاستقامة على المحمود منه خاصة خطراً، وكانت النفس - لما لها من الجزع في كثير من الأحوال - كالمنكرة، أكدَّ قوله: {فإن} الصبر هو الإحسان كل الإحسان وإن {الله} أي المحيط بصفات الكمال {لا يضيع} أي بوجه من الوجوه {أجر المحسنين*} أي العريقين في وصف الإحسان بحيث إنهم يعبدون الله كأنهم يرونه، فلذلك يهون عليهم الصبر، ولذلك لأن الطاعة كلفة فلا تكون إلا بالصبر، وكل ما عداها فهو هوى النفس لا صبر فيه، فالدين كله صبر «حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات» ولذا فضل ثواب الصابر {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10] والصبر المحمود: حبس النفس عن(9/396)
الخروج إلى ما لا يجوز من ترك الحق، ونقيضه الجزع، قال الشاعر:
إن تصبر فالصبر خير مغبةً ... وإن تجزعا فالأمر ما تريان
وهو من الصبر الذي هو المر المعروف لأنه تجرع مرارة الحق بحبس النفس عن الخروج إلى المشتهى مع الزاجر المعتبر من الشرع والعقل، فهو أكره شيء إلى النفس، والمعين عليه ما في استشعار لزوم الحق من العز والأجر بالطاعة والعلم بما يعقب من الخير في كل وجه وعادة النفس له، وقد غلب إطلاقه على الحق حتى لا يجوز إطلاقه إلا فيه - قاله الرماني.
ولما كان ما تقدم كله مشيراً إلى استبعاد إيمان المعاندين بشيء من تدبير آدمي كما تكاد القصص تنطق به، وكذا الإعلام بأن عبادتهم إنما هي للتقليد وباختلاف قوم موسى في كتابه الذي هو هدى ورحمة، وكل ذلك فطماً عن طلب ما قد يهجس في الخاطر من تمني إجابتهم إلى ما يقترحون أو الكف عن بعض ما يغيظ من الإنذار، وكان من طبع البشر البعد عن الانتهاء عن الخواطر إلا بعد التجربة، كان ذلك ربما أوجب أن يقال: لو أجيبوا إلى سؤالهم لربما رجعوا عن كثير مما هم فيه، فدعاهم ذلك إلى الرشاد، فتسبب عنه أن يقال دفعاً له: {فلولا كان} ويجوز أن يكون مناسبتها أنه لما ذكر إهلاك القرون الماضية والأمم السالفة(9/397)
بما مضى إلى أن ختم بالأمر بالصبر على الإحسان من الأمر بالمعروف والنهي عن النمكر، كان من الجائز أن يقع في فكر الاعتراض بأن يقال: ما الموجب لذلك؟ فبين أن سبب الهلاك الإعراض عن نهي منتهك الحرمات والمجترىء على هتك الأستار الجليلة والرتع في الحمى مع تمكنهم بما أودع فيهم سبحانه من القوى والقدرة على اختيار جانب الخير والإعراض عن جانب الشر فقال تعالى: {فلولا} بصيغة تحتمل التخصيص، وفيها معنى التفجع والتأسف لاعتبار كل من كان على مثل حالهم {من القرون} أي المهلكين الأشداء الكائنين في زمان ما.
ولما كان المراد القرون التي تقدم ذكر إهلاكها، وكانت أزمنتهم بعض الزمان الماضي، أتى بالجار فقال: {من قبلكم أولوا} أي أصحاب {بقية} أي حفظ وخير ومراقبة لما يصلحهم، لأن مادة «بقي» تدور على الجمع، ويلزمه القوة والثبات والحفظ، من قولهم: ابقه بقوتك مالك - وزن ادعه - أي احفظه حفظك مالك، ويلزمه النظر والمراقبة: بقيت الشيء - إذا نظرت إليه ورصدته، ويلزمه الثبات: بقي بقاء - إذا دام، والخير والجودة؛ قال الزمخشري: لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، ويقال: فلان من بقية قوم، أي(9/398)
من خيارهم، وسيأتي شرح ذلك مستوفى عند قوله تعالى {وجعلنا بينهم موبقاً} إن شاء الله تعالى {ينهون} أي يجددون النهي في كل حين إشارة إلى كثرة المفسدين {عن الفساد} الكائن {في الأرض} و «لولا» هنا كالتي في يونس توبيخية أو استفامية كما جوزهما الرماني، ويجوز أن تكون تخصيصية كما قال الزمخشري، ويكون للسامع لا للمهلك، لأن الآية لما تضمنت إهلاك المقر على الفساد كان في ذلك أقوى حث لغيرهم على الأمر والنهي وأوفى تهديد زاجر عن ارتكاب مثل حالهم الموقع في أضعاف نكالهم، وفي تعقيب هذه الآية لآية الصبر إشارة إلى أن الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذروة العليا، والآية ناظرة إلى قوله تعالى {إنما أنت نذير} .
ولما كانت المعاني الثلاثة متضمنة للنفي، كان المعنى: لم يكن من يفعل ذلك، فاتصل الاستثناء في قوله: {إلا قليلاً} أي صالحين {ممن أنجينا منهم} والظاهر أن «من» بيانية، أي هم الذين أنجينا فإنهم نهوا عن الفساد، عبر بالإنجاء لأنه الدال على الخير الحامل للنهي عن الفساد دون التنجية الدالة على التدريج والإبلاغ في الإنجاء فلو عبر بها فسد المعنى {واتبع} الأكثر وهم {الذين ظلموا}(9/399)
أي أوقعوا الظلم بترك النهي عن الفساد، وما أحسن إطلاقها عن التقييد ب {منهم} {ما} ولما كان المبطر لهم نفس الترف، بني للمفعول قوله: {أُترفوا فيه} فأبطرتهم النعمة حتى طغوا وتجبروا {وكانوا مجرمين*} أي متصفين على سبيل الرسوخ بالإجرام، وهو قطع حبل الله على الدوام، فأهلكهم ربك لإجرامهم، ولولا ذلك لما فعل، فإن إهلاكهم على تقدير الانفكاك عن الإجرام يكون ظلماً على ما يتعارفون.
ولما لاح بما مضى أن العبرة في الإهلاك والإنجاء للاكثر، قرره وأكده وبينه بقوله: {وما كان ربك} ذكر سبحانه بالوصف المفهم للإحسان تثبيتاً له وتأميناً {ليهلك القرى} أي إهلاكاً عاماً {بظلم} أي أيّ ظلم كان، صغير أو كبير {وأهلها مصلحون*} أي في حال ظلم بأن يوقع إهلاكهم في حال إصلاحهم الذي هم عريقون فيه، فيكون الإهلاك في غير موقعه على ما يتعارف العباد مع العلم بأن له أن يفعل ذلك في نفس الأمر لأنه لا يسأل عما يفعل؛ والإهلاك: إيجاب ما يبطل الإحساس، والهلاك: ضياع الشيء وهو حصوله بحيث لا يدري أين هو؛ والإصلاح: إيجاب ما يستقيم به الأمر على ما يدعو إليه العقل.(9/400)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
ولما كان مثل هذه الآيات ربما أوهم أن إيمان مثل هؤلاء مما لا يدخل تحت المشيئة، نفى ذلك الوهم مبيناً انفكاك المشيئة عن الأمر بقوله: {ولو شاء ربك} أي المحسن إليك بكل إحسان يزيدك رفعة {لجعل الناس} أي كلهم {أمة واحدة} على الإصلاح، فهو قادر على أن يجعلهم كلهم مصلحين متفقين على الإيمان فلا يهلكهم، ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء اختلافهم والأمر تابع لمشيئته فاختلفوا {ولا يزالون مختلفين} أي ثابتاً اختلافهم لكونهم على أديان شتى {إلا من رحم ربك} أي المحسن إليك بالتأليف بينهم في جعلهم من أهل طاعتك فإنهم لا يختلفون في أصول الحق. ولما كان ما تقدم ربما أوجب أن يقال: لمَ لم يُقبل بقلوبهم إلى الهدى ويصرفهم عن موجبات الردى إذا كان قادراً؟ قال تعالى مجيباً عن ذلك: {ولذلك} أي الاختلاف {خلقهم} أي اخترعهم وأوجدهم من العدم وقدرهم، وذلك أنه لما طبعهم سبحانه على خلائق من الخير والشر تقتضي الاختلاف لتفاوتهم فيها، جعلوا كأنهم خُلقوا له فجروا مع القضاء والقدر، ولم يمكنهم الجري على ما تدعو إليه العقول في أن الاتفاق رحمة والاختلاف نقمة، فاستحق فريق منهم النار وفريق جنة، وليس ذلك مخالفاً لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56](9/401)
بل هو من شكله، أي أنه تعالى لما ركبهم على العجز ومنحهم العقول مع نصب الأدلة، كان ذلك مهيئاً للعبادة فكانوا كأنهم ما خلقوا إلا لها أي ما خلقتهم إلا ليعرفون بنفوذ أقضيتي وتصاريفي فيهم فيعبدون، أي يخضعوا لي فمن كان منهم طائعاً فهو عابد حقيقة، ومن كان عاصياً كان عابداً مجازاً، أي خاضعاً للأمر لنفوذه فيه وعجزه عن الامتناع كما قال تعالى {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} [الرعد: 15] ، فقد بان أن خلقهم للعبادة فقط ينافي خلقهم للاختلاف، لأن جريهم في قضائه بالاختلاف عبادة وسجود لغة، وذلك أن مادتي عبد وسجد تدوران على الخضوع والذل والانقياد، وبذلك كان الكل عبيد الله، أو الإشارة إلى مجمع الاتفاق والاختلاف ليظهر فضله على من ثبتهم ويظهر عدله فيمن خذلهم.
ولما كان هذا الاختلاف سبب الكفر الذي أرسل رسله بالقتال عليه، كان ربما ظن أنه بغير مشيئته، فبين أنه إنما هو بمراده ولا اعتراض عليه فقال: {وتمت} أي فبادروا إلى ما خلقهم لهم معرضين عن أوامره ولم تغن عنهم عقولهم، وتمت حينئذ {كلمة ربك} أي المحسن إليك بقهر أعدائك التي سبقت في الأزل وهي وعزتي {لأملأن جهنم}(9/402)
أي التي تلقى المعذب فيها بالتجهم والعبوسة {من الجنة} أي قبيل الجن، قدمهم لأنهم أصل في الشر، ثم عم فقال: {والناس أجمعين*} فمشوا على ما أراد ولم يمكنهم مع عقولهم الجيدة الاستعدد وقواهم الشداد غير إلقاء القياد، فمن قال: إنه يخلق فعله أو له قدرة على شيء فليفعل غير ذلك بأن يخبر باتفاقهم ثم يفعله ليتم قوله.
وإلا فليعلم أنه مربوب مقهور فيسمع رسالات ربه إليه بقالبه وقلبه.
ولما أخبر سبحانه بما فعل بالقرى الظالمة، وحذر كل من فعل أفعالهم بسطواته في الدنيا والآخرة، وأمر باتباع أمره والاعراض عن اختلافهم الذي حكم به وأراده، عطف على قوله {نقصه عليك} قوله: {وكلاًّ نقص} أي ونقص {عليك} كل نبأ أي خبر عظيم جداً {من أنباء الرسل} مع أممهم: صالحيهم وفاسديهم، فعم تفخيماً للأمر، ولما كان الذي جرّ هذه القصص ما مضى من قوله: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك} ، وكان ساكن الصدر القلب، وهو الفؤاد الذي به قوام الإنسان بل الحيوان، وهو أحرّ ما فيه، ولذا عبر عنه بما اشتق من الفأد وهو(9/403)
الحرق، وكان من لازم الحرارة الاضطراب والتقلب الذي اشتق منه القلب فيضيق به الصدر، أبدل من {كلاًّ} قوله: {ما نثبت} أي تثبيتاً عظيماً {به فؤادك} أي فيسكن في موضعه ويطمئن أو يزداد يقينه فلا يضيق الصدر من قولهم {لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك} ونحوه، وبهذا تبين أن المراد بذلك العام خاص لحصوله المقصود له، وهو التسلية نظراً إلى قوله تعالى {وضائق به صدرك} لأن المشاركة في الأمور الصعبة تهون على الإنسان ما يلقى من الأذى، والإعلام بعقوبات المكذبين فيها تأنيس للمكروب؛ والتثبيت: تمكين إقامة الشيء؛ والفؤاد: العضو الذي من شأنه أن يحمى بالغضب الحال فيه، من المفتأد وهو المستوي.
ولما بين أن كل ما قص عليه من أخبارهم يستلزم هذا المقصود، بين أنه ليس كما يعلل به غالباً من الأخبار الفارغة والأحاديث المزخرفة الباطلة ولا مما ينقله المؤرخون مشوباً بالتحريف فقال: {وجاءك في هذه} أي الأخبار {الحق} أي الكامل في الثبات الذي لا مرية فيه، وفائدة الظرف التأكيد لعظم المقصود من آية {فلعلك} وصعوبته.
ولما كان الحق حقاً بالنسبة إلى كل أحد عرفه ونكر ما هو خاص بقوم دون قوم فقال: {وموعظة} أي مرقق للقلوب {وذكرى} أي تذكير عظيم جداً {للمؤمنين*} أي الراسخين في الإيمان، وقد(9/404)
تضمنت الآية الاعتبار من قصص الرسل بما فيها من حسن صبرهم على أممهم واجتهادهم على دعائهم إلى عبادة الله بالحق وتذكير الخير والشر وما يدعو إليه كل منهما من عاقبة النفع والضر للثبات على ذلك جميعه اقتداء بهم.
ولما ذكر نفع هذا الحق، كان كأنه قيل: فعظهم بذلك وذكرهم به، فعطف عليه قوله: {وقل} ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله {واصبر} أي اصبر على ما أمرناك به من تبليغ وحينا وامتثاله، وقل {للذين} أي لم تؤثر فيهم هذه الموعظة فهم {لا يؤمنون} أي لا يتجدد لهم إيمان منذراً لهم {اعملوا} متمكنين {على مكانتكم} أي طريقتكم التي تتمكنون من العمل عليها.
ولما كان العمل واجباً عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى كل من تبعه فهم عاملون لا محالة سواء عمل الكفار أو لا، قال مؤكداً لأجل إنكار الكفار أن يدوموا على العمل المخالف لهم مع ما يصل إليهم لأجله من الضر، معرياً له عن فاء السبب لذلك والاستئناف: {إنا} أي أنا ومن معي {عاملون*} أي ثابت عملنا لا نحول عنه لأن ما كان لله فهو دائم بدوامه سبحانه، وحذف النون(9/405)
الثانية اكتفاء بمطلق التأكيد لأنه كافٍ في الإعلام بالجزم في النية، وفيه تأدب بالإشارة إلى أن المستقبل أمر لا اطلاع عليه لغير الله فينبغي أن لا يبلغ في التأكيد فيه غيره، وهذا بخلاف ما في سورة فصلت مما هو جارٍ على ألسنة الكفرة {وانتظروا} أي ما أنتم منتظرون له من قهرنا {إنا منتظرون*} أي ما وعدنا الله في أمركم، فإن الله مهلكهم ومنجيك لأنه عالم بغيب حالك وحالهم وقادر عليكم؛ والانتظار: طلب الإدراك لما يأتي من الأمر الذي يقدر النظر إليه؛ والتوقع: طلب ما يقدر أنه يقع، وهما يكونان في الخير والشر ومع العلم والشك، والترجي لا يكون إلا مع الخير والشك.(9/406)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
ولما تضمن هذا التهديد العلم والقدرة، قال عاطفاً على ما تقديره: فلله كل ما شوهد من أمرنا وأمركم وأمر عالم الغيب والشهادة كله ما كان من ابتداء أمورنا {ولله} أي المحيط وحده بكل شيء مع ذلك {غيب السماوات والأرض} أي جميع ما غاب علمه عن العباد فهو تام العلم، ومنه ما ينهى عنه وإن ظن الجهلة أنه خارج عن قدرته لما أظهر من الزجر عنه ومن كراهيته.
ولما كان السياق هنا لأنه سبحانه خلق الخلق ذواتهم ومعانيهم للاختلاف، وكان تهديدهم على المعاصي ربما أوهم أنه بغير إرادته، فكان ربما قال جاهل: أنا بريء من المخالفين لأوليائه كثيراً جداً، وعادة الخلق أن من خالفهم خارج عن أمرهم، كان الجواب على تقدير التسليم لهذا الأمر(9/406)
الظاهر: فله كان الأمر كله ظاهراً وباطناً {وإليه} أي وحده {يرجع} بعد أن كان ظهر للجاهل أن خرج عنه؛ والرجوع: ذهاب الشيء إلى حيث ابتدأ منه {الأمر كله} في الحال على لبس وخفاء، وفي المال على ظهور واتضاح وجلاء، فهو شامل القدرة كما هو شامل العلم، فلا بد من أن يرجع إليه أمرك وأمر أعدائك، أي يعمل فيه عمل من يرجع إليه الأمر فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذلك سبب عن إسناد الأمور كلها إليه قوله: {فاعبده} أي وحده عبادة لا شوب فيها {وتوكل} معتمداً في أمورك كلها {عليه} فإنه القوي المتين، وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد.
ولما كانت العادة جارية بأن العالم قد يغفل، نزه عن ذلك سبحانه نفسه فقال مرغباً مرهباً: {وما ربك} أي المحسن إليك بما يعمله بإحاطة عمله إحساناً، وأغرق في النفي فقال: {بغافل عما تعملون*} ولا تهديد أبلغ من العلم، وهذا بعينه مضمون قوله تعالى {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير الا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} [هود 1 - 2] .(9/407)
سورة يوسف
مقصودها وصف الكتاب بالإبانة لكل ما يوجب الهدى لما ثبتفيما مضى ويأتي في هذه السورة من تمام علم منزله غيبا وشهادة وشمول قدرته قولا وفعلا، وهذه القصة - كما ترى - أنسب الأشياء لهذا المقصود، فلذلك سميت سورة يوسف - والله أعلم.(10/1)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
{بسم الله} الذي وسع كل شيء قدرة وعلماً {الرحمن} الذي لم يدع لبساً لعموم رحمته في طريق الهدى {الرحيم *} الذي خص حزبه بالإبعاد عن موطىء الردى.
لما خلل سبحانه تلك مما خللها به من القصص والآيات القاطعة بأن القرآن من عنده وبإذنه نزل، وأنه لا يؤمن إلاّ من شاء إيمانه، وأنه مهما شاءه كان، وبيّن عظيم قدرته على مثل ما عذب به الأمم(10/1)
وعلى التأليف بين من أراد وإيقاع الخلاف بين من شاء، وأشار إلى أنه حكم بالنصرة لعابديه فلا بد أن يكون ما أراد لأنه إليه يرجع الأمر كله، تلاها بهذه السورة لبيان هذه الأغراض بهذه القصة العظيمة الطويلة التي لقي فيها يوسف علية الصلاة والسلام ما لقي من أقرب الناس إليه ومن غيرهم ومن الغربة وشتات الشمل، ثم كانت له العاقبة فيه على أتم الوجوه لما تدرع به من الصبر على شديد البلاء والتفويض لأمر الله جلَّ وعلا تسلية لهذا النبي الأمين وتأسية بمن مضى من إخوانه المرسلين فيما يلقى في حياته من أقاربه الكافرين وبعد وفاته ممن دخل منهم في الدين في آل بيته كما وقع ليوسف عليه السلام من تعذيب عقبه وعقب إخوته ممن بالغ في الإحسان إليهم، وقد وقع ليوسف عليه السلام بالفعل ما همّ الكفار من أقارب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفعله به كما حكاه سبحانه في قوله {ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [الأنفال: 30] فنجا منهم أن يكون شيء منه بأيديهم إلاّ ما كان من الحصر في شعب أبي طالب ومن الهجرة بأمر الحكيم العليم، ثم نصر الله يوسف عليه السلام على إخوته الذين فعلوا به ذلك وملكه قيادهم، فكان في سوق قصته عقب الإخبار بأن المراد بهذه القصص تثبيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(10/2)
وتسلية فؤاده إشارة إلى البشارة بما وقع له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح من ملك قيادهم ورد عنادهم ومنّه عليهم وإحسانه إليهم، وفي إشارتها بشارة بأن المحسود يعان ويعلى إن عمل ما هو الأحرى به والأولى، ومن فوائد ذكرها التنبيه على أن الحسد داء عظيم شديد التمكن في النفوس حتى أنه بعزم تمكنه وكثرة مكانه وتعدد كائنه ربما غلب أهل الصلاح ألاّ من بادر منهم بالتوبة داعي الفلاح، وتركت إعادتها دون غيرها من القصص صوناً للأكابر عن ذكر ما ربما أوجب اعتقاد نقص، أو توجيه طعن أو غمص، أو هون داء الحسد، عند ذي تهور ولدد، وخللها سبحانه ببليغ الحكم وختمها بما أنتجت من ثبوت أمر القرآن ونفي التهمة عن هذا النبي العظيم.
هذا مناسبة ما بين السورتين، وأما مناسبة الأول للآخر فإنه تعالى لما أخبر في آخر تلك بتمام علمه وشمول قدرته، دل على ذلك أهل السبق من الفصاحة والفوت في البلاغة في أول هذه بما فعل في(10/3)
كلامه من أنه تعالى يقدر على أن يأتي بما تذهب الأفهام والعقول - على كرِّ الأزمان وتعاقب الدهور وتوالي الأيام وتمادي الليالي - في معناه كل مذهب وتطير كل مطار مع توفر الدواعي واستجماع القوى، ولا تقف من ذلك على أمر محقق ولا مراد معلوم وعلى أن يأتي بما يفهم بأوائل النظر أدنى معناه فهما يوثق بأنه مراد، ثم لا يزال يبرز منه من دقائق المعاني كلما كرر التأمل وتغلغل الفهم إلى حد يعلم أنه معجوز عن كل ما فيه من جليل معانيه ولطيف مبانيه فقال تعالى: {الر} قال الروماني: لم تعد الفواصل لأنها لا تشاكل رؤوس الآيات لأنها على حرفين، فأجريت مجرى الأسماء الناقصة، وإنما يؤم بالفواصل التمام، وأما «طه» فيعد لأنه يشبه رؤوس آيها - انتهى.
وهذا قول من ذهب سهواً إلى أن السجع مقصود في القرآن، وهو قول مردود غير معتد به كما مضى القول فيه في آخر سورة براءة، فإنه لا فرق بين نسبته إلى أنه شعر وبين نسبته إلى أنه سجع، لأن السجع صنع الكهان فيؤدي ذلك إلى ادعاء أنه كهانة وذلك كفر لا شك فيه، وقد أطنبت فيه في كتابي مصاعد النظر، وبينت مذاهب(10/4)
العادين للآيات وأن مرجعها التوقيف مثل نقل القراءات سواء - والله الهادي.
ولما ابتدئت السورة الماضية بأن هذا الكتاب محكم، وختمت بالحكمة المقصودة من قص أنباء الرسل، وكان السياق للرد عليهم في تكذيبهم به في قوله {أم يقولون افتراه} [سجدة: 3] ودل على أنه أنزل بعلمه، ابتدئت هذه لإتمام تلك الدالة بالإشارة إلى ما له من علو المحل وبعد الرتبة، فعقب سبحانه هذه المشكلة التي ألقاها بالأحرف المقطعة وبان أنها مع إِشكالها عند التأمل واضحة بقوله مشيراً إلى ما تقدم من القرآن وإلى هذه السورة: {تلك} أي الآيات العظيمة العالية {آيات الكتاب} أي الجامع لجميع المرادات.
ولما تقدم أول سورتي يونس وهود وصفة بالحكمة والإحكام والتفصيل، وصف هنا بأخص من ذلك فقال تعالى: {المبين*} أي البين في نفسه أنه جامع معجز لا يشتبه على العرب بوجه، والموضح لجميع ما حوى، وهو جميع المرادات لمن أمعن التدبر وأنعم التفكير، ولأنه من عند الله {ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه} [يوسف: 111] و {موعظه وذكرى للمؤمنين} [هود: 120] ؛ والبيان: إظهار المعنى للنفس بما يفصله(10/5)
عن غيره وهو غرض كل حكيم في كلامه، ويزيد عليه البرهان بأنه إظهار صحة المعنى بما يشهد به، وأبان - لازم متعد؛ ثم علل المبين بقوله معبراً بالإنزال لأنه في سياق تكذيبهم به بخلاف ما عبر فيه بالجعل كما يأتي في الزخرف: {إنا أنزلناه} بنون العظمة أي الكتاب المفسر بهذه السورة أو بالقرآن كله {قرآنا} سمي بعضه بذلك لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض {عربياً} وعلل إنزاله كذلك بقوله: {لعلكم تعقلون *} أي لتكونوا على رجاء من أن تكونوا من ذوي العقل أو من أن تعقلوا ما يراد منكم؛ قال: أبو حيان و «لعل» ترجّ فيه معنى التعليل.
وهذه الآية تدل على أن اللسان العربي أفصح الألسنة وأوسعها وأقوامها وأعدلها، لأن من المقرر أن القول - وإن خص بخطابه قوم - يكون عاماً لمن سواهم.
ولما بين أنه يقص عليه من أنباء الرسل ما يثبت به فؤاده، قال مثبتاً ومعللاً بأنه الكتاب بعلة أخرى مشاهدة هي أخص من الأول: {نحن نقص عليك} وعظم هذه القصة بمظهر العظمة وأكد ذلك بقوله تعالى: {أحسن القصص} أي الاقتصاص(10/6)
أو المقصوص بأن نتبع بعض الحديث كما نعلمه بعضاً فنبينه أحسن البيان - لأنه من قص الأثر - تثبيتاً لفؤادك وتصديقاً لنبوتك وتأييداً على أحسن ترتيب وأحكم نظام وأكمل أسلوب وأوفى تحرير وأبدع طريقة مع ما نفصلها به من جواهر الحكم وبدائع المعاني من الأصول والفروع، وهي قصة يوسف عليه السلام قصة طويلة هي في التوراة في نيف وعشرين ورقة لا يضبطها إلاّ حذاق أحبارهم، من تأمل اقتصاصها فيها أو في غيرها من تواريخهم ذاق معنى قوله تعالى {أحسن القصص} [يونس: 3] حتى لقد أسلم قوم من اليهود لما رأوا من حسن اقتصاصها، روى البيهقي في أواخر الدلائل بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن حبراً من اليهود دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم وكان قارئاً للتوراة فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف عليه السلام كما أنزلت على موسى عليه السلام في التوراة فقال له الحبر: يا محمد! من علمكها؟ قال: الله علمنيها، فرجع إلى اليهود فقال لهم: أتعلمون والله أن محمداً ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة! فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه، فجعلوا يستمعون إلى قراءته لسورة يوسف، فتعجبوا منه وقالوا: يا محمد! من علمكها؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علمنيها الله، فأسلم(10/7)
القوم عند ذلك» .
وقد ضمنها سبحانه من النكت والعبر والحكم أمراً عظيماً، وذكر فيها حسن مجاورة يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته وصبره على أذاهم وحلمه عنهم وإغضاءه عند لقائهم عن تبكيتهم وكرمه في العفو، والأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والإنس والجن والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء ومكرهن والتوحيد والنبوة والإعجاز والتعبير والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش وجميع الفوائد التي تصلح للدين والدنيا، وذكر الحبيب والمحبوب، ولم يدخل فيها شيئاً من غيرها دون سائر القصص، وكان عقابها إلى خير وسلامة واجتماع شمل وعفو من الله وتجاوز عن الكل {بما أوحينا} أي بسبب إيحائنا {إليك} .
ولما كان إنزال القرآن مجمع الخيرات، عين المراد بالإشارة واسم العلم فقال: {هذا القرآن} الذي قالوا فيه: إنه مفترى، فنحن نتابع فيه القصص بعد قصة بعد قصة والحكم حكمة في أثر حكمة حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر في أنه من عندنا وبإذننا ويكون أمره في البعد من اللبس أظهر من الشمس.
ولما كانوا مع معرفتهم به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عارفين بأنه كان(10/8)
مباعداً للعلم والعلماء، وكان فعلهم في التكذيب فعل من ينكر ذلك، قال: {وإن} أي وإن الشأن والحديث {كنت} ولما كان كونه لم يستغرق الزمان الماضي، أثبت الجار فقال: {من قبله} أي هذا الكتاب أو إيحائنا إليك به {لمن الغافلين} أي عن هذه القصة وغيرها، مؤكداً له بأنواع التأكيد، وهو ناظر إلى قوله آخرها {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} بعد التفاته عن كثب إلى آخر التي قبلها {وما ربك بغافل عما تعملون} والحسن: معنى يتقبله العقل ويطرق إلى طلب المتصف به أنواع الحيل، ومادة، غفل، بكل ترتيب تدور على الستر والحجب، من الغلاف الذي يوضع فيه الشيء فلا ينظر منه شيئاً ولا ينظره شيء ما دام فيه، ومنه الغفلة - للجلدة التي التي على الكمرة، والغفل - بالضم: ما لا علاقة له من الأرض، ودابة غفل، لا سمة لها، لأن عدم العلامة مؤدٍ إلى الجهل بها فكأنها في غلاف لا ينظر منه، ومنه رجل غفل: لا حسب عنده، لأن ذلك أقرب إلى جهله، والتغفل: الختل، أي أخذ الشيء من غير أن يشعر، فقد ظهر أن مقصود السورة وصف الكتاب بعد الحكمة والتفصيل بالإبانة عن جميع المقاصد المنزل لها؛ وقال الإمام ابو جعفر بن الزبير: هذه السورة من جملة ما قص(10/9)
عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أنباء الرسل وأخبار من تقدمه مما فيه التثبيت الممنوح في قوله سبحانه وتعالى {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود: 120] ومما وقعت الإحالة عليه في سورة الأنعام - كما تقدم - وإنما أفردت على حدتها ولم تنسق على قصص الرسل مع أنهم في سورة واحدة لمفارقة مضمونها تلك القصص، ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم الصلاة والسلام وكيفية تلقي قومهم لهم وإهلاك مكذبيهم، أما هذه القصة فحاصلها فرج بعد شدة وتعريف بحسن عاقبة الصبر، فإنه تعالى امتحن يعقوب عليه الصلاة والسلام بفقد ابنيه وبصره وشتات بنيه، وامتحن يوسف عليه الصلاة والسلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والإخوة والسجن، ثم امتحن جميعهم بشمول الضر وقلة ذات اليد
{مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا} [يوسف: 88] ثم تداركهم الله بالفهم وجمع شملهم ورد بصر أبيهم وائتلاف قلوبهم ورفع ما نزع به الشيطان وخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من كيد كاده واكتنافه بالعصمة وبراءته عند الملك والنسوه، وكل ذلك مما أعقبه جميل صبره وجلالة اليقين في حسن تلقي الأقدار بالتفويض والتسليم على توالي الامتحان وطول المدة، ثم انجرَّ في أثناء هذه القصة الجليلة إنابة(10/10)
امرأة العزيز ورجوعها إلى الحق وشهادتها ليوسف عليه الصلاة والسلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين، ثم استخلاص العزيز إياه - إلى ما انجرّ في هذه القصة الجليلة من العجائب والعبر {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف: 111] فقد انفردت هذه القصة بنفسها ولم تناسب ما ذكر من قصص نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم الصلاة والسلام وما جرى في أممهم، فلهذا فصلت عنهم، وقد أشار في سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضى وسلم ليتنبه المؤمنون على ما في طيّ ذلك، وقد صرح لهم مما أجملته هذه السورة من الإشارة في قوله تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} [النور: 55]- إلى قوله {آمنا} [النور: 55] وكانت قصة يوسف عليه الصلاة والسلام بجملتها أشبه شيء بحال المؤمنين في مكابدتهم في أول الأمر وهجرتهم وتشققهم مع قومهم وقلة ذات أيديهم إلى أن جمع الله شملهم {اذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} [آل عمران: 103] وأورثهم الله الأرض وأيدهم ونصرهم، ذلك بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم، فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص - والله أعلم، وأما تأخر ذكرها عنها فمناسب لحالها ولأنها إخبار بعاقبة من آمن واتعظ ووقف عند ما حد له، فلم يضره(10/11)
ما كان، ولم تذكر إثر قصص الأعراف لما بقي من استيفاء تلك القصص الحاصل ذلك في سورة هود؛ ثم إن ذكر أحوال المؤمنين مع من كان معهم من المنافقين وصبرهم عليهم مما يجب أن يتقدم ويعقب بهذه القصة من حيث عاقبة الصبر والحض عليه - كما مر، فأخرت إلى عقب سورة هود عليه الصلاة والسلام لمجموع هذا - والله تعالى أعلم؛ ثم ناسبت سورة يوسف عليه الصلاة والسلام أيضاً أن تذكر إثر قوله تعالى {إنّ الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114] ، وقوله {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} [هود: 115] وقول {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} -[هود: 118] الآية، وقوله {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون} [هود: 121] فتدبر ذلك، إما نسبتها للأولى فإن ندم إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام واعترافهم بخطاء فعلهم وفضل يوسف عليه الصلاة والسلام عليهم
{لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} [يوسف: 91] وعفوه عنهم {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم} [يوسف: 92] وندم امرأة العزيز وقولها {الآن حصحص الحق} [يوسف: 51]- الآية، كل هذا من باب إذهاب الحسنة السيئة، وكأن ذلك مثال(10/12)
لما عرف المؤمنون من إذهاب الحسنة السيئة؛ وأما نسبة السورة لقوله تعالى {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فإن هذا أمر منه سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على قومه، فأتبع بحال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام وما كان من أمرهما وصبرهما مع طول المدة وتوالى امتحان يوسف عليه الصلاة والسلام بالجب ومفارقة الأب والسجن حتى خلصه الله أجمل خلاص بعد طول تلك المشقات، ألا ترى قول نبينا وقد ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام فشهد له بجلالة الحال وعظيم الصبر فقال «» ولو لبثتُ في السجن ما لبث اخي يوسف لأجبت الداعي «فتأمل عذره له عليهما الصلاة والسلام وشهادته بعظيم قدر يوسف عليهما الصلاة والسلام {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود: 120] .
لما قيل له {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} [هود: 115] أتبع بحال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام من المحسنين {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} [الأنعام: 84]- إلى قوله {وكذلك نجزي المحسنين} [الأنعام: 84] وقد شملت الآية ذكر يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام، ونبينا عليه أفضل الصلاة والسلام قد أمر بالاقتداء في الصبر بهم، وقيل له {فاصبر(10/13)
كما صبر أولو العزم من الرسل} [الأحقاف: 35] ويوسف عليه الصلاة والسلام من أولي العزم؛ ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام - في صبرهما ورؤية حسن عاقبة الصبر في الدنيا مع ما أعد الله لهما من عظيم الثواب - أنسب شيء لحال نبينا عليه الصلاة والسلام في مكابدة قريش ومفارقة وطنه، ثم تعقب ذلك بظفره بعدوه وإعزاز دينه وإظهار كلمته ورجوعه إلى بلده على حالة قرت بها عيون المؤمنين وما فتح الله عليه وعلى أصحابه - فتأمل ذلك، ويوضح ما ذكرنا ختم السورة بقوله تعالى {حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاء نصرنا} [يوسف: 110] الآيه فحاصل هذا كله الأمر بالصبر وحسن عواقب أولياء الله فيه؛ وأما النسبة لقوله {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} [هود: 118] فلا أنسب لهذا ولا أعجب من حال إخوة فضلاء لأب واحد من أنبياء الله تعالى وصالحي عباده جرى بينهم من التشتت ما جعله الله عبرة لأولي الألباب؛ وأما النسبة لآية التهديد فبينة، وكأن الكلام في قوة {اعملوا على مكانتكم - وانتظروا} [هود: 121](10/14)
فلن نصبر عليكم مدة صبر يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام، فقد وضح بفضل الله وجهُ ورود هذه السورة عقب سورة هود - والله أعلم. انتهى.(10/15)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
ولما تم ما أراد تعالى من تعليل الوصف بالمبين أبدل من قوله «أحسن القصص» قوله: {إذ} أي نقص عليك خبر إذ، أي خبر يوسف إذ {قال يوسف} أي ابن يعقوب إسرائيل الله عليهما الصلاة والسلام {لأبيه} وبين أدبه بقوله - مشيراً بأداة البعد إلى أن أباه عالي المنزلة جداً، وإلى أن الكلام الآتي مما له وقع عظيم، فينبغي أن يهتم بسماعه والجواب عليه، وغير ذلك من أمره: {يأبت} تاءه للتأنيث لأنه يوقف عليها عند بعض القراء بالهاء، وكسرتها عند من كسر دالة على ياء الإضافة التي عوض عنها تاء التأنيث، واجتماع الكسرة معها كاجتماعها مع الياء، وفتحها عند من فتح عوض عن الألف القائمة مقام ياء الإضافة.
ولما كان صغيراً، وكان المنام عظيماً خطيراً، اقتضى المقام التأكيد فقال: {إني رأيت} أي في منامي، فهو من الرؤيا التي هي رؤية في المنام،(10/15)
فرق بين حال النوم واليقظة في ذلك بألف التأنيث {أحد عشر كوكباً} أي نجماً كبيراً ظاهراً جداً مضيئاً براقاً، وفي عدم تكرار هذه القصة في القرآن رد على من قال: كررت قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تمكيناً لفصاحتها بترادف السياق، وفي تكرير قصصهم رد على من قال: إن هذه لم تكرر لئلا تفتر فصاحتها، فكأن عدم تكريرها لأن مقاصد السور لم تقتض ذلك - والله أعلم.
ولما كان للنيرين اسمان يخصانهما هما في غاية الشهرة، قال معظماً لهما: {والشمس والقمر} ولما تشوفت النفس إلى الحال التي رآهم عليها، فكان كأنه قيل: على أيّ حال؟ وكانت الرؤيا باطن البصر الذي هو باطن النظر، فكان التعبير بها للإشارة إلى غرابة هذا الأمر، زاد في الإشارة إلى ذلك بإعادة الفعل، وألحقه ضمير العقلاء لتكون دلالته على كل من عجيب أمر الرؤيا ومن فعل المرتى الذي لا يعقل فعل العقلاء من وجهين فقيل: {رأيتهم لي}(10/16)
أي خاصة {ساجدين *} أجراهم مجرى العقلاء لفعل العقلاء. فكأنه قيل: ماذا قال له أبوه؟ فقيل: {قال} عالماً بأن إخوته سيحسدونه على ما تدل عليه هذه الرؤيا إن سمعوها {يابني} فبين شفقته عليه، وأكد النهي بإظهار الإدغام فقال: {لا تقصص رؤياك} أي هذه {على إخوتك} ثم سبب عن النهي قوله: {فيكيدوا} أي فيوقعوا {لك كيداً} أي يخصك، فاللام للاختصاص. وفي الآية دليل على أنه لا نهي عن الغيبة للنصيحة، بل هي مما يندب إليه؛ قال الرماني: والرؤيا: تصور المعنى في المنام على توهم الإبصار، وذلك أن العقل مغمور بالنوم، فإذا تصور الإنسان المعنى توهم أنه يراه؛ وقال الإمام الرازي في اللوامع: هي ركود الحواس الظاهرة عن الإدراك والإحساس، وحركة المشاعر الباطنة إلى المدارك، فإن للنفس الإنسانية حواسَّ ظاهرة ومشاعر باطنة، فإذا سكنت الحواس الظاهرة استعملت الحواس الباطنة في إدراك الأمور الغائبة، فربما تدركها على الصورة التي هي عليها، فلا يحتاج إلى تعبير، وربما تراها في صورة محاكية مناسبة لها فيحتاج إلى التعبير، مثال الأول رؤيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه دخل المسجد الحرام،(10/17)
والثاني كرؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام هذه.
وقال الرماني: والرؤيا الصادقة لها تأويل، والرؤيا الكاذبة لا تأويل لها - انتهى. وهذا لمن ينام قلبه وهم من عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولما كانت العادة جارية بأن شفقة الإخوة تمنع من مثل ذلك، علله تقريباً له بقوله: {إن الشيطان} أي المحترق المبعد {للإنسان} أي عامة ولا سيما الأكابر منهم {عدو مبين *} أي واضح العداوة وموضحها لكل واع فيوقع العداوة بما يخيله من فوت الحظوظ بتركها، وفي الآية دليل على أن أمر الرؤيا مشكل، فلا ينبغي أن تقص إلا على شفيق ناصح.(10/18)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
ولما علم يعقوب عليه الصلاة والسلام من هذه الرؤيا ما سيصير إليه ولده من النبوة والملك قال: {وكذلك} أي قد اجتباك ربك للإطلاع على هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز، ومثل ما اجتباك لها {يجتبيك} أي يختارك ويجمع لك معالي الأمور {ربك} المربي لك بالإحسان للملك والنبوة {ويعلمك من} أي بعض {تأويل الاحاديث} من الرؤيا وغيرها من كتب الله وسنن الأنبياء وغوامض ما تدل عليه المخلوقات الروحانية والجسمانية،(10/18)
لأن الملك والنبوة لا يقومان إلا بالعلم والتأويل المنتهي الذي يصير إليه المعنى، وذلك فقه الحديث الذي هو حكمة لأنه إظهار ما يؤول إليه أمره مما عليه معتمد فائدته، وأكثر استعماله في الرؤيا {ويتم نعمته} بالنبوة {عليك} بالعدل ولزوم المنهج السوي {وعلى آل يعقوب} أي جميع إخوتك ومن أراد الله من ذريتهم، فيجعل نعمتهم في الدنيا موصولة بنعمة الآخرة، لأنه عبر عنهم في هذه الرؤيا بالنجوم المهتدي بها، ولا يستعمل الآل إلا فيمن له خطر وشرف، وإضافته مقصورة على إعلام الناطقين، قال الراغب: وأما آل الصليب إن صح نقله فشاذ، ويستعمل فيمن لا خطر له الأهل {كما أتمها على أبويك} .
ولما كان وجودهما لم يستغرق الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي من قبل هذا الزمان؛ ثم بين الأبوين بجده وجد أبيه فقال: {إبراهيم} أي بالخلة وغيرها من الكرامة {و} ولده {إسحاق} بالنبوة وجعل الأنبياء والملوك من ولده، وإتمام النعمة: الحكم بدوامها على خلوصها من شائب فيها بنقصها.
ولما كان ذلك لا يقدر عليه إلا بالعلم المحيط بجميع الأسباب ليقام منها ما يصلح، والحكمة التي بها يحكم ذلك السبب عن أن(10/19)
يقاومه سبب غيره، وكان السياق بالعلم أولى لما ذكر من علم التأويل مع ما تقدم من قوله آخر تلك {ولله غيب السماوات والأرض} [هود: 123] الآية وما شاكل ذلك أول هذه، قال: {إن ربك عليم} أي بليغ العلم {حكيم *} أي بليغ الحكمة، وهي وضع الأشياء في أتقن مواضعها.
ولما كان ذلك، توقع السامع له ما يكون بينه وبين إخوته هل يكتمهم الرؤيا أو يعلمهم بها؟ وعلى كلا التقديرين ما يكون؟ فقال جواباً لمن كأنه قال: ما كان من أمرهم؟ - مفتتحاً له بحرف التوقع والتحقيق بعد لام القسم تأكيداً للأمر وإعلاماً بأنه على أتقن وجه -: {لقد كان} أي كوناً هو في أحكم مواضعه {في يوسف وإخوته} أي بسبب هذه الرؤيا وما كان من تأويلها وأسباب ذلك {آيات} أي علامات عظيمة دالات على وحدانية الله تعالى ونبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغير ذلك مما تضمنته القصة {للسائلين *} أي الذين يسألون عنها من قريش واليهود وغيرهم، وآيات عظمة الله وقدرته في تصديق رؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام ونجاته ممن كاده وعصمته(10/20)
وإعلاء أمره، والمراد بإخوته هنا العشرة الذين هم من أبيه وهم: روبيل وشمعان - بمعجمة أوله، ولاوي، ويهوذا، وزيلون - بزاي وموحدة، وإيساخار، بهمزة مكسورة وتحتانية وسين مهملة وخاء معجمة، ودان - بمهملة، وجاد بجيم.
بينها وبين الكاف، وآشير - بهمزة ممدودة وشين معجمة ثم تحتانية ومهملة. ونفتالي - بنون مفتوحة وفاء ساكنة ومثناة فوقانية ولام بعدها ياء. وشقيقه بنيامين - بضم الموحدة، هكذا ذكرهم في التوراة، وحررت التلفظ بهم من العلماء بها، وقد تقدم ذلك في البقرة بزيادة. والآية: الدلالة على ما كان من الأمور العظيمة، ومثلها العلامة والعبرة، والحجة أخص منها، لأنها معتمد البينة التي توجب الثقة بصحة المعنى الذي فيه أعجوبة.
ولما تقرر ذلك، ابتدأ بذكر الآيات الواقعة في ظرف هذا الكون فقال: {إذ قالوا} أي كان ذلك حين قال الإخوة بعد أن قص الرؤيا عليهم وسوّل لهم الشيطان - كما ظن يعقوب عليه الصلاة والسلام - مقسمين دلالة على غاية الاهتمام بهذا الكلام، وأنه مما حركهم غاية التحريك،(10/21)
أو هي لام الابتداء المؤكدة المحققة لمضمون الجملة {ليوسف وأخوه} أي شقيقه بنيامين {أحب} وحددا لأن أفعل ما يستوي فيه الواحد وما فوقه مذكراً كان أو مؤنثاً إذا لم يعرف أو يضف {إلى أبينا منا} أي يحبهما أكثر مما يحبنا؛ والحب: ميل يدعو إلى إرادة الخير والنفع للمحبوب بخلاف الشهوة، فإنها ميل النفس ومنازعتها إلى ما فيه لذتها {و} الحال أنا {نحن عصبة} أي أشداء في أنفسنا ويشد بعضنا بعضاً، وأما هما فصغيران لا كفاية عندهما؛ والعصبة من العشرة إلى الأربعين، فكأنه قيل: فكان ماذا؟ - على تقدير أن يكونا أحب إليه، فقالوا مؤكدين لأن حال أبيهما في الاستقامة والهداية داع إلى تكذيبهم: {إن أبانا لفي ضلال} أي ذهاب عن طريق الصواب في ذلك {مبين *} حيث فضلهما علينا، والقرب المقتضي للحب في كلنا واحد، لأنا في البنوة سواء، ولنا مزية تقتضي تفضيلنا، وهي أنا عصبة، لنا من النفع له والذب عنه والكفاية ما ليس لهما؛ قال الإمام أبو حيان: وأحب أفعل التفضيل، وهو مبني من المفعول(10/22)
شذوذاً، ولذلك عدي ب «إلى» لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلاً من حيث المعنى عدي إليه ب «إلى» وإذا كان مفعولاً عدي إلية ب «في» ، تقول زيد أحب إلى عمرو من خالد، فالضمير في «أحب» مفعول من حيث المعنى، وعمرو هو المحب، وإذا قلت: زيد أحب في عمرو من خالد، كان الضمير فاعلاً وعمرو هو المحبوب، ومن خالد - في المثال الأول محبوب، وفي المثال الثاني فاعل، قال: والضلال هنا هو الهدى - قاله ابن عباس رضي الله عنهما - انتهى.(10/23)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
ولما كان ذلك، وكان عندهم أن الشاغل الأعظم لأبيهم عنهم إنما هو حب يوسف عليه الصلاة والسلام، وحب أخيه إنما هو تابع، كان كأنهم تراجعوا فيما بينهم فقالوا: قد تقرر هذا، فما أنتم صانعون؟ فقالوا أو ما شاء الله منهم: {اقتلوا يوسف} أصل القتل: إماتة الحركة بالسكون {أو اطرحوه أرضاً} أوصلوا الفعل بدون حرف ونكروها دلالة على أنها منكورة مجهولة بحيث يهلك فيها، وعنى قائلهم بذلك: إن تورعتم عن مباشرة قتله بأيديكم.
ولما كان التقدير: إن تفعلوا ذلك، أجابه بقوله: {يخل لكم} أي خاصاً بكم {وجه أبيكم} أي قصده لكم وتوجهه إليكم وقصدكم(10/23)
ونيتكم. ولما كان أهل الدين لا يهملون إصلاح دينهم لأنه محط أمرهم، قالوا: {وتكونوا} أي كوناً هو في غاية التمكن، ولما كانوا عالمين بأن الموت لا بد منه. فهو مانع من استغراقهم للزمان الآتي، أدخلوا الجار فقالوا: {من بعده} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {قوماً} أي ذوي نشاط وقوة على محاولة الأمور {صالحين} أي عريقين في وصف الصلاح مستقيمين على طريقة تدعو إلى الحكمة بوقوع الألفة بينكم واستجلاب محبة الوالد بالمبالغة في بره وبالتوبة من ذنب واحد يكون سبباً لزوال الموجب لداء الحسد الملزوم لذنوب متصلة من البغضاء والمقاطعة والشحناء، فعزموا على التوبة قبل وقوع الذنب فكأنه قيل: إن هذا لمن أعجب العجب من مطلق الأقارب فضلاً عن الإخوة، فماذا قالوا عند سماعه؟ فقيل: {قال} ولما كان السياق لأن الأمر كله لله، فهو ينجي من يشاء بما يشاء، لم يتعلق القصد ببيان الذي كانت على يده النجاة، فقال مبهماً إشعاراً بأنه يجب قول النصح من أيّ قائل كان، وأن الإنسان لا يحقر نفسه في بذل النصح على أيّ حال كان: {قائل} ثم عينه بعض التعيين فقال: {منهم} أي إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام {لا تقتلوا يوسف} لا بأيديكم ولا بالإلقاء في المهالك، فإن القتل أكبر الكبائر بعد الشرك، وكأنه لم يكن في ناحيتهم تلك غير جب واحد فعرفه فقال: {وألقوه} وكأنه كان فيه ماء(10/24)
ومكان يمكن الاستقرار فيه ولا ماء به، فأراده بقوله: {في غيابت الجب} أي غوره الغائب عن الأعين، فإن ذلك كافٍ في المقصود، وإنكم إن تفعلوا {يلتقطْهُ بعض السيارة} جمع سيار، وهو المبالغ في السير، هذا {إن كنتم} ولا بد {فاعلين *} ما أردتم من تغييبه عن أبيه ليخلو لكم وجهه؛ والجب: البئر التي لم تطو، لأنه قطع عنها ترابها حتى بلغ الماء، وعن أبي عمرو: إن هذا كان قبل أن يكونوا أنبياء، فكأنه قيل: إن هذا لحسن من حيث إنه صرفهم عن قتله، فهل استمروا عليه أو قام منهم قائم في استنزالهم عنه بعاطفة الرحم وود القرابة؟ فقيل: بل استمروا لأنهم {قالوا} إعمالاً للحيلة في الوصول إليه، مستفهمين على وجه التعجب لأنه كان أحس منهم الشر، فكان يحذرهم عليه {يا أبانا ما لك} أيّ أي شيء لك في حال كونك {لا تأمنا على يوسف و} الحال {إنا له لناصحون *} والنصح دليل الأمانة وسببها، ولهذا قرنا في قوله
{ناصح أمين} [الأعراف: 68] والأمن: سكون النفس إلى انتفاء الشر، وسببه طول الإمهال في الأمر الذي يجوز قطعة بالمكروة فيقع الاغترار بذلك الإمهال من الجهال، وضده الخوف، وهو(10/25)
انزعاج النفس لما يتوقع من الضر؛ والنصح: إخلاص العمل من فساد يتعمد، وضده الغش، وأجمع القراء على حذف حركة الرفع في تأمن وإدغام نونه بعد إسكانه تبعاً للرسم، بعضهم إدغاماً محضاً وبعضهم مع الإشمام، وبعضهم مع الروم، دلالة على نفي سكون قلبه عليه عليهما الصلاة والسلام بأمنه عليه منهم على أبلغ وجه مع أنهم أهل لأن يسكن إليهم بذلك غاية السكون، ولو ظهرت ضمة الرفع عند أحد من القراء فات هذا الإيماء إلى هذه النكتة البديعة.(10/26)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
ولما كان هذا موضع أن يقال: لأيّ غرض يكون ذلك؟ قالوا في جوابه: {أرسله معنا غداً} إلى مرعانا، إن ترسله معنا {يرتع} أي نأكل ونشرب في الريف ونتسع في الخصب {ويلعب} أي نعمل ما تشتهي الأنفس من المباحات تاركين الجد، وهو كل ما فيه كلفة ومشقة، فإن ذلك له سار {وإنا له لحافظون *} أي بليغون في الحفظ؛ قال أبو حيان: وانتصب {غداً} على الظرف، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد، وأصل غد غدو، فحذفت لامه - أنتهى. فكأنه قيل: ماذا(10/26)
قال لهم؟ فقيل: {قال} ما زاد صدورهم توغراً لأن ما قالوه له هو بحيث يسر به لسرور يوسف عليه الصلاة والسلام به {إني ليحزنني} أي حزناً ظاهراً محققاً - بما أشار إليه إظهار النون وإثباته لام الابتداء {أن تذهبوا به} أي يتجدد الذهاب به مطلقاً - لأني لا أطيق فراقه - ولا لحظة، وفتح لهم باباً يحتجون به عند فعل المراد بقوله جامعاً بين مشقتي الباطن، والبلاء - كما قالوا - مؤكل بالمنطق: {وأخاف} أي إذا ذهبتم به واشتغلتم بما ذكرتم {أن يأكله الذئب} أي هذا النوع كأنه كان كثيراً بأرضهم {وأنتم عنه} أي خاصة {غافلين *} أي عريقون في الغفلة لإقبالكم على ما يهمكم من مصالح الرعي؛ والحزن: ألم القلب مما كان من فراق المحبوب، ويعظم إذا مان فراقه إلى ما يبغض؛ والأكل: تقطيع الطعام بالمضغ الذي بعده البلع؛ فكأنه قيل: إن تلقيهم لمثل هذا لعجب، فماذا قالوا؟ فقيل: {قالوا} مجيبين عن الثاني بما يلين الأب لإرساله، مؤكدين ليطيب خاطره، دالين على القسم بلامه: {لئن أكله الذئب ونحن} أي والحال أنا {عصبة} أي أشداء تعصب بعضنا لبعض؛ وأجابوا القسم بما أغنى عن جواب الشرط: {إنا إذاً} أي إذا كان هذا {لخاسرون *} أي كاملون(10/27)
في الخسارة لأنا إذا ضيعنا أخانا فنحن لما سواه من أموالنا أشد تضييعاً؛ وأعرضوا عن جواب الأول لأنه لا يكون إلا بما يوغر صدره ويعرف منه أنهم من تقديمه في الحب على غاية من الحسد لا توصف، وأقله أن يقولوا: ما وجه الشح بفراقه يوماً والسماح بفراقنا كل يوم، وذلك مما يحول بينهم وبين المراد، فكأنه قيل: إن هذا الكيد عظيم وخطب جسيم، فما فعل أبوهم؟ فقيل: أجابهم إلى سؤلهم فأرسله معهم {فلما ذهبوا} ملصقين ذهابهم {به وأجمعوا} أي كلهم، وأجمع كل واحد منهم بأن عزم عزماً صادقاً؛ والإجماع على الفعل: العزم عليه باجتماع الدواعي كلها {أن يجعلوه} والجعل: إيجاد ما به يصير الشيء على خلاف ما كان عليه، ونظيره التصيير والعمل {في غيابت الجب} فعلوا ذلك من غير مانع، ولكن لما كان هذا الجواب في غاية الوضوح لدلالة الحال عليه ترك لأنهم إذا أجمعوا عليه علم أنهم لا مانع لهم منه؛ ثم عطف على هذا الجواب المحذوف لكونه في قوة الملفوظ قوله: {وأوحينا} أي بما لنا من العظمة {إليه} أي إلى يوسف عليه الصلاة والسلام.
ولما كان في حال النجاة منها بعيدة جداً، أكد له قوله:(10/28)
{لتنبئنهم} أي لتخبرنهم إخباراً عظيماً على وجه يقل وجود مثله في الجلالة {بأمرهم هذا} أي الذي فعلوه بك {وهم لا يشعرون} - لعلو شأنك وكبر سلطانك وبعد حالك عن أوهامهم، ولطول العهد المبدل للهيئات المغير للصور والأشكال - أنك يوسف - قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن وابن جريج على ما نقله الرماني؛ والشعور: إدراك الشيء مثل الشعرة في الدقة، ومنه المشاعر في البدن، وكان يوسف عليه الصلاة والسلام حين ألقوه في الجب ابن اثنتي عشرة سنة - قاله الحسن، قالوا: وتصديق هذا أنهم لما دخلوا عليه ممتارين دعا بالصواع فرضعه على يديه ثم نقره فطن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، وكان أبوكم يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم: أكله الذئب.(10/29)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
ولما كان من المعلوم أنه ليس بعد هذا الفعل إلا الاعتذار، عطف(10/29)
على الجواب المقدر قوله: {وجاؤوا أباهم} دون يوسف عليه الصلاة والسلام {عشاء} في ظلمة الليل لئلا يتفرس أبيهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضد ما جاؤوا به من الاعتذار، وقد قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار. والآية دالة على أن البكاء لا يدل على الصدق لاحتمال التصنع {يبكون *} والبكاء: جريان الدمع في العين عند حال الحزن، فكأنه قيل: إنهم إذا بكوا حق لهم البكاء خوفاً من الله وشفقة على الأخ، ولكن ماذا يقولون إذا سألهم أبوهم عن سببه؟ فقيل: {قالوا ياأبانا} .
ولما كانوا عالمين بأنه عليه الصلاة والسلام لا يصدقهم لما له من نور القلب وصدق الفراسة ولما لهم من الريبة، أكدوا فقالوا: {إنا ذهبنا نستبق} أي نوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منا في ذلك {وتركنا يوسف} أخانا {عند متاعنا} أي ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحوه {فأكله} أي فتسبب عن انفراده أن أكله {الذئب وما} أي والحال أنك ما {أنت بمؤمن لنا} أي من التكذيب، أي بمصدق {ولو كنا} أي كوناً هو جبلة لنا {صادقين *} أي من أهل الصدق والأمانة بعلمك،(10/30)
لأنك لم تجرب علينا قط كذباً، ولا حفظت عنا شيئاً منه جداً ولا لعباً.
ولما علموا أنه لا يصدقهم من وجوه منها ما هو عليه من صحة الفراسة لنور القلب وقوة الحدس، ومنها أن الكذب في نفسه لا يخلو عن دليل على بطلانه، ومنها أن المرتاب يكاد يعرب عن نفسه، أعملوا الحيلة في التأكيد بما يقرب قولهم. فقال تعالى حاكياً عنهم: {وجاؤوا على قميصه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {بدم كذب} أي مكذوب، أطلق عليه المصدر مبالغة لأنه غير مطابق للواقع، لأنهم ادعوا أنه دم يوسف عليه الصلاة والسلام والواقع أنه دم سخلة ذبحوها ولطخوه بدمها - نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن مجاهد. قال: والدم: جسم أحمر سيال، من شأنه أن يكون في عروق الحيوان، وله خواص تدرك بالعيان من ترجرج وتلزج وسهوكة، وروي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أخذ القميص منهم وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق قميصه، وكان(10/31)
القميص ثلاث آيات: دلالته على كذبهم، ودلالته على صدق يوسف عليه الصلاة والسلام في قده من دبر، وعود البصر إلى أبيه به، فكأنه قيل: هل صدقهم؟ فقيل: لا! لأن العادة جرت في مثله أنه لا يأكله كله، فلا بد من أن يبقى منه شيء يعرف معه أنه هو، ولو كان كذلك لأتوا به تبرئة لساحتهم وليدفنوه في جبانتهم مع بقية أسلافهم، وقد كان قادراً على مطالبتهم بذلك، ولكنه علم أنهم ما قالوا ذلك إلا بعد عزم صادق على أمور لا تطاق، فخاف من أن يفتح البحث من الشرور أكثر مما جاؤوا به من المحذور، بدليل قوله بعد ذلك
{فتحسسوا من يوسف وأخيه} [يوسف: 87] ونحو ذلك، فكأنه قيل: فماذا قال؟ فقيل: {قال بل} أي لم يأكله الذئب، بل {سولت} أي زينت وسهلت، من السول وهو الاسترخاء {لكم أنفسكم أمراً} أي عظيماً أبعدتم به يوسف {فصبر} أي فتسبب عن ذلك الفادح العظيم أنه يكون صبر {جميل} منى، وهو الذي لا شكوى معه للخلق {والله} أي المحيط علماً وقدرة {المستعان} أي المطلوب منه العون {على} احتمال {ما تصفون *} من هلاك يوسف عليه الصلاة والسلام، ولا يقال: إنهم بهذا أجمعوا أوصاف المنافق «إذا وعد(10/32)
أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان» لأن هذا وقع منهم مرة، والمنافق يكون ذلك فعله دائماً أو في أغلب أحواله، ومادتا سول بتقاليبها الخمسة: ولس وسلاً ووسل ولوس وسول، وسيل بتقاليبها الخمسة: لسي ويسل وسيل وسلي وليس، تدوران على ما يطمع فيه من المراد، ويلزمه رغد العيش والزينة وبرد القلب والشدة والرخاوة والعلاج والمخادعة والملازمة، فمن الرجاء للمراد: السول - بالواو، وقد يهمز، وهو المطلوب؛ والوسيلة: الدرجة والمنزلة عند الملك، قال القزاز: وقيل: توسلت وتوصلت - بمعنى، والوسيلة: الحاجة، ووسل فلان - إذا طلب الوسيلة؛ واللؤس: الظفر؛ ومن العمل والعلاج: توسل بكذا - أي تقرب، واللوس: الأكل، ولاس الشيء في فيه بلسانه - إذا أداره، وولست الناقة في مشيتها تلس ولساناً: تضرب من العنق؛ ومن رغد العيش: فلان في سلوة من العيش، أي رغد يسليه الهم، ومنه السلوى، وهي طائر معروف، وهي أيضاً العسل، وأسلي القوم: إذا أمنوا السبع:(10/33)
ومن الزينة: سولت له نفسه كذا، أي زينته فطلبه؛ ومن برد القلب: سلوت عن الشيء: إذا تركه قلبك وكان قد صبا به، وسقيتني منك سلوة، أي طيبت نفسي عنك، والليس - محركاً: الغفلة، والأليس: الديوث لا يغار، والحسن الخلق، وتلايس عنه: أغمض؛ ومن الرخاوة: السلي الذي يكون فيه الولد، وهو يائي تقول منه: سليت الشاة كرضى سلي: انقطع سلاها، ومنه السول، وهو استرخاء في مفاصل الشاة، والسحاب الأسول: الذي فيه استرخاء لكثرة مائه، والأسول: المسترخي، ومنه: ليس أخت كان - لأن الشيء إذا زاد في الرخاوة ربما عد عدماً، ومنه: سال - بمعنى: جرى، والسائلة من الغرر: المعتدلة في قصبة الأنف، وأسال غرار النصل: أطاله، والسيلان - بالكسر: سنخ قائم السيف، والسيالة: نبات له شوك أبيض طويل، إذا نزع خرج منه اللبن، أو ما طال من السمر؛ ومن المخادعة: الولس، وهي الخيانة، والموالسة: المداهنة، والتوسل: السرقة؛ ومن اللزوم: الليس - محركاً والمتلايس: البطيء، وهو أيضاً من الرخاوة، والأليس: من لا يبرح منزله؛ ومن الشدة:(10/34)
الليس - محركاً وهو الشجاعة، وهو أليس، والأليس: البعير يحمل ما حمل، والأسد، ووقعوا في سلي جمل: أمر صعب، لأن الجمل لا سلي له، وانقطع السلي في البطن مثل كبلغ السكين العظم، ويمكن أن يكون من الشدة أيضاً: اليسل - بفتح وسكون - وهم يد أي جماعة من قريش الظواهر، والبسل - بالباء الموحدة: اليد الأخرى، ولسا: أكل أكلاً شديداً.(10/35)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
ولما تم أمرهم هذا وشبوا على أبيهم عليه السلام نار الحزن، التفتت النفس إلى الخبر عن يوسف عليه الصلاة والسلام فيما أشار إليه قوله: {لتنبئنهم} [يوسف: 15] الآية، فقال تعالى مخبراً عن ذلك في أسبابه: {وجاءت سيارة} أي قوم بليغو السير إلى الأرض التي ألقوا يوسف عليه الصلاة والسلام في جبها {فأرسلوا واردهم} أي رسولهم الذي يرسلونه لأجل الإشراف على الماء إلى الجب ليستقي لهم {فأدلى} فيه {دلوه} أي أرسلها في البئر ليملأها - وأما «دلى» فأخرجها ملأى - فاستمسك بها يوسف عليه الصلاة والسلام فأخرجه، فكأنه(10/35)
قيل: ماذا قال حين أدلى للماء فتعلق يوسف بالحبل فأطلعه فإذا هو بإنسان أجمل ما يكون؟ فقيل: {قال} أي الوارد يعلم أصحابه بالبشرى {يابشرى} أي هذا أوانك فاحضري، فكأنه قيل: لم تدعوا البشرى؟ فقال: {هذا غلام} فأتى به إلى جماعته فسروا به كما سر {وأسروه} أي الوارد وأصحابه {بضاعة} أي حال كونه متاعاً بزعمهم يتجرون فيه {والله} أي المحيط علماً وقدرة {عليم} أي بالغ العلم {بما يعملون *} وإن أسروه؛ قال أبو حيان ونعم ما قال: وتعلقه بالحبل يدل على صغره إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالباً، ولفظة «غلام» ترجع ذلك إذ تطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة، وقد تطلق على الرجل الكامل - انتهى.
ولما كان سرورهم به - مع ما هو عليه من الجمال والهيبة والجلال - مقتضياً لأن ينافسوا في أمره ويغالوا بثمنه، أخبر تعالى أنهم لم يفعلوا ذلك ليعلم أن جميع أموره على نسق واحد في خرقها(10/36)
للعوائد فقال: {وشروه} أي تمادي السيارة ولجوا في إسرارهم أياه بضاعة حتى باعوه من العزيز، ولمعنى التمادي عبر ب «شرى» دون «باع» ، ويمكن أن يكون «شرى» بمعنى اشترى، أي واشتراه السيارة من إخوته {بثمن} وهو البدل من الذهب أو الفضة، وقد يقال على غيره تشبيهاً به {بخس} أي قليل، ومادة «شرى» - يائية بتقاليبها الثلاثة: شرى، وشير، وريش، وواويه بتراكيبها الستة: شور، وشرو، ووشر، وورش، ورشو، وروش، ومهموزة بتراكيبها الثلاثة: أرش، وأشر، ورشأ - تدور على اللجاجة، وهي التمادي في الانتشار، ويلزمه تبيين ذلك الأمر، ويلزمها القوة تارة والضعف أخرى، فمن مطلقة: شريت الشيء، بمعنى ملكته بالبيع، وشريته، بمعنى: أزلت ملكي عنه به، وكذا اشتريت فيهما، والاسم الشراء بالمد ويقصر، فحصل التمادي والانتشار تارة بالإزالة وتارة بالتحصيل، وكل من ترك شيئاً وتمسك بغيره فقد اشتراه، وشاراه مشاراه: بايعه، وشروى الشيء: مثله واوه مبدلة من ياء كأنه مأخوذ من بدل المبيع لأنه يتحرى فيه المماثلة، وهو أوسع مما لم يوجد له مثل، وشرى(10/37)
البرق: استطار، وزيد: غضب ولج حتى استطار غضباً، والفرس في سيره: بالغ، واستشرى الرجل: لج، والبرق: لمع، والمشاراة: الملاّحة والمجادلة والمبايعة، والشرية - كغنية: الطريقة والطبيعة، وكأن هذا أصل المعنى الذي عنه تفرعت أغصانه، لأن الطبع مظنة الدجاج، وشرى الثوب واللحم والإقط: شررها، أي وضعها على خصفة أو غيرها منشورة لتجف، وشرى فلاناً: سخر به أو أرغمه، كأنه تمادى معه حتى قهره، وشرى بنفسه عن القوم: تقدم بين أيديدهم فقاتل عنهم، أو إلى السلطان فتكلم عنهم، والشرى - كعلي: الجبل - لانتشاره علواً، والطريق - للانتشار فيه، وطريق بسلمى كثيرة الأسد، وجبل بتهامه كثير السباع - لانتشارها فيه أو لأن الساتر فيه أقوى الناس وألجهم، وجبل بنجد لطيىء، والناحية، ويمد، وأشراه: ملاه، وأماله - لما يلزم من انتشار ما فيه، وأشرى الجمل: تفلقت عقيقته، أي صوفه، وبينهم: أغرى، وشرى البعير في سيره؛ أسرع،(10/38)
وشرى الفرس في لجامه - إذا جذبه، والشرية كغنية: من النساء اللاتي يلدن الإناث، كأنها تمادت في الميل مع طبعها: الأنوثة، فلجت فيه، أو هو راجع إلى الضعف اللازم للحاجة، والمشتري: نجم لتلألؤه، وطائر - للمعه بجناحه وانتشاره، واشرورى: اضطرب، وشرى زمام الناقة: كثر اضطرابه، هو من الانتشار ومن الضعف، واستشرت الأمور: تفاقمت وعظمت، وشرى جلده: أصابه بثور صغار حمر حكاكة مكربة تحدث دفعة غالباً وتشتد ليلاً، كأنها سميت لانتشارها في جميع البدن وقوتها، وتشرى القوم: افترقوا، وتشرى السحاب: تفرق، والشرى: شجر الحنظل أو الحنظل نفسه، والنخل ينبت من النواة، كأنه لنباته بغير سبب آدمي لجوج، والشريان من شجر القسي، كأنه لقوته ونشره السهام إذا رميت عنه، وواحد الشرايين للعروف النابضة، لقوتها وانتشارها؛ وشيار - بالكسر: يوم السبت، لأنه أول يوم ابتدئت فيه(10/39)
الخلائق، فكأنها انتشرت عنه؛ والريش بالكسر - من الطائر معروف كالراش - لأنه منتشر في جميع بدنه، وله قوة نشره متى شاء، وهو سبب صلاحه وقوته على الانتشار في الهواء، ومنه الريش والرياش: اللباس الفاخر، والخصب والمعاش، وذات الريش: نبات كالقيصوم، وراش الصديق: أطعمة وسقاه وكساه وأصلح حاله، وكلاً ريش - كهين وهيّن: كثير الورق، والريش - محركاً: كثرة الشعر في الأذنين والوجه، والمريش - كمعظم: البعير الأزب، ورشت السهم: فوقته، أي ألزقت عليه الريش عند فوقه، فكان له بذلك قوة الانتشار، ورمح راش: خوار شبه بالريش صعفاً، والمريش: الرجل الضعيف الصلب، وهو أيضاً: البرد الموشى، لتلونه كالريش، وهو أيضاً: القليل اللحم، وناقة مريشة: قليلة اللحم، لأن ذلك أقوى لها على(10/40)
السير، والمريش أيضاً: الهودج المصلح بالقد، لأن ذلك سبب قوته، وهو له كالريش والعصب، والشوار والشورة والشارة: الحسن والجمال والهيئة واللباس والسمن والزينة، واستشار فلان: لبس لباساً حسناً، كأنه من الريش، ولأنها ملزومة اللجاج والانتشار غالباً، واستشارات الإبل وأخذت مشوارها: سمنت، والمشوار - بالكسر: المكان تعرض فيه الدواب، وشارها: راضها، أي انتشر بها لتقوى على ما يراد منها، وشار العسل واستشاره: استخرجه من الوقبة - للمبالغة في ذلك، والشرو - مقدّم الراء بالفتح ويكسر: العسل، والمشوار: ما شاره به، وما أبقت الدابة من علفها - معرب، كأنه شبه بما يبقى من مشار العسل مما لا يعتد به، أو أصله: نشوار - بالنون، فأبدلت منها الميم لتقاربهما، فإن كان كذلك فهو نشر، والشوار - مثلثة: متاع البيت، لانتشاره فيه، وذكر الرجل وخصياه واسته، لما ينتشر من كل منها، وشور بفلان: فعل به فعلاً يستحي منه، كأنه لج في ذلك حتى قطع انتشاره في الاعتذار، وتشور الرجل: خجل،(10/41)
كأنه مطاوع شوّرته، وشور إليه: أومأ كأشار - لنشر ما أشار به، وأشار النار: رفعها، والشوران: العصفر - للمعه، وجبل قرب عقيق المدينة، فيه مياه سماء كثيرة، لقوته على إمساكها وقوة من يقيم فيه بها على الانتشار فيه، وخيل شياء: سمان حسان، والشورة - بالضم الناقة السمينة، لقوتها على الانتشار، وبالفتح: الخجلة، لانتشارها وعلوها، وأشرت عليه بكذا: أمرته للانتشار في الكلام قبل الإشارة للوقوع على الرأي، والاسم: المشورة، أو هو من الإشارة التي هي تحريك اليد أو الحاجب ونحوهما نحو المشار إليه، والرشوة - مثلثة: الجعل، ورشاه: أعطاه إياها، فنشره للفعل، ولا يفعل ذلك إلا من لج في الأمر، ويمكن رده إلى الضعف، والرائش: السفير بين الراشي والمرتشي، واسترشى: طلب الرشوة، والفصيل: طلب الرضاع، وأرشية اليقطين والحنظل: خيوطهما،(10/42)
لانتشارها، وشبهها بالرشاء - بالكسر والمد، وهو الحبل، والرشى كغنى، الفصيل والبعير يقف فيصيح الراعي: ارشه ارشه، أو أرشه أرشه، فيحك خورانه، أي مبعره بيده فيعدو، وقال ابن فارس: والخوران: مجرى الروث في الدابة، وأرشى: فعل ذلك، والقوم في دمه: شركوا، لأن ذلك انتشار، وبسلاحهم فيه: أشرعوه، والرشاة: نبت يشرب للمشي؛ ومن مهموزه: رشأ: جامع، ولا ألج من المتهيىء للجماع، وفيه الانتشار أيضاً، ورشأت الظبية: ولدت، والرشأ - بالتحريك اسم للظبي إذا قوي ومشى مع أمه، فيكون حينئذ أهلاً للانتشار واللجاج في الجري، والرشأ أيضاً: شجرة تسمو فوق القامة، وعشبة كالقرنوة، بالقاف، كأنها شديدة الحرافة فشبهت باللجوج، لأن القرنوة يدبغ بها - انتهى المهموز.
ووشر الخشبة بالميشار - غير مهموز، لغة في: أشرها - إذا نشرها، أي فرقها باثنين أو أكثر، والوشر أيضاً: تحديد المرأة أسنانها وترقيقها،(10/43)
وهو من القوة واللمعان والتفريق، والمؤتشرة التي تسأل أن يفعل بها ذلك، وموشر العضدين - ويهمز: الجعل، لأن أعضاده كالمنشرة حزوزاً؛ ومن مهموزه: أشر - بالكسر، أي مرح، أي ازدرى الخلق وعاملهم معاملة المستهين بهم، فظلمهم ولج في عتوه، وناقة مئشير: نشيطة، وأشر الاسنان: تحزيزها - تشبيهاً لها بأسنان المئشار الذي يقطع به الخشب ونحوه قطعاً سريعاً، فهو كفعل اللجوج - انتهى المهموز؛ وورش الطعام: تناوله وأكل شديداً حريصاً، وطمع وأسف لمداق الأمور، لأن ذلك لا يكون إلا عن تمادٍ ولجاج، وورش فلان بفلان: أغراه، وورش عليهم: دخل وهم يأكلون ولم يدع، وورش اسم شيء يصنع من اللبن، لأنه انتشر عن أصل خلقته، والورش - بالتحريك: وجع في الجوف، وككتف: النشيط الخفيف من الإبل وغيرها، وهي بهاء، والتوريش: التحريش، والورشان: طائر.
ومن(10/44)
مهموزه الأرش، وهي الدية، لأنها يلج في طلبها والرضى بها وأكثر ما يتعاطى من أمرها، وهو أيضاً الرشوة، وما نقص العيب من الشيء - قال في القاموس، لأنه سبب للارش والخصومة، وبينهما أرش، أي اختلاف وخصومة، والأرش: الإغراء والإعطاء، لأن المعطي يغلب نفسه، فكأنه خاصمها فلج حتى غلبها، والأرش: الخلق، لأنه منشأ اللجاج، يقال: ما أدري أي الأرش هو؟ أي الخلق، والمأروش: المخلوق، وآرش - كصاحب: جبل - انقضى المهموز. والروش: الأكل الكثير، والأكل القليل - ضد، وفهو من التمادي والضعف الذي ربما نشأ من التمادي مع شبهه بالريش، وجمل راش: كثير شعر الأذن؛ ومن التبيين: شار الدابة - إذا ركبها عند العرض على مشتريها، وشورها: نظر كيف مشوارها، أي سيرها، أو بلاها ينظر ما عندها(10/45)
أو قلبها وكذا الأمة، واستشار الفحل الناقة: كرفها فنظر إليها ألاقح هي أم لا؟ واستشار أمر فلان: تبين، والمستشير: من يعرف الحائل من غيرها، وهو يرجع إلى التمادي، لأنه لولاه ما عرف الأمر؛ ومن الضعف: راشاه: حاباه وصانعه، وترشاه: لاينه، وإنك لمسترش لفلان: مطيع له تابع لمسرته، وهو من الرشوة، وجمل راش: ضعيف الصلب، وكذا رمح راش، وهي بهاء، وراشه المرض: ضعفه، كأنه من الريش، وكل ذلك يرجع بعد التأمل إلى التمادي - والله أعلم.
ومادة «بخس» بكل ترتيب من بخس وخبس وسبخ وسخب تدور على القلة، ويلزمها الأخذ بالكف: بخسته حقه: نقصته فجعلته أقل مما كان، والبخس: فقء العين، فهو نقص خاص، والبخس: أرض تنبت بلا سقي، كأنه لقلة ما نبت بها بالنسبة إلى أرض السقي، والبخس: المكس، وسبخت عن فلان: خففت عنه، والسبخة: أرض ملحة، لقلة نبتها ونفعها، وسبخت القطن - إذا قطعته،(10/46)
فصارت جملته قليلة؛ والتسبيخ: ما يسقط من ريش الطائر - لنقصه منه، والتسبيخ: النوم الشديد - لنقصه صاحبه وتخفيفه ما عنده من الثقل؛ ومن ذلك الخبس، وهو الأخذ بالكف - وهو لازم للقلة، ومنه قيل للأسد: الخابس، لأخذه ما يريده بكفه؛ والسخاب: قلادة من قرنفل ليس فيها جوهر ولا لؤلؤ.
ولما كان البخس القليل الناقص، أبدل منه - تأكيداً للمعنى تسفيهاً لرأيهم وتعجيباً من حالهم - قوله: {دراهم} أي لا دنانير {معدودة} أي أهل لأن تعد، لأنه لا كثره لها يعسر معها ذلك، روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عشرين درهماً {وكانوا} أي كوناً هو كالجبلة {فيه} أي خاصة دون بقية متاعهم، انتهازاً للفرصة فيه قبل أن يعرف عليهم فينزع من أيديهم {من الزاهدين *} أي كمال الزهد حتى رغبوا عنه فباعوه بما طف، والزهد: انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه عند الزاهد، وهذا يعين أن الضمير للسيارة لأن حال إخوته في أمره فوق الزهد بمراحل، فلو كان لهم لقيل: وكانوا له من المبعدين أو المبغضين، ونحو ذلك.(10/47)
ولما كانت العادة جارية بأن القن يمتهن، أخبر تعالى أنه أكرمه عن هذه العادة فقال منبهاً على أن شراءه كان بمصر: {وقال الذي اشتراه} أي أخذه برغبة عظيمة، ولو توقفوا عليه غالى في ثمنه {من مصر} أي البلدة المعروفة، والتعبير بهذا دون ما هو أخصر منه للتنبيه على أن بيعه ظلم، وأنه لم يدخل في ملك أحد أصلاً {لامرأته} آمراً لها بإكرامه على أبلغ وجه {أكرمي مثواه} أي موضع مقامه، وذلك أعظم من الأمر بإكرامه نفسه، فالمعنى: أكرميه إكراماً عظيماً بحيث يكون ممن يكرم كل ما لابسه لأجله، ليرغب في المقام عندنا. ولما كانت كأنها قالت: ما سبب إيصائك لي بهذا دون غيره؟ استأنف قوله: {عسى أن} أي إن حاله خليق وجدير بأن {ينفعنا} أي وهو على اسم المشتري {أو نتخذه} أي برغبة عظيمة إن رأيناه أهلاً {ولداً} فأنا طامع في ذلك.
ولما أخبر تعالى بمبدأ أمره، وكان من المعلوم أن هذا إنما هو لما مكن له في القلوب مما أوجب توقيره وإجلاله وتعظيمه، أخبر تعالى بمنتهى أمره، مشبهاً له بهذا المضمون المعلم به فقال: {وكذلك} أي مثل ما مكنا ليوسف بتزهيد السيارة: أهل البدو تارة، وإكرام مشتريه ومنافسته فيه أخرى {مكنا ليوسف في الأرض}(10/48)
أي أرض مصر التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل {و} بالنبوة {لنعلمه} بما لنا من العظمة {من تأويل الأحاديث} أي بترجيعها من ظواهرها إلى بواطنها، فأشار تعالى إلى المشبه به مع عدم التصريح به لما دل عليه من السياق، وأثبت التمكين في الأرض ليدل على لازمه من الملك والتمكين من العدل، وذكر التعليم ليدل على ملزومه وهو النبوة، فدل أولاً بالملزوم على اللازم، وثانياً باللازم على الملزوم، وهو كقوله تعالى: {فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة} [آل عمران: 13] فهو احتباك أو قريب منه.
ولما كان من أعجب العجب أن من وقع له التمكين من أن يفعل به مثل هذه الأفعال يتمكن من أرض هو فيها مع كونه غريباً مستبعداً فرداً لا عشيرة له فيها ولا أعوان، قال تعالى نافياً لهذا العجب: {والله} أي الملك الأعظم {غالب على أمره} أي الأمر الذي يريده، غلبة ظاهر أمرها لكل من له بصيرة: أمر يعقوب يوسف عليهما(10/49)
الصلاة والسلام أن لا يقص رؤياه حذراً عليه من إخوته، فغلب أمره سبحانه حتى وقع ما حذره، فأراد إخوته قتله فغلب أمره عليهم، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه فغلب أمره سبحانه وظهر اسمه واشتهر، ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب أمره تعالى حتى صار ملكاً وسجدوا بين يديه، ثم أرادوا أن يغروا أباهم ويطيّبوا قلبه حتى يخلو لهم وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم، واحتالت عليه امراة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره سبحانه فعصمه حتى لم يهم بسوء، بل هرب منه غاية الهرب، ثم بذلت جهدها في إذلاله وإلقاء التهمة عليه فأبى الله إلا إعزازه وبراءته، ثم أراد يوسف عليه الصلاة والسلام ذكر الساقي له فغلب أمره سبحانه فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه سبحانه، وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى أن لا أمر لغيره سبحانه! {ولكن أكثر الناس} أي الذين هم أهل الاضطراب {لا يعلمون} لعدم التأمل أنه تعالى عالٍ على كل أمر، وأن الحكم له وحده، لاشتغالهم بالنظر في الظواهر للأسباب التي يقيمها، فهو سبحانه محتجب عنهم بحجاب الأسباب.
ذكر ما مضى من قصة يوسف عليه الصلاة والسلام من التوراة:(10/50)
قال في أواخر السفر الثاني منها: كان يوسف بن يعقوب ابن سبع عشرة سنه، وكان يرعى الغنم مع إخوته، وكان إسرائيل يحب يوسف أكثر من حبه إخوته، لأنه ولد على كبر سنه، فاتخذ له قميصاً ذا كمين، فرأى إخوته أن والدهم أشد حباً له منهم، فأبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بالسلام، فرأى رؤيا قصها على إخوته فقال لهم: اسمعوا هذه الرؤيا التي رأيت، رأيت كأنا نحزم حزماً من الزرع في الزراعة، فإذا حزمتي قد انتصبت وقامت، وإذا حزمكم قد أحاطت بها تسجد لها، قال له إخوته: أترى تملكنا وتتسلط علينا؟ وازدادوا له بغضاً لرؤياه وكلامه، فرأى رؤيا أخرى فقال: إني رأيت رؤيا أخرى، رأيت كأن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون لي، فقصها على أبيه وإخوته، فزجره أبوه وقال له: ما هذه الرؤيا؟ هل آتيك أنا وأمك وإخوتك فنسجد لك على الأرض؟(10/51)
فحسده إخوته، وكان أبوه يحفظ هذه الأقاويل.
وانطلق إخوة يوسف يرعون غنمهم في نابلس فقال إسرائيل ليوسف: هو ذا إخوتك يرعون في نابلس، هلم أرسلك إليهم! فقال: هأنذا! فقال أبوه: انطلق فانظر كيف إخوتك وكيف الغنم؟ وائتني بالخبر، فأرسله يعقوب عليه الصلاة والسلام من قاع حبرون، فأتى إلى نابلس، فوجده رجل وهو يطوف في الحقل فسأله الرجل وقال: ما الذي تطلب في الحقل؟ فقال أطلب إخوتي، دلني عليهم أين يرعون؟ قال له الرجل: قد ارتحلوا من هاهنا، وسمعتهم يقولون: ننطلق إلى دوثان، فتبع يوسف إخوته فوجدهم بدوثان، فرأوه من بعيد، ومن قبل أن يقترب إليهم هموا بقتله، فقال بعضهم لبعض: هو ذا حالم الأحلام قد جاء، تعالوا نقتله ونطرحه في بعض الجباب، ونقول: قد افترسه سبع خبيث، فننظر ما يكون من أحلامه! فسمع روبيل فأنقذه من أيديهم وقال لهم: لا تقتلوا نفساً، ولا تسفكوا دماً، بل ألقوه في هذا الجب الذي في البرية، ولا تمدوا أيديكم إليه، وأراد أن ينجيه من أيديهم ويرده إلى أبيه.
فلما أتى يوسف إخوته خلعوا عنه القميص ذا الكمين الذي(10/52)
لابِسَه، وأخذوه فطرحوه في الجب فارغاً لا ماء فيه، فجلسوا يأكلون خبزاً فمدوا أبصارهم فرأوا فإذا رفقة من العرب مقبلة من جلعاد - وفي نسخة: من الجرش - وكانت إبلهم موقرة سمناً ولبناً وبطماً، وكانوا معتمدين إلى مصر فقال يهوذا لإخوته: ما متعتنا بقتل أخينا وسفك دمه؟ تعالوا نبيعه من العرب، ولا نبسط أيدينا إليه لأنه أخونا: لحمنا ودمنا، فأطاعه إخوته، فمر بهم قوم تجار مدينيون، فأصعدوا يوسف من الجب وباعوه من الأعراب بعشرين درهماً، فأتوا به إلى مصر.
فرجع روبيل إلى الجب فإذا ليس فيه يوسف، فشق ثيابه ورجع إلى إخوته وقال لهم: أين الغلام؟ إلى أين أذهب أنا الآن؟ فأخذوا قميص يوسف عليه الصلاة والسلام فذبحوا عتوداً من المعز ولوّثوا القميص بدمه وأرسلوا به مع من أتى به أباهم وقالوا: وجدنا هذا، أثبته هل هو قميص ابنك أم لا؟ فعرفه وقال: القميص قميص ابني، سبع خبيث افترس ابني يوسف افتراساً، فحزن على ابنه أياماً كثيرة، فقام جميع بنيه وبناته ليعزوه فأبى أن يقبل العزاء وقال: أنزل إلى القبر وأنا حزين(10/53)
على يوسف، فبكى عليه أبوه. وباع المدينيون يوسف من قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون - انتهى، وفيه ما يخالف ظاهرة القرآن ويمكن تأويله - والله أعلم.(10/54)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
ولما أخبر تعالى يوسف عما يريد بيوسف عليه الصلاة والسلام بما ختمه بالإخبارعن قدرته، أتبعه الإعلام بإيجاد ذلك الفعل دلالة على تمام القدرة وشمول العلم فقال: {ولما بلغ أشده} أي مجتمع قواه {آتيناه} أي بعظمتنا {حكماً} أي نبوة أو ملكة يكف بها النفس عن هواها، من حكمة الفرس، فلا يقول ولا يفعل إلا أمراً فصلاً تدعو إليه الحكمة؛ قال الرماني: والأصل في الحكم تبيين ما يشهد به الدليل، لأن الدليل حكمة من أجل أنه يقود إلى المعرفة {وعلماً} أي تبييناً للشيء على ما هو عليه جزاء له لأنه محسن {وكذلك} أي ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به {نجزي المحسنين *} أي العريقين في الإحسان كلهم الذين رأسهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أسرى به فأعلاه ما لم يعل غيره؛ وعن الحسن: من أحسن عبادة الله في(10/54)
شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله، والأشد: كمال القوة، وهو جمع شدة عند سيبوبه مثل نعمة وأنعم، وقال غيره: جمع شد؛ قال ابن فارس في المجمل: وبعضهم يقول: لا واحد لها، ويقال: واحدها شد - انتهى. قيل: وهذا هو القياس نحو ضب وأضب، وصك وأصك، وحظ وأحظ، وضر وأضر، وشر وأشر قال الرماني: قال الشاعر:
هل غير أن كثر الأشرّ وأهلكت ... حرب الملوك أكاثر الأموال
انتهى.
واختلفوا في حد الأشد فقيل: هو من الحلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه من عشرين سنة، وروى غير ذلك، والمادة تدور على الصعوبة، وهي ضد الرخاوة، ويلزمها القوة، فالشد على العدو منها، وشد الحبل وغيره: أحكم فتله، والشديد والمتشدد: البخيل - لصعوبة البذل عليه، والشدة: صعوبة الزمان، وشد النهار: ارتفاعه، وهو قوته، وشددت فلاناً: قويت يده ودبرت أمره، وأشد القوم - إذا كانت دوابهم شداداً فهم مشدون ضد مضعفين.(10/55)
ولما أخبر تعالى أن سبب النعمة عليه إحسانه، أتبعه دليله فقال: {وراودته} أي راجعته الخطاب ودارت عليه بالحيل، فهو كناية عن المخادعة التي هي لازم معنى راد يرود - إذا جاء وذهب {التي} هي متمكنة منه غاية المكنة بكونه {هو في بيتها} وهو في عنفوان الشباب {عن نفسه} أي مراودة لم تكن لها سبب إلا نفسه، لأن المراودة لا يمكن أن تتجاورز نفسه إلاّ بعد مخالطتها - كما تقول: كان هذا عن أمره، وذلك بأن دارت عليه بكل حيلة ونصبت له أشراك الخداع وأقامت حيناً تفتل له في الذروة والغارب، وذلك لأن مادة «راد» واوية ويائية بجميع تقاليبها السبعة: رود، ودور، وورد، «ودير» وردي، وريد، ودري - تدور على الدوران، وهو الرجوع إلى موضع الابتداء، ويلزم منه القصد والإتيان والإقبال والإدبار والرفق والمهلة وإعمال الحيلة وحسن النظر، وربما يكون عن غير قصد فتأتي منه الحيرة فيلزم الفساد والهلاك، يقال: دار فلان يدور - إذا مشى على هيئة الخلقة، والدهر دواري - لدورانه باهله بالرفع والحط، والدوار: شبه دوران في الرأس، ودارة القمر معروفة، والدائرة: الحلقة والدار(10/56)
تجمع العرصة والبناء - لدوران بنائها وللدوران فيها وللذهاب منها والرجوع إليها، والداري: الملاح الذي يلي الشراع، وهو القلع - لأنه يديره على عمود المركب، أو لأنه يلزم دار السفينة؛ والرائد: الذي يرتاد الكلأ، أي يذهب ويجيء في طلبه - لمّا لم يكن له مقصد من الأرض معين كأنه يدور فيها، والذي لا يكذب أهله، وكل طالب حاجة - قاله ابن دريد.
وراودت الرجل: أردته على فعل؛ ورائد الرحى: يدها، أي العود الذي تدار به ويقبض عليه الطاحن، والرياد: اختلاف الإبل في المرعى مقبلة ومدبرة، ورادت المرأة - إذا اختلفت إلى بيوت جاراتها، وراد وساده - إذا لم يستقر، والرود: الطلب والذهاب والمجيء، وامش على رود - بالضم، أي مهل، وتصغيره رويد، والمرود: الذي يكتحل به، لأنه يدار في العين، وحديدة تدور في اللجام، ومحور البكرة من حديد، والدير: معروف، ويقال لرجل إذا كان رأس أصحابه: هو رأس الدير - كأنه من إرادة أصحابه به، وترديت الرداء وارتديت - كأنه من الإدارة، والرداء: السيف - لأنه(10/57)
يتقلد به في موضع الردى، والرديان - محركاً: مشى الحمار بين آريه ومتمعكه، وراديت فلاناً، مثل: راودته، وردت الجارية - إذا رفعت إحدى رجليها وقفزت بواحدة، لأت مشيها حينئذٍ يشبه الدوران، والريد - بالكسر: الترب، لأنه يراودك، أي يمشي معك من أول زمانك؛ ومن الإتيان: الورود، وهو إتيان المورد من ماء وطريق، والوارد: الصائر إلى الماء للاستقاء منه، وهو الذي ينزل إلى الماء ليتناول منه، والورد معروف، ونور كل شجرة ورد، لأنه يقصد للشم وغيره، ويخرج هو منها فهو وارد أي آتٍ، وهو أيضاً مع ذلك مستدير، والورد - بالكسر: يوم الحمى إذا أخذت صاحبَها لوقت لأنها تأتيه، وهو من الدوران أيضاً لأنها تدور في ذلك الوقت بعينه، وهذا كله يصلح للإقبال، ومنه: أرنبة واردة، أي مقبلة على السبلة، والريد: أنف الجبل - قاله ابن فارس، وقال ابن دريد: والريد: الحيد الناتىء من الجبل، والجمع ريود؛ وفي القاموس: الحيد من الجبل شاخص(10/58)
كأنه جناح، ويسمى الشجاع الوارد، لإقباله على كل ما يريده واستعلائه عليه، والوريدان: عرقان مكتنفا صفحتي العنق مما يلي مقدمة غليظان، والورد: النصيب من القرآن، لأنه يقصد بالقراءة ويقبل عليه ويدار عليه، ودريت الشيء: علمته، فأنت مقبل عليه وارد إليه، والدرئة - مهموزة: حلقة يتعلم عليها الطعن والرمي، والدرية - مهموزة وغير مهموزة: دابة يستتر بها رامي الصيد فيختله، فهي من الإقبال والخداع، وإن بنى فلان أدورا مكاناً، أي اعتمدوا بالغزو والغارة، والدريّ: شبيه بمدرى الثور وهو قرنه، لأنه يقصد به الشيء ويقبل به على مراده فيصلحه به، وما أدري أين ردي؟ أي أين ذهب؟ والإرواد: المهلة في الشيء؛ وامش رويداً: على مهل، والرادة والريدة: السهلة من الرياح، فكأنها تأتي على مهل؛ ومن الحيرة والفساد والهلاك: ردي الرجل - إذا هللك، وأرداه الله،(10/59)
وتردى في هوة: تهور فيها، ورديته بالحجارة: رميته، والرداة: الصخرة، يكسر بها الشيء، والمرادي: المرامي؛ ومن حسن النظر: أرديت على الخمسين: زدت، لأنه يلزم حسن النظر الزيادة، وأراد الشيء على غيره، أي ربا عليه، وسيأتي بيان المهموز من هذه المادة في
{سنراود} [يوسف: 61] من هذه السورة إن شاء الله تعالى {وغلقت} أي تغليقاً كثيراً {الأبواب} زيادة في المكنة، قالوا: وكانت سبعة؛ والإغلاق: إطباق الباب بما يعسر معه فتحه {وقالت هيت} أي تهيأت وتصنعت {لك} خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري؛ والمادة - على تقدير إصالة التاء وزيادتها بجميع تقاليبها: يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة - تدور على إرادة امتثال الأمر: هيت لك - مثلثة الآخر وقد يكسر أوله، أي هلم، وهيت تهييتاً: صاح ودعاه، وهات - بكسر التاء أعطني - قال في القاموس، والمهاياة مفاعلة منه، والهيت: الغامض من الأرض، كأنه يدعو ذا الهمة إلى الوقوف على حقيقته، والتيه - بالكسر: الكبرياء والصلف، فالتائه داع بالقوة إلى امتثال أمره، والمفازة، فإنها تقهر سالكها، والضلال من المفازة - تسمية للشي باسم موضعه، ومنه: تها - بمعنى غفل، ومنه: مضى تهواء(10/60)
من الليل - بالكسر، أي طائفة، لأنها محل الغفلة، أو لأنها تدعو ساهرها إلى النوم ونائمها إلى الانتباه، هذا على تقدير إصالة التاء، وأما على تقدير أنها زائدة فهاءَ بنفسه إلى المعالي: رفعها، فهو يراه أهلاً لأن يمتثل أمرها، والهوء: الهمة والأمر الماضي، والهوء أيضاً: الظن، ويضم، وهؤت به: فرحت، ولا يكون ذلك إلاّ لفعل ما يشتهي، فكأنه امتثل أمرك، وهوىء إليه - كفرح: همّ، وهاء كجاء: لبى، أي امتثل الأمر، وهاء - بالكسر: هات، وهاء - كجاء، أي هاك، بمعنى خذ، والهيئة: حال الشيء وكيفيته الداعية إلى تركه أو لزومه، وتهايؤوا: توافقوا، وهاء إليه: اشتاق، فكأنه دعاه إلى رؤيته، وتهيأ للشيء: أخذ له هيئته، فكأنه صار قابلاً للأمر، أو لأن يمتثل أمره، وهيأه: أصلحه، والهيء - بالفتح والكسر: الدعاء إلى الطعام والشراب ودعاء الإبل للشرب، وإيه - بكسر الهمزة: كلمة استزاده واستنطاق، وبإسكان الهاء: زجر بمعنى حسبك، وهأهأ: قهقه في ضحكه، ولا يكون ذلك إلا بمن امتثل مراده.
ولما قالت ما قالت وفعلت ما فعلت، مع ما هي عليه(10/61)
من القدرة في نفسها ولها عليه من التسلط وهو عليه من الحسن والشباب، كان كأنه قيل: إن هذا لموطن لا يكاد ينجو منه أحد، فماذا كان منه؟ فقيل: {قال} أي يوسف مستعملاً للحكم بالعلم {معاذ} أي أعوذ من هذا الأمر معاذ {الله} أي ألزم حصن الذي له صفات الكمال وهو محيط بكل شيء علماً وقدرة، وملجأة الذي ينبغي الاعتصام به واللجاء إليه؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنه} أي الله {ربي} أي موجدي ومدبري والمحسن إليّ في كل أمر، فأنا أرجو إحسانه في هذا {أحسن مثواي} بأن جعل لي في قلب سيدك مكانة عظيمة حتى خولني في جميع ما يملك وائتمنني على كل ما لديه، فإن خالفت أمر ربي فخنت مَن جعلني موضعاً للأمانة كنت ظالماً واضعاً للشيء في غير موضعه، وهذا التقدير - مع كونه أليق بالصالحين المراقبين - أحسن، لأنه يستلزم نصح العزيز، ولو أعدنا الضمير على العزيز لم يستلزم التقوى.
ولما كان من المعلوم أن لسان حالها يقول: وإذا كان ظلماً كان ماذا؟ قال ما تقديره: إني إذن لا أفلح، وعلله بقوله: {أنه لا يفلح} أي لا يظفر بمراده أصلاً {الظالمون *} أي العريقون(10/62)
في الظلم - وهو وضع الشيء في غير موضعه - الذين صرت في عدادهم على تقدير الفعل، فيا له من دليل على إحسانه وحكمه وعلمه، فإنه لما رأى المقام الدحض بادر إلى الاعتصام بمن بيده ملكوت كل شيء، ثم استحضر إحسانه إليه الموجب للشكر عليه المباعد عن الهفوات ثم مقام الظلم وما يوجب لصاحبه من الحزن بعدم الفلاح.
ولما كان هذا الفعل لا يتم حسنه إلاّ إذا كان عند غلبة الهوى وترامي الشهوة كما هو شأن الرجولية، قال تعالى رداً على من يتوهم ضد ذلك: {ولقد همت به} أي أوقعت الهم، وهو القصد الثابت والعزم الصادق المتعلق بمواقعته، ولا مانع لها من دين ولا عقل ولا عجز فاشتد طلبها {وهمَّ بها} كما هو شأن الفحول عند توفر الأسباب {لولا أن رءآ} أي بعين قلبه {برهان ربه} الذي آتاه إياه من الحكم والعلم، أي لهمّ بها، لكنه لما كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين، لم يغطه وفور شهوة ولا غلبة هوى، فلم يهم أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله من القوة مع كونه في سن الشباب، فلولا المراقبة لهمّ بها التوفر الدواعي غير أن نور الشهود محاها أصلاً، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه مع أنه هو الذي تدل(10/63)
عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء، وأن السجن أحب إليه من ذلك، مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} [يوسف: 25]- الآية، من مطلق الإرادة، ومع ما تحتم تقدير ما ذكر بعد «لولا» في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب، فإنه يجب أن يكون المقدر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله، وهذا مثل قوله تعالى
{إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} [القصص: 10] أي لأبدت به، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أن الأقوال التي رويت عنهم إذا جمعت تناقضت فتكاذبت، ولا يساعد على شيء منها كلام العرب لأنهم قدروا جواب «لولا» المحذوف بما لا دليل عليه من سابق الكلام ولا لاحقه - نبه على ذلك الإمام أبو حيان، وسبقه إلى ذلك الإمام الرازي وقال: إن هذا قول المحققين من المفسرين، وأشبع في إقامة الدلائل على هذا بما يطرب الأسماع، وقدم ما يدل على جواب الشرط ليكون أول ما يقرع السمع ما يدل على أنه كان في غاية القدرة على الفعل، وأنه ما منعه منه إلاّ العلم بالله، فكأنه قيل: إن هذا التثبيت عظيم، فقيل إشارة إلى(10/64)
أنه لازم له كما هو شأن العصمة: {كذلك} أي مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر {لنصرف عنه السوء} أي الهمّ بالزنا وغيره {والفحشاء} أي الزنا وغيره، فكأنه قيل: لِمَ فعل به هذا؟ فقيل {إنه من عبادنا} أي الذين عظمناهم بما لنا من العظمة {المخلصين *} أي هو في عداد الذين هم خير صرف، لا يخالطهم غش، ومن ذريتهم أيضاً، وهذا مع قول إبليس {لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين} [ص: 83] شهادة من إبليس أن يوسف عليه الصلاة والسلام بريء من الهمّ في هذه الواقعة؛ قال الإمام: فمن نسبه إلى الهمّ إن كان من أتباع دين الله فليقبل شهادة الله، وإن كان من أتباع إبليس وجنوده فليقبل شهادة إبليس بطهارته، قال: ولعلهم يقولون: كنا تلامذة إبليس ثم زدنا عليه - كما قيل:
وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... من الأمر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طراييق فسق ليس يحسنها بعدي(10/65)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
ثم ذكر سبحانه وتعالى مبالغته في الامتناع بالجد في الهرب دليلاً على إخلاصه وأنه لم يهمّ أصلاً فقال: {واستبقا الباب} أي أوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منهما، هذا للهرب منها، وهذه لمنعه، فأوصل الفعل إلى المفعول بدون «إلى» ، دليلاً على أن كلا منهما بذل أقصى جهده في السبق، فلحقته عند الباب الأقصى مع أنه كان قد سبقها بقوة الرجولية وقوة الداعية إلى الفرار إلى الله، ولكن عاقة إتقانها للمكر بكون الأبواب كانت مغلقة، فكان يشتغل بفتحها فتعلقت بأدنى ما وصلت إليه من قميصه، وهو ما كان من ورائه خوف فواته، فاشتد تعلقها به مع إعراضه هو عنها وهربه منها، ففتحه وأراد الخروج فمنعته {و} لم تزل تنازعه حتى {قدت قميصه} وكان القد {من دبر} أي الناحية الخلف منه، وانقطعت منه قطعة فبقيت في يدها {وألفيا} أي وجدا مع ما بهما من الغبار والهيئة التي لا تليق بهما {سيدها} أي زوجها، ولم يقل: سيدهما، لأن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يدخل في رق - كما مضى - لأن المسلم لا يملك وهو السيد {لدا} أي عند ذلك {الباب} أي الخارج، على كيفية غريبة جداً، هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام لأن السيد لا يقدر على(10/66)
فتحه فضلاً عن الوصول إلى غيره لتغليق الجميع.
ولما علم السامع أنهما ألفياه وهما على هذه الحالة كان كأنه قيل: فما اتفق؟ فقيل: {قالت} مبادرة من غير حياء ولا تلعثم {ما} نافية، ويجوز أن تكون استفهامية {جزاء من أراد} أي منه ومن غيره كائناً من كان، لما لك من العظمة {بأهلك سوءاً} أي ولو أنه غير الزنا {إلا أن يسجن} أي يودع في السجن إلى وقت ما، ليحكم فيه بما يليق {أو عذاب أليم} أي دائم ثابت غير السجن؛ والجزاء: مقابلة العمل بما هو حقه، هذا كان حالها عند المفاجأة، وأما هو عليه الصلاة والسلام فجرى على سجايا الكرام بأن سكت ستراً عليها وتنزهاً عن ذكر الفحشاء، فكأنه قيل: فماذا قال حين قذفته بهذا؟ فقيل {قال} دافعاً عن نفسه لا هاتكاً لها {هي} بضمير الغيبة لاستيحائه عن مواجهتها بإشارة أو ضمير خطاب {راودتني عن نفسي} وما قال ذلك إلا حين اضطرته إليه بنسبته إلى الخيانة، وصدقه لعمري فيما قال لا يحتاج إلى بيان أكثر من الحال الذي كانا فيه، وهو(10/67)
أنهما عند الباب، ولو كان الطلب منه لما كانا إلا في محلها الذي تجلس فيه، وهو صدر البيت وأشرف موضع فيه {وشهد} ولما كان كل صالح للشهادة كافياً، فلم تدع ضرورة إلى تعيينه، قال: {شاهد} أي عظيم {من أهلها} لأن الأهل أعظم في الشهادة، رضيع ببراءته - نقله الرماني عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما وسعيد ابن جبير، كما شهد للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع صبي من أهل اليمامة يوم ولد بأنه رسول الله، فكان يدعي: مبارك اليمامة.
فقال ذلك الشاهد {إن كان} أي حال المراوغة {قميصه} أي فيما يتبين لكم {قدَّ} أي شق شقاً مستأصلاً {من قبل} أي من جهة ما أقبل من جسده {فصدقت} ولا بد من تقدير فعل التبين، لأن الشروط لا تكون معانيها إلا مستقبلة ولو كانت ألفاظها ماضية.
ولما كان صدقها ليس قاطعاً في منع صدقه، قال: {وهو من الكاذبين *} لأنه لولا إقباله - وهي تدفعه عنها أو تهرب منه(10/68)
وهو يتبعها ويعثر في قميصه - ما كان القد من القبل {وإن كان} أي فيما يظهر لكم {قميصه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {قدَّ من دبر} أي من جهة ما أدبر منه، وبنى «قُدَّ» للمجهول للنزاع في القادّ {فكذبت} ولما كان كذلك كذبُها في إرادته السوء لا يعين صدقه في إرادتها له، قال: {وهو من الصادقين *} لأنه لولا إدباره عنها وإقبالها عليه لما وقع ذلك، فعرف سيدها صحة ذلك بلا شبهة، لأن معنى «إن» هنا الشرط في جهة التقرير للمعنى الذي يوجب غيره لا على الشك، وقدم أمارة صدقها لأنه مما يحبه سيدها، فهو في الظاهر اهتمام بها، وفي الحقيقة تقرير لكذبها مرتين: الأولى باللزوم، والثانية بالمطابقة.
ولما كان المعنى: فنظر، بنى عليه قوله: {فلما رءا} أي سيدها {قميصه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {قدَّ من دبر قال} لها وقد قطع بصدقه وكذبها، مؤكداً لأجل إنكارها {إنه} أي هذا القذف له {من كيدكن} معشر النساء؛ والكيد: طلب الإنسان بما يكرهه {إن كيدكن عظيم *} والعظيم: ما ينقص مقدار غيره عنه حساً أو معنى، فاستعظمه لأنه أدق من مكر الرجل وألطف وأخفى، لأن الشيطان(10/69)
عليهن لنقصهن أقدر، وكيدهن الذي هو من كيد الشيطان أضعفُ ضعيف بالنسبة إلى ما يدبره الله عز وجل في إبطاله؛ ثم قال العزيز آمراً له عليه السلام مسقطاً لحرف النداء دلالة على أن قربه من قلبه على حاله: {يوسف أعرض} أي انصرف بكليتك مجاوزاً {عن هذا} أي اجعله بمنزلة ما تصرف وجهك عنه إلى جهة العرض بأن لا تذكره لأحد ولا تهتم به، فإني لم أتأثر منك بوجه، لأن عذرك قد بان، وأقبل إليها فقال: {واستغفري} أي اطلبي الغفران {لذنبك} في أن لا يحصل لك عقوبة مني ولا من الله؛ واستأنف بيان ما أشار إليه بقوله: {إنك كنت} أي كوناً جبلياً {من الخاطئين} أي العريقين في الخطأ بغاية القوة، يقال: خطىء يخطأ - إذا أذنب متعمداً.(10/70)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
ولما كان في هذا من شرف العفة ما يدل على كمال العصمة، وأكده تعالى بما يدل على تسامي حسنه وتعالي جماله ولطفه، لأن العادة جرت بأن ذلك كان بعضه لأحد كان مظنة لميله، لتوفير الدواعي على الميل إليه، فقال تعالى: {وقال نسوة} أي جماعة من النساء لما شاع الحديت؛ ولما كانت البلدة كلما عظمت كان أهلها أعقل وأقرب إلى الحكمة، قال: {في المدينة} أي التي فيها امرأة العزيز ساكنة {امرأت العزيز} فأضفنها إلى زوجها إرادة الإشاعة للخبر، لأن النفس(10/70)
إلى سماع أخبار أولى الأخطار أميل؛ والعزيز: المنيع بقدرته من أن يضام، فالعزة أخص من مطلق القدرة، وعبرن بالمضارع في {تراود فتاها} أي عبدها نازلة من افتراش العزيز إلى افتراشه {عن نفسه} إفهاماً لأن الإصرار على المراودة صار لها كالسجية؛ والفتى: الشاب، وقيده الرماني بالقوي، قال: وقال الزجاج: وكانوا يسمون المملوك فتى شيخاً كان أو شاباً، ففيه اشتراك على هذا {قد شغفها} ذلك الفتى {حباً} أي من جهة الحب، قال الرماني: شغاف القلب غلافه، وهو جلدة عليه، يقال: دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب، عن السدى وأبي عبيدة وعن الحسن أنه باطن القلب، وعن أبي علي: وسط القلب -انتهى. والذي قال في المجمل وغيره أنه غلاف القلب، وأحسن من توجيه أبي عبيدة له أن حبه صار شغافاً لها، أي حجاباً، أي ظرفاً محيطاً بها، وأما «شعفها» - بالمهملة فمعناه: غشى شعفة قلبها، وهي رأسه عند معلق النياط، وقال الرماني: أي ذهب بها كل مذهب، من شعف الجبال، وهي رؤوسها.
ولما قيل ذلك، كان كأنه قد قيل: فكان ماذا؟ فقيل -(10/71)
وأكد لأن من رآه عذرها وقطع بأنهن لو كن في محلها عملن عملها ولم يضللن فعلها: {إنا لنراها} أي نعلم أمرها علماً هو كالرؤية {في ضلال} أي محيط بها {مبين} لرضاها لنفسها بعد عز السيادة بالسفول عن رتبة العبد، ودل بالفاء على أن كلامهن نقل إليها بسرعة فقال: {فلما سمعت} أي امرأة العزيز {بمكرهن} وكأنهن أردن بهذا الكلام أن يتأثر عنه ما فعلت امرأة العزيز ليرينه، فلذلك سماه مكراً {أرسلت إليهن} لتريهن ما يعذرنها بسببه فتسكن قالتُهن {وأعتدت} أي هيأت وأحضرت {لهن متكاً} أي ما يتكئن عليه من الفرش اللينة والوسائد الفاخرة، فأتينها فأجلستهن على ما أعدته لهن {وأتت كل واحدة} على العموم {منهن سكيناً} ليقطعن بها ما يحتاج إلى القطع مما يحضر من الأطعمة في هذا المجلس؛ قال أبو حيان: فقيل: كان لحماً، وكانوا لا ينهشون اللحم، إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين. وقال الرماني: ليقطعن فاكهة قدمت إليهن - انتهى. هذا الظاهر من علة إتيانهن وباطنه إقامة الحجة عليهن بما لا يجدن له مدفعاً مما يتأثر عن ذلك {وقالت} ليوسف فتاها عليه الصلاة والسلام(10/72)
{اخرج عليهن} فامتثل له ما أمرته به كما هو دأبه معها في كل ما لا معصية فيه، وبادر الخروج عليهن {فلما رأينه} أي النسوة {أكبرنه} أي أعظمن يوسف عليه الصلاة والسلام جداً إعظاماً كربّهن {وقطعن} أي جرحن جراحات كثيرة {أيديهن} وعاد لومهن عذراً، والتضعيف يدل على التكثير، فكأن السكين كانت تقع على يد إحداهن فتجرحها فترفعها عن يدها بطبعها، ثم يغلبها الدهش فتقع على موضع آخر وهكذا {وقلن حاش} أي تنزيهاً عظيماً جداً {لله} أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال التي خلق بها مثل هذا.
ولما كان المراد بهذا التنزيه تعظيمه، بينه بقولهن: {ما هذا بشراً} لأنه فاق البشر في الحسن جداً، وأعرض عن الشهوة من غير علة، نراها مانعة له لأنه في غاية القوة والفحولية، فكأنه قيل: فما هو؟ فقلن: {إن} أي ما {هذا} أي في هذا الحسن والجمال، وأعدن الإشارة دفعاً لإمكان الغلط {إلا ملك كريم *} وذلك لما ركز في الطباع من نسبة كل معنى فائق إلى الملائكة من الحسن والعفة وغيرهما(10/73)
وإن كانوا غير مرئيين، كما ركز فيها نسبة ضد ذلك إلى الجن والشياطين، فكأنه قيل: فما قالت لهن امرأة العزيز؟ فقيل: {قالت فذالكن} أي الفتى العالي الرتبة جداً {الذي لمتنني فيه} .
ولما علمت أنهن عذرنها، قالت مؤكدة استلذاذاً بالتهتك في حبه: {ولقد} أي أقول هذا والحال أني والله لقد تحقق أني {راودته عن نفسه} أي لأصل إليه بما أريد {فاستعصم} أي فأوجد العصمة والامتناع عليّ فاشتد اعتصامه، وما أنا براجعة عنه؛ ثم توعدته وهو يسمع لِيَلين، فقالت لهن مؤكدة لأن حال حبها يوجب الإنكار لأن تفعل ما يؤذي المحبوب: {ولئن لم يفعل} أي هذا الفتى الذي قام عذرى عندكن فيه {ما أمره} أي أمري {ليسجنن} أي ليمنعن من التصرف بالحبس بأيسر سعي مني. ولما كان عزمها على السجن أقوى من العزم على إيقاع الصغار به، أكدته بالنون الثقيلة وقالت: {وليكونا} بالنون الخفيفة {من الصاغرين *} أي الأذلاء، أو أن الزيادة في تأكيد السجن لأنه يلزم منه إبعاده، وإبعاد الحبيب(10/74)
أولى بالإنكار من إهانته، فقال له النسوة: أطعها لئلا تسجنك وتهينك، فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل: {قال} يهتف بمن فنى بشهوده عن كل مشهود، دافعاً عن نفسه ما ورد عليه من وسوسة الشيطان في أمر جمالها وأمر رئاستها ومالها، ومن مكر النسوة اللاتي نوّعن له القول في الترغيب والترهيب عالماً بأن القوة البشرية تضعف عن حمل مثل هذا إلا بتأييد عظيم، مسقطاً للأداة على عادة أهل القرب: {رب السجن} وهو محيط مانع من الاضطراب فيما خرج عنه {أحب إليّ} أي أقل بغضاً {مما يدعونني} أي هؤلاء النسوة كلهن {إليه} لما علم من سوء عاقبة المعصية بعد سرعة انقضاء اللذة، وهذه العبارة تدل على غاية البغض لموافقتها، فإن السجن لا يتصور حبه عادة، وإنما المعنى أنه لو كان يتصور الميل إليه كان ميلي إليه أكثر، لكنه لا يتصور الميل إليه لأنه شر محض، ومع ذلك فأنا أوثره على ما دعونني إليه، لأنه أخف الضررين، والحاصل أنه أطلق المحبة على ما يضادها في هذا السياق من البغض بدلالة الالتزام، فكأنه قيل: السجن أقل بغضاً إلى ما تدعونني إليه، وذلك هو ضد «أحب» الذي معناه أكثر(10/75)
حباً، ولكن حولت العبارة ليكون كدعوى الشيء مقروناً بالدليل، وذلك أنه لما فوضل في المحبة بين شيئين أحدهما مقطوع ببغضه، فُهم قطعاً أن المراد إنما هو أن بغض هذا البغيض دون بغض المفضول، فعلم قطعاً أن ذلك يظن حبه أبغض من هذا المقطوع ببغضه، وكذا كل ما فوضل بينهما في وصف يمنع من حمله على الحقيقة كون المفضل متحققاً بضده - والله الموفق؛ والدعاء: طلب الفعل من المدعو، وصيغته كصيغة الأمر إلا أن الدعاء لمن فوقك، والأمر لمن دونك {وإلا تصرف} أي أنت يا رب الآن وفيما يستقبل من الزمان، مجاوزاً {عني كيدهن} أي ما قد التبس من مكرهن وتدبيرهن الذي يردن به الخبث احتيالاً على الوصول إلى قصدهن خديعة وغروراً {أصب} أي أمل ميلاً عظيماً {إليهن} لما جبل الآدمي عليه من الميل النفساني إلى مثل ذلك، ومتى انخرق سياج صيانته بواحدة تبعها أمثالها، واتسع الخرق على الراقع، ولذلك قال: {وأكن} أي كونا هو كالجبلة {من الجاهلين} أي الغريقين في الجهل بارتكاب مثل أفعالهم {فاستجاب له ربه} أي أوجد المحسن إليه إيجاداً عظيماً(10/76)
إجابة دعائه الذي تضمنه هذا الثناء، لأن الكريم يغنيه التلويح عن التصريح - كما قيل:
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرّضه الثناءُ
وفعل ذلك سبحانه وتعالى إكراماً له وتحقيقاً لما سبق من وعده في قوله: {كذلك لنصرف عنه السوء} [يوسف: 24] الآية {فصرف عنه كيدهن} ثم علل ذلك بقوله: {إنه هو السميع} أي للأقوال {العليم *} بالضمائر والنيات، فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم.(10/77)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
ولما كانت هذه الأمور موجبة لرفعته، فكان حينئذٍ أبعد شيء عن السجن لو كان الناس متمكنين من جري أمورهم على حسب السديد من عقولهم، أخبر تعالى أنهم خالفوا داعي السداد واستبدلوا الغيّ بالرشاد، لحكمه بأن السجن سبب عظيم لصرف كيدهن عنه وإثبات العز والمكنة له، ففعلوا - مع علمهم بأن ذلك ظلم وسفه - إجابة لغالب أمر الله وإظهاراً لعليّ قدره بمخالفة العوائد مرة بعد مرة، وهدم سداد الأسباب كرة أثر كرة؛ فقال: {ثم} لهذا المعنى، وهو أنهم كان ينبغي أن يكونوا من سجنه في(10/77)
غاية البعد {بدا} أي ظهر بعد الخفاء كما هي عادتهم {لهم} والبداء في الرأي: التلون فيه لظهور ما لم يكن ظهر منه.
ولما كان ذلك الظهور في حين من الدهر تلونوا بعده إلى رأي آخر، أدخل الجار دلالة على ذلك فقال: {من بعد ما رأوا} أي رؤيتهم {الأيات} القاطعة ببراءته القاضية بنزاهته من قد القميص وشهادة الشاهد وغير ذلك.
ولما كان فاعل «بداء» رأى، فسره بقوله مؤكداً، لأنه لا يصدق أن الإنسان يفعل ما ظهر له المانع منه: {ليسجننه} فيمكث في السجن {حتى حين} أي إلى أن تنسى تلك الإشاعة، ويظهر الناس أنها لو كانت تحبه ما سعت في سجنه، وقيل: إن ذلك الحين سبع سنين، قيل: كان سبب ذلك أنها قالت للعزيز: إن هذا قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر كما يحب، وأنا محبوسة، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر كما يعتذر، وإما أن تسويه بي في السجن؛ قال أبو حيان: قال ابن عباس رضي الله عنهما:(10/78)
فأمر به فحمل على حمار وضرب أمامه بالطبل، ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني أراد سيدته، فهذا جزاءه أن يسجن! قال أبو صالح: ما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث إلاّ بكى - انتهى. وهذا دليل على قوله {إن كيدكن عظيم} [يوسف: 28] .
قال الإمام فخر الدين الرازي في كتاب اللوامع: وعلى الجملة فكل أحوال يوسف عليه الصلاة والسلام لطف في عنف، ونعمة في طي بلية ونقمة، ويسر في عسر، ورجاء في يأس، وخلاص بعد لات مناص، وسائق القدر ربما يسوق القدر إلى المقدور بعنف، وربما يسوقه بلطف، والقهر والعنف أحمد عاقبة وأقل تبعة - انتهى.
ولما ذكر السجن، وكان سبباً ظاهراً في الإهانة، شرع سبحانه يقص من أمره فيه ما حاصله أنه جعله سبب الكرامة، كل ذلك بياناً للغلبة على الأمر والاتصاف بصقات القهر، مع ما في ذلك من بيان تحقق ما تقدم به الوعد الوفي ليوسف عليه الصلاة والسلام وغير ذلك من الحكم، فقال تعالى: {ودخل} أي فسجنوه كما بدا لهم(10/79)
ودخل {معه السجن فتيان} : خباز الملك وساقيه، ورفع إليه أن الخباز أراد أن يسمه، وظن أن الساقي مالأه على ذلك، و «مع» تدل على الصحبة واستحداثها، فهي تدل على دخول الثلاثة السجن في آن واحد - قاله أبو حيان، فلما دخلوا السجن كان يوسف عليه الصلاة والسلام يحسن إلى أهله فيسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسأل لفقيرهم، ويهديهم إلى الخير، ويذكرهم بالله، فمالت إليه القلوب وكلفت به النفوس لحسن حديثه ولطيف تأتيه وما جباه الله به من الفضل والنبل وحسن الخَلق والخُلق، وكان في السجن ناس قد انقطع رجاءهم واشتد بلاءهم، فلم يزل يرفق بهم حتى قالوا: بارك الله فيك! ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك! لقد بورك لنا في جوارك، ما نحب أنا كنا في غير هذا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والثواب والطهارة، من أنت يا فتى؟ فأخبرهم بنسبه الشريف، فقال عامل السجن: لو استطعت لخليت سبيلك! ولكن سأحسن جوارك وإيثارك، وأحبه الفتيان ولزماه فقال: أنشد كما الله أن تحباني، فوالله ما أحبني أحد قط إلاّ دخل على من جهته بلاء! لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من جهتها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من جهته بلاء،(10/80)
ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل عليّ من جهتها بلاء، فلا تحباني، فأبيا إلاّ حبه، فكأنه قيل: أيّ شيء اتفقى لهما بعد الدخول معه؟ فقيل: {قال أحدهمآ} ليوسف عليه الصلاة والسلام، ولعل التأكيد إما لأنه كانت عادتهما المزح، وإما لأنهما ما رأيا شيئاً - كما قال الشعبي - وإنما صنفا هذا ليختبراه به {إني أراني} حكى الحال الماضية في المنام {أعصر} والعصر: الاعتماد على ما فيه مائية ليحتلب منه {خمراً} أي عنباً يؤل إلى الخمر {وقال الآخر} مؤكداً لمثل ما مضى {إني أراني أحمل} والحمل: رفع الشيء بعماد نقله {فوق رأسي خبزاً} أي طعاماً مهيأ للأكل بالخبز، وهو عمل الدقيق المعجون بالبسط واللزق في حامٍ بالنار حتى يصلح للأكل {تأكل الطير منه} وسيأتي شرح الرؤيا من التوراة، فكأنه قيل: فماذا تريدان من الإخبار بهذا؟ فقالا: {نبئنا} أي أخبرنا إخباراً عظيماً {بتأويله} أي ما يرجع أمره ويصير إليه، فكأنه قيل: وما يدريكما أني أعرف تأويله؟ فقالا: {إنا نراك} على حالٍ علمنا بها علماً هو كالرؤية أنك {من المحسنين *} أي العريقين في وصف الإحسان لكل أمر تعانيه، فلذلك لاح لنا أنك تحسن التأويل قياساً، فلما رآهما بصيرين بالأمور {قال} إشارة إلى أنه يعرف(10/81)
ذلك وأدق منه، ليقبلا نصحه فيما هو أهم المهم لكل أحد، - وهو ما خلق العباد له من الاجتماع على الله - لتفريغهما للفهم لكلامه والقبول لكل ما يلقيه لاحتياجهما إلى إفتائهما، مؤكداً ما وصفاه به من الإحسان بما اتبعه من وصف نفسه بالعلم، انتهازاً لفرصة النصيحة عند هذا الإذعان بأعظم ما يكون النصح به من الأمر بالإخلاص في عبادة الخالق والإعراض عن الشرك، فعلى كل ذي علم إذا احتاج إلى سؤاله أحد أن يقدم على جوابه نصحه بما هو الأهم له، ويصف له نفسه بما يرغبه في قبول علمه إن كان الحال محتاجاً إلى ذلك، ولا يكون ذلك من باب التزكية بل من الإرشاد إلى الإئتمام به بما يقرب إلى الله فيكون له مثل أجره: {لا يأتيكما} أي في اليقظة {طعام} وبين أنه خاص بهما دون أهل السجن بقوله: {ترزقانه} بناه للمفعول تعميماً {إلاّ نبأتكما} أي أخبرتكما إخباراً جليلاً عظيماً {بتأويله} أي به وبما يؤل ويرجع إليه أمره.
ولما كان البيان في جميع الوقت الذي بينه وبين الطعام الذي قبله، نزع الخافض فقال: {قبل أن يأتيكما} أي أخبرتكما بأنه يأتيكما طعام كذا، فيكون سبباً لكذا، فإن المسبب الناشىء عن(10/82)
السبب هو المال.
ولما وصف نفسه من العلم بما يدعو كل ذي همة إلى السعي في الأسباب التي حصل له ذلك بها ليصير مثله أو يقرب منه، وكان محل أن يقال: من علمك ذلك؟ قال مرشداً إلى الله داعياً إليه أحسن دعاء بما تميل إليه النفوس من الطمع في الفضل: {ذلكما} أي الأمر العظيم؛ ونبه على غزارة علمه بالتبعيض في قوله: {مما علمني ربي} أي الموجد لي والمربي لي والمحسن إليّ، ولم أقله عن تكهن ولا تنجم، فكأنه قيل: ما لغيرك لا يعلّمه مثل ما علمك؟ فقال معللاً له مطمعاً كل من فعل فعله في فضل الله، مؤكداً إعلاماً بأن ذلك أمر عظيم يحق لمثله أن يفعل: {إني تركت ملة قوم} أي وإن كانوا أقوياء على محاولة ما يريدون، فلذلك قدروا على أذاي وسجني بعد رؤية الآيات الشاهدة لي، ونبه على أن ذلك لا يقدم عليه إلاّ من لا يحسب العاقبة بوجه، فقال: {لا يؤمنون} أي يجددون الإيمان لما لهم من العراقة في الكفر {بالله} أي الملك الأعظم الذي لا يخفى أمره على ذي لب من أهل مصر وغيرهم؛ ثم لوح إلى التحذير من يوم الجزاء الذي(10/83)
لا يغنى فيه أحد عن أحد، منبهاً على أن الكفر به هو القاطع عن العلم وعن كل خير، فقال مؤكداً تأكيداً عظيماً، إشارة إلى أن أمرهم ينبغي أن ينكره كل من يسمعه، ولا يصدقه، لما على الآخرة من الدلائل الواضحة جداً الموجبة لئلا يكذب به أحد: {وهم بالآخرة} أي الدار التي لا بد من الجمع إليها، لأنها محط الحكمة {هم} أي بضمائرهم كما هم بظواهرهم، وفي تكرير الضمير تنبيه على أن هؤلاء اختصوا بهذا الجهل، وأن غيرهم وقفوا على الهدى {كافرون} أي عريقون في التغطية لها، فلذلك أظلمت قلوبهم فكانوا صوراً لا معاني لها؛ والملة: مذهب جماعة يحمي بعضها لبعض في الديانة، وأصله من المليلة، وهي حمى تلحق الإنسان - قاله الرماني.
وفي القاموس إن المليلة: الحر الكامن في العظم. وعبر ب {تركت} موضع «تجنبت» مثلاً مع كونه لم يلابس تلك الملة قط، تأنيساً لهما واستدراجاً إلى تركهما؛ ثم اتبع ذلك بما يدل على شرف أصله وقدم فضله بأنه من بيت النبوة ومعدن الفتوة، ليكون ذلك أدعى إلى قبول كلامه وإصابة(10/84)
سهامه وإفضاء مرامه، فقال: {واتبعت} أي بغاية جهدي ورغبتي {ملة آباءي إبراهيم} خليل الله، وهو جد أبيه {وإسحاق} ابنه نبي الله وهو جده {ويعقوب} أبيه إسرائيل: الله. وهو أبوه حقيقة، وتلك هي الحنيفية السمحة التي هي الميل مع الدليل من غير جمود مع هوى بوجه من الوجوه؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيّ الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله: ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» فكأنه قيل: ما تلك الملة؟ فقال: {ما كان لنا} أي ما صح وما استقام بوجه من الوجوه، لما عندنا من نور العلم الذي لم يدع عندنا لبساً بوجه أصلاً {أن نشرك} أي نجدد في وقت ما شيئاً من إشراك {بالله} أي الذي له الأمر كله، وأعرق في النفي فقال:(10/85)
{من شيء} أي بما شرعه لنا من الدين القويم كانت ملتنا التوحيد، ومن التأكيد العموم في سياق النفي، ليعم ذلك كل شيء من عاقل ملك أو إنسي أو جنى أو غيره؛ ثم علل ذلك بما يعرف به أنه كما وجب عليهم ذلك وجب على كل أحد فقال: {ذلك} أي كان هذا الانتفاء أو ذلك التشريع - للملة الحنيفية وتسهيلها وجعل الفطر الأولى منقادة لها مقبلة عليها - العلي الشأن العظيم المقدار {من} أجل {فضل الله} أي المحيط بالجلال والإكرام {علينا} خاصة {وعلى الناس} الذين هم إخواننا في النسب عامة، فنحن وبعض الناس شكرنا الله، فقبلنا ما تفضل به علينا، فلم نشرك به شيئاً؛ والفضل: النفع الزائد على مقدار الواجب، فكل عطاء الله فضل، فإنه لا واجب عليه، فكان لذلك واجباً على كل أحد إخلاص التوحيد له شكراً على فضله لما تظافر عليه دليلاً العقل والنقل من أن شكر المنعم واجب {ولكن أكثر الناس} أي لما لهم من الاضطراب مع الهوى عموا عن هذا الواجب، فهم {لا يشكرون *} فضله بإخلاص العمل له ويشركون به إكراهاً لفطرهم الأولى، فالآية من الاحتباك: ذكر نفي الشرك أولاً يدل على وجوده ثانياً، وذكر نفي الشكر ثانياً يدل على(10/86)
حذف إثباته أولاً.(10/87)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
ولما أقام لهم الدليل على ما هو عليه من الدين الحنيفي تبعاً لخلاصة الخلق، بما تقرر في الأذهان من أن الله تعالى هو المنعم وحده سبحانه فيجب شكره، بعد أن قرر لهم أمر نبوته وأقام دليلها بما يخبرهم به من المغيبات، ودعاهم إلى ما يجب عليهم من التوحيد وهو الإسلام، وكان أكثر الخلق إلاّ الفذ النادر يقرون بالإله الحق، ولكنهم يشركون به بعض خلقه، أتبعه برهان التمانع على فساد كل ملة غير الإسلام الذي يطابق عليه الأنبياء والرسل كلهم، تأييداً لأدلة النقل بقاطع العقل، فقال منادياً لهما باسم الصحبة بالأداة التي تقال عند ما له وقع عظيم في النفوس في المكان الذي تخلص فيه والمودة، وتمحض فيه النصيحة، وتصفي فيه القلوب، ويتعمد الإخلاص رجاء الخلاص -: {ياصاحبي السجن} والصحبة: ملازمة اختصاص كأصحاب الشافعي مثلاً، لملازمة الاختصاص بمذهبه، وهي خلاف ملازمة الاتصال.
ولما فرغ أفهامهما بالنداء لما يلقيه، قرع أسماعهما بالإنكار مع التقرير فقال: {أرباب} أي آلهة {متفرقون} متباينون بالذوات والحقائق تشاهدونهم محتاجين إلى المكان مع كونهم جماداً، ولو كانوا أحياء لأمكن تمانعهم، فأدى إلى إمكان عجز كل منهم القاطع بعدم صلاحيته للإلهية(10/87)
{خير} أي أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة {أم الله} أي الملك الأعلى {الواحد} بالذات، فهو لا يحتاج إلى شيء أصلاً {القهار *} لكل شيء، لا يزال قهره يتكرر أبداً، فهذا برهان لا خطأ به كما ظن، وأبرزه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجه الاستفهام استجلاباً للسامع برد العلم إليه، وسماها أرباباً لمثل ذلك بناء على زعمهم، وكذا المشاركة في أفعل التفضيل، لأن ذلك أقرب إلى الإنصاف، لكونه ألين في القول، فيكون أدعى إلى القبول.
ولما كان الجواب لكل من يعقل: الله خير، أشار إلى ذلك بجزم القول بعد ذلك الاستفهام في سلب صلاحيتهم قبل هذا الإمكان بعدم حياتهم، وعلى تقدير حياتهم بعجزهم، فقال: {ما تعبدون} والعبادة: خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع، وبين حقارة معبوداتهم وسفولها بقوله: {من دونه} أي الله الذي قام برهان التمانع - الذي هو البرهان الأعظم - على إلهية وعلى اختصاصه بذلك {إلا أسماء} وبين ما يريد وأوضحه بقوله: {سميتموها} أي ذوات أوجدتم لها أسماء {أنتم وآباؤكم} لا معاني لها، لأنه لا أرواح لها فضلاً عن أن تتحقق بمعنى ما سميتموها به من الإلهية، وإن كان لها أرواح فهي منتف عنها خاصة الإلهية، وهي الكمال المطلق الذي يستلزم(10/88)
إحاطة العلم والقدرة.
ولما كان مقصود السورة وصف الكتاب بالإبانة للهدى، وكان نفي الإنزال كافياً في الإبانة، لأن عبادة الأصنام باطلة، ولم يكن في السياق كالأعراف مجادلة توجب مماحكة ومماطلة ومعالجة ومطاولة، قال نافياً للإنزال بأي وصف كان: {ما أنزل الله} أي المحيط علماً وقدرة.
فلا أمر لأحد معه {بها} وأعرق في النفي فقال: {من سلطان} أي برهان تتسلط به على تعظيمها، فانتفى تعظيمها لذاتها أو لغيرها، وصار حاصل الدليل: لو كانوا أحياء يحكمون لم يصلحوا للإلهية، لإمكان تمانعهم المؤدي إلى إمكان عجز كل منهم الملزوم لأنهم لأ صلاحية فيهم للإلهية، لكنهم ليسوا أحياء، فهم أجدر بعدم الصلاحية، فعلم قطعاً أنه لا حكم لمقهور، وأن كل من يمكن أن يكون له ثان مقهور؛ فأنتج هذا قطعاً أن الحكم إنما هو لله الواحد القهار، وهو لم يحكم بتعظيمها؛ وذلك معنى قوله: {إن} أي ما {الحكم إلاّ لله} أي المختص بصفات الكمال؛ والحكم: فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة.
ولما انتقى الحكم عن غيره، وكان ذلك كافياً في وجوب توحيده، رغبة فيما عنده، ورهبة مما بيده، أتبعه تأكيداً لذلك وإلزاماً به(10/89)
أنه حكم به، فقال: {أمر ألا تعبدوا} أي أيها الخلق في وقت من الأوقات على حال من الأحوال {إلا إياه} أي وهو النافذ الأمر المطاع الحكم.
ولما قام هذا الدليل على هذا الوجه البين، كان جديراً بالإشارة إلى فضله، فأشار إليه بأداة البعد، تنبيهاً على علو مقامه وعظيم شأنه فقال: {ذلك} أي الشأن الأعظم، وهو توحيده وإفراده عن خلقه {الدين القيم} أي الذي لا عوج فيه فيأتيه الخلل من جهة عوجه، الظاهر أمره لمن كان له قلب {ولكن أكثر الناس} أي لما لهم الاضطراب مع الحظوظ {لا يعلمون *} أي ليس لهم علم، لأنهم لا ينتفعون بعقولهم، فكأنهم في عداد البهائم العجم، فلأجل ذلك هم لا يفردون الله بالعبادة.(10/90)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
ولما تم نصحه وعلا قدحه بإلقائه إليهما ما كان أهمّ لهما لو علما لمآله إلى الحياة الأبدية والرفعة السرمدية. أقبل على حاجتهما تمكيناً لما ذكره وتأكيداً للذي قرره، فناداهما بالأداة الدالة على أن ما بعدها كلام له موقع عظيم لتجتمع أنفسهما لسماع ما يلقى إليهما من التعبير، فقال: {ياصاحبي السجن} أي الذي تزول فيه الحظوظ ويحصل الانكسار للنفس والرقة في القلب فتتخلص فيه المودة.(10/90)
ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز، أبهم ليجوّز كل واحد أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذراً له في الخروج عن الأليق فقال: {أما أحدكما} وهو الساقي فيلخص ويقرب {فيسقي ربه} أي سيده الذي في خدمته {خمراً} كما كان {وأما الآخر} وهو الخباز.
ولما كان الذي له قوة أن يصلب إنما هو الملك، بنى للمفعول قوله: {فيصلب} ويعطب {فتأكل} أي فيتسبب عن صلبه أنه تأكل {الطير من رأسه} والآية من الاحتباك: ذكر ملزوم السلامة والقرب أولاً دليلاً على العطب ثانياً، وملزوم العطب ثانياً دليلاً على السلامة أولاً، وسيأتي شرح تعبيره من التوراة، فكأنه قيل: انظر جيداً ما الذي تقول! وروى أنهما قالا: ما رأينا شيئاً، إنما كنا نلعب، فقال مشيراً بصيغة البناء للمفعول إلى عظمة الله وسهولة الأمور عليه: {قضي الأمر} وبينه بقوله: {الذي فيه} أي لا في غيره {تستفتيان *} أي تطلبان الإفتاء فيه عملاً بالفتوة، فسألتما عن تأويله، وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما، لم أقله عن جهل ولا غلط. وما أحسن(10/91)
إيلاء هذا العلم الثابت لختم الآية السالفة بنفي العلم عن الأكثر، والأحد: المختص من المضاف إليه بمبهم له مثل صفة المضاف، ولا كذلك «البعض» فلا يصدق: رأيت أحد الرجلين - ألا برجل منهما، بخلاف «بعض» والفتيا: الجواب بحكم المعنى، وهو غير الجواب بعلته - ذكره الرماني. ولعل رؤيتهما تشيران إلى ما تشير إليه رؤيا الملك، فالعصير يشير إلى السنابل الخضر والبقر السمان، لأنه لا يكون إلا عن فضل، والخبز - الذي طارت به الأطيار، وسارت بروح صاحبه الأقدار -يشير إلى اليابسة والعجاف - والله أعلم.
ولما كان كل علم بالنسبة إلى علم الله عدماً، عبر عن علمه بالظن، ويمكن أن يكون الظن على بابه لكونه قال ما مضى اجتهاداً بقرائن فيؤخذ منه أنه يسوغ الجزم بما أدى إلى ظن، فقال: {وقال} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {للذي ظن} مع الجزم بأنه أراد به العلم لقوله: {قضى الأمر} ، ويجوز أن يكون ضمير «ظن» للساقي، فهو حينئذ على بابه {أنه ناج منهما} وهو الساقي {اذكرني عند ربك}(10/92)
أي سيدك ملك مصر، بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رُميت به، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله:
{أرباب متفرقون} [يوسف: 39] . فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قال لهما يوسف عليه الصلاة والسلام {فأنساه} أي الساقي {الشيطان} أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنه {ذكر} يوسف عليه الصلاة والسلام عند {ربه} أي بسبب اعتماده عليه في ذلك {فلبث} أي يوسف عليه الصلاة والسلام بسبب هذا النسيان {في السجن} من حين دخل إلى أن خرج {بضع سنين *} ليعلم أن جميع الأسباب إنما أثرها بالله تعالى، وحقيقة البضع من الثلاث إلى التسع، والمروي هنا أنه كان سبعاً.
ذكر ما مضى من هذه القصة من التوراة
قال بعد ما مضى: فأهبط المدينيون يوسف إلى مصر، فاشتراه قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون - رجل مصري - من يد الأعراب الذين أهبطوه إلى هناك، فكان الرب سبحانه وتعالى بعونه مع يوسف، وكان رجلاً منجحاً، وأقام في منزل المصري سيده، فرأى(10/93)
سيده أن الرب بعونه معه، وأن الرب ينجح جميع أفعاله، فظفر يوسف منه برحمة ورأفة فخدمه، وسلطه على بيته، وخوله جميع ما له، ومن اليوم الذي سلطه على بيته وخوله جميع ما له بارك الرب في بيت المصري من أجل يوسف وفي سببه، فحلَّت بركة الرب في جميع ما له في البيت والحقل، فخول كل شيء له، ولم يكن يعلم بشيء مما له في يده لثقته به ما خلا الخبز الذي كان يأكله، وكان يوسف حسن المنظر صبيح الوجه.
فلما كان بعد هذه الأمور لمحت امرأة سيده بنظرها إلى يوسف فقالت له: ضاجعني: فأبى ذلك وقال لامرأة سيده: إن سيدي لثقته بي ليس يعلم ما في بيته، وقد سلطني على جميع ما له، وليس في هذا البيت أعظم مني، ولم يمنعني شيئاً ما خلاك أنت لأنك امرأته، فكيف أرتكب هذا الشر العظيم، فأخطئي بين يدي الله، وإذا كانت تراوده كل يوم لم يطعها ليضاجعها ويصير معها، فبينا هو ذات يوم دخل يوسف إلى البيت ليعمل عملاً، ولم يكن أحد من أهل البيت هناك،(10/94)
فتعلقت بقميصه وقالت له: ضاجعني، فترك قميصه في يدها وهرب، فخرج إلى السوق، فلما رأت أنه قد ترك قميصه في يدها وخرج هارباً إلى السوق، دعت بأهل بيتها وقالت لهم: انظروا، إنه أتانا رجل عبراني ليفضحنا، لأنه دخل عليّ يريد مضاجعتي، وهتفت بصوت عال، فلما رآني قد رفعت صوتي وهتفت، ترك قميصه في يدي وهرب إلى السوق.
فصيرت قميصه عندها حتى دخل سيدها البيت، فقالت: له مثل هذه الأقاويل: دخل عليّ هذا العبد العبراني الذي جلبته علينا يريد يفضحني، فلما رفعت صوتي فصحت ترك قميصه في يدي وهرب فخرج إلى السوق؛ فلما سمع سيده كلام امرأته استشاط غيظاً، فأمر به سيده فقذف في الحبس الذي كان أسرى الملك فيه محبوسين فمكث هناك في السجن، وكان الرب يبصره، ورزقه المحبة والرحمة، وألقى له في قلب السجان رحمة، فولى يوسف جميع المسجونين الذين في الحبس، وكل فعل كانوا يفعلونه هناك كان عن أمره، ولم يكن رئيس السجن(10/95)
يضرب على يديه في شيء، لأن الرب كان بعونه معه، وكل شيء كان يفعله ينجحه الرب.
فلما كان بعد هذه الأمور، أذنب صاحب شراب ملك مصر والخباز - وفي نسخة موضع الخباز: ورئيس الطباخين - بين يدي سيدهما ملك مصر، فغضب فرعون على خادميه: على رئيس أصحاب الشراب ورئيس الخبازين - وفي نسخة: الطباخين - فأمر بحبسهما في سجن صاحب الشرط في الحبس الذي كان فيه يوسف، فسلط صاحب السجن يوسف عليهما فخدمهما، فلبثا في السجن أياماً، فرأيا رؤيا جميعاً، كل واحد منهما رئيا بكل في ليلة واحدة، وكل واحد منهما أحب تعبير حلمه،: الساقي وخباز - وفي نسخة: وطباخ - ملك مصر، فدخل عليهما يوسف بالغداة، فرآهما عابسين مكتئبين فسألهما وقال: ما بالكما يومكما هذا عابسي مكتئبين؟ فقالا له: إنا رأينا رؤيا وليس لها معبر، فقال لهما يوسف: إن علم التعبير عند الله، قصا عليّ.
فقص رئيس أصحاب الشراب على يوسف وقال له: إني رأيت في الرؤيا كأن حبلة بين يدي، في الحبلة ثلاثة قضبان، فبينا هي(10/96)
كذلك إذ فرعت ونبت ورقها، وأينعت عناقيدها، فصارت عنباً، وكأن كأس فرعون في يدي، فتناولت من العنب، فعصرته في كأس فرعون، وناولت الكأس فرعون، فقال له يوسف عليه السلام: هذا تفسير رؤياك: الثلاثة قضبان هي ثلاثة أيام، ومن بعد ثلاثة أيام يذكرك فرعون فيردك على عملك، وتناول فرعون الكأس في يده على العادة الأولى التي لم تزل تسقيه، فاذكرني حينئذ إذا أنعم عليك، وأنعم عليّ بالنعمة والقسط، فاذكرني بين يدي فرعون، وأخرجني من هذا الحبس، لأني إنما سرقت من أرض العبرانين سرقة، وحصلت في الحبس هاهنا أيضاً بلا جرم جاء مني. فرأى رئيس الخبازين - وفي نسخة: الطباخين - أنه قد فسر تفسيراً حسناً فقال يوسف: رأيت أنا أيضاً في منامي كأن ثلاثة أطباق فيها خبز درمك على رأسي، وفي الطبق الأعلى من كل مآكل فرعون مما يصنعه الخباز - وفي نسخة: عمل طباخ حاذق - وكان السباع والطير تأكلها من الطبق من فوق رأسي؛ فأجاب يوسف وقال له: هذا تفسير رؤياك: ثلاثة أطباق هي ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام يأمر فرعون بضرب عنقك وصلبك على خشبة، ويأكل الطير لحمك.
فلما كان اليوم الثالث - وهو يوم ولاد فرعون - اتخذ فرعون(10/97)
وليمة، فجمع عبيده وافتقد رئيس أصحاب الشراب ورئيس الخبازين - وفي نسخة: الطباخين - فأمر برد رئيس أصحاب الشراب على موضعه، وسقى فرعون الكأس كعادته، وأمر بصلب رئيس الخبازين كالذي فسر لهما يوسف عليهما الصلاة والسلام، فلم يذكر رئيس أصحاب الشراب يوسف عليه الصلاة والسلام ونسيه.(10/98)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
ولما بطل هذا السبب الذي أمر به يوسف عليه الصلاة والسلام، وهو تذكير الشرابي به، أثار الله سبحانه سبباً ينفذ به ما أراد من رئاسته وقضى به من سجود من دلت عليه الكواكب فقال دالاً على ذلك: {وقال الملك} وهو شخص قادر واسع المقدور إليه السياسه والتدبير، لملاه وهم السحرة والكهنة والحزرة والقافة والحكماء، وأكد ليعلم أنه محق في كلامه غير ممتحن: {إني أرى} عبر بالمضارع حكاية للحال لشدة ما هاله من ذلك {سبع بقرات سمان} والسمن: زيادة البدن من اللحم والشحم {يأكلهن سبع} أي بقرات {عجاف} والعجف: يبس الهزال {و} إني أرى {سبع} .
ولما كان تأويل المنام الجدب والقحط والشدة، أضاف العدد إلى جمع القلة بخلاف ما كان في سياق المضاعفة في قوله {أنبتت سبع(10/98)
سنابل} [البقرة: 261] فقال: {سنبلات خضر و} إني أرى سبع سنبلات {أخر يابسات} التوت على الخضر فغلبت عليها، وكأنه حذف هذا لدلالة العجاف عليه؛ والسنبلة: نبات كالقصبة حملة حبوب منتظمة، وكأنه قيل: فكان ماذا؟ فقيل: قال الملك: {ياأيها الملأ} أي الأشراف النبلاء الذين تملأ العيون مناظرهم والقلوب مخابرهم ومآثرهم {أفتوني} أي أجيبوني وبينوا لي كرماً منكم بقوة وفهم ثاقب.
ولما كان مراده أن لا يخرجوا بالجواب عن القصد ولا يبعدوا به، عبر بما يفهم الظرف فقال: {في رؤياي} ومنعهم من الكلام بغير علم بقوله: {إن كنتم للرؤيا} أي جنسها {تعبرون *} وعبارة الرؤيا: تأويلها بالعبور من علنها إلى سرها كما تعبر، من عبر النهر - أي شطه - إلى عبره الآخر، ومثله أولت الرؤيا - إذا ذكرت مالها ومرجعها المقصود بضرب المثال.
والمادة - بتراكيبها الستة: عرب، وعبر، ورعب، وربع، وبعر، وبرع - تدور على الجواز من محل إلى محل ومن حال إلى حال، وأكثر ذلك إلى أجود، فالعرب سموا لأن مبنى أمرهم على الارتحال لاستجادة المنازل، وأعرب - إذا أفصح، أي تكلم بكلام العرب فأبان عن مراده، أي أجازه من العجمة والإبهام إلى البيان، وأعرب الفرس - إذا(10/99)
خلصت عربيته، فكأنه جاز مرتبة الهجن إلى العرب، وكذا الإبل العراب، والعروبة: يوم الجمعة - لعلو قدرها عن بقية الأيام، والعروب: المرأة الضاحكة العاشقة لزوجها المتحببه إليه المظهرة له ذلك، وهي أيضاً العاصية لزوجها - لأن كل ذلك أفعال العرب، فهم أعشق الناس وأقدرهم على الاستمالة بالكلام العذب، وهم أعصى الناس وأجفاهم إذا أرادوا، والعرب - ويحرك: النشاط - لأنه انتقال عن الكسل، وقد عرب - كفرح - إذا نشط وإذا ورم، لأن الوارم يتجاوز هيئة غيره، وعربت البئر: كثر ماءها فارتفع، وعرب - كضرب: أكل، والعربة، محركة: النهر الشديد الجري، والنفس - لكثرة انتقالها بالفكر، والعربون: ما عقد به المبايعة من الثمن، فنقل السلعة من حال إلى حال، واستعربت البقر: اشتهت الفحل، إما من العروب العاشقة لزوجها، وإما لنقل الشهوة لها من حال إلى أخرى، وتعرب: أقام بالبادية، مع الأعراب الذين لا يوطنون مكاناً، وإنما(10/100)
هم مع الربيع، وعروباء: اسم السماء السابعة - لارتفاعها عن جميع السماوات، فكأنها جازت الكل، ولأن حركتها حركة للكل، والعرب - بالكسر: يبيس البهمي، لأنه صار أهلاً للنقل ولو بتطيير الهواء، والعربي: شعير أبيض سنبله حرفان - كأنه نسب إلى العرب لجودته، والإعراب: إجراء الفرس ومعرفتك بالفرس العربي من الهجين - لانتقال حال الجهل بذلك إلى حال العلم، وأن لا يلحن في الكلام - كأنه انتقل بذلك من العجمة إلى العربية، وعرب الرجل - بالكسر - إذا أتخم، وكذا الفرس من العلف، ومعدته: فسدت، وجرحه: بقي به أثر بعد البرء، كل ذلك ناقل من حال إلى غيرها، والتعريب: تهذيب المنطق من اللحن - كأنه رفع نفسه إلى العرب، وقطع سعف النخل - لأنه نقلها عن حالها إلى أصلح منه، وأن تكون الدابة على أشاعرها ثم تبزع بمبزع، والتعريب أيضاً والإعراب: ما قبح من الكلام، وتقبيح قول(10/101)
القائل كأنه حكم بزوال عربيته، وهما أيضاً الرد عن القبيح، وذلك إدخاله في خصال العرب التي هي معالي الأخلاق، وهما أيضاً النكاح، أو التعريض به لأن نقله من حال إلى حال وفعل إلى فعل قولاً وعملاً، والتعريب: الإكثار من شرب الماء الصافي، واتخاذ فرس عربي، وسما بها عريب، أي أحد يعرب؛ وعبر الرؤيا - إذا فسرها وأخبر بما يؤول إليه أمرها، كأنه جاز ظاهرها إلى بطن منها، وعبرت الكتاب أعبره عبراً: تدبرته ولم ترفع به صوتك، وعبرت النهر: قطعته من عبره - أي شطه - إلى عبره، والعبر أيضاً: الجانب، لأنه يعبر منه وإليه، والمعبر: سفينة يعبر عليها النهر وشط هيىء للعبور، وعبر القوم: ماتوا، والعبرة - بالكسر: العجب، وبالفتح: الدمعة قبل أن تفيض - كأن لها قوة الجري، أو هي تردد البكاء في الصدر أو الحزن بلا بكاء، لأن ذلك مبدأ جري الدمع؛ وفي مختصر العين: وعبرة الدمع: جريه، والعبرة: الدمع نفسه.
والعبر - بالضم ويحرك: سخة العين، والكثير من كل شيء، وبالجماعة - لأن ذلك جوازعن حد القلة، ولأنهم(10/102)
يجيزون ما شاؤوا، ومجلس عبر - بالكسر والفتح: كثير الأهل - من ذلك، وأيضاً هو أهل لأن يعبر بجماعته من حال إلى حال، وبامرأة مستعبرة - وتفتح الباء: غير محظية، أي هي أهل لجري العبرة، وناقة عبر أسفار - مثلثة قوية، وعبرت عن الرجل فتكلمت عنه - كأنك عبرت من خاطره إلى خاطر المخاطب، وعبرت الدنانير تعبيراً: وزنتها ولم تبالغ في وزنها - كأنك عبرت من الجهل بمقدارها إلى الظن، أو عابر سبيل، أحي مار؛ والشعري: العبور: نجم خلف الجوزاء، والعبور: الجذعة من الغنم - لأنها جازت سنة وتأهلت العبور مع الغنم وكانت في عدادها، والعبور: لأقلف - لأن كمرته عابرة في قلفته، وغلام معبر: لم يختن، ورجل عبر: كاد أن يحتلم ولم يختن بعد، أي كاد أن يصير إلى خذ البالغين على هذه الحال، وهي أن كمرته عابرة في قلفته، وعبر به الأمر تعبيراً: اشتد عليه - كأنه جاز من حالة الرخاء إلى الشدة وعبرت به أهلكته، والمعبرة - بالتخفيف: ناقة لم تنتج ثلاث سنين، فيكون أصلب لها - لأنها صارت أهلاً لأن يعبر عليها في الأسفار، والعبير ضرب من الطيب - لعبور ريحه،(10/103)
والزعفران - لعبور لونه وريحه، والعبرى: السدر النهري - لنباته في عبر النهر، والمعبر من الجمال: الكثير الوبر، ومن الشاء: التي لم تجز - كأنه لجواز الصوف عن حد جلدهما، وسهم معبر وعبير: كثير الريش - كأنه عبر عن حد العادة، والعبر - بالضم: الثكلى، لأنها أهل لإرسال العبرة، والسحاب التي تسير شديداً، والعقاب - لقوتها على قطع المسافات، ونبات عبر: الكذب والباطل - لسرعة زواله؛ ورعبت فلاناً: أفزعته، فهو مرعوب - لأنك أجزته من الأمن إلى الخوف، وسيل راعب: أي يملأ الوادي، وراعب: أرض، منها الحمام الراعبية، والحمام أيضاً لها قوة العبور بالرسائل من مكان إلى مكان، ورعبت الحمامة في صوتها ترعيباً: رفعته، ورعبت السنام: قطعته، والرعبوبة: قطعة منه - لأنها جازت مكانها، وجارية رعبوبة ورعبوب: حسنة القوام تامة - كأنها جازت أقرانها حسناً، والرعب: القصار، واحدهم رعيب وأرعب، تشبيه بالقطعة من السنام؛ والبعر: رجيع الخف والظلف إلا البقر الأهلية، لأنها تخثى، والوحشية تبعر بعراً -(10/104)
لأنه يجوز من مكانه من غير أن يلوثه، فلا يبقى منه به شيء، والمعبر، مكانه، والبعير: الجمل البازل أو الجذع، وقد يكون الحمار وكل ما يحمل؛ وفي مختصر العين: وإذا رأت العرب ناقة أو جملاً من بعيد قالوا: هذا بعير، فإذا عرفوا قالوا للذكر: جمل، وللأنثى: ناقة، والبعرة - بالتحريك: الكمرة، تشبيهاً بها، والربع: المنزل والدار بعينها، والمحلة - لأنها يخرج منها ويدخل إليها، ولذلك سميت متبوأ، لأنها يتبوأ إليها، أي يرجع، وربع يربع: أقام، وأربع على نفسك: انتظر، كأنه من الربع، أي المنزل، لأنه يقام فيه: وربع - إذا أخصب - للانتقال من حال إلى حال أخرى، وهم على ربعاتهم، أي استقامتهم وأمرهم الأول - كأنه من المنزل، والروبع - كجوهر: الضعيف الدنيء - كأن ذلك يلزم من الإقامة في المنزل، وبهاء: قصير العرقوب، والرجل القصير - كأنه تشبيه بالربعة في مطلق القصر عن الطويل، وربع الحجر: رفعه، والحمل: رفعه على الدابة، والمربوع: المنعوش(10/105)
المنفس عنه - لتحول الحال في كل ذلك، والمربعة: خشبة يرفع بها العدل، والمرابعة: أن تأخذ يد صاحبك وترفعا الحمل على الدابة - كأنه مع النقل مأخوذ من الأربعة، وهي أيضاً المعادلة بالربيع، ومنه تربعت الناقة سناماً طويلاً، أي حملته، وربيع الشهور: شهران بعد صفر، وربيع الفصول اثنان الذي فيه النور والكمأة، والذي تدرك فيه الثمار - للانتقال في كل منهما، والربع - كصرد: الفصيل ينتج في الربيع، وناقة مربع: ذات ربع، وأربع القوم: صاروا أربعة، ودخلوا في الربيع، وأقاموا في المربع، وربعت الأرض: أصابها مطر الربيع، والمرابيع: الأمطار أول الربيع، وأربع الرجل - إذا ولد له في شبابه، تشبيهاً للشباب بالربيع، وناقة مرباع - إذا كانت عادتها أن تنتج في ربعية القيظ، والربعية: أول الشتاء، والربيع: الجدول - لجريه وإنبات ما حوله، وجمعه أربعاء، والحجر يشيلونه لتجربة القوى،(10/106)
والرابع تلو الثالث - لأنه جاز الجمع، ووتر وحبل مربوع: مفتول على أربع قوى، وربعتُ القوم أربعهم: صرت رابعهم، والأربعاء: يوم، والمرباع: ربع الغنيمة الذي كان يأخذه الرئيس، والرباعية - كثمانية: السن بين الثنية والناب، وعدتها أربع، وكل ما بلغ الأربعة رباع كثمان، ويقول للغنم في الرابعة وللبقر والحافر في الخامسة وللخف في السابعة: أربعت، كأنه لا يجوز في كل نوع من حد الصغر إلى الكبر إلا بذلك، وأربع الفرس: ألقى رباعيته، وحمى ربع: تأتي في اليوم الرابع، وقد ربع الرجل وأربع، وهو معنى ما قال في القاموس: وربعته الحمى: أخذته الحمى يوماً بعد يومين، لأن يومها الثاني هو رابع يومها الأول، والربعة - بالفتح: جونة العطار - لتضوع ريحها، والرجل بين الطويل والقصير - ويحرك - كالمربوع، لجوازه حد كل منهما، هذا إلى الطول، وهذا إلى القصر، وارتبع: صار ربعة، والربعة - محركة: أشد عدو الإبل، والمسافة بين أثافي(10/107)
القدر - لعبور كل منهما عن محل صاحبتها، وأربع ماء الركية: كثر، فجاز عن محله الأول، وعلى فلان: سأله ثم ذهب ثم عادوه، وعلى المرأة: كر إلى جماعها، والقوم إبلهم مكان كذا: رعوها وأرسلوها على الماء ترد متى شاءت، ويجوز أن يكون هذا أيضاً من الربيع، وأربعت الناقة - إذا استغلقت رحمها فلم تقبل الماء، كأنها أزالت العبور، أي الانتقال من حال إلى أخرى، والربيعة: البيضة من السلاح - لنقلها صاحبها إلى الحصانة، والروضة - لجواز النبت فيها عن حد الأرض، والمربع: شراع السفينة - لأنه آلة السير، والمربع: الرجل الكثير النكاح - لعبوره عن حالة الأولى، ولجلوسه بين الشعب الأربع، وتربع في جلوسه ضد جثا، إما لأنه صار على شكل المربع، وإما أخذا من الربع إلى المنزل، لأنها جلسة المقيم في منزله، وتربعت النخيل: خرقت وصرمت - لتحول حالها، واستربع الرمل: تراكم، إما لجوازه عن حاله الأولى، وإما من الإقامة في الربع، واستربع الغبار، ارتفع، والبعير للمسير: قوى عليه وصبر،(10/108)
والرجل بالأمر: استقل وصبر، وفلان يقيم رباعة قومه، أي شأنهم وحالهم أي يجيزهم من حال إلى أخرى، ومضى من بني فلان ربوع بعد ربوع، أي أحياء بعد أحياء، إما لأن ذلك جواز من دار إلى دار وحال إلى حال، وإما على حذف مضاف، أي أهل ربوع منازل، واليربوع: دابة كالفأرة، إما لشدة جريها، وإما لجعلها نافقاءين تهرب من أيهما شاءت، فهي عبارة منتقلة بالقوة وإن كانت ساكنة، واليربوع: لحمة المتن - كأنه مشبه بالدابة؛ وبرع الرجل - مثلثة: فاق أصحابه في علم أو غيره، أو تم في كل فضيلة وجمال، وهذا أبرع منه: أضخم - لأنه جاز مقداره، والبارع: الأصيل الجيد الرأي، وتبرع بالعطاء: تفضل بما لا يجب عليه من عند نفسه كأنه جاز رتبة الواجب - والله أعلم.
وفي الآية ما يوجبه حال العلماء من حاجة الملوك إليهم، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قالوا} هذه الرؤيا {أضغاث} أي أخلاط، جمع ضغث - بكسر الضاد وإسكان(10/109)
الغين المعجمة، وهو قبضه حشيش مختلطة الرطب باليابس {أحلام} مختلفة مشتبهة، جمع حلم - بضم الحاء وإسكان اللام وضمه، وهو الرؤيا - فقيدوها بالأضغاث، وهو ما يكون من الرؤيا باطلاً - لكونه من حديث النفس أو وسوسة الشيطان، لكونها تشبه أخلاط النبات التي لا تناسب بينها، لأن الرؤيا تارة تكون من الملك وهي الصحيحة، وتارة تكون من تحريف الشيطان وتخليطاته، وتارة من حديث النفس؛ ثم قالوا: {وما نحن} أي بأجمعنا {بتأويل} أي ترجيع {الأحلام} أي مطلق الأضغاث وغيرها، وأعرقوا في النفي بقولهم: {بعالمين *} فدلسوا من غير وجه، جمعوا - وهي حلم واحد - ليجعلوها أضغاثاً لا مدلول لها، ونفوا عن أنفسهم «العلم المطلق» المستلزم لنفي «العلم بالمقيد» بعد أن أتوا بالكلام على هذه الصورة، ليوهموا أنهم ما جهلوها إلا لكونها أضغاثاً - والله أعلم؛ والقول: كلام متضمن بالحكاية في البيان عنه، فإذا ذكر أنه قال، اقتضى الحكاية لما قال، وإذا ذكر أنه تكلم، لم يقتض حكاية لما تكلم به، ومادة «حلم» بجميع تقاليبها تدور على صرف شيء عن وجهه وعادته وما تقتضيه الجبلة - كما يأتي في الرعد في قوله: {شديد المحال} [الرعد: 13] .(10/110)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ولما كان هذا حالاً مذكراً للساقي بيوسف عليع الصلاة والسلام -(10/110)
أخبر سبحانه بأنه ذكره بعد نسيانه، فقال عادلاً عن الفاء إيذاناً بأنه من الملا: {وقال الذي نجا} أي خلص من الهلاك {منهما} أي من صاحبي السجن، وهو الساقي {و} الحال أنه {ادكر} - بالمهملة، أي طلب الذكر - بالمعجمة، وزنه افتعل {بعد أمة} من الأزمان، أي أزمان مجتمعة طويلة {أنا أنبئكم} أي أخبركم إخباراً عظيماً {بتأويله} أي بتفسير ما يؤول إليه معنى هذا الحلم وحده كما هو الحق، وسبب عن كلامه قوله: {فأرسلون *} أي إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فإنه أعلم الناس، فأرسلوه إليه؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولم يكن السجن في المدينة، فأتاه فقال الساقي المرسل بعد وصوله إليه منادياً له بالنداء القرب تحبباً إليه: {يوسف} وزاد في التحبب بقوله: {أيها الصديق} أي البليغ في الصدق والتصديق لما يحق تصديقه بما جربناه منه ورأيناه لائحاً عليه {أفتنا} أي اذكر لنا الحكم {في سبع} وميز العدد بجمع السلامة الذي هو للقلة - كما مضى لما مضى - فقال: {بقرات سمان}(10/111)
أي رآهن الملك {يأكلهن سبع} أي من البقر {عجاف} أي مهازيل جداً {و} في {سبع سنبلات} جمع سنبلة، وهي مجمع الحب من الزرع {خضر و} في سبع {أخر} أي من السنابل {يابسات} وساق جواب السؤال سياق الترجي إما جرياً على العوائد العقلاء في عدم البتّ في الأمور المستقبلة، وإما لأنه ندم بعد إرساله خوفاً من أن يكون التأويل شيئاً لا يواجه به الملك، فعزم على الهرب - على هذا التقدير، وإما استعجالاً ليوسف عليه الصلاة والسلام بالإفتاء ليسرع في الرجوع، فإن الناس في غاية التلفت إليه، فقال: {لعلي أرجع إلى الناس} قبل مانع يمنعني.
ولما كان تصديقهم ليوسف عليه الصلاة والسلام وعلمهم بعد ذلك بفضله وعملهم بما أمرهم به مظنوناً، قال: {لعلهم يعلمون *} أي ليكونوا على رجاء من أن يعلموا فضلك أو ما يدل ذلك عليه من خير أو شر فيعلموا لكل حال ما يمكنهم عمله، فكأنه قيل: فما قال له؟ فقيل: {قال} : تأويله أنكم {تزرعون} أي توجدون الزراعة. فهو إخبار بمغيب، فهو أقعد في معنى الكلام، ويمكن أن يكون خبراً بمعنى الأمر(10/112)
{سبع سنين دأباً} أي دائبين مجتهدين - والدأب: استمرار الشيء على عادته - كما أشارت إليه رؤياك بعصر الخمر الذي لا يكون إلا بعد الكفاية، ودلت عليه رؤيا الملك للبقرات السمان والسنابل الخضر، والتعبير بذلك يدل على أن هذه السبع تكون - كما تعرفون - من أغلب أحوال الزمان في توسطه بخصب أرض وجدب أخرى، وعجز الماء عن بقعة وإغراقه لأخرى - كما أشار إليه الدأب: ثم أرشدهم إلى ما يتقوون به على ما يأتي من الشر، فقال: {فما حصدتم} أي من شيء بسبب ذلك الزرع - والحصد: قطع الزرع بعد استوائه - في تلك السبع الخصبة {فذروه} أي اتركوه على كل حال {في سنبله} لئلا يفسد بالسوس أو غيره {إلا قليلاً مما تأكلون} قال أبو حيان: أشار برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل - انتهى.(10/113)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
ولما أتم المشورة، رجع إلى بقية عبارة الرؤيا، فقال: {ثم يأتي} ولما كانت مدة الإتيان غير مستغرقة لزمان البعد، أتى بالجار فقال: {من بعد ذلك} أي الأمرالعظيم، وهي السبع التي تعملون(10/113)
فيها هذا العمل {سبع} أي سنون {شداد} بالقحط العظيم، وهن ما أشارت إليه رؤيا صاحبك الذي طار برزقه الطيور، وسار بروحه غالب المقدور، ودلت عليه رؤيا الملك من البقرات العجاف والسنابل اليابسات {يأكلن} أسند الأكل إليهن مجازاً عن أكل أهلهن تحقيقاً للأكل {ما قدمتم} أي بالادخار من الحبوب {لهن} والتقديم: التقريب إلى جهة القدام، وبشرهم بأن الشدة تنقضي ولم يفرغ ما أعدوه، فقال: {إلا قليلاً مما تحصنون *} والإحصان: الإحراز، وهو إلقاء الشيء فيما هو كالحصن المنيع - هذا تعبير الرؤيا، ثم زادهم على ذلك قوله: {ثم يأتي} وعبر بالجار لمثل ما مضى فقال: {من بعد ذلك} أي الجدب العظيم {عام} وهو اثنا عشر شهراً، ونظيره الحول والسنة، وهو مأخوذ من العلوم - لما لأهله فيه من السبح الطويل - قاله الرماني. والتعبير به دون مرادفاته إشارة إلى أنه يكون فيه - من السعة بعموم الريّ وظهور الخصب وغزير البركة - أمر عظيم، ولذا اتبعه بقوله: {فيه} .
ولما كان المتشوف إليه الإغاثة، على أنه من المعلوم أنه لا يقدر عليها إلا الله، قال بانياً للمفعول: {يغاث الناس} من الغيث وهو المطر، أو من الغوث وهو الفرج، ففي الأول يجوز بناءه من ثلاثي ومن رباعي،(10/114)
يقال غاث الله الأرض وأغاثها: أمطرها، وفي الثاني هو رباعي خاصة، يقال: استغاث به فأغاثه، من الغوث وهو واوي، ومعناه النفع الذي يأتي على شدة حاجته بنفي المضرة، والغيث يائي وهو المطر الذي يأتي في وقت الحاجة {وفيه} أي ذلك العام الحسن.
ولما كان العصر للأدهان وغيرها لا يكون إلا عن فضله، قال: {يعصرون *} أي يخرجون عصارات الأشياء وخلاصاتها، وكأنه أخذ من انتهاء القحط ابتداء الخصب الذي دل عليه العصر في رؤيا السائل، والخضرة والسمن في رؤيا الملك فإنه ضد القحط، وكل ضدين انتهاء أحدهما ابتداء الآخر لا محالة، فجاء الرسول فأخبر الملك بذلك، فأعجبه ووقع في نفسه صدقه {وقال الملك} أي الذي العزيز في خدمته {ائتوني به} لأسمع ذلك منه وأكرمه، فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك {فلما جاءه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام عن قرب من الزمان {الرسول} بذلك وهو الساقي {قال} له يوسف: {ارجع إلى ربك} أي سيدك الملك {فاسأله} بأن تقول له مستفهماً {ما بال النسوة} ولوح بمكرهن به ولم يصرح، ولا ذكر امرأة العزيز كرماً وحياء فقال: {التي قطعن أيديهن} أي ما خبرهن في مكرهن الذي(10/115)
خالطني، فاشتد به بلائي فإنهن يعلمن أن امرأة العزيز ما دعتهن إلا بعد شهادتهن بأنها راودتني، ثم اعترفت لهن بأنها راودتني، وأني عصيتها أشد عصيان، فإذا سألهن بان الحق، فإن ربك جاهل بأمرهن.
ولما كان هذا موطناً يسأل فيه عن علم ربه سبحانه لذلك، قال مستأنفاً مؤكداً لأنهم عملوا في ذلك الأمر بالجهل عمل المكذب بالحساب الذي هو نتيجة العلم: {إن ربي} أي المدبر لي والمحسن إلي بكل ما أتقلب فيه من شدة ورخاء {بكيدهن} لي حين دعونني إلى طاعة امرأة العزيز {عليم *} وأنا لا أخرج من السجن حتى يعلم ربك ما خفي عنه أمرهن الذي علمه ربي، لتظهر براءتي على رؤوس الأشهاد مما وصموني به من السجن الذي من شأنه أن لا يكون إلا عن جرم، وإن لم تظهر براءتي لم ينقطع عني كلام الحاسدين، ويوشك أن يسعوا في حط منزلتي عند الملك، ولئلا يقولوا: ما لبث هذا السجن إلا لذنب عظيم فيكون في ذلك نوع من العار لا يخفى، وفي هذا دليل على أن السعي في براءة العرض حسن، بل واجب، وأخرج الكلام على سؤال الملك عن أمرهن - لا على سؤاله في أن يفحص عن أمرهن - لأن سؤال الإنسان عن علم ما لم يعلم يهيجه(10/116)
ويلهبه إلى البحث عنه، بخلاف سؤاله في أن يفتش لغيره، ليعلم ذلك الغير، فأراد بذلك حثه لأن يجدّ في السؤال حتى يعلم الحق، ليقبل بعد ذلك جميع ما حدثه به؛ والكيد: الاحتيال في إيصال الضرر.
وإنما فسرت «بال» بذلك لأن مادته - يائية بتراكيبها الخمسة: بلى، وبيل، ولبى، وليب، ويلب، وواوية بتراكيبها الستة: بول، وبلو، وولب، ووبل، ولوب، ولبو، ومهموزة - بتراكيبها الأربعة: لبأ، وبأل، وأبل وألب - تدور على الخلطة المحيلة المميلة، وكأن حقيقتها البلاء بمعنى الاختبار والامتحان والتجربة، ويكون في الخير والشر، أي خالطه بشيء يعرف منه خفي أمره؛ قال القزاز: والفتنة تكون في الشر خاصة، والبلاء: النعمة، من قولك: أبليته خيراً - إذا اصطنعته عنده، وقد تقدم في سورة الأنفال شيء من معاني المادة، وناقة بلو سفر وبلى سفر - إذا أنضاها السفر، وإذا كانت قوية عليه، والبلوى: البلية، وأبليت فلاناً عذراً، أي جئت فيما بيني وبينه ما لا لوم فيه، أي خالطته بشيء أزال اللوم، والبلية: دابة كانت تشد في الجاهلية عند قبر صاحبها ولا تعلف ولا تسقي حتى تموت، ويقال: الناس بذي بلى وبذي بليان، أي متفرقين، كأن حقيقته أنه حل(10/117)
بهم صاحب خلطة شديدة فرقت بينهم، وبلى الشيء - بالكسر بلى مقصوراً وبلاء ممدوداً - إذا فنى وعطب، وبلي فلان بكذا - مبنياً للمفعول، وابتلى به - إذا أصابه ذلك؛ والبول: ولد الرجل، والعدد الكثير، والانفجار، وضد الغائط، ولا ريب أن كلاً من ذلك إذا خالطه الحيوان أحال حاله؛ والبال: الاكتراث والفكر والهم، ومن ذلك عندي: ما باليت به: لم أكترث به، وكذا ما أباليه بالة، وهي مصدر منه، ولم أبال به، ولم أبل، ولكنهم قلبوه من: باولت به، لئلا يلتبس بالبول - والله أعلم، وحقيقتهما: ما استعملتُ بالي الذي هو فكري فيه وإن أعمل هو فكره في أمري، أي إنه أقل من أن يفكر في أمره، ومن المعلوم أن الفكر محل الخلطة المميلة، والبال: المر الذي يعتمل به في أرض الزرع - لمشقة العمل به، والبال: سمكة غليظة تسمى جمل البحر - لأن من خالطته أحالت أمره، والبال: رخاء العيش، والحال، والبالة: القارورة - كأنها من البول،(10/118)
والجراب، ووعاء الطيب، والولب: الوصل، ولبت الشيء: وصلته، وولب هو: وصل ودخل وأسرع، والوالب: الذاهب في وجهه - كأنه خالطه من الهم ما حمله على ذلك، وولب الزرع - إذا صارت له والبة، وهي أفراخ تولدت من أصوله، والوالبة: نسل القوم، ونسل المال، والوالبة: سريع النبات؛ ولاب يلوب - إذا عطش، واللابة: الحرة، وهي مكان ذو حجارة سود كبيرة متصلة صلبة حسنة، فمن خالطها أتعبته وأعطشته، وبها سميت الإبل السود المجتمعة، والصمان، واللابة: شقشقة البعير، وهي شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج - كأنها هي التي أهاجته، والملاب: ضرب من الطيب، والزعفران، والملوب - كمعظم - من الحديد: الملوى، واللوب - بالضم: البضعة التي تدور في القد - لأنها تغير ما في القدر بدورانها، واللواب أيضاً: اللعاب، والأب: عطشت إبله، واللبوة: أنثى الأسد؛ والوابل: المطر الكثير الشديد الوقع الضخم القطر، والوابلة: نسل الإبل(10/119)
والغنم، ورأس العضد الذي في الحق، وما التف من لحم الفخذ، والموابلة: المواظبة، والميبل: ضفيرة من قد مركبة في عود تضرب به الإبل، ووبل الصيد: طرد حثيث شديد، بالنعجة وبلة شديدة - إذا أرادت الفحل، والوبال: الشدة وسوء العاقبة، وهو من الشدة والثقل، وأصابه وبل الجوع، أي جوع شديد، والوبيل: المرعى الوخيم، واستوبلت الأرض - إذا لم توافقك في مطعمك وإن كنت محباً لها، وهي من الوبيل - للطعام الذي لا يشتهي، والوبيل من العقوبة: الشديدة، وهو أيضاً العصا، وخشبة القصار التي يدق بها الثياب بعد الغسل، وخشبة صغيرة يضرب بها الناقوس، والحزمة من الحطب؛ وبلى: حرف يجاب بها الاستفهام الداخل على كلام منفي فتحيله إلى الإثبات بخلاف «نعم» فإنه يجاب بها الكلام الموجب، وتأتي «بلى» في النفي من غير استفهام، يقال: ما أعطيتني درهماً، فتقول: بلى؛ ولبى من الطعام - كرضى: أكثر منه، واللباية - بالضم: شجر الأمطىّ؛ واللياب - بتقديم التحتانية وزن سحاب: أقل من ملء الفم؛ واليلب -(10/120)
محركة: الترسة، ويقال: الدرق، والدروع من الجلود، أو جلود يخرز بعضها إلى البعض، تلبس على الرؤوس خاصة، والعظيم من كل شيء، والجلد؛ والأبيل - كأمير: العصا، والحزين - بالسريانية، ورئيس النصارى، أو الراهب، أو صاحب الناقوس، صنيع مختصر العين يقتضي أن همزته زائدة، وصنيع القاموس أنها أصلية، وعلى كلا التقديرين هو من مدار المادة، فإن من خالطته العصا غيرته، وكذا الرئيس؛ ومن مهموزة اللبأ - كضلع: أول اللبن، وهو أحق الأشياء بالإحالة، وألبأ الفصيل: شدة إلى رأس الخلف - أي حلمة ضرع الناقة - ليرضع اللبأ، ولبأت وهي ملبىء: وقع اللبأ في ضرعها، ولا يكون ذلك إلا بما يخالطها، فيحيل ذلك منها، واللبء - بالفتح: أول السقي، وهو أشد مما في الأثناء في الخلطة والإحالة، وبهاء: الأسدة، وخلطتها محيلة للذكور من نوعها، ولغيرها بالنفرة منها، وكذا اللبوة -(10/121)
بالواو، وعشار ملابي - كملاقح: دنا نتاجها، وهو واضح في الإحالة: ولبأت الشاة ولدها وألبأته: أرضعته اللبأ، ولبأت الشاة والتبأتها: حلبت لبأها؛ والبئيل - كأمير: الصغير الضعيف، بؤل - ككرم، ويقال ضئيل بئيل؛ والإبل - بكسرتين وتسكن الباء - معروف، واحد يقع على الجمع، ليس بجمع ولا اسم جمع، جمعه آبال، الإحالة في خلطتها بالركوب والحمل وغيرهم واضحة، والإبل: السحاب الذي يحمل ماء المطر، وهو ظاهر في ذلك، وتأبّل عن امرأته: امتنع عن غشيانها - من الإزالة، ونسك: أي امتنع عن خلطة الدنيا المحيلة، وبالعصا: ضرب، ومن خالطته العصا أحالته، وأبل العشب أبولاً: طال، فاستمكن منه الإبل، وهو ظاهر في الإحالة، والإبالة - كالإجانة: القطعة من الطير والخيل والإبل أو المتتابعة منها، من نظر شيئاً من ذلك أحاله عن حاله، وكأمير: العصا، ورئيس النصارى، أو الراهب، أو صاحب الناقوس، وكل ذلك واضح في الإحالة، والأبل - بالضم الباء:(10/122)
الحزمة من الحشيش، وخلطتها محيلة لما يأكلها، والإبالة - ككتابة: السياسة، وهي في غاية الإحالة لمن خولط بها، والأبلة - كفرحة: الحاجة والطلبة، وهي معروفة في ذلك، والمباركة في الإبل، وإنه لا يأتبل: لا يثبت على رعية الإبل ولا يحسن مهنتها، أو لا يثبت عليها راكباً، أي إنه سريع التأثر والإحالة من خلطتها، وتأبيل الإبل: تسمينها، أي مخالطتها بما أحالها، والإبلة - بالكسر: العداوة، وإحالتها معروفة، بالضم - العاهة، وهي كذلك، وبالفتح أو بالتحريك: الثقل والوخامة والإثم كذلك، وتأبيل الميت: تأبينه، أي الثناء عليه بعد موته، وهو يهيج الحزن عليه، وجاء في إبالته - بالكسر، وأبلته - بضمتين مشددة: أصحابه، ولا شك أن من جاء كذلك أحال من أتاه، وضغث على إبالة كإجانة ويخفف: بلية على أخرى، أو خصب على خصب - كأنه ضد، وهو واضح الإحالة، وأبلت الإبل تأبُل وتأبل أبولا وأبلا: جزأت - أي اكتفت - بالرطب عن الماء، والرُطُب بضمتين: الإخضر من البقل والشجر أو جماعة العشب الأخضر، والأبول:(10/123)
الإقامة في المرعى، ولا شك في أن من خالطه ذلك أحاله؛ وألب إليه القوم: أتوه من كل جانب، وذلك محيل، وألب الإبل: ساقها، والإبل: انساقت وانضم بعضها إلى بعض، والحمار طريدته: طردها شديداً، وجمع، واجتمع، وأسرع، وعاد، والإحالة في كل ذلك ظاهرة، والسماء: دام مطرها، أي فأحال الأرض وأهلها، والتألب كثعلب: المجتمع منا ومن حمر الوحش والوعل، وهي بهاء، وما كان كذلك أحال ما خالطه، والإلب - بالكسر: الفتر، وشجرة كالأترج سم، وذلك ظاهر في الإحالة، وبالفتح: نشاط الساقي، وميل النفس إلى الهوى، والعطش، والتدبير على العدو من حيث لا يعلم، ومسك السخلة، والسم، والطرد الشديد، وشدة الحمى والحر، وابتداء برء الدمل، وكل ذلك ظاهر الإحالة، وريح ألوب: باردة تسفي التراب، ورجل ألوب: سريع إخراج الدلو، أو نشيط، فمن(10/124)
خالطه أحاله، وهم عليه ألب وإلب واحد: مجتمعون عليه بالظلم والعداوة، وذلك محيل لا شك فيه، والإلبة بالضم: المجاعة، وبالتحريك: اليلبة، والتأليب: التحريض والإفساد، وكل ذلك ظاهر في الإحالة، وكذا المئلب - للسريع، والألب: الصفو، وهو محيل، والألب - بالتحريك: اليلب، وقد مضى أنها الترسة - والله أعلم.
ولما قال يوسف عليه الصلاة والسلام ذلك وأبى أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر، رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل: فما فعل الملك؟ فقيل: {قال} للنسوة بعد أن جمعهن: {ما خطبكن} أي شأنكن العظيم؛ وقوله: {إذ راودتن} أي خادعتن بمكر ودوران ومراوغة {يوسف عن نفسه} دليل على أن براءته كانت متحققة عند كل من علم القصة، فكأن الملك وبعض الناس - وإن علموا مراودتهن وعفته - ما كانوا يعرفون المراودة هل هي لهن كلهن أو لبعضهن، فكأنه(10/125)
قيل: ما قلن؟ فقيل: مكرن في جوابهن إذ سألهن عما عملن من السوء معه فأعرضن عنه وأجبن بنفي السوء عنه عليه الصلاة والسلام، وذلك أنهن {قلن حاش لله} أي عياذاً بالملك الأعظم وتنزيهاً له من هذا الأمر، فأوهمن بذلك براءتهن منه؛ ثم فسرن هذا العياذ بأن قلن تعجباً من عفته التي لم يرين مثلها، ولا وقع في أوهامهن أن تكون لآدمي وإن بلغ ما بلغ: {ما علمنا عليه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام، وأعرقن في النفي فقلن: {من سوء} فخصصنه بالبراءة، وهذا كما تقدم عند قول الملأ {أضغاث أحلام} هذا وهو جواب للملك الذي تبهر رؤيته وتخشى سطوته، فكان من طبع البلد عدم الإفصاح في المقال - حتى لا ينفك عن طروق احتمال فيكون للتفصي فيه مجال - وعبادة الملوك إلا من شاء الله منهم.
ولما تم ذلك، كان كأنه قيل: فما قالت التي هي أصل هذا(10/126)
الأمر؟ فقيل: {قالت امرأت العزيز} مصرحة بحقيقة الحال: {الآن حصحص الحق} أي حصل على أمكن وجوهه، وانقطع عن الباطل بظهوره، من: حص شعره. إذا استأصل قطعه بحيث ظهر ما تحته، ومنه الحصة: القطعة من الشيء، ونظيره: كب وكبكب، وكف وكفكف، فهذه زيادة تضعيف، دل عليه الاشتقاق وهو قول الزجاج - قاله الرماني. ووافقه الرازي في اللوامع وقال: وقال الأزهري: هو من حصحص البعير: أثرت ثفناته في الأرض إذا برك حتى تستبين آثارها فيه {أنا راودته} أي خادعته وراودته {عن نفسه} وأكدت ما أفصحت به مدحاً ونفياً لكل سوء بقولها مؤكداً لأجل ما تقدم من إنكارها: {وإنه لمن الصادقين *} أي العريقين في هذا الوصف في نسبة المراودة إليّ وتبرئة نفسه، فقد شهد النسوة كلهن ببراءته، وإنه لم يقع منه ما ينسب به شيء من السوء إليه، فمن نسب إليه بعد ذلك هماً أو غيره فهو تابع لمجرد الهوى في نبي من المخلصين.(10/127)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
ولما انجلى الأمر، أمر الملك بإحضاره، ليستعين به فيما إليه من الملك، لكن لما كانت براءة الصديق أهم من ذلك - وهي المقصود من رد(10/127)
الرسول - قدم بقية الكلام فيها عليه، وليكون كلامه في براءته متصلاً بكلام النسوة في ذلك، والذي دل على أن ذلك كلامه ما فيه من الحكم التي لا يعرفها في ذلك الزمان غيره، فقال - بناء على ما تقديره: فلما رجع الرسول إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فأخبره بشهادتهن ببراءته قال -: {ذلك} أي الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق {ليعلم} العزيز علماً مؤكداً {أني لم أخنه} أي في أهله ولا في غيرها {بالغيب} أي والحال أن كلاً منا غائب عن صاحبه {و} ليعلم بإقرارها وهي في الأمن والسعة، وتثبتي وأنا في محل الضيق والخوف ما من شأنه الخفاء عن كل من لم يؤيده الله بروح منه من {إن الله} أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال {لا يهدي} أي يسدد وينجح بوجه من لوجوه {كيد الخائنين} أي العريقين في الخيانة، بل لا بد أن يقيم سبباً لظهور الخيانة وإن اجتهد الخائن في التعمية؛ والخيانة: مخالفة الحق بنقض العهد العام. وضدها الأمانة، والغدر: نقضه خاصاً، والمعنى أني لما كنت بريئاً سدد الله أمري، وجعل عاقبتي إلى خير كبير وبراءة تامة، ولما كان غيري خائناً، أنطقه الله بالإقرار بها.(10/128)
ولما كان ذلك ربما جر إلى الإعجاب، قال: {وما أبرىء} أي تبرئة عظيمة {نفسي} عن مطلق الزلل وإن غلبه التوفيق والعصمة، أي لم أقصد بالبراءة عما تقدم مجرد التزكية للنفس، وعلل عدم التبرئة بقوله - مؤكداً لما لأكثر الناس من الإنكار، أو لأن اتباعهم لأهويتهم فعل من ينكر فعل الأمارة -: {إن النفس} أي هذا النوع {لأمارة} أي شديدة الأمر {بالسوء} أي هذا الجنس دائماً لطبعها على ذلك في كل وقت {إلا ما} أي وقت أن {رحم ربي} بكفها عن الأمر به أو بستره بكفها عن فعله بعد إطلاقها على الأمر به، أو إلا ما رحمه ربي من النفوس فلا يأمر بسوء؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً دفعاً لظن من يظن أنه لا توبة له: {إن ربي} أي المحسن إليّ {غفور} أي بليغ الستر للذنوب {رحيم *} أي بليغ الإكرام لمن يريد.
ولما أتم ما قدمه مما هو الأهم - من نزاهة الصديق، وعلم الملك ببراءته وما يتبعها - على ما كان قلبه من أمر الملك بإحضاره إليه، أتبعه إياه عاطفاً له على ما كان في نسقه من قوله {قال ما خطبكن} فقال: {وقال الملك} صرح به ولم يستغن بضميره كراهية الإلباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه الصلاة والسلام، ولو كان الكل من كلامها لاستتغنى بالضمير ولم يحتج إلى(10/129)
إبرازه {ائتوني به أستخلصه} أي أطلب وأوجد خلوصه {لنفسي} أي فلا يكون لي فيه شريك، قطعاً لطمع العزيز عنه، ودفعاً لتوهم أنه يرده إليه، ولعل هذا هو مراد يوسف عليه الصلاة والسلام بالتلبث في السجن إلى إنكشاف الحال، خوفاً من أن يرجع إلى العزيز فتعود المرأة إلى حالها الأولى فيزداد البلاء.
ولما كان التقدير: فرجع رسول الملك إليه فأخبره أن الملك سأل النسوة فقلن ما مضى، وأمر بإحضاره ليستخلصه لنفسه، فقال يوسف عليه الصلاة والسلام ما تقدم من تلك الحكم البالغة، وأجاب أمر الملك فأتى إليه بعد أن دعا لأهل السجن فقال: اللهم! عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار، وكتب على باب السجن: هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وبيوت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء. ثم اغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً وقصد إليه، عطف عليه بالفاء - دليلاً على إسراعه في ذلك - قوله: {فلما كلمه} وشاهد الملك فيه ما شاهد من جلال النبوة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة {قال} مؤكداً(10/130)
تمكيناً لقوله دفعاً لمن يظن أنه بعد السجن وما قاربه لا يرفعه هذه الرفعة: {إنك اليوم} وعبر بما هو لشدة الغرابة تمكيناً للكلام أيضاً فقال: {لدينا مكين} أي شديد المكنة، من المكانة، وهي حالة يتمكن بها صاحبها من مراده {أمين *} من الأمانة، وهي حال يؤمن معها نقض العهد، وذلك أنه قيل: إن الملك كان يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها، فعرفها كلها، ثم دعا للملك بالعبراني، فلم يعرفه الملك فقال له: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي، فعظم عنده جداً، فكأنه قيل: فما قال الصديق؟ فقيل: {قال} ما يجب عليه من السعي في صلاح الدين والدنيا {اجعلني} قيماً {على خزائن الأرض} أي أرض مصر التي هي لكثرة خيرها كأنها الأرض؛ ثم علله بما هو مقصود الملوك الذي لا يكادون يقفون عليه فقال: {إني حفيظ} أي قادر عل ضبط ما إليّ أمين فيه {عليم *} أي بالغ العلم بوجوه صلاحه واستنمائه فأخبر بما جمع الله له من أداتي الحفظ والفهم، مع(10/131)
ما يلزم الحفظ من القوة والأمانة، لنجاة العباد مما يستقبلهم من السوء، فيكون ذلك سبباً لردهم عن الدين الباطل إلى الدين الحق.
ولما سأل ما تقدم، قال معلماً بأنه أجيب بتسخير الله له: {وكذلك} أي ومثل ما مكنا ليوسف في قلب الملك من المودة والاعتقاد الصالح وفي قلوب جميع الناس، ومثل ما سأل من التمكين {مكنا} أي بما لنا من العظمة {ليوسف في الأرض} أي مطلقاً لا سيما أرض مصر بتولية ملكها إياه عليها {يتبوأ} أي يتخذ منزلاً يرجع إليه، من باء - إذا رجع {منها حيث يشاء} بإنجاح جميع مقاصده، لدخولها كلها تحت سلطانه.
لتبقى أنفس أهل المملكة وما ولاها على يده، فيجوز الأجر وجميل الذكر مع ما يزيد يه من علو الشأن وفخامة القدر، فكأنه قيل: لم كان هذا؟ فقال: لأمرين: أحدهما أن لنا الأمر كله {نصيب} على وجه الاختصاص {برحمتنا} بما لنا من العظمة {من نشاء} من مستحق فيما ترون وغيره، لا نسأل عما نفعل، وقد شئنا إصابة يوسف بهذا، والثاني أنه محسن يعبد الله فانياً عن جميع الأغيار {و} نحن {لا نضيع}(10/132)
بوجه {أجر المحسنين *} أي العريقين في تلك الصفة وإن كان لنا أن نفعل غير ذلك؛ روى أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم في أول فتوح مصر من طريق الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فأتاه الرسول فقال: ألق عنك ثياب السجن، والبس ثياباً جدداً، وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رأى غلاماً حدثاً فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة! وأقعده قدامه ثم قال: قال عثمان - يعني ابن صالح - وغيره في حديثهما: فلما استنطقه وسايله عظُم في عينه، وجل أمره في قلبه، فدفع إليه خاتمة وولاه ما خلف بابه - ورجع إلى ابن عباس قال: وضرب بالطبل بمصر أن يوسف خليفة الملك؛ وعن عكرمة أن فرعون قال ليوسف: قد سلطتك على مصر غير أني أريد أن أجعل كرسيّ أطول من كرسيك بأربع أصابع! قال يوسف: نعم.(10/133)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
ولما كان هذا مما يستعظمه الناس في الدنيا، وكان عزها لا يعد في الحقيقة إلا إن كان موصولاً بنعيم الآخرة، نبه على ما له في الآخرة مما لا يعد هذا في جنبه شيئاً، فقال مؤكداً لتكذيب الكفرة بذلك: {ولأجر الآخرة خير} ولما كان سياق الأحكام على وجه عام لتعليقها بأوصاف يكون السياق مرغوباً فيها أو مرهباً منها أحسن وأبلغ،(10/133)
قال: {للذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف {وكانوا} أي بجبلاتهم {يتقون *} أي يوجدون الخوف من الله واتخاذ الوقايات منه إيجاداً مستمراً، وهو من أجلهم حظاً وأعلاهم كعباً - كما تقدم بيانه مما يدل على كمال إيمانه وتقواه.
ولما كان من المعلوم أن من هذه صفاته يقوم بما وليه أتم قيام وينظر فيه أحسن نظر، كان كأنه قيل: فجعله الملك على خزائن الأرض فدبرها بما أمره الله به وعلمه حتى صلح الأمر وجاء الخير وذهب الشر، وإنما طوى هذا للدلالة عليه بلوازمه من قصة إخوته التي هي المقصودة بالذات - كما سيأتي، وقد فهم من هذه القصة أن الغالب على طبع مصر الرداءة: بغض الغريب، واستذلال الضعيف، والخضوع للقوي، فإنهم أساؤوا إليه بالسجن بعد تحقق البراءة، ثم عفا عنهم وأحسن إليهم بما استبقى به مهجهم، ثم أعتقهم بعد أن استرقهم، ورد إليهم أموالهم بعد أن استأصلها بما عنده من الغلال، فجزوره على ذلك بأن استعبدوا أولاده وأولاد إخوته بعده وساموهم سوء العذاب، وأدل دليل على أن هذا طبع البلد أن بني إسرائيل لما خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام وخلصهم من جميع ذلك الذل وشرفهم بما شرفهم الله به من الآيات العظام والكتاب المبين، كانوا كل قليل(10/134)
ينكثون مجترئين على ما لا يطاق الاجتراء عليه، وإذا أمرهم عن الله بأمر جنبوا عنه - كما مضى ذلك عن التوراة في الأعراف والبقرة وغيرهما، فعاقبهم الله بالتيه، وكان يسميهم الجيل المعوج - لما علم من سوء طباعهم، حتى مات كل من نشأ بأرض مصر، ثم صار أولادهم يمتثلون الأوامر حتى ملكوا ما وعد الله به آباءهم من البلاد، وقد ذكر ذلك في زبور داود عليه الصلاة والسلام في غير موضع، منها في المزمور الرابع والتسعين: هلموا نسجد ونركع ونخضع أمام الرب خالقنا، لأنه إلهنا ونحن شعب رعيته، وضأن ماشيته، اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسو قلوبكم وتسخطوه كمثل السخط يوم التجربة في البرية حيث جربني آباؤكم، فأحصوا أعمالي ونظروها، أربعين سنة مقتُّ ذلك الجيل وقلت: هو شعب في كل حين يطغون بقلوبهم، فلم يعتدوا لسلبي كما أقسمت برجزي أنهم لا يدخلون راحتي. آباؤنا بمصر لم يفهموا عجائبك، ولم يذكروا كثرة رحمتك حين أغضوك وهم صاعدون من البحر الأحمر، فنجيتهم باسمك لتظهر عجائبك، زجر البحر الأحمر فجف، أجازهم في اللجج كأنهم في البر، خلصهم من أيدي الأعداء، وأنقذهم من أيدي(10/135)
المبغضين، وأطلق الماء على مبغضيهم فلم يبق منهم واحد، فآمنوا بكلامه، ومجدوا بسبحته.
ثم أسرعوا فنسوا أعماله، ولم ينتظروا إرادته، اشتهوا شهوة في البرية، جربوا الله حيث لا ماء، فأعطاهم سؤلهم، وأرسل شبعاً لنفوسهم، أغضبوا موسى في المعسكر وهارون قديس الرب، انفتحت الأرض، وابتلعت داثان، وانطبقت على جماعة بيرون، واشتعلت النار في محافلهم، وأحرق اللهيب الخطأة، صنعوا عجلاً في حوريب، وسجدوا للمنحوت، وبدلوا مجدهم بشبه عجل يأكل عشباً، ونسوا الله الذي نجاهم، وصنع العظائم بمصر والعجائب في أرض حام، والمهولات في البحر الأحمر، قال: إنه يهلكهم لولا موسى صفيه قام بين يديه ليصرف سخطه، لئلا يستأصلهم، ورذلوا الأرض الشهيه، ولم يؤمنوا بكلمته، وتقمقموا في مضاربهم، ولم يسمعوا قول الرب، فرفع يده عليهم ليهلكهم في البرية، ويفرق ذريتهم في الأمم، ويبددهم في(10/136)
البلدان، لأنهم قربوا لباعل فاغور، وأكلوا ضحايا ميتة، وأسخطوه بأعمالهم، وكثر الموت فيهم بغتة، فقام فنحاس واستغفر لهم، فارتفع الموت عنهم، فحسب ذلك برّاً لجيل بعد جيل إلى الأبد، ثم أسخطوه على ماء الخصام، وتألم موسى لأجلهم، وأغضبوا روحه، وخالفوا كلام شفتيه، ولم يستأصلوا الأمم الذين أمرهم الرب، واختلطوا بالشعوب وتعلموا أعمالهم، فكانت عِشرة لهم، ذبحوا بنيهم وبناتهم للشياطين، وضحوا لأصنام كنعان، ودنسوا الأرض بالدماء، وتنجسوا بأعمالهم، وزنوا بأفعالهم، فاشتد غضب الرب على شعبه، ورذل ميراثه، فأسلمهم في أيدي الشعوب، وسلط عليهم شناتهم، واستعبدهم أعداؤهم وخضعوا تحت أيديهم، مراراً كثيرة بجاهم، وهم يسخطونه بأفكارهم، وذلوا بسيئاتهم - انتهى؛ على أنك إذا تأملت وجدت أن الله تعالى يعلي كعب الغريب الذي يستذلونه ويحل سعده ويؤثل مجده - كما فعل بيوسف عليه الصلاة والسلام بعد السجن وببني إسرائيل بعد الاستعباد،(10/137)
وهو نعم المولى ونعم النصير! فليحذر الساكن بها من أن يغلب عليه طبعها فيتصف بكل ذلك من قلة الغيرة وبغض الغريب، والجرأة في الباطل استصناعاً ومداهنة، والجبن في الحق، وكمال الذل للجبارين، والمجمجة في الكلام، بأن لا يزال يتعهد نفسه بأوامر الله ويحملها على طاعته، واتباع رسوله ومحبته، والنظر في سيرته وسير أتباعه، والتعشق لذلك كله، حتى يصير له طبعاً يسلخه من طبع البلد، كما فعل عُبادها، وأهل الورع منها وزهادها - أعاذنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله أن يختم لنا بالصالحات، وأن يجعلنا من الذين لا خوف عليهم أبداً.
ذكر ما مضى بعدما تقدم من هذه القصة من التوراة: قال: فلما كان بعد سنتين رأى فرعون رؤيا كأنه واقف على شاطىء البحر، وكأن سبع بقرات صعدن من بحر النيل حسنات المنظر سمينات اللحوم، يرعين في المرج، وكأن سبع بقرات صعدن خلفهن من النيل قبيحات المنظر وحشيات مهزولات اللحوم، فوقفن إلى جانب البقرات السمان على شاطىء النهر، فابتلع البقرات القبيحات الحسنات المنظر السمينات،(10/138)
فهب فرعون من سنته، ورقد أيضاً فرأى ثاني مرة كأن سبع سنبلات طلعن في قصبة واحدة ممتلئة سماناً، وكأن سبع سنبلات مهزولات ضربهن ريح السموم - وفي نسخة: القبول - نبتن بعدهن، فبلغ السنبل المهزول السبع سنبلات الممتلئات، فاستيقظ فرعون فآذته رؤياه، فلما كان بالغداة كربت نفس فرعون، فأرسل فدعا جميع السحرة وكل حكماء مصر، فقص عليهم رؤياه، فلم يوجد إنسان يفسرها لفرعون.
فتكلم رئيس أصحاب الشراب بين يدي فرعون وقال: إني ذكرت يومي هذا ذنبي عند غضب فرعون على عبده، فقذفني في محبس صاحب الشرطة، فحبست أنا ورئيس الخبازين - وفي نسخة: الطباخين - فرأينا جميعاً رؤيا في ليلة واحدة، رأى كل امرىء منا كتفسير رؤياه، وكان معنا هناك في الحبس فتى عبراني عند صاحب الشرطة فقصصنا عليه ففسر أحلامنا، وعبر لكل منا على قدر رؤياه، وكل الذي فسر لنا كذلك أصابنا، أما أنا فردني الملك إلى موضعي، وأما ذلك فأمر بصلبه.(10/139)
فأرسل فرعون فدعا يوسف عليه الصلاة والسلام، فأحضروه من السجن، فحلق شعره وغير ثيابه، ودخل فوقف بين يدي فرعون، فقال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام: إني رأيت رؤيا وليس لي من يفسرها، وقد بلغني عنك أنك تسمع الرؤيا فتفسرها بأحسن تأويل! فأجاب يوسف عليه الصلاة والسلام فقال لفرعون: ألعلك تخال أني أجيب فرعون بسلام عن غير أمر الله تعالى.
فقال فرعون ليوسف: إني رأيت في الرؤيا كأني واقف على شاطىء النهر، وكأن سبع بقرات طلعن من النهر حسنات المنظر سمينات اللحم، يرعين في المرج، وكأن سبع بقرات طلعن من النهر بعدهن سمجات قبيحات المنظر مهزولات اللحم جداً، لم أر على هزالها في جميع أرض مصر، فابتلعت البقرات المهزولات الضعيفات القبيحات أولئك السبع بقرات السمان، فدخلن أجوافهن، فلم يتبين دخولهن، وكأن منظرهن قبيحاً كالذي كان من قبل، فانتبهت فاضطجعت فرأيت أيضاً(10/140)
في الرؤيا كأن سبع سنبلات حسنات في قصبة واحدة ممتلئة سماناً حساناً، وكأن سبع سنبلات مهزولات ضربهن ريح السموم نبتن خلفهن، فابتلع السنبل المهزول الضعيف السبع سنبلات الممتلئات الحسان، فقصصت ذلك على السحرة، فلم أجد من يبين.
فقال يوسف عليه الصلاة والسلام لفرعون: الرؤيا يا فرعون واحدة، أطلع الله فرعون على ما هو مزيع أن يفعله، السبع بقرات الحسان والسبع سنبلات الحسان هي سبع سنين: خير، الرؤيا واحدة، والسبع بقرات الضعيفات المهزولات اللاتي صعدان بعدهن والسبع سنبلات المهزولات اللاتي ضربها ريح السموم تكون سبع سنين: جوع، وهذا القول الذي قلت لفرعون.
إن الله أظهر ما هو مزمع عتيد أن يفعله، وها هذه سبع سنين يأتي الشبع والخصب العظيم جميع أرض مصر، ويأتي بعدها سبع سنين أخر يكون فيها الجوع، وينسى جميع الشبع، والخصب الذي كان في جميع أرض مصر، فيبيد أهل الأرض من الجوع من أجل الغم الذي يأتي من بعد لكثرته وشدته، وإنما أعيدت الرؤيا لفرعون ثاني مرة، لأن الأمر معد بين يدي الرب، والله معجل فعله.(10/141)
والآن فلينظر فرعون رجلاً حكيماً فهماً. فيوليه أرض مصر، فيقاسم أهل مصر على الخمس في السبع السنين، فيجمعوا جميع أفقال هذه السنين الخصبة الآتية، ويخزنوا الأفقال تحت يدي فرعون، ويحفظ القمح في القرى، وليكن الفقل معداً محفوظاً لأهل مصر لسبع سني الجوع المزمع أن يكون في جميع أرض مصر، ولا يبيد أهل الأرض بالجوع.
فحسن هذا القول عند فرعون وعند عبيده، فقال فرعون لقواده: هل يوجد مثل هذا الرجل الذي روح الله حالّ فيه؟ ثم قال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام: إذا أطلعك الله على هذا كله، ليس أحد فهما مثلك، أنت المسلط على بيتي، وعن أمرك وقولي فيك يقبل جميع الشعب، وإنما أنا أعظم منك بالمنبر فقط، وقال فرعون ليوسف: انظر فقد وليتك جميع أرض مصر، وخلع فرعون خاتمه(10/142)
من خنصره، فوضعه في خنصر يوسف عليه الصلاة والسلام، وألبسه ثياب كتان، وطوقه بطوق من ذهب، وحمله على بعض مراكبه، ونادى بين يديه: هذا أب ومسلط، وسلطانه على جميع أرض مصر، ثم قال فرعون ليوسف عليه الصلاة والسلام: إني قد أمرت أن لا يكون أحد يشير بيديه أو يخطو بقدميه دون أمرك في جميع أرض مصر.
ودعا فرعون اسم يوسف: موضح الخفايا، وزوجه بأسنة - وفي نسخة: بأسنات - بنت قوطفيرع إمام إسكندرية - وفي نسخة: حبر وان - فخرج يوسف عليه السلام والياً على جميع أرض مصر، وكان قد أتى على يوسف ثلاثون سنة إذ وقف بين يدي فرعون، فطاف في جميع أرض مصر.
وأغلّت الأرض في جميع السبع سني الخصب، ملأ الخزائن وجمع الأقفال في القرى، جمع قمح حقول كل قرية وما أحاط بها فخزنة فيها، وخزن يوسف عليه الصلاة والسلام من الأقفال(10/143)
مثل كثيب - وفي نسخة: رمل البحر - كثيراً جداً حتى أعيى إحصاء ذلك فصار غير محصى.
فولد ليوسف عليه الصلاة والسلام ابنان قبل دخول سنة الجوع، ولدت له أسنة - وفي نسخة: أسنات - نبت قوطيفرع حبر وان - وفي نسخة: إمام إسكندرية - فدعا يوسف عليه الصلاة والسلام اسم ابنه بكر منشا، لأنه قال: إن الله أنساني جميع تعبي - وفي نسخة: شقائي - وما كان منه في بيت أبي، وسمى الآخر أفراثيم، وقال: لأن الله كثرني في أرض تعبدي، فنفدت سنو الشبع الذي كان في أرض مصر، وبدأت سنو الجوع ليأتي كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام، فكان الجوع في جميع أرض مصر، ولم يوجد الخبز في جميع أرض مصر، فجاع جميع أهل مصر، فضج الشعب على فرعون من أجل الخبز، فقال فرعون لجميع المصريين: انطلقوا إلى يوسف(10/144)
عليه السلام فافعلوا جميع ما يأمركم به.(10/145)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
ولما كان المعنى - كما تقدم: فجعل إليه خزائن الأرض، فجاءت السنون المخصبة، فدبرها بما علمه الله، ثم جاءت السنون المجدبة فأجدبت جميع أرض مصر وما والاها من بلاد الشام وغيرها، فأخرج ما كان ادخره من غلال سبع سنين بالتدريج أولاً فأولاً - كما حد له {العليم الحكيم} فتسامع به الناس فجاؤوا للامتيار منه من كل أوب {وجاء إخوة يوسف} العشرة لذلك، وحلف أبوهم بنيامين أخا يوسف عليه السلام لأمه عنده، ودل على تسهيله إذنهم بالفاء فقال: {فدخلوا عليه} أي لأنه كان يباشر الأمور بنفسه كما هو فعل الكفاة الحزمة، لا يثق فيه بغيره {فعرفهم} لأنه كان مرتقباً لحضورهم لعلمه بجدب بلادهم وعقد همته بهم. مع كونه يعرف هيئاتهم في لباسهم وغيره، ولم يتغير عليه كبير من حالهم. لمفارقته إياهم رجالاً {وهم له منكرون *} ثابت إنكارهم عريق فيهم وصفهم به، لعدم خطوره ببالهم لطول العهد، مع ما تغير عليهم من هيئته بالسن وانضاف إليه من الحشم والخدم واللباس وهيئة البلد وهيبة الملك(10/145)
وعز السلطان، وغير ذلك مما ينكر معه المعروف، ويستوحش لأجله من المألوف، وفق ما قال تعالى {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} [يوسف: 15] والدخول: الانتقال إلى محيط، والمعرفة: تبين الشيء بالقلب بما لو شوهد لفرق بينه وبين غيره مما ليس على خاص صفته.
ولما كان المعنى في قوة أن يقال: فطلبوا منه الميرة فباعهم بعد أن استخبرهم عن أمرهم، وقال لهم: لعلكم جواسيس؟ وسألهم عن جميع حالهم. فأخبروه بأبيهم وأخيهم منه، ليعلم صلاحهم ولا يظن أنهم جواسيس، عطف عليه قوله: {ولما جهزهم} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {بجهازهم} الذي جاؤوا له وقد أحسن إليهم؛ والجهاز: فاخر المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد {قال} أي لهم {ائتوني} أيها العصابة {بأخ لكم} كائن {من أبيكم} يأتي برسالة من أبيكم الرجل الصالح حتى أصدقكم، أو أنهم طلبوا منه لأخيهم حملاً، فأظهر أنه لم يصدقهم، وطلب إحضاره ليعطيه، فإنه كان يوزع الطعام على قدر الكفاية؛ ثم رغبهم بإطماعهم في مثل ما فعل بهم من الإحسان، وكان قد أحسن نزلهم، فقال مقرراً لهم بما رأوا منه:(10/146)
{ألا ترون} أي تعلمون علماً هو كالرؤية {أني أوفي الكيل} أي أتمه دائماً على ما يوجبه الحق {وأنا خير المنزلين *} أضع الشيء في أولى منازله.
ولما رغبهم، رهبهم فقال: {فإن لم تأتوني به} أي بأخيكم أول قدمة تقدمونها {فلا كيل لكم} وعرفهم أنه لا يمنعهم من غيره فقال: {عندي ولا تقربون *} ومع ذلك فلم يخطر ببالهم أنه يوسف، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قالوا سنراود} أي بوعد لا خلف فيه حين نصل {عن أباه} أي نكلمه فيه وننازعه الكلام ونحتال عليه فيه، ونتلطف في ذلك، ولا ندع جهداً؛ ثم أكدوا ذلك - بعد الجملة الفعلية المصدرة بالسين - بالجملة الاسمية المؤكدة بحرفي التأكيد، فقالوا: {وإنا لفاعلون *} أي ما أمرتنا به والتزامناه، وقد مضى عند {وراودته} أن المادة - يائية وواوية بهمز وبغير همز - تدور على الدوران، ومن لوازمه القصد والإقبال والإدبار والرفق والمهلة، وقد مضى بيان غير المهموز، وأما المهموز فمنه درأه، أي دفعه - لأن المدفوع يرد إلى الموضع الذي أتى منه، والمدارأة: المدافعة والمنازعة مطلقاً، أي سواء كانت برفق أو بعنف، ثم كثرت فقصرت(10/147)
على الملاينة، ويلزم من الدفع حلول المدفوع في موضع لا يريده بغتة، ومنه: درأ علينا، أي خرج مفاجأة، قال القزاز: وأصله من قولهم: جاء السيل درأ، أي يدرأ بعضه بعضاً، وهو الذي يأتي من مكان لا يعلم به، واندرأ فلان علينا بالشر - إذا أتى به من حيث لم ندر، والدرء: النشوز، وهو من الدفع، وكوكب دريء: متوقد متلألىء - كان نوره يدفع بعضه بعضاً، ومنه درأت النار: أضاءت، واندرأ الحريق: انتشر، ودرأ الشيء: بسطه - لأن المبسوط لا يخلو عن دفع، وتدارؤوا: تدافعوا في الخصومة.
ودرأ البعير: أغد، ومع الغدة ورم في ظهره، وناقة دارىء: مغدة، وذلك لأن الغدة ملزومة للدفع، لا تنفك عنه بالقتب والركب وغيرهما، وكل ناتىء في الجسد هذا شأنه، ومنه الدرء: لقطعة من الجبل مشرقة، وناقة مدرىء: أنزلت اللبن وأرخت ضرعها عند النتاج - كأنها دفعتهما، وادرأت(10/148)
الصيد - على «افتعلت» : اتخذت له دريئة، وقد تقدمت «الدرية» في الواوي، ومنه: ادرأت فلاناً - ذا اعتمدته، والدرء: الميل والعوج - لأنه أهل لأن يدفع ليقوم، وطريق ذو دروء، أي كور وأخاقيق أي شقوق - فكأنها تدفع صاحبها عن القصد، وتدرؤوا عليهم: تطاولوا - لأن ذلك لا يخلو عن مدافعة كالنشوز، ويلزم الدفع القوة، ومنه رجل ذو تدرا، أي منعه وقوة، ورادته بكذا - بتقديم الراء: جعلته قوة له وعماداً يدافع عنه، والردء: العون والمادة والعدل الثقيل - لأنه يدافع ليعتدل، وردأ الحائط: دعمه، وردأه بحجر: رماه به، لأنه إذا أصابه دفعه، والإبل: أحسن القيام عليها، لأن ذلك لا يكون إلا بمدافعة، وأردأ الستر: أرخاه، بدفعه له من المكان الذي كان به، وأردأ الولد: سكنه وأنسه، فدفع الهم عنه، وأردأ الشيء: أقره - كأنه لسلب الدفع،(10/149)
وكذا أردأه أي أفسده، إما بأنه لم يدافعه بإحسان القيام عليه فأفسده، أو أنه زاد في الدفع حتى فسد، ومن ذلك أردأ - إذا فعل رديئاً، أي فعلا فاسداً ليس بجيد، وكأن من ذلك الأدرة - بالضم ساكنة وتحرك - وهي عظم الخصيتين في الناس والخيل؛ ومن التدافع: ترأدت الحية: اهتزت في انسيابها ورفعت رأسها، والريح: اضطربت - فكأن بعضها يدفع بعضاً، ومنه رأد الضحى: ارتفاعه، وترأد الضحى: ارتفع، وكذلك الجارية الرأدة والرؤد - بالضم، أي الناعمة، وقال القزاز: السريعة الشباب مع حسن غذاء، وقال ابن دريد: جارية رأدة - غير مهموز: كثيرة المجيء والذهاب، فإذا قلت: جارية رؤدة فهي الناعمة.
فإذا فسرت بالذهاب والمجيء فهو من الدوران الذي هو المدار، وإذا فسرت بالناعمة فهو من الاضطراب اللازم له، وغصن رؤد - بالضم: رطب - من ذلك، قال القزاز: وأحسب الجارية الناعمة إنما سميت رؤداً من هذا، وترأد: اهتز نعمة، وزيد: قام فأخذته رعدة، والغصن: تفيأ، والعنق: التوى - كله(10/150)
من الدوران وما يلزمه من الاضطراب، ورئد الإنسان: صديقه، لأنه يراوده ويداوره، والرأدة: أصل اللحى، وهو أصول منبت الأسنان، وهو العظم الذي يدور فيه طرفا اللحيين مما يلي الصدغين؛ ومن الرفق والمهلة: الرؤدة - بالضم، وهي التؤدة.
ولما أعلمنا سبحانه أنه رغبهم في شأن أخيه، ورهبهم بالقول، أعلمنا بأنه رغبهم فيه بالفعل، فقال عاطفاً على قوله الماضي لهم: {وقال} أي يوسف عليه الصلاة والسلام شفقة على إخوته وإرادة لنصحهم فيما سألهم فيه: {لفتيانه} أي غلمانه، وأصل الفتى: الشاب القوي، وسيأتي شرحه عند قوله تعالى: {تفتؤا تذكر يوسف} {اجعلوا بضاعتهم} أي ما بضعوه أي قطعوه من مالهم للتجارة وأخذناه منهم ثمناً لطعامهم الذي دفعناه لهم {في رحالهم} أي عدولهم؛ والرحل: ما أعد للرحيل من وعاء أو مركب {لعلهم يعرفونها} أي بضاعتهم؛ وعبر بأداة التحقق تفاؤلاً لهم بالسلامة، أو ظناً، أو علماً بالوحي، فقال: {إذا انقلبوا} راجعين {إلى أهلهم} أي يعرفون أنها هي بعينها، رددتها(10/151)
عليهم إحساناً إليهم، ويجزمون بذلك، ولا يظنون أن الله أخلف عليهم مثلها نظراً إلى حالهم وكرامة لأبيهم، ويعرفون هذه النعمة لي {ولعلهم يرجعون *} أي ليكون حالهم وحال من يرجع إلينا إذا عرفوها، لردها تورعاً، أو للميرة بها إن لم يكن عندهم غيرها، أو طمعاً في مثل هذا، وإنما لم يبادر إلى تعريفهم بنفسه والتعجيل بإدخال السرور على أبيه، لأن ذلك غير ممكن عادة - لما يأتي من الحكم البالغة والتدبير المتين، ودل على إسراعهم في الرجوع بالفاء فقال: {فلما رجعوا} أي إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام {إلى أبيهم} حملهم ما رأوا - من إحسان الصديق وحاجتهم إليه وتبرئتهم لأنفسهم عن أن يكونوا جواسيس - على أن {قالوا ياأبانا} .
ولما كان المضار لهم مطلق المنع، بنوا للمفعول قولهم: {منع منا الكيل} لأخينا بنيامين على بعيره لغيبته، ولنا كلنا بعد هذه المرة إن لم نذهب به معنا ليظهر صدقنا؛ والمنع: إيجاد ما يتعذر به على القادر الفعل.
وضده: التسليط، وأما العجز فضده القدرة {فأرسل} أي بسبب إزالة هذا المنع {معنا أخانا} إنك إن ترسله معنا {نكتل} أي لنفسه كما يكتال كل واحد منا لنفسه - هذا على قراءة حمزة والكسائي(10/152)
بالتحانية، ولنؤوله على قراءة الجماعة بالنون - من الميرة ما وظفه العزيز، وهو لكل واحد حمل، وأكدوا لما تقدم من فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام مما يوجب الارتياب بهم، فقالوا: {وإنا له} أي خاصة {لحافظون *} أي عن أن يناله مكروه حتى نرده إليك، عريقون في هذا الوصف، فكأنه قيل: ما فعل في هذا بعد ما فعلوا إذ أرسل معهم يوسف عليه الصلاة والسلام؟ قيل: عزم على إرساله معهم، ولكنه أظهر اللجاء إلى الله تعالى في أمره غير قانع بوعدهم المؤكد في حفظه، لما سبق منهم من مثله في يوسف عليه الصلاة والسلام بأن {قال هل آمنكم} أي أقبل منكم الآن وفي مستقبل الزمان تأمينكم لي فيه مما يسوءني تأميناً مستعلياً {عليه} أي بنيامين {إلا كما آمنتكم} أي في الماضي {على أخيه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام.
ولما كان لم يطلع يوسف عليه الصلاة والسلام على خيانة قبل ما فعلوا به، وكان ائتمانه لهم عليه إنما هو زمان يسير، أثبت الجار فقال: {من قبل} فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردوه إليّ - والأمن: اطمئنان القلب إلى سلامة النفس - فأنا في هذا لا آمن عليه إلا الله {فالله} أي المحيط علماً وقدرة {خير حافظاً} منكم ومن كل أحد {وهو} أي باطناً وظاهراً {أرحم الراحمين *}(10/153)
فهو أرحم بي من أن يفجعني به بعد مصيبتي بأخيه؛ فأرادوا تفريغ ما قدموا به من الميرة {ولما فتحوا} أي أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام {متاعهم} أي أوعيتهم التي حملوها من مصر {وجدوا بضاعتهم} أي ما كان معهم من كنعان بشراء القوت.
ولما كان المفرح مطلق الرد. بنى للمفعول قوله: {ردت إليهم} والوجدان: ظهور الشيء للنفس بحاسة أو ما يغني عنها، فكأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا} أي لأبيهم {ياأبانا ما} أي أي شيء {نبغي} أي نريد، فكأنه قال لهم: ما الخبر؟ فقالوا بياناً لذلك وتأكيداً للسؤال في استصحاب أخيهم: {هذه بضاعتنا} ثم بينوا مضمون الإشارة بقولهم: {ردت إلينا} هل فوق هذا من إكرام.
ولما كان التقدير: فنرجع بها إليه بأخينا، فيظهر له نصحنا وصدقنا، بنى عليه قوله: {ونمير أهلنا} أي نجلب إليهم الميرة برجوعنا إليه؛ والميرة: الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد {ونحفظ أخانا} فلا يصيبه شيء مما يخشى عليه، تأكيداً للوعد بحفظه وبياناً لعدم ضرر في سفره، ويدل على ما في التوراة - من أنه كان سجن أحدهم ليأتوا بأخيهم الأصغر - قوله: {ونزداد كيل بعير} أي فيكون جملة ما نأتي به(10/154)
بعد الرجوع إليه اثني عشر حملاً، لكل منا حمل، وللمسجون حملان - لكرّته الأولى والثانية، وذلك أنه كان لا يعطي إلا حملاً لكل رأس، فكأنه ما أعطاهم لما جهزهم غير تسعة أحمال، فكأنه قيل: وهل يجيبكم إلى ذلك في هذه الأزمة؟ فقالوا: نعم، لأن {ذلك كيل يسير *} بالنسبة إلى ما رأينا من كرم شمائله وضخامه ملكه وفخامة همته، فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل: {قال} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام {لن أرسله} أي بنيامين كائناً {معكم} أي في وقت من الأوقات {حتى تؤتون} من الإيتاء وهو الإعطاء، أي إيصال الشيء إلى الأخذ {موثقاً} وهو العقد المؤكد.
ولما كان مراده موثقاً ربانياً، وكان الموثق الرباني - وهو ما كان بأسمائه تعالى لكونه أذن سبحانه فيه وأمر بالوثوق به - كأنه منه، قال: {من الله} أي الملك الأعظم بأيمان عظيمة: والله {لتأتنَّني} كلكم {به} من الإيتان، وهو المجيء في كل حال {إلا} في حال {أي يحاط} أي تحصل الإحاطة بمصيبة من المصائب، لا طاقة لكم بها {بكم} فتهلكوا من عند آخركم، كل ذلك زيادة في التوثيق، لما حصل له من المصيبة بيوسف عليه الصلاة والسلام وإن كان الاعتماد في حفظه إنما هو على الله، وهذا من باب «اعقلها وتوكل» فأجابوه إلى(10/155)
جميع ما سأل {فلما آتوه} أي أعطاه بنوه {موثقهم قال الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {على ما نقول وكيل *} هو القادر على الوفاء به المرجو للتصرف فيه بالغبطة، لا أنتم.(10/156)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
ولما سمح لهم بخروجه معهم، أتبع تعالى ذلك الخبر عن أمره لهم بالاحتياط من المصائب لأنهم أحد عشر رجلاً إخوة أهل جمال وبسطة، وكانوا قد شهروا عند المصريين بعض الشهرة، بسبب ما دار بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام من الكلام في المرة الأولى، فكانوا مظنة لأن ترمقهم الأبصار ويشار إليهم بالأصابع، فيصابوا بالعين، ولم يوصهم في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين، مع شغل الناس بما هم فيه من القحط، فقال حكاية عنه: {وقال} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه عندما أرادوا السفر: {يابني} محذراً لهم من شر الحسد والعين - {لا تدخلوا} إذا قدمتم إلى مصر {من باب واحد} من أبوابها؛ والواحد على الإطلاق: الذي لا ينقسم، وأما المقيد بإجرائه على موصوف كباب واحد، فهو ما لا ينقسم في معنى ذلك الموصوف {وادخلوا من أبواب} واحترز من أن(10/156)
تكون متلاصقة أو متقاربة جداً، فقال: {متفرقة} أي تفرقاً كبيراً، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين - كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة والضحاك والسدي، فإن العين حق، وهي من قدر الله، وقد ورد شرعنا بذلك، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «العين حق» وفي رواية عند أحمد وابن ماجه: «يحضرها الشيطان وحسد بن آدم» ولمسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «العين حق، ولو شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» ولأبي نعيم في الحلية عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال: «إن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر» ولأبي داود عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «وإنما لتدرك الفارس فتدعثره»(10/157)
ولأحمد والترمذي عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» قال الإمام الرازي: ومنشأ إصابة العين توهم النفس الخبيثة هلاك من تصيبه. وقد تقدم معنى ذلك في رواية أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مع انضمام حضور الشيطان، وهذا الاحتياط من باب الأخذ بالأسباب المأمور بها، لأنها من القدر، لا من من باب التحرز من القدر، كما روى مسلم وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن» لو «تفتح عمل الشيطان»
معناه - والله أعلم: افعل فعل الأقوياء، ولا تفعل فعل العجزة، وذلك بأن تنعم النظر، تمعن في التأمل وتتأنى، حتى تعلم المصادر والموارد، فلا تدع شيئاً يحتمل أن ينفعك في الأمر الذي أنت مقبل(10/158)
عليه ولا يضرك إلا فعلته، ولا تدع أمراً يمكن أن يضرك إلا تركته واحترزت منه جهدك، فإنك إذا فعلت ذلك وأتى أمر من عند الله بخلاف مرادك كنت جديراً بأن لا تقول في نفسك: لو أني فعلت كذا، فإنك لم تترك شيئاً، وأما إذا فعلت فعل العجزة، وتركت الجزم فما أوشك أن تؤتى من قبل ترك الأسباب، فما أقربك إلى أن تقول ما يفتح عمل الشيطان من «لو» .
ولما خاف أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أن الحذر يغني من القدر، نفى ذلك مبيناً أنه لم يقصد غير تعاطي الأسباب على ما أمر الله وأن الأمر بعد ذلك إليه: إن شاء سبب عن الأسباب مسبباتها، وإن شاء أبطل تلك الأسباب وأقام أسباباً تضادها ويتأثر عنها المحذور، فقال: {وما أغني} أي أجزي وأسد وأنوب {عنكم من الله} أي بعض أمر الملك الأعظم، وعمم النفي فقال: {من شيء} أي إن أراد بكم، سواء كنتم مفترقين أو مجتمعين، وهذا حكم التقدير، ثم علل ذلك بقوله: {إن} أي ما {الحكم} وهو(10/159)
فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة {إلا الله} أي الذي له الأمر كله، لا يقدر أحد سواه على التفصي عن شيء من مراده والفرار من شيء من قدره، ولهذا المعنى - وهو أنه لا ينفع أصلاً سبب إلا بالله - أنزل الله التسمية مقرونة بهاء السبب أول كتابه، وأمر بها أول كل شيء؛ وروى أبو نعيم في الحلية في ترجمة إمامنا الشافعي بسنده إليه ثم إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس يوماً فقال في خطبته: وأعجب ما في الإنسان قلبه، ولو مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع. وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر. وكل إفراط له مفسد. قال: فقام إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل، فقال:(10/160)
يا أمير المؤمنين؟ أخبرنا عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال بيت مظلم فلا تدخله، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال: سر الله فلا تتكلفه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال: أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين، لا جبر ولا تفويض، فقال: يا أمير المؤمنين! إن فلاناً يقول بالاستطاعة وهو حاضرك، فقال: عليّ به! فأقاموه، فلما رآه سل من سيفه قدر أربع أصابع فقال: الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله؟ وإياك أن تقول أحدهما فترتد فأضرب عنقك! فقال: فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: قل: أملكها بالله الذي إن شاء ملكنيها.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الحج عند {إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18] ما يتصل بهذا.
ولما قصر الأمر كله عليه سبحانه، وجب رد كل أمر إليه، وقصر النظر عليه، فقال منبهاً على ذلك: {عليه} أي على الله وحده الذي ليس الحكم(10/161)
إلا له {توكلت} أي جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعله {وعليه} أي وحده {فليتوكل المتوكلون *} أي الثابتون في باب التوكل، فإن ذلك من أعظم الواجبات، من فعله فاز، ومن أغفله خاب، ثم إنه سبحانه صدق يعقوب فيما قال، مؤكداً لما أشار إلى اعتقاده، فقال: {ولما} وعطفه بالواو يدل على أنهم ما أسرعوا الكرة في هذه المرة خوفاً من أن يقول لهم: لم يفرغ ما عندكم حتى تضطروا إلى الاستبدال به، والزمان زمان رفق، لا زمان تبسط {دخلوا} أي أخوة يوسف عليه الصلاة والسلام عند وصولهم إلى مصر {من حيث أمرهم} أي به {أبوهم} من أبواب متفرقة، قالوا: وكان لمصر أربعة أبواب {ما كان} ذلك الدخول {يغني} أي يدفع ويجزي {عنهم من الله} أي الملك الأعلى الذي لاراد لأمره، وأعرق في النفي فقال: {من شيء} كما تقدم من قول يعقوب عليه الصلاة والسلام {إلا حاجة} أي شيئاً غير أتم حاجة {في نفس يعقوب} وهو الدخول على ما أمر به شفقة عليهم {قضاها} يعقوب، وأبرزها من نفسه إلى أولاده، فعملوا فيها بمراده فأغنى عنهم ذلك الإخلاص من عقوق أبيهم فقط، فإنهم ابتلوا في هذه السفرة بأمر عظيم لم يجدوا منه خلاصاً، وهو نسبهم إلى السرقة، وأسر أخيهم منهم، قال أبو حيان: وفيه حجة لمن زعم أن «لما» حرف وجوب لوجوب، لا ظرف زمان بمعنى «حين» ، إذا(10/162)
لو كان ظرف زمان ما جاز أن يكون معمولاً لما «بعد» ما النافية - انتهى.
ولما كان ذلك ربما أوهم أنه لا فائدة في الاحيتاط، أشار تعالى إلى رده بمدح يعقوب عليه الصلاة والسلام، حثاً على الاقتداء به في التسبب مع اعتقاده أن الأمر بيد الله فقال: {وإنه} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام مع أمره لبنيه بذلك {لذو علم} أي معرفة بالحكمين: حكم التكليف، وحكم التقدير، واطلاع على الكونين عظيم {لما} أي للذي {علمناه} إياه من أصول الدين وفروعه، ويجوز أن يكون المعنى: لذو علم لأجل تعليمنا أياه.
فاقتدوا به في الاحتياط في تعاطي الأسباب، مع اعتقاد أنه لا أثر لها إلا أن أمضاها الواحد القهار، فبهذا التقدير يتبين أن الاستثناء متصل، وفائدة إبرازه - في صورة الأستثناء عند من جعله منقطعاً - الإشارة إلى تعظيم يعقوب عليه الصلاة والسلام، وأنه جدير بأن يكون ما يأمر به مغنياً، لأنه من أمر الله، فلو كان كل شيء يغني من قدر الله لأغنى ما أشار به، وإنما فسرت «يغنى» ب «يدفع» لأن مادة «غنى» - بأي ترتيب كان - تدور على الإقامة، فيكون أغنى للسلب، وهو معنى للدفع، بيانه أن غنى بمعنى أقام، وعاش، ولقي، ومغنى الدار: موضع الحلول، ويلزم من الإقامة الكفاية والتمول،(10/163)
لأن الفقير منزعج مضطرب، والغني - كإلى: التزوج، وإذا فتح مد، والاسم الغنية - بالضم، وذلك لأن التزوج لازم الإقامة، والغانية: المرأة تُطلَب ولا تَطلُب، أو الغنية بحسنها عن الزينة، أو الشابة المتزوجة، أو الشابة العفيفة ذات زوج كانت أم لا، ومثلها يلزم المنزل ويقصر في الخيام، وأغنى عنه غناء فلان: ناب عنه منابه وأجزأ مجزأه، وحقيقته جعل إقامة كذا متجاوزة عنه، فالمفعول محذوف، فإذا قال مثلاً: فلان أغنى عني في الحرب، كان المعنى: أغنى عني ضرب الأبطال أو شدة الحرب، أي أزال إقامة ذلك عني فجعله متجاوزاً، ولا شك أن معنى ذلك: دفعه عني، وكذا كل ما كان من ذلك، وما فيه غناء ذاك، أي إقامته والاضطلاع به، ويلزم أيضاً - من الإقامة التي هي المدار والكفاية التي هي سببها - الغناءُ - بالكسر والمد، وهو التطريب بالصوت، والغناء أيضاً: الرمل - لإقامته، وغنى بالمرأة: تغزل، أي نظم فيها الغزل، وغنى بزيد: مدحه أو هجاه - من لوازم الإقامة والكفاية، ومنه غنى الحمام: صوت؛ ونغى - كرمى: تكلم(10/164)
بكلام يفهم - لأن ذلك يسكن الخاطر عن القلق، ومنه المناغاة - وهي تكليم الصبي بما يهوى، ونغيت إليه نغية، أي ألقيت إليه كلمة، والنغية - كالنغمة: أول الخبر قبل أن تستثبته، من تسمية الجزء باسم الكل، وناغاه: داناه، ومنه الموج يناغي السماء - إذا ارتفع، وناغاه: باراه أي عارضه، والمرأة: غازلها، أي حادثها - كل ذلك من لوازم الإقامة؛ والغين: حرف هجاء مجهور مستعل - كأنها لقوتها مقيمة في مخرجها غير متزعزعة عنه كالراء والحروف الهوائية وغيرها، والغين: العطش - لأنه الأصل لاقتضاء الحرارة له والريّ حادث، والغين: الغيم - لإقامته في الهواء، والغينة: أرض - لأنها موضع الإقامة، والأشجار الملتفة بلا ماء، هي أيضاً موضع لذلك، لأنها ظليلة ولا ماء بأرضها يمنع من الانتفاع بشيء من ظلها، والغيناء: الخضراء من الشجر، وبئر، وبالقصر: قنة ثبير من الأثبرة السبعة - لأن ذلك كله موضع(10/165)
للإقامة، ولعل قنة هذا الجبل كثيرة الشجر فترجع إلى الشجرة، والأغين: الطويل - إما تشبيه بقنة الجبل، أو بالشجرة، والغانة: حلقة رأس الوتر في القوس، وغين على قلبه: غطى عليه أي أقام عليه ساتراً له فصار كالسماء بالنسبة إلى الغيم، ومنه غين عليه - إذا تغشته الشهوة وألبس أو غشي عليه، أو أحاط به الرين وهو الطبع والدنس، والغينة - بالكسر: الصديد وما سل من الميت - كأنه من سلب الإقامة، وكذا الغين بالكسر - لموضع كثير الحمى، وغانت نفسي تغين: غثت، والإبل: غامت، أي حصل لها داء كالقلاب غير أنه لا يقتل - انتهى.
ولما كان قد يظن أن كل أحد يكون كذلك، أي يعلم ما علمه، نفى ذلك سبحانه بقوله: {ولكن أكثر الناس} أي لأجل ما لهم من الاضطراب {لا يعلمون *} أي ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفرغ قواهم في الاهتمام بما وقع(10/166)
التكفل لهم به من أحوال الدنيا، ومغالبة فطرهم القويمة السليمة بردها إلى ما تدعو إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون فيها طب مخلوق.(10/167)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
ولما أخبر تعالى عن دخولهم إلى البلد، أخبر عن دخولهم لحاجتهم إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقاتل: {ولما دخلوا} أي بنوه عليه الصلاة والسلام {على يوسف} في هذه القدمة الثانية {آوى إليه أخاه} شقيقه بنيامين بعد أن قالوا له: هذا أخونا الذي أمرتنا به قد أحضرناه، فقال: أصبتم، وستجدون ذلك عندي؛ والإيواء: ضم النفس بالتصيير إلى موضع الراحة، وسبب إيوائه إليه أنه أمر كل اثنين منهم أن يأكلوا على حدة، فبقي بنيامين بلا ثان، فقال: هذا يأكل معي، ثم قال ليا: وكل اثنين منكم في بيت من خمسة أبيات أفردها لهم، وهذا الوحيد يكون معي في بيتي، وهذا التفريق موافق لما أمرهم به أبوهم في تفريق الدخول، فكأنه قيل: ماذا قال له، هل أعلمه بنفسه أو كتم ذلك عنه كما فعل بسائر إخوته؟ فقيل: بل {قال} معلماً له، لأنه لا سبب يقتضي الكتم عنه - كما سيأتي بيانه، مؤكداً لما للأخ من إنكاره لطول غيبته وتغير أحواله وقطع(10/167)
الرجاء منه: {إني أنا أخوك} يوسف: ثم سبب عن ذلك قوله: {فلا تبتئس} أي تجتلب البؤس. وهو الكراهة والحزن {بما كانوا} أي سائر الإخوة، كوناً هم راسخون فيه {يعملون *} مما يسوءنا وإن زعموا أنهم بنوا ذلك العمل على علم، وقد جمعنا له خير ما يكون عليه الاجتماع، ولا تعلمهم بشيء من ذلك، ثم إنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا. وكأنه في المرة الأولى أيضاً في تجهيزهم ليتعرف أخبارهم في طول المدة من حيث لا يشعرون، ولذلك لم يعطف بالفاء، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرة قصداً إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبرها. فلذلك أتت الفاء في قوله: {فلما جهزهم} أي أعجل جهاز وأحسنه {بجهازهم} ويؤيده {فلما جاء أمرنا} [هود: 66 و82] في قصتي صالح ولوط عليهما الصلاة والسلام - كما مضى في سورة هود عليه الصلاة والسلام {جعل} أي بنفسه أو بمن أمره {السقاية} التي له. وهي إناء يسقي به {في رحل أخيه} شقيقه، ليحتال بذلك على إبقائه عنده مع علمه بأن البصير لا يقضي بسرقته بذلك، مع احتمال أن يكون الصواع دس في رحله بغير علمه كما فعل ببضاعتهم في المرة الأولى، وأما غير البصير فضرر ثبوت ذلك في ذهنه مفتقر لأنه يسير بالنسبة إلى ما يترتب(10/168)
عليه من النفع من ألف إخوته بيوسف عليه الصلاة والسلام وزوال وحشتهم منه بإقامته عنده - كما سيأتي مع مزيد بيان - هذا مع تحقق البراءة عن قرب، فهو من باب ارتكاب أخف الضررين، ثم أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أرسل إليهم فحبسوا {ثم} أي بعد انطلاقهم وإمعانهم في السير {أذن} أي أعلم فيهم بالنداء {مؤذن} قائلاً برفيع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه - بما يدل عليه إسقاط الأداة: {أيتها العير} أي أهلها، وأكد لما لهم من الإنكار {إنكم لسارقون *} أي ثابت لكم ذلك لا محالة حقيقة بما فعلتم في حق يوسف عليه الصلاة والسلام، أو مجازاً بأنكم فاعلون فعل السارق - كما سيأتي بيانه آنفاً، مع أن هذا النداء ليس من قول يوسف عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن لا يكون بأمره حتى يحتاج إلى تصحيحه، بل يكون قائله فهم ذلك من قوله عليه السلام: صواعي مع الركب، أو كأنهم أخذوا صواعي فاذهب فآتني به أو بهم - ونحو ذلك مما هو حق في نفسه؛ والعير: القافلة التي فيها الأحمال، والأصل فيها الحمير، ثم كثر حتى أطلق على كل قافلة تشبيهاً بها، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التلطف في بلوغ المراد من إيقاع الأسباب التي تؤدي إليه وتبعث عليه بظاهر جميل وباطن حق مما يخفى على كثير من الناس موقعه، ويشكل عليه وجهه، لأنه أنفذ له وأنجح للمطلوب منه،(10/169)
فكأنه قيل: إن هذه لتهمة عظيمة، فما قالوا في جوابها؟ فقيل: {قالوا} في جواب الذين لحقوهم {و} الحال أن آل إسرائيل {أقبلوا} ودل - على أن الذين لحقوهم كانوا جماعة المؤذن أحدهم، كما كما هو شأن ذوي الرئاسة إذا أرسلوا في مهم - بالجمع في قوله: {عليهم} أي على جماعة الملك: المنادي وغيره {ماذا تفقدون *} مما يمكننا أخذه {قالوا نفقد} وكأن السقاية كان لها اسمان، فعبروا هنا بقولهم: {صواع الملك} والصواع: الجام يشرب فيه {ولمن جاء به} أي أظهره ورده من غير تفتيش ولا عناء {حمل بعير} وهو بالكسر: قدر من المتاع مهيأ لأن يحمل على الظهر، وأما الحمل في البطن فبالفتح {وأنا به زعيم *} أي ضامن وكفيل أوديه إليه، وإفراد الضمير تارة وجمعه أخرى دليل على أن القاتل واحد، وأنه نسب إلى الكل لرضاهم به، وفي الآية البيان عما يوجبه حال بهت الإنسان للتثبت في الأمر وترك الإسراع إلى ما لا يجوز من القول، فكأنه قيل: فما قال إخوة يوسف؟ قيل: {قالوا} قول البريء {تالله} أي الملك اوعظم فأقسموا قسماً مقروناً بالتاء، لأنها يكون فيها التعجب غالباً، قال الرماني: لأنها لما كانت نادرة في أدوات القسم جعلت للنادر من المعاني، والنادر من المعاني يتعجب منه، وقال: إنها بدل من الواو،(10/170)
والواو بدل من الباء، فهي بدل من بدل، فلذلك ضعفت عن التصريف في سائر الأسماء، ثم أكدوا براءتهم بقولهم: {لقد علمتم} أي بما جربتم من أمانتنا قبل هذا في كرتي مجيئنا {ما جئنا} وأكدوا النفي باللام فقالوا: {لنفسد} أي نوقع الفساد {في الأرض و} لقد علمتم {ما كنا} أي بوجه من الوجوه {سارقين *} أي موصوفين بهذا الوصف قط، بما رأيتم من أحوالنا: من ردنا بضاعتنا التي وجدناها في رحالنا وغير ذلك مما عاينتم من شرف فعالنا مع علمنا بأنها خَلق لنا لا تصنّع يظهر لبعض الأذكياء بأدنى تأمل، فكأنه قيل: فما قال الذين من جهة العزيز؟ قيل: {قالوا} قول واثق بأنه في رحالهم: {فما جزاؤه} أي الصواع {إن كنتم كاذبين *} في تبرئكم من السرقة؛ والجزاء: مقابلة العمل بما يستحق عليه من خير أو شر {قالوا} وثوقاً منهم بالبراءة وإخباراً بالحكم عندهم {جزاؤه} أي الصواع {من} .
ولما كان العبرة بنفس الوجدان، بنوا للمفعول قولهم: {وجد في رحله} ولتحققهم البراءة علقوا الحكم على مجرد الوجدان لا السرقة؛ ثم أكدوا ذلك بقولهم: {فهو جزاءه} أي ليس غير،(10/171)
فكأنه قيل: هل هذا أمر أحدثتموه الآن أو هو مشروع لكم؟ فقالوا: {كذلك} أي بل هو سنة لنا، مثل ذلك الجزاء الشديد {نجزي الظالمين *} أي بالظلم دائماً، نرقّه في سرقته؛ فحينئذ فتش أوعيتهم {فبدأ} أي فتسبب عن ذلك أنه بدأ المؤذن أو غيره ممن أمر بذلك {بأوعيتهم} .
ولما لم يكن - بين فتح أوعيتهم وفتح وعاء أخيه - فاصل يعد فاصلاً، فكانت بداءته بأوعيتهم مستغرقة لما بينهما من الزمان، لم يأت بجار، فقال {قبل وعاء أخيه} أي أخي يوسف عليه الصلاة والسلام شقيقه، إبعاداً عن التهمة {ثم} أي بعد تفتيش أوعيتهم والتأني في ذلك {استخرجها} أي أوجد إخراج السقاية التي تقدم أنه جعلها في وعاء أخيه {من وعاء أخيه} .
ولما كان هذا كيداً عظيماً في أخذ أخيه بحكمهم، مع ما توثق منهم أبوهم، عظمه تعالى بالإشارة إليه بأداة البعد والإسناد إليه قال: {كذلك} أي مثل هذا الكيد العظيم {كدنا ليوسف} خاصة بأن علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه الصلاة والسلام، ولذلك صنعنا جميع الصنائع التي أعلت يوسف عليه الصلاة والسلام وألجأت(10/172)
إخوته الذين كادوه بما ظنوا أنه أبطل أمره إلى المجيء إليه إلى أن كان آخرها حكمهم على أنفسهم بما حكموا، ثم علل ذلك بقوله: {ما كان} أو هو استئناف تفسير للكيد، وأكد النفي باللام فقال: {ليأخذ أخاه} .
ولما كان الأخذ على جهات مختلفة، قيده بقوله: {في دين الملك} يعني ملك مصر، على حالة من الحالات، لأن جزاء السارق عندهم غير هذا {إلا أن يشاء الله} أي الذي له الأمر كله، ذلك بسبب يقيمه كهذا السبب الذي هو حكم السارق وأهله على أنفسهم، فلا يكون حينئذ من الملك إلا تخليتهم وما حكموا به على نفوسهم.
ومادة «سرق» بتراكيبها الأربعة: سرق، وسقر، وقسر، وقرس - تدور على الغلبة المحرقة والموجعة، وتارة تكون بحر، وتارة ببرد، وتارة بغير ذلك، وتلازمها القوة والضعف والكثرة والقلة والمخادعة، فيأتي الخفاء والليل، فمن مطلق الغلبة: القسر، وهو الغلبة والقهر، وقال ابن دريد: القسر: الأخذ بالغلبة والاضطهاد، والقسورة: الأسد، والعزيز كالقسور، والرماة من الصيادين، واحده قسور،(10/173)
ونبات سهلي - كأنه يكثر فيه الصيد، فتنتابه القساورة، وقسور النبت: كثر، وركز الناس، أي صوتهم الخفي وحسهم - لأن الصيادين يتخافتون؛ والسقر لغة في الصقر - لطير يصيد؛ وقسر: جبل السراة - كأنه موضع الصيد والقسر والغلبة، والقيسري: الكثير - لأنه ملزوم للغلبة، وضرب من الجعلان - كأنه سمي لمطلق الكثرة ولأذاه بما يعانيه من النجاسات، والقيسري - أيضاً من الإبل: العظيم أو الصلب أو الضخم الشديد: وجمل قراسية - بالضم وتخفيف الياء: ضخم، والقرس - بالكسر: صغار البعوض؛ والقسورة أيضاً من الغلمان: الشاب القوي، والرامي - لأنه أهل لأن يغلب، ولقسور أيضاً: الصياد مطلقاً؛ ويلزمه المخادعة والاستخفاء، ومنه القسورة: نصف الليل أو أوله أو معظمه - لأنه محل الاستخفاء والمقاهرة؛ ومنه السرق، وهو الأخذ في خفية، وعبارة القزاز: في ختل وغفلة، وسرق - كفرح: خفي، والسوارق: الزوائد في فراش القفل - لغرابتها وخفاء(10/174)
أمرها، أو لسلبها السرقة بمنعها السارق من فتح القفل، والمسترق: المستمع مختفياً، وانسرق عنهم: خنس ليذهب، ويلزم المخادعة والاختفاء نوع ضعف، ومنه: سرقت مفاصله - كفرح: ضعفت، والمسترق: الناقص الضعيف الخلق؛ وانسرق: فتر وضعف - إما منه وإما من السلب، لأن من فتر أو ضعف يكف عن السرقة والأذى؛ وقسور الرجل: أسن، وكان منه القارس والقريس أي القديم، ومسترق العنق: قصيرها - كأنه سرق منها شيء، وهو يسارق النظر إليه، أي يطلب غفلته لينظر إليه، وتسرق: سرق شيئاً فشيئاً، وسُرَّق - كسكر - كان اسمه الحباب فابتاع من بدوي راحلتين، ثم أجلسه على باب دار ليخرج إليه بثمنهما فخرج من الباب الآخر فهرب بهما، فسماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرقاً، وكان لا يحب أن يسمى بغيره، والسرق - محركاً: أجود الحرير أو الحرير الأبيض، أو الحرير عامة، فارسي معرب أصله سره، قال القزاز: ومعناه: جيد، لأنه(10/175)
أهل لأن يقصد بالسرقة لخفة محمله وكثرة تمنه، والسرقين معرب سركين يمكن أن يكون من الضعف، ولعل المعرب يكون خارجاً عن أصل المادة، لأنه لا أصل له في العربية؛ ومن الأذى بالحر السفر: حر الشمس وأذاه، يقال: سقرته الشمس - بالسين والصاد - إذا آلمت دماغه، ومنه اشتقاق سقر، وهو اسم إحدى طبقات النار، والسقر: القيادة على الحرم، والسقر: ما يسيل من الرطب - من التسمية باسم السبب، لأن الحر سببه، والقوسرة: القوصرة - ويخففان - لأنه يوضع فيه التمر الذي قد يكون منه السقر، والساقر: الكافر واللعان لغير المستحقين - لكثرة الأذى، أو لاستحقاق الكون في سقر، والساقور: الحر والحديدة يكوى بها الحمار؛ ومن الأذى بالبرد: القرس - وهو البرد الشديد والبارد، والقرس - ويحرك: أبرد الصقيع وأكثفه، والقرس - بالتحريك: الجامد، وأقرس العود جمد ماءه، ومنه القريس - لسمك طبخ وترك حتى جمد، وقرس الماء: جمد، والبرد: اشتد كقرس كفرح، وآل قرايس ويقال: نبات قراس -(10/176)
كسحاب: أجبل باردة أو هضاب بناحية السراة، وقرسنا الماء: بردناه.
إذا تقرر ذلك فتصحيح قول المؤذن «إنكم لسارقون» إن نظر إلى الغلبة في خفاء فلا شك أنهم متصفون بذلك لأخذهم يوسف من أبيه عليهما السلام على هذه الحالة، وإن نظر إلى مطلق الأخذ في خفاء فيكون إطلاق ذلك عليهم مجازاً، لأن معهم - في حال ندائه لهم وهم سائرون - شيئاً ليس هو لهم هم ذاهبون به في خفاء، أي أنتم في هذه الحالة فاعلون فعل السارق، ويقوي إرادة الأول قوله تعالى {لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} وقوله تعالى: {من وجدنا متاعنا عنده} كما سيأتي.
ولما كان يوسف عليه الصلاة والسلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته، بعد ما كان فيه عندهم من الصغار، كان ذلك محل عجب، فقال تعالى - التفاتاً إلى مقام التكلم تقوية للكلام بمقام الغيبة والتكلم، وزاده إشعاراً بعظمة، هذا الفعل بصوغه في مظهر العظمة منبهاً لمن قد يغفل: {نرفع} أي لنا من العظمة، وكان الأصل: درجاته، ولكنه عمم لأنه أدل على العظمة، فكان أليق بمظهرها،(10/177)
فقال منبهاً على أنه كان حصل ليوسف عليه الصلاة والسلام من الهضم ما ظن كما ظن أنه لا يرتفع بعده: {درجات من نشاء} أي بالعلم.
ولما كان سبب الرفعة هو الأعلمية بالأسباب، وذلك أن الخلق لو اجتهدوا في خفض أحد فنصبوا له كل سبب علموه وقدروا عليه، وأراد الله ضد ذلك، لقيّض بعلمه سبباً واحداً إن شاء فأبطل جميع تلك الأسباب وقضى برفعته، نبه تعالى على ذلك بقوله: {وفوق كل ذي علم} أي من الخلق {عليم} عظيم العلم، لا تكتنه عظمة علمه العقول، ولا تتخيلها الفهوم، فهو يسبب من الأسباب ما تطيح له أسباب العلماء وتحير له ألباب العقلاء البصراء، وهو الله تعالى - كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وسعيد بن جبير، فالتنوين للتعظيم.(10/178)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
ولما تم ذلك، كان كأنه قيل: إن انتزاع أخيهم منهم - بعد تلك المواثيق التي أكدوها لأبيهم - لداهية تطيش لها الحلوم، فماذا كان فعلهم عندها؟ فقيل: {قالوا} تسلية لأنفسهم ودفعاً للعار عن خاصتهم {إن يسرق} فلم يجزموا بسرقته، لعلمهم بأمانته، وظنهم هذا الصواع دس في رحله وهو لا يشعر، كما دست بضاعتهم في رحالهم(10/178)
وإنما أوهى ظنهم هذا سكوت أخيهم عن الاعتذار به، على أنه قد ورد أنهم لاموه فقال لهم: وضعه في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالهم {فقد سرق أخ} أي شقيق {له} ولما كان ما ظنوه كذلك في زمن يسير، أدخلوا الجار فقالوا: {من قبل} يعنون يوسف عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه قيل: إن عمته كانت لا تصبر عنه، وكان أبوه لا يسمح بمكثه عندها، لأنه لا يصبرعنه، فحزمته من تحت ثيابه بمنطقة أبيها إسحاق عليه السلام وكانت عندها، ثم قالت: فقدت منطقة أبي، فاكشفوا أهل البيت، فوجدوها مع يوسف عليه الصلاة والسلام، فسمح يعقوب عليه الصلاة والسلام حينئذ لها ببقائه عندها {فأسرها} أي إجابتهم عن هذه القولة القبيحة {يوسف في نفسه} على تمكنه مما يريد بهم من الانتقام.
ولما كان ربما ظن ظان أنه بكتهم بها بعد ذلك، نفى هذا الظن بقوله تعالى: {ولم يبدها} أي أصلاً {لهم} فكأنه قيل: فما قولته التي أسرها في نفسه؟ فقيل: {قال أنتم شر مكاناً} أي من يوسف وأخيه، لأن ما نسب إليهما من الشر إنما هو ظاهراً لأمر خير اقتضاه، وأما أنتم ففعلتكم بيوسف شر مقصود منكم ظاهراً وباطناً، ونسبة الشر إلى(10/179)
مكانهم أعظم من نسبته إليهم، وإنما قدم الإخبار بالإسرار مع اقترانه بالإضمار قبل الذكر، لئلا يظن بادىء بدء أنهم سمعوا ما وصفهم به من الشر {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {أعلم بما تصفون *} منكم، وأنه ليس كما قلتم؛ والوصف: كلمة مشتقة من أصل من الأصول لتجري على مذكور فتفرق بينه وبين غيره بطريق النقيض كالفرق بين العالم والجاهل ونحوهما، فكأنه قيل: إن ذلك القول على فحشه ليس مغنياً عنهم ولا عن أبيهم شيئاً، فهل اقتصروا عليه؟ فقيل: لا، بل {قالوا} التماساً لما يغنيهم: {ياأيها العزيز} فخاطبوه بما يليق بالأكابر ليرق لهم {إن له} أي هذا الذي وجد الصواع في رحله {أباً شيخاً كبيراً} أي في سنه وقدره وهو مغرم به، لا يقدر على فراقه ولا يصبر عنه {فخذ أحدنا مكانه} وأحسن إلى أبيه بإرساله إليه {إنا نراك} أي نعلمك علماً هو كالرؤية أو بحسب ما رأيناه {من المحسنين *} أي العريقين في صفة الإحسان، فأجر في أمرنا على عادة إحسانك، فكأنه قيل: فما أجابهم؟ قيل: {قال معاذ الله} أي نعوذ بالذي لا مثل معاذاً عظيماً {أن نأخذ} أي لأجل هذا الأمر {إلا من} أي الشخص الذي {وجدنا متاعنا عنده} ولم يقل: سرق متاعنا، لأنه - كما أنه لم يفعل في الصواع فعل السارق - لم يقع منه قبل ذلك ما يصحح إطلاق الوصف عليه؛ علل ذلك بقوله: {إنا إذاً} أي إذا أخذنا أحداً مكانه {لظالمون *} أي عريقون في الظلم في دينكم،(10/180)
فلم تطلبون ما هو ظلم عندكم.
ذكر ما بعد ما سلف من هذه القصة من التوراة
قال: وكان القهم - وفي نسخة: الجوع - والإرجاف على جميع وجه الأرض، ففتح يوسف الأهراء، وأقبل يبيع المصريين، واشتد الجوع بأرض مصر، وأقبل جميع أهل الأرض يأتون للامتيار من يوسف.
فبلغ يعقوب عليه الصلاة والسلام أن بمصر طعام ميرة، فقال يعقوب عليه السلام لبنيه: لا خوف عليكم، لأنه قد بلغني أن بمصر ميرة فاهبطوا إلى هناك، فامتاروا لنا فنحيى ولا نموت. فهبط بنو يعقوب عليه الصلاة والسلام العشرة ليمتاروا ميرة من مصر، فأما بنيامين أخو يوسف فلم يرسله يعقوب مع إخوته، لأنه قال: لعله أن يعرض له عارض، فأتى بنو إسرائيل ليمتاروا مع الذين كانوا ينطلقون، لأن الجوع اشتد في أرض كنعان، وكان يوسف هو المسلط على الأرض، وكان يميز جميع شعب الأرض، فأتى إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام(10/181)
فخروا له سجداً على الأرض، فرأى يوسف إخوته فأثبتهم وتناكر عليهم وكلمهم بفظاظة وقساوة، وقال لهم: من أين أنتم؟ فقالوا: أتينا من أرض كنعان لنمتار ميرة، فذكر يوسف عليه الصلاة والسلام الرؤيا التي قصها عليهم وقال لهم: إنكم جواسيس، وإنما أتيتم لتفحصوا وتطلعوا الأرض. فقالوا: كلا يا سيدنا! إن عبيدك إنما أتوا ليمتاروا، نحن أجمعون بنو رجل واحد، ونحن أبرياء، وليس عبيدك بطلائع، فقال لهم يوسف: ليس الأمر كما تقولون، بل إنما أتيتم لتجسسوا أرضنا. فقالوا له: نحن اثنا عشر رجلاً إخوة عبيدك بنو رجل واحد بأرض كنعان، والآخر هو عند أبينا يومنا هذا، والآخر فقدناه، فقال لهم يوسف: إني إنما قلت لكم: إنكم جواسيس، من أجل هذا بهذه تمتحنون، وحق فرعون! لا أخرجنكم من هاهنا حتى يأتي أخوكم الأصغر إلى(10/182)
هاهنا. فنفحص عن أقاويلكم إن كنتم نطقتم بالحق والقسط، وإلا وحق فرعون! إنكم طلائع، فقذفهم في الحبس ثلاثة أيام، ودعا بهم يوسف عليه الصلاة والسلام في اليوم الثالث، وقال لهم: افعلوا ما آمركم به فتحيوا، فإني أراقب الله فيكم، إن كنتم أبرياء فليحبس أحدكم في محبسكم وانطلقوا أنتم بالميرة للجوع الذي في بيوتكم، فأتوني بأخيكم الأصغر فأصدق قولكم ولا تموتوا، ففعلوا كما أمرهم، فقال كل امرىء منهم لصاحبه: حقاً إنا قد استوجبنا السجن على أخينا إذ رأينا كرب نفسه إذا كان يتضرع إلينا فلم نرحمه ولم نتراءف عليه، فمن أجل ذلك نزلت بنا هذه البلية والشر، فأجاب روبيل وقال لهم: ألم أقل لكم: لا تأثموا بالغلام، فلم تقبلوا، وهو ذا الآن نحن مطالبون بدمه.
ولم يعلموا أن يوسف يفهم كلامهم، لأنه أوقف ترجماناً بينه وبينهم، فتنحى عنهم فبكى، ثم رجع إليهم يكلمهم، ثم أخذ منهم شمعون فأوثقه تجاههم.
وأمر يوسف بملء أوعيتهم ميرة، وأمر برد ورق كل امرىء منهم في وعائه، وأن يزودوا زاداً للطريق، ففعل ذلك بهم كما أمر يوسف عليه السلام، فحملوا ميرتهم على حميرهم وانطلقوا، ففتح بعضهم وعاءه(10/183)
ليلقي قضيماً لحماره في مبيتهم. فرأى ورقه موضوعاً على طرف حمولته. فقال لإخوته: ورقي رد إليّ وهو ذا على طرف حمولتي، فارتجفت قلوبهم وفزعت نفوسهم، وتعجب كل امرىء منهم، فقالوا: يا ليت شعري ما هذا الذي صنعه الله بنا! فأتوا يعقوب أباهم إلى أرض كنعان، فأخبروه بجميع ما عرض لهم وقالوا: إن الرجل سيد الأرض كلمنا بفظاظة وقساوة. وحسبنا بمنزلة الجواسيس أتينا لنطالع الأرض، فقلنا: إنا أبرياء عدول، فلسنا بطلائع، فنحن اثنا عشر أخاً بنو أب واحد، فقد واحد منا والآخر عند أبينا يومنا هذا بأرض كنعان، فقال لنا الرجل سيد الأرض ورئيسها: بهذا أعلم بأنكم أبرار عدول، خلفوا عندي أحد إخوتكم، واحملوا ميرة للجوع الذي في بيوتكم. وانصرفوا فأتوني بأخيكم الأصغر معكم، فأعلم حينئذ أنكم لستم بطلائع، بل أنتم أبرياء عدول، وآمر بدفع أخيكم إليكم، وتتجرون في الأرض، فبينما هم يفرغون أوعيتهم فإذا هم بصرة كل امرىء منهم على طرف وعائه فرأوا ورقهم مصروراً ففزعوا هم وأبوهم. فقال لهم أبوهم: إنكم قد أثكلتموني ولدي وأفقدتموني إياهما، لأن يوسف فقدته. وشمعان محبوس،(10/184)
وتنطلقون ببنيامين أيضاً وقد كملت علي المصائب كلها، فقال روبيل لأبيه: ثكلتُ ابني جميعاً إن لم آتك به! ادفعه إليّ وأنا أرده إليك، فقال: لا يهبط ابني معكم، لأن أخاه يوسف توفي وهو وحده الباقي لأمه، فتعرض له آفة في الطريق الذي تسلكونه فتنزلون شيبتي إلى الجدث بالشقاء والشحب.
فاشتد الجوع على الأرض، فلما أكلوا الذي أتوا به من مصر وأفنوه قال لهم يعقوب أبوهم عليه السلام: اهبطوا فامتاروا لنا شيئاً من قمح، فقال له يهوذا: إن الرجل أنذرنا وتقدم إلينا وقال: لا تعاينوا وجهي إلا وأخوكم معكم، فإن أنت أرسلت أخانا معنا فإنا نهبط فنمتار، وإن لم تبعثه لم ننطلق، فقال لهم أبوهم: ولم أسأتم إلي فأخبرتم الرجل أن لكم أخاً؟ فقالوا: الرجل سأل عنا وعن رهطنا وقال: إن أباكم في الحياة بعد؟ وهل لكم أخ؟ فأخبرناه من أجل هذا الكلام، أكنا نعلم أنه يقول: اهبطوا معكم بأخيكم؟ وقال يهوذا لإسرائيل أبيه: سرح الغلام فننطلق فنحيى ولا نموت نحن وأنت أيضاً وحشمنا، أنا أكفل به.
فإن لم آتك به فأقيمه بين يديك فأنا مخطىء(10/185)
بين يدي أبي جميع الأيام.
فقال أبوهم إسرائيل: إذا كان الأمر هكذا فافعلوا ما آمركم به: احملوا في أوعيتكم من ثمار هذه الأرض شيئاً من صنوبر وعسل وعلك البطم وخروب وحب السرو وبطم ولوز، وخذوا من الورق ضعف الذي في أوعيتكم، لعل ذلك أن يكون وهماً منهم، وانطلقوا بأخيكم إلى الرجل، وارجعوا إليّ كلكم، وإله المواعيد يظفركم من الرجل برحمة ورأفة، فيرسل بأخيكم الآخر معكم وبنيامين أيضاً، فأخذ القوم هذه الهدية وضعفاً من الفضة، وانطلقوا معهم ببنيامين وأتوا يوسف فوقفوا بين يديه. فرأى يوسف بنيامين معهم فقال لحاجبه: أدخل القوم إلى المنزل، واذبح ذبيحاً، وهيىء الغداء، لأن القوم يتغدون معي ظهراً، ففعل العبد كما أمره يوسف عليه السلام، وأدخل القوم إلى منزل يوسف عليه السلام وقالوا: إنهم إنما يدخلوننا لسبب الورق الذي وجدنا في أعدالنا من قبل، فيريدون أن يتطاولوا علينا ويمكروا بنا، فيجعلونا عبيداً ودوابنا ملكاً، فدنوا من الرجل حاجب - وفي نسخة: خازن - يوسف عليه السلام. فكلموه على باب المنزل، وقالوا له: إنا نطلب إليك يا سيدنا أنا هبطنا أولاً إلى هاهنا فامترنا قمحاً، فلما(10/186)
طلعنا وصرنا في البيت إذا نحن بورق كل واحد منا في عدله، فقد رددنا أوراقنا بوزنها معنا وأتينا معها بأوراق أخر لنمتار بها، ولا نعلم من الذي صيّر أوراقنا في أوعيتنا؟ فقال لهم: السلام لكم، لا تخافوا ولا تستوفضوا، إلهكم إله المواعيد إله أبيكم ذخر لكم هذه الذخيرة في أوعيتكم، لأن ورقكم قد صار في قبضتي، وأخرج إليهم شمعون، فأدخل العبد القوم إلى منزل يوسف عليه السلام، وأتاهم بماء فغسلوا أيديهم وأقدامهم، وألقى قضمياً لدوابهم، فأعد القوم هديتهم قبل دخول يوسف عليه السلام وقت القائلة لأنه بلغهم أن غداءهم يكون هناك، فدخل يوسف إلى منزله، فأدخلوا هديتهم فوضعوها بين يديه في منزله، وخروا له سجداً على الأرض، فسألهم عن سلامتهم وقال: أسالم هو؟ أبوكم الذي أخبرتموني عنه أنه الحياة هو بعد؟ فقالوا: إن أبانا عبدك سالم، ثم جثوا فسجدوا فرفع بصره فأبصر بنيامين أخاه ابن أمه فقال لهم: هذا أخوكم الذي أخبرتموني عنه؟ فقالوا: نعم؟ فقال له: الله يترأف عليكم يا بني، فاستعجل يوسف عليه(10/187)
السلام لأنه رق له وتحنن عليه فأراد البكاء، فدخل إلى مكانه فبكى هناك، ثم غسل وجهه وخرج فصبر نفسه، فأمر أن يأتوهم بالغداء، فوضعوا بين يديه وحده، وقربوا إليهم وحدهم، لأنه لا يستطيع أهل مصر أن يأكلوا مع العبرانيين، لأن هذه نجاسة عند المصريين، فأمر فاتكأ الأكبر على قدر سنه والأصغر على قدر سنه، فتعجب القوم ومكثوا محيرين مشدوهين، فأعطى كل واحد منهم من بين يديه جزءاً، وأعطى بنيامين أكثر منهم: خمسة أنصبة، فشربوا.
فأمر خازنه وقال له: أوقر أوعية القوم من البر ما أمكنهم حمله، وصير ورق كل امرىء منهم على طرف وعائه، وخذ طاسي طاس الفضة وصيره في وعاء الأصغر مع ورق ميرته، ففعل العبد كما أمر يوسف عليه السلام، فلما كان من الغد سرح القوم لينطلقوا هم وحميرهم، فخرجوا من القرية، وقبل أن يخرجوا منها قال يوسف لخازنه: قم فامض في طلب القوم وألحقهم وقل لهم: لم كافيتم الشر بدل الخير، فأخذتم الطاس الذي يشرب فيه سيدي ويعتاف فيه اعتيافاً، فأسأتم فيما جاء منكم، فلحقهم وقال لهم هذه الأقاويل، فقالوا له:(10/188)
لا تقولن يا سيدنا هذه الأقاويل، معاذ الله أن يفعل عبيدك هذه الفعال! نحن رددنا أوراقنا التي وجدنا في أوعيتنا من أرض كنعان، فكيف نسرق من بيت سيدك ذهباً أو فضة، من وجد عنده من عبيدك فليمت ونكن نحن عبيداً لسيدنا! قال لهم: هو على ما تقولون، من وجد عنده فهو يكون لي عبداً، وأنتم تكونون فلحين طاهين، فاستعجل كل منهم وعاءه، ففتشوا ابتداء بالأكبر وانتهاء إلى الأصغر، فوجدوا الطاس في وعاء بنيامين، فمزقوا ثيابهم وخرقوها. وحمل كل امرىء منهم وعاءه على حماره، ورجعوا إلى القرية، فدخل يهوذا وإخوته على يوسف وكان في منزله بعد، فخرجوا بين يديه على الأرض، فقال لهم يوسف: ما هذا الفعل الذي جاء منكم؟ أما تعلمون أن رجلاً مثلي يعتاف - وفي نسخة: يمتحن - بكأس اعتيافاً؟ لم تتعدون عليه وتأخذونه؟ فقال يهوذا: بماذا نكلم سيدنا! وبماذا ننطق! وبماذا نفلح - وفي نسخة: نحتج - من عند الله نزلت هذه الخطيئة بعبيدك، هوذا نحن عبيد لسيدنا نحن ومن أصيب الكأس عنده، فقال: معاذ الله(10/189)
أن أفعل هذا! بل الرجل الذي وجد الكأس عنده يكون لي عبداً، وأنتم فاصعدوا بسلام إلى أبيكم.
فدنا منه يهوذا فقال: أنا أطلب إليك يا سيدي أن تأذن لعبدك بالكلام بين يديك، يا سيد! ولا تشعل غضبك على عبيدك، لأنك مثل فرعون، سأل سيدي عبيده فقال لهم: هل لكم أب أو أخ؟ فقلنا لسيدنا: إن لنا أباً شيخاً وابناً له صغيراً ولد على كبر سنه، وإن أخاه مات، وهو الباقي وحده لأمه، وأبوه يحبه، وأمرت عبيدك وقلت: اهبطوا به إليّ حتى أعرفه وأعاينه، فقلنا لسيدنا: لا يقدر الغلام على مفارقة أبيه، لأنه إن فارقه أبوه توفي، فقلت لعبيدك: إنه لم يهبط أخوكم الأصغر معكم فلا تعودوا أن تعاينوا وجهي، فلما صعدنا إلى عبدك أبينا أخبرناه بقول سيدنا فقال لنا عبدك أبونا: ارجعوا فامتاروا شيئاً من بر، فقلنا لأبينا: لا نقدر على الهبوط إلى أن نهبط بأخينا الأصغر معنا، لأنا لا نقدر على معاينة وجه الرجل إن لم يكن أخونا معنا، فقال لنا عبدك أبونا: أنتم تعلمون أن امرأتي ولدت لي ابنين، فخرج واحد من عندي فقلتم: إنه قتل قتلاً، فلم أعاينه إلى يوم الناس هذا، فتحملون أيضاً هذا من عندي فيعرض له صيد(10/190)
فتهبطون بشيخوختي بحزن وشر القبر، والآن إذا نحن انطلقنا إلى عبدك أبينا وليس الغلام معنا ونفسه حبيبة إليه، فإذا علم أن الغلام ليس هو معنا يموت فيهبط عبدك شيبة أبينا بالشقاء والتشحيب، لأن عبدك ضمن الغلام لأبينا، وقلت: إني إذا لم آتك به أخطىء باقي جميع الأيام، والآن فليبق عبدك بدل الغلام عبداً لسيدي، وليصعد الغلام مع إخوته، لأني أفكر كيف أصعد إلى أبي وليس الغلام معي كيلا أعاين الشر الذي ينزل بأبي.(10/191)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
ولما أياسهم بما قال عن إطلاق بنيامين، حكى الله تعالى ما أثمر لهم ذلك من الرأي فقال: {فلما} دالاً بالفاء على قرب زمن تلك المراجعات {استيئسوا منه} أي تحول رجاءهم لتخلية سبيله لما رأوا من إحسانه ولطفه ورحمته يأساً شديداً بما رأوا من ثباته على أخذه بعينه وعدم استبداله {خلصوا} أي انفردوا من غيرهم حال كونهم {نجياً} أي ذوي نجوى يناجي بعضهم بعضاً، من المناجاة وهي رفع المعنى من كل واحد إلى صاحبه في خفاء، من النجو وهو الارتفاع عن الأرض - قاله الرماني، أو تمحضوا تناجياً لإفاضتهم فيه(10/191)
بجد كأنهم صورة التناجي، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قال كبيرهم} في السن وهو روبيل: {ألم تعلموا} مقرراً لهم بما يعرفونه مع قرب الزمان ليشتد توجههم في بذل الجهد في الخلاص من غضب أبيهم {أن أباكم} أي الشيخ الكبير الذي فجعتموه في أحب ولده إليه.
ولما كان المقام بالتقرير ومعرفة صورة الحال لتوقع ما يأتي من الكلام، قال: {قد أخذ عليكم} أي قبل أن يعطيكم هذا الولد الآخر {موثقاً} ولما كان الله تعالى هو الذي شرعه - كما مضى - كان كأنه منه، فقال: {من الله} أي أيمان الملك الأعظم: لتأتنه به إلا أن يحاط بكم {ومن قبل} أي قبل هذا {ما فرطتم} أي قصرتم بترك التقدم بما يحق لكم في ظن أبيكم أو فيما ادعيتم لأبيكم تفريطاً عظيماً، فإن زيادة «ما» تدل على إرادته لذلك {في} ضياع {يوسف} فلا يصدقكم أبوكم أصلاً، بل يضم هذه إلى تلك فيعلم بها خيانتكم قطعاً، وأصل معنى التفريط،: التقدم، من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنا فرطكم على الحوض» .
ولما كان الموضع موضع التأسف والتفجع والتلهف، أكده ب «ما» النافية لنقيض المثبت كما سلف غير مرة، أي أن فعلكم في يوسف ما كان إلا تفريطاً لا شك فيه {فلن أبرح} أي أفارق هذه(10/192)
{الأرض} بسبب هذا، وإيصاله الفعل بدون حرف دليل على أنه صار شديد الالتصاق بها {حتى يأذن لي أبي} في الذهاب منها {أو يحكم الله} أي الذي له الكمال كله ووثقنا به {لي} بخلاص أخي أو بالذهاب منها بوجه من الوجوه التي يعلمها ويقدر على التسبب لها {وهو} أي ظاهراً وباطناً {خير الحاكمين *} إذا أراد أمراً بلغه بإحاطة علمه وشمول قدرته، وجعله على أحسن الوجود وأتقنها، فكأنه قيل: هذا ما رأى أن يفعل في نفسه، فماذا رأى لإخوته؟ فقيل: أمرهم بالرجوع ليعلموا أباهم لإمكان أن يريد القدوم إلى مصر ليرى ابنه أو يكون عنده رأي فيه فرج، فقال: {ارجعوا إلى أبيكم} أي دوني {فقولوا} أي له متلطفين في خطابكم {ياأبانا} وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها لكم فقولوا: {إن ابنك} أي شقيق يوسف عليه الصلاة والسلام الذي هو أكملنا في البنوة عندك {سرق} .
ولما كانوا في غاية الثقة من أن أحداً منهم لا يلم بمثل ذلك، أشاروا إليه بقولهم: {وما شهدنا} أي في ذلك {إلا بما علمنا} ظاهراً من رؤيتنا الصواع يخرج من وعائه؛ والشهادة: الخبر عن إحساس قول أو فعل، وتجوز الشهادة بما أدى إليه الدليل القطعي {وما كنا للغيب} أي الأمر الذي غاب عنا {حافظين *} فلعل حيلة دبرت في ذلك غاب(10/193)
عنا علمها كما صنع في رد بضاعتنا {واسأل القرية} أي أهلها وجدرانها إن كانت تنطق {التي كنا فيها} وهي مصر، عما أخبرناك به يخبروك بصدقنا، فإن الأمر قد اشتهر عندهم {و} اسأل {العير} أي أصحابها وهم قوم من كنعان جيران يعقوب عليه الصلاة والسلام {التي أقبلنا فيها} والسؤال: طلب الإخبار بأداته من الهمزة وهل ونحوهما، والقرية: الأرض الجامعة لحدود فاصلة، وأصلها من قريت الماء، أي جمعته، وسيأتي شرح لفظها آخر السورة، والعير: قافلة الحمير، من العير - بالفتح، وهو الحمار، هذا الأصل - كما تقدم ثم كثر حتى استعمل في غير الحمير.
ولما كان ذلك جديراً بالإنكار لما يتحقق من كرم أخيهم، أكدوه بقولهم: {وإنا} أي والله {لصادقون *} فكأنه قيل: فرجعوا إلى أبيهم وقالوا ما قال لهم كبيرهم، فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل: {قال بل} أي ليس الأمر كذلك، لم تصح نسبة ابني إلى السرقة ظاهراً ولا باطناً، أي لم يأخذ شيئاً من صاحبه في خفاء بل {سولت} أي زينت تزييناً فيه غي {لكم أنفسكم أمراً} أي حدثتكم بأمر ترتب عليه ذلك، والأمر: الشيء الذي من شأنه أن تأمر(10/194)
النفس به، وكلا الأمرين صحيح، أما النفي فواضح، لأن بنيامين لم يسرق الصواع ولا همّ بذلك، ولذلك لم ينسبه يوسف عليه الصلاة والسلام ولا مناديه إلى ذلك بمفرده، وأما الإثبات فأوضح، لأنه لولا فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام لما سولت لهم فيه أنفسهم لم يقع هذا الأمر لبنيامين عليه السلام {فصبر جميل} مني، لأن ظني في الله جميل، وفي قوله: {عسى الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {أن يأتيني بهم} أي بيوسف وشقيقه بنيامين وروبيل {جميعاً} ما يدل الفطن على أنه تفرس أن هذه الأفعال نشأت عن يوسف عليه الصلاة والسلام، وأن الأمر إلى سلامة واجتماع؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنه هو} أي وحده {العليم} أي البليغ العلم بما خفي علينا من ذلك، فيعلم أسبابه الموصلة إلى المقاصد {الحكيم *} أي البليغ في إحكام الأمور في ترتيب الأسباب بحيث لا يقدر أحد على نقض ما أبرمه منها، وترتيب الوصفين على غاية الإحكام - كما ترى - لأن الحال داع إلى العلم بما غاب من الأسباب أكثر من دعائه إلى معرفة حكمتها؛ قال هذه المقالة {وتولى} أي انصرف بوجهه {عنهم} لما تفاقم عليه من الحزن، وبلغ به من الجهد، وهاج به(10/195)
باجتماع حزن إلى حزن من الحرق كراهية لما جاؤوا به وإقبالاً على من إليه الأمر {وقال} مشتكياً إلى الله لا غيره، فهو تعريض بأشد التصريح والدعاء: {ياأسفي} أي يا أشد حزني، والألف بدل عن ياء الإضافة لتدل على بلوغ الأسف إلى ما لا حد له، وجناس «الأسف» مع «يوسف» مما لم يتعمد، فيكون مطبوعاً، فيصل إلى نهاية الإبداع، وأمثاله في القرآن كثير {على يوسف} هذا أوانك الذي ملأني بك فنادمني كما أنادمك، وخصه لأنه قاعدة إخوانه، انبنى عليها وتفرع منها ما بعدها {وابيضت عينه} أي انقلب سوادهما إلى حال البياض كثرة الاستعبار، فعمى البصر {من الحزن} الذي هو سبب البكاء الدائم الذي هو سبب البياض، فذكر السبب الأول، يقال: بلغ حزنه عليه السلام حزن سبعين ثكلى وما ساء ظنه قط.
ثم علل ذلك بقوله: {فهو} أي بسبب الحزن {كظيم *} أي شديد الكظم لامتلائه من الكرب، مانع نفسه من عمل ما يقتضيه ذلك من الرعونات بما آتاه الله من العلم والحكمة، وذلك أشد ما يكون على النفس وأقوى ما يكون للحزن، فهو فعيل بمعنى مفعول، وهو(10/196)
أبلغ منه، من كظم السقاء - إذا شده على ملئه.
ومادة «كظم» تدور على المنع من الإظهار، يلزمه الكرب - لأنه من شأن الممنوع مما قد امتلأ منه، ويلزمه الامتلاء، لأن ما دونه ليس فيه قوة الظهور، كظم غيظه -إذا سكت بعد امتلائه منه، وكظمت السقاء - إذا ملأته وسددته، وكظم البعير جرته - إذا ردها وكف، والكظم: مخرج النفس، لأنه به يمنع من الجري في هواه؛ والكظامة: حبل يشد به خرطوم البعير، لمنعه مما يريد، وأيضاً يوصل بوتر القوس العربية ثم يدار بطرف السية العليا، منعاً له من الانحلال وأيضاً قناة في باطن الأرض يجري فيهما الماء، لأنه يمنع الماء من أن يأخذ في هواه فيرتفع في موضع النبع فيظهر على وجه الأرض، وخرق يجري فيه الماء من بئر إلى بئر، لأنه لا يصنع إلا عند ضعف إحدى البئرين، فلولاه لفاضت القوية، فهو تصريف لمائها في غير وجهه، وكظامة الميزان: المسمار الذي يدور فيه اللسان، لأنه يربطه فيمنعه(10/197)
من الانفكاك، ويقال: ما زلت كاظماً يومي كله، أي ممسكاً عن الأكل وقد امتلأت جوعاً، وقد يطلق على مطلق النبع، ومنه كاظمة - لقرية على شاطىء البحر، لأن البحر قد كظمها عن الانفساح وكذا هي منعته عن الانسياح.(10/198)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
فلما رأوا أنه قد فاتهم ما ظنوا أنه يكون بعد ذهاب يوسف من صلاح الحال مع أبيهم بقصر الإقبال عليهم، ووقع لأبيهم هذا الفادح العظيم، تشوف السامع إلى قولهم له، فاستأنف الإخبار عنه بقوله: {قالوا} أي حنقاً من ذلك {تالله} أي الملك الأعظم، يميناً فيها تعجب {تفتئوا} أي ما تزال {تذكر يوسف} حريصاً على ذكره قوياً عليه حرص الفتى الشاب الجلد الصبور على مراده {حتى} أي إلى أن {تكون حرضاً} أي حاضر الهلاك مشرفاً عليه متهيئاً له بدنف الجسم وخبل العقل - كما مضى بيانه في الأنفال عند {حرض المؤمنين على القتال} {أو تكون} أي كوناً لازماً هو كالجبلة {من الهالكين *} .(10/198)
ولما تشوفت النفس إلى ما كان عنه بعد ما رأى من غلطة بنيه، شفى عيّها بقوله: {قال إنما} أي نعم لا أزال كذلك لأنه من صفات الكمال للإنسان، لدلالته على الرقة والوفاء، وإنما يكون مذموماً إذا كان على وجه الشكاية إلى الخلق وأنا لا أشكو إلى مخلوق، إنما {أشكوا بثي} والبث أشد الحزن، سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطاق حمله فيباح به وينشر {وحزني} مطلقاً وإن كان سببه خفيفاً يقدر الخلق على إزالته {إلى الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة تعرضاً لنفحات كرمه، لا إلى أحد غيره، وهذا - الذي سمعتوه مني فقلقتم له - قليل من كثير.
ولما كان يجوز أن يكونوا صادقين في أنهم لم يجدوا إلا قميص يوسف ملطخاً دماً، وأن يكون قطعهم بأكل الذئب له مستنداً إلى ذلك، وكان يعقوب عليه السلام يغلب على ظنه أن يوسف عليه السلام حي ويظن في الله أن يجمع شمله به، قال: {وأعلم من الله} أي الملك الأعلى من اللطف بنا أهل هذا البيت ومن التفريج عن المكروبين والتفريح للمغمومين {ما لا تعلمون *}(10/199)
ومادة «فتا» يائية وواوية مهموزة وغير ومهموزة بكل ترتيب وهي فتأ، وفأت وتفأ وأفت، وفتى وفوت وتوف وتفو تدور على الشباب، وتلزمه القوة وشدة العزيمة وسلامة الانقياد: ما فتأ يفعل كذا - مثلثة العين: ما زال كما أفتا، أي إنه ما زال فاعلاً في ذلك فعل الشاب الجلد الماضي العزم، وما فتىء أن فعل، ما برح أي أنه بادر إلى ذلك بسهولة انقياد وشدة عزيمة، وحقيقته: ما فتىء عن فعل كذا، أي ما تجاوزه إلى غيره وما نسيه بل قصر فتاءه وهمته وجلده عليه، وعن ابن مالك في جمع اللغات المشكلة وعزاه للفراء - وصححه في القاموس: فتأ - كمنع: كسر وأطفأ، وهو واضح في القوة، وفتىء عنه - كسمع: نسيه وانقذع عنه، أي انكف أو خاص بالجحد، أي بأن يكون قبله حرف نفي، ومعناه أن قوته تجاوزته فلم تخالطه؛ ومن يائيه: الفتاء - كسماء: الشباب، وكأنه(10/200)
أصل المادة، والفتي - بالقصر؛ السخي والكريم، أي الجواد الشريف النفس، والفتى: السيد الشجاع - لأن ذلك يلزم الشباب، والفتى: المملوك وإن كان بخيلاً أو شيخاً - لأنه غالباً لا يشتري إلا الشباب، والفتى: التلميذ، والتابع كذلك، والفتى - كغنى: الشاب أيضاً، والفتوة: الكرم، وقد تفتى وتفاتى، وفتوتهم: غلبتهم فيها، وأفتاه في الأمر: أبانه له، والفتيا - بالضم والفتوى - ويفتح: ما أفتى به الفقيه، وهو يرجع إلى الجود وحسن الخلق، والفتيان: الليل والنهار، ولذلك يسميان الجديدين، وفتيت البنت تفتية: منعت اللعب مع الصبيان، فهو من سلب الشباب، أي فعله ومن مقلوبه مهموزاً: افتأت عليّ الباطل: اختلقه، وبرأيه: استبد، وكلاهما يدل على جرأة وطيش، وهو بالشاب الذي لم يحنكه الدهر أجدر، وافتئت - على البناء للمفعول: مات فجأة - كأن ذلك أشد الموت؛ ومن واوية: فات الشيء فوتاً وفواتاً: ذهب فسبق فلم يدرك، وفاته وافتاته: ذهب عنه فسبقه،(10/201)
وذلك يدل على قوة السابق، وبينهما فوت، أي بون - كأن كلاً منهما سابق للآخر، وتفاوت الشيئان وتفوتا: تباعد ما بينهما، ويلزم ذلك الاختلاف والاضطراب، ويلزمه العيب {فما ترى في خلق الرحمن من تفوت} : من عيب، يقول الناظر: لو كان كذا كان أحسن، وموت الفوات: الفجأة، وهو فوت رمحه ويده، أي حيث يراه ولا يصل إليه، والفوت: الفرجة بين إصبعين، وافتأت عليه برأيه: سبقه به، وفاته به وعليه: غلبه، ولا يفتات عليه أي لا يعمل دون أمره، أي لا أحد أشد منه فيسبقه، وافتات الكلام: ابتدعه - كما تقدم في المهموز، وافتات عليه: حكم - لقوته، والفويت - كزبير: المنفرد برأيه - للمذكر والمؤنث، وذلك لعدة نفسه شديداً، وتفوت عليه في ماله: فاته به؛ ومن مقلوبه مهموزاً: تفىء كفرح: احتد وغضب - وذلك لشدته، وتفيئة الشيء: حينه وزمانه، وذلك أحسن أحواله، ودخل على تفيئته أي أثره أي لم يسبقه بكثير، وذلك أشد له؛(10/202)
ومن واوية: التفة كقفة: عناق الأرض وهي تصيد، وفيها خلاف يبين إن شاء الله تعالى في قوله: {جزاء موفوراً} من سورة سبحان؛ ومن مقلوبه واوياً: تاف بصره يتوف: تاه - كأنه لسلب الشدة أو المعنى أنه وقع في توقة، أي شدة، وما فيه توفة - بالضم - ولا تافة: عيب أو مزيد أو حاجة وأبطأ وكل ذلك يدل على شدته، وطلب علي توفة بالفتح،: عثرة وذنباً - من ذلك لأن العثرة والذنب لا يصيبان شيئاً إلا عن شدتهما وضعفه؛ ومن مقلوبه مهموزاً: الأفت - بالفتح: النافة التي عندها من الصبر والبقاء ما ليس عند غيرها، والسريع الذي يغلب الإبل على السير، والكريم من الإبل - ويكسر - والداهية والعجب، وكل ذلك واضح في القوة، والإفت - بالكسر: الأول - لأنه أصل كل معدود، وأفته عن كذا: صرفه.
ولما أخبرهم عليه السلام أن علمه فوق علمهم، أتبعه استئنافاً ما يدل عليه فقال: {يابني اذهبوا} ثم سبب عن هذا الذهاب(10/203)
وعقب به قوله: {فتحسسوا} أي بجميع جهدكم {من يوسف وأخيه} أي اطلبوا من أخبارهما بحواسكم لعلكم تظفرون بهما، وهذا يؤكد ما تقدم من احتمال ظنه أن فاعل ذلك يوسف - عليهم الصلاة والسلام.
ولما لم يكن عندهم من العلم ما عنده، قال: {ولا تيأسوا} أي تقنطوا {من روح الله} أي الذي له الكمال كله؛ والروح - قال الرماني - يقع بريح تلذ، وكأن هذا أصله فالمراد: من رحمته وفرجه وتيسيره ولطفه في جمع الشتات وتيسير المراد؛ ثم علل هذا النهي بقوله: {إنه لا يبأس} أي لا يقنط {من روح الله} أي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام {إلا القوم} أي الذين لهم قوة المحاولة {الكافرون *} أي العريقون في الكفر، فأجابوه إلى ما أراد، قتوجهوا إلى مصر لذلك ولقصد الميرة لما كان اشتد بهم من القحط، وقصدوا العزيز؛ وقوله: {فلما دخلوا عليه} بالفاء يدل على أنهم أسرعوا الكرة في هذه المرة {قالوا} منادين بالأداة التي تنبه على أن ما بعدها له وقع عظيم {يا أيها العزيز} .
ولما تلطفوا بتعظيمه، ترققوا بقولهم: {مسنا} أي أيتها العصابة التي تراها {وأهلنا} أي الذين تركناهم في بلادنا {الضر} أي لابسنا(10/204)
ملابسة نحسها {وجئنا ببضاعة مزجاة} أي تافهة غير مرغوب فيها بوجه، ثم سببوا عن هذا الاعتراف - لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم - قولهم: {فأوف لنا} أي شفقة علينا بسبب ضعفنا {الكيل وتصدق} أي تفضيل {علينا} زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه.
ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله، عللوا ذلك بقولهم: {إن الله} أي الذي له الكمال كله {يجزي المتصدقين *} أي مطلقاً وإن أظهرت - بما أفاد الإظهار - وإن كانت على غني قوي، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف.(10/205)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
فلما رأى أن الأمر بلغ الغاية ولم يبق شيء يتخوفه، عرفهم بنفسه فاستأنف تعالى الإخبار عن ذلك بقوله حكاية: {قال هل علمتم} مقرراً لهم بعد أن اجترؤوا عليه واستأنسوا به، والظاهر أن هذا كان بغير ترجمان {ما} أي قبح الذي {فعلتم بيوسف} أي أخيكم الذي حلتم بينه وبين أبيه {وأخيه} في جعلكم إياه فريداً منه ذليلاً بينكم، ثم في قولكم له لما وجدوا الصواع في رحله: لا يزال يأتينا البلاء(10/205)
من قبلكم يا بني راحيل! وأعلمهم بأن ظنه فيهم الآن جميل تسكيناً لهم فقال: {إذ} أي حين {أنتم جاهلون *} أي فاعلون فعلهم - تلويحاً لهم إلى معرفته وتذكيراً بالذنب ليتوبوا، وتلطفاً معهم في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث فيه المصدور، ويشتفي فيه المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، بتخصيص جهلهم - بمقتضى «إذا» - بذلك الزمان إفهاماً لهم أنهم الآن على خلاف ذلك، فكأنه قيل: إنه قد قرب لهم الكشف عن أمره، لأنه لا يستفهم ملك مثله - لم ينشأ بينهم ولا تتبع أحوالهم وليس منهم - هذا الاستفهام ولا سيما وقد روى أنه لما قال هذا تبسم، وكان في تبسمه أمر من الحسن لا يجهله معه من رآه ولو مرة واحدة، فهل عرفوه؟ فقيل: ظنوه ظناً غالباً، ولذلك {قالوا} مستفهمين {أإنك} وأكدوا بقولهم: {لأنت يوسف} .
ولما كان المتوقع من مثله فيما هو فيه من العظمة أن يجازيهم على سوء صنيعهم إليه، استأنف بيان كرمه فقال: {قال أنا يوسف} وزادهم قوله: {وهذا أخي} أي بنيامين شقيقي لذكره لهم في قوله {وأخيه} وليزيدهم ذلك معرفة له، وثبتها في أمره بتصديقه له مع(10/206)
مكثه عنده مدة ذهابهم وإيابهم، وليبني عليه قوله: {قد منَّ الله} أي الذي له الجلال والإكرام {علينا} بأن جمع بيننا على خير حال تكون؛ ثم تعليله بقوله: {إنه من يتق} وهو مجزوم لأنه فعل الشرط، وأثبت قنبل - بخلافه عنه - ياءه في الحالين معاملاً له معاملة الصحيح إشارة إلى وصف التقوى بالصحة الكاملة والمكنة الزائدة والملازمة لها في كل حال {ويصبر} أي يوفه الله أجره لإحسانه {فإن الله} أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال {لا يضيع} أي أدنى إضاعة - أجره، هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما يعرف أن التقوى والصبر من الإحسان، فقال: {أجر المحسنين *} والتقوى: دفع البلاء بسلوك طريق الهدى؛ والصبر: حبس النفس بتجرع مرارة المنع عما يشتهي، ولعله إنما ستر أمره عنهم إلى هذا الحد لأنه لو أرسل إلى أبيه يخبره قبل الملك لم يأمن كيد إخوته، ولو تعرف إليهم بعده أو أول(10/207)
ما رآهم لم يأمن من أن تقطع أفئدتهم عند مفاجأتهم بانكشاف الأمر وهو فيما هو فيه من العز، فإنهم فعلوا به فعل القاتل من غير ذنب قدمه إليهم، فهم لا يشكون في أنه إذا قدر عليهم يهلكهم لما تقدم لهم إليه من سوء الصنيعة، وعلى تقدير سلامتهم لا يأمنونه وإن بالغ في إكرامهم، فإن الأمور العظام - إن لم تكن بالتدريج - عظم خطرها، وتعدى ضررها، فإن أرسلهم ليأتوا بأبيهم خيف أن يختلوا أباهما من ملك مصر ويحسنوا له الإبعاد عن بلاده، فيذهبوا إلى حيث لا يعلمه، وإن أرسل معهم ثقات من عنده لم يؤمن أن يكون بينهم شر، وإن سجنهم وأرسل إلى أبيه من يأتي به لم يحسن موقع ذلك من أبيه، ويحصل له وحشة بحبس أولاده، وتعظم القاله بين الناس من أهل مصر وغيرهم في ذلك، ففعل معهم ما تقدم ليظهر لهم إحسانه وعدله ودينه وخيره، وكفه عنهم وعفوه عن فعلهم بالتدريج، ويقفوا على ذلك منه قولاً وفعلاً من أخيه الذي ربى معهم وهم به آنسون وله ألفون، فتسكن روعتهم، وتهون زلتهم، ومما يدل على ذلك أنه لما انتفى عن أخيه بنيامين ما اتصفوا به مما ذكر، تعرف إليه حين قدم عليه ونهاه أن يخبرهم بحقيقة الأمر، وشرع يمد في ذلك لتستحكم الأسباب التي(10/208)
أرادها، فلما ظن أن الأمر قد بلغ مداه، لوح لهم فعرفوه وقد أنسهم حسن عقله وبديع جماله وشكله ورائع قوله وفعله، فكان موضع الوجل والخجل، وموضع اليأس الرجاء، فحصل المراد على وفق السداد - والله الموفق؛ وذلك تنبيه لمن قيل لهم أول السورة
{لعلكم تعقلون} [يوسف: 2] على الاقتداء بأفعال الهداة المهديين في التأني والاتئاد وتفويض الأمور إلى الحكيم، وأن لا يستعجلوه في أمر، وأن يعلموا أن سنته الإلهية جرت بأن الأمور الصعاب لا تنفذ إلا بالمطاولة لترتب الأسباب شيئاً فشيئاً على وجه الإحكام، وفي ذلك فوائد من أجلها امتحان أولى الطاعة والعصيان - كما ستأتي الإشارة إليه آخر السورة بقوله؛ {حتى إذا استيئس الرسل} [يوسف: 110] الآية والله أعلم.
ولما كان ما ذكر، كان كأنه قيل: لقد أتاهم ما لم يكونوا يحتسبون فما قالوا؟ فقيل: {قالوا} متعجبين غاية التعجب. ولذلك أقسموا بما يدل على ذلك: {تالله} أي الملك الأعظم {لقد آثرك الله} أي الذي له الأمر كله {علينا} أي جعل لك أثراً يغطي آثارنا بعلوه فالمعنى: فضلك علينا أي بالعلم والعقل والحكم والحسن والملك والتقوى(10/209)
وغير ذلك {وإن} خففوها من الثقيلة تأكيداً بالإيجاز للدلالة على الاهتمام بالإبلاغ في الاعتذار في أسرع وقت {كنا} أي كوناً هو جبلة لنا {لخاطئين *} أي عريقين في الخطأ، وهو تعمد الإثم، فكأنه قيل: ما قال لهم على قدرته وتمكنه مع ما سلف من إساءتهم؟ فقيل: {قال} قول الكرام اقتداء بإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام {لا تثريب} أي لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك {عليكم اليوم} وإن كان هذا الوقت مظنة اللوم والتأنيب، فإذا انتفى ذلك فيه فما الظن بما بعده!
ومادة «ثرب» تدور على البرث - بتقديم الموحدة، وهو أسهل الأرض وأحسنها؛ ولثبرة - بتقديم المثلثة: أرض ذات حجارة بيض، فإنه يلزمه الإخلاد، والدعة، ومنه: ثابر على الأمر: دوام، والمثبر - كمنزل: لمسقط الولد أي موضع ولادته، والمقطع والمفصل، فيأتي الكسل واللين فيأتي الفساد، ومنه الثبور للهلاك، والبثر بتقديم الموحدة: خراج معروف: والماء البثر: الذي بقى منه على الأرض شيء قليل؛ والربث - بتقديم الموحدة أيضاً: حبس الإنسان،(10/210)
وهو يرجع إلى الإقامة والدوام أيضاً؛ والتثريب: التقرير بالذنب، فهو إزالة ما على الإنسان من ساتر العفو، من الثرب وهو شحم يغشى الكرش والأمعاء ويسترهما، وهو من لوازم الأرض السهلة لما يلزم من خصبها، فالتثريب إزالته، وذلك للقحط الناشىء عنه الهلاك، فأغلب مدار المادة الهلاك.
ولما أعفاهم من الترثيب، كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله، فأتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم بقوله: {يغفر الله} أي الذي له صفات الكمال {لكم} أي ما فرط منكم وما لعله يكون بعد هذا؛ ولعله عبر في هذا الدعاء بالمضارع إرشاداً لهم إلى إخلاص التوبه، ورغبهم في ذلك ورجاهم بالصفة التي هي سبب الغفران، فقال: {وهو} أي وحده {أرحم الراحمين *} أي لجميع العباد ولا سيما التائب، فهو جدير بإدرار النعم بعد الإعاذة من النقم، وروى أنهم أرسلوا إليه أنك لتدعونا إلى طعامك وكرامتك بكرة وعشياً ونحن نستحي لما فرط منا، فقال: إن أهل مصر ينظرونني - وإن ملكت فيهم - بعين العبودية فيقولون: سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت الآن(10/211)
بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي، وأني من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام.(10/212)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
ولما أقر أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى، بقي ما يخص أباهم من ذلك، فكأنه وقع السؤال عنه فأجيب بقوله: {اذهبوا بقميصي} ولما كان قوله هذا ربما أوقع في أفهامهم قميصه الذي سلبوه إياه، احترز عن ذلك بقوله: {هذا فألقوه} أي عقب وصولكم {على وجه أبي يأت} أي يرجع إلى ما كان {بصيراً} أو يأت إلى حالة كونه بصيراً، فإنه إذا رد إليه بصره وعلم مكاني لم يصبر عن القصد إليّ لما عنده من وفور المحبة وعظيم الشوق، وكونه قميصاً من ملابس يوسف المعتادة أدخل في الغرابة وأدل على الكرامة؛ والقميص ألصق الثياب بالجسم، فإظهار الكرامة به أدل على كمال دين صاحبه وعراقته في أمور الإيمان، وهو يؤول في المنام بالدين، وذلك أدخل في كمال السرور ليعقوب عليه الصلاة والسلام {وأتوني} أي بأبي وأنتم {بأهلكم} أي مصاحبين لهم {أجمعين *} لا يتخلف منهم أحد، فرجعوا بالقميص لهذا القصد، قيل: كان يهوذا هو الذي حمل قميصه لما لطخوه بالدم، فقال: لا يحمل هذا غيري(10/212)
لأفرحه كما أحزنته، فحمله وهو حافٍ حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما ثمانون فرسخاً {ولما فصلت العير} من العريش آخر بلاد مصر إلى بلاد الشام {قال أبوهم} لولد ولده ومن حوله من أهله، مؤكداً لعلمه أنهم ينكرون قوله: {إني لأجد} أي لأقول: إني لأجد {ريح يوسف} وصدهم عن مواجهته بالإنكار بقوله: {لولا أن تفندون *} أي لقلت غير مستح ولا متوقف، لأن التفنيد لا يمنع الوجدان، وهو كما تقول لصاحبك: لولا أن تنسبني إلى الخفة لقلت كذا، أي إني قائل به مع علمي بأنك لا توافقني عليه، «وفصل» هنا لازم يقال: فصل من البلد يفصل فصولاً، والفصل: القطع بين الشيئين بحاجز، والوجدان: ظهور من جهة إدراك يستحيل معه انتفاء الشيء، والريح: عرض يدرك بحاسة الأنف أي الشم، والتفنيد: تضعيف الرأي بالنسبة إلى الفند، وهو الخوف وإنكار العقل من هرم، يقال: شيخ مفند، ولا يقال: عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فيفندها كبرها؛ ثم استأنف حكاية جوابهم فقال: {قالوا} أي السامعون له ما ظنه بهم، مقسمين بما دل على تعجبهم، وهو {تالله} أي الملك الأعظم، وأكدوا لمعرفتهم أنه ينكر كلامهم وكذا كل من يعرف كماله {إنك لفي ضلالك} أي بحيث صار ظرفاً لك(10/213)
{القديم *} أي خطئك في ظن حياة يوسف؛ قال الرماني: والضلال: الذهاب عن جهة الصواب. فصحح الله قوله وحقق وجدانه، وعجلوا إليه بشيراً فأسرع بعد الفصول، ولذلك عبر بالفاء في {فلما} وزيدت {أن} لتأكيد مجيئه على تلك الحال وزيادتها قياس مطرد {جاء البشير} وهو يهوذا بذلك، معه القميص {ألقاه} أي القميص حين وصل إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام من غير فاصل ما بين أول المجيء وبينه كما أفادته زيادة «أن» لتأكيد ما تفيده «لما» من وقوع الفصل الثاني وهو هنا الإلقاء عقب الأول وترتبه عليه وهو هنا المجيء {على وجهه} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام {فارتد} من حينه {بصيراً} والارتداد: انقلاب الشيء إلى حال كان عليها، فالتفت الخاطر إلى حاله مع فنده، فأخبر تعالى عن ذلك بقوله مستأنفاً: {قال} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام {ألم أقل لكم} : إني أجد ريحه؛ ثم علل هذا التقرير بقوله مؤكداً لأن قولهم قول من ينكر: {إني أعلم من الله} أي المختص بصفات الكمال {ما لا تعلمون *} لما خصني به تعالى من أنواع المواهب، وهو عام لأخبار يوسف عليه الصلاة والسلام وغيرها، وهو من التحديث بنعمة الله.(10/214)
ولما كان ذلك تشوفت النفس إلى علم ما يقع بينه وبين أولاده في ذلك، فدفع عنها هذا العناء بقوله: {قالوا ياأبانا} منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع: {استغفر} أي اطلب من الله أن يغفر {لنا ذنوبنا} ورد كل ضمير من هذه الضمائر إلى صاحبه في غاية الوضوح، فلذلك لم يصرح بصاحبه.
ولما سألوه الاستغفار لذنوبهم، عللوه بالاعتراف بالذنب، لأن الاعتراف شرط التوبة - كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» فقالوا مؤكدين تحقيقاً للإخلاص في التوبة: {إنا كنا خاطئين *} أي متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف علية الصلاة والسلام؛ ثم حكى جوابه بقوله مستأنفاً: {قال} أي أبوهم عليه السلام مؤكداً لكلامه: {سوف أستغفر} أي أطلب أن يغفر {لكم ربي} أي الذي لم يزل يحسن إليّ ويربيني أحسن تربية، فهو الجدير بأن يغفر لبني حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء؛ والربوبية: ملك هو أتم الملك على الإطلاق، وهو ملك الله تعالى لإنشاء الأنفس باختراعها وتصريفها أتم التصريف من الإيجاد والإعدام والتقليب من حال إلى حال في جميع الأمور من غير تعب؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنه هو} أي وحده {الغفور الرحيم *} كل(10/215)
ذلك تسكيناً لقلوبهم وتصحيحاً لرجائهم ليقوى أملهم، فيكون تعالى عند ظنهم بتحقيق الإجابة وتنجيزاً لطلبه؛ ولعله عبر ب «سوف» لتقديم هاتين الجملتين على المسألة لما ذكرته من الأغراض، وقيل: لأنه أخر الدعاء إلى صلاة الليل، وقيل: إلى ليلة الجمعة؛ وقيل: يؤخذ منها أن طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منه إلى الشيوخ.(10/216)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
ولما وقع ما ذكر، وكان قد أرسل معهم من الدواب والمال والآلات ما يتجهزون به، أقبلوا على التجهيز كما أمرهم يوسف عليه الصلاة والسلام، ثم قدموا مصر وهم اثنان وسبعون نفساً من الذكور والإناث، وكأنهم أسرعوا في ذلك فلذلك قال: {فلما} بالفاء {دخلوا على يوسف} في المكان الذي تلقاهم إليه في وجوه أهل مصر وضرب به مضاربه {آوى إليه أبويه} إكراماً لهما بما يتميزان به، قيل: هو المعانقة، والظاهر أنها أمه حقيقة، وبه قال الحسن وابن إسحاق - كما نقله الرماني وأبو حيان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها خالته، وغلب الأب في هذه التثنية لذكورته كما غلب ما هو مفرد في أصله على المضاف في العمرين {وقال} مكرماً للكل {ادخلوا مصر}(10/216)
أي البلد المعروف، وأتى بالشرط للأمن لا للدخول، فقال: {إن شاء الله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله {آمنين *} من جميع ما ينوب حتى مما فرطتموه في حقي وحق أخي.
ولما ذكر الأمن الذي هو ملاك العافية التي بها لذة العيش، أتبعه الرفعة التي بها كمال النعيم، فقال: {ورفع أبويه} أي بعدما استقرت بهم الدار بدخول مصر مستويين {على العرش} أي السرير الرفيع؛ قال الرماني: أصله الرفع. {وخروا} أي انحطوا {له سجداً} الأبوان والإخوة تحقيقاً لرؤياه ممن هو غالب على كل أمر، والسجود - وأصله: الخضوع والتذلل - كان مباحاً في تلك الأزمنة {وقال} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {ياأبت} ملذذاً له بالخطاب بالأبوة {هذا} أي الذي وقع من السجود {تأويل رؤياي} التي رأيتها، ودل على قصر الزمن الذي رآها فيه بالجار فقال: {من قبل} ثم استأنف قوله: {قد جعلها ربي} أي الذي رباني بما أوصلني إليها {حقاً} أي بمطابقة الواقع لتأويلها، وتأويل ما أخبرتني به أنت تحقق أيضاً من اجتبائي وتعليمي وإتمام النعمة عليّ؛ والتأويل: تفسير(10/217)
بما يؤول إليه معنى الكلام؛ وعن سلمان رضي الله عنه أن ما بين تأويلها ورؤياها أربعون سنة. {وقد أحسن} أي أوقع إحسانه {بي} تصديقاً لما بشرتني به من إتمام النعمة، وتعدية {أحسن} بالباء أدل على القرب من المحسن من التعدية ب «إلى» وعبر بقوله: {إذا أخرجني من السجن} معرضاً عن لفظ «الجب» حذراً من إيحاش إخوته مع أن اللفظ يحتمله احتمالاً خفياً {وجاء بكم} وقيل: إنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش، يتنقلون في المياه والمناجع، فلذلك قال: {من البدو} من أطراف بادية فلسطين، وذلك من أكبر النعم كما ورد في الحديث «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة» والبدو: بسيط من الأرض يرى فيه الشخص من بعيد، وأصله من الظهور، وأنس إخوته أيضاً بقوله مثبتاً الجار لأن مجيئهم في بعض أزمان البعد: {من بعد أن نزغ} عبر بالماضي ليفهم أنه انقضى {الشيطان} أي أفسد البعيد المحترق بوسوسته التي هي كالنخس {بيني وبين إخوتي} حيث قسم النزع بينه وبينهم ولم يفضل أحداً من(10/218)
الفريقين فيه، ولم يثبت الجار إشارة إلى عموم الإفساد للبينين، كل ذلك إشارة إلى تحقق ما بشر به يعقوب عليه الصلاة والسلام من إتمام النعمة وكمال العلم والحكمة؛ ثم علل الإحسان إليهم أجمعين بقوله: {إن ربي} أي المحسن إليّ على وجوه فيها خفاء {لطيف} - أي يعلم دقائق المصالح وغوامضها، ثم يسلك - في إيصالها إلى المستصلح - سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك فهو اللطيف - قاله الرازي في اللوامع.
وهو سبحانه فاعل اللطف في تدبيره ورحمته {لما يشاء} لا يعسرعليه أمر؛ ثم علل هذه العلة بقوله: {إنه هو} أي وحده {العليم} أي البليغ العلم للدقائق والجلائل {الحكيم *} أي البليغ الإتقان لما يصنعه طبق ما ختم به يعقوب عليه الصلاة والسلام بشراه في أول السورة، أي هو منفرد بالاتصاف بذلك لا يدانيه أحد في علم ليتعرض إلى أبطال ما يقيمه من الأسباب، ولا في حكمة ليتوقع الخلل في شيء منها.(10/219)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
ولما ذكر هاتين الصفتين، تذكر ما وقع له بهما من الأسباب، فغلب عليه مقام الشهود وازدادت نفسه عن الدنيا عزوفاً، فقال مخاطباً:(10/219)
{رب قد آتيتني} وافتتح ب «قد» لأن الحال حال توقع السامع لشرح مآل الرؤيا {من الملك} أي بعضه بعد بعدي منه جداً، وهو معنى روحه تمام القدرة {وعلمتني} وقصر دعواه تواضعاً بالإتيان بالجار فقال: {من تأويل الأحاديث} طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك، والله غالب على أمره؛ ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال: {فاطر السماوات والأرض} ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعول على غيره في شيء من الأشياء فقال: {أنت وليِّي} أي الأقرب إليّ باطناً وظاهراً {في الدنيا والآخرة} أي لا ولي لي غيرك، والولي يفعل لمولاه الأصلح والأحسن، فأحسن بي في الآخرة أعظم ما أحسنت بي في الدنيا.
ولما كان توليه لله لا يتم إلا بتولي الله له، أتبعه بما يفيده فقال: {توفني} أي اقبض روحي وافياً تاماً في جميع أمري حساً ومعنى حال كوني {مسلماً} ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقاً في الإخلاص، حققه بقوله: {وألحقني بالصالحين *} فتوفاه الله كما سأل؛ قالوا: وتخاصم أهل مصر فيه، كلهم يرجو أن يدفن في محلته يرجو بركته، ثم اصطلحوا على أن عملوا له صندوقاً من رخام ودفنوه في وسط النيل،(10/220)
ليفترق الماء على جميع الأرض فتنالها بركته وتخصب كلها على حد سواء، ويكونوا كلهم في الماء سواء.
ذكر ما بقي من القصة عن التوراة:
قال بعدما مضى: فلم يقدر يوسف على الصبر - يعني على ترفق إخوته - فأمر بإخراج جميع من كان عنده، فلم يبق عنده أحد حيث ظهر يوسف لإخوته، فرفع صوته فبكى حتى سمع المصريون فأخبروا في آل فرعون، فقال يوسف لإخوته: أنا أخوكم يوسف، هل أبي باق؟ فلم يقدر إخوته على إجابته لأنهم رهبوه، فقال يوسف لإخوته: ادنوا مني فدنوا فقال لهم: أنا يوسف الذي بعتموني لمن ورد إلى مصر، والآن فلا تحزنوا، ولا يشقن عليكم ذلك، ولا يشتدن عليكم بيعكم إياي إلى ما هنا، لأن الله أرسلني أمامكم لأعد لكم القوت، لأن للجوع مذ أتى سنتين، وستأتي خمس سنين أخر لا يكون فيها زرع ولا حصاد، فأرسلني الرب أمامكم لأصير لكم بقاء في الأرض وأخلصكم(10/221)
وأستنقذكم، لتحيوا وتستبشروا على الأرض، والآن فلستم أنتم الذين بعثتموني إلى هاهنا بل الله أرسلني وجعلني أباً لفرعون وسيداً لجميع أهل بيته، ومسلطاً على جميع أرض مصر، فاصعدوا الآن عجلين عليّ بأبي وقولوا له: هكذا يقول ابنك يوسف: إن الله جعلني سيداً لجميع أهل مصر، فاهبط إليّ ولا تتأخر، وانزل إلى أرض السدير - وفي نسخة: خشان - فكن قريباً مني أنت وبنوك وأهل بيتك وعمتك وبقرك وجميع مالك، فأموّنكم هناك، لأنه قد بقي خمس سنين جوعاً، لئلا تهلك أنت وأهل بيتك وكل مالك، وهذه أعينكم تبصر وعينا أخي بنيامين، إني أكلمكم مشافهة، وأخبروا أبي بجميع كرامتي ووقاري في أرض مصر، وبجميع ما رأيتم، وأسرعوا واهبطوا بأبي إلى ما هاهنا، فاعتنق أخاه بنيامين أيضاً وبكى، وقبل جميع إخوته وبكى، ومن بعد ذلك كلمه إخوته، فبلغ ذلك فرعون وقيل له: إن إخوة يوسف قد أتوه، فسر ذلك فرعون، عبده - وفي نسخة: وجميع قواده - فقال فرعون ليوسف: قل لإخوتك فليفعلوا هكذا، أوقروا دوابكم ميرة، وانطلقوا بها إلى أرض كنعان، وأقبلوا بأبيكم وأهل بيوتاتكم وائتوني فأنحلكم(10/222)
خيرات أرض مصر وخصبها، وكلوا خصب الأرض، وهذا أنت المسلط، فأمر إخوتك أن يفعلوا هذا الفعل، احملوا من أرض مصر عجلاً لنسائكم وحشمكم، وأظعنوا بأبيكم فأقبلوا، ولا تشفقن على أمتعتكم، لأن جميع خيرات مصر وأرضها وخصبها هو لكم، ففعل بنو إسرائيل كما أمر فرعون، ودفع إليهم يوسف عجلاً عن أمر فرعون، وزودهم جميع أزودة الطريق، وخلع على كل أمرىء منهم خلعة، فأما بنيامين فأجازه بثلاثمائة درهم - وفي نسخة: مثقال فضة - وخلع عليه خمس خلع، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك أيضاً وعشرة حمير موقرة من البر والطعام وأزودة لأبيه للطريق وأرسلهم، فانطلقوا، وتقدم إليهم وقال لهم: لا تقع المشاجرة فيما بينكم في الطريق، فظعنوا من مصر فأتوا أرض كنعان إلى يعقوب أبيهم، فأخبروه وقالوا له: إن يوسف بعد في الحياة، وهو المسلط على جميع أرض مصر، ورأى يعقوب العجل الذي بعث يوسف لحمله فاطمأنت نفسه وقال: إن هذا لعظيم عندي، إذ كان ابني يوسف بعد الحياة، أنطلق الآن(10/223)
فأنظر إليه قبل الموت.
فظعن إسرائيل وجميع ما له، فأتى بئر السبع، وقرب قرباناً لإله إسحاق أبيه، فكلم الله إسرائيل في الرؤيا وقال له: يا يعقوب! فقال: هاأنذا! فقال: إني أنا إيل إله أبيك، لا تخف من الحدور إلى مصر، لأني أجعلك هناك إلى شعب عظيم - وفي نسخة: لأني أصير منك أمة عظيمة - أنا أهبط معك، وأنا أصعدك، ويوسف يضع يده على عينيك، فنهض يعقوب من بئر السبع وظعن بنو إسرائيل بيعقوب أبيهم وبحشمهم ونسائهم على العجل الذي بعث فرعون لحمله، وساقوا دوابهم ومواشيهم التي استفادوها بأرض كنعان، فأتوا بها مصر يعقوب وجميع نسله وبنوه معه وبنو بنيه وبناته وبنات بناته، وأدخل إلى مصر كل نسله،
ثم سماهم واحداً واحداً، ثم قال: فجميع بني يعقوب الذين ادخلوا مصر سبعون إنساناً، ثم بعث يعقوب يهوذا بين يديه إلى يوسف عليه الصلاة والسلام ليدله على السدير - وفي نسخة: خشان - فألجم يوسف مراكبه، وصعد للقاء أسرائيل أبيه إلى خشان - وفي نسخة: السدير - فتلقاه واعتنقه وبكى إذ اعتنقه، فقال إسرائيل ليوسف:(10/224)
أتوفى الآن بعد نظري إليك يا بني، فأنت في الحياة بعد، فقال يوسف لإخوته وآل أبيه: أصعد فأخبر فرعون وأقول: إن إخوتي وآل أبي الذين كانوا بأرض كنعان قد أتوني والقوم رعاء غنم، لأنهم أصحاب مواش وقد أتوا بغنمهم وبقرهم وبكل شيء لهم، فإذا دعاكم فقولوا له: إنا عبيدك أصحاب ماشية منذ صبانا، وحتى الآن نحن وآباؤنا من قبل أيضاً، لكي تنزلوا أرض خشان - وفي نسخة: السدير - لأن رعاة الغنم هم مرذولون عند المصريين.
فأتى يوسف فأخبر فرعون وقال له: إن أبي وإخوتي أتوني وغنمهم وبقرهم وجميع ما لهم في أرض كنعان، وهو ذا هم حلول بأرض السدير، وحمل من إخوته خمسة رهط، فأدخلهم على فرعون فوقفوا بين يديه، فقال فرعون لإخوة يوسف: ما صنعتكم؟ فقالوا: إن عبيدك رعاء غنم نحن منذ صبانا، وآباؤنا أيضاً من قبل. وقالوا لفرعون: إنا أتينا لنسكن هذه الأرض لأنه فقد الحشيش والعشب والكلأ من مرابع غنم عبيدك، وذلك لأن الجوع اشتد في أرض كنعان، فأمر عبيدك أن ينزلوا بأرض السدير، فقال فرعون ليوسف: إن أباك وإخوتك قد أتوا، وهذه أرض مصر(10/225)
بين يديك، فأسكن أباك وإخوتك في أحسن الأرض وأخصبها لينزلوا أرض السدير، وإن كنت تعلم أن فيهم قوماً ذوي قوة وبطش ونفاذ فولهم جميع مالي، فأدخل يوسف عليه السلام أباه يعقوب عليهم الصلاة والسلام على فرعون فأقامه بين يديه، فقال فرعون ليعقوب عليه الصلاة والسلام: كم عدد سني حياتك؟ فقال يعقوب عليه السلام لفرعون: مبلغ حياتي مائة وثلاثون سنة، وإن أيام حياتي لناقصة، ولم أبلغ سني حياة آبائي في أيام حياتهم، فبارك يعقوب فرعون ودعا له، وخرج من بين يديه، فأسكن يوسف عليه السلام أباه يعقوب عليه السلام وإخوته وأعطاهم وراثة في أرض مصر في أخصب الأرض وأحسنها في أرض رعمسيس - وفي نسخة: أرض عين شمس - كما أمر فرعون، فقات يوسف أباه وإخوته وجميع أهل بيته بالميرة على قدر الحشم، ولم تكن ميرة في جميع الأرض كلها لأن الجوع اشتد جداً، فخرجت جميع أرض مصر وأرض كنعان، فصار إلى يوسف عليه الصلاة والسلام كل ورق ألفي في(10/226)
أرض مصر وأرض كنعان، وذلك ثمن البر الذي كانوا يبتاعونه، فأورد يوسف الورق بيت مال فرعون، ونفد الورق من أرض مصر وأرض كنعان، فأتى جميع المصريين إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقالوا له: أعطنا من القمح حاجتنا فنحيى ولا نموت، لأن ورقنا قد نفذ، فقال لهم يوسف: ادفعوا إليَّ مواشيكم إن كانت الأوراق قد نفدت، فأقوتكم بمواشيكم، فأتوه بمواشيهم فأعطاهم يوسف من الميرة بخيلهم وبمواشي الغنم وماشية البقر والحمير، وقاتهم سنتهم تيك بجميع مواشيهم، فأتوه في السنة الأخرى وقالوا له: لسنا نكتم سيدنا أمرنا، لأنن أوراقنا وماشيتنا ودوابنا قد نفدت وصارت عند سيدنا، ولم يبق بين يدي سيدنا غير أنفسنا وأرضنا، فلم نهلك بين يديك؟ فابتعنا وأراضينا بإطعامك إيانا الخبز، فنصير نحن عبيداً لفرعون وأرضنا ملكاً له، وأعطنا البذر فنحيا ولا نموت، ولا تخلو الأرض وتخرب لفقد سكانها، فابتاع يوسف لفرعون جميع أرض مصر، فصارت الأرض لفرعون، فنقل الشعب من قرية إلى قرية وحولهم من أقاصي الأرض نحو مصر إلى أقطارها ما خلا أرض الأجناد - وفي نسخة: أئمتهم - فإنه لم يبتعها، لأنه كان يجري على الأجناد - وفي رواية:(10/227)
أئمتهم - وظيفة ونزلا من عند فرعون، وكانوا يأكلون برهم الموظف لهم من قبل فرعون، ولذلك لم يبيعوا أرضهم، فقال يوسف للشعب: إني قد اشتريتكم اليوم وأرضكم لفرعون، وهاأنذا معطيكم البذر لتزرعوا في الأرض، فإذا دخلت الغلة فأعطوا فرعون الخمس منها، وتكون لكم لزراعة الحقل أربعة أخماس، ولمأكل أهل بيوتاتكم وإطعام حشمكم، فقالوا له: لقد أحييتنا، فلنظفر من سيدنا برحمة ورأفة، ونكون عبيداً لفرعون، فسن يوسف هذه السنة على أرض مصر إلى يوم الناس هذا، فصار الخمس لفرعون ما خلا أرض أئمتهم - وفي رواية: الأجناد - فإنها لم تكن لفرعون.
فسكن إسرائيل أرض مصر وأرض السدير، فعظموا واعتزوا فيها واستيسروا وتماجدوا، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة، وكانت جميع أيام حياة يعقوب مائة وسبعاً وأربعين سنة، ودنت أيام وفاة إسرائيل عليه السلام، فدعا يوسف(10/228)
ابنه عليه السلام وقال له: إن ظفرت منك برحمة ورأفة، فضع يدك تحت ظهري حتى أستحلفك بالله وأقسم عليك به، وأنعم عليّ بالنعمة والقسط، لا تدفني بمصر، بل أضطجع مع آبائي، احملني من مصر فادفني في مقبرتهم، فقال يوسف: أنا فاعل ذلك كقولك وأمرك، فقال له: أقسم لي، فأقسم له فتوكأ إسرائيل على عصاه وسجد شكراً.
فلما كان بعد هذه الأقاويل بلغ يوسف عليه السلام أن أباه قد مرض، فانطلق بابنيه معه: منشا وإفرايم، فبلغ يعقوب وقيل له: إن ابنك يوسف قد أتاك، فتقوى إسرائيل وجلس على أريكته، فقال إسرائيل ليوسف: إن إله المواعيد اعتلن لي بلوز في أرض كنعان، فباركني وقال لي: هاأنذا مباركك ومكثرك، وأجعلك أباً لجميع الشعوب، وأعطي نسلك من بعدك هذه الأرض ميراثاً إلى الأبد، وأنا(10/229)
إذ كنت مقبلاً من فدانة أرام توفيت عني راحيل أمك في أرض كنعان في الطريق، وكان بيني وبين الدخول إلى إفراث قدر مسيرة ميل - وفي نسخة: - فرسخ - فدفنتها هناك في طريق إفراث - وهي بيت لحم - ونظر إسرائيل إلى ابني يوسف فقال له: من هذان؟ فقال: ابناي اللذان رزقني الله هاهنا، فقال أدنهما مني، فقبلهما واعتنقهما وقال: ما كنت أرجو النظر إلى وجهك فقد أراني الله نسلك أيضاً، وقال إسرائيل ليوسف عليهما الصلاة والسلام: هاأنذا متوف، ويكون الله بنصره وعونه معكم، ويردكم إلى أرض آبائكم، وهأنذا قد فضلتك على إخوتك بسهم من الأرض التي غلبت عليها الأمورانيون بسيفي وقوسي، ثم إن يعقوب دعا بنيه وقال؛ اجتمعوا إليّ فأبين لكم ما هو كائن من أمركم في آخر الأيام، فذكر ذلك ثم قال: وهذا ما أخبرهم به يعقوب أبوهم، نبأهم بذلك وبارك عليهم كل امرىء منهم(10/230)
على قدره، ثم أوصاهم وقال لهم: إنني أنتقل إلى شعبي فادفنوني إلى جانب آبائي في المغارة التي في حقل عفرون الحيثاني، في المغارة التي في الروضة المضاعفة إلى جانب ممري بأرض كنعان التي ابتاعها إبراهيم: روضة من عفرون الحيثاني وراثة المقبرة، هنالك دفن إبراهيم وسارة حليلته، وفيها دفن إسحاق ورفقا حليلته، وهنالك دفنت ليا في الروضة المبتاعة والمغارة التي فيها من بني حاث.
فلما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه بسط رجليه على أريكته فمات ونقل إلى شعبه.
فوقع يوسف عليه فقبله وبكى عليه، فأمر عبيده الأطباء بتحنيطه، فحنط الأطباء إسرائيل وتمت له أربعون ليلة، لأنه هكذا تكمل أيام المحنطين، وناح المصريون عليه سبعين يوماً، فقال يوسف لآل فرعون: إن ظفرت منكم برحمة ورأفة فأخبروا فرعون أن أبي أحلفني وأقسم عليّ وقال لي: هاأنا متوف، فاقبرني في القبر الذي ابتعته في أرض كنعان، فيأذن لي فأصعد فأدفن أبي ثم أرجع، فقال له(10/231)
فرعون: اصعد فادفن أباك كما أقسم عليك، فصعد يوسف ليدفن أباه، وصعد معه جميع عبيد فرعون وأشياخ بيته وجميع أشياخ مصر وجميع أهل بيت يوسف، وصعد معه إخوته وآل أبيه، وأما حشمهم وبقرهم وغنمهم فخلفوها بأرض خشان - وفي نسخة: السدير - وأصعد المراكب والفرسان أيضاً، فصار في عسكرعظيم منيع، فأتوا إلى بيادر أطرا - وفي نسخة: أندر العوسج - التي في مجاز الأردن، فرنوا هناك وناحوا نوحاً عظيماً مراً، فنظر سكان أرض كنعان إلى التأبل والنواح في أجران العوسج، فقالوا: إن هذا التأبل عظيم للمصريين، ولذلك دعي ذلك الموضع «تأبل مصر» ، الذي في مجاز الأردن، ففعل بنو إسرائيل كما أمرهم، وحملوه وانطلقوا به إلى أرض كنعان فدفنوه ثم في المغارة المضاعفة التي في الروضة التي ابتاعها إبراهيم وراثة المقبرة من عفرون الحيثاني وهي إمام ممري.(10/232)
ثم رجع يوسف إلى مصر هو وإخوته وجميع من صعد معه في دفن أبيه، ومن بعد ما دفن أباه نظر إخوة يوسف إلى أبيهم قد توفى، ففرقوا وقالوا: لعل يوسف أن يؤذينا وينكأنا ولعله أن يكافئنا على جميع الشر الذي ارتكبنا منه، فدنوا من يوسف وقالوا له: إن أباك أوصى قبل وفاته وقال: هكذا قولوا ليوسف: نطلب إليك أن تعفو عن جهل إخوتك وعن خطاياهم بارتكابهم الشر منك، فالآن نطلب إليك أن تعفو عن ذنب عبيد إله أبيك، فبكى يوسف لما قالوا ذلك، فدنا إخوته فخروا بين يديه سجداً وقالوا له: هوذا نحن لك عبيد، فقال لهم: لا تخافوني لأني أخاف الله، أما أنتم فهممتم بي شراً فصيره الله لي خيراً كما فعل بي يومنا هذا، فأحيي على يدي خلقاً عظيماً، والآن فلا خوف عليكم، أنا أقوتكم وحشمكم، فعزاهم وملأ قلوبهم خيراً.
ثم أقام يوسف بمصر هو وآل بيته، فعاش يوسف مائة وعشر سنين ورأى يوسف ولد ولده، فقال يوسف لإخوته: هاأنذا متوف، والله سيذكركم ويخرجكم من هذه الأرض إلى الأرض التي أقسم بها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأقسم يوسف على بني أسرائيل(10/233)
وقال: إن الله سيذكركم، فأصعدوا عظامي معكم، فتوفي يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين، فحنطوه ووضعوه في صندوق بأرض مصر - وسيأتي ما بعد ذلك من استعبادهم وما يتبعه في سورة القصص إن شاء الله تعالى.
وهذا الذي ذكر من القصة في التوراة مصدق لما في القرآن وشاهد بإعجازه، غير أنه لم يذكر شرح قوله تعالى: {فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً} [يوسف: 80] في أنه بعد أخذ الصواع من رحل أخيه تركهم من غير تعريف لهم بنفسه فمضوا إلى أبيهم فأخبروه بذلك، ثم عادوا مرة أخرى للميرة والطلب ليوسف وأخيه فعرفهم يوسف عليه السلام بنفسه وجلا لهم الأمر في هذه القدمة الثالثة، فكأنهم أسقطوا ما في التوراة من ذلك تدليساً وتلبيساً، وهو لا يضر غيرهم، فإن ما صار في كتابهم لا يتمشى على قوانين العقل لمن تدبر، فلم يفدهم ذلك غير التحقق لخيانتهم وجهلهم - والله الهادي إلى الصواب.(10/234)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
ولما تم الذي كان من أمرهم على هذا الوجه الأحكم والصراط الأقوم من ابتدائه إلى انتهائه، قال مشيراً إلى أنه دليل كاف في تصحيح دعوى النبوة مخاطباً لمن لا يفهم هذا الحق فهمه غيره، مسلياً له مثبتاً لفؤاده وشارحاً لصدره، منبهاً على أنه مما ينبغي السؤال عنه: {ذلك} أي النبأ العالي الرتبة الذي قصصناه قصاً يعجز البلغاء من حملته ورواته فكيف بغيرهم {من أنباء الغيب} أي أخباره التي لها شأن عظيم {نوحيه إليك} وعبر بصيغة المضارع تصويراً لحال الإيحاء الشريف وإشارة إلى أنه لا يزال معه يكشف له ما يريد {و} الحال أنك {ما كنت لديهم} أي عند إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام في هذا النبأ الغريب جداً {إذ} أي حين {أجمعوا أمرهم} على رأي واحد في إلقاء يوسف عليه الصلاة والسلام في الجب بعد أن كان مقسماً {وهم يمكرون *} أي يدبرون الأذى في خفية، من المكر وهو القتل - لتعرف ذلك بالمشاهدة، وانتفاء تعلمك لذلك من بشر مثل انتفاء كونك لديهم في ذلك الحين، ومن المحقق لدى كل ذي لب أنه لا علم إلا بتعليم، فثبت أنه لا معلم لك إلا الله كما علم إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيا له من دليل جل عن مثيل، وهذا(10/235)
من المذهب الكلامي، وهو إيراد حجة تكون بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب، وهو تهكم عظيم ممن كذب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما سألت قريش واليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما نقله أبو حيان عن ابن الأنباري - عن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام فنزلت مشروحة هذا الشرح الشافي، مبينة هذا البيان الوافي، فأمل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون ذلك سبب إسلامهم فخالفوا تأميله، عزاه الله بقوله: {وما} أي نوحيه إليك على هذا الوجه المقتضي لإيمانهم والحال أنه ما {أكثر الناس} أي كلهم مع ذلك لأجل ما لهم من الاضطراب {ولو حرصت} أي على إيمانهم {بمؤمنين *} أي بمخلصين في إيمانهم واصفين الله بما يليق به من التنزه عن شوائب النقص، فلا تظن أنهم يؤمنون لإنزال ما يقترحون من الآيات، أو لترك ما يغيظهم من الإنذار؛ والكثير - قال الرماني: العدة الزائدة على مقدار غيرها، والأكثر: القسم الزائد على القسم الآخر من الجملة، ونقيضه الأقل؛ والناس: جماعة الإنسان، وهو من ناس ينوس - إذا تحرك يمنياً وشمالاً من نفسه لا بجر غيره.(10/236)
ولما ذكر تعالى ما هم عليه من الكفر، ذكر ما يعجب معه منه فقال: {وما} أي هم على ذلك والحال أن موجب إيمانهم موجود، وذلك أنك - مع دعائهم إلى الطريق الأقوم وإيتانك عليه بأوضح الدلائل ما {تسئلهم عليه} أي هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك، وأعرق في النفي فقال: {من أجر} حتى يكون سؤالك سبباً لأن يتهموك أو يقولوا: لولا أنزل عليه كنز ليستغني به عن سؤالنا.
ولما نفى عنهم سؤالهم الأجر، نفى عن هذا الذكر كل غرض دنيوي فقال: {إن هو} أي هذا الكتاب {إلا ذكر} أي تذكير وشرف {للعالمين *} قال الرماني: والذكر: حضور المعنى للنفس، والعالم: جماعة الحيوان الكثيرة التي من شأنها أن تعلم، لأنه أخذ من العلم، وفيه معنى التكثير، وقد يقال: عالم الفلك وما حواه على طريق التبع للحيوان الذي ننتفع به وهو مجعول لأجله.
ولما كان القرآن العظيم أعظم الآيات بما أنبأ فيه عن الإخبار الماضية والكوائن الآتية على ما هي عليه مضمنة من الحكم والأحكام، في أساليب البلاغة التي لا ترام، وغير ذلك ما لا يحصر بنظام، كما أشار إليه أول السورة، كان ربما قيل: إن هذا ربما لا يعلمه إلا الراسخون(10/237)
في العلوم الإلهية، عطف عليه الإشارة إلى أن له تعالى غيره من الآيات إلتي لا تحتاج لوضوحها إلى أكثر من العقل ما لا يحيط به الحصر، ومع ذلك فلم ينتفعوا به، فقال: {وكأين من آية} أي علامة كبيرة دالة على وحدانيته {في السماوات} أي كالنيرين وسائر الكواكب والسحاب وغير ذلك {والأرض} من الجبال والشجر والدواب وغير ذلك مما لا يحصيه العد - كما سيأتي بيانه في سورة الرعد مفصلاً {يمرون عليها} مشاهدة بالحس ظاهرة غير خفية {وهم عنها} أي خاصة لا عن ملاذهم وشهواتهم بها {معرضون *} أي عن دلالتها على السعادة من الوحدانية وما يتبعها.
ولما كان ربما قيل: كيف يوصفون بالإعراض وهم يعتقدون أن الله فاعل تلك الآيات، بين أن إشراكهم مسقط لذلك، فقال: {ما يؤمن أكثرهم} أي الناس {بالله} أي الذي لا شيء إلا وهو داع إلى الإيمان به، لأنه المختص بصفات الكمال {إلا وهم مشركون *} به مَن لا يقدر على شيء فضلاً عن أن يأتي بآية، كانوا يقرون بأن الله خالقهم ورازقهم ويعبدون غيره، وكذا المنافقون يظهرون الإيمان ويبطنون الكفران، وكذا أهل الكتابين يؤمنون بكتابهم ويقلدون علماءهم(10/238)
في الكفر بغيره، فعلم أن إذعانهم بهذا الإيمان غير تابع لدليل، وهو محض تقليد لمن زين له سوء علمه فرآه حسناً، لما سبق فيه من علم الله أنه لا صلاحية له فأفسده بما شابهه به من الشرك، والآية صالحة لإرادة الشرك الخفي الذي أشار إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل» وهو شرك الأسباب التي قدر الله وصول ما يصل إلى العبد بواسطتها، فقل من يتخطى من الأسباب إلى مسببها! قال الرازي في اللوامع: وقال الإمام محمد بن علي الترمذي: إنما هو شك وشرك فالشك ضيق الصدر عند النوائب، ومنه ثوب مشكوك، والشرك بنور التوحيد، فعند هذا يتولاه الله تعالى، وقال الواسطي: إلا وهم مشركون: في ملاحظة الخواطر والحركات.(10/239)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
ولما أخبر الله تعالى عن ارتباكهم في أشراك إشراكهم، وأنهم يتعامون عن الأدلة في الدنيا، وكان الأكثر المبهم القطع بعدم إيمانهم من توجيه الأمر والنهي والحث والزجر إلى الجميع وهم(10/239)
في غمارهم، وكان بعض الناس كالحمار لا ينقاد إلا بالعذاب، قال سبحانه وتعالى: {أفأمنوا} إنكاراً فيه معنى التوبيخ والتهديد {أن تأتيهم غاشية} أي شيء يغطيهم ويبرك عليهم ويحيط بهم {من عذاب الله} أي الذي له الأمر كله في الدنيا كما أتى من ذكرنا قصصهم من الأمم.
ولما كان العاقل ينبغي له الحذر من كل ممكن وإن كان لا يقربه، قال تعالى: {أو تأتيهم الساعة} وأشار إلى أشد ما يكون من ذلك على القلوب بقوله: {بغتة} أي وهم عنها في غاية الغفلة بعدم توقعها أصلاً؛ قال الرماني: قال يزيد بن مقسم الثقفي:
ولكنهم بانوا ولم أدر بغتة ... وأفظع شيء حين يفجؤك البغت
ولما كان هذا المعنى مهولاً، أكده الله بقوله: {وهم لا يشعرون *} أي نوعاً من الشعور ولو أنه كالشعرة، إعلاماً بشدة جهلهم في أن حالهم حال من هو في غاية الأمن مما أقل أحواله أنه ممكن، لأن الشعور إدراك الشيء بما يلطف كدقة الشعر، وإنما قلت: إنه تأكيد، لأنه(10/240)
معنى البغتة؛ قال الإمام أبو بكر الزبيدي في مختصر العين: البغتة: المفاجأة، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: فاجأت الرجل مفاجأة - إذا جئته على غفلة مغافصة، ثم قال: وفاجأته مفاجأة - إذا لقيته ولم يشعر بك، وفي ترتيب المحكم: فجئه الأمر وفجأه وفاجأه مفاجأة: هجم عليه من غير أن يشعر به، ويلزم ذلك الإسراع وهو مدار هذه المادة، لأنه يلزم أيضاً التغب - بتقديم المثناة محركاً وهو الهلاك، لأنه أقرب شيء إلى الإنسان إذ هو الأصل في حال الحدث، والسلامة فيه هي العجب، والتغب أيضاً: الوسخ والدرن، وتغب - بكسر الغين: صار فيه عيب، ويقال للقحط: تغبة - بالتحريك، والتغب - ساكناً: القبيح والريبة، وكل ذلك أسرع إلى الإنسان من أضداده إلا من عصم الله، وما ذاك إلا لأن هذه الدار مبينة عليه.
ولما وصف الله سبحانه له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر الناس بما وصف من سوء الطريقة للتقليد الذي منشؤه الإعراض عن الأدلة الموجبة(10/241)
للعلم، أمر أن يذكر طريق الخلّص فقال: {قل} أي يا أعلى الخلق وأصفاهم وأعظمهم نصحاً وإخلاصاً: {هذه} أي الدعوة إلى الله على ما دعا إليه كتاب الله وسننه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سبيلي} القريبة المأخذ، الجلية الأمر، الجليلة الشأن، الواسعة الواضحة جداً، فكأنه قيل: ما هي؟ فقال: {أدعوا} كل من يصح دعاؤه {إلى الله} الحائز لجميع الكمال حال كوني {على بصيرة} أي حجة واضحة من أمري بنظري الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة وترك التقليد الدال على الغباوة والجمود، لأن البصيرة المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل ديناً ودنيا بحيث يكون كأنه يبصر المعنى بالعين.
ولما كان الموضع في غاية الشرف، أكد الضمير المستتر تعييناً وتنبيهاً على التأهل لظهور الإمامة، فقال: {أنا ومن} أي ويدعو كذلك من {اتبعني} لا كمن هو على عمى جائر عن القصد، حائر في ضلال التقليد، فهو لا يزال في غفلة هدفاً للحتوف؛ والاتباع: طلب الثاني اللحاق بالأول للموافقة في مكانه أو في أمره الذي دعا إليه، ومما دخل تحت {قل} عطفاً على {أدعوا} قوله: منبهاً على أن شرط كل دعوة إليه سبحانه اقترانها بتنزيهه عن كل شائبة نقص - {وسبحان الله}(10/242)
أي وأسبح الذي اختص بصفات الكمال سبحاناً، أي أقدره حق قدره فأثبت له من صفات الكمال ما يليق بجلاله، وأنزهه عما هو متعال عنه تنزيهاً يعلم هم أنه يليق بجلالة ويرضى به، وفي تخصيص الله بذلك عقب ما أثبت له ولأتباعه تلويح بنسبة النقص إليهم تواضعاً، اعتذاراً عما يلحقهم من الوهن وطلباً للعفو عنه {وما أنا} وعدل عن «مشركاً» إلى أبلغ منه فقال: {من المشركين *} أي في عداد من يشرك به شيئاً بوجه من الوجوه، لأني علمت بما آتاني من البصيرة أنه منعوت بنعوت الكمال، منزه عن سمات النقص، متعال عنها، وأن ذلك أول واجب لأنه الواحد الذي جل عن المجانسة، القهار الذي كل شيء تحت مشيئته، وفسرت {سبحان} بما تقدم لأن مادة «سبح» بكل ترتيب تدور على القدر والشدة والاتساع؛ وتارة يقتصر فيه على الكفاية ومنه الحسب: مقدار الشيء. وتارة يقتصر فيه على الكفاية فيلزمه الحصر ومنه: أحسبني الشيء: كفاني، واحتساب الأجر: الاكتفاء به، والحساب: معرفة المقدار، والحسب بمعنى الظن راجع إلى ذلك أيضاً، والأحسب: الذي ابيضت جلدته من داء وفسدت(10/243)
شعرته، بمعنى أن ذلك الداء كفاه في الفساد عن كل داء كأنه ما بقي يسع معه داء، والتحسيب: التكفين بما يسع الميت، وهو كفاية له لا يحتاج بعده إلى شيء، ومنه الحبس وهو المنع من مجاوزة الكفاية؛ وتتجاوز الكفاية فيسبح ويتسع مداه فلا ينحصر ومنه: الحسب - بالتحريك، وهو الشرف؛ ومنه السحب وبه سمي السحاب لانسياحه في الهواء؛ ومنه السبح في الماء، ومد الفرس يديه في الجري، والسبحة: صلاة التطوع - لأنه لا حد لها يحصرها، ولأنها تجاوزت الفرض، والسبح: الفراغ - للتمكن معه من الانبساط، والتسبيح: التنزيه - لأنه الإبعاد عن النقص، قال الرماني: وأصله البراءة من الشيء، وقال ابن مكتوم في الجمع بين العباب والمحكم: سبحان الله معناه تنزيهاً لله من الصحابة والولد، وتبرئة من السوء - هذا معناه في اللغة وبذلك جاء الأثر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال سيبويه: زعم أبو الخطاب أن «سبحان الله» كقولك براءة الله من السوء، كأنه يقول: أبرىء براءة الله من السوء، وزعم أن مثل ذلك(10/244)
قول الأعشى:
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمه الفاخر
أي براءة منه، وبهذا استدل على أن سبحان معرفة إذ لو كان نكرة لانصرف، قال: وقد جاء في الشعر منوناً نكرة، قال أمية:
سبحانه ثم سبحاناً يعود له ... وقبلنا سبح الجودي والجمد
وقال ابن جني: سبحان اسم علم لمعنى البراءة والتنزيه بمنزلة عثمان وحمران، اجتمع في سبحان التعريف والألف والنون، وكلاهما علة تمنع من الصرف - انتهى. وقال الزجاج: جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قوله «سبحان الله» تبرئة لله من السوء، وأهل اللغة كذلك يقولون من غير معرفة بما فيه من الرواية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ولكن تفسيره يجمعون عليه، وقد سبح الرجل: قال سبحان الله، وفي التنزيل {كل قد علم صلاته وتسبيحه} [النور: 41] وسبح لغة في سبّح، وحكى ثعلب: سبح تسبيحاً وسبحاناً، قال(10/245)
ابن سيده: وعندي أنا سبحاناً ليس مصدراً لسبّح، إنما هو مصدر سبح، وقال النصر: سبحان الله معناه السرعة إليه والخفة في طاعته، وسبوحة - بفتح السين: البلد الحرام، وسباح علم الأرض الملساء عند معدن بني سليم، وسبحات وجه الله: أنواره، والسبحة: الدعاء، وأيضاً صلاة التطوع - انتهى. وكله راجع إلى الإبعاد عن السوء، والسبحان: النفس، وكل أحد يبرىء نفسه ويرفعها عن السوء.
ولما أوضح أبطال ما تعنتوا به من قولهم «لو أنزل عليه كنز» أتبعه ما يوضح تعنتهم في قولهم {أو جاء معه ملك} بذكر المرسلين، وأهل السبيل المستقيم، الداعين إلى الله على بصيرة، فقال: {وما أرسلنا} أي بما من العظمة. ولما كان الإرسال لشرفه لا يتأتى على ما جرت به الحكمة في كل زمن كما أنه لا يصلح للرسالة كل أحد، وكان السياق لإنكار التأييد بملك في قوله {أو جاء معه ملك} كالذي في النحل، لا لإنكار رسالة البشر، أدخل الجار تنبيهاً على ذلك فقال: {من قبلك} أي إلى المكلفين {إلا رجالاً}(10/246)
أي مثل ما أنك رجل، لا ملائكة ولا إناثاً - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، والرجل مأخوذ من المشي على الرجل {نوحي إليهم} أي بواسطة الملائكة مثل ما يوحى إليك {من أهل القرى} مثل ما أنك من أهل القرى، أي الأماكن المبنية بالمدر والحجر ونحوه، لأنها متهيئة للإقامة والاجتماع وانتياب أهل الفضائل، وذلك أجدر بغزارة العقل وأصالة الرأي وحدة الذهن وتوليد المعارف من البوادي، ومكة أم القرى في ذلك لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت، وكان العرب كلهم يأتونها؛ قال الرماني: وقال الحسن: لم يبعث الله نبياً من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء - انتهى.
وذلك لأن المدن مواضع الحكمة، والبوادي مواطن لظهور الكلمة، ولما كانت مكة أو القرى مدينة، وهي مع ذلك في بلاد البادية، جمعت الأمرين وفازت بالأثرين، لأجل أن المرسل إليها جامع لكل ما تفرق في غيره من المرسلين، وخاتم لجميع النبيين - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم أجمعين.
ومادة «قرى» - يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة بتراكيبها الخمسة عشر - تدور على الجمع، ويلزمه الإمساك، وربما كان عنه(10/247)
الانتشار، فالقرية - بالفتح ويكسر: المصر الجامع، وأقرى: لزم القرية، والقاري: ساكنها، والقارية: الحاضرة الجامعة، وطير أخضر، إما للزومها، وإما لجمع لونه للبصر، والقريتين - مثنى وأكثر ما يتلفظ به بالياء: مكة والطائف، وقرية النمل: مجتمع ترابها، وقريت الماء في الحوض: جمعته، والمقراة: شبه حوض، وكل ما اجتمع فيه ماء، والقريّ: ماء مستجمع، والمدة تقرى في الجرح - أي تجتمع، والقواري: الشهود - لجمعهم الأمور، والقواري: الناس الصالحون - كأنه مخفف من المهموز، وقريت الضيف قرى بالكسر والقصر، وبالفتح والمد: أضفته كاقتريته، والمقراة: الجفنة يقرى فيها الضيف، والمقاري: القدور، وقرى البعير وكل ما اجتر: جمع جرته في شدقه، وقرت الناقة: ورم شدقاها من وجع الأسنان كأنها لا تقدر مع ذلك على جمع الجرة، فيكون من السلب، وقرى البلاد: تتبعها يخرج من أرض إلى أرض كاقتراها واستقرها - لجمعه بينها، وقريّ الماء كغني: مسيله من(10/248)
التلاع، أو موقعه من الربو إلى الروضة - لأنه مكان اجتماعه، وقرى الخيل: واد - كأنها اجتمعت فيه، والقرية - كغنية: العصا لأن الراعي يجمع بها ما يرعاه. وبها يجمع كل ما يراد جمعه، وأعواد فيها فرض يجعل فيها رأس عمود البيت، لأنه بها يقام فيجمع من يراد، وعود الشراع الذي في عرضه من أعلاه، لأنه يجمع الشراع ملفوفاً ومنشوراً، وقريت الصحيفة لغة في قرأتها - إذا تلوتها فجمعت علمها وكلامها، والقارية: أسفل الرمح، لأنه يجمع زجه، أو أعلاه، لأنه يجمع عاليته، وحد الرمح، لأنه يجمع مراد صاحبه، وكذا حد السيف، والقارية - بالتشديد: طائر أخضر إذا رأوه استبشروا بالمطر - كأنه رسول الغيث أو مقدمة السحاب، جمعه قواري، كأنه سمي بذلك لأنه سبب جمع الهم للمطر؛ والقير والقار: شيء أسود تطلى به السفن، والإبل، والحباب، والزقاق، أو هما الزفت، وعلى كل تقدير هو ساد للشقوق والمسام فكان الجامع بين أجزاء السفينة وغيرها، وهذا أقير من هذا أشد مرارة - تشبيه بالقير الطعم، والمر أيضاً(10/249)
يجمع الفم نحوه بالقبض، والقيّور - كتنور: الخامل النسب، شبه به أيضاً لأن القير لما قل احتياج أكثر الناس إليه في كثير من الأوقات صار قليل الذكر - وهذا معنى الخمول، والقيار كشداد: صاحب القير، وبئر لبني عجل قرب واسط، وكأنها سميت لجمعها إياهم، وقيار اسم فرس، كأنه لجودته يجمع لصاحبه ما يريد، والقارة: الدّبة كذلك، والقارة: حي من العرب سموا لأن ابن الشداخ أراد أن يفرقهم في كنانة فقال شاعرهم:
دعونا قارة لا تجفلونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم
ذكره مختصر العين هنا وغيره في الواو، واقتار الحديث اقتياراً: بحث عنه - لأن ذلك سبب لجمعه، والقيِّر - كهيّن: الأسوار من الرماة الحاذق، لأنه يجمع بذلك ما يريد؛ ورقيت الرجل بالفتح رقية: عوذته، ونفثت في عوذته - لأن الراقي يجمع ريقه وينفث، ورقيت في الشيء رقياً - إذا صعدت عليه - كأنك جمعت بين درجه، والمرقاة بالفتح ويكسر: الدرجة، لأن العلو من آثار الجمع، ورقى عليه كلاماً ترقية: رفع، لأنه جمعه عليه، ومرقيا الأنف: حرفاه لأنهما الجامعان له؛(10/250)
والرائق من الماء: الخالص، لأنه إذا خلص اشتد تلاصق أجزائه لزوال ما كان يتخللها من الغبر، وراق الماء يريق - إذا انصب، إما لأنه اجتمع إلى المحل الذي انصب إليه، أو يكون من السلب كأراقه بمعنى صبه، وراق السراب يريق وتريق يتريق - إذا تضحضح فوق الأرض أي تردد، إما من السلب، وإما تشبيه بالمجتمع، والريق: تردد الماء على وجه الأرض من الضحضاح أي ليسير ونحوه، لأنه لا يتردد إلا وهو مجتمع، والريق: أول كل شيء وأفضله من الرائق بمعنى الخالص، ولأن الأول يجتمع إليه غيره، والأفضل يجمع ما يراد، والريق أيضاً: الباطل، كالريوق كتنور - تشبيهاً بالسراب، وريق الفم معروف، لاجتماعه، والريق: القوة، لجمعها المراد، والريق الرائق: الخالص وكل ما أكل أو شرب على الريق، ومن ليس في يده شيء، كأنه خلص عن العلائق فاجتمع همه، ومن هو على الريق كريقي ككيس، وهو يريق بنفسه: يجود بها عند الموت، من راق الماء: انصب، والمريق - كمعظم: من لا يزال يعجبه شيء، ولعله من راقه يروقه - إذا أعجبه،(10/251)
فجمع همه إليه؛ واليارق: ضرب من الأسورة، لأنه يجمع المعصم، واليرقان - ويسكن: الاستقامة والطريقة وآفة للزرع. ومرض معروف، وسيذكر في «أرق» في أول سورة الحجر إن شاء الله تعالى.
ولما كان الاعتبار بأحوال من سلف للنجاة مما حل بهم أهم المهم، اعترض بالحث عليه بين الغاية ومتعلقها، فقال: {أفلم يسيروا} أي يوقع السير هؤلاء المكذبون {في الأرض} أي في هذا الجنس الصادق بالقليل والكثير. ولما كان المراد سير الاعتبار سبب عنه قوله {فينظروا} أي عقب سيرهم وبسببه، ونبه على أن ذلك أمر عظيم ينبغي الاهتمام بالسؤال عنه بذكر أداة الاستفهام فقال {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {الذين} ولما كان الذين يعتبر بحالهم - لما حل بهم من الأمور العظام - في بعض الأزمنة الماضية، وكان المخاطبون بهذا القرآن لا يمكنهم الإحاطة بأهل الأرض وإن كان في حال كل منهم عظه، أتى بالجار فقال: {من قبلهم} في الرضى بأهوائهم في تقليد آبائهم، وهذا كما تقدم في سورة يونس من أن الآيات لا تغني عمن ختم على قلبه، والتذكير بأحوال الماضين من هلاك العاصين ونجاة الطائعين، والاعتراض بين ذلك بقوله {قل(10/252)
انتظروا إني معكم من المنتظرين} وهو يدل على أنه تعالى يغضب ممن أعرض عن تدبر آياته؛ والسير: المرور الممتد في جهة، ومنه أخذ السير، وأخذ السيور من الجلد؛ والنظر: طلب إدراك المعنى بالعين أو القلب، وأصله مقابلة الشيء بالبصر لإدراكه.
ولما كان من الممكن أن يدعي مطموس البصيرة أنه كان لهم نوع خير، قال على طريقة إرخاء العنان: {ولدار} أي الساعة أو الحالة {الآخرة} أي التي وقع التنبيه عليها بأمور تفوت الحصر منها دار الدنيا فإنه لا تكون دنيا إلا بقصيا {خير للذين اتقوا} أي حملهم الخوف على جعل الائتمار والانزجار وقاية من حياة أهون مآلها الموت، وإن فرض فيها من المحال أنها امتدت ألف عام، وكان عيشها كله رغداً من غير آلام.
ولما كان تسليم هذا لا يحتاج فيه إلى أكثر من العقل، قال مسبباً عنه منكراً عليهم مبكتاً لهم: {أفلا تعقلون *} أي فيتبعوا الداعي إلى هذا السبيل الأقوم.(10/253)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
ولما كان المعنى معلوماً من هذا السياق تقديره: فدعا الرجال المرسلون إلى الله واجتهدوا في إنذار قومهم لخلاصهم من الشقاء،(10/253)
وتوعدهم عن الله بأنواع العقوبات إن لم يتبعوهم، وطال عليهم الأمر وتراخى النصر وهم يكذبونهم في تلك الإيعادات ويبكتونهم ويستهزئون بهم، واستمر ذلك من حالهم وحالهم، قال مشيراً إلى ذلك: {حتى إذا استيئس الرسل} أي يئسوا من النصر يأساً عظيماً كأنهم أوجدوه أو طلبوه واستجلبوه من أنفسهم {وظنوا أنهم قد كذبوا} أي فعلوا فعل اليأس العظيم اليأس الذي ظن أنه قد أخلف وعده من الإقبال على التحذير والتبشير والجواب - لمن استهزأ بهم وقال: ما يحبس ما وعدتمونا به - بإن ذلك أمره إلى الله، إن شاء أنجزه، وإن شاء أخره، ليس علينا من أمره شيء؛ ويجوز أن يراد أنهم لمن استبطؤوا النصر وضجروا مما يقاسون من أذى الأعداء، واستبطاء الأولياء {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه} كما يقول الآئس {متى نصر الله} مع علمهم بأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء، عبر عن حالهم ذلك بما هنا - نقل الزمخشري في الكشاف والرازي في اللوامع معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، هذا على قراءة التخفيف، وأما على قراءة التشديد فالتقدير: وظنوا أنهم قد كذبهم أتباعهم حتى لقد أنكرت عائشة رضي الله عنها قراءة التخفيف، روى البخاري في التفسير(10/254)
وغيره عن عروة بن الزبير أنه سألها عن القراءة: أهي بالتشديد أم بالتخفيف؟ فقالت: إنها بالتشديد، قال قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن، قالت: أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك! فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا أي بالتخفيف - قالت: معاذ الله! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أنهم أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. {جاءهم نصرنا} لهم بخذلان أعدائهم {فنجي من نشاء} منهم ومن أعدائهم {ولا يرد بأسنا} أي عذابنا لما له من العظمة {عن القوم} أي وإن كانوا في غاية القوة {المجرمين *} الذين حتمنا دوامهم على القطيعة كما قلنا {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم} وحققنا بمن ذكرنا مصارعهم من الأمم، وكل ذلك إعلام بأن سنته جرت بأنه يطيل الامتحان، ويمد زمان الابتلاء والاعتبار، حثاً للأتباع على الصبر وزجراً للمكذبين عن التمادي في الاستهزاء.(10/255)
ومادة «كذب» تدور على ما لا حقيقة له، وأكثر تصاريفها واضح في ذلك، ويستعمل في غير الإنسان، قالوا: كذب البرق والحلم والرجاء والطمع والظن، وكذبت العين: خانها حسها، وكذب الرأي: تبين الأمر بخلاف ما هو به، وكذبته نفسه: منته غير الحق، والكذوب: النفس، لذلك، وأكذبت الناقة وكذبت - إذا ضربها الفحل فتشول أي ترفع ذنبها ثم ترجع حائلاً، لأنها أخلفت ظن حملها، وكذا إذا ظن بها لبن وليس بها، ويقال لمن يصاح به وهو ساكن يرى أنه نائم: قد أكذب، أي عد ذلك الصياح عدماً، والمكذوبة من النساء: الضعيفة، لأنه لما اجتمع فيها ضعف النساء وضعفها عدت عدماً، والمكذوبة على القلب: المرأة الصالحة - كأنها لعزة الصلاح في النساء جعلت عدماً، وكذب الوحشي - إذا جرى ثم وقف ينظر ما وراءه، كأنه لم يصدق بالذي أنفره، ومنه كذب عن كذا - إذا أحجم عنه بعد أن أراده، أو لأنه كذب(10/256)
ما ظنه عند الحملة من قتل الأقران، وكذبك الحج أي أمكنك وكذبك الصيد مثله، وهو يؤول إلى الحث لأن المعنى أن الحج لعظم مشقته وطول شقته تنفر النفس عنه، فيكاد أن لا يوجد، وكذا الصيد لشدة فراره وسرعة نفاره وعزة استقراره يكاد أن لا يتمكن منه فيكون صيده كالكذب لا حقيقة له، فقد تبين حينئذ وجه كون «كذب» بمعنى الإغراء ولاح أن قوله «ثلاثة أسفار كذبن عليكم: الحج والعمرة والجهاد» معناه أنها لشدة الصعوبة لا تكاد تمكن من أرادها منها، مع أنه - لقوة داعيته لكثرة ما يرى فيها من الترغيب بالأجر - يكون كالظافر بها، ويؤيده ما قال ابن الأثير في النهاية عن الأخفش: الحج مرفوع ومعناه نصب، لأنه يريد أن يأمره بالحج كما يقال: أمكنك الصيد، يريد: ارمه، وقال أبو علي(10/257)
الفارسي في الحجة في قول عنترة:
كذب العتيق وماء شن بارد ... إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي
وإن شئت قلت: إن الكلمة لما كثر استعمالها في الإغراء بالشيء والبعث على طلبه وإيجاده صار كأنه قال بقوله لها: عليك العتيق، أي الزميه، ولا يريد نفيه ولكن إضرابها عما عداه، فيكون العتيق في المعنى مفعولاً به إن كان لفظه مرفوعاً، مثل «سلام عليكم» ونحوه مما يراد به الدعاء واللفظ على الرفع، وحكى محمد بن السري رحمه الله عن بعض أهل اللغة في «كذب العتيق» أن مضر تنصب به وأن اليمن ترفع به، وقد تقدم وجه ذلك - انتهى. وأقرب من ذلك جداً وأسهل تناولاً وأخذاً أن الإنسان لا يزال منيع الجناب مصون الحجاب ما كان لازماً للصدق فإذا كذب فقد أمكن من نفسه وهان أمره، فمعنى «ثلاثة أسفار كذبن عليكم أمكنتكم من أنفسها، الحج كل سنة بزوال مانع الكفار عنه،(10/258)
والعمرة كل السنة بزوال المفسدين بالقتل وغيره في أشهر الحل، والجهاد كل السنة أيضاً لإباحته في الأشهر الحرم وغيرها، وتخريج مثل: كذبتك الظهائر، وغيره على هذا بين الظهور ولا وقفة فيه ولكون الكاذب يبادر إلى المعاذير ويحاول التخلص كان التعبير بهذا من باب الإغراء، أي انتهز الفرصة وبادر تعسر هذا الإمكان.
ولما ذكر سبحانه هذه القصص كما كانت، وحث على الاعتبار بها بقوله: {أفلم يسيروا} وأشار إلى أنه بذلك أجرى سنته وإن طال المدى، أتبعه الجزم بأن في أحاديثهم أعظم عبرة، فقال حثاً على تأملها والاستبصار بها: {لقد كان} أي كوناً هو في غاية المكنة {في قصصهم} أي الخبر العظيم الذي تلي عليك تتبعاً لأخبار الرسل الذين طال بهم البلاء حتى استيأسوا من نوح إلى يوسف ومن بعده - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام {عبرة} أي عظة عظيمة وذكرى شريفة {لأولي الألباب} أي(10/259)
لأهل العقول الخالصة من شوائب الكدر يعبرون بها إلى ما يسعدهم بعلم أن من قدر على ما قص من أمر يوسف عليه السلام وغيره قادر على أن يعز محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف وغيره - إلى غير مما ترشد إليه قصصهم من الحكم وتعود إليه من نفائس العبر؛ والقصص: الخبر بما يتلو بعضه بعضاً، من قص الأثر، والألباب: العقول، لأن العقل أنفس ما في الإنسان وأشرف.
ولما كان من أجل العبرة في ذلك القطع بحقية القرآن لما بينه من حقائق أحوالهم وخفايا أمورهم ودقائق أخبارهم على هذه الأساليب الباهرة والتفاصيل الظاهرة والمناهيج المعجزة القاهرة، نبه على ذلك بتقدير سؤال فقال: {ما كان} أي هذا القرآن العربي المشتمل على قصصهم وغيره {حديثاً يفترى} كما قال المعاندون - على ما أشير إليه بقوله: {أم يقولون افتراه} ، والافتراء: القطع بالمعنى على خلاف ما هو به في الإخبار عنه، من: فريت الأديم {ولكن} كان {تصديق الذي} كان من الكتب وغيرها {بين يديه} أي قبله الذي هو كاف في الشهادة بصدقه وحقيته في نفسه {و} زاد على(10/260)
ذلك بكونه {تفصيل كل شيء} أي يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا والآخرة؛ والتفصيل: تفريق الجملة بإعطاء كل قسم حقه {وهدى ورحمة} وبياناً وإكراماً. ولما كان الذي لا ينتفع بالشيء لا يتعلق بشيء منه، قال: {لقوم يؤمنون} أي يقع الإيمان منهم وإن كان بمعنى: يمكن إيمانهم، فهو عام، وما جمع هذه الخلال فهو أبين البيان، فقد انطبق هذا الآخر على أول السورة في أنه الكتاب المبين، وانطبق ما تبع هذه القصص - من الشهادة بحقية القرآن، وأن الرسل ليسوا ملائكة ولا معهم ملائكة للتصديق يظهرون للناس، وأنهم لم يسألوا على الإبلاغ أجراً - على سبب ما تبعته هذه القصص، وهو مضمون قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} [هود: 12] الآية من قولهم {لولا ألقي عليه كنز أو جاء معه ملك} [هود: 12] وقولهم: إنه افتراه، على ترتيب ذلك، مع اعتناق هذا الآخر لأول التي تليه، فسبحان من أنزله معجزاً باهراً، وقاضياً بالحق لا يزال ظاهراً، وكيف لا وهو العليم الحكيم - والله سبحانه وتعالى أعلم.(10/261)
سورة الرعد
مقصودها وصف الكتاب بأنه الحق في نفسه، وتارة يتأثر عنه مع أن له صوتا وصيتا وإرعابا وإرهابا يهدي بالفعل، وتارة لا يتأثر بل يكون سببا للضلال والعمى، وأنسب ما فيها لهذا المقصد الرعد فإنه مع كونه حقا في نفسه يسمعه الأعمى والبصير والبارز والمستتر، وتارة يتأثر عنه البرق والمطر وتارة لا، وإذا نزل المطر فتارة ينفع إذا أصاب الأراضي الطيبة وسلمت من عاهة، وتارة يخيب إذا نزل على السباخ الخوارة وتارة يضر لإغراق أو الصواعق أو البرد وغيرها - والله أعلم.(10/262)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
{بسم الله} الحق الذي كل ما عداه باطل {الرحمن} الذي عم بالرغبة والرهبة بعموم رحمته {الرحيم} الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الوهية {المر} .
لما ختم التي قبلها بالدليل على حقية القرآن وأنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون، بعد أن أشار إلى كثرة ما يحسونه من آياته في السماوات(10/262)
والأرض مع الإعراض، ابتدأ هذه بذلك على طريق اللف والنشر المشوش لأنه أفصح للبداءة في نشره بالأقرب فالأقرب فقال: {تلك} أي الأنباء المتلوة والأقاصيص المجلوة المفصلة بدر المعاني وبديع الحكم وثابت القواعد والمباني العالية المراتب {آيات} والآية: الدلالة العجيبة في التأدية إلى المعرفة {الكتاب} المنزل إليك {و} جميع {الذي} .
ولما كان تحقق أن هذا الكتاب من عند الملك أمراً لا يطرقه مريه لما له من الإعجاز، وكذا ما تبعه من بيانه بالسنة لما له من الحق الذي لا يخف على كل عاقل، وكان ما تحقق أنه كذلك يعلم أن الآتي به لا يكون إلا عظيماً، بني للمفعول قوله: {أنزل إليك} كائن {من ربك} فثبت حينئذ قطعاً أنه هو {الحق} أي الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة، الواضح الذي لا يتخلف شيء منه عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره، فهو أبعد شيء عن قولهم: إن وعده بالبعث سحر، فوجب لثبوت حقيته على كل من اتصف بالعقل أن يؤمن به {ولكن أكثر الناس}(10/263)
أي الآنسين بأنفسهم المضطربين في آرائهم، {لا يؤمنون *} أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً بأنه الحق في نفسه وأنه من عند الله، بل يقولون: إنه من عند محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإنه تخييل ليست معاينة - كما قلنا {وما أكثر الناس ولو حرصت بؤمنين} [يوسف: 103] فليس هدى لهم كاملاً ولا رحمة تامة، هذا التقدير محتمل، ولكن الذي يدل عليه ظاهر قوله تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق} [الرعد: 19] أن {الذي} مبتدأ، و {من ربك} صلة {أنزل} والخبر {الحق} والمقصود من هذه السورة هذه الآية، وهي وصف المنزل بأنه الحق وإقامة الدليل عليه، وذلك لأنه لما تم وصف الكتاب بأنه حكيم محكم مفصل مبين، عطف الكلام إلى تفصيل أول سورة البقرة، والإيماء إلى أنه حان اجتناء الثمرة في هذه السورة والتي بعدها، ويلتحم بذلك وصف المصدقين بذلك - كما ستقف عليه.
وقال الإمام أبو جعفر بن زبير رحمه الله في برهانه: هذه السورة تفصيل لمجمل قوله سبحانه في خاتمة سورة يوسف عليه السلام {وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفامنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله(10/264)
أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون * قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}
[يوسف: 105-106-107-108] فبيان آي السماوات في قوله {الله الذي رفع السماوات بغير عند ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} وبيان آي الأرض في قوله: {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} فهذه آي السماوات والأرض، وقد زيدت بياناً في مواضع، ثم في قوله تعالى: {يغشى الّيل النهار} ما يكون من الآيات عنهن، لأن الظلمة عن جرم الأرض، والضياء عن نور الشمس وهي سماوية، ثم زاد تعالى آيات الأرض بياناً وتفصيلاً في قوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات} [الرعد: 4] إلى قوله: {لقوم يعقلون} [الرعد: 4] . ولما كان إخراج الثمر بالماء النازل من السماء من أعظم آية، ودليلاً واضحاً على صحة المعاد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى {كذلك نخرج الموتى} [الأعراف: 57] وكان قد ورد هنا أعظم جهة في الاعتبار من إخراجها مختلفات في الطعوم والألوان والروائح(10/265)
مع اتحاد المادة «يسقى» بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل لذلك ما أعقب قوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات} الآية بقوله {وإن تعجب فعجب قولهم إذا كنا ترابا أئنّا لفي خلق جديد} ثم بين سبحانه الصنف القائل بهذا وأنهم الكافرون أهل الخلود في النار، ثم أعقب ذلك ببيان عظيم حلمه وعفوه فقال {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} [الرعد: 6] الآية، ثم أتبع ذلك بما يشعر بالجري على السوابق في قوله {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} [الرعد: 7] ثم بين عظيم ملكه واطلاعه على دقائق ما أوجده من جليل صنعه واقتداره فقال {الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الأرحام} الآيات إلى قوله: {وما لكم من دونه من وال} ثم خوف عباده وأنذرهم ورغبهم {هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً} [الرعد: 12] ، الآيات وكل ذلك راجع إلى ما أودع سبحانه في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات، وفي ذلك أكثر آي السورة ونبه تعالى على الآية الكبرى والمعجزة العظمى فقال: {ولو أن قراناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} [الرعد: 31] والمراد: لكان هذا القرآن {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82] والتنبيه بعظيم هذه(10/266)
الآيات مناسب لمقتضى السورة من التنبيه بما أودع تعالى من الآيات في السماوات والأرض، وكأنه جل وتعالى لما بين لهم عظيم ما أودع من السماوات والأرض وما بينهما من الآيات وبسط ذلك وأوضحه، أردف ذلك بآية أخرى جامعة للآيات ومتسعة للاعتبارات فقال تعالى
{ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} [الرعد: 31] فهو من نحو {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم} [الجاثية: 3] أي لو فكرتم في آيات السماوات والأرض لأقلتكم وكفتكم في بيان الطريق إليه ولو فكرتم في أنفسكم وما أودع تعالى فيكم من العجائب لاكتفيتم «من عرف نفسه عرف ربه» فمن قبيل هذا الضرب من الاعتبار هو الواقع في سورة الرعد من بسط آيات السماوات والأرض، ثم ذكر القرآن وما يحتمل، فهذه إشارة إلى ما تضمنت هذه السورة الجليلة من بسط الآيات المودعة في الأرضين والسماوات. وأما قوله تعالى {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] فقد أشار إليه قوله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون إنما يتذكر أولوا الألباب} وقوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله لا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28] فالذين تطمئن(10/267)
قلوبهم بذكر الله هم أولو الألباب المتذكرون التامو الإيمان وهم القليل المشار إليهم في قوله تعالى {وقليل ما هم} [ص: 24] والمقول فيهم {أولئك هم المؤمنون حقاً} [الأنفال: 4] ودون هؤلاء طوائف من المؤمنين ليسوا في درجاتهم ولا بلغوا يقينهم، وإليهم الإشارة بقوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106] قال عليه الصلاة والسلام «الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل» فهذا بيان ما أجمل في قوله {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وأما قوله تعالى: {أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله} [يوسف: 107] فما عجل لهم من ذلك في قوله: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله} القاطع دابرهم، والمستأصل لأمرهم، وأما قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة} [يوسف: 108] الآية، فقد أوضحت آي سورة الرعد سبيله عليه السلام بينه بما تحملته من عظيم التنبيه وبسط الدلائل بما في السماوات والأرض وما بينهما وما في العالم بجملته وما تحمله الكتاب المبين - كما تقدم، ثم قد تعرضت السورة لبيان جليّ سالكي تلك السبيل الواضحة المنجية فقال تعالى: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} [الرعد: 20] إلى آخر ما حلاهم به أخذاً وتركاً، ثم عاد الكلام بعد إلى ما فيه من التنبيه(10/268)
والبسط وتقريع الكفار وتوبيخهم وتسليته عليه السلام في أمرهم {إنما أنت منذر ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} [الرعد: 38] ، {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرعد: 40] {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} [الرعد: 43] ، والسورة بجملتها غير حائدة عن تلك الأغراض المجملة في الآيات الأربع المذكورات من آخر سورة يوسف، ومعظم السورة وغالب آيها في التنبيه وبسط الدلالات والتذكير بعظيم ما أودعت من الآيات؛ ولما كان هذا شأنها أعقبت بمفتتح سورة إبراهيم عليه السلام - انتهى.
فلما أثبت سبحانه لهذا الكتاب أنه المختص بكونه حقاً فثبت أنه أعظم الأدلة والآيات، شرع يذكر ما أشار إليه بقوله: {وكأين من آية} من الآيات المحسوسة الظاهرة الدالة على كون آيات الكتاب حقاً بما لها في أنفسها من الثبات، والدلالة بما لفاعلها من القدرة والاختيار - على أنه قادر على كل شيء، وأن ما أخبر به من البعث حق لما له من الحكمة، والدالة - بما للتعبير عنها من الإعجاز - على كونها من عند الله، وبدأ بما بدأ به في تلك من آيات السماوات لشرفها ولأنها أدل، فقال: {الله} أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال(10/269)
وحده {الذي رفع السماوات} بعد إيجادها من عدم - كما أنتم بذلك مقرون؛ والرفع: وضع الشيء في جهة العلو سواء كان بالنقل أو بالاختراع، كائنة {بغير عمد} جمع عماد كأهب وإهاب أو عمود، والعمود: جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل، وأصله منع الميل {ترونها} أي مرئية حاملة لهذه الأجرام العظام التي مثلها لا تحمل في مجاري عاداتكم إلا بعد تناسبها في العظم، هذا على أن {ترونها} صفة، ويجوز - ولعله أحسن - أن يكون على تقدير سؤال من كأنه قال: ما دليل أنها بغير عمد؟ فقيل: المشاهدة التي لا أجلى منها.
ولما كان رفع السماوات بعد خلق الأرض وقبل تسويتها، ذكر أنه شرع في تدبير ما للكونين من المنافع وما فيهما من الأعراض والجواهر، وأشار إلى عظمة ذلك التدبير بأداة التراخي فقال: {ثم استوى على العرش} قال الرازي في لوامع البرهان: وخص العرش لأنه أعلى خلقه وصفوته ومنظره الأعلى وموضع تسبيحه ومظهر ملكه ومبدأ وحيه ومحل قربه، ولم ينسب شيئاً من خلقه كنسبته، فقال(10/270)
تعالى: {ذو العرش} كما قال {ذو الجلال} و «ذو» كلمة لحق واتصال وظهور ومبدأ، وقال الرماني: والاستواء: الاستيلاء بالاقتدار ونفوذ السلطان، وأصله: استوى التدبير، كما أن أصل القيام الانتصاب، ثم يقال: قائم بالتدبير - انتهى. وعبر ب «ثم» لبعد هذه الرتبة عن الأطماع وعلوها عما يستطاع، فليس هناك ترتيب ولا مهلة حتى يفهم أن ما قبل كان على غير ذلك، والمراد أنه أخذ في التدبير لما خلق كما هو شأن الملوك إذا استووا على عروشهم، أي لم يكن لهم مدافع، وإن لم يكن هناك جلوس أصلاً، وذلك لأن روح الملك التدبير وهو أعدل أحواله والله أعلم {وسخر} أي ذلل تذليلاً عظيماً {الشمس} أي التي هي آية النهار {والقمر} أي الذي هو آية الليل لما فيهما من الحكم والمنافع والمصالح التي بها صلاح البلاد والعباد، ودخلت اللام فيهما وكل واحد منهما لا ثاني له لما في الاسم من معنى الصفة، إذا لو وجد مثل لهما لم يتوقف في إطلاق الاسم عليه،(10/271)
ولا كذلك زيد وعمرو. والتسخير: التهيئة لذلك المعنى المسخر له ليكون بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير النار للإنضاج والماء للجريان {كل} أي من الكوكبين {يجري} .
ولما كان السياق للتدبير، علم أن المراد بجريهما لذلك، وهو تنقلهما في المنازل والدرجات التي يتحول بها الفصول، ويتغير النبات وتضبط الأوقات، وكلما كان التدبير أسرع، علم أن صاحبه أعلم ولا سيما إن كان أحكم، فكان الموضع للام لا لإلى، فعلل بقوله: {لأجل} أي لأجل اختصاصه بأجل {مسمى} هذي أجلها سنة، وذاك أجله شهر؛ والأجل: الوقت المضروب لحدوث أمر وانقطاعه.
ولما كان كل من ذلك مشتملاً من الآيات على ما يجل عن الحصر مع كونه في غاية الإحكام، استأنف خبراً هو كالتنبيه على ما فيما مضى من الحكمة، فقال مبيناً للاستواء على العرش بعد أن أشار إلى عظمة هذا الخبر بما في صلة الموصول من الأوصاف العظيمة: {يدبر الأمر} أي في المعاش والمعاد وما ينظمهما بأن يفعل فيه فعل من ينظر في(10/272)
أدباره وعواقبه ليأتي محكماً يجل عن أن يرام بنقض، بل هو بالحقيقة الذي يعلم أدبار الأمور وعواقبها، لا يشغله شأن عن شأن، مع أن هذا العالم - من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى - محتو عل أجناس وأنواع وفصول وأصناف وأشخاص لا يحيط بها سواه، وذلك دال قطعاً على أنه سبحانه في ذاته وصفاته متعال عن مشابهة المحدثات واحد أحد صمد ليس له كفواً أحد.
ولما كان هذا بياناً عظيماً لا لبس فيه، قال {يفصل الآيات} أي التي برز إلى الوجود تدبيرها، الدالة على وحدانيته وكمال حكمته، المشتملة عليها مبدعاته، فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها، تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم، لتعلموا أنها فعل الواحد المختار، لا فعل الطبائع ولا غيرها من الأسباب التي أبدعها، وإلا فكانت على نسق واحد، وجمعها لما تقدم من الإشارة إلى كثرتها بقوله: {وكأين من آية في السماوات والأرض} فكأن هذه الألف واللام لذلك المنكر هناك.(10/273)
ولما كان التدبير وهذا التفصيل دالاًّ على تمام القدرة وغاية الحكمة، وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة، علل بقوله: {لعلكم بلقاء ربكم} أي لتكون حالكم حال من يرجى له بما ينظر من الدلالات الإيقان بلقاء الموجد له المحسن إليه بجميع ما يحتاجه التربية {توقنون *} أي تعلمون ذلك من غير شك استدلالاً بالقدرة على ابتداء الخلق على القدرة على ما جرت العادة بأنه أهون من الابتداء وهو الإعادة، وأنه لا تتم الحكمة إلا بذلك.(10/274)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
ولما انقضى ما أراد من آيات السماوات، ثنى بما فيما ثنى به في آية يوسف من الدلالات فقال: {وهو} أي وحده {الذي مد الأرض} ولو شاء لجعلها كالجدار أو الأزج لا يستطاع القرار عليها، وهذا لا ينافي أن تكون كرية، لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح، كما أن الجبال أوتاد والحيوان يستقر عليها {وجعل فيها} جبالاً مع شهوقها {رواسي} أي ثوابت، واحدها راسية أي ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن(10/274)
أماكنها لا تتحرك، فلا يتحرك ما هي راسية فيه. ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي، صارت الصفة تغني عن الموصوف فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل - قاله أبو حيان، ولما كانت طبيعة الأرض واحدة كان حصول الجبل في جانب منها دون آخر ووجود المعادن المتخالفة فيها تارة جوهرية، وتارة خامية، وتارة نفطية، وتارة كبريتية - إلى غير ذلك، دليلاً على اختصاصه تعالى بتمام القدرة والاختيار لأن الجبل واحد في الطبع كما أن تأثير الشمس واحد، فقال تعالى: {وأنهاراً} أي وجعل فيها خارجة منها، وأكثر ما تكون الأنهار من الجبال، لأنها أجسام صلبة عالية، وفي خلال الأرض أبخرة فتصاعد تلك الأبخرة المتكونة في قعر الأرض، ولا تزال تخرق حتى تصل إليها فتحتبس بها فلا تزال تتكامل حتى يعظم تكاثفها، فإذا بردت صارت ماء فيحصل بسببها مياه كثيرة كما تنعقد الأبخرة البخارية المتكاثفة في أعالي الحمامات إذا بردت وتتقاطر، فإذا تكامل انعقاد تلك المياه وعظمت شقت أسافل(10/275)
الجبال أو غيرها من الأماكن التي تستضعفها لقوتها وقوة الأبخرة المصاحبة لها، فإن كان لتلك المياه مدد من جهة الفواعل والقوابل بحيث كلما نبع منها شيء حدث عقيبه شيء، وهكذا على الاتصال فهي النهر، والنهر: المجرى الواسع من مجاري الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار - لاتساع ضيائه.
ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عن المياه فقال: {ومن كل الثمرات} ويجوز أن يكون متعلقاً بما قبله، ثم يكون كأنه قيل: من ينتفع بهذه الأشياء؟ فقيل: {جعل فيها} أي الأرض {زوجين اثنين} ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوان ينتفع بها، ويجوز أن يكون متعلقاً بما بعده فيكون التقدير: وجعل فيها من كل الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى تنتفع الأنثى بلقاحها من الذكر أو قربه منها فيجود ثمرها؛ والثمرة طعمة الشجرة، والزوج: شكل له قرين من نظير أو نقيض، فكأنه قيل: ما الذي ينضجها؟ فقال: {يغشي اليل النهار} أي والنهار الليل، فينضج هذا بحره ويمسك هذا ببرده، فيعتدل فعلهما على ما قدره تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان للحر والبرد للإخراج والإنضاج إلى غير ذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهر لكل ذي عقل أنها بتدبيره بفعله(10/276)
واختياره وقهره واقتداره.
ولما ساق سبحانه هذه الآيات مفصلة إلى أربع وكان فيها دقة، جمعها وناطها بالفكر فقال: {إن في ذلك} أي الذي وقع التحديث عنه من الآيات متعاطفاً {لآيات} أي دلالات واضحات عجيبات باهرات على أن ذلك كله مستند إلى قدرته واختياره، ونبه على أن المقام يحتاج إلى تعب بتجريد النفس من الهوى وتحكيم العقل صرفاً بقوله: {لقوم} أي ذوي قوة زائدة على القيام فيما يحاولونه {يتفكرون *} أي يجتهدون في الفكر، قال الرماني: وهو تصرف القلب في طلب المعنى، ومبدأ ذلك معنى يُخطره الله تعالى على بال الإنسان فيطلب متعلقاته التي فيها بيان عنه من كل وجه يمكن فيه، والختم بالتفكر إشارة إلى الاهتمام بإعطاء المقام حقه في الرد على الفلاسفة، فإنهم يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية، وهو كلام ساقط لمن تفكر فيما قرره سبحانه في الآية السالفة من إسقاط وروده من أنه سبحانه هو الذي أوجد الأشياء كلها من عدم ثم أخذ في تدبيرها، فاختصاص كل شيء من الأجرام العلوية بطبع وصفة وخاصية إنما هو بتخصيص المدبر(10/277)
الحكيم الفاعل بالاختيار، فصار وجود الحوادث السفلية لو سلم أنه متأثر عن الحوادث العلوية إنما يكون مستنداً إليها باعتبار السببية، والسبب والمسبب مستند إلى الصانع القديم المدبر الحكيم.
ولما كان الدليل - مع وضوحه - فيه بعض غموض، شرع تعالى في شيء من تفصيل ما في الأرض من الآيات التي هي أبين من ذلك دليلاً ظاهراً جداً على إبطال قول الفلاسفة، فقال: {وفي الأرض} أي التي أنتم سكانها، تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك {قطع متجاورات} فهي متحدة البقعة مختلفة الطبع، طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر وعكسها، ومع انتظام الكل في الأرضية {وجنات} جمع جنة، وهي البستان الذي تجنه الأشجار {من أعناب} وكأنه قدمها لأن أصنافها - الشاهدة بأن صانعها إنما هو الفعال لما يريد - لا تكاد تحصر حتى أنه في الأصل الواحد يحصل تنوع الثمرة ولذلك جمعها.
ولما كان تفاوت ما أصله الحب أعجب، قال: {وزرع} أي(10/278)
منفرداً - في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالرفع، وفي خلل الجنات - في قراءة الباقين بالجر.
ولما كان ما جمعه أصل واحد ظاهر أغرب أخر قوله: {ونخيل صنوان} فروع متفرقة على أصل واحد {وغير صنوان} باعتبار افتراق منابتها وأصولها؛ قال أبو حيان: والصنو: الفرع يجمعه وآخر أصل واحد، وأصله المثل، ومنه قيل للعم: صنو وقال الرماني: والصنوان: المتلاصق، يقال: هو ابن أخيه صنو أبيه أي لصيق أبيه في ولادته، وهو جمع صنو، وقيل: الصنوان: النخلات التي أصلها واحد - عن البراء بن عازب وابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم؛ وقال الحسن رضي الله عنه: الصنوان: النخلتان أصلهما واحد - انتهى.
وهو تركيب لا فرق بين مثناه وجمعه إلا بكسر النون من غير تنوين وإعرابها مع التنوين، وسيأتي في يس إن شاء الله تعالى سر تسمية الكرم بالعنب.
ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم، وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الموجد المسبب، لا إلى شيء من الأسباب، قال: {ويسقى} أي أرضها الواحدة كلها(10/279)
{بماء واحد} فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم بعد أن يتصعد الماء فيها علوّاً ضد ما في طبعه من التسفل، ثم يتفرق في كل من الورق والأغصان والثمار بقسطه مما فيه صلاحه {ونفضل} أي بما لنا من العظمة المقتضية للطاعة {بعضها} أي بعض تلك الجنات وبعض أشجارها {على بعض} ولما كان التفضيل على أنحاء مختلفة، بين المراد بقوله: {في الأكل} أي الثمر المأكول، ويخالف في المطعوم مع اتحاد الأرض وبعض الأصول، وخص الأكل لأنه أغلب وجوه الانتفاع، وهو منبه على اختلاف غيره من الليف والسعف واللون للمأكول والطعم والطبع والشكل والرائحة والمنفعة وغيرها مع أن نسبة الطبائع والاتصالات الفلكية إلى جميع الثمار على حد سواء لا سيما إذا رأيت العنقود الواحد جميع حباته حلوة نضيجة كبيرة إلا واحدة فإنها حامضة صغيرة يابسة.
ولما كان المراد في هذا السياق - كما تقدم - تفصيل ما نبه على كثرته بقوله: {وكأين من آية في السماوات والأرض} الآية، قال: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم الذي تقدم {لآيات} بصيغة الجمع فإنها بالنظر إلى تفصيلها بالعطف جمع وإن كانت بالنظر إلى الماء مفردة، وهذا بخلاف(10/280)
ما يأتي في النحل لأن المحدث عنه هناك الماء، وهنا ما ينشأ عنه، فلما اختلف المحدث عنه كان الحديث بحسبه، فالمعنى: دلالات واضحات على أن ذلك كله فعل واحد مختار عليم قادر على ما يريد من ابتداء الخلق ثم تنويعه بعد إبداعه، فهو قادر على إعادته بطريق الأولى.
ولما كانت هذه المفصلة أظهر من تلك المجملة، فكانت من الوضوح بحال لا يحتاج ناظره في الاعتبار به إلى غير العقل، قال: {لقوم} أي ذوي قوة على ما يحاولونه {يعقلون} فإنه لا يمكن التعبير في وجه هذه الدلالة إلا بأن يقال هذه الحوادث السفلية حدثت بغير محدث، فيقال للقائل: وأنت لا عقل لك، لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث ضرورة، فعدم العلم بالضروري يستلزم عدم العقل.(10/281)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
ولما ثبت قطعاً بما أقام من الدليل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه أن هذا إنما هو فعل واحد قهار مختار يوجد المعدوم ويفاوت بين ما تقتضي الطبائع اتحاده، كان إنكار شيء من قدرته عجباً، فقال عطفاً على قوله: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} [هود: 17] مشيراً إلى أنهم يقولون: إن الوعد بالبعث سحر لا حقيقة له {* إن تعجب} أي يوماً من الأيام أو ساعة من الدهر فاعجب من(10/281)
إنكارهم البعث {فعجب} عظيم لا تتناهى درجاته في العظم {قولهم} بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والدلالات الناطقة بعظيم القدرة على كل شيء منكرين: {إذا كنا تراباً} واختلط التراب الذي تحولنا إليه بالتراب الأصلي فصار لا يتميز، ثم كرروا التعجب والإنكار بالاستفهام ثانياً فقالوا: {إنا لفي خلق جديد} هذا قولهم بعد أن فصلنا من الآيات ما يوجب أنهم بلقاء ربهم يوقنون، وهذا الاستفهام الثاني مفسر لما نصب الأول بما فيه من معنى {أنبعث} ، والعجب: تغير النفس بما خفي سببه عن العادة، والجديد: المهيا بالقطع إلى التكوين قبل التصريف في الأعمال، وأصل الصفة القطع؛ قال الرماني: وقد قيل: لا خير فيمن لا يتعجب من العجب، وأرذل منه من يتعجب من غير عجب - انتهى، يعني: فالكفار تعجبوا من غير عجب: ومن تعجبهم فقد تعجب من العجب.
ولما كان هذا إنكار المحسوس من القدرة، استحقوا ما يستحق من يطعن في ملك الملك، فقال: {أولئك} أي الذين جمعوا أنواعاً من البعد مع كل خير {الذين كفروا بربهم} أي غطوا كل ما يجب(10/282)
إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم ثم رباهم بأنواع اللطف، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا مبدأهم {وأولئك} أي البعداء البغضاء {الأغلال} أي الحدائد التي تجمع أيدي الأسرى إلى أعناقهم، ويقال لها: جوامع، وتارة تكون في الأعناق فقط يعذب بها الناس؛ ولما كان طرفا العنق غليظين، فلا تكون إحاطة الجامعة منها إذا كانت ضيقة إلا بالوسط، جعل الأعناق ظروفاً باعتبار أنها على بعض منها، وذلك كناية عن ضيقها، فقال: {في أعناقهم} أي بكفرهم وإن لم تكن الأغلال مشاهدة الآن، فهي لقدرة المهدد بها على الفعل كأنها موجودة، وهم منقادون لما قدر عليهم من أسبابها كما يقاد المغلول بها إلى ما يريد قائده، والغل: طوق تقيد به اليد في العنق، وأصله: انغل في الشيء - إذا انتشب فيه، وغل المال - إذا خان بانتشابه في المال الحرام {وأولئك} أي الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم {أصحاب النار} . ولما كانت الصحبة تقتضي الملازمة، صرح بها فقال: {هم} أي خاصة {فيها} أي متمحضة لا يخلطها نعيم {خالدون *} أي ثابت خلودهم دائماً.
ولما تضمنت هذه الآية إثبات القدرة التامة مع ما سبق(10/283)
من أدلتها المحسوسة المشاهدة، كان أيضاً من العجب العجيب والنبأ الغريب استهزاءهم بها، فقال معجباً منهم: {ويستعجلونك} أي استهزاء وتكذيباً؛ والاستعجال: طلب التعجيل، وهو تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له {بالسيئة} من العذاب المتوعد به من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جرأة منهم تشير إلى أنهم لا يبالون بشيء منه ولا يوهن قولهم شيء {قبل الحسنة} من الخير الذي تبشرهم به {و} الحال أنه {قد خلت} ولما كان المحدث عنه إنما كان في بعض الزمان، أدخل الجار فقال: {من قبلهم المثلات} جمع مثله بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات، سميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة، وهي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله من الأمم الذين اتصلت بهم أخبارهم، وخاطبتهم بعظيم ما اتفق لهم آثارهم وديارهم، وما يؤخرهم الله إلا لاستيفاء آجالهم التي ضربها لهم مع قدرته التامة عليهم.
ولما كانوا ربما قالوا: ما نرى إلا تهديداً لا يتحقق شيء منه: قال مؤكداً لإنكارهم واعتقادهم أن المسار والمضار إنما هي عادة الدهر، عطفاً على ما تقديره: فإن ربك حليم لا يخاف الفوت فلا يستعجل في الأخذ: {وإن ربك} أي المحسن إليك بجعلك نبي الرحمة {لذو مغفرة}(10/284)
أي عظيمة ثابتة {للناس} حال كونهم ظالمين متمكنين في الظلم مستقلين {على ظلمهم} وهو إيقاعهم الأشياء في غير مواضعها، فلا يؤاخذهم بجميع ماكسبوا {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [النحل: 61] فلذلك يقيم الناس دهراً طويلاً يكفرون ولا يعاقبون حلماً منه سبحانه، والآية مقيدة بآية النساء {ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وإن لم يكن توبة، فإن التائب ليس على ظلمه.
ولما كان يمهل سبحانه ولا يهمل وذكر إمهاله، ذكر أخذه مؤكداً لمثل ما مضى فقال: {وإن ربك} أي الموجد لك المدبر لأمرك بغاية الإحسان {لشديد العقاب *} للكفار ولمن شاء من غيرهم، فلذلك يأخذ أخذ عزيز مقتدر إذا جاء الأجل الذي قدره.(10/285)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
ولما بين سبحانه أنهم غطوا آيات ربهم المتفضل عليهم بتلك الآيات وغيرها، عجب منهم عجباً آخر في طلبهم إنزال الآيات مع كونها متساوية الأقدام في الدلالة على الصانع وما له من صفات الكمال، فلما كفروا بما أتاهم كانوا جديرين بالكفر بما يأتيهم فقال: {ويقول} أي على سبيل الاستمرار {الذين كفروا} استهزاء بالقدرة {لولا} أي هلا ولم لا {أنزل} أي بإنزال أيّ كائن كان {عليه آية}(10/285)
جاحدين عناداً لما أتاه من الآيات {من ربه} أي المحسن إليه تصديقاً له.
ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم راغباً في إجابة مقترحاتهم لشدة التفاته إلى أيمانهم، كان كأنه سأل في ذلك لتحصل لهم النجاة، فأجيب بقوله تعالى - مقدماً ما السياق أولى به لأنه لبيان أن الأكثر لا يؤمن -: {إنما أنت منذر} أي نبي منذر هاد لهم تهديهم ببيان ما أنزله عليك مما يوقع في الهلاك أو يوصل إلى النجاة، سائر فيهم على حسب ما أحدّه لك، وأصل الإنذار الإعلام بموضع المخافة ليتقى، لا أنك مثبت للإيمان في الصدور {ولكل قوم} ممن أرسلنا إليهم نبي {هاد *} أي داع يهديهم إلى مراشدهم ومنذر ينذرهم من مغاويهم، أي يبين لهم ما أرسلنا به من النذارة والبشارة، وأعطى كل منذر وهاد آيات تليق به وبقومه على مثلها يؤمن البشر، فيهدي الله من يعلم فيه قابلية الهدى بما نصب من الآيات المشاهدات، فلا يحتاج إلى شيء من المقترحات، ويضل من يعلم فيه دواعي الضلال ولو جاءته كل آية، لأنه الذي جبلهم على طبائع الخير والشر(10/286)
{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [تبارك: 14] فهو كقوله تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [فاطر: 24] وكقوله في هذه السورة {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} والآية من الاحتباك: ذكر المنذر أولاً يدل على حذفه ثانياً، وذكر الهاد ثانياً دال على حذف مثله أولاً.
ولما كان ما مضى مترتباً على العلم والقدرة ولا سيما ختم هذه الآية بهاد، وكان إنكارهم البعث إنكاراً للنشأة الأولى، وكان سبحانه وتعالى يعلم أن إجابتهم إلى ما اقترحوا غير نافع لهم، لأنهم متعنتون لا مسترشدون، شرع سبحانه - بعد الإعراض عن إجابة مقترحاتهم - يقرر من أفعاله المحسوسة لهم المقتضية لاتصافه من العلم والقدرة بما هو كالإعادة سواء إشارة منه تعالى إلى أن إنكار البعث إن كان لاستحالة الإعادة فهي مثل البداءة، وإن كان لاستحالة تمييز التراب الذي كان منه الحيوان - بعد اختلاطه بغيره وتفرق أجزائه - فتمييز الماء الذي يكون منه الولد من الماء الذي لا يصلح لذلك أعجب، لأن الماء أشد اختلاطاً وأخفى امتزاجاً، ومع ذلك فهو يعلمه فقال: {الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة {يعلم} أي علماً قديماً في الأزل بما سيوجد وعلماً يتجدد تعلقه بحسب حدوث الحادثات(10/287)
على الاستمرار {ما تحمل} أي الذي تحمله في رحمها {كل أنثى} أي الماء الذي يصلح لأن يكون حملاً {وما تغيض} أي تنقص {الأرحام} من الماء فتنشفه فيضمحل لعدم صلاحيته لأن يكون منه ولد، وأصل الغيض - كما قال الرماني: ذهاب المائع في العمق الغامض، وفعله متعد لازم {وما تزداد} أي الأرحام من الماء على الماء الذي قدر تعالى كونه حملاً فيكون توأماً فأكثر في جماع آخر بعد حمل الأول كما صرح بإمكان ذلك ابن سينا وغيره من الأطباء، وولدت في زماننا أتان حماراً وبغلاً، وذلك لأن الزيادة ضم شيء إلى المقدار وكثرته شيئاً بعد شيء فيقدر ذلك، ولا يمكن أحداً زيادته ولا نقصانه، وذلك كله يستلزم الحكمة فلذا ختمه بقوله: {وكل شيء} أي من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها {عنده} أي في قدرته وعلمه {بمقدار *} في كيفيته وكميته لا يتجاوزه ولا تقصر عنه، لأنه عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات وهو قادر على ما يريد منها، فالآية بيان لقوله تعالى: {الذين كفروا بربهم} من حيث بين فيها تربيته لهم على الوجه الذي هم له مشاهدون وبه معترفون.
ولما كان هذا عيباً وكان علمه مستلزماً لعلم الشهادة، وكان(10/288)
للتصريح مزية لا تخفى، صرح به على وجه كلي يعم تلك الجزيئات وغيرها فقال: {عالم الغيب} وهو ما غاب عن كل مخلوق {والشهادة} قال الرماني: الغيب: كون الشيء بحيث يخفى عن الحس، والشهادة: كونه بحيث يظهر له.
ولما كان العلم والحكمة لا يتمان إلا بكمال القدرة والعظمة قال: {الكبير} أي الذي يتضاءل عنده كل ما فيه صفات تقتضي الكبر، قال الإمام أبو الحسن الحرالي: والكبر: ظهور التفاوت في ظاهر وباهر القدر الذي لا يحتاج إلى فكر، ولذلك كان فطرة للخلق أن الله أكبر، ولما كان لا ظاهر قدر للخلق لما عليهم من بادي الضروريات والحاجات المعلنة بصغير بالقدر، ومن حاول منهم أن يكبر بسطوة أو تسلط وفساد زاد صغار قدره بما اكتسب في أعين أرباب البصائر في الدنيا، ويبدو ذلك منه لعيون جميع الخلق في الأخرى «يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذي يطؤهم الناس بأقدامهم» فلذلك اختصاص معنى أنه لا كبير إلا الله - انتهى. {المتعال *} أي الذي لا يدنو - من أوج علوه في ذات أو صفة أو فعل - عالٍ، وأخرجه مخرج التفاعل ليكون أدل على المعنى وأبلغ فيه؛ وقال(10/289)
أبو الحسن الحرالي رحمه الله: والتعالي: فوت التناول والمنال بحكم أو حجة، وأشعر التفاعل بما يجري من توهم المحتجين في أمره بأوهام حجج داحضة {حجتهم داحضة عند ربهم} [الشورى: 16] فهو تعالى يأذن في الاحتجاج والجدال ثم يتعالى بما له من الحجة البالغة {قل فلله الحجة البالغة} [الأنعام: 149] فهو المتعالي علماً وحكماً وحجة، وحقيقة المتعالي الذي لا يتعالى إلا هو - انتهى. والحاصل أنه لما وصف نفسه مما تقدم، أشار إلى أن ذلك على ما تحتمله العقول وأن الحق في وصفه الكبر المطلق والتعالي المطلق، لأن العقول لا تحتمل أكثر من ذلك.(10/290)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
ولما كانت العادة قاضية بتفاوت العلم بالنسبة إلى السر والجهر، والقدرة بالنسبة إلى المتحفظ بالحرس وغيره، أتبع ذلك سبحانه بما نفي هذا الاحتمال عنه على وجه الشرح والبيان لاستواء الغيب والشهادة بالنسبة إلى علمه فقال: {سواء منكم} أي في علمه {من أسر القول} أي أخفى معناه في نفسه {ومن جهر به} وفي علمه(10/290)
{و} قدرته {من هو مستخف} أي موجد الخفاء وطالب له أشد طلب {باليل} في أخفى الأوقات فسارب أو كامن فيه، يظن أن ذلك الاستخفاء يغنيه من القدرة {و} من هو {سارب} أي ذاهب على وجهه الأرض ومتوجه جارٍ في توجهه إلى قصده بسرعة {بالنهار *} متجاهر بسروبه فيه، فالآية من الاحتباك: ذكر {مستخف} أولاً دال على ضده ثانياً، وذكر {سارب} ثانياً دال على ضده أو مثله أولاً {له} أي لذلك المستخفي أو السارب - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما {معقبات} أي أعوان وأنصار يتناوبون في أمره بأن يخلف كل واحد منهم صاحبه ويكون بدلاً منه.
ولما كان حفظ جهتي القدام والخلف يستلزم حفظ اليمين والشمال وكان ملأ كل من الجهتين من الحفظة على المخلوق متعذراً، قال آتياً بالجار: {من بين يديه} أي من قدامه {ومن خلفه} واستأنف بيان فائدة المعقبات فقال: {يحفظونه} أي في زعمه من كل شيء يخشاه {من أمر الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة.(10/291)
ولما دل هذا على غاية القدرة، وجرت عادة المتمكنين من ملوك الأرض بالتعدي على جيرانهم واستلاب ممالكهم والعسف في شأنهم، زيادة في المكنة وتوسعاً في الملك، ولا سيما إذا كان ذلك الجار ظاناً مع ضعفه وعجزه أن يحفظه مانه من أخذه، أخبر تعالى من كأنه سأل عن ذلك أنه غير هذا لغناه عنه، فقال: {إن الله} أي الذي له الإحاطة والكمال كله {لا يغير ما بقوم} أي خيراً كان أوشراً {حتى يغيروا ما} أي الذي {بأنفسهم} مما كانوا يزينونها به من التحلي بالأعمال الصالحة والتخلي من أخلاق المفسدين، فإذا غيروا ذلك غير ما بهم إذا أراد وإن كانوا في غاية القوة.
ولما كان ملوك الدنيا لا يتمكنون غالباً من جميع مراداتهم لكثرة المعارضين من الأمثال الصالحين للملك، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره: فإذا غيروا ما بأنفسهم أنزل بهم السوء: {وإذا أراد الله} أي الذي له صفات الكمال {بقوم} أي وإن كانوا في غاية القوة {سوءاً فلا مرد له} من أحد سواه، وقد تقدم لهذه الآية في الأنفال مزيد بيان.(10/292)
ولما كان كل أحد دونه في الرتبة لا إمكان له أن يقوم مقامه بوجه، قال: {وما لهم} وبين سفول الرتب كلها عن رتبته فقال: {من دون} وأعرق في النفي فقال: {من} ولما كان السياق ظاهراً في أنه لا منفذ لهم مما أراده، أتى بصيغة فاعل منقوص إشارة إلى نفي أدنى وجوه الولاية فكيف بما فوقها فقال: {وال *} أي من ملجأ يعيذهم، بأن الفعل معهم من الإنجاء والنصرة ما يفعل القريب مع وليه الأقرب إليه، ثم أخبر تعالى بأمر هو أدلة ما قبله جامع للعلم والقدرة وهو ألطف من ذلك كله، معلم بجليل القدرة في أنه إذا أراد سوءاً فلا مرد له، ودقيق الحكمة لأنه مظهر واحد ترجى منه النعمة وتخشى منه النقمة فقال: {هو} أي وحده {الذي يريكم} أي على سبيل التجديد دائماً {البرق} وهو لمع كعمود النار {خوفاً} أي لأجل إرادة الخوف من قدرته على جعله صواعق مهلكة، والخوف: انزعاج النفس بتوهم وقوع الضر.
ولما لم يكن لهم السبب في إنزال المطر، لم يعبر بالرجاء وقال:(10/293)
{وطمعاً} أي ولأجل إرادة طمعكم في رحمته بأن يكون غيثاً نافعاً، ولا بد من هذا التقدير ليكونا فعل فاعل الفعل المعلل، ويجوز أن يكون المعنى: يريكم ذلك إخافة وإطماعاً فتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، فتكون الآية من الاحتباك: فعل الإراءة دال على الإخافة والإطماع، والخوف والطمع دالان على «تخافون وتطمعون» ويجوز أن يكونا حالين من ضمير المخاطبين أي ذوي خوف وطمع {وينشىء} والإنشاء: فعل الشيء من غير سبب مولد {السحاب} وهو غيم ينسحب في السماء، وهو اسم جنس جمعي، واحده سحابه {الثقال *} بأنهار الماء محمولة في الهواء على متن الريح؛ والثقل: الاعتماد على جهة الثقل بكثافة الأجزاء {ويسبح الرعد} أي ينزه عن صفات النقص تنزيهاً ملتبساً {بحمده} أي بوصفه بصفات الكمال، ويروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الرعد ملك وإن لم يصح أنه ملك فتسبيحه دلالته على أن موجده سبحانه منزه عن النقص محيط بأوصاف الكمال {والملائكة} أي تسبح {من خيفته} قال الرماني:(10/294)
والخيفة مضمنة بالحال، كقولك: هذه ركبة، أي حال من الركوب حسنة، وكذلك هذه خيفة شديدة، والخوف مصدر غير مضمن بالحال. {ويرسل الصواعق} المحرقة من تلك السحائب المشحونة بالمياه المغرقة؛ والصاعقة - قال الرازي: نار لطيفة تسقط من السماء بحال هائلة. {فيصيب بها} أي الصواعق {من يشاء} كما أصاب بها أربد بن ربيعة {وهم} أي والحال أنهم مع ذلك الذي تقدم من إحاطة علمه وكمال قدرته {يجادلون} والجدال: فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج {في الله} أي الملك الأعظم بما يؤدي إلى الشك في قدرته وعلمه. ولما كان لا يغني من قصده بالعذاب شيء قال: {وهو شديد المحال *} لأن المحال - ككتاب: الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعاداة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك، يأتي أعداءه بما يريد من إنزال العذاب بهم من حيث لا يحتسبون، وكلها صالح هنا حقيقة أو مجازاً، وقال الرماني: والمحال: الأخذ بالعقاب من قولهم: ما حلت فلاناً - إذا فتلته إلى هلكه - انتهى.(10/295)
ومادة «محل» بجميع تقاليبها تدور على صرف الشيء عن وجهه وعادته وما تقتضيه جبلته، وذلك يستلزم القدرة والقوة والشدة، فالحامل يمسك المحمول بقوته عن أن يهوي إلى جهة السفل، والحملة: الكرة في الحرب، ويلزم الحمل المشقة، ومنه تحمل الشيء وحمل عنه أي حلم فهو حمول: ذو حلم، والحميل - كأمير: الدعي والغريب - كأنهما محمولان لحاجتهما إلى ذلك، والكفيل، لأنه حامل لكل مكفول واحتمل لونه - للمفعول: غضب وامتقع - كأن الغضب صرفه عما كان من عادته، والمحمل - كمحسن: المرأة ينزل لبنها من غير حبل، لأن ذلك شيء على غير وجهه، والحمل - محركة: الخروف - لسهولة حمله، والحليم: من يحبس غيظه بقوة حلمه - أي عقله - عن أن يستخفه الغضب، والحلم - بالكسر: الأناة والعقل، والحلم - بالضم وبضمتين: الرؤيا، لأنها صرف النفس عما هي عليه، وهو من شأنها من الغفلة، ومنه الحلم - بالضم - والاحتلام للجماع في النوم، والاسم الحلم - كعنق، وذلك يكون غالباً عند فراغ البال عن الهموم، وإليه يرجع حلم المال -(10/296)
بالضم: سمن، والصبي وغيره: أقبل شحمه، أو هو من الحلمة - محركة: اللحمة الناتئة وسط الثدي كالثؤلول - لصرفها لون الثدي وهيئته عما كان عليه، وشجر السعدان - لأنه مرعى جيد يسمن، والصغيرة من القردان أو الضخمة - لشبهها بحلمة الثدي ودود يقع في الجلد قبل الدبغ فيأكله، لأن ذلك يغيره عن هيئته، والحالوم: ضرب من الأقط، لأنه لحراقته يغير اللسان، ودم حلام: هدر، لأنه خرج عما عليه عادة الدماء؛ والملح يصرف المملوح عن الفساد، وأما الماء الملح فمشبه به الطعم، وكذا الملح - محركاً - للون كالبياض يخالطه سواد، والملحاء: شجرة سقط ورقها، شبهت بأرض الملح في عدم الإنبات. ولما عرف الملح بالصلاح شبه به العلم فسمي ملحاً، وكذا الرضاع والحسن والشحم والسمن والحرمة والذمام وخفقان الطائر بجناحيه يصلح بذلك طيرانه ويتملح به استرواحاً إليه، وملح الشاة: سمطها، والملاح - ككتاب: الريح تجري بها السفينة، وهي أيضاً تصرفها عما يقتضيه حالها من عدم السير، ومعالجة حياء الناقة منه، وملحه على ركبته - أي لا وفاء له،(10/297)
لأن الملح لا يثبت هناك، أو هو سمين أو حديد في غضبه، بمعنى أنه لا صلاح له، وملحه: اغتابه، شبه بمن يتطعم الملح ليعدل مزاجه، وكذا الملاح - ككتاب، وهو هبوب الجنوب عقب الشمال، وكذا الملاحي - كفرابي وقد يشدد، وهو عنب أبيض طويل، ونوع من التين، ومن الأراك ما فيه بياض وحمرة، والملح - بضم الميم وفتح اللام من الأحاديث، وامتلح: خلط كذباً بحق، والملح - محركة: ورم في عرقوب الفرس، صرفه عن هيئته المعتادة، والملاح ككتاب: سنان الرمح، لتهيئته له بعد الوقوف للنفوذ، والسترة، لصرفها البصر عن النفوذ إلى ما وراءها، وبرد الأرض حين ينزل الغيث، لأنه يصرف حالها التي كانت عليها إلى أخرى، والملحة - بالضم: المهابة، لصرفها المجترىء عن قصده ولأن سببها صرف النفس عن هواها، والملحاء: الكثيبة العظيمة، ومنه البركة، لمنعها الماشي عن حاله في المشي، ومنه الملحة - بالفتح - للجة البحر، وملحان: الكانون الثاني لصرفه بقوة برده الزمان عما كان عليه والناس عما كانوا عليه، والملحاء: لحم في الصلب من الكاهل إلى العجز، لمنعه من رؤية عظام الصلب ورؤوس الأضلاع؛ والمحل صرف ما في الزمان عن عادته(10/298)
بعدم المطر والإنبات ورفاهة العيش، وكذا المحل للكيد والمكر والغبار والشدة والمحال، لما تقدم من تفسيره، ومنه ماحله: قاواه، والمتماحل: الطويل المضطرب الخلق، لخروجه عن العادة، وتمحل له: احتال، والممحل - كمعظم - من اللبن: الآخذ طعم حموضة، والمحالة: البكرة العظيمة - لصرفها بفتلها الشيء عن وجهه، والفقرة من فقر البعير - لمشابهتها والخشبة التي يستقر عليها الطيانون - لحملها إياهم ومنعها لهم من السقوط، والمحل - ككتف: من طرد حتى أعيا، لأنه صرف عما كان من عادته، ورأيته متماحلاً: متغير اللون؛ واللمح: صرف البصر عما كان عليه، ولمح البرق: لمع بعد كمونه؛ واللحم من لحمة الثوب - بالضم، كأنه سد ما حصل بالهزال من فرج، ومنه: لحم كل شيء: لبه؛ ولحم الأمر - كمنع: أحكمه، والصائغ الفضة: لأمها، وكذا كل صدع، ولحم - كعلم: نشب في المكان، كأنه وقع فيما يشبه اللحم فالتصق به فأدخله وشغله، وهذا لحيم هذا، أي وفقه وشكله - وهو يرجع إلى لحمة الثوب، واستلحم الطريق: تبعه(10/299)
أو تبع أوسعه - كأنه جعل نفسه مثل لحمة السدى، واستلحم الطريق: اتسع، كأنه طلب ما يلحمه أي يسده، وحبل ملاحم - بفتح الحاء: شديد الفتل، لأنه سدت فرجه كما تسد اللحمة فرج الثوب، ونبي الملحمة - من القتال، لأنه ضرب اللحم بالسيف، ومن التأليف كما يكون عن لحمة الثوب، لأن غاية قتاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم خير وألفة، والتحم الجرح للبرء: التأم - من ذلك ومن اللحم أيضاً لأنه به التأم - والله أعلم.
ولما بين تعالى تصديقاً لقوله {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [يوسف: 105] ما له من الآيات التابعة لصفات الكمال التي منها التنزه عما لا يليق بالجلال وأنه شديد المحال، شرع يبين ضلالهم في اشتراكهم المشار إليه في قوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} بما هو علة لختم ما قبلها من أنه لا كفؤ له،(10/300)
فقال: {له} أي الله سبحانه {دعوة الحق} إن دعاه أحد سمعه فأجابه - إن شاء - بما يشاء، وإن دعا هو أحداً دعوة أمر، بين الصواب بما يكشف الارتياب، أو دعوة حكم لبى صاغراً وأجاب {والذين يدعون} أي يدعو الكافرون، وبين سفول رتبتهم بقوله: {من دونه} أي الله {لا يستجيبون} أي لا يوجدون الإجابة {لهم} أي الكافرين {بشيء} والاستجابة: متابعة الداعي فيما دعا إليه بموافقة إرادته {إلا كباسط} أي إلا إجابة كإجابة الماء لباسط {كفيه} تثنيه كف، وهو موضع القبض باليد، وأصله من كفه - إذا جمع أطرافه {إلى الماء ليبلغ} أي الماء {فاه} دون أن يصل كفاه إلى الماء- بما يدل عليه التعدية ب «إلى» ، فما الماء بمجيب دعاءه في بلوغ فيه {وما هو} أي الماء {ببالغه} أي فيه، فللكافرين بذلك دعوة الباطل كما أن الماء جماد لا يحس بدعوة هذا فلا يجيبه، فأصنامهم كذلك.
ولما كان دعاؤهم منحصراً في الباطل، قال في موضع «وما دعاؤهم» مظهراً تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: {وما دعاء الكافرين}(10/301)
أي الساترين لما دلت عليه أنوار عقولهم بمعبوداتهم أو غيرها {إلا في ضلال *} لأنه لا يجد لهم نفعاً، أما معبوداتهم فلا تضر ولا تنفع، وأما الله فلا يجيبهم لتضييعهم الأساس.(10/302)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
ولما كانت دعوة الأمر واضحة السبل جلية المناهج في جميع كتبه، وكلها إلى الناظرين وبين دعوة الحكم بقوله: {ولله} أي الملك الأعلى {يسجد} أي يخضع وينقاد ويتذلل كما بين عند قوله {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود: 119] {من في السماوات والأرض} لجميع أحكامه النافذة وأقضيته الجارية {طوعاً} والطوع: الانقياد للأمر الذي يدعى إليه من قبل النفس {وكرهاً} قال الرازي رحمه الله: والكافر في حكم الساجد وإن أباه لما به من الحاجة الداعية إلى الخضوع، واعلم أن سجود كل صنف هو تذلله وتسخره وانقياده لما أريد له، فكل موجود جماد وحيوان عاقل وغير عاقل وروحاني وغير روحاني مسخر لأمر من له الخلق والأمر؛ وقال الشيخ محيي الدين النووي رضي الله عنه في شرح المهذب: أصله - أي السجود - الخضوع والتذلل، وكل من تذلل وخضع فقد سجد، وسجود كل موات في القرآن طاعته لما سخر له - هذا أصله في اللغة، ثم قيل لمن وضع جبهته في الأرض: سجد، لأنه غاية الخضوع.(10/302)
ولما كانت الظلال مسخرة لما أراد سبحانه، لا قدرة لأحد على تغيير ذلك بوجه، قال: {وضلالهم} أي أيضاً تسجد له بامتدادها على الأرض، تقصر تارة بارتفاع الشمس وتطول أخرى بانحطاطها، لا يقدرون على منع ظلالهم من ذلك حيث يكون لهم ظلال، وذلك {بالغدو} جمع غداة، وهي البكرة: أول النهار {والآصال *} جمع أصيل، دائماً في جميع البلاد، وفي وسط النهار في بعض البلاد؛ والظل: ستر الشخص ما بإزائه، والفيء: الذي يرجع بعد ذهاب ضوئه، والأصيل: العشيّ ما بين العصر إلى المغرب - كأنه أصل الليل الذي ينشأ منه.
ومادة «صلا» - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بتراكيبها الأحد عشر، وهي: صلو، صول، لصو، لوص، وصل، صلي، صيل، لصي، ليص، أصل، صأل - تدور على الوصالة، فالصلاة وصلة بين العبد وربه سواء كانت دعاء أو استغفاراً أو رحمة أو حسن الثناء من الله(10/303)
على رسوله، أو ذات الأركان، وصلوات اليهود لمتعبداتهم من ذلك في الأصل، والصلا: وسط الظهر منا، أو من كل ذي أربع، أو ما انحدر من الوركين، أو الفرجة بين الجاعرة والذنب - يجوز أن يكون من ذلك، لأنه يقرب من غيره من الأعضاء إذا انثنى الحيوان، ويجوز أن يكون شبه بالعود المعوج الذي يقوم بإصلائه النار، وأصلت الناقة وصليت - إذا استرخى صلواها لقرب نتاجها، والمصلّي من خيل الحلبة: الذي يجيء على إثر السابق، فإنه يواصله، وصلى الحمار أتنه: طردها وقحمها الطريق - فكأنه بذلك قومها بعد أن كانت معوجة، أو أراد مواصلتها؛ صال الرجل صولة - إذا سطا واستطال، لأن ذلك مواصلة على وجه القهر والغلبة، وكذا صال الفحل على الإبل - إذا قاتلها، والعير - إذا حمل على العانة فشلها، وصال على كذا: وثب، وصاوله: واثبه، والتصويل: إخراجك الشيء بالماء، لأن ذلك سبب الخلوص، وإذا خلص الشيء تواصلت أجزاؤه، لأن ذلك(10/304)
المخرج كان حائلاً بينها، والتصويل - أيضاً: كنس نواحي البيدر، لأنه سبب لتواصل ما كان متفرقاً، ومن ذلك المصول - كمنبر: شيء ينقع فيه الحنظل لتذهب مرارته، وبهاء: المكنسة، والصيلة - بالكسر: عقدة العذبة - لتواصل محل العقد بعضه ببعض وبه يتماسك اتصال بعض العمامة ببعض، والجراد يصول في مشواه، من التصويل، أي يساط، بمعنى يخلط بالتقليب فيتواصل منه ما كان متفرقاً، وصال يصيل - لغة في يصول، وصيل له - كذا بالكسر: قيض وأتيح، لأنه صار مقارناً له، ولصوت الرجل عبته وقذفته - لأنك وصلت به العيب، وفلان لا يلصو إلى ريبة، أي لا ينضمُّ إليها ولا ينضاف؛ واللوص: اللمح من خلل باب ونحوه كالملاوصة - كأنه وصلة بالنظر من موضع غير معهود، أو لأنه سبب الوصلة إلى ما يراد، ولاوص: نظر كأنه يختل ليروم أمراً، والشجرة: أراد أن يقطعها بالفأس،(10/305)
فلاوص في نظره يمنة ويسرة كيف يأتيها وكيف يضربها - لأن حاصل ذلك المواصلة على وجه الشدة كما تقدم في صال عليه، وتلوص: تلوى وتقلب، ومنه أليص - أي أرعش، وألاصه على الشيء: أداره عليه وأراده منه - كأنه طلب منه مواصلته، واللواص - كسحاب: الفالوذ كالملوص كمعظم، والعسل الصافي - لأنه أهل للمواصلة، ولوص: أكل، واللوص: وجع الأذن والنحر، واللوصة؛ وجع الظهر - كأنه لشدته لا مواصل للبدن سواه، ولاص: حاد - أي سلب الوصلة؛ والوصلة - التي هي مدار المادة وكأنها الحقيقة التي تشعبت منها فروعها - هي الضم وهي التئام الشيء بالشيء، وكل ما اتصل بشيء فالذي بينهما وصلة، وضدها الفرقة، والوصل: ضد القطع، والأوصال المفاصل ومجتمع العظام، لأنها موضع اتصال العظم بالآخر، والوصلان - بالكسر والضم: طبقاً الظهر، ويقال: هما العجز والفخذ، والوصيلة: الشاة تلد ذكراً ثم تلد أنثى، فتصل أخاها، وفيها خلاف كثير كله يدور على الوصلة، ووصل الشيء بالشيء:(10/306)
لأمه، ووصل الشيء وإلى الشي: بلغه وانتهى إليه، وأوصله واتصل: لم ينقطع، ووصله وواصله - كلاهما يكون في عفاف الحب ودعارته، والوصائل جمع وصيلة - لثياب حمر مخططة يمنية يتخذها الناس دروعاً يشق من جانبيها، كأنه لأنها توصل بغيرها أو يقطع بعضها ثم يوصل بها لتصير دروعاً، والوصيلة: العمارة والخصب والرفقة والسيف - لأن ذلك أهل لأن يوصل، والوصيلة: كبة الغزل لشدة التباس بعضها ببعض، والأرض الواسعة - لأن اتصالها لم يحل بينه جبال، وليلة الوصل: آخر ليالي الشهر، لأنها تصل بين الشهرين، وحرف الوصل: الذي بعد الروي - لأنه وصل حركة حرف الروي، ووصيلك: من يدخل ويخرج معك، وتَصِلُ: بئر ببلاد هذيل، واتصل الرجل - إذا انتسب، لأنه وصل نفسه بمن انتسب إليهم، والموصول: دابة كالدبر تلسع الناس، كأنه من السلب؛ وصليت اللحم: شويته - لأنك وصلته بالنار، وصليته: ألقيته في النار للإحراق، والصلاء - ككساء:(10/307)
الشواء أو النار كالصلى فيهما، وكأن منه: صلّىعصاه على النار، أي أحماها ليقومها - لأن كلاًّ منهما وصله بالنار للإصلاح، وأصليته النار: أدخلته إياها وأثويته فيها، وصلى يده بالنار: سخنها - لأنه وصلها بها، وصلي النار - كرضي: قاسى حرها، وصليت فلاناً: درايته وخاتلته وخدعته - كل ذلك لإرادة مواصلته لأمر، والصلاية - ويهمز: الجبهة، لكثرة مباشرتها الأرض في الصلاة، ومدق الطيب - لمواصلة الدق، وصليت للصيد تصلية - إذا نصبت له شركاً ليقع فيه فتصل إليه، ومنه الحديث «إن للشيطان مصالي وفخوخاً» جمع مصلاة وفخ، والصليان - بكسر ثم تشديد - قال في مختصر العين: نبت معروف، وقال القزاز: وهو شجر له جعثن ضخم، ربما جرد وسطه ونبت ما حوله، وهو من أفضل المراعي وهو خبز الإبل، وقيل: إن الخيل تأكله ولونه أصهب - انتهى.
فسمي بذلك لكثرة مواصلة الإبل له؛ ولصيت الرجل(10/308)
كرميت ورضيت - إذا عبته وقذفته بالفجور، وقال القزاز: وقيل: هو أن يضيفه إلى ربية، ولصي إليه: انضم إليه لريبة؛ ولاص يليص: حاد، ولصته أليصه وألصته - إذا أزعجته أو حركته لتنتزعه - كأنه من السلب، وألصته عن كذا - إذا راودته عنه، يمكن أن يكون سلباً وأن يكون إيجاباً؛ والأصل: أسفل كل شيء - لأن جميع الأشياء واصله إليه، وأصل - ككرم: صار ذا أصل أو ثبت أو رسخ كتأصل، والرأي: جاد - كل ذلك تشبيه بالأصل، والأصيل: من له أصل، والعاقب الثابت الرأي، وقد أصل - ككرم، والأصيل: العشيّ - لأنه وصلة ما بين النهار والليل، أو الليل، أو لأنه لما آذن بتصرم النهار كان كأنه اجتثه من أصله، ومنه الأصيل - للهلاك والموت كالأصيلة فيهما، ولقيتهم مؤصلاً أي بالأصيل، وأخذه بأصلته - محركاً، وأصيلته أي كله بأصله، وأصيلتك: جميع مالك أو نخلتك، والأصل - ككتف:(10/309)
المستأصل، وأصله علماً: قتله - كأنه أدام مواصلته حتى أتقنه، والأصلة - محركة: حية قصيرة تساورالإنسان - قاله في مختصر العين، وفي القاموس: حية صغيرة أو عظيمة تهلك بنفخها، فإن نظرت إلى المساورة فهو من المواصلة - كما تقدم في صال عليه، وإن نظرت إلى الهلاك فهو من الاستئصال، وأصل الماء - كفرح: أسن من حمأة، واللحم: تغير، يجوز أن يكون من الوصلة أي لشدة مواصلة الحمأة للماء والهواء للحم، وأن يكون من الأصيل أي الهلاك بجملته وأصله، وأن يكون من سلب المواصلة؛ وصؤل البعير - ككرم صآلة: واثب الناس أو صار يقتل الناس ويعدو عليهم، وصئيل الفرس: صهيله - لمواصلة نغماته، وهذا وقد مضى عند قوله تعالى في سورة هود عليه السلام {صلواتك تأمرك} إشارة إلى هذا - والله سبحانه وتعالى أعلم.(10/310)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
فلما تبين قطعاً أنه سبحانه المدبر للسماوات والأرض القاهر لمن(10/310)
فيهما، وتبين قطعاً أنه المختص بربوبيتهما فأمره تعالى أن يوجه السؤال نحوهم عن ذلك - ردّاً على عبدة الأصنام وغيرهم من الملحدين - بقوله: {قل} أي بعد أن أقمت هذه الأدلة القاطعة، مقرراً لهم {من رب} أي موجد ومدبر {السماوات والأرض} أي وكل ما فيهما.
ولما مضى في غير آية أنهم معترفون بربوبيته مقرون بخلقه ورزقه ثم لم يزعهم ذلك عن الإشراك، جعلوا هنا كأنهم منكرون لذلك عناداً، فلم ينتظر جوابهم بل أمره أن يجيبهم بما يجيبون به، إشارة إلى أنهم لا يتحاشون من التناقض في اتباع الهوى ولا تصونهم عقولهم الجليلة وآراؤهم الأصلية - بزعمهم - عن التساقط في مهاوي الردى، فقال: {قل الله} أي الذي له الأمر كله، فثبت حينئذ أن لا ولي إلا هو، فتسبب عن ذلك توجه الإنكار عليهم في اعتماد غيره، فأمره بالإنكار في قوله: {قل أفاتخذتم} أي فتسببتم عن انفراده بربوبيتكم أن أوجدتم الأخذ بغاية الرغبة، فتسببتم الإشراك عما يجب أن يكون سبب التوحيد، وبين سفول رتبتهم(10/311)
بقوله: {من دونه أولياء} لا يساوونكم في التسبب في الضر والنفع، بل {لا يملكون لأنفسهم} فكيف بغيرهم {نفعاً} ونكره ليعم، وقدمه لأن السياق لطلبهم منهم، والإنسان إنما يطلب ما ينفعه.
ولما كان من المعلوم أنه لا قدرة لأحد على أن يؤثر في آخره أثراً لا يقدر على مثله في نفسه قال: {ولا ضرّاً} فثبت أن من سواهم بالله أضل الضالين، لأنه يلزمه أن يسوي بين المتضادات، فكان معنى قوله: {قل هل يستوي} والاستواء: استمرار الشيء في جهة واحده {الأعمى} في عينه أو في قلبه {والبصير *} كذلك {أم هل تستوي} بوجه من الوجوه {الظلمات والنور *} : هل أدتهم عقولهم إلى أن سووا بين هذه المتضادات الشديدة الظهور لغباوة أو عناد حتى سووا من يخلق بمن لا يخلق، فجعلوا له شريكاً كذلك لغباوة أو عناد {أم جعلوا لله} أي الذي له مجامع العظمة(10/312)
{شركاء} ثم بين ما يمكن أن يكون به الشركة، فقال واصفاً لهم: {خلقوا كخلقه} وسبب عن ذلك قوله: {فتشابه} والتشابه: التشاكل بما يلتبس حتى لا يفصل فيه بين أحد الشيئين والآخر {الخلق عليهم} فكان ذلك الخلق الذي خلقه الشركاء سبب عروض شبهة لهم، وساق ذلك في أسلوب الغيبة إعلاماً بأنهم أهل للإعراض عنهم، لكونهم في عداد البهائم لقولهم ما لا يعقل بوجه من الوجوه، وهذا قريب مما يأتي قريباً في قوله: {أم بظاهر من القول} [الرعد: 33] . أي بشبهة يكون فيها نوع ظهور لبعض الأذهان.
ولما كان من المعلوم قطعاً أن جوابهم أن الخلق كله لله.
ولم يمنعهم ذلك من تأله سواه، أمره أن يجيبهم معرضاً عن جوابهم فقال {قل الله} أي الملك الأعلى {خالق كل شيء} إشارة إلى أنهم في أحوالهم كالمنكر لذلك عناداً أو خرقاً لسياج الحياء وهتكاً لجلباب الصيانة، وإذ قد ثبت أنه المنفرد بالخلق وجب أن يفرد بالتأله فقال: {وهو الواحد} الذي لا يجانسه شيء، وكل ما(10/313)
سواه لا يخلو عن مجانس يماثله، وأين رتبة من يماثل من رتبة من لا مثل له {القهار *} الذي كل شيء تحت قهره بأنفسهم وظلالهم، وهو القادر بما لا يمكن أن يغلبه غالب وهو لكل شيء غالب، وهذا إشارة - كما مضى في مثله غير مرة في سورة يوسف وغيرها - إلى برهان التمانع، فإن أربابهم متعددون، فلو كانت لهم حياة وكانوا متصرفين في الملك لأمكن بينهم تمانع وكان كل منهم معرضاً لأن يكون مقهوراً، فكيف وهم جماد! فثبت قطعاً أنه لا شيء منهم يصلح للإلهية على تقدير من التقادير؛ قال الرماني: والواحد على وجهين: شيء لا ينقسم أصلاً، وشيء لا ينقسم في معنى كالدنيا.(10/314)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
ولما كان حمل الماء في العلو لا يمكن إلا عن قهر، وإنزاله في وقت دون غيره كذلك، أتبع هذا الختم قوله دليلاً مشاهداً عليه: {أنزل} ولما كان الإنزال قد يتجوز به عن إيجاد ما يعظم إيجاده، حقق أمره بقوله: {من السماء} ولما كان المنزل منها أنواعاً شتى قال: {ماء فسالت} أي فتسبب عن إنزاله لكثرته(10/314)
أن سالت {أودية} أي مياهها منها الكبير والصغير؛ والوادي: سفح الجبل العظيم الذي يقابله جبل أو تل فيجتمع فيه المطر، فيجري في فضائه، ومنه أخذت الدية - لجمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتل {بقدرها} والقدر: اتزان الشيء بغيره من غير زيادة ولا نقصان، فالمعنى أن المياه ملأت الأودية مع ما ذلك من الدلالة على التفرد بالربوبية مما هو مثال للحق والباطل، وهو قوله: {فاحتمل} والاحتمال: رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له {السيل} وهو ماء المطر الجاري من الوادي بعظم {زبداً رابياً} أي عالياً بانتفاخه: والزبد: الرغوة التي تعلو الماء، ومدار المادة على الخفة، ويلزمها العلو، ومنه زبد البحر والبعير - للرغوة الخارجة من شدقه، والغضبان، وزبدت المرأة القطن - إذا نفشته، والزباد - كرمان: ضرب من النبت تنفرش أفنانه، وشاة مزبدة أي سمينة، ومنه الزباد - للطيب المعروف وهو وسخ يشبه الرغوة يجتمع تحت ذنب نوع من السنانير،(10/315)
ومنه الزبد - بضم وسكون - لخالص اللبن فإنه أخفه، يقال منه: زبدت فلاناً أزبده - إذا أطعمته الزبد، ثم اتسع فيه حتى قيل لمطلق العطية، ومنه: «نهى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن زبد المشركين» ؛ ومنه الزدب - بكسر ثم سكون، وهو النصيب، ويمكن أن يكون من زبد اللبن الزبادُ للنبت، فإنه مرعى ناجع، كأنه شبه به أو لأنه سببه، وكذا شاة مزبدة أي سمينة ويلزم الخفة الإسراع، يقال: تزبد اليمين - إذا أسرع إليها، أو إنها شبهت بالزبد في سهولة التقامه.
ولما الزبد أحسن مثل لمعبوداتهم، وكان لا يختص بالماء الذي هو مائع بطبعه بجمع الأوضار والأقذار بجريه، ذكر معه ما يشبهه في النفع من الجوامد الصلبة التي تزبد عند الإذابة مع كونها في حال الجمود في غاية الصفاء والخلوص عن الشوائب على ما يظهر، فقال: {ومما يوقدون} أي إيقاداً مستعلياً {عليه} أي للإذابة {في النار} من المعادن {ابتغاء حلية} تتحلون بها من الأساور والحلق ونحوها {أو} ابتغاء {متاع} تتمتعون به من الدراهم والدنانير والسيوف(10/316)
والأواني ونحوها، وأصل المتاع: التمتع الحاضر، فهذا تقسيم حاصر لأنواع الفلز المنوه إليها مع إظهار التهاون به وإن تنافس الناس فيه كما هو شأن الملوك يظهرون المجد والفخار بالاستهانة بما يتنافس الناس فيه {زبد مثله} أي مثل زبد الماء يكشط عن وجهه أو يعلق بأطراف الإناء فيذهب ويبقى ذلك الجوهر خالصاً كالحق إذا زالت عنه الشكوك وانزاحت الشبه.
ولما كان هذا في غاية الحسن والانطباق على المقصود، كان سامعه جديراً بأن يهتز فيقول: هذا مما لا يقدر على سوقه هكذا إلا الله تعالى، فيا له من مثل! فأجيب قوله: {كذلك} أي مثل هذا الضرب، العلي الرتب، الغريب العجب، المتين السبب {يضرب الله} أي الذي له الأمر كله {الحق والباطل} أي مثلهما؛ وضرب المثل: تسييره في البلاد يتمثل به الناس.
ولما نبه بهذا الفصل على علو رتبه هذا المثل، شرع في شرحه، فقال مبتدئاً بما هو الأهم في هذا المقام، وهو إبطال الباطل الذي أضلهم،(10/317)
وهو في تقسيمه على طريق النشر المشوش، فقال: {فأما الزبد} أي الذي هو مثل للباطل المطلق {فيذهب} متعلقاً بالاشجار وجوانب الأودية لأنه يطفو بخفته ويعلق بالأشياء الكثيفة بكثافته {جفاء} قال أبو حيان: أي مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له؛ وقال ابن الأنباري: متفرقاً، من جفأت الريح الغيم - إذا قطعته، وجفأت الرجل: صرعته - انتهى. فهذا مثل الباطل من الشكوك والشبه وما أثاره أهل العناد، لا بقاء له وإن جال جولة - يمتحن الله بها عباده ليظهر الثابت من المزلزل - ثم ينمحق سريعاً؛ وقال الرماني: والجفاء: بنوّ مكان الشيء به حتى يهلك {وأما ما ينفع الناس} من الماء والفلز الذي هو مثل الحق {فيمكث في الأرض} ينتفع الناس بالماء الذي به حياة كل شيء، والفلز الذي به التمام، فالماء والمعدن مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب وبقاء الشرع كما أن الماء يحيى الأراضي الميتة، والمعادن تحيي موات العيش وتنظم المعاملات المقتضية لاختلاط(10/318)
بعض الناس ببعض وائتلافهم بالحاجة، والأودية والأواني مثل القلوب يثبت منه فيها ما تحتمله على قدر سعة القلب وضيقه بحسب الطهارة وقوة الفاهمة.
ولما انقضى هذا المثل على هذا البيان الذي يعجز دونه الثقلان، لأنه أحسن شيء معنى بأوجر عبارة وأوضح دلالة، كان كأنه قيل: هل يبين كل شيء هذا البيان؟ فقيل: نعم، {كذلك} أي مثل ذلك الضرب {يضرب الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {الأمثال} فيجعلها في غاية الوضوح وإن كانت في غاية الغموض.
ومادة «جفا» - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بكل ترتيب، وهي جفأ جأف فجأ، جفي جيف فيج، جفو جوف فوج، فجو وجف - تدور على الطرح: جفأ الوادي والقدر: رميا بالجفاء أي الزبد وجفأ القدر والوادي: مسح غثاءه أي فطرحه - وجفأه: صرعه، والبرمة في القصعة: كفاها - أي طرح ما فيها - والباب: أغلقه وفتحه - ضد، لأنه في كليهما كالمرمي به، والبقل: قلعه من أصله،(10/319)
والجفاء - كعزاب: الباطل، لأنه أهل للقذف به والطرح، والسفينة الخالية، لأنا بمعرض قذف الماء لها.
وأجفا ماشيته: أتعبها بالسير ولم يعلفها أي سيرها سيراً كأنها يقذف بها، وجفأ به: طرحه، وجفات البلادُ: ذهب خيرها، فكانت طرحته أو صارت هي أهلاً لأن تطرح وتبعد، والعام جفأةُ إبلنا، وهو أن ينتج أكثرُها، لأنها طرحت أجنّتها.
ومن يائيه: جفيته أجفيه: صرعته، والجفاية - بالضم: السفينة الفارغة، والمجفي: المجفو.
ومن واويه: جفا الشيء يجفو - إذا لم يلزم مكانه، كأنه فصل من مكانه فطرح به، والجفاء والجفوة: ترك الصلة، واجتفيته: أزلته عن مكانه، وجفا عليه كذا: ثقل، فصار أهلاً لطرحه والانفصال منه، ورجل جافي الخلقة والخلق: كز غليظ، لأن الشيء إذا غلظ لم يلتصق التصاق اللطيف، وأجفى الماشية: أتبعها ولم يدعها تأكل،(10/320)
وفيه جفوة أي هو جاف، فإن كان مجفواً قيل: به جفوة.
ومن مقلوبه مهموزاً: جافة: صرعه وذعره أي قذف في قلبه رعباً: والشجرة: قلعها من أصلها، والجآف - كشداد: الصيّاح، كأنه يقذف بصوته، ورجل مجأف: لا ثبات له - كأنه يقذف به من مكانه، والمجؤوف: الجائع والمذعور، كأنه من الجوف، وإنما همزت واوه الأولى لانضمامها مع أنه يمكن تنزيله على أنه قذف فيه ذلك.
ومن يائيه: الجيفة: جثة الميت وقد أراح، والجيّاف - كشداد: النباش، وجافت تجيف: أنتنت فصارت متهيئة للطرح والتغييب، وجيّفه: ضربه، لما رآه أهلاً للبعد، وجيّف فلان في كذا وجُيّف أي فَزَّع وأفزع أي طرح في قلبه رعب، فصار لا تسعه أرض، بل يقذف بنفسه من مكان إلى آخر.
ومن واويه: الجوف: المطمئن من الأرض، لأنه يسع(10/321)
ما يطرح فيه ويمسكه، ومهما طرح من الجبال من شيء استقر به، والجوف منك: بطنك، لافتقاره إلى طرح الغذاء فيه، وأهل الأغوار يسمون فساطيط عمالهم الأجواف - لطرح أنفسهم وأمتعتهم فيها - وجوف الليل: وسطه - تشبيه بالجوف، والأجوفان: البطن والفرج، والجوف - محركة السعة، والجوفاء من الدلاء: الواسعة، ومن القنا والشجر: الفارغة، والجائفة: جراحة تبلغ الجوف، وتلعه جائفة: قعيرة - لأنها لقعرها بالجوف أشبه منها بالجبل، وجوائف النفس: ما تقعر من الجوف في مقارّ الروح، والمجوف - كمعظم: من لا قلب له - كأن قلبه طرح من جوفه فصار خالياً. والجُوفان - بالضم: أير الحمار - لسعة جوفه، وأجفت الباب: رددته - كأنه من السلب، لأنك سددت جوف البيت، أو أنه شبه الإغلاق بطرح الباب.
ومن مقلوبه مهموزاً: فجئه الأمر - كسمعه ومنعه: هجم عليه من غير أن يشعر، كأنه قذف به إليه، وفجئت الناقة - كفرح: عظم(10/322)
بطنها، كأنه قذف فيه بشيء، وفجأ - كمنع: جامع، لأنه طرحها وطرح نفسه عليها، والمفاجىء: الأسد، لأنه يخرج بغتة فيثب من غير توقف.
ومن مقلوبه واوياً: الفجوة: المتسع من الأرض والفرجة - لتهيئها لما يطرح فيها، والفجوة - أيضاً: ساحة الدار وما بين حوافي الحوافر، أي ميامنها ومياسرها، وفجا قوسه: رفع وترها عن كبدها فهي فجواء، وفجا بابه: فتحه، فصار كالجوف، والفجا: تباعد ما بين الركبتين أو الفخذين أو الساقين أو عرقوبي البعير؛ فجي - كرضي فهو أفجى، وعظم بطن الناقة، والفعل كالفعل، والتفجية: الكشف، لأنك طرحت الغطاء، والتفجية - أيضاً: التنحية، وهي واضحة في الطرح، وأفجى: وسّع النفقة على عياله - كأنه يقذف بها قذفاً.
ومن مقلوبه يائياً: أفاج الرجل - إذا أسرع، ومنه الفيج - لرسول السلطان على رجليه - كأنه لسرعته يطرح به في الأرض - هذا(10/323)
هو الصحيح الذي صححه صاحب العباب، لأنه معرب بيك، وقيل: إنه واوي، أصله: فيوج، ثم قيل: فيج - ككيس، ثم خفف، وجمعه الفيوج، وقيل: الفيوج: الذين يدخلون السجن ويخرجون ويحرسون، وأفاج في الأرض: ذهب، والقوم: ذهبوا وانتشروا - كأنه قذف بهم، والفيج: الوهد المطمئن من الأرض، لأنه موضع لطرح ما في الأعالي.
ومن مقلوبه واوياً: الفوج: الجماعة، كأنهم اقتطعوا من الجمهور فقذف بهم، وفاج المسك: فاح وسطع، أي انتشرت رائحته، والنهار: برد، إما بمعنى طرح برده على ما فيه، وإما لإحواجه الحيوان إلى أن يطرح عليه ما يدفئه، وأفاج: أسرع وعدا وأرسل الإبل على الحوض قطعة قطعة، والفاتج: البساط الواسع من الأرض، لتهيئه لما يطرح فيه، من تسمية المحل باسم الحال، وأفاج في عدوه: أبطأ. فهو للسلب، وفاجت الناقة برجيلها: نفحت بهما من خلفها، والفائجة: متسع ما بين كل مرتفعين، كأنه محل طرح ما ينزل منهما.
ومن مقلوبه: وجف يجف وجيفاً: اضطرب، والوجف ضرب من سير الإبل والخيل، وجف يجف وأوجفته واستوجف الحب فؤاده: ذهب به، كأنه طرحه منه.(10/324)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
ولما تم ما للحق والباطل في أنفسهم من الثبات والاضطراب، ذكر ما لأهلهما من الثواب والعقاب جواباً لمن كأنه قال: ما لمن تدبر هذه الأمثال، وأبعد عما أشارت إليه من الضلال، أو حاد عما دعت إليه ومال؟ فأجيب بقوله: {للذين استجابوا} أي طلبوا من أنفسهم الإجابة وأوجدوها {لربهم} أي المحسن إليهم شكراً له، الحالة {الحسنى} أي العظيمة في الحسن، وهي القرار في الجنة فهو جزاءهم؛ قال أبو حيان: وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمه تعالى ودخول الجنة في الآخرة - انتهى. وقد تقدم في سورة يونس عليه الصلاة والسلام أنهم يزادون ما لا يعلم قدره إلا الذي فعلوا ذلك خوف عقابه ورجاء ثوابه.
ولما ذكر ما للطائعين، أتبعه جزاء العاصين، فقال مبتدئاً: {والذين لم يستجيبوا} أي يرغبوا في إيجاد الإجابة {له} وأخبر عن هذا الابتداء قوله معلماً بأن استعجالهم بالعذاب باستعجالهم بالسيئة قبل الحسنة جراءة منهم ناشئة عن جهل صرف تزول عند رؤيتهم عذابه سبحانه، فيبلغون حينئذ بالافتداء غاية الذل فلا يقبل منهم -: {لو أن لهم}(10/325)
أي في ملكهم وتحت قدرتهم {ما في الأرض} وأكد بقوله: {جميعاً ومثله} وأوضح بقوله: {معه لافتدوا به} أي جعلوا فكاك أنفسهم بغاية جهدهم، وأكده لادعاء الكفرة أنهم لا يذلون لشيء ولا يوهن قواهم شيء، والافتداء: جعل أحد الشيئين بدلاً من الآخر على جهة الاتقاء به، فكأنه قيل: ما الذي دهاهم حتى كان هذا حالهم؟ فقيل - دلالة على أنه لا يقبل منهم الفداء ولو عظم -: {أولئك} أي البعداء البغضاء {لهم سوء الحساب *} والحساب: إحصاء ما على العبد وله، وسوء المؤاخذة، وعدم العفو عن شيء {ومأواهم} أي مستقرهم {جهنم} أي الطبقة التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة. ولما كان المأوى إنما يأوى إليه صاحبه للراحة فيه بالاتكاء على فرش ونحوه، قال معبراً بمجمع المذام: {وبئس المهاد *} .
ولما افترق حال ما أجاب ومن أعرض في الجزاء، وكان ما مضى مستوفياً طرق البيان بإيضاح الأمر بالجزيئات والأمثلة مع الترغيب والترهيب. فكان جديراً بترتيب الأثر عليه، تسبب عنه الإنكار على(10/326)
من سوى بين العالم العامل وغيره التفاتاً إلى قوله {هل يستوي الأعمى والبصير} وسوى بين الحق والباطل التفاتاً إلى قوله {كذلك يضرب الله الحق والباطل} فحسن قوله: {أفمن} بفاء السبب {يعلم} علماً نافعاً هو عامل به {إنما} أي الذي {أنزل} أي وجد إنزاله وفرغ منه {إليك من ربك} أي المحسن إليك بأحسن التدبير {الحق} أي الكامل في الحقية، فهو نير العين للبصر والقلب للاستبصار والاعتبار، يهتدي بما يعلم إلى طريق الرشد فيسلكها، وإلى طريق الغي فيتركها، ويفهم الأشارات، وينتفع بالأمثال السائرات، كما يبصر بالبصر طريق النجاة من طريق الهلاك {كمن هو أعمى} لا بصر له ولا بصيرة، لأنه لا يعمل وإن كان عالماً، فهو لا ينتفع بالأمثال، فكأنه قيل: لا يستويان مثلاً أصلاً، ثم علل هذا الإنكار بقوله: {إنما} أي لأنه إنما يعلم ذلك بالتذكر، وإنما {يتذكر} أي يطلب الذكر طلباً عظيماً فيعمل {أولوا} أي أصحاب {الألباب *} أي العقول الصافية الخالصة القابلة للتذكر بالتفكر في أن ما أنزل من عند الله ثابت الأركان راسي القواعد، لا قدر لأحد على إزالة معنى من معانيه ولا هدم شيء من مبانيه(10/327)
وأن ما عداه هلهل النسج رث القوى، مخلخل الأركان، دارس الرسم، منطمس الأعلام، مجهول المسالك، مظلم الأرجاء، جم المهالك، وأما القلب الذي لا يرجع عن غيه لمثل هذا البيان فكأنه غير قابل للذكرى، فاستحق أن يعد عدماً، وأن يخص التذكر بالقلب، ومن المعلوم أنه لا يستوي من له لب ومن لا لب له؛ واللب والقلب: أجل ما في الشيء وأخلصه وأجوده.(10/328)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
ولما منح سبحانه من فيهم أهلية التذكر بالعقول الدالة على توحيده والانقياد لأوامره، كان كأنه عهد في ذلك، فقال يصف المتذكرين بما يدل قطعاً على أنه لا لب لسواهم: {الذين يوفون} أي يوجدون الوفاء لكل شيء {بعهد الله} أي بسبب العقد المؤكد من الملك الأعلى بأوامره ونواهيه، فيفعلون كلاًّ منهما كما رسمه لهم ولا يوقعون شيئاً منهما مكان الآخر؛ والعهد: العقد المتقدم على الأمر بما يفعل أو يجتنب، والإيفاء: جعل الشيء على مقدار غيره من غير زيادة ولا نقصان.(10/328)
ولما كان الدليل العقلي محتماً للثبات عليه كما أن الميثاق اللفظي موجب للوفاء به، قال تعالى: {ولا ينقضون الميثاق *} أي الإيثاق ولا الوثاق ولا مكانه ولا زمانه؛ والنقض: حل العقد بفعل ما ينافيه ولا يمكن أن يصح معه، والميثاق: العقد المحكم وهو الأوامر والنواهي المؤكدة بحكم العقل.
ولما كان أمر الله جارياً على منهاج العقل وإن كان قاصراً عنه لا يمكن نيله له من غير مرشد، قال: {والذين يصلون} أي من كل شيء على سبيل الاستمرار {ما أمر الله} أي الذي له الأمر كله؛ وقال: {به أن يوصل} دون «يوصله» ليكون مأموراً بوصله مرتين، ويفيد تجديد الوصل كلما قطعه قاطع على الاستمرار لما تظافر على ذلك من دليلي العقل والنقل؛ والوصل: ضم الثاني إلى الأول من غير فرج.
ولما كان الدليل يرشد إلى أن الله تعالى مرجو مرهوب قال: {ويخشون ربهم} أي المحسن إليهم، من أن ينتقم منهم إن خالفوا بقطع الإحسان. ولما كان العقل دالاً بعد تنبيه الرسل على القدرة على المعاد بالقدرة على المبدأ، وكان الخوف منه أعظم الخوف، قال تعالى: {ويخافون} أي يوجدون الخوف إيجاداً مستمراً(10/329)
{سوء الحساب *} وهو المناقشة فيه من غير عفو، ومن أول السورة إلى هنا تفصيل لقوله تعالى أول البقرة {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 1] مع نظره إلى قوله آخر يوسف {ما كان حديثاً يفترى} [يوسف: 111] .
ولما كان الوفاء بالعهد في غاية الشدة على النفس، قال مشيراً إلى ذلك مع شموله لغيره: {والذين صبروا} أي على طاعات الله وعن معاصيه وفي كل ما ينبغي الصبر فيه، والصبر: الحبس، وهو تجرع مرارة المنع للنفس عما تحب مما لا يجوز فعله {ابتغاء} أي طلب {وجه ربهم} أي المحسن إليهم، وكأنه ذكر الوجه إثارة للحياء وحثاً عليه لا ليقال: ما أجلده! ولا لأنه يعاب بالجزع، ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ولا خوف الشماتة.
ولما كانت أفراد الشيء قد تتفاوت في الشرف، خص بالذكر أشياء مما دخل في العهد والميثاق تشريفاً لها فقال: {وأقاموا الصلاة} لأنها في الوصلة بالله كالميثاق في الوصلة بالموثق له، وقال -: {وأنفقوا} وخفف عنهم بالبعض فقال: {مما رزقناهم} - لأن الإنفاق من أعظم سبب يوصل إلى المقاصد، فهذا إنفاق من المال، وتلك إنفاق من القوى، وقال: {سراً وعلانية} إشارة إلى الحث على استواء الحالتين تنبيهاً على الإخلاص، ويجوز أن يكون المراد بالسر ما ينبغي فيه الإسرار(10/330)
كالنوافل، وبالعلانية ما يندب إلى إظهاره كالواجب إلا أن يمنع مانع، وهذا تفصيل قوله تعالى
{ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3] {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] وقال: {ويدرؤون} أي يدفعون بقوة وفطنة {بالحسنة} أي من القول أو الفعل {السيئة} إشارة إلى ترك المجازاة أو يتبعونها إياها فتمحوها، خوفاً ورجاء وحثاً على جميع الأفعال الصالحة، فهي نتيجة أعمال البر ودرجة المقربين.
ولما ختم تلك بما يدل على ما بعد الموت ترهيباً، ختم هذه بمثل ذلك ترغيباً فقال: {أولئك} أي العالو الرتبة {لهم عقبى الدار *} وبينها بقوله: {جنات عدن} أي إقامة طويلة - ومنه المعدن وهي أعلى الجنان؛ ثم استأنف بيان تمكنهم فيها فقال: {يدخلونها} .
ولما كانت الدار لا تطيب بدون الحبيب، قال عاطفاً على الضمير المرفوع إشارة إلى أن النسب الخالي غير نافع: {ومن صلح} والصلاح: استقامة الحال على ما يدعو إليه العقل والشرع {من آبائهم} أي الذين كانوا سبباً في إيجادهم {وأزواجهم وذرياتهم} أي الذين تسببوا عنهم؛ ثم زاد في الترغيب بقوله سبحانه وتعالى: {والملائكة يدخلون عليهم} لأن الإكثار من ترداد رسل الملك أعظم في الفخر وأكثر في السرور والعز.(10/331)
ولما كان إتيانهم من الأماكن المعتادة مع القدرة على غيرها أدل على الأدب والإكرام، قال: {من كل باب *} يقولون لهم: {سلام عليكم} والسلام: التحية بالكرامة على انتفاء كل شائب من مضرة، وبين أن سبب هذا السلام الصبر فقال: {بما صبرتم} أي بصبركم، والذي صبرتم له، والذي صبرتم عليه، إشارة إلى أن الصبر عماد الدين كله. ولما تم ذلك. تسبب عنه قوله: {فنعم عقبى الدار *} وهي المسكن في قرار، المهيأ بالأبنية التي يحتاج إليها والمرافق التي ينتفع بها؛ والعقبى: الانتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر.(10/332)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
ولما ذكر ما للناجين، ذكر مآل الهالكين فقال: {والذين ينقضون عهد الله} أي الملك الأعلى فيعملون بخلاف موجبه؛ والنقض: التفريق الذي ينفي تأليف البناء. ولما كان النقض ضاراً ولو كان في أيسر جزء، أدخل الجار فقال: {من بعد ميثاقه} أي الذي أوثقه عليهم بما أعطاهم من العقول وأودعها من القوة على ترتيب المقدمات المنتجة للمقاصد الصالحة الدالة على صحة جميع ما أخبرت به رسله عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام؛ والميثاق: إحكام العقد بأبلغ ما يكون في مثله {ويقطعون ما} أي الشيء الذي {أمر الله} أي غير ناظرين إلى ما له من العظمة والجلال، وعدل عن أن(10/332)
يوصله لما تقدم قريباً فقال: {به أن يوصل} أي لما له من المحاسن الجلية والخفية التي هي عين الصلاح {ويفسدون} أي يوقعون الإفساد {في الأرض} أي في أيِّ جزء كان منهم بوصل ما أمر الله به أن يقطع اتباعاً لأهوائهم، معرضين عن أدلة عقولهم، مستهينين بانتقام الكبير المتعال. ولما كانوا كذلك، استحقوا ضد ما تقدم للمتقين، وذلك هو الطرد والعقاب والغضب والنكال وشؤم اللقاء، فقال سبحانه وتعالى: {أولئك} أي البعداء البغضاء {لهم اللعنة} أي الطرد والبعد {ولهم سوء الدار *} أي أن يكون دارهم الآخرة سيئة بلحاق ما يسوء فيها دون ما يسر.
ولما تقدم الحث العظيم على الإنفاق، وأشير إلى أنه من أوثق الأسباب في الوصلة لجميع أوامر الله، وختم بأن للكافر البعد والطرد عن كل خير والسوء، كان موضع أن يقول الكفار: ما لنا يوسع علينا مع بعدنا ويضيق على المؤمن مع وصله واتصاله، وما له لا يبسط له رزقه ليتمكن من إنفاذ ما أمر به إن كان ذلك حقاً؟ فقيل: {الله} أي الذي له الكمال كله {يبسط الرزق} ودل على تمام(10/333)
قدرته سبحانه وتعالى بقوله - جلت قدرته -: {لمن يشاء} فيطيع في رزقه أو يعصي {ويقدر} على من يشاء فيجعل رزقه بقدر ضرورته فيصبر أو يجزع لِحكَم دقت عن الأفكار، ثم يجعل ما للكافر سبباً في خذلانه، وفقر المؤمن موجباً لعلو شأنه، فليس الغنى مما يمدح به، ولا الفقر مما يذم به، وإنما يمدح ويذم بالآثار.
ولما كانت السعة مظنة الفرح إلا عند من أخلصه الله وهم أقل من القليل، قال عائباً لمن اطمأن إليها: {وفرحوا} أي فبسط لهؤلاء الرزق فبطروا وكفروا وفرحوا {بالحياة الدنيا} أي بكمالها؛ والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى. ولما كانت الدنيا متلاشية في جنب الدار التي ختم بها للمتقين، قال زيادة في الترغيب والترهيب: {وما الحياة الدنيا في الآخرة} أي في جنبها {إلا متاع *} أي حقير متلاش؛ قال الرماني: والمتاع: ما يقع به الانتفاع في العاجل، وأصله: التمتع وهو التلذذ بالأمر الحاضر.
ولما كان العقل أعظم الأدلة، وتقدم أنه مقصور على المتذكرين، إشارة إلى أن من عداهم بقر سارحة، وعرف أن ما دعا إليه الشرع(10/334)
هو الصلاح، وضده هو الفساد، وكان العقل إنما هو لمعرفة الصلاح فيتبع، والفساد فيجتنب، وكان الطالب لإنزال آية إلى غير ذلك لا سيما بعد آيات متكاثرة ودلالات ظاهرة موضعاً لأن يعجب منه، قال على سبيل التعجب عطفاً على قوله {وفرحوا} مظهراً لما من شأنه الإضمار تنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم التعنت: {ويقول الذين كفروا} أي ستروا ما دعتهم إليه عقولهم من الخير وما لله من الآيات عناداً {لولا} أي هلا ولم لا.
ولما كان ما تحقق أنه من عند الملك لا يحتاج إلى السؤال عن الآتي به، بني للمفعول قوله: {أنزل عليه} أي هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {آية} أي علامة بينة {من ربه} أي المحسن إليه بالإجابة لما يسأله لنهتدي بها فنؤمن به، وأمره بالجواب عن ذلك بقوله: {قل} أي لهؤلاء المعاندين: ما أشد عنادكم حيث قلتم هذا القول الذي تضمن إنكاركم لأن يكون نزل إلي آية مع أنه لم يؤت أحد من الآيات مثل ما أوتيت، فعلم قطعاً أنه ليس إنزال الآيات سبباً للايمان بل أمره إلى الله {إن الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {يضل من يشاء} إضلاله ممن لم ينب، بل أعرض عن دلالة العقل ونقض ما أحكمه(10/335)
من ميثاق المقدمات المنتجة للقطع بحقية ما دعت إليه الرسل لما جبل عليه قلبه من الغلظة، فصار بحيث لا يؤمن ولو نزلت عليه كل آية، لأنها كلها متساوية الأقدام في الدعوة إلى ما دعا إليه العقل لمن له عقل، وقد نزل قبل هذا آيات متكاثرة دالات أعظم دلالة على المراد {ويهدي} عند دعاء الداعين {إليه} أي طاعته. بمجرد دليل العقل من غير طلب آية {من أناب} أي من كان قلبه ميالاً مع الأدلة رجاعاً إليها لأنه شاء إنابته كأبي بكر الصديق وغيره ممن تبعه من العشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم، ثم أبدل منهم {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف {وتطمئن قلوبهم} أي تسكن وتستأنس إلى الدليل بعد الاضطراب بالشكوك لإيجادهم الطمأنينة بعد صفة الإيمان إيجاداً مستمراً دالاً على ثبات إيمانهم لترك العناد، وهذا المضارع في هذا التركيب مما لا يراد به حال ولا استقبال، إنما يراد به الاستمرار على المعنى مع قطع النظر عن الأزمنة {بذكر الله} الذي هو أعظم الآيات في أن المذكور مستجمع لصفات الكمال، فالآية من الاحتباك: ذكر المشيئة أولاً دال على حذفها ثانياً، وذكر الإنابة ثانياً دال على حذف ضدها أولاً.
ولما كان ذلك موضع أن يقول المعاند: ومن يطمئن بذلك؟ فقال: {ألا بذكر الله} أي الذي له الجلال والإكرام،(10/336)
لا بذكر غيره {تطمئن القلوب *} فتسكن عن طلب غيره آية غيره، والذكر: حضور المعنى للنفس، وذلك إشارة إلى أن من لم يطمئن به فليس له قلب فضلاً عن أن يكون في قلبه عقل، بل هو من الجمادات، أو إلى أن كل قلب يطمئن به، فمن أخبر عن قلبه بخلاف ذلك فهو كاذب معاند، ومن أذعن وعمل بموجب الطمأنينة فهو مؤمن، ثم أخبر عما لهذا القسم بقوله: {الذين آمنوا} أي أوجدوا وصف الإيمان {وعملوا} أي تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} لطمأنينة قلوبهم إلى الذكر {طوبى لهم} أي خير وطيب وسرور وقرة عين {وحسن مآب *} فكان ذلك مفهماً لحال القسم الآخر، فكأنه قيل: ومن لم يطمئن أو اطمأن قلبه ولم يذعن بؤسي لهم وسوء مآب.(10/337)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
ولما كان في ذلك فطم عن إنزال المقترحات، وكان إعراض المقترحين قد طال، وطال البلاء بهم والصبر على أذاهم، كان موضع أن يقال من كافر أو مسلم عيل صبره: أولست مرسلاً يستجاب لك كما كان يستجاب للرسل؟ فقيل: {كذلك} أي مثل إرسال الرسل الذي قدمنا الإشارة إليه في آخر سورة يوسف عليه الصلاة والسلام في قولنا {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم} [الأنبياء: 7](10/337)
الآية، وفي هذه السورة في قولنا {ولكل قوم هاد} ومثل هذا الإرسال البديع الأمر البعيد الشأن، والذي دربناك عليه غير مرة من أن المرجع إلى الله والكل بيده، فلا قدرة لغيره على هدى ولا ضلال، لا بإنزال الآية ولا غيره {أرسلناك} أي بما لنا من العظمة {في أمة} وهي جماعة كثيرة من الحيوان ترجع إلى معنى خاص لها دون غيرها {قد خلت} .
ولما كانت الرسل لمن تعم بالفعل الزمان كله، قال: {من قبلها أمم} طال أذاهم لأنبيائهم ومن آمن بهم واستهزاءهم في عدم الإجابة إلى المقترحات وقول كل أمة لنبيها عناداً بعد ما جاءهم من الآيات {لولا أنزل عليه آية} حتى كأنهم تواصوا بهذا القول حتى فعل الرسل وأتباعهم في إقبالهم على الدعاء وإعراضهم عمن يستهزىء بهم - فعل الآئس من الإنزال {لتتلوا} أي أرسلناك فيهم لتتلو {عليهم} أي تقرأ؛ والتلاوة: جعل الثاني يلي الأول بلا فصل {الذي أوحينا إليك} من(10/338)
ذكر الله الذي هو أعظم الآيات {وهم} أي والحال أنهم {يكفرون} لا تمل تلاوته عليهم في تلك الحال فإن لنا في هذا حكماً وإن خفيت، وما أرسلناك ومن قبلك من الرسل إلا لتلاوة ما يوحى، لا لطلب الإجابة إلى ما يقترح الأمم من الآيات ظناً أنها تكون سبباً لإيمان أحد، نحن أعلم بهم، وهذا كله تسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: {بالرحمن} إشارة إلى كثرة حلمه وطول أناته، وتصوير لتقبيح حالهم في مقابلتهم الإحسان بالإساءة والنعمة بالكفر بأوضح صورة وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم من الكفران. ولما تضمن كفرهم بالرحمن كفرهم بالقرآن ومن أنزل عليه، وكان الكفر بالمنعم في غاية القباحة، كان كأنه قيل: فماذا أفعل حينئذ أنا ومن اتبعني؟ لا نتمنى إجابتهم إلى مقترحاتهم إلا رجاء إيمانهم، وكان جوابهم عن الكفر بالموحى أهم، بدأ به فقال: {قل} عند ذلك إيماناً به {هو} أي الرحمن الذي كفرتم به {ربي} المربي لي بالإيجاد وإدرار النعم، والمحسن إليّ لا غيره، لا أكفر إحسانه كما كفرتموه أنتم، بل أقول: إنه {لا إله إلا هو} أنا به واثق في التربية والنصرة وغيرها.(10/339)
ولما كان تفرده بالإلهية علة لقصر الهمم عليه، قال: {عليه} أي وحده لا شريك له {توكلت} والتوكل: التوثيق في تدبير النفس برده إلى الله على الرضى بما يفعل {وإليه} أي لا إلى غيره {متاب *} أي مرجعي، معنى بالتوبة وحساً بالمعاد، وهذا تعريض بهم في أن سبب كفرتم إنكار يوم الدين.
ولما فرغ من الجواب عن الكفر بالموحى، عطف على «هو ربي» الجواب عن الكفر بالوحي فقال: {ولو} إشارة إلى أنه يعتقد في القرآن ما هو أهله بعد ما أخبر عن اعتقاده في الرحمن، أي وقل: لو {أن قرآناً} كانت به الآيات المحسوسات بأن {سيرت} أي بأدنى إشارة من مشير ما {به الجبال} أي فأذهبت على ثقلها وصلابتها عن وجه الأرض {أو قطعت} أي كذلك {به الأرض} أي على كثافتها فشققت فتفجرت منها الأنهار {أو كلم به الموتى} فسمعت وأجابت لكان هذا القرآن، لأنه آية لا مثل لها، فكيف يطلبون آية غيره! أو يقال: إن التقدير: لو كان شيء من ذلك بقرآن غيره لكان به - إقراراً لأعينكم - إجابة إلى ما تريدون، لكنه لم تجر عادة لقرآن قبله بأن يكون به ذلك، فلم يكن بهذا القرآن،(10/340)
لأن الله لم يرد ذلك لحكمه علمها، وليس لأحد غير الله أمر في خرق شيء من العادات، لا لولي ولا لنبي ولا غيرهما حتى يفعل لأجلكم بشفاعة أو بغيرها شيئاً لم يرده الله في الأزل {بل} ويجوز أن يكون التقدير: لو وجد شيء من هذا بقرآن يوماً ما لكان بهذا القرآن، فكان حينئذ يصير كل من حفظ منه شيئاً فعل ما شاء من ذلك، فسير له ما شاء من الجبال إلى ما أراد من الأراضي لما رام من الأغراض، وقطع به ما طلب من الأرض أنهاراً وجناناً وغيرها، وكلم به من اشتهى من الموتى، ثم إذا فتح هذا الباب فلا فرق بين القدرة على هذا والقدرة على غيره، فيصير من حفظ منه شيئاً قادراً على شيء، فبطلت حينئذ حكمة اختصاص الله سبحانه بذلك من أراد من خلص عباده، وأدى ذلك إلى أن يدعي من أراد من الفجرة أن أمر ذلك بيده، يفعل فيه ما يشاء متى شاء، فيصير ادعاءه مقروناً بالفعل شبهة في الشرك، وليعلم قطعاً أنه ليس في يد أحد أمر، بل {الله} أي الذي له صفات الكمال وحده {الأمر} وهو ما يصح أن يؤمر فيه وينهى {جميعاً} في ذلك وغيره، لا لي ولا لأحد من الأنبياء الذين قلتم(10/341)
إني لست أدنى منزلة منهم، وأما الخوارق التي كانت لهم فلولا أن شاءها لما كانت، فالأمر إليه وحده، مهما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وكأن هذا جواب لما حكي في السيرة النبوية أن الكفار تفتنوا به؛ قال ابن إسحاق: ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء، فاجتمع أشرافهم فأرسلوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكلموه في الكف عنهم وعرضوا عليه أن يملكوه عليهم وغير ذلك فأبى وقال:
«» إن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً «، فقالوا: فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلداً ولا أقل ماء ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليخرق فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق - زاد البغوي: فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه، أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام لميرتنا، ونرجع في(10/342)
يومنا فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت - رجع إلى ابن إسحاق: وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل! فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك إلينا رسولاً كما تقدم - زاد البغوي: فإن عيسى كان يحيي الموتى، ولست بأهون على ربك منه» فكان سؤالهم هذا متضمناً لادعائهم أن دعواه إنزال القرآن لا تصح إلا أن فعل هذه الاشياء.
ولما كان هذا كله إقناطاً من حصول الإيمان لأحد بما يقترح، تسبب عنه الإنكار على من لم يفد فيه ذلك فقال تعالى: {أفلم} بفاء السبب {ييئس الذين آمنوا} من إيمان مقترحي الآيات بما يقترحون لعلمهم {أن} أي بأنه {لو يشاء الله} أي الذي له صفات الكمال - هداية كل أحد مشيئة مقترنة بوجوده {لهدى الناس} وبين أن اللام للاستغراق بقوله: {جميعاً} أي بأيسر مشيئة، والعلم بالشيء يوجب اليأس من خلافه،(10/343)
لكنه لم يهدهم جميعاً فلم يشأ ذلك، ولا يكون إلا ما شاءه، فلا يزال فريق منهم كافراً، فقد وضح أن {ييئس} على بابها، وكذا في البيت الذي استشهدوا به على أنها بمعنى «علم» يمكن أن يكون معناه: ألم تيأسوا عن أذاي أو عن قتلي علماً منكم بأني ابن فارس زهدم، فلا يضيع لي ثأر، وكذا قراءة علي ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين - أفلم - يتبين الذين آمنوا - أي أن أهل الضلال لا يؤمنون لآية من الآيات علماً منهم بأن الأمر لله جميعاً، وأن إيمانهم ليس موقوفاً على غير مشيئته.
ولما علم من ذلك أن بعضهم لا يؤمن، ضاقت صدور المؤمنين(10/344)
لذلك لما يعاينونه من أذى الكفار فأتبعه ما يسليهم عاطفاً على ما قدرته من نتيجة عدم المشيئة، فقال: {ولا يزال الذين كفروا} أي ستروا ضياء عقولهم {تصيبهم بما صنعوا} أي مما مرنوا عليه من الشر حتى صار لهم طبعاً {قارعة} أي داهية تزعجهم بالنقمة من بأسه على يد من يشاء، وهو من الضرب بالمقرعة {أو تحل} أي تنزل نزولاً ثانياً تلك القارعة {قريباً من دارهم} أي فتوهن أمرهم {حتى يأتي وعد الله} أي الملك الأعظم بفتح مكة أو بالنصر على جميع الكفرة في زمن عيسى عليه السلام فينقطع ذلك، لأنه لا يُبقي على الأرض كافراً، وفي غير ذلك من الأزمان كزمن فتح مكة المشرفة، فيكون المعنى خاصاً بالبعض {إن الله} أي الذي له مجامع الكمال {لا يخلف الميعاد} أي الوعد ولا زمانه ولا مكانه؛ والوعد: عقد الخبر بتضمن النفع، والوعيد: عقده بالزجر والضر، والإخلاف: نقض ما تضمن الخبر من خير أو شر.(10/345)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
ولما تم الجواب عن كفرهم بالموحي وما أوحاه إليه وما اشتد(10/345)
تعلقه به، عطف على ذلك تأسية بالموحى إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن الحاث على تميز الإجابة إلى الآيات المقترحات استهزاء الكفار، فقال: {ولقد استهزىء} أي من أدنى الخلق وغيرهم {برسل} .
ولما كان الإرسال لم يعم جميع الأزمان فضلاً عن الاستهزاء، أدخل الجار فقال: {من قبلك} لعدم إتيانهم بالمقترحات؛ والاستهزاء: طلب الهزوء، وهو الإظهار خلاف الإضمار للاستصغار {فأمليت} أي فتسبب عن استهزائهم ذلك أني أمليت {للذين كفروا} أي أمهلتهم في خفض وسعة كالبهيمة يملى لها، أي يمد في المرعى، ولم أجعل ذلك سبباً لإجابتهم إلى ما اقترحوا ولا معاجلتهم بالعذاب فعل الضيق الفطن {ثم} بعد طول الإملاء {أخذتهم} أي أخذ قهر وانتقام {فكيف} أي فكان أخذي لهم سبباً لأن يسأل من كان يستبطىء رسلنا أو يظن بنا تهاوناً بهم، فيقال له: كيف {كان عقاب *} فهو استفهام معناه التعجب مما حل بالمكذبين والتقرير، وفي ضمنه وعيد شديد.(10/346)
فلما تقرر - بما مضى من قدرته تعالى على الثواب والعقاب وخفضه الأرضين ورفعه السماوات ونصبه الدلالات بباهر الآيات البينات - أن ليس لأحد غيره أمر ما، وتحرر أن كل أحد في قبضته، تسبب عن ذلك أن يقال: {أفمن هو قائم} ولما كان القيام دالاً على الاستعلاء أوضحه بقوله: {على كل نفس} أي صالحة وغيرها {بما كسبت} - يفعل بها ما يشاء من الإملاء والأخذ وغيرهما - كمن ليس كذلك، مثل شركائهم التي ليس لها قيام على شيء أصلاً.
ولما كان الجواب قطعاً: ليس كمثله شيء، كان كأنه قيل استعظاماً لهذا السؤال: من الذي توهم أن له مثلاً؟ فقيل: الذين كفروا به {وجعلوا لله} أي الملك الأعظم {شركاء} ويجوز أن يقدر ل «من» خبر معناه: لم يوحدوه، ويعطف عليه {وجعلوا} ، فكأنه قيل: فماذا يفعل بهم؟ فقيل: {قل سموهم} بأسمائهم الحقيقية، فإنهم إذا سموهم وعرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز ومحل الفقر، عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ثم قل لهم: أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده {أم تنبئونه} أي تخبرونه إخباراً عظيماً {بما لا يعلم} وعلمه محيط بكل شيء {في الأرض} من كونها آلهة ببرهان قاطع.(10/347)
{أم بظاهر من القول} أي بحجة إقناعية تقال بالفم، وكل ما لا يعلمه فليس بشيء، وهذا قريب مما مضى في قوله {أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه} [الرعد: 16] في أنه لو كان كذلك كان شبهه فيها ظهور ما، وهذه الأساليب منادية على الخلق بالعجز، وصادحة بأنه ليس من كلام الخلق.
ولما كان التقدير: ليس لهم على شيء من ذلك برهان قاطع ولا قول ظاهر، بنى عليه قوله: {بل زين} أي وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان {للذين كفروا} أي لهم، وعبر بذلك تنبيهاً على الوصف الذي دلاهم إلى اعتقاد الباطل، وهو ستر ما أدى إليه برهان العقل المؤيد بدليل النقل {مكرهم} أي أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره، وذلك أنهم أظهروا أن شركاءهم آلهة حقاً، وهم يعلمون بطلان ذلك، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى ولتشفع لهم، أو أنهم غيروا في وجه الحق بما ختلوا(10/348)
به الضعفاء وتمادى بهم الحال حتى اعتقدوه حقاً.
ومادة مكر بأي ترتيب كان: مكر، ركم، رمك، كرم، كمر؛ تدور على التغطية والستر، فالمكر: الخديعة، قالوا: وهو الاحتيال بما لا يظهر، فإذا ظهر فذلك الكيد، ويلزم منه الاجتهاد في ضم أشتات الأمر لستر ما يراد، فمن الضم المكر الذي هو حسن خدالة الساق أي امتلائها، ويلزم منه خصب البدن ونعمته، وكان منه المكر - لضرب من النبات، والواحدة مكرة، سميت مكرة لارتوائها، أبو حنيفة: المكر من عشب القيظ، وهي عشبة غبراء ليس فيها ورق، وهو ينبت في السهل والرمل - كأنه شبه بالساق لخلوه من الورق أو لأنه لغبرته وتجرده كالمستور، والمكر: طين أحمر يشبه بالمغرة - كأنه سمي بذلك لما فيه من الكدرة، والمكرة من البسر: التي ليست برطبة ولكن فيها لين - كأنها سميت به لكون لونها حينئذ يأخذ في الكدرة؛ والركم: إلقاء الشيء بعضه على بعض فهو مركوم وركام، وتراكم الشيء - إذا تكاثف بعضه على بعض، وذلك مظنة الخفاء،(10/349)
والركمة: الطين المجموع وكذا التراب المجموع، وقال: وجُز عن مرتَكم الطريق - يريد المحجة، لأن ترابها تلبد فاشتد تلبده، والرمك والرمكة - بالضم - من ألوان الإبل وهو أكدر من الورقة وهو لون خالطت غبرته سواداً، فهو أرمك - لأنه مظنة لخفاء ما فيه، ومنه اشتقاق الرامك، وهو أخلاط تخلط بالمسك فتجعل سكّاً، ورمك الرجل بالمقام - إذا أقام به، لأنه يستره بنفسه وأمتعته ويستتر هو فيه، وأرمكت غيري - إذا ألزمته مكاناً يقيم فيه، والرمكة: الأنثى من البراذين - فارسي معرب، لأنها تستر أصالة العربي إذا ولدته، ورمكان: موضع معروف - معرفة، ويقال: رمك الرجل - إذا هزل وذهب ما في يده فستر عنه أو صار هو مستوراً بعد أن كان بحسن حاله مشهوراً، ورمكت البازي والصقر ترميكاً - إذا أشرت إليه بالطير لأنك سلبت عنه الستر؛ واليرموك: مكان به لهب عظيم، يستر ما يكون فيه؛ والكريم: ضد اللئيم، وهو البخيل المهين النفس،(10/350)
والخسيس الآباء، فإذا كان شحيحاً ولم تجتمع له هذه الخصال قيل له: بخيل، ولم يُقل: لئيم، فالكريم إذن من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها، وتكرّم - إذا تنزه عن الدناءة ورفع نفسه عنها، وأصل الكرم في اللغة: الفصل والرفعة، فإذا قالوا: فلان كريم، فإنما يريدون رفيعاً فاضلاً، فيلزم الكرم ستر العيوب، والله الكريم أي الفاضل الرفيع - كذا قال بعض أهل اللغة، وقيل: الصفوح عن الذنوب، وقيل: الذي لا يمن إذا أعطى، وإذا قالوا: فلان أكرم قومه، فإنما يريدون: أرفعهم منزلة وأفضلهم قدراً، وكل هذا يلزم منه السخاء وستر الذنوب، ومن هذا قيل: فرس كريم، وشجرة كريمة - إذا كانت أرفع من نظائرها وأفضل،
{إني ألقي إليَّ كتاب كريم} [النحل: 29] أي رفيع شريف - كأنه أطلق هنا على ما فيه مجرد فضل تشبيهاً بالكريم في جزء المعنى، وكارمت الرجل: فعل كل منا في حق صاحبه مقتضى الكرم، والكرم: شجر العنب ولا يسمى به غيره، والكروم: قلائد تتخذها النساء كالمخانق، لدلالتها على قدر صاحبتها، والكرامة: طبق يوضع على رأس الحب - لأنه غطاءه، ولا يغطى إلا ما له فضل، ومنه يقولون: لك الحب والكرامة، والكرم: القصير من(10/351)
الرجال - كأنه شبه بطبق الحب؛ والكمرة - محركة: طرف قضيب الإنسان خاصة، سميت بذلك لسترها القلفة، ورجل مكمور - إذا قطع الخاتن كمرته، وتكامر الرجلان - إذا تكابرا بأيريهما، وقال في القاموس: وتكامرا: نظرا أيهما أعظم كمرة، والكمري: الرطب ما لم يرطب على شجره، بل سقط بسراً فأرطب في الأرض - كأنه سمي بذلك لأنه يكون أكدر مما يرطب على الشجر، وهو أيضاً يشبه الكمرة في تكوينها، والكمري عن ابن دريد: الرجل القصير، كأنه شبه بالرطبة، وقال غيره: وهو اسم مكان.
ولما ذكر تزيين مكرهم، أتبعه الدلالة عليه فقال: {وصدوا} أي فلزموا ما زين لهم، أو فمكروا به حتى ضلوا في أنفسهم وصدوا غيرهم {عن السبيل} الذي لا يقال لغيره سبيل وهو المستقيم، فإن غيره جور وتيه وحيرة فهو عدم، بل العدم أحسن منه، فلم يسلكوا السبيل ولا تركوا غيرهم يسلكه، فضلوا وأضلوا، ليس ذلك بعجب فإن الله أضلهم {ومن يضلل الله} أي الذي له الأمر كله بإرادة ضلاله {فما له من هاد *} فكأنه قيل: فماذا لهم على ما فعلوا من ذلك؟ فقيل:(10/352)
{لهم} أي الذين كفروا {عذاب} وهو الألم المستمر، ومنه العذب لأنه يستمر في الحلق {في الحياة الدنيا} شاق، بممانعة حزب الله لهم في صدهم عن السبيل إلى ما يتصل بذلك من قتل وأسر، ولهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك عذاب {ولعذاب الآخرة أشق} أي أشد في المشقة، وهي غلظ الأمر على النفس بما يكاد يصدع القلب {وما لهم من الله} أي الملك الأعظم {من واق *} أي مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءاً في الدنيا ولا في الآخرة، والواقي فاعل الوقاية، وهي الحجر بما يدفع الأذية.(10/353)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
ولما توعدهم على تفريطهم في جانب الله، تشوفت النفس إلى ما لأضدادهم، فكان كأنه قيل: فما لمن عاداهم في الله؟ فقيل: الجنة، فكأنه قيل: وما هي؟ فقيل: إنها في الجلال، وعلو الجمال، وكرم الخلال، مما تعالى عن المنال، إلا بضرب الأمثال، فقيل: ما مثلها؟ فقيل: {مثل الجنة التي} ولما كان المقصود حصول الوعد الصادق ولا سيما وقد علم أن الوعد هو الله، بنى للمفعول قوله: {وعد المتقون} والخبر محذوف تقديره: ما أقص عليكم، وهو أنها بساتين: قصور وأشجار،(10/353)
فقال الزجاج: الخبر جنة مخبر عنها بما ذكر ليكون تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد {تجري} . ولما كانت - لو عمها الماء الجاري - بحراً لا بساتين، أدخل الجار للدلالة على أنه خاص ببعض أرضيها فقال: {من تحتها} أي قصورها وأشجارها {الأنهار} وقيل: هذا المذكور هو الخبر كما تقول: صفة زيد أسمر.
ولما كان هذا ريّاً حقيقياً في أرض هي في غاية الخلوص والطيب، كان سبباً لدوام ثمرها واستمساك ورقها، فلذلك أتبعه قوله: {أكلها} أي ثمرها الذي يؤكل {دائم} لا ينقطع أبداً {وظلها} ليس كما في الدنيا، لا ينسخ بشمس ولا غيرها، قال أبو حيان: تقول: مثلت الشيء - إذا وصفته وقربته للفهم، وليس هذا ضرب مثل، فهو كقوله {ولله المثل الأعلى} [النحل: 60] ، أي الصفة العليا - كذا قال، ويمكن أن يكون ذلك حقيقة، ويكون هناك محذوف، وهو جنة من جنان الدنيا تجري من تحتها الأنهار - إلى آخره، وهو من قول الزجاج.
ثم ابتدأ إخباراً آخر تعظيماً لشأنها وتفخيماً لأمرها في قوله تعالى:(10/354)
{تلك} أي الجنة العالية الأوصاف {عقبى} أي آخر أمر {الذين اتقوا} ثم كرر الوعيد للكافرين فقال: {وعقبى} أي منتهى أمر {الكافرين} بالرحمن، المتضمن للكفر بالوحي والموحى إليه {النار *} .
ولما وصف العالمين بأن المنزل إليه هو الحق برجاحة العقول وأصالة الأداء المؤدية إلى الصلاح الموجب لكل سعادة، والكافرين به بضعف العقول الدافع إلى الفساد الموصل إلى سوء الدار، ومر فيما يلائمه إلى أن ختمه بمثل ما ختم به ذلك، عطف على ذلك قوله - ويمكن أن يكون اتصاله بما قبله أنه معطوف على محذوف هو علة لختم الآية السالفة، تقديره: لأنهم ساءهم ما أنزل إليه حسداً وجهلاً -: {والذين آتيناهم} أي بما لنا من العظمة التي استنقذتهم من الضلال {الكتاب} ولم يكفروا بالرحمن ولا بما أنزل ولا بمن أرسل {يفرحون بما} ولما كان المنزل دالاًّ بإعجازه على المنزل، بنى للمفعول قوله: {أنزل إليك} أي من هذا الكتاب الأعظم لموافقته تلك الكتب لأن كلام الله كله من مشكاة واحدة، وتخصيصهم لأنهم هم المنتفعون بالكتاب دون غيرهم، فكأنه ما أنزل إلا إليهم، وهذا العطف(10/355)
يرجح أن يكون الموصول هناك مرفوعاً بالابتداء {ومن الأحزاب} من أهل الأوثان والكتاب الذين تحزبوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {من ينكر بعضه} كالتوحيد ونعت الإسلام ونبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يتبع ذلك مما حرفوه وبدلوه، ويريد أن يكون الأمر تابعاً فيه لغرضه، فالمشركون يريدون أن يمدح آلهتهم في بعض الآيات أو أن يسقط وصفها بالعيب، واليهود يريدون أن ينزل ما يوافق فروع التوراة كما أنزل ما وافق الأصول، وينكرون النسخ، وأهل الإنجيل يريدون أن ينزل في المسيح ما يهوون ونحو ذلك؛ قال المفسرون: كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعل مما هو ثابت في كتبهم غير محرف، فلكفرهم بذلك البعض أمره أن يعلمهم باعتقاده كفروا أو شكروا فقال: {قل إنما أمرت} أي وقع الأمر الجازم الذي لا شك فيه ولا تغير ممن له الأمر كله {أن أعبد الله} أي الذي لا شيء مثله وحده، ولذلك قال: {ولا أشرك به} لا أفعل إلا ما يأمرني به من غير نظر إلى سواه، ديني مقصور على ما أنكرتموه {إليه} وحده {أدعوا وإليه} خاصة {مآب *} أي إيابي(10/356)
ومكانه وزمانه، معنى بالتوبة عند الفتور عن القيام بحقه، وحسّاً بالبعث للجزاء؛ والكتاب: الصحيفة التي فيها الخط - وهو الكتابة، وهي تأليف الحروف التي تقرأ في الصحيفة، والفرح: لذة القلب التي تجلي الهم بنيل المشتهى، والحزب: الجماعة التي تقوم بالنائبة.
ولما بينت هذه الآيات من مراتب الإعجاز ما بينت، أتبع تعالى ذكر ما أنزل قوله: {وكذلك} أي ومثل هذا الإنزال، البديع المثال، البعيد المنال؛ ولا يبعد أن يكون عطفاً على {كذلك أرسلناك} أو مثل إنزال كتب أهل الكتاب {أنزلناه} بما لنا من العظمة حال كونه {حكماً عربيّاً} أي ممتلئاً حكمة تقضي بالحق، فائقاً لجميع الكتب بهذا الوصف؛ والحكم: القطع بالمعنى على ما تدعو إليه الحكمة، وهو أيضاً فصل الأمر على الحق؛ فالمعنى أنه لا يقدر أحد على نقض شيء منه، فإن ذلك في الحقيقة هو الحكم، وما ليس كذلك فليس بحكم، والعربي: الجاري على مذاهب العرب في كلامها، فلا تلتفت إلى ما تدعوهم إليه أهويتهم فيقترحونه من تأييدك بملك أو إتحافك بكنز أو تركك لبعض ما يوحى إليك من سبب آلهتهم وتسفيه أحلامهم(10/357)
وتضليل آبائهم أو غير ذلك من طلباتهم التي لو أتيتهم بها لم يكونوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله - هذا في عباد الأوثان، وكذا في أهل الكتاب فيما يدعون إليه من العود إلى قبلتهم ونحوه {ولئن اتبعت أهواءهم} في شيء من ذلك من النسخ أو غيره في القلبة أو غيرها ولا سيما مما يطلبونه من الآيات المقترحة كما قال تعالى:
{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم} [البقرة: 145] . ولما كان المراد التعميم في الزمان، نزع الجار، وأتى ب «ما» لأنها أعم من «الذي» وأشد إبهاماً، فهي الخفيّ معنى، فناسب سياق الوحي الذي هو غيب، ومعناه غامض - إلا لبعض الأفراد - في الأغبياء بخلاف آية البقرة الأولى فإنها في الملة الإبراهيمية المدركة بنور العقل الناشىء عن نظر المحسوسات فقال: {بعدما جاءك} ولما كان قد أنعم عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأشياء غير العلم، بين المراد بقوله: {من العلم} أي بالوحي بأن ذلك الاتباع لا يردهم سواء كان ذلك الاتباع في أصول الشريعة أو فروعها خفية كانت أو جلية.(10/358)
ولما كان المشروط استغراق جميع زمان البعد باتباع الأهواء، قال: {ما لك} حينئذ {من الله} أي الملك الأعلى وأعرق في النفي فقال: {من ولي} أي ناصر يتولى من نصرك وجميع أمرك ما يتولاه القريب مع قريبه. ولما كان مدلول «ما» أعم من مدلول «الذي» لشمولها الظاهر والخفي، وكان من خالف الخفي أعذر ممن خالف الظاهر، نفى الأخص من النصير فقال: {ولا واق *} أي يقيك بنفسه فيجعلها دون نفسك، وقد يوجد من الأنصار من لا يسمع بذلك، وهذا بعث للأمة وتهييج على الثبات في الدين والتصلب فيه، والهوى - مقصوراً: ميل الطباع إلى الشيء بالشهوة، والعلم: تبين الشيء على ما هو به.(10/359)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
ولما حسمت الأطماع عن إجابتهم رجاء الاتباع أو خشية الامتناع، وكان بعضهم قد قال: لو كان نبياً شغلته نبوته عن كثرة التزوج، كان موضع توقع الخبر عما كان للرسل في نحو ذلك، فقال تعالى: {ولقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة {رسلاً} ولما كانت أزمان الرسل غير عامة لزمان القبل، أدخل الجار فقال: {من قبلك} أي ولم نجعلهم ملائكة بل جعلناهم بشراً، {و} أثقلنا ظهورهم بما يدعو إلى(10/359)
المداراة والمسالمة بإرضاء الأمم في بعض أهوائهم، أو فصل الأمر عند تحقق المصارمة بإنجاز الوعيد بأن {جعلنا} أي بعظمتنا {لهم أزواجاً} أي نساء ينكحونهن؛ والزوج: القرين من الذكر والأثى، وهو هنا الأنثى {وذرية} وهي الجماعة المتفرقة بالولادة عن أب واحد في الجملة، وفعل بهم أممهم ما يفعل بك من الاستهزاء، فما اتبع أحد منهم شيئاً من أهواء أمته {و} لم نجعل إليهم الإتيان بما يقترح المتعنتون من الآيات تالفاً لهم، بل {ما كان لرسول} أي رسول كان {أن يأتي بآية} مقترحة أو آية ناسخة لحكم من أحكام شريعته أو شريعة من قبله أو غير ذلك {إلا بإذن الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة، فإن الأمور عنده ليست على غير نظام ولا مفرطاً فيها ولا ضائعاً شيء منها بل {لكل أجل} أي غاية أمر قدره وحده لأن يكون عنده أمر من الأمور {كتاب *} قد أثبت فيه أن أمر كذا يكون في وقت كذا من الثواب والعقاب والأحكام والإيتان بالآيات وغيرها، إثباتاً ونسخاً على ما تقتضيه الحكمة، والحكمة اقتضت أن النبوة يكفي في إثباتها معجزة واحدة، وما زاد على ذلك فهو إلى المشيئة؛ ثم علل ذلك بقوله: {يمحوا الله} أي الملك الأعظم {ما يشاء} أي محوه(10/360)
من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه {ويثبت} ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقره ويمضي حكمه كما قال تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننساها} [البقرة: 106] إلى قوله تعالى: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 106] كل ذلك بحسب المصالح التابعة لكل زمن، فإنه العالم بكل شيء، وهو الفعال لما يريد لا اعتراض عليه، وقال الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة: يمحو فرض ما يشاء ويثبت فرض ما يشاء. وإثبات واو «يمحوا» في جميع المصاحف مشير - بما ذكر أهل الله من أن الواو معناه العلو والرفعة - إلى أن بعض الممحوات تبقى آثارها عالية، فإنه قد يمحو عمر شخص بعد أن كانت له آثار جميلة، فيبقيها سبحانه وينشرها ويعليها، وقد يمحو شريعة ينسخها ويبقى منها آثاراً صالحة تدل على ما أثبت من الشريعة الناسخة لها، وأما حذفها باتفاق المصاحف أيضاً في {يمح الله الباطل} في الشورى مع أنه مرفوع أيضاً، فللبشارة بإزهاق الباطل إزهاقاً هو النهاية - كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وذلك لمشابهة الفعل بالأمر المقتضي لتحتم الإيقاع بغاية الاتقان والدفاع، وقال: {وعنده} مع ذلك {أم} أي أصل {الكتاب *} لمن وهمه مقيد بأن الحفظ بالكتابة، وهو اللوح المحفوظ الذي هو أصل كل كتاب، وقد تقدم(10/361)
غير مرة أنه الكتاب المبين الذي هو بحيث يبين كل ما طلب علمه منه كلما طلب؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: هما كتابان: كتاب سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبت، وأم الكتاب الذي لا يغير منه شيء - انتهى.
والمراد - والله أعلم - أنه يكون في أم الكتاب أنا نفعل كذا - وإن كان في الفرع على غير ذلك، فإنه بالنسبة إلى شريعة دون أخرى، فإذا نقضت الشريعة الأولى فإنا نمحوه في أجل كذا، أو يكون المعنى: يمحو ما يشاء من ذلك الكتاب بأن يعدم مضمونه بعد الإيجاد، ويثبت ما يشاء بأن يوجده من العدم وعنده أم الكتاب؛ قال الرازي في اللوامع: وقد أكثروا القول فيها، وعلى الجملة فكل ما يتعلق به المشيئة من الكائنات فهو بين محو وإثبات، محو بالنسبة إلى الصورة التي ارتفعت، إثبات بالنسبة إلى الصورة الثانية، والقضاء الأزلي، والمشيئة الربانية مصدر هذا المحو والإثبات، فلذلك هو القضاء وهذا هو القدر، فالقضاء مصدر القدر، والقدر مظهر القضاء، والله تعالى وصفاته منزه عن التغير.
ولما تم ما أراد مما يتعلق بتألفهم، وختم بأنه سبحانه يفعل(10/362)
ما يشاء من تقديم وتأخير ومحو وإثبات، وكان من مقترحاتهم وطلباتهم استهزاء استعجال السيئة مما توعدوا به، وكانت النفس ربما تمنت وقوع ذلك للبعض وإثباته ليؤمن غيره تقريباً لفصل النزاع، قال سبحانه وتعالى: {وإن ما نرينك} أكده لتأكيد الإعلام بأنه لا حرج عليه في ضلالة من ضل بعد إبلاغه، نفياً لما يحمله عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شدة رحمته لهم وشفقته عليهم من ظن أنه عليه أن يردهم إلى الحق حتماً {بعض الذي نعدهم} وأنت حي مما تريد أو يريد أصحابك، فصل الأمر به فثبت وقوعه إقراراً لأعينكم قبل وفاتك؛ والوعد: الخبر عن خير مضمون، والوعيد: الخبر عن شر مضمون، والمعنى هاهنا عليه، وسماه وعداً لتنزيلهم إياه في طلب نزوله منزلة الوعد {أو نتوفينك} قبل أن نريك ذلك، وهو ممحو الأثر لم يتحقق، فالذي عليك والذي إلينا مستو بالنسبة إلى كلتا الحالتين {فإنما عليك البلاغ} وهو إمرار الشيء إلى منتهاه، وهو هنا الرسالة؛ وليس عليك أن تحاربهم ولا أن تأتيهم بالمقترحات {وعلينا الحساب *} وهو جزاء كل عامل بما عمل في الدنيا والآخرة، ولنا القوة التامة عليه؛ والآية(10/363)
من الاحتباك - كما مضى بيان ذلك في مثلها من سورة يونس عليه السلام.(10/364)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير في تحقيق أنه سبحانه قادر على الجزاء لمن أراد: ألم يروا أنا أهلكنا من قبلهم وكانوا أقوى منهم شوكة وأكثر عدة؟ عطف عليه قوله: {أولم يروا أنا} أي بما لنا من العظمة {نأتي الأرض} التي هؤلاء الكفرة بها، فكأنه قيل: أي إتيان؟ فقيل: إتيان البأس إذا أردنا، والرحمة إذا أردنا {ننقصها} والنقص: أخذ شيء من الجملة تكون به أقل {من أطرافها} بما يفتح الله على المسلمين مما يزيد به في أرض أهل الإسلام بقتل بعض الكفار واستسلام البعض حتى يبيد أهلها على حسب ما نعلمه حكمة من تدبير الأمور وتقليبها حالاً إلى حال حتى تنتهي إلى مستقرها بعد الحساب في دار ثواب أو عقاب، وذلك أن المسلمين كانوا يغزون ما يلي المدينة الشريفة من أطراف بلاد الكفار كما أرشد تعالى إليه بقوله: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} فيفتحونها أولاً فأولاً حتى دان العرب كلهم طوعاً أو كرهاً بعد قتل السادة وذل القادة - ولله غالب على أمره؛ والطرف:(10/364)
المنتهى، وهو موضع من الشيء ليس وراءه منه شيء، وأطراف الأرض: جوانبها، وكان يقال: الأطراف: منازل الأشراف، يطلبون القرب على الأضياف؛ ثم أثبت لنفسه تعالى أمراً كلياً يندرج ذلك فيه، فقال لافتاً الكلام من أسلوب التكلم بالعظمة إلى غيبة هي أعظم العظمة بالاسم الأعظم: {والله} أي الملك الأعلى {يحكم} ما يريد لأنه {لا معقب} أي أراد، لأن التعقيب: رد الشيء بعد فصله {لحكمه} وقد حكم للإسلام بالغلب والإقبال، وعلى الكفر بالانتكاس والإدبار، وكل من حكم على غير هذه الصفة فليس بحاكم، وذلك كاف في الخوف من سطوات قدرته {وهو} مع تمام القدرة {سريع الحساب *} جزاءه محيط بكل عمل لا يتصور أن يفوته شيء فلا بد من لقاء جزائه، وكل ما هو آت سريع، وهو مع ذلك يعد لكل عمل جزاءه على ما تقتضيه الحكمة من عدل أو فضل حين صدوره، لا يحتاج إلى زمان ينظر فيه ما جزاءه؟ ولا: هل عمل أو لا؟ لأنه لا تخفى عليه خافية؛ والسرعة: عمل في قلة المدة على ما تحده الحكمة، والإبطاء: عمله في طول مدة خارجة عن الحكمة، والسرعة محمودة، والعجلة مذمومة، وهو تعالى قادر على الكفرة وإن كانوا(10/365)
كالقاطعين بأنهم يغلبون، لما لهم من القوة والكثرة، مع جودة الآراء وحدة الأفكار والقدرة بالأموال وإن اشتد مكرهم، فهو لا يغني عنهم شيئاً، فقد مكروا بك غير مرة ثم لم أزدك إلا علواً {وقد مكر الذين} ولما كان المراد بالمكرة إنما هو بعض الناس في بعض الزمان قال: {من قبلهم} أي بالرسل وأتباعهم، فكان مكرهم وبالاً عليهم، فطوى في هذه الجملة مكرهم الذي اجتمعوا عليه غير مرة وأتقنوه بزعمهم، فكان سبب الرفعة للإسلام وأهله وذل الشرك وأهله، ودل على ذلك المطوي بواو العطف في قوله {وقد} وطوى في الكلام السابق إهلاك الأمم الماضية في الاستدلال على قدرته على الجزاء الذي هو روح الحساب ودل عليه بواو العطف في {أولم يروا} فتأمل هذا الإبراز في قوالب الإعجاز.
ولما كان ذلك كذلك، تسبب عنه أن يقال: {فلله} أي الملك الأعظم المحيط علمه وقدرته خاصة {المكر جميعاً} والمكر: الفتل عن البغية بطريق الحيلة، ويلزمه الستر - كما مضى بيانه، ولا شيء أستر عن العباد من أفعاله تعالى: فلا طريق لهم إلى علمها(10/366)
إلا من جهته سبحانه، وسمي فعله مكراً مجازاً لأنه ناشىء عن مكرهم جزاء لهم؛ ثم علل ذلك بقوله: {يعلم} ويجوز أن يكون تفسيراً لما قبله، لأن علم المكر من الماكر مكن حيث لا يشعر أدق المكر {ما تكسب كل نفس} أي من مكر وغيره، فيجازيهم إذا أراد بأن ينتج عن كل سبب أقاموه مسبباً يكون ضد ما أرادوا، ولا تمكنهم إرادة شيء إلا بإرادته، فستنظرون ماذا يحل بهم من بأسه بواسطتكم أو بغيرها حتى تظفروا بهم فتبيدوهم أجمعين {وسيعلم الكافر} أي كل كافر بوعد لا خلف فيه، إن كان من الجهل بحيث لا يعلم الأشياء إلا بالتصريح أو الحس {لمن عقبى الدار *} حين نأتيهم ضد مرادهم؛ والكسب: الفعل لاجتلاب النفع أو دفع الضر.
ولما تقدم قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية} عطف عليه - بعد شرح ما استتبعه - قوله: {ويقول الذين كفروا} أي أوجدوا الكفر ولو على أدنى الرتب، قولاً على سبيل التكرار: {لست مرسلاً} لكونك لا تأتي بمقترحاتهم مع أنه لم يقل يوماً: إنه قادر عليها، فكأنه قيل: فما أقول لهم؟ فقال: {قل كفى}(10/367)
والكفاية: وجود الشيء على مقدار الحاجة؛ ومعنى الباء في {بالله} أي الذي له الإحاطة الكاملة - التأكيد، لأن الفعل جاز أن يضاف إلى غير فاعله إذا أمر به أزيل هذا الاحتمال من وجهين: جهة الفاعل وجهة صرف الإضافة {شهيداً} أي بليغ العلم في شهادته بلاطلاع على ما ظهر وما بطن {بيني وبينكم} يشهد بتأييد رسالتي وتصحيح مقالتي بما أظهر لي من الآية وأوضح من الدلالة بهذا الكتاب، ويشهد بتكذيبكم بادعائكم القدرة على المعارضة وترككم لها عجزاً، وهذا على مراتب الشهادة، لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كما شهد به، والمعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بأن ما جاءت لأجله كما هو {ومن عنده علم الكتاب} مما أنزله فيه من الأصول والفروع والخبر عما كان يكون على نحو من الأساليب ونمط من المناهيج أخرس الفصحاء، وأبكم البلغاء، وأبهت الحكماء، وهو الله تعالى، تأييداً وتحقيقاً لدعواي، ويؤيد أن المراد به «الله» قراءة {من} على أنها جارة، وفي سوقه هكذا على طريق الإبهام من ترويع النفس بهزّها إلى تطلب المتصف بهذا الوصف ما ليس في التعيين، فهو إذن كدعوى الشيء مقروناً بدليله، فقد انطبق هذا الآخر على أول السورة في أن المنزل حق من عنده وأنهم لا يؤمنون - والله الموفق.(10/368)
سورة إبراهيم
بسم الله (الذي تفرد بالكمال، وعز عن أن يكون له كفو أو مثال) الرحمن (لجميع خلقه بكتاب هو الغاية في البيان) الرحيم (الذي اختار من عباده من ألزمهم روح وداده) الر (مقصود السورة التوحيد، وبيان أن هذا الكتاب غاية البلاغ إلى الله، لأنه كافل ببيان الصراط الدال عليه المؤدى إليه.
ناقل - بما فيه من الأسرار - للخلق من طور إلى طور - بما يشير إليه حرف الراء، وأدل ما فيها على هذا المرام قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أما التوحيد فواضح، وأما أمر الكتاب فلأنه من جملة دعائه لذريته الذين أسكنهم عند البيت المحرم من ذرية إسماعيل عليه السلام)) ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك وبعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم () [البقرة: 129] .
ولما ختم الرعد بأنه لا شهادة تكافىء شهادة من عنده علم الكتاب إشارة إلى أن الكتاب هو الشاهد بإعجازه ببلاغته وما حوى من(10/369)
فنون العلوم، وأتى به في ذاك السياق معرفاً لما تقدم من ذكره في البقرة وغيرها ثم تكرر وصفه في سورة يونس وهود ويوسف والرعد بأنه حكيم محكم مفصل مبين، وأنه الحق الثابت الذي تزول الجبال الرواسي وهو ثابت لا يتعتع شيء منه.
ولا يزلزل معنى من معانيه، ذكره في أول هذه السورة منكراً تنكير التعظيم فقال:(10/370)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
{كتاب} أي عظيم في درجات من العظمة. لا تحتمل عقولكم الإخبار عنها بغير هذا الوصف، ودل تعليل وصفه بالمبين بأنه عربي على أن التقدير: {أنزلناه} أي بما لنا من العظمة {إليك} بلسان قومك لتبين لهم.
ولما استجمع التعريف بالأوصاف الموجبة للفلاح المذكورة أول السورة المستدل عليها بكل برهان منير وسلطان مبين، فصار بحيث لا يتوقف عن اجتناء ثمرته من وقف على حقائق تلك النعوت، شوق إلى تلك الثمرة بعد تفصيل ما في أول البقرة في التي قبلها كما مضى بما يحث عليه ويقبل بقلب كل عاقل إليه فقال: {لتخرج الناس} أي عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم به وإن كانوا ذوي اضطراب {من الظلمات} التي هي أنواع كثيرة(10/370)
من الضلالات التي أدت إليها الجهالات {إلى النور} الذي هو واحد، وهو سبيل الله المدعو بالهداية إليه في الفاتحة، أو لتبين للعرب قومك لأنه بلسانهم بياناً شافياً، فتجعلهم - بما تقيم عليهم من الحجج الساطعة، وتوضح لهم من البراهين القاطعة، وتنصب لهم من الأعلام الظاهرة، وتحكم لهم من الأدلة الباهرة - في مثل ضوء النهار بما فتح من مقفل أبصارهم، وكشف عن أغطية قوبهم، فيكونوا متمكنين من أن يخرجوا من ظلمات الكفر التي هي طرق الشيطان إلى نور الإيمان الذي هو سبيله {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] وشبه الإيمان وما أرشد إليه بالنور، لأنه عصمة العقل من الخطأ في الطريق إلى الله كما أن النور عصمة البصر من الضلال عن الطريق الحسي، وإذا خرجوا إلى النور كانوا جديرين بأن يخرجوا جميع الناس {بإذن ربهم} أي المحسن إليهم؛ والإذن: الإطلاق في الفعل بقول يسمع بالأذن، هذا أصله - قاله الرماني.
ولما كان النور مجملاً، بينه على سبيل الاستئناف أو البدل بتكرير العامل فقال: {إلى صراط العزيز} الذي تعالى عن صفات النقص(10/371)
فعز عن أن يدخل أحد صراطه الذي هو ربه، أو يتعرض أحد إلى سالكه بغير إذنه {الحميد} المحيط بجميع الكمال، فهو المستحق لجميع المحامد لذاته وبما يفيض على عباده من النعم التي يربيهم ويتحمد إليهم بها على كل حال، فكيف إذا سلكوا سبيله الواضح الواسع السهل! .
ولما أضاف طريق النجاة إلى وصفين يجوز إطلاق كل منهما على الخلق، بينهما باسمه الشريف العَلم على الاستئناف في قراءة نافع وابن عامر بالرفع. وعلى أنه عطف بيان في قراءة الباقين بالجر لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لاختصاصه بالمعبود بحق ووصفه بما اقتضى توحيده، فقال: {الله} أي المحيط علماً وقدرة {الذي له ما في السماوات} أي الأجسام العالية من الأراضي وغيرها. ولما كان في سياق الدلالة على الخالق وإثبات توحيده، أكد بإعادة الموصول مع صلته فقال: {وما في الأرض} أي فويل لمن أشرك به شيئاً منهما أو فيهما، فإنه لا أبين من أن ما كان مملوكاً لا يصلح لأن يكون شريكاً. ويجوز أن يكون التقدير: فوأل ونجاة وسلامة لمن اهتدى به فخرج من ظلمات الكفر {وويل} مصدر بمعنى الهلاك، ينصب نصب المصادر ثم يرفع(10/372)
رفعها لإفادة أن معنى الهلاك - وهو ضد الوأل الذي هو النجاة - ثابت {للكافرين} الذين ستروا أدلة عقولهم {من عذاب شديد} تتضاعف آلامه وقوته؛ والشدة: تجمع يصعب معه التفكيك.(10/373)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
ولما أشار إلى ما للكافرين، وصفهم بما عاقهم عن قبول الخير وتركهم في أودية الشر فقال: {الذين يستحبون} أي يطلبون أن يحبوا أو يوجدون المحبة بغاية الرغبة متابعة للهوى {الحياة الدنيا} وهي النشأة الأولى التي هي دار الارتحال، مؤثرين لها {على الآخرة} أي النشأة الأخرى التي هي دار المقام، وذلك بأن يتابعوا أنفسهم على حبها حتى يكونوا كأنهم طالبون لذلك، وهذا دليل على أن المحبة قد تكون بالإرادة؛ والمحبة: ميل الطباع إلى الشيء بالشهوة، فهم يمتنعون خوفاً على دنياهم التي منها رئاستهم عن سلوك الصراط {و} يضمون إلى ذلك أنهم {يصدون} أي يعرضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم {عن سبيل الله} أي طريق الملك الأعظم؛ والسبيل: المذهب المهيأ للسلوك {و} يزيدون(10/373)
على ذلك أنهم {يبغونها} أي يطلبون لها، حذف الجار وأوصل الفعل تأكيداً له {عوجاً} والعوج: ميل عن الاستقامة، وهو بكسر العين في الدين والأمر والأرض، وبالفتح في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح ونحوهما {أولئك} أي البعداء البغضاء {في ضلال بعيد *} أي عن الحق، إسناد مجازي، لأن البعيد أهل الضلال بميلهم عن الباقي إلى الفاني وبطلبهم العوج فيما قومه الله المحيط بكل شيء قدرة وعلماً.
ولما قدم ما أفهم أنه أرسله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلسان قومه إلى الناس كافة لأن اللسان العربي أسهل الألسنة وأجمعها وأفصحها وأبينها، فكان في غاية العدالة، وختم بأن السبيل إليه في غاية الاستقامة والاعتدال، دلّ على شرف هذا اللسان لصلاحيته لجميع الأمم وخفته عليهم بخصوص لسان كل من الرسل بقومه، فلذلك أتبعه قوله: {وما أرسلنا} أي بما لنا في العظمة، وأعرق في النفي فقال: {من رسول} أي في زمن من الأزمان {إلا بلسان} أي لغة {قومه} أي الذين فيهم قوة المحاولة لما يريدون {ليبين} أي بياناً شافياً {لهم} كما تقدم أنا أرسلناك بكتاب عربي بلسان قومك لتبين لهم(10/374)
ولجميع الخلق، فإن لسانك أسهل الألسنة وأعذبها، فهو معطوف على {أنزلناه} بالتقدير الذي تقدم، فإذا تقرر ذلك علم أنه لا مانع حينئذ لأمة من الأمم عن الاستقامة على هذا الصراط إلا إذن الله ومشيئته {فيضل} أي فتسبب عن ذلك أنه يضل {الله} أي الذي له الأمر كله {من يشاء} إضلاله، وقدم سبحانه هذا اهتماماً بالدلالة على أنه سبحانه خالق الشر كما أنه خالق الخير مع أن السياق لذم الكافرين الذين هم رؤوس أهل الضلال {ويهدي من يشاء} هدايته فإنه سبحانه هو المضل الهادي، وأما الرسل فمبينون ملزمون للحجة تمييزاً للضال من المهتدي {وهو} أي وحده {العزيز} الذي لا يرام ما عنده إلا به، ولا يمتنع عليه شيء أراده {الحكيم *} الذي لا ينقض ما دبره، فلذلك دبر بحكمته إرساله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الخلق كافة باللسان العربي، لأن المقصود جمع الخلق على الحق، فجمعهم على لسان واحد أنسب ما يكون لذلك، ولو أنزل بألسنة كلها لكان منافياً لهذا المقصود، وإن كان مع الإعجاز بكل لسان كان قريباً من الإلجاء فيفوت الإيمان بالغيب، ويؤدي أيضاً إلى ادعاء أهل كل لسان(10/375)
أن التعبير عنه بلسانهم أعظم، فيؤدي ذلك إلى المفاخرة والعصبية المؤدي إلى أشد الفرقة، وأنسب الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم، أقرب إليه، فيكون فهمهم لأسرار شريعته ووقوفهم على حقائقها أسهل، ويكونون عن الغلط والخطأ أبعد، فإذا فهموا عنه دعوا من يليهم بالتراجمة وهلم جرا، فانتشر الأمر وعم وسهل، وكان مع ذلك أبعد من التحريف وأسلم من التنازع.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما كانت سورة الرعد على ما تمهد بأن كانت تلك الآيات والبراهين التي سلفت فيها لا يبقى معها شك لمن اعتبر بها لتعظيم شأنها وإيضاح أمرها، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} [إبراهيم: 1] أي إذا هم تذكروا به واستبصروا ببراهينه وتدبروا آياته {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض} [الرعد: 31] . ولما كان هذا الهدى والضلال كل ذلك موقوف على مشيئته سبحانه وسابق إرادته وقد قال لنبيه عليه السلام {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} قال تعالى هنا {بإذن ربهم} ، إنما عليك البلاغ. ولما قال تعالى: {وكأين من آية من السماوات والأرض} [يوسف: 105] تم(10/376)
بسطها في سورة الرعد، أعلم هنا أن ذلك كله له وملكه فقال: {الذي له ما في السماوات وما في الأرض} [إبراهيم: 2] فالسماوات والأرض بجملتهما وما فيهما من عظيم ما أوضح لكم الاعتبار به، كل ذلك له ملكاً وخلقاً واختراعاً، {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} [آل عمران: 83] {وويل للكافرين من عذاب شديد} [إبراهيم: 2] لعنادهم مع وضوح الأمر وبيانه {ويصدون عن سبيل الله} [التوبه: 34] مع وضوح السبيل وانتهاج ذلك الدليل، ثم قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4] وكأن هذا من تمام قوله سبحانه {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} [الرعد: 38] وذلك أن الكفار لما حملهم الحسد والعناد وبعد الفهم بما جبل على قلوبهم وطبع عليها على أن أنكروا كون الرسل من البشر حتى قالوا: {أبشر يهدوننا} [التغابن: 6] ، {ما أنتم إلا بشر مثلنا} [يس: 15] وحتى قالت قريش: {لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8] ، {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} {وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] فما كثر هذا منهم وتبع خلفهم في هذا سلفهم، رد تعالى أزعامهم وأبطل توهمهم في آيات وردت على التدريج(10/377)
في هذا الغرض شيئاً فشيئاً، فأول الوارد من ذلك في معرض الرد عليهم وعلى ترتيب سور الكتاب قوله تعالى:
{أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم} [يونس: 2] ، الآية ثم أتبع ذلك بانفراده تعالى بالخلق والاختراع والتدبير والربوبية، وفي طي ذلك أنه يفعل ما يشاء لأن الكل خلقه وملكه، وأنه العليم بوجه الحكمة في إرسال الرسل وكونهم من البشر، فأرغم الله تعالى بمضمون هذة الآي كل جاحد معاند؛ ثم ذكر تعالى في سورة هود قول قوم نوح {ما نراك إلا بشراً مثلنا} [هود: 27] ، الآية وجوابه عليه السلام {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} [هود: 63] أي أني وإن كنت في البشرية مثلكم فقد خصني الله بفضله وآتاني رحمة من عنده وبرهاناً على ما جئتكم به عنه، وفي هذه القصة أعظم عظة، ثم جرى هذا لصالح وشعيب عليهما السلام، وديدن الأمم أبداً مع أنبيائهم ارتكاب هذه المقالات، وفيها من الحيد والعجز عن مقاومتهم ما لا يخفى وما هو شاهد على تعنتهم، ثم زاد سبحانه تعالى(10/378)
نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعريفاً بأحوال من تقدمه من الأنبياء عليهم السلام ليسمع ذلك من جرى له مثل ما جرى لهم فقال مثل مقالتهم، فقال تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} [الرعد: 38] وأعلم سبحانه أن هذا لا يحط شيئاً من مناصبهم، بل هو واقع في قيام الحجة على العباد. ثم تلا ذلك بقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4] أي ليكون أبلغ في الحجة وأقطع للعذر، فربما كانوا يقولون عند اختلاف الألسنة: لا نفهم عنهم، إذ قالوا ذلك مع اتفاق اللغات، فقد قال قوم شعيب عليه السلام {وما نفقة كثيراً مما تقول} [هود: 91] هذا وهو عليه السلام يخاطبهم بلسانهم فكيف لو كان على خلاف ذلك بل لو خالفت الرسل عليهم السلام الأمم في التبتل وعدم اتخاذ الزوجات والأولاد واستعمال الأغذية وغيرها من مألوفات البشر لكان منفراً، فقد بان وجه الحكمة في كونهم من البشر ولو كانوا من الملائكة لوقع النفار والشرود لافتراق الجنسية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون} [الأنعام: 9] أي ليكون أقرب إليهم لئلا يقع تنافر فكونهم من البشر أقرب وأقوم للحجة. ولما كانت رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامة، كان عليه الصلاة والسلام(10/379)
يخاطب كل طائفة من طوائف العرب بلسانها ويكلمها بما تفهم، وتأمل كم بين كتابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنس رضي الله عنه في الصدقة وكتابه إلى وائل بن حجر مع اتحاد الغرض، وللكتابين نظائر يوقف عليها في مظانها، وكل ذلك لتقوم الحجة على الجميع، واستمر باقي سورة إبراهيم عليه السلام على التعريف بحال مكذبي الرسل ووعيد من خالفهم وبيان بعض أهوال الآخرة وعذابها - انتهى.(10/380)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
ولما ذكر سبحانه الرسل بما ذكره، توقع السامع تفصيل شيء من أخبارهم، فابتدأ بذكر من كتابه أجل كتاب بعد القرآن هدى للناس دليلاً على أنه يفعل ما يشاء من الإضلال والهداية، وتسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتثبيتاً وتصبيراً على أذى قومه، وإرشاداً إلى ما فيه الصلاح في مكالمتهم، فقال مصدراً بحرف التوقع: {ولقد أرسلنا} أي بعظمتنا {موسى بآياتنا} أي البينات؛ ثم فسر الإرسال بقوله: {إن أخرج قومك} أي الذين فيهم قوة على مغالبة الأمور(10/380)
{من الظلمات} أي أنواع الجهل {إلى النور *} بتلك الآيات {وذكرهم} أي تذكيراً عظيماً {بأيام الله} أي الذي له الجلال والإكرام من وقائعه في الأمم السالفة وغير ذلك من المنح لأوليائه والمحن لأعدائه كما أرسلناك لذلك {إن في ذلك} أي التذكير العظيم {لآيات} على وحدانية الله وعظمته {لكل صبار} أي بليغ الصبر بلاء الله، قال في العوارف: وقال أبو الحسن بن سالم: هم ثلاثة: متصبر، وصابر، وصبار، فالمتصبر من صبر في الله، فمرة يصبر ومرة يجزع، والصابر من يصبر في الله ولله ولا يجزع ولكن يتوقع منه الشكوى، وقد يمكن منه الجزع، فأما الصبار فذلك الذي صبّره الله في الله ولله وبالله، فهذا لو وقع عليه جميع البلايا لا يجزع ولا يتغير من جهة الوجوب والحقيقة، لا من جهة الرسم(10/381)
والخليقة، وإشارته في هذا ظهور حكم العلم فيه مع ظهور صفة الطبيعة. {شكور *} أي عظيم الشكر لنعمائه، فإن أيامه عند أوليائه لا تخلو من نعمة أو نقمة، وفي صيغة المبالغة أشارة إلى أن عادته تعالى جرت بأنه إنما ينصر أولياءه بعد طول الامتحان بعظيم البلاء ليتبين الصادق من الكاذب {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله} [البقرة: 214] {حتى إذا استيئس الرسل} [يوسف: 110] ، {الم أحسب الناس أن يتركوا} [العنكبوت: 2] وذلك أنه لا شيء أشق على النفوس من مفارقة المألوف لا سيما إن كان ديناً ولا سيما إن كان قد درج عليه الأسلاف، فلا يقوم بالدعاء إلى الدين إلا من بلغ الذروة في الصبر.
ولما ذكر ما أمر به موسى عليه السلام، وكان قد تقدم أمره في الشريف إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالاقتداء بالأنبياء الذين هو من رؤوسهم وأولي عزمهم، كان كأنه قيل: فبين أنت للناس ما نزل إليهم وذكرهم بأيام الله اقتداء بأخيك موسى عليه السلام {و} اذكر لهم خبره فإن أيامه من أعظم أيام الله: أشدها محنة وأجلها منحة {إذ قال موسى} امتثالاً لما أمرناه به {لقومه} مذكراً لهم بأيام الله معهم ثم أيامه مع غيرهم.(10/382)
ولما كان المراد بالتذكير بالأيام زيادة الترغيب والترهيب، أشار إلى أن مقام الترهيب هنا أهم للحث على تركهم الضلال بترك عادته في الترفق بمثل ما في البقرة والمائدة من الاستعطاف بعاطفة الرحم بقوله: {ياقوم} فأسقطها هنا إشارة إلى أن المقام يقتضي الإبلاغ في الإيجاز في التذكير للخوف من معاجلتهم بالعذاب فقال: {اذكروا نعمة الله} أي ذي الجلال والإكرام، وعبر بالنعمة عن الإنعام حثاً على الاستدلال بالأثر على المؤثر {عليكم} ثم أبدل من «نعمة» قوله: {إذ} وهو ظرف النعمة.
ولما كانوا قد طال صبرهم جداً بما طال من بلائهم من فرعون على وجه لا يمكن في العادة خلاصهم منه، وإن أمكن على بعد لم يكن إلا في أزمنة طوال جداً بتعب شديد، أشار إلى أسراعه بخلاصهم بالنسبة إليه لو جرى على مقتضى العادة جزاء لهم على طول صبرهم، فعبر بالإفعال دون التفعيل الذي اقتضاه سياق البقرة فقال: {أنجاكم من} بلاء {آل فرعون} أي فرعون نفسه وأتباعه استعمالا للمشترك في معنييه، فإن الآل على الشخص نفسه وعلى أهل الرجل وأتباعه(10/383)
وأوليائه؛ قال في القاموس: ولا يستعمل إلا لما فيه شرف غالباً، فكأنهم قالوا: من أيّ بلائهم؟ فقال: {يسومونكم} أي يكلفونكم ويولونكم على سبيل الاستهانة والقهر {سوء العذاب} بالاستعباد.
ولما كان السياق للصبر البليغ، اقتضى ذلك العطف في قوله: {ويذبحون} أي تذبيحاً كثيراً مميتاً - بما أفاده تعبير الأعراف بالقتل، ومعرفاً بإعادة التعبير بالذبح أن الموت بالسكين {أبناءكم ويستحيون} أي يطلبوا أن يحيوا {نساءكم} لإفادة أن ذلك بلاء آخر {و} الحال أن {في ذلكم} أي الأمر الشديد المشقة من العذاب المتقدم أو الإنجاء أو هما {بلاء من ربكم} أي المربي لكم المدبر لأموركم {عظيم *} .(10/384)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
ولما ذكرهم بنعمة الأمن رغبهم فيما يزيدها، ورهبهم مما يزيلها فقال: {وإذ} أي واذكروا إذ {تأذن ربكم} أي أعلم المحسن إليكم إعلاماً بليغاً ينتفي عنه الشكوك قائلاً: {لئن شكرتم} وأكده لما للأنفس من التكذيب بمثل ذلك لأعتقادها أن الزيادة بالسعي في الرزق والنقص بالتهاون فيه {لأزيدنكم} من نعمي، فإن الشكر قيد الموجود وصيد المفقود «إن عطائي لعتيد فأرجوه»(10/384)
{ولئن كفرتم} النعمة فلم تقيدوها بالشكر لأنقصنكم ولأعذبنكم {إن عذابي} بإزالتها وغيرها {لشديد *} فخافوه، فالآية - كما ترى - من الاحتباك.
ولما كان من حث على شيء وأثاب عليه أو نهى عنه وعاقب على فعله يكون لغرض له، بين أن الله سبحانه متعال عن أن يلحقه ضر أو نفع، وأن ضر ذلك ونفعه خاص بالعبد فقال تعالى حاكياً عنه: {وقال موسى} مرهباً لهم معلماً أن وبال الكفران خاص بصاحبه {إن تكفروا} والكفر: تضييع حق النعمة بجحدها أو ما يقوم في العظم مقامه {أنتم ومن في الأرض} وأكد بقوله: {جميعاً} فضرره لاحق بكم خاصة غير عائد على الله شيء منه {فإن الله} أي الملك الأعظم {لغني} أي في ذاته وصفاته عن كل أحد، والغنى هنا المختص بما ينفي لحاق الضرر أو النقص، والمختص بأنه قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء، وذلك بنفسه لا بشيء سواه، ومن لم يكن كذلك لم يكن غنياً {حميد *} أي بليغ الاستحقاق للحمد بما له من عظيم النعم وبما له من صفات الكمال، وكل مخلوق يحمده بذاته وأفعاله وجميع أقواله كائنة ما كانت، لأن إيجاده لها ناطق(10/385)
بحمده سبحانه.
ذكر التأذن بذلك المذكر به من التوراة:
قال في السفر الخامس: واختاركم الله ربكم أن تكونوا له شعباً حبيباً من جميع الشعوب التي على وجه الأرض، وليس لأنكم أكثر من جميع الشعوب أحبكم الرب واختاركم، ولكن ليثبت الأيمان التي أقسم لآبائكم، لذلك أخرجكم الرب بيد منيعة، وأنقذكم من العبودية، وخلصكم من يدي فرعون ملك مصر، لتعلموا أن الله ربكم هو إله الحق، إله مهيمن يحفظ النعمة والعهد لأوليائه الذين يحفظون وصيته لألف حقب، ويكافىء شنأته في حياتهم ويجزيهم بالهلاك والتلف، احفظوا السنن والأحكام والوصايا التي آمركم بها اليوم فافعلوها يحفظ الله الرب العهد والنعمة التي أقسم لآبائكم، ويحبكم ويبارك عليكم ويكثركم، ويبارك في أولادكم وفي ثمرة أرضكم وفي بركم وخبزكم وزيتكم، وفي أقطاع بقركم وجفرات غنمكم، وتكونوا(10/386)
مباركين من جميع الشعوب، ولا يكون فيكم عاقر ولا عقيم ولا في بهائمكم، ويصرف الله عنكم كل وجع، وجميع الضربات التي أنزل الله بأهل مصر - كما تعلمون - لا ينزلها بكم بل ينزلها بجميع شنأتكم، وتأكلون جميع خيرات الشعوب التي يعطيكم الله ربكم، ولا تشفق أعينكم عليهم، ولا تعبدوا آلهتهم لأنهم فخاخ لكم، وإن قلتم في قلوبكم: إن هذه الشعوب أكثر منا فكيف نقدر أن نهلكها! فلا تفرقوا منها ولكن اذكروا جميع ما صنع الله ربكم بفرعون ملك مصر وكل أصحابه، والبلايا العظيمة التي رأيتم بأعينكم، والآيات والأعاجيب واليد المنيعة والذراع العظيمة، وكيف أخرجكم الله ربكم! كذلك يفعل الله ربكم بجميع الشعوب التي تخافونها.
ويسلط الله ربكم عليهم عاهات حتى يهلكهم، والذين يبقون ويختفون منكم لا تخافوهم لأن الله ربكم بينكم. الإله العظيم المرهوب، فيهلك الله ربكم هذه الشعوب من بين أيديكم رويداً رويداً، لأنكم لا تقوون أن تهلكوهم سريعاً لئلا يكثر السباع، ولكن(10/387)
يدفعهم الله ربكم إليكم وتضربونهم ضربة شديدة حتى تهلكوهم، ويدفع ملوكهم في أيديكم وتهلكون أسماءهم من تحت السماء، لا يقدر أحد أن يقوم بين أيديكم حتى تهلكوهم وتحرقوا آلهتهم المنحوتة بالنار، ولا تشتهوا الفضة والذهب الذي عليها وتأخذوه منها لئلا تتنجسوا بها، لأنها مرذولة عند الله ربكم، فلا تدخلوا نجاسة إلى بيوتكم لئلا تكونوا منفيين مثلها، ولكن أرذلوها ونجسوها وصيروها نفاية بخسة لأنها حرام. ثم قال: انظروا! إني أتلو عليكم دعاء ولعناً، أما الدعاء فتصيرون إليه إن أنتم حفظتم وصايا الله ربكم، وأما اللعن فيدرككم إن أنتم لم تسمعوا وصايا الله ربكم، وزغتم عن الطريق الذي أمركم به اليوم - وقد مضى كثير من أمثال هذا عن التوراة، ولا ريب في أن هذا الترغيب والترهيب والتذكير للتحذير كما أنه كان لبني إسرائيل، فهو لكل من سمعه من المكلفين.(10/388)
ولما حذرهم انتقام الله إن كفروا، ذكرهم أيامه في الأمم الماضية، وعين منهم الثلاثة الأولى لأنهم كانوا أشدهم أبداناً، وأكثرهم أعواناً، وأقواهم آثاراً، وأطولهم أعماراً، لأن البطش إذا برز إلى الوجود كان أهول، لأن النفس للمحسوس أقبل، فقال دالاً على ما أرشدهم إليه من غناه سبحانه وحمده مخوفاً لهم من سطوات الله سبحانه: {ألم يأتكم} أي يا بني إسرائيل {نبأ الذين} ولما كان المراد قوماً مخصوصين لم يستغرقوا الزمان قال: {من قبلكم} ثم أبدل منهم فقال: {قوم} أي نبأ قوم {نوح} وكانوا ملء الأرض {و} نبأ {عاد} وكانوا أشد الناس أبداناً وأثبتهم جناناً {و} نبأ {ثمود} وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور {و} نبأ {الذين} ولما كان المراد البعض، أدخل الجار فقال: {من بعدهم} أي في الزمن حال كونهم في الكثرة بحيث {لا يعلمهم} أي حق العلم على التفصيل {إلا الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة، كفروا فأهلكهم الله ولم يزل غنياً حميداً عند أخذهم وبعده كما كان قبله، وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون.
ثم فصل سبحانه خبرهم، فقال - جواباً لمن كأنه قال: ما كان(10/389)
نبأهم؟ {جاءتهم رسلهم بالبينات} وترك عطفه لشدة التباسه بالمستفهم عنه {فردوا} أي الأمم عقب مجيء الرسل من غير تأمل جامعين في تكذيبهم بين الفعل والقول {أيديهم في أفواههم} وهو أشارة إلى السكوت عن ذلك والتسكيت، كأنه لا يليق أن يتفوه ولو على سبيل الرد؛ قال الرازي في اللوامع: حكى أبو عبيد: كلمته في حاجتي فرد يده في فيه - إذا سكت ولم يجب. {و} بعد أن فعلوا ذلك لهذه الأغراض الفاسدة {قالوا} أي الأمم {إنا كفرنا} أي غطينا مرائي عقولنا مستهينين {بما} ولما كان رد الرسالة جامعاً للكفر، وكانوا غير مسلّمين أن المرسل لهم هو الله، بنوا للمفعول قولهم: {أرسلتم به} أي لأنكم لم تأتونا بما يوجب الظن فضلاً عن القطع، فلذا لا يحتاج رده إلى تأمل.
ولما كان ما أتى به الرسل يوجب القطع بما يعلمه كل أحد، فكانوا بما قالوه في مظنة الإنكار، أكدوا: {وإنا لفي شك} أي محيط بنا، وهو وقوف بين الضدين من غير ترجيح أحدهما، يتعاقب(10/390)
على حال الذكر ويضاد العلم والجهل.
ولما كان الدعاء مسنداً إلى جماعة الرسل، أثبت نون الرفع مع ضمير المتكلمين بخلاف ما مضى في هود، فقالوا {مما} أي شيء {تدعوننا} أيها الرسل {إليه} أي من الدين {مريب} أي موجب للتهمة وموقع في الشك والاضطراب والفزع، من أراب الرجل: صار ذا ريبة أي قلق وتزلزل.(10/391)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
ولما كان سامع هذا الكلام يشتد تشوفه إلى جوابه، وكان أصل الدعوة في كل ملة التوحيد، وكان الشاك فيه شاكاً في الله، وكان أمر الله من الظهور بحيث لا يشك فيه عاقل حكّم عقله مجرداً عن الهوى، ساغ الإنكار وإيراد الكلام على تقدير سؤال معرى من التقييد مبهم في قوله: {* قالت رسلهم} ولما كان ما شكوا فيه من الظهور بحيث لا يتطرق إليه ريب، أنكروا أن يكون فيه شك، لأن ذلك يتضمن إنكار شكهم وشك غيرهم فقالوا: {أفي الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {شك} .
ولما كان الجواب عاماً لا يخص ناساً دون ناس، لم يأت بصلة(10/391)
فقال بخلاف قوله: {إن نحن إلا بشر} ثم نبهوهم بالمصنوع على مقصود الدعوة من وجود الصانع وتفرده وظهوره في قولهم: {فاطر السماوات} ولما كان المقام لادعاء أنه في غاية الظهور، لم يحتج إلى تأكيد بإعادة العامل، فقال: {والأرض} أي على هذا المثال البديع والنمط الغريب المنتظم الأحوال، الجميل العوائد، والمتسق الفصول؛ فلما أوضحوا لهم الأدلة على وحدانيته بينوا لهم بأن ثمرة الدعوة خاصة بهم، إنه لا يأباها من له أدنى بصيرة، فقالوا: {يدعوكم} أي على ألسنتنا {ليغفر لكم} .
ولما كان الكافر إنما يدعى أولاً إلى الإيمان، وكان الإيمان إنما يجب ما كان قبله من الذنوب التي معهم بينهم وبينه دون المظالم، قال: {من ذنوبكم} ولو عم بالغفران لأفهم ذلك أنهم لا يدعون بعد الإيمان إلى عمل أصلاً {و} لا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة بالإهلاك لمن خالفهم، بل {يؤخركم} وإن أخطأتم أو تعمدتم وتبتم {إلى أجل مسمى} عنده سبق علمه به، وهو آجالكم على حسب التفريق، ولا يستأصلكم بالعذاب في(10/392)
آن واحد كما فعل بمن ذكر من الأمم.
فلما بين لهم الأصيل بدليله فروع عليه ما لا ريب فيه في قصر نفعه عليهم، علموا أنه لا يتهيأ لهم عن ذلك جواب فأعرضوا عنه إلى أن {قالوا} عناداً {إن} أي ما {أنتم} أي أيها الرسل {إلا بشر} وأكدوا ما أرادوا من نفي الاختصاص فقالوا: {مثلنا} يريدون: فما وجه تخصيصكم بالرسالة دوننا؟ ثم كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ فقالوا: {تريدون أن تصدونا} أي تلفتونا وتصرفونا {عما كان} أي كوناً هو كالجبلة، وأكدوا هذا المعنى للتذكير بالحال الماضية بالمضارع فقالوا: {يعبد آباؤنا} أي أنكم - لكونكم من البشر الذين يقع بينهم التحاسد - حسدتمونا على اتباع الآباء وقصدتم تركنا له لنكون لكم تبعاً {فأتونا} أي فتسبب - عن كوننا لم نر لكم فضلاً وإبدائنا من إرادتكم ما يصلح أن يكون مانعاً - أن نقول لكم: ائتونا لنتيعكم {بسلطان مبين *} أي حجة واضحة تلجئنا إلى تصديقكم مما نقترحه عليكم، وهذا تعنت محض فإنهم جديرون(10/393)
بأن يعرضوا عن كل سلطان يأتونهم به كائناً ما كان كما ألغوا ما أتوا هم به من البينات فلم يعتدوا به، فكأنه قيل: فما كان جواب الرسل؟ فقيل: {قالت} .
ولما أرادوا تخصيصهم برد ما قالوا، قيد بقوله: {لهم رسلهم} مسلمين أول كلامهم غير فاعلين فعلهم في الحيدة عن الجواب {إن} أي ما {نحن إلا بشر مثلكم} ما لنا عليكم فضل بما يقتضيه ذواتنا غير أن التماثل في البشرية لا يمنع اختصاص بعض البشر عن بعض بفضائل؛ والمثل: ما يسد مسد غيره حتى لو شاهده مشاهد ثم شاهد الآخر لم يقع فصل {ولكن الله} أي الذي له الأمر كله فضلنا عليكم لأنه {يمن على من يشاء} أي أن يمن عليه {من عباده} رحمة منه له، بأن يفضله على أمثاله بما يقسمه له من المزايا كما أنتم به عارفون، فلم يصرحوا بما تميزوا به من وصف النبوة، ولم يخصوا أنفسهم بمنّ الله بل أدرجوها في عموم من شاء الله، كل ذلك تواضعاً منهم واعترافاً بالعبودية؛ والمن: نفع يقطع به عن بؤس، وأصله القطع، ومنه {غير منون} ، والمنة قاطعة عن الدنيا.(10/394)
ولما بينوا وجه المفارقة، عطفوا عليه بيان العذر فيما طلبوه منهم فقالوا: {وما} أي فما كان لنا أن نتفضل عليكم بشيء من الأشياء لم يؤذن لنا فيه، وما {كان} أي صح واستقام {لنا أن نأتيكم بسلطان} مما تقترحونه تعنتاً، وهو البرهان الذي يتسلط به على إبطال مذهب المخالف للحق غير المعجزة التي يثبت بها النبوة {إلا بإذن الله} أي بإطلاق الملك الأعظم وتسويفه، فنحن نتوكل على الله في أمركم إن أذن لنا في الإتيان بسلطان أو لم يأذن وافقتم أو خالفتم {وعلى الله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه وحده {فليتوكل} أي بأمر حتم {المؤمنون *} فكيف بالأنبياء؛ ثم بينوا سبب وجوب التوكل بقولهم: {وما} أي وأي شيء {لنا} في {ألاّ نتوكل على الله} أي ذي الجلال والإكرام {و} الحال أنه {قد هدانا سبلنا} فبين لنا كل ما نأتي وما نذر، فلا محيص لنا عن شيء من ذلك، فلنفعلن جميع أوامره، ولننتهين عن جميع مناهيه {ولنصبرن} أكدوا لإنكار أن يصبر الرسول - مع وحدته - على أذاهم مع كثرتهم وقوتهم {على ما} وعبر بالماضي إشارة إلى أنهم عفوا عن أذاهم(10/395)
في الماضي فلا يجازونهم به، فهو استجلاب إلى توبة أولئك المؤذين، وعدلوا عن المضارع لأنهم ينتظرون أمر الله في الاستقبال فقد يأمرهم بالصبر، فقال: {آذيتمونا} أي في ذلك الذي أمرنا به كائناً فيه ما كان لأنا توكلنا على الله ونحن لا نتهمه في قضائه {وعلى الله} أي الذي له جميع صفات الكمال وحده {فليتوكل المتوكلون *} الذين علموا من أنفسهم العجز سواء كانوا مؤمنين أو لا، فوكلوا أمراً من أمورهم إلى غيرهم ليكفيهم إياه، فإنه محيط العلم كامل القدرة، وكل من عداه عاجز، والصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات المطلق من الكرب، والحق لا بد وأن يصير غالباً قاهراً، والباطل لا بد وأن يصير مغلوباً مقهوراً وإن طال الابتلاء.(10/396)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
ولما انقضت هذه المحاورة وقد علم منها كل منصف ما عليه الرسل من الحلم والعلم والحكمة، وما عليه مخالفهم من الضلال والجهل والعناد، وكان في الكلام ما ربما أشعر بانقضائه، ابتدأ تعالى عنهم(10/396)
محاورة أخرى، عاطفاً لها على ما مضى، فقال: {وقال الذين كفروا لرسلهم} مستهينين بمن قصروا التجاءهم عليه، مؤكدين لاستشعارهم بإنكار من رأى مدافعة الله عن أوليائه لقولهم: والذي يحلف به! ليكونن أحد الأمرين: {لنخرجنكم من أرضنا} أي التي لنا الآن الغلبة عليها {أو لتعودن في ملتنا} بأن تكفوا عن معارضتنا كما كنتم دعوى الرسالة، فإطلاق ملتهم على السكوت عنهم من إطلاق اسم الكل على الجزء على زعمهم مثل {جعلوا أصابعهم في آذانهم} [نوح: 7] وهو مجاز مرسل، فصبروا على ذلك كما أخبروا به توكلاً على ربهم واستمروا على نصيحتهم لهم بدعائهم إلى الله {فأوحى إليهم} أي كلمهم في خفاء بسبب توعد أممهم لهم، مختصاً لهم بذلك {ربهم} المحسن إليهم الذي توكلوا عليه، تسكيناً لقلوبهم وتسلية لنفوسهم، وأكد لما - لمن ينظر كثرة الكفار وقوتهم - من التوقف في مضمون الخبر ولا سيما إن كان كافراً، قائلاً: {لنهلكن} بما لنا من العظمة المقتضية لنفوذ الأمر؛ والإهلاك: إذهاب الشيء إلى حيث لا يقع عليه الإحساس {الظالمين *} أي العريقين في الظلم، وربما تبنا على بعض(10/397)
من أخبرنا عنه بأنه كفر، وهو من لم يكن عريقاً في كفره الذي هو أظلم الظلم {ولنسكننكم} أي دونهم {الأرض} أي مطلقها وخصوص أرضهم، وأشار إلى عدم الخلود بالجار فقال: {من بعدهم} بأن نورثكموها سواء قدرناهم على إخراجكم أم لا، فكأنه قيل: هل ذلك خاص بهم؟ فقيل: لا، بل {ذلك} أي الأمر العالي المرام {لمن خاف مقامي} أي المكان الذي يقوم فيه من أحاسبه: ماذا تكون عاقبته فيه، وهو أبلغ من: خافني، {وخاف وعيد *} لا بد أن أهلك ظالمه وأسكنه أرضه بعده، فاستبشروا بذلك الوعد من الله تعالى {واستفتحوا} على أعدائهم فأفلحوا وأنجحوا {وخاب كل جبار عنيد} فأهلكناهم كلهم، وكان لنا الغنى والحمد بعد إهلاكهم كما كان قبله؛ والعناد: الامتناع من الحق مع العلم به كبراً وبغياً، من عند عن الحق عنوداً، والجبرية: طلب علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة، فهو ذم للعبد من حيث إنه طالب ما ليس له؛ ثم أتبعه ما هو كدليل على خيبته من أن سيره إلى ما أمامه من العذاب، فهو واقع فيه لا محالة وهو لا يشعر،(10/398)
وعبر عن غفلته عنه بقوله: {من ورائه جهنم} أي لا بد أنه يتبوأها.
ولما كان المرجع وجود السقي للصديد مطلقاً، بني للمفعول قوله: {ويسقى} أي فيها {من ماء صديد} وهو غسالة أهل النار كقيحهم ودمائهم {يتجرعه} أي يتكلف بلعه شيئاً فشيئاً لمرارته وحرارته، فيغص به ويلقى منه من الشدة ما لا يعلم قدره إلا الله {ولا يكاد يسيغه} ولا يقرب من إساغته، فإن الإساغة جر الشيء في الحلق على تقبل النفس {ويأتيه الموت} أي أسبابه التي لو جاءه سبب منها في الدنيا لمات {من كل مكان} والمكان: جوهر مهيأ للاستقرار، فهو كناية عن أنه يحصل له من الشدائد ما يميت من قضى بموته {وما هو بميت} أي بثابت له الموت أصلاً.
لأنا قضينا بدوام حياته زيادة في عذابه، والموت: عرض يضاد الإدراك في البنية الحيوانية {ومن ورائه} أي هذا الشخص، بعد ذلك في يوم الجزاء الذي لا بد منه، وما خلقنا السماوات والأرض إلا من أجله {عذاب غليظ *} يأخذه في ذلك اليوم - مع ما قدمته له في الدنيا - وهو غافل عنه(10/399)
أخذ ما يكون من وراء، فيكون أشد كما هو الحال الآتي بغتة، أو يكون المعنى أن من بعد هذا العذاب في جهنم عذاباً آخر، لا تحتمل عقولكم وصفه بأكثر من الغلظ. فلما فرغ من محاوراتهم، وما تبعها مما بين فيه أنه لا يغنيهم من بطشه شيء، ضرب لهم في ذلك مثلاً فقال: {مثل} وهو مستعار هنا للصفة التي فيها غرابة {الذين كفروا} مستهينين {بربهم} مثل من قصد أمراً ثم لم ينظر لنفسه في السلوك إليه بل اغتر بمن جار به عن الطريق، فأبعد كل البعد حتى وصل إلى شعاب لا يمكن فيها المقام، ولا يتأتى منها الرجوع فهلك ضياعاً.
ولما كان الفرق بين الإنسان والعدم إنما هو بالعمل، ذكر ما علم منه أن المثل لأعمالهم على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما مثلهم؟ فقال: {أعمالهم} أي المكارم التي كانوا يعملونها في الدنيا من الصلة والعتق وفداء الأسرى والجود ونحو ذلك، في يوم الجزاء، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانياً - كما قال الحوفي وابن عطية. وهو وخبره خبر المبتدأ الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأنه نفس المثل الذي معناه الصفة {كرماد} وهو ما سحقه الاحتراق سحق الغبار(10/400)
{اشتدت به الريح} أي أسرعت بالحركة على عظم القوة؛ والريح: جسم رقيق مثبت في الجو من شأنه الهبوب، والرياح خمس: شمال وجنوب وصباً ودبور ونكباء {في يوم عاصف} أي شديد الريح، فأطارته في كل صوب، فصاروا بحيث {لا يقدرون} أي يوم الجزاء؛ ولما كان الأمر هنا متمحصاً للأعمال، قدم قوله: {مما كسبوا} في الدنيا من أعمالهم في ذلك اليوم {على شيء} بل ذهب هباء منثوراً لبنائه على غير أساس، فثبت بمقتضى ذلك أن الذين كفروا بربهم واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في ضلال بعيد، بل {ذلك} أي الأمر الشديد الشناعة {هو} أي خاصة {الضلال البعيد *} الذي لا يقدر صاحبه على تداركه.(10/401)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
ولما ذكر الآخرة في أول السورة، ذكر ما هو ثابت لا نزاع فيه، ثم جرّ الكلام إليه هنا على هذا الوجه الغريب، وأتبعه مثل أعمال الكفار في الآخرة، أتبع ذلك الدليل عليه وعلى أنه لا يسوغ في الحكمة في أعمال الضلال إلا الإبطال فقال: {ألم تر أن الله} أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة {خلق السماوات} على عظمها وارتفاعها {والأرض} على تباعد(10/401)
أقطارها واتساعها {بالحق} بالأمر الثابت من وضع كل شيء منها في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة لا بالخيال والتمويه كالسحر، ومن المعلوم أنهما ظرف، ولا يكون المظروف الذي هو المقصود بالذات إلا مثل ظرفه أو أعلى منه، فكيف يظن أنه يخلق شيئاً فيهما سدى بأن يكون باطلاً فلا يبطله، أو حقاً فلا يحقه، أم كيف يتوهم أنه - مع القدرة على إخراجهما من العدم وهما أكبر خلقاً وأعظم شأناً - لا يقدر على إعادة من فيهما وهم أضعف أمراً وأصغر قدراً، أو خلقهما بسبب الحق وهو إعادة الناس إعادة يثبتون بها ويبقون بقاء لا فناء بعده، فتسبب عن ذلك أنه عظيم القدرة، فهو بحيث {أن يشأ يذهبكم} أي بنوع من أنواع الإذهاب: الموت أو غيره {ويأت بخلق جديد} غيركم أو يأت بكم بعد أن فنيتم بحيث تعودون - كما أنتم - خلقاً جديداً؛ والجديد: المقطوع عنه العمل في الابتداء، وأصله القطع، فالجد أب الأب، انقطع عن الولادة بالأب، والجد ضد الهزل، يقطع به المسافة حساً أو معنى {وما ذلك} الإذهاب(10/402)
والإتيان على عظمه {على الله} أي الملك الأعلى {بعزيز *} وهو الممتنع بوجه من وجوه الامتناع لأنه ليس مثل خلق السماوات والأرض فضلاً عن أن يكون أعظم منه، فلا وجه لقولكم {هل ندلكم على رجل ينبئكم} [سبأ: 7] ، الآية لأن من قدر على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فثبت بهذا إبعادهم في الضلال الموجب لهلاك أعمالهم - التي هي أسبابهم - الموجب لهلاكهم.
ولما ثبت بهذا البرهان قدرته على الإعادة بعد الموت، عطف على قوله: {لا يقدرون مما كسبوا على شيء} [إبراهيم: 18] قوله - بياناً لهو أن البعث عنده وسهولته عليه -: {وبرزوا} أي في ذلك اليوم، عبر بصيغة المضي الذي وجد وتحقق، لأن أخبار الملوك يجب تحققها لقدرتهم وغناهم عن الكذب، فكيف بملك الملوك! وفيه من هز النفس وروعتها ما ليس في العبارة بالمضارع لمن تأمل المعنى حق التأمل {لله} أي الملك الأعظم {جميعاً} فكانوا بحيث لا يخفى منهم خافية على ما هو متعارفهم، لأنه لا ساتر لهم، فإن البروز خروج لشيء عما كان ملتبساً به إلى حيث يقع عليه الحس في نفسه، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون من العذاب، فتقطعت بهم الأسباب {فقال الضعفاء} أي الأتباع(10/403)
من أهل الضلال بسبب علمهم أنهم في القبضة لا ملجأ لهم، تبكيتاً لرؤسائهم وتوبيخاً، تصديقاً لقوله تعالى:
{الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف: 67] {للذين استكبروا} أي طلبوا الكبر وادعوه فاستتبعوهم به حتى تكبروا على الرسل وأتباعهم ولم يكن لهم ذلك. {إنا كنا} أي كوناً هو كالجبلة {لكم تبعاً} أي تابعين أو ذوي تبع فكنتم سبب ضلالنا، وقد جرت عادة الأكابر بالدفع عن أتباعهم المساعدين لهم على أباطيلهم {فهل أنتم مغنون} أي دافعون {عنا من عذاب الله} أي الذي له العظمة كلها فلا يطاق انتقامه، وأبلغوا بعد التبعيض ب «من» الأولى في التقليل، فقالوا: {من شيء} كأن العذاب كان محتاجاً إلى أخذهم فأغنوه بشيء غيرهم حتى يجاوزهم لو دفعوه عنهم، فكأنه قيل: إن ذلك لعادة الرؤساء، فماذا قالوا؟ فقيل: {قالوا} علماً منهم بأنه لا طاقة لهم على نوع من أنواع التصرف: لا نغني عنكم شيئاً، بل كل مجزي بما فعل، علينا إثم ضلالنا في أنفسنا وإضلالنا لكم، وعليكم ضلالكم وذبكم عنا وتقويتكم لجانبنا حتى استكبرنا(10/404)
فاستغرقنا في الضلال، ولو أن الله هداكم حتى تبعتم الأدلة التي سمعتموها كما سمعناها وتركتمونا، لكسر ذلك من شدتنا وأوهى من شوكتنا، فكان ربما يكون سبباً لهدايتنا كما أنه {لو هدانا الله} أي المستجمع لصفات الكمال {لهديناكم} فكان يكون لنا جزاء اهتدائنا وهدايتنا لكم، ولكم جزاء اهتدائكم وتقويتكم لنا على ذلك، ولكنه لم يهدنا فضللنا وكنتم لنا تبعاً فأضللناكم.
ولما كان الموجب لقولهم هذا الجزع، قالوا: {سواء علينا} أي نحن وأنتم {أجزعنا} والجزع: انزعاج النفس بورود ما يغم {أم صبرنا} لا فائدة لنا في واحد منهما لأن الأمر أطم من ذلك فإنه {ما لنا من محيص} يصلح للمصدر والزمان والمكان، أي محيد وزوال عن المكروه على كلا التقديرين، فلم يبق في الجزاء إلا زيادة العذاب بسوء القالة وانتشار السبة، وهذا الاستفهام ليس على بابه، بل المراد به التنبيه على أنه حالهم مما ينبغي السؤال عنه وترديد الأمر فيه لينتهي عن مثله.(10/405)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
ولما كان الشيطان أعظم المستكبرين، خص بالإفراد بالجواب فقيل: {وقال} أول المتبوعين في الضلال {الشيطان} الذي هو رأس المضلين المستكبرين المقضي ببعده واحتراقه {لما قضي الأمر} بتعين قوم للجنة وقوم للنار، جواباً لقول الأتباع مذعناً حيث لا ينفع الإذعان، ومؤمناً حيث فات نفع الإيمان: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {وعدكم وعد الحق} بأن أرسل إليكم رسلاً وأنزل معهم براهين وكتباً أخبركم فيها بأنه ربكم الواحد القهار، ودعاكم إليه بعد أن أخابتكم الشياطين، وبشر من أجاب، وحذر من أبى، بما هو قادر أتم القدرة، فكل ما قاله طابقه الواقع - كما ترون - فصدقكم فيه ووفى لكم {ووعدتكم} أنا بما زينت لكم به المعاصي من الوساوس وعد الباطل {فأخلفتكم} فلم أقل شيئاً إلا كان زيغاً، فاتبعتموني مع كوني عدوكم، وتركتم ربكم وهو ربكم ووليكم؛ فالآية من الاحتباك: ذكر {وعد الحق} أولاً دليلاً على حذف ضده(10/406)
ثانياً، و {أخلفتكم} ثانياً دليلاً على حذف «صدقكم» أولاً.
ولما بين غروره، بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال: {وما كان} لي إليكم في ذلك من ذنب لأنه ما كان {لي عليكم} وأبلغ في النفي فقال: {من سلطان} أي تسلط كبير أو صغير بشيء من الأشياء {إلا أن} أي بأن {دعوتكم} بالوسوسة التي كانت سبباً لتقوية دواعيكم إلى الشر {فاستجبتم} أي أوجدتم الإجابة إيجاد من هو طالب لها، راغب فيها {لي} محكمين الشهوات، معرضين عن مناهيج العقول ودعاء النصحاء، ولو حكمتم عقولكم لتبعتم الهداة لما في سبيلهم من النور الداعي إليها وما في سبل غيرهم من الظلام السادّ لها، والمهالك الزاجرة عنها دنيا وأخرى، وساقه على صورة الاستثناء - وإن لم يكن دعاءه من السلطان في شيء - لأن السلطان أخص من البرهان إذ معناه برهان يتسلط به على إبطال مذهب الخصم إشارة إلى أنهم تبعوه ولا قدرة له على غير هذا الدعاء الذي لا سلطان فيه، وتركوا دعاء من أنزل إليهم من كل سلطان مبين، مع تهديدهم بما هو قادر على عليه وضربهم ببعضه، وفاعل مثل ذلك لا لوم له على غير نفسه {فلا} أي فاذ قد تقرر هذا تسبب عنه أني(10/407)
أقول لكم: لا {تلوموني ولوموا أنفسكم} لأنكم مؤاخذون بكسبكم، لأنه كانت لكم قدرة واختيار فاخترتم الشر على الخير، وعلم منه قطعاً أن كلاًّ منا مشغول عن صاحبه بما جزي به، فعلم أني {ما أنا بمصرخكم} أي بمغيثكم فيما يخصكم من العذاب، فآتيكم بما يزيل صراخكم منه {وما أنتم بمصرخي} فيما يخصني منه لتقطع الأسباب، بما دهى من العذاب، ثم علل ذلك بقوله: {إني كفرت} مستهيناً {بما أشركتمون} أي باتخاذكم لي شريكاً مع الله.
ولما كان إشراكهم لم يستغرق الزمان، أتى بالجار فقال: {من قبل} لأن ذلك ظلم عظيم، ثم علل هذه العلة بقوله: {إن الظالمين} أي العريقين في هذا الوصف {لهم عذاب أليم *} مكتوب لكم منهم مقداره، لا يغني أحد منهم عن الآخر شيئاً، بل كل مقصور على ما قدر له، وحكاية هذه المحاورة لتنبيه السامعين على النظر في العواقب والاستعداد لذلك اليوم قبل أن لا يكون إلا الندم وقرع السن وعض اليد.
ولما ذكر الظالمين. أتبعه ذكر المؤمنين، فقال بانياً للمفعول لأن الدخول هو المقصود بالذات: {وأدخل} والإدخال: النقل إلى(10/408)
محيط - هذا أصله {الذين آمنوا} أي أوجدوا الإيمان {وعملوا الصالحات} أي تصديقاً لدعواهم الإيمان {جنات تجري} وبين أن الماء غير عام لجميع أرضها بإدخال الجار فقال: {من تحتها الأنهار} فهي لا تزال ريّاً، لا يسقط ورقها ولا ثمرها فداخلها لا يبغي بها بدلاً {خالدين فيها} .
ولما كانت الإقامة لا تطيب إلا بإذن المالك قال: {بإذن ربهم} الذي أذن لهم - بتربيته وأحسانه - في الخروج من الظلمات إلى النور، وقرىء «وأدخل» على التكلم فيكون عدل عن أن يقول «بإذني» إلى {بإذن ربهم} للإعلام بالصفة المقتضية للرحمة كما قال تعالى {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك} [الكوثر: 1] ولم يقل: لنا - سواء، ومن شكله {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله} [الفتح: 1] فلا تنبغي المسارعة إلى إنكار شي يمكن توجيهه، بل يتعين إمعان النظر، فإن الأمر كما قال الإمام أبو الفتح بن جني في كتابه المحتسب في توجيه {لما يهبط من خشية الله} [البقرة: 74](10/409)
أن كلام العرب لمن عرفه - ومن الذي يعرفه؟ - ألطف من السحر، وأنقى ساحى من مشوف الفكر، وأشد تساقطاً بعضاً على بعض، وأمسّ تسانداً نفلاً إلى فرض {تحيتهم} أي فيما بينهم وتحية الملائكة لهم؛ والتحية: التلقي بالكرامة في المخاطبة، فهي إظهار شرف المخاطب {فيها سلام *} أي عافية وسلامة وبقاء، وقول من كل منهم للآخر: أدام الله سلامتك، ونحو هذا من الإخبار بدوام العافية، كما أن حال أهل الباطل في النار عطب وآلام.(10/410)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
ولما تقرر بما مضى أن الحق ما قاله الله أو فعله أو أذن فيه، وأن الباطل ما كان على غير أمره مما ينسب إلى الشيطان أو غيره من قول أو فعل، وأنه لا يصلح في الحكمة أن ينفي الحق ولا أن يبقى الباطل {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} [يونس: 81] ، {ويحق الله الحق بكلماته} ، {ليحق الحق ويبطل الباطل} [الأنفال: 8] ، وقص سبحانه كلام أوليائه الذي هو من كلامه، فهو أثبت الأشياء وأطيبها وأعظمها ثمرة،(10/410)
وكلام أعدائه الذي هو من كلام الشيطان، فهو أبطل الأشياء وأخبثها، قرب سبحانه ذلك بمثل يتعارفه المخاطبون فقال: {ألم تر} أي يا من لا يفهم عنا هذا المثل حق الفهم سواه! {كيف ضرب الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {مثلاً} أي سيره بحيث يعم نفعه؛ والمثل: قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأول؛ ثم بينه بقوله: {كلمة طيبة} أي جمعت أنواع الكرم فليس فيها شيء من الخبث، وتلك الكلمة {كشجرة طيبة} .
ولما كانت لا تسر إلا بالثبات، قال: {أصلها ثابت} أي راسخ في الأرض آمن من الاجتثاث بالرياح ونحوها {وفرعها} عالٍ صاعد مهتز {في} جهة {السماء *} لحسن منبتها وطيب عنصرها؛ فالآية من الاحتباك: ذكر «ثابت» أولاً دال على عال صاعد ثانياً، وذكر «السماء» ثانياً دال على الأرض أولاً.
ولما ذكر حالها، ذكر ثمرتها فقال: {تؤتي أكلها} أي ثمرتها بحسن أرضها ودوام ريّها {كل حين} على أحسن ما يكون من الإيتاء، لأن علوها منعها من عفونات الأرض وقاذورات الأبنية،(10/411)
فكانت ثمرتها نقية من شوائب الأدناس.
ولما كان الشيء لا يكمل إلا بكمال مربيه قال: {بإذن ربها} فهي بحيث لا يستجيز عاقل أن يتسبب في إفسادها، ومن سعى في ذلك منعه أهل العقول ولو وصلوا إلى بذل النفوس؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها [. . . .] ، تؤتي أكلها كل حين، قال ابن عمر رضي الله عنهما: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هي النخلة، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه! والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك أن تكلم؟ قال: لم أركم تكلمون فكرهت أن أتكلم، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا» .
ثم نبه سبحانه على عظم هذا المثل ليقبل على تدبره ليعلم المراد(10/412)
منه فيلزم، فقال: {ويضرب الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {الأمثال للناس} أي الذين يحتاجون إلى ذلك لاضطراب آرائهم، لأن في ضربها زيادة إفهام وتصوير للمعاني، لأن المعاني الصرفة إذا ذكر مناسبها من المحسوسات ارتسمت في الحس والخيال والوهم، وتصورت فتركت هذه القوى المنازعة فيها، فيحصل الفهم التام والوصول إلى المطلوب {لعلهم يتذكرون *} أي ليكون حالهم حال من يرجى له غاية التذكر - بما أشار إليه الإظهار، فهذا مثل كلام الأولياء، فكلمتهم الطيبة كلمة التوحيد التي لا أطيب منها، وهي أصل كل سعادة راسخة في قلوبهم، معرقة في كل عرق منهم أوجب إعراقها أن بسقت فروعها التي هي الأعمال الدينية من أعمال القلوب والجوارح، فصارت كلما هزت اجتنى الهازّ ثمراتها التي لا نهاية لها، عالماً بأنها من فتح مولاه لا صنع له فيها بوجه، بل له سبحانه المن عليه في جميع ذلك وكما أن الشجر لا تتم إلا بعرق راسخ وأصل قائم وفروع عالية، فكذلك الإيمان لا يتم إلا بمعرفة القلب وقول اللسان وعمل الأركان، ثم أتبعه مثل حال الأعداء فقال: {ومثل كلمة خبيثة} أي(10/413)
عريقة في الخبث لا طيب فيها {كشجرة خبيثة} .
ولما كان من أنفع الأمور إعدامها والراحة من وجودها على أيّ حالة كانت، بنى للمفعول قوله: {اجتثت} أي استؤصلت بقلع جثتها من أصلها {من فوق الأرض} برأي كل من له رأي؛ ثم علل ذلك لقوله: {ما لها} وأعرق في النفي بقوله: {من قرار *} أي عند من له أدنى لب، لأنه لا نفع لها بل وجودها ضار ولو بشغل الأرض، فكذلك الكلمة الخبيثة الباطلة لا بقاء لها أصلاً وإن علت وقتاً، لأن حجتها داحضة فجنودها منهزمة.(10/414)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
فلما برز الكلام إلى هذين المثالين، حصل التعجب ممن يترك ممثول الأول ويفعل ممثول الثاني، فوقع التنبيه على أن ذلك بفعل القاهر، فقال تعالى - جواباً لمن كأنه قال: إن هذا الصريح الحق، ثم إنا نجد النفوس مائلة إلى الضلال، وطائشة في أرجاء المحال، فكيف لنا بالامتثال؟ {يثبت الله} أي الذي له الجلال والجمال {الذين آمنوا}(10/414)
أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أقل درجاتها {بالقول الثابت} أي الذي هو متابعة الدليل {في الحياة الدنيا} بمثل ما تقدم من محاولات أنبيائه {وفي الآخرة} ويهديهم عند كل سؤال إلى أحسن الأقوال حيث تطيش العقول وتدهش الأفكار لشدة الأهوال {ويضل الله} أي الذي له الأمر كله {الظالمين} أي العريقين في الظلم، ويزلزلهم لتقلبهم في الظلمات التي من شأن صاحبها الضلال والخبط، فيفعلون ما لا يرضاه عاقل، فالآية من الاحتباك: ذكر الثبات أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والإضلال ثانياً دليلاً على الهدى أولاً {ويفعل الله} أي الذي له الأمر كله، فلا يسأل عما يفعل {ما يشاء} لأن الكل بحكمه وقضائه وهو القادر القاهر، فلا يتعجب من شيء، وفي هذا إرشاد إلى الإقبال عليه وإلقاء أزمّة الافتقار إليه؛ روى البخاري في التفسير وغيره ومسلم في أواخر صفة الجنة والنار عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله» ، فذلك قوله تعالى {يثبت الله} الآية.
ولما أخبر سبحانه أنه هو الفاعل وحده، أتبعه الدليل عليه إضلال الذين بدلوا الكلمة الطيبة من التوحيد بالإشراك وزلزلتهم واجتثاث كلمتهم فقال: {ألم تر} وأشار إلى بعدهم عن مقامه صلى الله عليه(10/415)
وعلى آله وسلم بقوله: {إلى الذين بدلوا} والتبديل: جعل الشيء مكان غيره {نعمت الله} أي المستجمع لصفات الكمال التي أسبغها عليهم من كلمة التوحيد، وما أورثهم من دين أبيهم إسماعيل عليه السلام ومن جميع النعم الدنيوية من أمن البلد وتيسير الرزق وغير ذلك، بأن جعلوا مكان شكرها {كفراً} وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان، وأعلاهم همماً في الوفاء، وأبعدهم عن الخناء {وأحلوا قومهم} بذلك {دار البوار *} أي الهلاك، مع ادعائهم أنهم أذب الناس عن الجار فضلاً عن الأهل، روى البخاري في التفسير أنهم كفار أهل مكة. والبوار: الهلاك الزائد، والإحلال: جعل الشيء في محل، فإن كان جوهراً فهو إحلال مجاورة. وإن كان عرضاً فهو إحلال مداخلة.
ولما أفاد أنها مهلكة، بينها بما يفهم أنها تلقاهم بالعبوسة كما كانوا يلقون أولياء الله من الرسل وغيرهم بذلك فقال: {جهنم} حال كونهم {يصلونها} أي يباشرون حرها مع انغماسهم فيها بانعطافها عليهم؛ ولما كان التقدير: فبئس الإحلال أحلوه أنفسهم وقومهم، عطف عليه قوله:(10/416)
{وبئس القرار *} ذلك المحل الذي أحلوهم به.(10/417)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
ولما كان هذا الفعل من لا عقل له، بينه بقوله: {وجعلوا لله} الذي يعلمون أنه لا شريك له في خلقهم ولا في رزقهم لان له الكمال كله {أنداداً} وقال: {ليضلوا} أي بأنفسهم على قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ويعموا غيرهم على قراءة الباقين {عن سبيله} لأنهم إن كانوا عقلاء فإنهم يعلمون أن هذا لازم لفعلهم فهم قاصدون له، وإلا فلا عقول لهم، لأنه لا يقدم على ما لا يعلم عاقبته إلا أبله، وهم يقولون: إنهم أبصر الناس قوباً، وأصفاهم عقولاً. وأنفذهم أفكاراً، وأمتنهم آراء، فمن ألزم منهم بطريق النجاة ومن أحذر منهم لطرق الهلاك؟ مع ما أوقعوا أنفسهم فيه من هذا الداء العضال.
ولما تقرر أنهم على الضد من جميع ما يدعونه فكانوا بذلك أهلاً للإعراض عنهم، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمعرض أن يقول: فماذا أفعل بهم وقد أمرتني بإخراجهم إلى صراطك؟ أمره أن يدق أعناقهم بإخبارهم أن ما أضلهم من النعم إنما هو استدراج، فقال: {قل} أي تهديداً لهم فإنهم لا يشكون في قولك وإن عاندوا: {تمتعوا} وبالغوا في فعل البهائم مهما قدرتم، فإن ذلك ضائركم(10/417)
غير نافعكم {فإن مصيركم} أي صيرورتكم {إلى النار *} بسبب تمتعكم على هذا الوجه.
ولما ذكر كفرهم وضلالهم عن السبيل وما أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن يقول لهم، وكان ذلك محركاً لنفس السامع إلى الوقوف على ما يقال لمن خلع الأنداد وكان أوثق عرى السبيل بعد الإيمان وأعمها الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، والنفقة الشاملة لوجوه البر، أمره تعالى أن يندب أولياءه إلى الإقبال إلى ما أعرض عنه أعداؤه، والإعراض عما أقبلوا بالتمتع عليه من ذلك، فقال {قل لعبادي} فوصفهم بأشرف أوصافهم، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحبيباً لهم فيه، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم فقال: {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف.
ولما كان قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحسن قول، فهو جالٍ لصدأ القلوب، وموجب لتهذيب النفوس، قال جازماً: {يقيموا الصلاة} التي هي زكاة القوة وصلة العبد بربه {وينفقوا} وخفف عنهم بقوله: {مما رزقناهم} أي بعظمتنا، فهو لنا(10/418)
دونهم، من أنواع النفقات المقيمة لشرائعه من الصدقات وغيرها، إتقاناً لما بينهم وبينه من الأسباب لينقذوا أنفسهم من النار، واقتصر على هاتين الخلتين لأنه لم يكن فرض في مكة غيرهما مع ما تقدم من فضلهما وعمومهما، ولعله سيق سياق الشرط تنبيهاً لهم على أن مجرد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقوى الأسباب فيجب عليهم ألا يتخلفوا عنه أصلاً؛ ثم أشار إلى المداومة على هاتين الخصلتين بقوله: {سراً وعلانية} ويجوز أن يراد بالسر النافلة، وبالعلانية الفرض؛ ثم رهب من تهاون في خدمته من اليوم الذي كان الإعراض عنه سبب الضلال، فقال مشيراً بالجار إلى قصر مدة أعمالهم: {من قبل أن يأتي يوم} أي عظيم جداً ليس هو كشيء من الأيام التي تعرفونها {إلا بيع فيه} لأسير بفداء {ولا خلال *} أي مخالات وموادات يكون عنها شفاعة أو نصر، جمع خلة كقلة وقلال، أو هو مصدر، وذلك إشارة إلى أنه لا يكون شيء منهما سبباً لخلاص هالك.(10/419)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
ولما نفى جميع الأسباب النافعة في الدنيا في ذلك اليوم، كان كأنه قيل: فمن الحكم فيه حتى أنه يسير سيرة لا نعرفها؟(10/419)
فقيل: {الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء؛ ثم أتبعه بصفات تدل على ما دعا إليه الرسل من وحدانيته وما أخبروا به من قدرته على كل شيء فلا يقدر أحد على مغالبته، وعلى المعاد وعلى غناه فلا يبايع، فقال: {الذي خلق السماوات والأرض} وهما أكبر خلقاً منكم وأعظم شأناً، ثم عقبه بأدل الأمور على الإعادة مع ما فيه من عظيم المنة بأن به الحياة، فقال: {وأنزل من السماء ماء} ولما كان ذلك سبب النمو قال: {فأخرج به} أي بالماء الذي جعل منه كل شيء حي {من الثمرات} أي الشجرية وغيرهما {رزقاً لكم} بعد يبس الأرض وجفاف نباتها، وليس ذلك بدون إحياء الموتى؛ ثم أتبعه ما ادخره في الأرض من مياه البحار والأنهار، وذكر أعم ما يظهر من البحار فقال: {وسخر لكم الفلك} وعلل ذلك بقوله: {لتجري في البحر} ولما كان ذلك أمراً باهراً للعقل، بين عظمته بقوله: {بأمره} ولما كانت الأنهار من النعم الكبار بعد نعمة البحار، قال: {وسخر لكم الأنهار *} ثم أتبعه ما جعله سبباً لكمال التصرف وإنضاج(10/420)
الثمار المسقيّة بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض فقال: {وسخر لكم الشمس والقمر} حال كونهما {دائبين} أي في سيرهما وإنارتهما وما ينشأ عنهما من الإصلاح بالطبخ والإنضاج في المعادن والنبات والحيوان؛ قال الرماني: والدؤوب: مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه؛ ثم ذكر تعالى ما ينشأ عن وجود الشمس وعدمها فقال: {وسخر لكم الّيل} أي الذي القمر آيته {والنهار *} أي الذي الشمس آيته، يوجد كل منهما بعد تصرمه، ولو كان أحدهما سرمداً لاختل الحال بعدم النبات والحيوان كما هو كذلك حيث لا تغرب الشمس في الجنوب وحيث لا تطلع في الشمال؛ ثم عم بعد أن خص فقال: {وآتاكم} .
ولما كان الكمال لا يكون إلا في الجنة قال: {من كل ما سألتموه} أي ما أنتم محتاجون إليه فأنتم سائلوه بالقوة؛ ثم حقق وجه العظم بفرض ما يوجب العجز فقال: {وإن تعدوا} أيها الناس كلكم {نعمت الله} أي تروموا عد إنعام الملك الأعلى الذي له الكمال المطلق أو تأخذوا في عدّه، وعبر عنه بالنعمة إرشاداً إلى الاستدلال بالأثر(10/421)
على المؤثر {لا تحصوها} أي لا تحيطوا بها ولا تعرفوا عد الحصى المقابلة لها إن عددتموها بها كما كانت عادة العرب، أو لا تجدوا من الحصى ما يوفي بعددها، هذا في النعمة الواحدة فكيف بما زاد! فهذا شرح قوله أول السورة {الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} وقد ظهر به أنه لا يوجد شيء إلا هو ملك الله فضلاً عن أن يوجد شيء يداينه فضلاً عن شيء يماثله، فثبت أنه لا بيع ولا خلال يوم دينونة العباد، وتقريب العجز عن العد للإفهام أن السلامة من كل داء ذكره الأطباء في كتبهم - على كثرتها وطولها - نعمة على العبد، وذلك متعسر الحصر، وكل ما ذكروه صريحاً في جنب ما دخل تحت كلياتهم تلويحاً - قليل، فكيف بما لم يطلعهم الله عليه ولم يهدهم بوجه إليه، هذا في الجسم، وأما في العقل فالسلامة من كل عقد زائغ، ودين باطل وضلال مائل، وذلك لا يحصيه إلا خالق الفكر وفاطر الفطر سبحانه، ما أعزه وأعظم شأنه! .
ولما كان أكثر هذه السورة في بيان الكفرة وما لهم، وبيان أن أكثر الخلق هالك معرض عما يأتيه من نعمة الهداية على أيدي الرسل(10/422)
الدعاة إلى من له جميع النعم للحياة الطيبة بسعادة الدارين، ختم الآية ببيان ما اقتضى ذلك من صفات الإنسان فقال: {إن الإنسان} أي هذا النوع لما له من الأنس بنفسه، والنسيان لما ينفعه ويضره، والاضطراب بسبب ما يغمه ويسره {لظلوم كفار} أي بليغ الظلم والكفر حيث يهمل الشكر، ويتعداه إلى الكفر، وختم مثل ذلك في سورة النحل ب {غفور رحيم} لأن تلك سورة النعم، بدئت بالنهي عن استعجال العذاب، لأن الرحمة أسبق، ومن الرحمة إمهال الناس وإمتاعهم بالمنافع، فالتقدير إذن هناك: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} ولكن ربه لا يعاجله بالعقوبة لأنه غفور رحيم، وأما هذه السورة فبدئت بأن الناس في الظلمات.(10/423)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
ولما انقضى المأمور به من القول لكافر النعمة وشاكرها وسبب ذلك والدليل عليه، وبان أنه خالق الموجودات كلها وربها، فلا يصح أصلاً أن يكون شيء منها شريكاً. أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يذكرهم بأيام الله عند أبيهم إبراهيم عليه السلام للدلالة على تبديلهم النعمة ظلماً منهم وكفراً، في أسلوب دال على البعث، مشير إلى وجوب براءتهم من الأصنام حيث كان محط حالهم فيها تقليد الآباء وهو(10/423)
أعظم آبائهم، وإلى ما سنه لهم من إقامتهم الصلاة وشكرهم لنعمه بالانفاق وغيره، فقال ناعياً عليهم - مع المخالفة لصريح العقل وقاطع النقل عقوق أبيهم الأعظم، عطفاً على {قل لعبادي الذين آمنوا} أو على {وإذ قال موسى لقومه} : {وإذ} أي واذكر لهم مذكراً بأيام الله خبر إبراهيم إذ {قال إبراهيم رب} أي أيها المحسن إليّ بإجابة دعائي في جعل القفر الذي وضعت به ولدي بلداً عظيماً.
ولما كان السياق لإخراج الرسل من محالهم، وكان ذلك مفهماً لأن المحل الذي يقع الإخراج منه بلد يسكن فيه، واتبعه سبحانه بأن المتعرضين بدلوا نعمة الله - بما أسكن فيه من الأمن بعد جعله له بلداً - بما أحدثوا فيه من الإخافة لخير أهله، ومن الإنذار لمن أنعم عليهم بكل ما فيه من الخير، كان الأنسب تعريفه فقال: {اجعل هذا البلد} أي الذي يريدون إخراج الرسول منه {آمناً} أي ذا أمن بأمان أهله، وكأن هذا الدعاء صدر منه بعد أن سكن الناس مكة وصارت مدينة، والذي في البقرة كان حيث وضع ابنه مع أمه وهي خالية عن ساكن، فدعا أن يجعلها الله بلداً، وأن يجعلها بعد ذلك موصوفة(10/424)
بالأمن، وهو سكون النفس إلى زوال الضر.
ولما دعا بالأمن من فساد الأموال والأبدان، أتبعه بالدعاء بالأمن من فساد الأديان، فقال: {واجنبني} أي اصرفني {وبني} أي لصلبي، وأسقط البنات إشارة إلى الاستقلال، وإنما هن تابعات دائماً {أن نعبد} أي عبادة مستمرة تكون موجبة للنار {الأصنام *} أي اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها، والصنم: المنحوت على خلقة البشر، وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهو وثن - قاله الطبري عن مجاهد؛ تم بين زيادة الاهتمام بأمر الأصنام بإعادة النداء، وأسقط الأداة - زيادة في التملق بكونه من أهل القرب والانقطاع إليه سبحانه معللاً لما قبله - في قوله: {رب} بإفراد المضاف إليه ليكون الكلام الواحد على نظام واحد {إنهن أضللن} إسناد مجازي علاقته السببية {كثيراً من الناس فمن} أي فتسبب عن بغضي لهن أن أقول: من {تبعني} من جميع الناس في تجنبها {فإنه مني} أي من حزبي لكونه على طريقتي وديني، فأتني ما وعدتني فيه من الفوز {ومن عصاني} فضل بها فقد استحق النار، فإن عذبته فهو عبادك، وإن غفرت له فأنت لذلك، لأن لك أن تفعل ما تشاء {فإنك غفور} أي بليغ الستر {رحيم *} أي بليغ الإكرام بعد ستر الذنوب؛(10/425)
وأكد للإعلام بزيادة رغبته في العفو لأنه لا ينقص به شيء من عزته سبحانه ولا حكمته - كما أشار إليه دعاء عيسى عليه السلام في المائدة.
ولما دعا بدرء المفاسد الناشئة من من نوعي الإنسان والشيطان بأمن البلد وإيمانه ذكر السبب الحامل له على تخصيصه بذلك مستجلباً للمصالح، فقال: {ربنا} أي يا رب وربَّ من قضيت أنه يتبعني بتربيتك لنا أحسن تربية {إني أسكنت} وكأن الله سبحانه كان قد أخبره أنه يكثر نسله حتى يكونوا كالنجوم، وذلك بعد البشارة بإسحاق عليه السلام فقال: {من ذريتي} وساقه مؤكداً تنبيهاً على أنه - لكونه على وجه لا يسمح به أحد - لا يكاد يصدق، وللإعلام بأنه راغب فيه {بواد} هو مكة المشرفة لكونها في فضاء منخفض بين جبال تجري به السيول {غير ذي زرع} .
ولما نفى عنه الرفد الدنيوي، أثبت له الأخروي، إشارة إلى أن الدارين ضرتان لا تجتمعان، وكأن هذا الدعاء كان بعد بنائه البيت - كما تقدمت الإشارة إليه أيضاً بتعريف البلد، فقال: {عند بيتك المحرم} أي الذي حرمت التعرض إليه ومنعته بالهيبة فلم يملكه أحد سواك،(10/426)
وجُعل له حريم يأمن فيه الوحش والطير؛ والكسنى: اتخاذ مأوى يسكن إليه متى شاء، والوادي: سفح الجبل العظيم، ومنه قيل للأنهار: أودية، لأن حافاتها كالجبال لها، والزرع: نبات ينفرش من غير ساق؛ ثم بين غرضه من إسكانهم هناك فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {ليقيموا الصلاة} ما أسكنتهم في هذا الوادي الموصوف إلا لهذا الغرض المنافي لعبادة غيرك، ولأن أولى الناس بإقامتها حاضرو البيت المتوجه بها إليه.
ولما كان اشتغالهم بالعبادة وكونهم في ذلك الوادي أمرين بعيدين عن أسباب المعاش، تسبب عنه قوله: {فاجعل أفئدة} أي قلوباً محترقة بالأشواق {من الناس} أي من أفئدة الذين هم أهل للاضطراب، بكون احتراقها بالشوق مانعاً من اضطرابها {تهوي} أي تقصدهم فتسرع نحوهم برغبة وشوق إسراع من ينزل من حالق؛ وزاد المعنى وضوحاً وأكده بحرف الغاية الدال على بعد لأن الشيء كلما بعد مدى(10/427)
مرماه اشتد وقعه فقال: {إليهم} ولما دعا لهم بالدين، دعا لهم بالرزق المتضمن للدعاء لجيرانهم فقال: {وارزقهم} أي على يد من يهوي إليهم {من الثمرات} أي التي أنبتها في بلادهم؛ وبين العلة الصالحة بقوله: {لعلهم يشكرون *} أي ليكون حالهم حال من يرجى شكرهم لما يرون من نعمك الخارقة للعوائد في ذلك الموضع البعيد عن الفضل لولا عنايتك فيشتغلوا بعبادتك لإغنائك لهم وإحسانك إليهم، وقد أجاب الله دعوته؛ فالآية لتذكير قريش بهذه النعم الجليلة عليهم ببركة أبيهم الأعظم الذي نهى عن عبادة الأوثان.(10/428)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
ولما فرغ من الدعاء بالأهم من الإبقاء على الفطرة الأولى المشوقة للعزائم إلى العكوف في دارة الأنس، ومن الكفاية لهم المعاش، المنتج للشكر بإنفاق الفضل، وتبين من ذلك أنهم خالفوا أعظم آبائهم في جميع ما قصده لهم من المصالح، أتبعه ما يحث على الإخلاص في ذلك وغيره له ولغيره ليكون أنجح للمراد بضمان الإسعاد ولا سيما مع تكرير النداء الدال على مزيد التضرع فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا المالك لجميع أمورنا {إنك تعلم ما} أي جميع ما(10/428)
{نخفي وما نعلن} ثم أشار إلى عموم علمه فقال: {وما يخفى على الله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً. وبالغ في النفي فقال: {من شيء} من ذلك ولا غيره {في الأرض} ولما كان في سياق المبالغة، أعاد النافي تأكيداً فقال: {ولا في السماء *} أي فهو غير محتاج إلى التعريف بالدعاء، فالدعاء إنما هو لإظهار العبودية، واسم الجنس شامل لما فوق الواحد، ومن فوائد التعبير بالإفراد الدلالة على أن من كان محيطاً بكل ما في المتقابلين من غير أن يحجبه أحدهما عن الآخر، كان محيطاً بغيرهما كذلك من غير فرق.
ولما تم ما دعا به من النزاهة عن رجاسة الشرك وتبين بتقديمه أن أهم المهمات البراءة منه، أتبعه الحمد على ما رزق من النعم وما تبع ذلك من الإشارة إلى وجوب الشكر فقال: {الحمد لله} أي المستجمع لصفات الكمال {الذي وهب} والهبة: هبة تمليك من غير عقد، منّاً منه {لي} حال كوني مستعلياً {على الكبر} ومتمكناً منه على يأس من الولد {إسماعيل} الذي أسكنته هنا {وإسحاق} وهذا يدل على ما تقدم فهمي له من أن هذا الدعاء كان بعد بناء البيت(10/429)
وطمأنينته بإسحاق عليه السلام، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سنه كان عند ولادة إسماعيل عليه السلام تسعاً وتسعين سنة، وعند ولادة إسحاق عليه السلام كان مائة سنة واثنتي عشرة سنة.
ولما كان إتيان الولد له في سن لا يولد فيه لمثله، وجميع ما دعا به من الخوارق فوجوده لا يكاد يصدق، أشار إلى ذلك بتأكيد قوله: {إن ربي} أي المحسن إليّ {لسميع الدعاء *} أي من شأنه إجابة الدعاء على الوجه الأبلغ تعريضاً بالأنداد وإشارة إلى ما تضمنه تأسفه على العقم، فقد تقدم في سورة البقرة عن التوراة أنه لما خلّص ابن أخيه لوطاً من الأسر قال له الله: يا إبراهيم! أنا أكانفك وأساعدك لأن ثوابك قد جزل، فقال إبرم: اللهم ربي! ما الذي تنحلني وأنا خارج من الدنيا بلا نسل ويرثني اليعازر غلامي الدمشقي؟ فقال له الرب: لا يرثك هذا، بل ابنك(10/430)
الذي يخرج من صلبك فهو يرثك، وقال له: انظر إلى السماء وأحص النجوم إن كنت تقدر أن تحصيها، فكذلك تكون ذريتك، فآمن إبرم بالله.
ولما تم الحمد على النعمة بعد الدعاء بالتخلي من منافي السعادة وختمه بالحمد على إجابة الدعاء، انتهز الفرصة في إتباعه الدعاء بالتحلي بحلية العبادة التي أخبر أنها قصده بإسكانه من ذريته ثم إقامتها، إشارة إلى صعوبتها على النفس إلا بمعونة الله فقال: {رب} أي أيها الموجد لي المالك لأمري {اجعلني مقيم الصلاة} أي هذا النوع الدال على غاية الخضوع، دائم الإقامة لها، وكأن الله تعالى أعلمه بأنه يكون من ذريته من يكفر فقال أدباً: {ومن ذريتي} .
ولما كانت أعظم الأركان بعد الإيمان، أفراد الضمير للدعاء بها متملقاً لله تعالى بما عليه من النعم التي لم ينعمها على أحد كان في ذلك الزمان غيره، كما أشار إلى ذلك باسم الرب، ثم زاد في التضرع بقوله: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا، وجمع الضمير المضاف إليه بالنظر إلى من تبعه من ذريته لأن ما بعده كلام آخر، أي رب وربَّ(10/431)
مّن وفقته بتربيتك وإحسانك لإقامة الصلاة من ذريتي {وتقبل دعاء *} كله بذلك وغيره، بأن تجعله مقبولاً جعلَ من كأنه راغب فيه مفتن به.(10/432)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
ولما كان الإنسان ولو اجتهد كل الاجتهاد - محل العجز الموجب للتقصير المفتقر للستر، قال مشيراً إلى ذلك: {ربنا} أي أيها المالك لأمورنا المدبر لنا {اغفر لي} ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال: {ولوالدي} وقد كان استغفاره لهما قبل أن يعلم أن أباه مات كافراً، وقد علم من السياق أنه إذا كان وحده أضاف إلى ضميره، وإذا تقدم ما يحسن جمعه معه جمع إن كان ما بعده مستقلاً، ثم كل من تبعه في الدين من ذريته وغيرهم فقال: {وللمؤمنين} أي العريقين في الوصف {يوم يقوم} أي يظهر ويتحقق على أعلى وجوهه {الحساب *} .
ولما ختم دعاءه بيوم الحساب الموجب ذكره لكل سعادة ونسيانه لكل شقاوة، ذكر بعض ما يتفق فيه رجوعاً إلى ما مضى من أحوال يوم القيامة على أحسن وجه، فقال - عاطفاً على قوله {قل لعبادي} وجل المقصد تهديد أهل الظلم بالإشراك وغيره، وخاطب الرأس الذي لا يمكن ذلك منه ليكون أوقع في قلب(10/432)
غيره -: {ولا تحسبن الله} أي الملك الأعظم الذي هو أحكم الحاكمين.
ولما كان اعتقاد ترك الحساب يلزم منه نسبة الحاكم إلى العجز أو السفه أو الغفلة، وكان قد أثبت قدرته وحكمته في هذه السورة وغيرها نزهةً عن الغفلة لينتبه المنكرون للبعث من غفلتهم فقال: {غافلاً} والغفلة: ذهاب المعنى عن النفس {عما يعمل الظالمون *} الذين بدلوا نعمة الله كفراً، فكانوا عريقين في الظلم وإن كان مستند ظلمهم شبهاً علمية يقيمونها، فكأنه قيل: فما الذي يفعل بهم؟ فقال: {إنما يؤخرهم} أي يؤخر حسابهم على النقير والقطمير سواء عذبوا في الدنيا أو لا {ليوم تشخص} أي تفتح فتكون بحيث لا تطرف {فيه} منهم {الأبصار *} أي حال كونهم {مهطعين} أي مسرعين غاية الإسراع إلى حيث دعوا خوفاً وجزعاً، مع الإقبال بالبصر نحو الداعي لا يلفتونه إلى غيره {مقنعي رؤوسهم} أي رافعيها وناصبيها ناظرين في ذل وخشوع إلى جهة واحدة، وهي جهة الداعي، لا يلتفتون يميناً(10/433)
ولا شمالاً، وهذا كناية عن أشد الذل والصغار، ثم أتبعه ما يؤكده فقال مصرحاً بمعنى الشخوص: {لا يرتد إليهم} ولما كانوا في هيئة الأعين في الطرف والسكون قريباً من السواء، وحد فقال: {طرفهم} بل أعينهم شاخصة دائمة الفتح لا تطرف كالمحتضر لما بأصحابها من الهول {وأفئدتهم} جمع فؤاد، وهو العضو الذي من شأنه أن يحمى بالغضب؛ قال في القاموس: والتفؤد: التحرق والتوقد، ومنه الفؤاد للقلب مذكر، جمعه أفئدة. {هواء *} أي عدم فارغة لا شيء فيها من الجرأة والأنفة التي يظهرونها الآن كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخب هواء
والهواء: الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، والنخب: الجبان، وكذا الهواء - قاله في القاموس. فأنذرهم أهوال ذلك اليوم فإنه لا يبقى معهم فيه شيء مما هم فيه من الإباء والاستكبار {وأنذر} أي يا محمد {الناس} جميعاً، ما يحل بهم {يوم يأتيهم العذاب} وينكشف(10/434)
عنهم الغطاء بالموت أو البعث.
ولما كانوا عند إتيان العذاب قبل الموت لا ينكسرون بالكلية، بين أنهم إذ ذاك على غير هذا، فقال عاطفاً على «يأتيهم» : {فيقول الذين ظلموا} أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه منهم ومن غيرهم بسبب إتيانه من غير تمهل، وقد زال عنهم ما يفتخرون به من الأنفة والحمية والشماخة والكبر لما رأوا من الأهوال التي لا قبل لهم بها ولا صبر عليها: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق والتربية {أخرنا} أي أمهلنا {إلى أجل قريب} فإنك إن تؤخرنا إليه {نجب دعوتك} أي استدراكاً لما فرطنا فيه؛ والإجابة: القطع على موافقة الداعي بالإرادة {ونتبع} أي بغاية الرغبة {الرسل} فيقال لهم: إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، أولم تكونوا تقولون: إن عرى صبركم لا تنحل، وحد عزائمكم لا يفل؟ {أولم تكونوا} أي كوناً أنتم فيه في غاية المكنة {أقسمتم} أي جهلاً وسفهاً أو أشراً وبطراً.
ولما لم يكن وقت إقسامهم مستغرقاً للزمان قال: {من قبل}(10/435)
وبين الجواب المقسم عليه بقوله - حاكياً معنى قولهم لا لفظه - ليكون صريحاً في المراد من غير احتمال لتعنت لو قيل: ما لنا؟ : {ما لكم} وأكد النفي فقال: {من زوال} عما أنتم عليه من الكفران وعدم الإذعان للإيمان، أو من هذه الدار إلى الدار الآخرة، أو من منازلكم التي أنتم بها، كناية عن ثبات الأمر وعدم المبالاة بالمخالف كائناً من كان {و} الحال أنكم {سكنتم} أي في الدنيا {في مساكن الذين ظلموا} أي بوضع الأشياء في غير مواضعها كما فعلتم أنتم {أنفسهم} فأحلوا قومهم مثلكم دار البور {وتبين} أي غاية البيان {لكم} بالخبر والمشاهدة.
ولما كان حال أحدهم في غاية العجب، بنه بالاستفهام على أنه أهل لأن يسأل عنه فقال: {كيف فعلنا} أي على عظمتنا {بهم} حين انتقمنا منهم فلم تعتبروا بأحوالهم {وضربنا} أي على ما لنا من العظمة {لكم الأمثال *} المبينة أن سنة الله جرت - ولن تجد لسنة الله تبديلاً - أن الظالمين كما جمعهم اسم الظلم يجمعهم ميسم الهلاك، فجمعنا لكم بين طريقي الاعتبار: السمع والبصر، ثم لم تنتفعوا بشيء منهما {و} الحال أنه بان لكم أنهم حين(10/436)
فعلنا بهم ما فعلنا {قد مكروا مكرهم} أي الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم بحيث لم يبق لهم مكر غيره في تأييد الكفر وإبطال الحق؛ والمكر: الفتل إلى الضرر على وجه الحيلة {و} الحال أنه {عند الله} أي المحيط علماً وقدرة {مكرهم} هو وحده به عالم من جميع وجوهه وإن دق، وعلى إبطاله قادر وإن جل {وإن كان مكرهم} من القوة والضخامة {لتزول} أي لأجل أن تزول {منه الجبال *} والتقدير على قراءة فتح اللام الأولى ورفع الثانية: وإن كان بحيث إنه تزول منه الجبال، والمعنيان متقاربان، وقيل: «إن» نافية، واللام لتأكيد النفي؛ والجبال: الآيات والشرائع، بل هي أثبت.(10/437)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
ولما تقرر ذلك من علمه سبحانه وقدرته، تسبب عنه أن يقال وهو كما تقدم في أن المراد الأمة لبلوغ الأمر كل مبلغ، خوطب به الرأس ليكون أوقع في قلوبهم: {فلا تحسبن الله}(10/437)
أي الذي له الكمال كله، فإن من ظن ذلك كان ناقص العقل {مخلف وعده رسله} في أنه يعز أوليائه ويذل أعداءه ويهلكهم بظلمهم، ويسكن أولياءه الأرض من بعدهم؛ ثم علل ذلك بقوله - مؤكداً لأن كثرة المخالفين وقوتهم على تمادي الأيام تعرّض السامع للإنكار: {إن الله} أي ذا الجلال والإكرام {عزيز} أي يقدر ولا يقدر عليه {ذو انتقام *} ممن يخالف أمره.
ولما تقررت عظمة ذلك اليوم الذي تشخص فيه الأبصار، وكان أعظم يوم يظهر فيه الانتقام، بينه بقوله: {يوم تبدل} أي تبديلاً غريباً عظيماً {الأرض} أي هذا الجنس {غير الأرض} أي التي تعرفونها {والسماوات} بعد انتشار كواكبها وانفطارها وغير ذلك من شؤونها؛ والتبديل: تغيير الشيء أو صفته إلى بدل {وبرزوا} أي الظالمون الذين كانوا يقولون: إنهم لا يعرضون على الله للحساب؛ والبروز: ظهور الشخص مما كان ملتبساً به {لله} أي الذي له صفات الكمال {الواحد} الذي لا شريك له {القهار *} الذي لا يدافعه شيء عن مراده، فصاروا بذلك البروز بحيث لا يشكون أنه لا يخفى منهم خافية، وأما المؤمنون فلم يزالوا يعلمون ذلك:(10/438)
روى مسلم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن قوله تعالى: {يوم تبدل الأرض} الآية قلت: يا رسول الله فأين يكون للناس يومئذ؟ قال: على الصراط.
ولما ذكر بروزهم له ذكر حالهم في ذلك البروز فقال: {وترى المجرمين} أي وتراهم، ولكنه أظهر لتعدد صفاتهم التي أوجبت لهم الخزي؛ والإجرام: قطع ما يجوز من العمل بفعل ما لا يجوز {يومئذ} أي إذ كانت هذه الأمور العظام {مقرنين} أي مجموعاً كل منهم إلى نظيره، أو مجموعة أيديهم إلى أعناقهم جمعاً فيه شدة وضيق {في الأصفاد *} أي القيود، والمراد هنا الأغلال، أي السلاسل التي تجمع الأيدي فيها إلى الأعناق ويقرنون فيها مع أشكالهم؛ ثم بين لباسهم بقوله: {سرابيلهم} أي قمصهم السابغة {من قطران} وهو ما يهنأ به الإبل، ومن شأنه أنه سرع فيه(10/439)
اشتعال النار، وهو أسود اللون منتن الريح.
ولما كان هذا اللباس مع نتنه وفظاعته شديد الانفعال بالنار، بين أنه يسلطها عليهم فقال: {وتغشى} ولما كان الوجه أشرف ما في الحيوان، فإهانته إهانة عظيمة لصاحبه، ذكره وقدمه تعجيلاً لإفهام الإهانة فقال: {وجوههم النار} أي تعلوها باشتعالها، فعلم أنه يلزم من غشيانها لها اضطرامها فيما ضمخ بالقطران من باب الأولى؛ ثم بين علة هذه الأفعال في ذلك اليوم، فقال معبراً بالجزاء والكسب الذي هو محط التكليف وظن النفع، لاقتضاء سياق القهر لهما: ب {ليجزي الله} أي الذي له الكمال كله {كل نفس} طائعة أو عاصية.
ولما عظم الأمر بإسناد الجزاء إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال، اقتضى ذلك أن يكون نفس الكسب هو الجزاء، لأن ذلك أبدع وأدق في الصنع وأبرع بأن يصور بما يحق من الصور المليحة عند إرادة الثواب، والقبيحة عند إرادة العقاب، فلذلك أسقط الباء - التي(10/440)
ستذكر في «حم المؤمن» وقال: {ما كسبت} والجزاء: مقابلة العمل بما يقتضيه من خير أو شر؛ والكسب: فعل ما يستجلب به نفع أو يستدفع به ضر، ومن جزاء المؤمن عقوبة من عاداه في الله.
ولما كان حساب كل نفس جديراً بأن يستعظم، قال: {إن الله} أي الذي له الإحاطة المطلقة {سريع الحساب *} أي لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى ولا شأن عن شأن.
ولما اشتملت هذه السورة على ما قرع سمعك من هذه المواعظ والأمثال والحكم التي أبكمت البلغاء، وأخرست الفصحاء، وبهرت العقول، ترجمها سبحانه بما يصلح عنواناً لجميع القرآن فقال: {هذا} أي الكتاب الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور {بلاغ} أي كافٍ غاية الكفاية في الإيصال {للناس} ليصلوا به إلى الله بما يتحلون به من المزايا في سلوك صراطه القويم، فإن مادة «بلغ» بأي ترتيب كان - تدور على الوصول، وتارة تلزمها القوة وتارة الإعياء الناشىء عن الضعف:(10/441)
بلغ المكان بلوغاً: وصل إليه؛ وبُلغ الرجل - كعني: جهد، والبليغ: الفصيح يبلغ بعبارته كنه ضميره، والبلاغ - كسحاب: الكفاية، لأنها توصل إلى القصد، وبالغ مبالغة - إذا اجتهد ولم يقصر، وتبلغت به العلة: اشتدت.
والغلباء: الحديقة المتكاثفة، ومن القبائل: العزيزة الممتنعة، والأغلب: الأسد.
ولغب: أعيا - لاجتهاده في البلوغ، واللغب: ما بين الثنايا من اللحم، واللغب - ككتف: الكلام الفاسد - يرجع إلى الإعياء، وكذا الضعيف الأحمق، والسهم الذي لم يحسن بريه كاللغاب - بالضم، والتغلب: طول الطرد.
والبغل من أشد الحيوان وأبلغها للقصد، وبغل تبغيلاً: بلّد وأعيا، والإبل: مشت بين الهملجة والعنق.
ولما كان متعلق البلاغ الذي قدرته بالوصول يتضمن البشارة، عطف عليه النذارة بانياً للمفعول، لأن النافع مطلق النذارة، وكل أحد متأهل(10/442)
لأن يكون واعظاً به مقبولاً، لأن من سمعه فكأنما سمعه من الله لتميزه بإعجازه عن كل كلام، فقال: {ولينذروا} أي من أي منذر كان فيقوم عليهم الحجة {به} فيحذروا عقاب الله فيتخلوا عن الدنايا.
ولما أشار إلى جميع الفروع فعلاً وتركاً، مع إشارته إلى أصل التوحيد لأنه أول الوصول، صرح به على حدته لجلالته في قوله: {وليعلموا أنما هو} أي الإله {إله واحد} فيكون همهم واحداً.
ولما تمت الإشارة إلى الدين أصلاً وفرعاً، نبه على المواعظ والأمثال بتذكر ما له من الآيات والمصنوعات، والبطش بمن خالفه من الأمم، وأشار إلى أن أدلة الوحدانية والحشر لا تحتاج إلى كبير تذكر، لأنها في غاية الوضوح ولا سيما بعد تنبيه الرسل، فأدغم تاء التفعل، فقال: {وليذكر} أي منهم {أولوا الألباب *} أي الصافية، والعقول الوافية، فيفتحوا عيون بصائرهم فيعلموا أنه لا وصول لهم مع الغفلة فيلزموا المراقبة فلا يزالوا في رياض المقاربة. ويعلموا - بما ركز في طبائعهم وجرى من عوائدهم - أن أقل حكامهم لا يرضى بأن يدع رعيته يتهارجون(10/443)
لا ينصف بينهم ولا يجزى أحداً منهم بما كسب، فيكون ذلك منه انسلاخاً من رتبة الحكم التي هي خاصته، فكيف يدعون ذلك في أحكم الحاكمين، فقد تكفلت هذه الآية على وجازتها بجميع علم الشريعة أصولاً وفروعاً، وعلم الحقيقة نهايات وشروعاً، على سبيل الإجمال وقد انطبق آخر السورة على أولها، لأن هذا عين الخروج من الظلمات إلى النور بهذا الكتاب الحامل على كل صواب - والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وحسن المآب.(10/444)
سورة الحجر
مقصودها وصف الكتاب بأنه في الذروة من الجمع للمعاني الواضحة للحق من غير اختلاف أصلا، وأشكل ما فيها وأمثلة في هذا المعنى قصة أصحاب الحجر، فإن وضوح آيتهم عندهم وعند كل من شاهدها أو سمع بها كوضوح ما دل عليه مقصود هذه السورة في أمر الكتاب عند جميع العرب لا سيما قريش، وأيضا آيتهم في غاية الإيضاح للحق والجمع لمعانيه الدائرة على التوحيد المقتضي للاجتماع على الداعي، ومن يتضح ويتأيد ما اخترته من الإعراب لقوله تعالى (كما أنزلنا(11/1)
على المقتسمين) ، ومن هنا تعليقي له ب (كانوا عنا معرضين) المقتضي لشدة الملابسة بين شأنهم في كفرهم وشأن قريش في مثل ذلك - كما ستراه، على أن لفظ الحجر يدل على مادل عليه مقصود السورة من الجمع والاستدارة التي روحها الإحاطة المميزة للمحاط به من غيره بلا لبس أصلا - والله أعلم.(11/2)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
{بسم الله} الواحد الأحد الجامع لما شتت من بدد {الرحمن} الذي جمع خلقه في رحمة البيان {الرحيم *} الذي خص الأبرار بما أباحهم الرضوان.
لما ختم التي قبلها بعنوان الكتاب، ابتدأ هذه بشرح ذلك العنوان، وأوله وصفه بأنه جامع والخير كله في الجمع والشر كله في الفرقة، فقال تعالى: {الر تلك} أي هذه الآيات العالية المقام، النفسية المرام {آيات الكتاب} أي الكامل غاية الكمال الذي لا كتاب على الحقيقة غيره، الجامع لجمع ما يقوم به الوجود من الخيرات، القاطع في قضائه من غير شك ولا تردد، الغالب بأحكامه القاهرة في وعده ووعيده وأحكامه في إعجازه لجميع من يعانده.(11/2)
ولما كان الغالب في هذه السورة القطع الذي هو من لوازم الكتاب قدمه، وذلك أنه قطع بأمر الأجل والملائكة، وحفظ الكتاب والرمي بالشهب، وكفاية المستهزئين، فكان كما قال سبحانه {و} آيات {قرآن} أي قرآن جامع ناشر مفصل واصل، إذ التنوين للتعظيم {مبين *} لجميع ما يجمع الهمم على الله فيوصل إلى السعادة، وهذه الإبانة - التي لم تدع لبساً - هو متصف بها، مع كونه جامعاً للأصول ناشراً للفروع لا خلل فيه يدخل منه عليه، ولا فصم يؤتى منه إليه، فأعجب لأمر حاوٍ لجميع وفرق وفصل ووصل: والإبانة: إظهار المعنى للنفس بما يميزه عن غيره، لأن أصل الإبانة الفصل: فهذا شرح كونه بلاغاً، فمقصود هذه السورة اعتقاد كون القرآن بلاغاً جامعاً للأمور الموصلة إلى الله، مغنياً عن جميع الأسباب، فلا ينبغي الالتفات إلى شيء سواه {ذرهم يأكلوا} ، {لا تمدن عينيك} {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وكان الجمع بين الوصفين الدال كل منهما على الجمع إشارة إلى الرد عليهم في جعلهم القرآن عضين، وأن قولهم شديد المباعدة لمعناه. مع أن المفهومين - مع تصادقهما على شيء واحد - متغايران، فالكتاب: ما يدون في الطروس، والقرآن:(11/3)
ما يقرأ باللسان، فكأن الأول إشارة إلى حفظه في الطروس بالكتابة، والثاني إلى حفظه في الصدور بالدراسة، وسيأتي قوله {وإنا له لحافظون} مؤيداً لذلك، وكل من مادتي كتب وقرأ بجميع التقاليب تدور على الجمع.
أما «كتب» - وتنقلب إلى كبت وتبك وبكت وبتك - فقال في المجمل: كتبت الكتاب أكتبه وهو من الجمع، والكتاب أيضاً: الدواة - تسمية للشيء باسم ما هو آلته، والمكتب - كمعظم: العنقود أكل بعض ما فيه - تشبيهاً له بالمكتوب، والكتيبة: الجيش والجماعة المستحيزة من الخيل إذا أغارت من المائة إلى الألف - انتهى. وكتبت البغلة - إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة؛ وقال القزاز: وأصله - أي الكتاب - ضمك الشيء إلى الشيء، فكأنه سمي بذلك لضم الحروف بعضها إلى بعض، كتبت المزادة - إذا خرزتها،(11/4)
يعني: فضممت بعضها إلى بعض.
والكتبة - بالضم: السير يخرز به، وما يكتب به حياء الناقة لئلا ينزي عليها، والإكتاب: شد رأس القربة، والكتيبة: جماعة تكتبوا، أي تجمعوا، وتكتب الرجل - بتقديم الموحدة - إذا تقبض، ومنه الكتاب - بضم الكاف وتخفيف التاء الفوقانية لسهم صغير يتعلم به الصبيان الرمي - كذا قال القزاز إنه مخفف، وفي القاموس: وزنه كرمان - وزاد أنه مدور الرأس، وكتبت الناقة تكتيباً: صررتها، واكتتب بطنه: أمسك، والمكتوتب: الممتلىء والمنتفخ؛ ويلزم الجمع القطع والغلبة التي هي من لوازم القدرة، فمن القطع: الكتاب بمعنى الفرض والحكم والقدر؛ والبتك: القطع ولذلك قيل للسيف: باتك، أي قاطع، ومن الغلبة والقدرة: الكتاب بمعنى القدر، قال ابن الأعرابي: والكاتب عندهم العالم، وقال القزاز: والكاتب: الحافظ، وهذان يرجعان أيضاً إلى نفس الجمع - لجمع الحافظ المحفوظ والعالم المعلوم؛ وكبت الله العدو - بتقديم الموحدة: صرفه ذليلاً، وهو من تكبت الرجل - إذا تقبض، وعبارة(11/5)
القزاز: كبت أعداءه: ردهم بغيظهم، أي فانقمعوا وانجمعوا عما كانوا انتشروا له، وكبت الرجل - إذا صرعه على وجهه، وبكته تبكيتاً - إذا أنبّه أو ضربه بعصى أو سيف ونحوهما، لما يلزمه من تصاغر نفسه وتقبضها.
وأما قرأ، مهموزاً - وينقلب إلى رقأ، وأرق، وأقر، وغير مهموز يائياً وتراكيبه خمسة: قري، وقير، ورقي، وريق، وواوياً وتراكيبه ستة: قرو، وقور، ورقو، وروق، ووقر، وورق - فهو للجمع أيضاً، ويلزمه الإمساك، وربما كان عنه الانتشار، فمن الجمع: قرأت القرآن، أي تلوته فجعلت بعض حروفه وكلماته وآياته تالياً لبعض متصلاً به مجموعاً معه، ويلزم القراءة النسك، ومنه القارىء والمتقرىء والقراء - كرمان. أي الناسك، ويلزم عنه الفقه، ولذا قيل: تقرأ - إذا تفقه، وهو من الجمع نفسه أيضاً لأن الناسك جمع النسك إلى القراءة وانجمع همه، والفقيه جمع الفقه إليها؛ قال في المجمل: والقرآن من القرء وهو الجمع، أي وزناً ومعنى، وفي القاموس: وقرأ عليه السلام: أبلغه كأقرأه، ولا يقال: أقرأه، إلا إذا(11/6)
كان السلام مكتوباً؛ وقال الزبيدي في مختصر العين: وقرأت المرأة قرءاً، إذا رأت دماً، وأقرأت - إذا حاضت فهي مقرىء - انتهى. فكأنه عبر بذلك عند رؤية الدم لأنه لا يعرف أن المرأة جمعته إلا برؤيته، وهو من الانتشار الذي قد يلزم الجمع، أو يكون فعل هنا للإزالة، فمعناه: أزالت إمساك الدم كما أن هذا معنى أقرأت فإن فعل - لخفته وكثرة دوره - يتصرف في معاني جميع الأبواب، وقال في المجمل: وأقرأت المرأة: خرجت من طهر إلى حيض أو حيض إلى طهر، قلت: فالأول يكون فيه أفعل للإزالة، والثاني للدخول في الشيء كما تقول: اتهم الرجل وأنجد - إذا دخل في تهامة أو نجد، قال: والقرء: وقت يكون للطهر مرة وللحيض مرة، قلت: فالأول للجمع نفسه، والثاني لأنه دليل الجمع، قال: والجمع قروء، ويقال: {القروء} هو الطهر، وذلك أن المرأة الطاهرة كان الدم اجتمع وامتسك في بدنها فهو من: قريت الماء، وقرى الآكل الطعام في شدقه، وقد يختلف اللفظان فيهمز أحدهما ولا يهمز الآخر،(11/7)
والمعنى واحد إذا كان الأصل واحداً، وقوم يذهبون إلى أن القرء: الحيض، وفي القاموس: والقرء - ويضم: الحيض والطهر ضد - وقد تقدم تخريج ذلك، والوقت - لأنه جامع لما فيه، والقافية - لأنها جامعة لشمل الأبيات، جمعه أقرؤ وقروء، وجمع الحيض أقراء، وكأن العلة في ذلك أنه لما كان جمع الكثرة هو الأصل في الجمع، لأن المراد بالجمع نفسه الكثرة، فكلما كان أكثر كان به أجدر، لمّا كان الأصل كذلك، وكان القرء بمعنى الطهر هو الأصل في مدلول الجمع، كان أحق بجمع الكثرة الذي هو أعرق في الجمع، ولما كان القرء بمعنى الحيض فرعاً، كان له جمع القلة الذي هو فرع في باب الجمع؛ وأقرأت: حاضت وطهرت، وأقرأت الرياح: هبت لوقتها - لأن هبوبها دال على اجتماعها كظهور دم الحيض، وقرأ الشيء: جمعه وضمه، والحامل: ولدت - لأن ظهور الولد هو المحقق لجمعها إياه في بطنها، وأقرأ: رجع ودنا وأخر واستأخر وغاب وانصرف(11/8)
وتنسك كتقرأ، بعضه للإيجاب وبعضه للسلب، والمقرأة - كمعظمة: التي ينتظر بها انقضاء أقرائها، وقد قرئت: حبست لذلك، وأقراء الشعر: أنواعه وانحاؤه - لأنها جامعة للأجزاء، والقرءة - بالكسر: الوباء - لجمعه الهم، واستقرأ الجمل الناقة: تاركها لينظر ألقحت أم لا - من التتبع والسبر، وهو بمعنى جمع الأدلة، وقرأت الناقة - إذا حملت، فهي قارىء، أي جمعت في بطنها ولداً، وأقرأت - إذا استقر الماء في رحمها؛ ومن الإمساك: رقأ الدم والدمع رقوءاً - إذا انقطعا، قال أبو زيد: والرَّقوء - أي بالفتح: ما يوضع على الدم فيسكن، ورقأ بينهم: أصلح وأفسد، وفي الدرجة: صعد، وهي المرقاة وتكسر، ورقأ العرق: ارتفع - منه ما هو بمعنى الجمع ومنه ما هو بمعنى الانتشار والعلو الذي ربما لزماه، ومن الإمساك: الأرق، وهو السهر لأنه يمسك النوم، والإرقان: دود يكون في الزرع - فكأنه يوجب الهم الذي يكون عنه الأرق، ويمكن أن يكون من الانتشار الذي(11/9)
ربما يلزم الجمع، ويمكن أن يكون من الجمع نفسه، لأنه يجمع الهم - والله أعلم؛ وفي القاموس: والإرقان بالكسر: شجر أحمر، والحناء، والزعفران، ودم الأخوين - كأنه سبب للعكوف عليه بالاسترواح إليه، أو أنه يجمع بصبغه لوناً إلى لون، والإرقان أيضاً: آفة تصيب الزرع والناس كالأرقان محركة وبكسرتين وبفتح الهمزة وضم الراء، والأرق والأرقان - بفتحهما، والأراق - كغراب، واليرقان - محركة، وهذه أشهر داء يتغير منه لون البدن فاحشاً إلى صفرة أو سواد - كأن ذلك لمّا كان سبب الأرق كان هو الأرق البليغ، وزرع مأروق وميروق: مؤوف، والأقر - بضمتين: واد واسع مملوء حمضاً ومياهاً، وهو واضح في معنى الجمع، قد مضى من هذه المادة جملة في آخر سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى
{إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} [يوسف: 109] وتأتي بقيتها إن شاء الله تعالى في سورة سبحان عند قوله {وفي آذانهم وقراً} [الكهف: 57] .(11/10)
ولما وصف سبحانه هذا القرآن بما وصفه من العظمة والإبانة لجميع المقاصد التي منها سؤال الكفرة عند رؤية العذاب التأخير للطاعة في قوله تعالى {وانذر الناس يوم يأتيهم العذاب} كان كأنه قيل: ما له لم يبين للكفرة سوء عاقبتهم بياناً يردهم؟ فقال سبحانه باسطاً لقوله {ولينذروا به} {ربما يود} أشار تعالى بكونه مضارعاً إلى أن ودهم لذلك يكون كثيراً جداً متكرراً، وإيلاءه لربما - وإنما يليها في الأغلب الماضي - معلم بأنه مقطوع به كما يقطع بالماضي الذي تحقق ووقع {الذين كفروا} أي ولو وقتاً ما والود: التمني وهو تقدير المعنى في النفس للاستمتاع، وإظهار ميل الطباع له إليه، وفيه اشتراك بين التمني والحب - قال الرماني، وهو هنا للتمني فإنه بين مودودهم بقوله: {لو كانوا} أي كوناً جبلياً {مسلمين *} أي عريقين في وصف الإسلام من أول أمرهم إلى آخره؛ قال الرماني: والإسلام: إعطاء الشيء على حال سلامة كإسلام الثوب إلى من يقصره، وإسلام الصبي إلى من يعلمه، فالإسلام(11/11)
الذي هو الإيمان - إعطاء معنى الحق في الدين بالإقرار والعمل به - انتهى. وقد كان ما أخبر الله به فقد ندم كل من أسلم من الصحابة على تأخير إسلامه لما علموا فضل الإسلام ورأوا فضائل السابقين - كما هو مذكور في السير وفتوح البلدان وسيكون ما شاء من ذلك في القيامة وما قبلها، فالمعنى أنكم إن كذبتم في القطع - في نحو قوله {فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا} [إبراهيم: 44] ، الآية - بأنكم ترجعون عن هذا الشمم وتتبرؤون من هذه السجايا والهمم فتسألون الله تعالى في الطاعة، وقد فات الفوت بحلول حادث الموت إلى غيره، فلا أقل من أن يكون عندكم شك في الأمور التي يجوز كونها، ولا ينبغي حينئذ للعاقل ترك الاهتمام بالاستعداد على تقدير هذا الاحتمال، هذا - أعني التقليل - مدلول «رب» ، وقال بعضهم: إنها قد ترد للتكثير، وقال الجمال(11/12)
ابن هشام في كتاب المغني: إنه أغلب أحوالها، واستدل بشواهد لا تدل عند التأمل. ولا يصح قول من نسب إلى الكشاف ذلك، فإن كلامه مأخوذ من الزجاج، وعبارة الزجاج - كما نقلها الإمام جمال الدين محمد بن المكرم في كتابه لسان العرب ومن خطه نقلت: من قال: إن رب يعني بها التكثير فهو ضد ما تعرفه العرب، فإن قال قائل: فلم جازت في قوله {ربما يود الذين كفروا} و {رب} للتقليل؟ فالجواب أن العرب خوطبت بما تعلمه في التهدد، والرجل يتهدد الرجل فيقول: لعلك ستندم على فعلك؟ وهو لا يشك أنه يندم، ويقول: ربما ندم الإنسان على ما صنعت، وهو يعلم أن الإنسان يندم كثيراً، ولكن مجازه أن هذا لو كان مما يود في حال واحدة من أحوال العذاب، أو كان الإنسان يخاف أن يندم على الشيء لوجب عليه اجتنابه، والدليل عل أنه معنى التهدد قوله تعالى {ذرهم يأكلوا(11/13)
ويتمتعوا} انتهى.
فقد علم من هذا أنهم يطلقونها بمعنى القلة فيما يعلمون أنه كثير إرخاء للعنان وتنبيهاً على وجوب الأخذ بالأحوط، وذلك واقع في التهديد، وفرق كبير بين ما يعلم أنه كثير من أمر خارج عن العبارة المخبر بها عنه وبين ما تعرف كثرته من تلك العبارة، وزيدت ما فيها تأكيداً من حيث إنها تفهم أن الأمر لا يكون إلا كذلك، ولتهيئتها لمجيء الفعل بعدها؛ قال الإمام أبو حيان: والظاهر أن ما في رب، مهيئة، وذلك أنها من حيث هي حرف جر - على خلاف فيه - لا يليها إلا الأسماء، فجيء بها مهيئة لمجيء الفعل بعدها، وعلى كثرة مجيء رب في كلام العرب لم تجىء في القرآن إلا في هذا الموضع - انتهى. ودخلت ههنا على المضارع - وهي للماضي - لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان، أو لأن «ما» إذا لحقتها سوغت دخولها على المستقبل كما تدخل على(11/14)
المعرفة - قال الرماني.
ولما طرق لهم سبحانه الاحتمال، كان كأنه قيل: هل جوزوه فأخذوا في الاستعداد له؟ فقيل: بل استمروا على عنادهم، فقال - مستأنفاً ملتفتاً إلى ما أشار إليه في أول سورة ابراهيم في قوله {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} [إبراهيم: 3] من المانع لهم عن الإذعان -: {ذرهم} يا أعز الخلق عندنا! كالبهائم {يأكلوا ويتمتعوا} والتمتع: التلذذ، وهو طلب اللذة حالاً بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالاً بعد حال {ويلههم} أي يشغلهم عن أخذ حظهم من السعادة {الأمل} أي رجاءهم طول العمر وبلوغ ما يقدره الوهم من الملاذ من غير سبب مهيىء لذلك
ولما كان هذا امراً لا يشتغل به إلا أحمق، سبب عنه التهديد بقوله: {فسوف يعلمون *} أي ما يحل بهم بعد ما فسحنا لهم من زمن التمتع.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنه الآي المختتم بها سورة ابراهيم من لدن قوله سبحانه
{ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} [إبراهيم: 42] إلى خاتمتها، أعقب ذلك(11/15)
بقوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} أي عند مشاهدة تلك الأحوال الجلائل، ثم قال تعالى تأكيداً لذلك الوعيد {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} ثم أعقب تعالى: هذا ببيان ما جعله سنة في عباده من ارتباط الثواب والعقاب معجلة ومؤجلة بأوقات وأحيان، لا انفكاك لها عنها ولا تقدم ولا تأخر، إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن يخاف الفوت، والعالم بجملتهم لله تعالى وفي قبضته لا يفوته أحد منهم ولا يعجزه، وقال تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} وكان هذا يزيد أيضاحاً قوله عز وجل: {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم: 42] وقوله: [وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} وقوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} [إبراهيم: 48] الآية؛ وتأمل نزول قوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} على هذا وعظيم موقعه في اتصاله به ووضوح ذلك كله، وأما افتتاح السورة بقوله: {الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} فإحالة على أمرين واضحين: أحدهما ما نبه به سبحانه من الدلائل والآيات كما يفسر، والثاني ما بينه القرآن المجيد وأوضحه وانطوى عليه من الدلائل والغيوب والوعد والوعيد وتصديق بعض ذلك بعضاً، فكيف لا يكون(11/16)
المتوعد به في قوة الواقع المشاهد، لشدة البيان في صحة الوقوع فالعجب من التوقف والتكذيب! ثم أعقب هذا بقوله {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} انتهى.
ولما هددوا بآية التمتع وإلهاء الأمل، وكان من المعلوم جداً من أحوالهم الاستعجال بالعذاب تكذيباً واستهزاء، كان الكلام في قوة أن يقال: فقالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر! عجل لنا ما تتوعدنا به، وكان هذا غائظاً موجعاً حاملاً على تمني سرعة الإيقاع بهم، فقيل في الجواب: إن لهم أجلاً بكتاب معلوم لا بد من بلوغهم له، لأن المتوعد لا يخاف الفوت فهو يمهل ولا يهمل، لأنه لا يبدل القول لديه، فليستعدوا فإن الأمر غيب، فما من لحظة إلا وهي صالحة لأن يتوقع فيه العذاب، فإنا لا نهلكهم إلا إذا بلغوا كتابهم المعلوم {وما} جعلنا هذا خاصاً بهم، بل هو عادتنا، ما {أهلكنا} أي على ما لنا من العظمة، وأكد النفي فقال: {من قرية} أي من القرى.
ولما كان السياق للإهلاك واستعجالهم واستهزائهم به، وكان(11/17)
تقديره سبحانه وكتُبه من عالم الغيب، اقتضى الحال التأكيد بما يدل على أنه محتوم مفروغ منه سابق تقديره على زمن الإهلاك، فأتى بالواو لأن الحال بدون الواو كالجزء من سابقها كالخبر والنعت الذي لا يتم المعنى بدونه، والتي بالواو هي زيادة في الخبر السابق، ولذلك احتيج إلى الربط بالواو كما يربط بها في العطف، فقال: {إلا ولها} أي والحال أنه لها في الإهلاك أو لإهلاكها {كتاب معلوم *} أي أجل مضروب مكتوب في اللوح المحفوظ، أو يكون التقدير: فسوف يعلمون إذا جاءهم العذاب في الأجل الذي كتبناه لهم: هل يودون الإسلام أم لا؟ ثم بين الآية السابقة بقوله: {ما تسبق} وأكد الاستغراق بقوله: {من أمة} وبين أن المراد بالكتاب الأجل بقوله: {أجلها} أي الذي قدرناه لها {وما يستأخرون *} أي عنه شيئاً من الأشياء، ولم يقل: تستأخر - حملاً على اللفظ كالماضي، لئلا يصرفوه إلى خطابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعنتاً.
ثم لما أجابهم بهذا الجواب الدال على تمام القدرة وكمال العلم الدالين على الوحدانية، عطف على ما تقدم أنه في قوة الملفوظ قوله(11/18)
دالاً على تركهم الجواب إلى التعنت والسفه: {وقالوا} أي لم يجوزوا أنهم يودون ذلك، بل استمروا على العناد وقالوا: {يأيها الذي} ولما كان تكذيبهم بالتنزيل نفسه، بني للمفعول قوله: {نزل عليه} أي بزعمه {الذكر} وبينوا أنهم ما سموه تنزيلاً إلا تهكماً، فقالوا مؤكدين لمعرفتهم بأن قولهم منكر: {إنك لمجنون} أي بسبب ادعائك أن الله أنزل عليك ذكراً والذي تراه جني يلقى إليك تخليطاً، فكان هذا دليلاً على عنادهم، فإنهم أقاموا الشتم مقام الجواب عما مضى صنعه المغلوب المقطوع في المناظرة، تم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا: {لو ما} أي هلا ولم لا {تأتينا بالملائكة} دليلاً على صدقك إما للشهادة لك وإما لإهلاك من خالفك {إن كنت} أي جبلة وطبعاً {من الصادقين *} فيما تقول، أي ما وجه اختصاصك عنا بنزول الملائكة عليك ورؤيتك إياهم وأنت مثلنا في الإنسانية والنسب والبلد؟ هذا بعد أن قامت على صدقه الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي أعظمها القرآن الداعي لهم إلى المبارزة كل حين المبكت لهم بالعجز عن المساجلة كل وقت.(11/19)
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
ولما كان في قولهم أمران، أجاب عن كل منهما على طريق الاستئناف على تقدير سؤال من كأنه قال: ربما إذا أجابهم؟ فقيل: أجاب عن الثاني لأنه أقرب بقوله: {ما نُنزل الملائكة} أي هذا النوع {إلا} تنزلاً ملتبساً {بالحق} أي بسبب عمل الأمر الثابت، وهو معنى ما قال البخاري في كتاب التوحيد: قال مجاهد: بالرسالة والعذاب، وأما على الرسل فبالحق من الأقوال، وأما على المنذرين فبالحق من الأفعال من الهلاك والنجاة، فلو نزلوا عليهم كما اقترحوا لقضي الأمر بينك وبينهم فهلكوا {وما كانوا} أي الكفار {إذاً} أي إذ تأتيهم الملائكة {منظرين *} أي حاصلاً لهم الإنظار على تقدير من التقادير، لأن الأمر الثابت يلزمه نجاة الطائع وهلاك العاصي في الحال من غير إمهال، وكان حينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم، وأجاب سبحانه عن الأول بقوله مؤكداً لتكذيبهم: {إنا نحن} أي على ما لنا من العظمة(11/20)
لا غيرنا من جن ولا إنس {نزلنا} أي بالتدريج على لسان جبريل عليه السلام {الذكر} أي الموعظة والشرف {وإنا له} أي بعظمتنا وإن رغمت أنوف الحاسدين {لحافظون *} أي دائماً، بقدرتنا وعلمنا، لما في سورة هود من أن ذلك لازم للحفظ فانتفى حينئذ جواز أن ينزل على مجنون مخلط لا سيما وهو على هذه الأساليب البديعة والمناهيج الرفيعة، فكأن المعنى: أرسلناك به حال كونك بشراً لا ملكاً قوياً سوياً، يعلمون أنك أكملهم عقلاً، وأعلاهم همة، وأيقنهم فكراً، وأتقنهم أمراً وأوثقهم رأياً، وأصلبهم عزيمة؛ روى البخاري في التفسير والفتن عن زيد بين ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليّ أبو بكر رضي الله عنه مقتل أهل اليمامة وعنده عمر رضي الله عنه، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس - وفي رواية: بقراء القرآن - وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن(11/21)
تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير! فلم يزل عمر يراحعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بين ثابت: وعمر جالس عنده لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال أبو بكر: هو والله خير! فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة - أو أبي خزيمة - الأنصاري، لم أجدهما - أي مكتوبتين - عند أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} - إلى آخرها،(11/22)
وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم حفصة بنت عمر - رضي الله عنهم.
وساق هذا الأثر أيضاً في فضائل القرآن، وروي بعده عن أنس رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم على عثمان رضي الله عنه، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة رضي الله عنه اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة - رضي الله عنهما أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم، فنسخوها في المصاحف؛ وقال عثمان رضي الله عنه للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا(11/23)
نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. وله عن خارجه بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيراً أسمع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري - وفي رواية: فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة - الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهادته شهادة رجلين {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23] فألحقناها في سورتها في المصحف. وفي الأثر الأول دلالة على أنه كان - لما أمره الصديق رضي الله عنه - لا يكتب شيئاً إلا إذا وجد ما كان قد كتب منه بحضرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمره، وقابله مع ذلك على المحفوظ في صدور الرجال؛ وفي الأخير دليل من قوله: نسخنا المصحف في المصاحف - إلى آخره، أنه أعاد التتبع كما فعل أولاً ليصح(11/24)
قوله: فقدت آية من سورة الأحزاب.
لأن افتقادها فرع العلم بها، ومن أبعد البعيد أن يكون سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كثيراً يقرأها ولا يحفظها، ولا سيما وهو مذكور فيمن جمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما رواه البخاري من غير وجه عن أنس رضي الله عنه، والظاهر من مثل هذا التتبع الذي لا يجوِّز لمن مارس أمثال هذه الهمم أن يفهم غيره أن يكون لا ينقل آية إلا إذا وجد من حفاظها على حسب ما هي مكتوبة عدد التواتر والله أعلم.
ولما كان هذا الكلام الذي قالوه عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شاقاً وله غائظاً موجعاً، قال تعالى تسلية له على وجه راد عليهم: {ولقد أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة والجلال والهيبة؛ ولما كان الإرسال بالفعل غير عام للزمان كله، قال: {من قبلك} أي كثيراً من الرسل {في شيع} أي فرق، سموا شيعاً لمتابعة بعضهم بعضاً في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد من مملكة(11/25)
أو عمارة أو ديانة أو نحو ذلك من الأمور الجارية في العادة {الأولين *} كلهم، فما أرسلنا إلا رجالاً من أهل القرى مثلك يوحى إليهم، ولم نرسل مع أحد منهم ملائكة تراها أممهم، بل جعلنا مكاشفة الملائكة أمراً خاصاً بالرسل، فكذبوا رسلهم {وما يأتيهم} عبر بالمضارع تصويراً للحال، إيذاناً بما يوجب من الغضب، فإن ما تجعل المضارع حالاً والماضي قريباً منه، وأكد النفي فقال: {من رسول} أي على أي وجه كان {إلا كانوا به} أي جبلة وطبعاً {يستهزئون *} مكررين لذلك دائماً، فكأنهم تواصوا بمثل هذا، ولم ينقص هذا من عظمتنا شيئاً، فلا تبتئس بما يفعلون بك؛ والاستهزاء في الأصل: طلب الهزوء، والمراد به هنا - والله أعلم - الهزء، وهو إظهار ما يقصد به العيب على إيهام المدح كاللعب والسخرية، ولعله عبر عنه بالسين المفهمة للطلب إشارة إلى أن رغبتهم فيه لا تنقضي كما هو شأن الطالب للشيء، مع أنهم لا يقعون على مرادهم في حق أهل الله أصلاً، لأنهم لا يفعلون من ذلك فعلاً إلا كان ظاهر البعد عما يريدون، لظهور ما يدعو إليه حزب الله وثباته، فكانوا لذلك كطالب(11/26)
ما لم يقع، وإنما كان الناس إلى ما يوجبه الجهل من الاستهزاء ونحوه أسرع منهم إلى ما يوجبه العلم من الأخذ بالحزم والنظر في العواقب، لما في ذلك من تعجل الراحة واللذة وإسقاط الكلفة بإلزام النفس الانتقال من حال إلى حال - قاله الرماني.
ولما كانت قلوب أهل الضلال موصوفة بالضيق والحرج، كان الداخل إليها لا يدخل إلا بغاية العسر، فلذلك قال جواباً لمن كأنه قال: أهذا خاص بهؤلاء؟ فقيل: لا، بل {كذلك} أي مثل هذا السلك العجيب الشأن، وعبر بالمضارع الدال مع التجدد على الاستمرار، لاقتضاء المقام له كما تقدم في أولها فقال: {نسلكه} أي الذكر {في قلوب المجرمين *} أي العريقين في الإجرام في كل زمن كما يسلك الخيط والرمح ونحوه فيما ينظر فيه من مخيط وغيره بغاية العسر، فلا يتسع له المحل فلا ينفع، حال كونهم {لا يؤمنون به} لشيء من الأشياء، لأن صدورهم لا تنشرح له كما رأيت سنتنا بذلك في قومك {وقد خلت} أي مضت من قبل هذا {سنة} أي طريقة {الأولين *}(11/27)
بذلك، ونحن قادرون على فعل ما نريد من تلك السنة بهذه الأمة من إهلاك وتيسير إيمان وغير ذلك، فهو ناظر إلى قوله {وقرآن مبين} والغرض بيان أنه تعالى يعمي بعض الأبصار على الجلي، ويبصر بعضها بالخفي، إظهاراً للقدرة والاختيار بإنفاذ الأمر على خلاف القياس.
ولما أخبره بهذه الأسرار منبئة عن أحوالهم، وكانت النفس أشد شيء طلباً لقطع حجة المتعنت بإجابة سؤله، قال تعالى مخبراً بتحقيق ما ختم به من أنهم لا يؤمنون للخوارق ولو رأوا أعجب من الإيتان بالملائكة: {ولو فتحنا} أي بما لنا من العظمة {عليهم} أي على من قال: لو ما تأتينا بالملائكة {باباً} يناسب عظمتنا {من السماء} وأشار إلى أن ذلك حالهم - ولو كانوا في أجلى الأوقات وهو النهار - بقوله: {فظلوا} أي الكفار {فيه} أي ذلك الباب العالي {يعرجون *} أي يصعدون ماشين في الصعود مشية الفرح {لقالوا} عناداً وإبعاداً عن الإيمان: {إنما سكرت} أي سدت وغشيت {أبصارنا} أي حتى ظننا ما ليس بواقع واقعاً {بل نحن قوم} أي وإن كان لنا غاية القوة على ما نريد محاولته {مسحورون *} أي ثابت(11/28)
وقوع السحر علينا حتى صرنا نرى الأشياء على خلاف ما هي عليه ونثبت ما لا حقيقة له؛ والسكر: السد بإدخال اللطيف في المسام فيمنع الشيء كمال ما كان عليه، ومنه السكر بالشراب، والسحر: حيلة خفية توهم معنى المعجزة من غير حقيقة.(11/29)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
ولما كان ذكر هذه الآية السماوية على سبيل الفرض في الجواب عن إنكارهم النبوة، دليلاً على مرودهم على الكفر، وكان من المعلوم أن ثبوت النبوة مترتب على ثبوت الوحدانية، توقع السامع الفَهِم الإخبارَ عما له تعالى من الآيات المحققة الوجود المشاهدة الدالة على قدرته، فأتبعها بذلك استدلالاً على وحدانيته بما له من المصنوعات شرحاً لقوله {وليعلموا أنما هو إله واحد} [إبراهيم: 52] ودليلاً على عدم إيمانهم بالخوارق، وابتدأ بالسماويات لظهورها لكل أحد وشرفها وظهور أنها من الخوارق بعدم ملابستها والوصول إليها، فقال مفتتحاً بحرف التوقع: {ولقد حعلنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر عليها سوانا مما هو مغنٍ عن فتح باب ونحوه {في السماء بروجاً} أي منازل للقمر، جمع برج، وهو في الأصل القصر العالي أولها الحمل وآخرها الحوت، سميت بذلك لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها، وهي(11/29)
مختلفة الطبائع، فسير الشمس والقمر بكل منها يؤثر ما لا يوثره الآخر، فاختلافها في ذلك - مع أن نسبتها إلى السماء واحدة - دليل على الفاعل المختار الواحد، والعرب أعرف الناس بها وباختلافها.
ومادة «برج» بكل تقليب تدور على الظهور الملزوم للعلو الملزوم للقوة، وقد يفرط فيلزمه الضعف، فمن مطلق الظهور: بروج السماء، قال القزاز: سميت بروجاً لأنها بيوت الكواكب، فكأنها بمنزلة الحصون لها، وقيل: سميت لارتفاعها، وكل حصن مرتفع فهو برج، والبرج - أي محركاً: سعة بياض العين وصفاء سوادها، وقيل: البرج في العين هو أن يكون البياض محدقاً بالسواد، يظهر في نظر الإنسان فلا يغيب من سواد العين شيء، وتبرجت المرأة: أبدت محاسنها، والجربياء: الشمال - لعلوها، والجريب: الوادي - لظهوره، والجريب: مكيال أربعة أقفزة، وجريب الأرض معروف، وهو ساحة مربعة كل جانب منها ستون ذراعاً، ومنه الجراب - لوعاء من جلود، والجورب - للفافة الرجل، لأنهما ظاهران بالنسبة إلى ما فيهما، وكذا الجربان - لغلاف السيف، وجرب البئر: جوفها؛ والأرجاب: الأمعاء - شبهاً(11/30)
بالجراب؛ والبارجة: سفينة من سفن البحر تتخذ للقتال، والبجرة: كل عقدة في البطن، والعجرة: كل عقدة في الجسد، والبجرة: السرة الناتئة، وسرة البعير عظمت أولاً، والبجر والبجري: الأمر العظيم، وجاء فلان بالبجارة، وهي الداهية: وفيه ما جمع إلى الظهور القوة؛ ومن ذلك رجب: اسم شهر، ورجبت الرجل: عظمته، والرجبة من وصف الأدوية، والرجب: الحياء والعفو، والرجب: الهيبة؛ والمجرب: الذي بلي بالشدائد؛ ورجبت النخل ترجيباً: بنيت من جانبها بناء لئلا يسقط؛ والجبر: خلاف الكسر، والملك - لوجود الجبر به لقوته، وجبرت العظم، والجبارة: ما يوضع على الكسر لينجبر، وجبرت الرجل: أحسنت إليه، وأجبرته: ضممته إلى ما يريد، وأجبرته على كذا: قهرته عليه، أي أزلت جبره، والجيرية: العانة من الحمير، وهي أيضاً الأقوياء من الناس، والجبار من النخل: الطويل الفتي، والجبار اسم من أسماء الله تعالى، والجبار: كل عات، وكل ما فات اليد، والعظيم القوي الطويل، والمتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً والمتجبر: الأسد، وجبار بالضم مخففاً: يوم الثلاثاء - لأن الله تعالى خلق المكروه فيه -(11/31)
كما في الصحيح، ومن الضعف: الجبار - بالضم مخففاً، وهو الهدر من الدماء والحروب وغيرها، وقد يكون من جبر الكسر، لأنه جبر به المهدر عنه وقوي به وأحسن إليه، وكل ما أفسد وأهلك فهو جبار - كأنه شبه بالجبيرة التي تفسد لإصلاح الكسر، والجبر: العبد - لضعفه واحتياجه إلى التقوية؛ ومن الضعف أيضاً الجرب بالنسبة إلى من يحل به، وهو من القوة بالنسبة إلى نفسه، ومن الظهور والانتشار أيضاً، والجرباء: السماء - تشبيهاً بالأجرب، وأرض جرباء: مقحوطة؛ والتربج: التجبر، والروبج: درهم صغير؛ قال الزبيدي: وهو دخيل، ومادة «جبر» منها بخصوص ترتيبها تدور على النفع، وتارة تنظر إلى ما يلزمه من عدم الضر مثل الجبار بالضم مخففاً لما هدر، وتارة تنظر إلى ما يلزم النفع من التكبر والقهر.
ولما ذكر البروج، وصف سبحانه السماء المشتملة عليها فقال: {وزيناها} أي السماء لأنها المحدث عنها بالكواكب {للناظرين} أي لكل من له أهبة النظر، في دلائل الوحدانية، لا عائق له عن معرفة ذلك إلا عدم صرفه النظر إليه بالبصر أو بالبصيرة {وحفظناها} أي بما لنا من العظمة {من كل شيطان} أي بعيد من الخير محترق {رجيم}(11/32)
مستحق للرجم وهو رمي الشيء بالاعتماد من غير آلة مهيأة للإصابة كالقوس فإنها للرمي لا للرجم ومستحق للشتم، لأنه قوال بالظن وما لا حقيقة له {إلا من استرق السمع} منهم فإنا لم نرد تمام الحفظ منه {فأتبعه} أي تبعه تبع من هو حاث لنفسه سائق لها {شهاب} وهو عمود من نور يمتد بشدة ضيائه كالنار {مبين *} يراه من فيه أهلية الرؤية حين يرجم به؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا قضي الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذه ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقي السمع ومسترقو السمع، هكذا واحد فوق آخر - ووصف سفيان بيده ففرج بين أصابعه اليمنى، نصبها بعضها فوق بعض - فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه حتى يرمي بها(11/33)
إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى بلغوها إلى الأرض»
، وربما قال سفيان: حتى ينتهي إلى الأرض، فتلقى على فم الساحر فيكذب معها مائة كذبه فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقاً للكلمة التي سمعت من السماء. قال المفسرون رضي الله عنهم: كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات فيلقون ما يسمعون منها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم منعوا من السماوات كلها هكذا رأيت ولد ولعله «بعث» فإن في الصحيح أن الذي منعهم نزول القرآن.
ولما ذكر آية السماء، ثنى بآية الأرض فقال: {والأرض مددناها} أي بما لنا من العظمة، في الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق، على الماء {وألقينا} أي بعظمتنا {فيها} أي الأرض، جبالاً {رواسي} أي ثوابت، لئلا تميل بأهلها وليكون لهم علامات؛ ثم بنه على إحياء الموتى بما أنعم به في الأرض بقياس جلي بقوله: {وأنبتنا فيها} أي الأرض ولا سيما الجبال بقوتنا الباهرة {من كل شيء موزون *}(11/34)
أي مقدر على مقتضى الحكمة من المعادن والنبات {وجعلنا لكم} أي إنعاماً منا عليكم {فيها معايش} وهي بياء صريحة من غير مد، جمع معيشة، وهي ما يحصل به العيش من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها {ومن لستم} أي أيها الأقوياء الرؤساء {له برازقين *} مثلكم في ذلك، جعلنا له فها معايش من العيال والخدم وسائر الحيوانات التي تنتفعون بها وإن ظننتم أنكم ترزقونهم، فإن ذلك باطل لأنكم لا تقدرون على رزق أنفسكم فكيف بغيركم؟ فلما ظهر كالشمس كمال قدرته وأنه واحد لا شريك له، بين أنه - كما كانت هذه الأشياء عنده بحساب قدره على حكمة دبّرها - كان غيرها كذلك، فذلك هو المانع من معاجلتهم بما يهزؤون به من العذاب، فقال: {وإن} أي وما {من شيء} أي مما ذكر وغيره من الأشياء الممكنة، وهي لا نهاية لها {إلا عندنا} أي لما لنا من القدرة الغالبة {خزائنه} أي كما هو مقرر عندكم، لا تنازعون فيه، قال في الكشاف: ذكر الخزائن تمثيل {وما ننزله} أي مطلق ذلك الشيء لا بقيد(11/35)
عدم التناهي، فإن كل ما يبرز إلى الوجود متناه، فهو استخدام {إلا بقدر معلوم *} على حسب التدريج كما ترونه؛ وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ليس عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه ويقدره في الأرض كيف يشاء، عاماً ههنا وعاماً ههنا، وربما كان في البحر. فهذا دليل قطعي على أن الفاعل المخصص له بوقت دون وقت وأرض دون أخرى فاعل واحد مختار.
فلما تم ما أراد من آيتي السماء والأرض، وختمه بشمول قدرته لكل شيء، أتبعه ما ينشأ عنهما مما هو بينهما مودعاً في خزائن قدرته فقال: {وأرسلنا} أي بما لنا من التصريف الباهر {الرياح} جمع ريح، وهي جسم لطف منبث في الجو سريع المر {لواقح} أي حوامل تحمل الندى ثم تمجه في السحاب التي تنشئها، فهي حوامل للماء، لواحق بالجو، قوته على ذلك عالية حساً ومعنى؛ والريح: هواء متحرك، وحركته بعد أن كان ساكناً لا بد لها من سبب، وليس هو نفس كونه هواء ولا شيئاً من لوازم ذاته، وإلا دامت حركته.(11/36)
فليست إلا بتحريك الفاعل الواحد المختار {فأنزلنا} أي بعظمتنا بسبب تلك السحائب التي حملتها الرياح {من السماء} أي الحقيقية أو جهتها أو السحاب، لأن الأسباب المتراقية بسند الشيء تارة إلى القريب منها وتارة إلى البعيد وأخرى إلى الأبعد {ماء} وهو جسم مائع سيال، به حياة كل حيوان من شأنه الاغتذاء {فأسقيناكموه} جعلناه لكم سقياً، يقال: سقيته ماء أي ليشربه، وأسقيته أي مكنته منه ليسقي به ماشيته ومن يريد. ونفى سبحانه عن غيره ما أثبته أولاً لنفسه فقال {وما أنتم له} أي ذلك الماء {بخازنين *} والخزن: وضع الشيء في مكان مهيأ للحفظ، فثبت أن القادر عليه واحد مختار.
ومادة «لقح» بتقاليبها الست تدور على اللحاق، وتلزمه القوة والعلو حساً أو معنى، فاللقاح اسم ماء الفحل - لأنه يلحق الأنثى فتحمله، وقد ألقح الفحل الناقة، ولقحت لقاحاً: حملت، والملقوح: ما لقحته من الفحل، أي أخذته، وهي الملاقيح - يعني الأجنة،(11/37)
واللقحة: الناقة الحلوب - لأنها أهل لأن يلحقها جائع، وألقح القوم النخل ولقحوها - إذا ألحقوها بالفحالة فعلقوها عليها.
والقاحل: اليابس من الجلود، لأن أجزاءه تلاحق بعضها ببعض فضمرت، ومنه شيخ قاحل.
واللحق: كل شيء لحق شيئاً أي أدركه، والملحق: الدعي - لأنه متهيىء لأنه يستلحقه كل من يريده، والملحاق: الناقة التي لا يفوتها الإبل: قال الزبيدي في مختصر العين: وفي القنوت: إن عذابك بالكغار ملحق - بالكسر، أي لاحق - لغة.
والحقل: القراح الطيب - لتهيئها لمن يلحق بها، وقيل: هو الزرع إذا تشعب ورقة، وهو من ذلك أيضاً ومن لحوقه بالحصاد فيصير كالمحلوق، والحقيل: نبت، والحقيلة: الماء الرطب، أي الأخضر من البقل والشجر في الأمعاء منه، والحقيلة: حشافة التمر - للحاق كل من أرداه به، والحوقلة: الغرمول اللين - كأنه مشبه بالنبت الأخضر، أو لإمكان تثنيه كل وقت ولحوق بعض أجزائه ببعض، والحوقل:(11/38)
الشيخ الضعيف النكاح - كأنه منه، والحوقلة: سرعة المشي، وحقل الفرس - إذا وجع من أكل التراب - كأنه مأخوذ من الحقل، وحوقل الشيخ: اعتمد بيديه على خصره إذا تمشى - كأنه للحاق يديه خصره.
والحلق مساغ الطعام والشراب، وحلوق الأرض: أوديتها ومجاريها - للحاق المياه بها، ولشبيهها بالحلوق، والحلق: حلق الشعر بالموسى، من اللحاق والقوة، والمحالق: الأكسية الخشنة التي تحلق الشعر من خشونتها، والحالق: المشؤوم الذي يحلق قومه؛ والحلق: ضرب من النبات، لورقه حموضة - كأنه لسرعة لحاق الماشية به لأنه كالفاكهة لها، والحلقة: الخاتم بلا فص - لتلاحق أجزائها بعضها ببعض، ومنه حلقة القوم، والحلقة: السلاح كله، إما من هذا لأن منها الدروع ذات الحلق، تسمية للشيء باسم جزئه، وإما من القوة والعلو المعنوي لما يلزم عنها، والحلق: المال الكثير، إما من ذلك وإما من لحاق صاحبه بمراده، والحالق: الجبل المنيف - لظهوره وعلوه ولحاقه بالجو، والحوقلة: القارورة الطويلة العنق، وحلق الطائر: ارتفع في الهواء، من هذا؛ واللقحة: الغراب؛ والحالق من الكرم والشرى: ما تعلق منه بالقضبان، فهو ظاهر في اللحاق، وحلق الضرع - إذا ارتفع إلى البطن وانضم، فهو من العلو(11/39)
واللحاق، وقيل: إذا كثر لبنه فهو إذاً من اللحاق، وتحلق القمر: صارت حوله دارة، وحلق قضيب الفرس حلقاً - إذا تقشر، كأنه شبه بما حلق شعره، وحي لقاح: لم يملكوا قط كأنه من القوة والعلو المعنوي؛ والقلح: صفرة تعلو الأسنان، فهو من اللحاق مع العلو، ويسمى الجعل أقلح من هذا.(11/40)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
فلما تقرر تفصيل الخبر عما هو سبب للاحياء في الجملة، فتهيأت النفس للانتقال منه إلى الإحياء الحقيقي قياساً، قال تعالى: {وإنا لنحن نحيي} أي لنا هذه الصفة على وجه العظمة، فنحيي بها ما نشاء من الحيوان بروح البدن، ومن الروح بالمعارف، ومن النبات بالنمو، وإن كان أحدها حقيقة، والآخران مجاز إلا أن الجمع بينهما جائز {ونميت} أي لنا هذه الصفة، فنبرز بها من عظمتنا ما نشاء {ونحن الوارثون *} أي الإرث التام إذا مات الخلائق، الباقون بعد كل شيء كما كنا ولا شيء، ليس لأحد فينا تصرف بإماتة ولا إحياء، فثبت بذلك الوحدانية والفعل بالاختيار، فلما ثبت بهذا كمال قدرته، وكانت آثار القدرة لا تكون محكمة إلا بالعلم، قال تعالى: {ولقد علمنا} أي بما لنا من الإحاطة المعجزة {المستقدمين منكم} وهم من قضينا بموته أولاً، فيكون في موته كأنه يسارع إلى التقدم(11/40)
وإن كان هو وكل من أهله مجتهداً بالعلاج في تأخيره {ولقد علمنا} بعظمتنا {المستأخرين *} أي الذين نمد في أعمارهم فنؤخر موتهم حتى يكونوا كأنهم يسابقون إلى ذلك وإن عالجوا الموت بشرب سم وغيره، أو عالجه لهم غيرهم بضربهم بالسيف أو غيره، فعرف بذلك قطعاً أن الفاعل واحد مختار، وكذا كل متقدم ومتأخر في وصف من الأوصاف غير الموت، والمعنى على الأول: فنحن لا نميت أحداً قبل أجله فلا تستعجلونا بالوعيد وتهيؤوا لدفاعه إن كنتم رجالاً، فإنه لا بد أن يأتي لأنه لا يبدل القول لديّ.
ولما تم الدليل على تمام القدرة وشمول العلم، ثبت قطعاً إحياء الموتى لانتفاء المانع من جهة القدرة، واقتضاء الحكمة له من جهة العلم للعدل بين العباد بالمقابلة على الصلاح والفساد، فقال تعالى مؤكداً لإنكارهم: {وإن ربك} أي المحسن إليك بالانتقام لك ممن يعاديك، وإقرار عينك من مخالفيك {هو} أي وحده {يحشرهم} أي يجمعهم إلى أرض القيامة بعد إعادتهم؛ قال الرماني: وأصله جمع الحيوان إلى(11/41)
مكان؛ ثم علل ذلك فقال مؤكداً لأجل اعتقادهم ما يستلزم الإنكار: {إنه حكيم} أي يفعل الأشياء في أتم مواضعها بحيث لا يقدر أحد على نقضها {عليم *} بالغ العلم فلا يخفى عليه شيء، وهو يريد أن ترى حكمته بكشف الغطاء عند تمييز أهل السعادة والشقاء؛ والحكمة: العلم الذي يصرف عما لا ينبغي، وأصلها المنع.
ولما جرت سنته الإلهية أنه يذكر ابتداء الخلق دليلاً على الإعادة سابقاً ولاحقاً، وابتدأ هنا بذكر الحشر لما قام عليه من الدليل بإحياء الأرض، توقع السامع تفصيل ابتداء الخلق الذي هو أدل دليل على البعث بعد إجماله في قوله {وإنا لنحن نحيي} فقال مفتتحاً بحرف التوقع: {ولقد خلقنا} أي بالعظمة الباهرة {الإنسان} أي الآنس بنفسه، الناسي لغيره {من صلصال} أي طين يابس، له عند النقر صلصلة أي صوت شديد متردد في الهواء، فإن كان فيه مد من غير ترجيع فهو صلل، فالمراد شديد يبسه ولكنه غير مطبوخ، وأما(11/42)
المطبوخ فهو فخار: ثم بين أصل الصلصال فقال: {من حمإٍ} أي طين أسود منتن {مسنون *} أي مصبوب مهيأ لعمل ما يراد منه بالدلك والتحسين من الذهاب والاضطراب والجعل على طبع وطريقة مستوية، وكل ذلك على غاية السهولة والطواعية والهوان، فذكر أصل الإنسان وما وقع له من إبليس - الذي هو أصل الجن كما أن آدم عليه السلام أبو البشر - من الكيد حتى أخرجه من دار الصفاء إلى دار الكدر، ليحذره العقلاء من بني آدم، وفي التنبيه بابتداء الخلق على وصول البشر إلى أصل كان بمحض القدرة مخالف لهم في التكوين بين أبوين، وانتهاء الجن إلى أصل ليس خلقه كخلقهم تنبيه عظيم على انتهاء الموجودات إلى موجود لا يجانسهم، بل هو خالق غير مخلوق، فاعل بالاختيار، واحد لا شريك له، ولا اعتراض عليه، قادر على ما يريد سبحانه، وفي خلقه من الماء - الذي هو كالأب - والطين - الذي هو كالأم - بمساعدة النار والهواء من الحكمة أن يكون ملائماً لما في هذا العالم، فيكون بقاءه بذلك الذي خلق منه في مأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره، وذلك أدل على حكمة الخالق وعلمه ووحدانيته.(11/43)
ومادة «صل» تدور على الصلصال الذي هو الطين مطلقاً، أو الطين الحر يخلط بالرمل، أو الطين ما لم يجعل خزفاً، ويتفرع جميع معاني المادة منه، لأن من لوازمه في أوله الماء واللين بنداوته وسهولة خلطه لغيره، فيأتي الخفاء لأنه يغرز فيه بغير صوت، ومنها قبول التصفية من الغش، ومنها في آخره الصلابة لشدة اليبس، فيلزم تضامّ الأجزاء وتضايقها على انتظام أو غير انتظام، والصوت، وشدة الانفصال بالتشقق، ومن لوازمه التغير بالنتن، فيأتي الخبث والفساد، ومن لوازمه شدة الاختلاط بحيث إذا نشب فيه شيء عسر خلاصه، ومن لوازمه تميزه عما عداه، ومحل يصنع فيه.
فمن الصوت واليبس: صليل الحديد والإبل ونحو ذلك، يقال: صل الحديد واللجام: امتد صوته، فإن توهم ترجيع الصوت قيل: صلصل، وصل البيض: سمع له طنين عند القراع، والمسمار صليلاً: ضرب فأكره أن يدخل في الشيء، والإبل صليلاً: يبست أمعاؤها من العطش فسمع لها صوت عند الشرب.(11/44)
ومن الصوت: صلصل: أوعد وتهدد، وقتل سيد العسكر - لظهور الصيت بذلك، وصلصل الرعد: صفا صوته، والكلمة: أخرجها متحذلقاً، وطائر أو الفاختة، والراعي الحاذق، والمصلل - كمحدث: السيد الكريم الحسيب، والخالص النسب، والأسكف وهو الإسكاف عند العامة، وتصلصل الغدير: جفت حمأته، فتهيأ لأن يصوت يبسه، والحلي: صوت، وحمار صُلصُل وصُلاصل - بضمهما، وصلصال ومُصلصِل: مصوت.
ومن النتن: صلول اللحم والماء، يقال: صل اللحم صلولاً: أنتن، والماء: أجن، والصليان - بكسرتين مشددة اللام: ما تغير من اللحم، والصلة - بالضم: الريح المنتنة.(11/45)
ومن اليبس: الصلة، وهي الجلد اليابس قبل الدباغ، والنعل، والأرض، أو اليابسة - وصل السقاء صليلاً: يبس. أو أرض لم تمطر بين ممطورتين، والصل - بالكسر: القرن، وشجر، والسيف القاطع.
ومن النداوة: الصلة، وهي التراب الندي؛ ومن الماء أعم من أن يكون كثيراً أو قليلاً: الصلة للمطرة الواسعة والمتفرقة القليلة، والصلة - بالضم: بقية الماء وغيره، وكذا الصلصلة والصلصل - بضمهما: بقية الماء في الغدير، وكذا من الدهن والزيت، وأما التفرق فمن التشقق، والصلة: القطعة من العشب، سميت باسم المطر تسمية للمسبب باسم السبب.
ومن اللين: الصلالة - بالكسر - لبطانة الخف أو ساقها، والصلصل - كهدهد: ناصية الفرس ويفتح، أو بياض في شعر معرفته، وما ابيض من شعر ظهره، وهذا من التمييز أيضاً؛ ومن المحل: القدح أو الصغير منه، والمصلة - بالكسر: الإناء يصفى فيه الشراب؛ ومن الخبث: الصل - بالكسر للحية مطلقاً، أو الدقيقة الصفراء، والداهية،(11/46)
والتسيف القاطع - شبه بذلك لإهلاكه، وإنه لصل أصلال: داهٍ منكر في الخصومة وغيرها، وصلتهم الصالة: أصابتهم الداهية، وهذا أيضاً من شدة الانتشاب، ومن التشقق: الصال وهو الماء يقع على الأرض فتشقق.
ومن التصفية: صللنا الحب المختلط بالتراب: صببنا فيه ماء فعزلنا كلاًّ على حياله، وصل الشراب صلاً صفاه، والمصلة - بالكسر: الإناء يصفي فيه.
ومن تضام الأجزاء وتضايقها، وقد يكون مع الانتظام ومنه: تلصيص البنيان، أي ترصيصه، وقد لا يشترط فيه الانتظام ومنه: التص بمعنى التزق، واللص وهو تقارب المنكبين، وتقارب الأضراس، وتضام مرفقي الفرس إلى زوره، واللصاء من الجباه: الضيقة، والمرأة الملتزقة الفخدين لا فرجة بينهما، والزنجي: ألص الأليتين،(11/47)
وإغلاق الباب؛ ومن إطلاقه على ما ليس منتظماً وإن لم يكن تقارب: اللصاء من الغنم، وهي ما أقبل أحد قرينها وأدبر الآخر، ومن الخفاء الذي هو من لوازم الطين وهو ندي: اللص - بالفتح، وهو فعل الشيء في ستر، والسارق، ويثلث.
ومادة «سن» تدور على الدلك، ويلزمه التحسين، فمن الدلك: السن - بالكسر، وهو الضرس والخبة من الثوم - تشبه به، والثور الوحشي، وسنان الرمح، ومكان البري من القلم، والأكل الشديد، والقرن، وشعبة المنجل، ومقدار العمر - لأنه لما مر على صاحبه كان كأنه دلكه، والمسانّ من الإبل: الكبار، وسن السكين وغيره فهو مسنون، والمسن - بالكسر: آلة السن، وسنن رمحه إليه: سدده، وسن الأضراس: سوكها، والإبل: ساقها سريعاً - لتدالكها عند الازدحام، وسن الأمر: بينه - فكأنه هيأه لأن يركب فيدلك بالأفكار أو غيرها، وسن الطين: عمله فخاراً، وفلاناً: طعنه بالسنان أو عضه بالأسنان، والفحل الناقة: كبها على وجهها، وعليه(11/48)
الدرع أو الماء: صبه، والطريقة: سارها، واستن: استاك.
والفرسُ: قمص، والسراب: اضطرب، والسنة - بالكسر: الفأس لها خلفان، والسنة - بالضم: السيرة أو الطبيعة - كأنها عولجت حتى انقادت، والسنة من الله: حكمه وأمره ونهيه، وسنن الطريق - مثلثة وبضمتين: نهجه وجهته، وجاءت الريح سناسن: على طريقة واحدة، والحمأ المسنون: المنتن - لأنه تهيأ لأن يدلك بالآية جبلاً حتى يصلح لما يستعمل فيه، والفحل يسانّ الناقة: يكدمها ويطردها حتى ينوخها ليسفدها، والسنين - كأمير: ما يسقط من الحجر إذا حككته، والأرض التي أكل نباتها كالمسنونة، والسنسن - بالكسر: العطش - كأنه سن الأمعاء حتى أحرقها، ورأس المحالة، أي البكرة العظيمة، وحرف فقار الظهر كالسن والسنسنة، ورأس عظام الصدر، أو طرف الضلع التي في الصدر، والمستسن: الطريق المسلوك، والمستن: الأسد، والسنن - محركة:(11/49)
الإبل تستن في عدوها، والسنينة - كسفينة: الرمل المرتفع المستطيل على وجه الأرض، وهو من المسنون بمعنى المصبوب: وسنني هذا الشيء: شهى إليّ الطعام - كأنه سن المعدة حتى قطعت بعد كلالها، وتسانت الفحول: تكادمت، والنّس: سرعة الذهاب، ويلزمه تدالك الأعضاء، ونسيس الإنسان: مجهوده - لأن ذلك لا يكون إلا بعد أشد الاضطراب، والنسيسة: الحشاشة، وهي بقية الروح من المريض والجريح - كأنها صدمت حتى ذهب أكثرها، ونس اللحم: ذهب بلله من شدة الطبخ - لأن إحراق النار أعظم دلكٍ، وكذا نس الحطب - إذا أخرجت النار زبده على رأسه - لقيام الإحراق مقام الرضخ فيما يستخرج دهنه، ونس من العطش: جف، من ذلك؛ ومن التحسين: سنن المنطق - إذا حسنه، وسن الأمر: بينه، والطين: عمله فخاراً، والمال: أرسله في الرعي أو أحسن القيام عليه حتى(11/50)
كأنه صقله، والشيء: صوره، والسنة - بالضم: الوجه، أو حُرُّه، أو دائرته، أو الصورة أو الجبهة، ورجل مسنون الوجه: مملسه حسنه سَهْلُه، أو في وجهه وأنفه طول، وكل ذلك يرجع إلى الدلك أيضاً - والله أعلم. وقال أبو حيان: قال ابن عباس رضي الله عنهما: المسنون: الرطب، ومعناه المصبوب، لأنه لا يكون مصبوباً إلا وهو رطب؛ وقال الرازي في اللوامع: وهذا إشارة إلى درجات خلق آدم عليه السلام ومراتبه، وأشار الله تعالى إلى ذلك في مواضع مختلفة حسبما اقتضته الحكمة فقال في موضع {خلقه من تراب} [آل عمران: 59] إشارة إلى المبدإ الأول، وفي آخر {من طين} إشارة إلى الجمع بين الماء والتراب، وفي آخر {من حمإٍ مسنون} إشارة إلى الطين المتغير المستقر على حالة من الاعتدال تصلح لقبول الصورة، وفي آخر {من صلصال} إشارة إلى يبسه وسماع صلصلة منه، وفي آخر {من صلصال كالفخار} [الرحمن: 14] وهو الذي قد أصلح بأثر من النار فصار كالخذف، وبهذه القوة النارية حصل في الإنسان أثر من الشيطنة - انتهى. وقال الرماني: وقد تضمنت الآيات البيان عمّا يوجبه تقليب الحيوان من حال إلى حال(11/51)
من جاعل قادر قلّبه من أصل هو أبعد شيء من حال الحيوان إلى الحيوان، وقال: إن الحكمة في جعله من الحمأة العبرة في أنه قلب من تلك الحال الحقيرة في الصفة إلى هذه الحال الجليلة.(11/52)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
ولما ذكر سبحانه خلق الإنسان، أتبعه ذكر ما خلقه قبله من الجنان فقال: {والجان} أي الذي هو للجن كآدم عليه السلام للناس: وقيل: هو إبليس {خلقناه} وعبر عن تقليل زمان سبق خلقه وتقريبه بإثبات الجار فقال: {من قبل} أي قبل خلق الإنسان {من نار السموم *} أي الحر الشديد، قيل: هي نار لا دخان لها، يكون منها الصواعق، وهي بين السماء وبين الحجاب، فإذا أراد الله تعالى خرقت الحجاب، فهدت إلى ما أمرت به، فالهداة التي يسمعها الناس هي خرق ذلك الحجاب؛ وقال الرازي في اللوامع: نار لطيفة تناهت في الغليان في أفق الهواء، وهي بالإضافة إلى النار التي جعلها الله تعالى متاعاً كالجمد إلى الماء والحجر إلى التراب - انتهى. وقال عبد الله: هذه السموم جزء من سبعين جزءاً من السموم(11/52)
التي خلق الله منها الجان، وهي مأخوذة من دخولها بلطفها في مسام البدن، ومنه السم القاتل - انتهى.
ولما كانت نعمة الإيجاد كافية في إخلاص العبادة للموجد، ثم لم يعتبرها أهل الضلال، أشار تعالى إلى نعمة هي أكبر منها، وهي التفضيل على جميع المخلوقات على وجه مبين لسبب الضلال، فقال عاطفاً على ما تقديره: اذكر هذا فإنه كافٍ في المراد لكل ذي لب: {وإذ} أي واذكر قول ربك إذ {قال ربك} أي المحسن إليك بتشريف أبيك آدم عليه السلام لتشريفك {للملائكة} ولما كان مما يتوقف فيه، أكده فقال: {إني خالق بشراً} أي حيواناً غير مُلبَس البشرة بما جعله عليه من الطبيعة على الصورة الإنسانية {من صلصال} أي طين شديد اليبس {من حمإ} أي طين أسود منتن {مسنون *} أي مصور بصورة الآدمي في تجويفه وأعضائه كأنه مصبوب في قالب؛ قال الرماني: وأصله الاستمرار في جهة من قولهم: على سَنن واحد {فإذا سويته} أي عدلته وأتممته وهيأته لنفخ الروح تهيئة قريبة من الفعل {ونفخت فيه من روحي} أي خلقت الحياة فيه(11/53)
كما تعلق النار بالفتيلة بالنفخ، وهو تمثيل، وأضاف الروح إليه تشريفاً، وهو ما يصير به الجسم حياً، وأشرف منه ما يصير به الروح عالماً، وأشرف منه ما يصير به العالم عاملاً خاشعاً {فقعوا له} أي تعظيماً، حال كونكم {ساجدين *} أي اسجدوا له سجود من كان في مبادرته به وسهولة انقياده كأنه وقع من غير اختياره {فسجد الملائكة} أي بسبب هذا الأمر من غير توقف لما جاء الوقت الذي أمرتهم فيه لذلك البشر، وهو أبوكم آدم عليه السلام وأنتم في صلبه {كلهم أجمعون *} .(11/54)
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)
ولما أبلغ في تأكيد ما أفهمه الجمع، استثنى فقال: {إلا إبليس} قيل: هو من قوم من الملائكة، وقيل: بل - لكونه كان واحداً بينهم منضافاً إليهم عاملاً بأعمالهم - كان معموراً فيهم، فكان كأنه منهم، فصح استثناءه لذلك، فكأنه قيل: ما فعل. فقيل استعظاماً لمخالفته: {أبى أن يكون} أي لشكاسة في جبلته {من الساجدين *} أو إنه لم يقل: فأبى - بالعطف، لأن الاستثناء منقطع، فإن إبليس من نار والملائكة من نور، وهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون بخلافه، فكأنه قيل: فما فعل به الملك؟ فقيل: لم يعاجله بالعقوبة، بل(11/54)
أخره إلى أجله المحكوم به في الأزل كما أنه لم يعاجلكم لذلك، فكأنه قيل: فما قال له؟ فقيل: {قال} له ليقيم الحجة عليه عند الخلائق ظاهراً كما قدمت عليه الحجة في العلم باطناً: {يا إبليس} اختار هذا الاسم هنا لأن الإبلاس معناه اليأس من كل خير، والسكون والانكسار، والحزن والتحير، وانقطاع الحجة والندم {مالك} أي شيء لك من الأعذار في {ألا تكون} أي بقلبك وقالبك {مع الساجدين *} لمن أمرتك بالسجود له وأنت تعلم مما أنا عليه من العظمة والجلال ما لا يعلمه كثير من الخلق {قال لم أكن} وأكد إظهاراً للإصرار والإضرار بالكبر فقال: {لأسجد لبشر} أي ظاهر البدن، لا قدرة له على التشكل والتطور {خلقته من صلصال} أي طين يابس لا منعة فيه، بل إذا نقر أجاب بالتصويت {من حمإ} أي طين متغير أسود كدر {مسنون *} أي مصور بصورة الفخار متهيىء للدلك، لا يرد يد لامس، وأنا خير منه لأنك خلقتني من نار نافعة بالإشراق، ممتنعة ممن يريدها بالإحراق، فخضوعي له منافٍ لحالي وممتنع مني، وإلزامي به جور، فكأنه قيل: فماذا أجيب؟ فقيل: {قال فاخرج} أي تسبب عن كبرك(11/55)
أني أقول لك: اخرج {منها} أي من دار القدس، قيل: السماء، وقيل: الجنة {فإنك رجيم *} أي مطرود إذ الرجم لا يكون إلا لمن هو بعيد يراد الزيادة في إبعاده بل إهلاكه، وعلة الإخراج أنها دار لا يقيم بها متكبر عاصٍ بمخالفة أمري، فإن لي الحاكم النافذ والعظمة التامة المقتضية لوجوب الطاعة، لا ينبغي لمن أمرته بما مر أن يتخلف عن أمري فضلاً عن أن يضرب لي الأمثال، ويواجهني بالجدال، طاعناً فيما لي من الجلال والجمال؛ ثم أكد بُعده بالإخبار باستمراره فقال: {وإن عليك} أي خاصة {اللعنة} أي الكاملة للقضاء بالمباشرة لأسباب البعد {إلى يوم الدين *} أي إلى يوم انقطاع التكليف وطلوع صبح الجزاء بفناء الخلق أجمعين وفوات الأمد التي تصح فيه التوبة التي سبب القرب، فذلك إيذان بدوام الطرد، وتوالي البعد والمقت، فلا يتمكن في هذا الأمد من عمل يكون سبباً للقرب من حضرة الأنس، وجناب القدس، ومن منع من التوبة عن الكفر في وقتها يعلم قطعاً أنه لا يغفر له، فهو معذب أبداً.(11/56)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
ولما علم من هذا دوام لعنه، لأنه منع التقرب في دار العمل،(11/56)
وما بعد ذلك محل الجزاء لا العمل، وكان ذلك مفهماً لإنظاره إلى ذلك الحد، وكان ظاهره أن لعنه معني به، كان كأنه قيل: فماذا قال حين سمع ذلك؟ فقيل: {قال} ذاكراً صفة الإحسان والتسبب في سؤال الإنظار: {رب} فاعترف بالعبودية والإحسان إليه، ولم يحمله ذلك على التوبة للحكم بدوام لعنه فلا يطمع طامع في إيمان من ختم بكفره بالإجابة إلى ما يقترح، وأتى بفاء السبب لما فهم من الإملاء فقال: {فأنظرني} والإنظار: تأخير المحتاج للنظر في أمره {إلى يوم يبعثون *} فحمل يوم الدين على حقيقته، وأراد التصريح بالإنظار إليه ليأمن الموت. فكأنه قيل: ماذا قيل له؟ فقيل: {قال} له ربه: {فإنك} أي بسبب ما تقدم من الحكم {من المنظرين *} وقطع عليه ما دبج به من المكر فقال: {إلى} ولما كان اليوم ما يتم فيه أمر ظاهر، وكانت الأيام الهائلة ثلاثة: زمان موت الأحياء الخارجين من دار الخلد، ثم بعث الأموات، ثم الفصل بينهم بإحلال كل فريق في داره، قال: {يوم} ولما كان الوقت أدل ألفاظ الزمان على الأجل، قال: {الوقت} ولما كان قد دبج في سؤاله هذا تدبيجاً أوهم تجاهله بتحتم(11/57)
الموت على كل مكلف، بين تعالى أنه مما لا يجهل فقال: {المعلوم *} أي الذي قدرت عليك الموت فيه، وهو النفخة الأولى وما يتبعها من موت كل مخلوق لم يكن في دار الخلد.
ولما أفهم ما تقدم - كما قلنا - الحكم بإغوائه، كان السامع كأنه قال: فماذا قال؟ فقيل: {قال} منسوباً نفسه بالمعبود العلي - الذي لا يسأل عما يفعل، وكل أفعاله عدل وحكمة - بعد أن رفع نفسه على العبد البشري: {رب} أي أيها الموجد والمربي لي وعزتك {بما أغويتني} أي بسبب إغوائك لي من أجلهم، وللاهتمام بهذا السبب قدمه على جواب القسم الدال على المقسم به، وهو قوله: {لأزينن لهم} أي تزييناً عظيماً، المعاصي والمباحات الجارّة إليها الشاغلة عن الطاعة الصارفة عنها {في الأرض} أي التي هي محل الغفلة وهم منها، والشيء إلى ما هو منه أميل، فهي بهذا التقدير(11/58)
مساوية لآية «ص» «فبعزتك» ؛ والتزيين: جعل الشيء متقبلاً في النفس من جهة الطبع والعقل بحق أو بباطل {ولأغوينهم} أي بالإضلال عن الطريق الحميدة {أجمعين} انتقاماً لنفسي {إلا عبادك منهم} أي المشرفين بالإضافة إليك، فهم لذلك لا يميلون عنك إلى شيء سواك، فلذلك أبدل منهم {المخلصين *} فزاد بهذا الكلام في الضلال، ولم يقدر أن يقول بدل ذلك: ربّ تب عليّ - ونحوه من الاستعطاف كما قال آدم عليه السلام لما حفه اللطف وداركه العفو، فارعوا هذه النعمة! والإخلاص: إفراد الشيء عما يشوبه من غيره، فكأنه قيل: فبماذا أجيب؟ فقيل: {قال} الله في جوابه، راداً على ما أوهمه كلامه من أن له فعلاً يستقل به، مكذباً له: {هذا} أي الذي ذكرته من حال المستثنى والمستثنى منه {صراط عليّ مستقيم *} لأني قضيت به ولو لم تقله أنت وحكمت به عليك وعليهم، فلا محيص لكم عنه، فكأنه قيل: عليّ إقامته، أو هو وارد عليّ ألا عوج لسالكيه عن الرجوع إليّ والمرور عليّ - يعني أنه لا يقدر أحد أن يعمل شيئاً(11/59)
بغير إرادتي، فإني بالمرصاد؛ ثم شرح ذلك بقوله - مضيفاً جميع العباد إليه كما هو الحقيقة، نافياً ما قد يوهمه الكلام من أن لإبليس عملاً مستقلاً -: {إن عبادي} أي عامة {ليس لك} أي بوجه من الوجوه {عليهم سلطان} أي لتردهم كلهم عما يرضيني {إلا من اتبعك} أي بتعمد منه ورغبة في اتباعك {من الغاوين} ومات عن غير توبة؛ فإني جعلت لك عليهم سلطاناً بالتزيين والإغواء، وقيل وهو ظاهر: إن الإضافة للتشريف، فلا تشمل إلا الخلص، فحينئذ يكون الاستثناء منقطعاً، وفائدة سوقه بصورة الاستثناء - على تقدير الانقطاع - الترغيب في رتبة التشرف بالإضافة إليه والرجوع عن اتباع العدو إلى الإقبال عليه، لأن ذوي الأنفس الأبية والهمم العلية ينافسون في ذلك المقام، ويرونه - كما هو الحق - أعلى مرام {وإن جهنم لموعدهم} أي الغاوين من إبليس ومن شايعه {أجمعين *} ثم بين أنهم متفاوتون فيها فقال: {لها سبعة أبواب} قال الرماني: وهي أطباق بعضها فوق بعض - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وقتادة وابن جريح رحمهم الله {لكل باب منهم} أي الغاوين خاصة، لا يشاركهم(11/60)
فيه مخلص {جزء مقسوم *} معلوم لنا من القدم لتقديرنا إياه، لا يزيد شيئاً ولا ينقص شيئا، فلا فعل فيه بغير التسبب الذي أظهرناه، لنربط به الأحكام على ما يقتضيه عقولكم ومجاري عاداتكم، وعن ابن جريح أن العليا جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، وفي نسخة تقديم سقر على لظى، وعن الضحاك أن العليا لأهل التوحيد، ثم يخرجون، والثانية للنصارى، والثالثة لليهود، والرابعة للصائبة، والخامسة للمجوس، والسادسة لمشركي العرب، والسابعة للمنافقين، والسبب في تصاعدها اختلاف أنواع الكفر في الغلط والخفة
{ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49] رحمة منه سبحانه، ولعلها كانت سبعة باعتبار أصناف الكفار، لأنهم إما معطلة أو مثبتة، والمثبتة إما يهود أو صابئة أو نصارى أو مجوس أو عباد أوثان، والكل إما مصارحون أو منافقون، ولما كان المنافق لا يعرف ظاهراً من أيّها هو؟ عدَّ قسماً واحداً ووكل أمره في ميزه إلى العليم الخبير، ولما كان الكل عاملين بما لم يأذن به الله كانوا في حكم المعطلة، لوصفهم الله بغير صفته، فرجعت(11/61)
الأقسام إلى ستة، فأضيفت إليها العصاة من كل فرقة فجعلت جزء الطبقة العليا من النار مقابلة لقسم المنافقين من كل أمة، لعملهم أعمال الكفار مع الإيمان، كما أن عمل المنافقين عمل المؤمنين مع الكفران، فكانوا أخفى الكفار فكان لهم الدرك الأسفل من النار، ثم رأيت في «رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية» للعارف بالله تعالى شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي رحمه الله أنها جعلت سبعة على وفق الأعضاء السبعة من العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرجل، لأنها مصادر السيئات، فكانت مواردها الأبواب السبعة - وهو مأخوذ من كتاب المحاسبة من كتاب الإحياء للإمام الغزالي - ولما كانت هي بعينها مصادر الحسنات بشرط النية، والنية من أعمال القلب، زادت الأعضاء واحداً، فجعلت أبواب الجنان ثمانية هذا معنى قوله، قال: وأعمال القلوب من السيئات غير مؤاخذ بها.
ولما ذكر الكافرين وما جرهم إلى الضلال، وجرأهم على قبائح الأعمال، ذكر المخلصين فقال - مؤكداً لإنكار المكذبين بالبعث: {إن المتقين} أي العريقين في هذا الوصف؛ والمتقي: من جعل(11/62)
الإيمان بإخلاصه حاجزاً بينه وبين العقاب {في جنَّات وعيون} .(11/63)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
ولما كان المنزل لا يحسن إلا بالسلامة والأنس والأمن، قال تعالى: {ادخلوها} أي يقال لهم ذلك {بسلام} أي سالمين من كل آفة، مرحباً بكم ومسلماً عليكم حال الدخول {آمنين *} من ذلك دائماً.
ولما كان الأنس لا يكمل إلا بالجنس مع كمال المودة وصفاء القلوب عن الكدر، قال: {ونزعنا} أي بما لنا من العظمة {ما في صدورهم من غل} أي حقد ينغل أي ينغرز في القلب حال كونهم {إخواناً} أي متصافين، حال كونهم {على سرر} جمع سرير، وهو مجلس رفيع موطأ للسرور {متقابلين *} لا يرى بعضهم قفا بعض؛ في آخر الثقفيات عن الجنيد رحمه الله أنه قال: ما أحلى الاجتماع مع الأصحاب! وما أمرّ الاجتماع مع الأضداد! ولما كان النظر في الدوام والمآل بعد ذلك، قال: {لا يمسّهم فيها نصب} أي إعياء وتعب وجهد ومشقة {وما هم منها} ولما كان المنكى في كل شيء إنما هو الإكراه، بني للمفعول قوله: {بمخرجين *} .
ولما كان المفهوم من هذا السياق أن الناجي إنما هو المتقي المخلص(11/63)
الذي ليس للشيطان عليه سلطان، وكان مفهوم المخلص من لا شائبة فيه، وكان الإنسان محل النقصان، وكان وقوعه في النقص منافياً للوفاء بحق التقوى والإخلاص، وكان ربما أيأسه ذلك من الإسعاد، فأوجب له التمادي في البعاد، قال سبحانه - جواباً لمن كأنه قال: فما حال من لم يقم بحق التقوى؟ {نبىء عبادي} أي أخبرهم إخباراً جليلاً {أني أنا} أي وحدي {الغفور الرحيم *} أي الذي أحاط - محوه للذنوب وإكرامه لمن يريد - بجميع ما يريد، لا اعتراض لأحد عليه.
ولما كان ذلك ربما سبباً للاغترار الموجب للإصرار، قال تعالى: {وأن عذابي هو} أي وحده {العذاب الأليم *} أي الكامل في الإيلام، فعلم أن الأول لمن استغفر، والثاني لمت أصر، وعرف من ذلك أن المتقين إنما دخلوا الجنة بعفوه، والغاوين إنما عذبوا بعدله، فهو لف ونشر مشوش - على ما هو الأفصح.
ولما أتم سبحانه شرح قوله: {وليعلموا أنما هو إله واحد} وما تبعه من الدلالة على البعث، شرع في شرح {وليذكر أولوا الألباب} بقصة الخليل عليه السلام وما بعدها مع الوفاء بذكر المعاد، تارة تلويحاً(11/64)
وتارة تصريحاً، والرجز عن الاجتراء على طلب الإتيان بالملائكة عليهم السلام، والالتفات إلى قوله: {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل واسحاق} [إبراهيم: 39] في أسلوب شارح لما تعقبه هذه القصة، فإن حصول القنوط سبب لآية المغفرة، والإخبار بعذاب الأمم تمثيل لآية العذاب ليزدجر المخاطبون، وأفراد لهم ذكر من هو أقرب إلى بلادهم ممن يعرفونه من المعذبين لأنه أوقع في النفس، فقال تعالى: {ونبئهم} أي خبرهم إخباراً عظيماً {عن ضيف إبراهيم *} والضيف هو المنضم إلى غيره لطلب القرى، فهؤلاء سموا بهذا الاسم لأنهم على صورة الضيف، فهو من دلالة التضمن {إذ دخلوا عليه} أي إبراهيم عليه السلام {فقالوا} أي عقب الدخول {سلاماً} .
ولما كان طلبهم في هذه الصورة للملائكة على وجه أوكد مما في سورة هود عليه السلام، أشار لهم إلى ما في رؤية الملائكة من الخوف ولو كانوا مبشرين وفي أحسن صورة من صور البشر - بقوله: {قال} بلسان الحال أو القال: {إنا} أي أنا ومن عندي {منكم وجلون *} وأسقط ذكر جوابه بالسلام، ولا يقدح ذلك فيما في سورة هود وغيرها(11/65)
من ذكره، فإن إذ ظرف زمان بمعنى حين، والحين قد يكون واسعاً، فيذكر ما فيه تارة جميعه على ترتيبه، وأخرى على غير ذلك، وتارة بعضه مع إسقاط البعض مع صدق جميع وجوه الإخبار لكونه كان مشتملاً على الجميع، وتكون هذه التصرفات على هذه الوجوه لمعانٍ يستخرجها من أراد الله.(11/66)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
ولما أخبر أنه أخبرهم بوجله منهم، تشوف السامع إلى جوابهم فقال: {قالوا} مريدين أمنه: {لا توجل} والوجل: اضطراب النفس لتوقع ما يكره؛ ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكدين لقلع ما في نفسه من الوجل المنافي للبشرى {إنا نبشرك بغلام} أي ولد ذكر هو في غاية القوة وليس هو كأولاد الشيوخ ضعيفاً. ولما كان خوفه لخفاء أمرهم عليه، كان للوصف بالعلم في هذا السياق مزيد مزية فقالوا: {عليم *} فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل: {قال} مظهراً للتعجب إرادة تحقيق الأمر وتأكيده: {أبشرتموني} أي بذلك {على أن مسني الكبر} أي الذي لا حركة معه يأتي منها ولد، أم على أن أعود شاباً؟ ولذلك سبب عنه قوله: {فبم تبشرون *} بينوا لي ذلك بياناً شافياً(11/66)
{قالوا بشرناك بالحق} أي الأمر الثابت المقطوع به الواقع لا محالة الذي يطابق خبرنا {فلا تكن} أي بسبب تبشيرنا لك بالحق {من القانطين *} أي الآئسين الذين ركنوا إلى يأسهم، لقولك نحو أقوالهم.
فلما ألهبوه بهذا النهي {قال} منكراً لأن يكون من القانطين: {ومن يقنط} أي ييأس هذا اليأس {من رحمة ربه} أي الذي لم يزل إحسانه دارّاً عليه {إلا الضالون *} أي المخطئون طريق الاعتقاد الصحيح في ربهم من تمام القدرة وأنه لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة، وهذا إشارة إلى أنه ما كان قانطاً، وإنما كان مريداً لتحقيق الخبر، وفي هذا تلويح إلى أمر المعاد.
فلما تحقق البشرى ورأى إتيانهم مجتمعين على غير الصفة التي يأتي عليها الملك للوحي، وكان هو وغيره من العارفين بالله عالمين بأنه ما تنزل الملائكة إلا بالحق، كان ذلك سبباً لأن يسألهم عن أمرهم ليزول وجله كله، فلذلك {قال فما} بفاء السبب {خطبكم} قال أبو حيان: والخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد - انتهى. وقال الرماني: إنه الأمر الجليل {يا أيها المرسلون *} فإنكم ما جئتم إلا لأمر عظيم يكون فيصلاً بين هالك وناج {قالوا إنا} ولما كان عالماً بمرسلهم، بنوا للمفعول(11/67)
قولهم: {أرسلنا} أي بإرسال العزيز الحكيم الذي أنت أعرف الناس في هذا الزمان به {إلى قوم} أي ذوي منعة {مجرمين} أي عريقين في الإجرام كلهم.(11/68)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
ولما كان إرسالهم للعذاب، قالوا مستثنين من الضمير في {مجرمين} أي قد أجرموا كلهم إجراماً عظيماً {إلا آل لوط} فاستثنوهم من أن يكونوا مجرمين، المستلزم لكونهم ما أرسلوا لتعذيبهم، فكان ذلك محركاً للنفس إلى السؤال عن حالهم، فإنهم ممن وقع الإرسال بسببه، فأجابوا بقولهم: {إنا لمنجوهم} أي تنجية عظيمة بتدريج الأسباب على العادة {أجمعين إلا امرأته} .
فلما استثنوها من أن ينجّوها فكان أمرها محتملاً لأن تعذب ولأن ينجيها الله تعالى بسبب غيرهم، تشوفت النفس للوقوف على ما قضى الله به من ذلك، فقيل بإسناد الفعل إلى أنفسهم لما لهم من الاختصاص بالمقدر سبحانه: {قدرنا} ولما كان فعل التقدير متضمناً للعلم، علقه عن قوله: {إنها} أي امرأته، وأكد لأجل ما أشير إليه هنا من عظيم تشوف الخليل عليه السلام إلى معرفة أمرهم(11/68)
وتشديد سؤاله، في نجاة لوط عليه السلام وجميع آله - كما مضى التصريح به في هود - فطماً له عن سؤال في نجاتها بخلاف ما في النمل، فإن سياقها عار عن ذلك {لمن الغابرين} أي الباقين الذين لا ينجون مع لوط عليه السلام، بل تكون في الهلاك والعبرة؛ والآل - قال الرماني: أهل من يرجعون إلى ولايته، ولهذا يقال: أهل البلد، ولا يقال آل البلد، والتقدير: جعل الشيء على مقدار غيره لتظهر المساواة والمباينة، والغابر: الباقي فيمن يهلك.
فلما تم ما أريد الإخبار عنه من تحاورهم مع إبراهيم عليه السلام، أخبر عن أمرهم مع لوط عليه السلام، فقال: {فلما} بالفاء الدالة على سرعة وصولهم إليه، وكأنه ما اشتد إنكاره لهم إلا بعد الدخول إلى منزله، إما لخوفه عليهم وهم لا يخافون، أو غير ذلك من أحوال لا تشبه أحوال البشر فلذا قال: {جاء آل لوط} أي في منزله {المرسلون *} أي لإهلاك قومه {قال إنكم قوم} أي أقوياء {منكرون *} لا بد أن يكون عن إتيانكم إلى هذه البلدة(11/69)
شر كبير لأحد من أهل الأرض، وهو معنى {سيء بهم} [العنكبوت: 33] الآية، فقدم حكاية إنكاره إياهم وإخبارهم عن العذاب لمثل ما تقدم في قصة إبراهيم عليه السلام من الزجر عن قولهم {لو ما تأتينا بالملائكة} المحتمل لإرادة جميع الملائكة {إن كنت من الصادقين} تعريفاً لهم بأن بعض الملائكة أتوا من كانا أكمل أهل ذلك الزمان على أجمل صور البشر، مبشرين لهما، ومع ذلك خافهم كل منهما، فكيف لو كان منهم جمع كثير؟ أم كيف لو كانوا على صورهم؟ أم كيف لو كان الرائي لهم غيرهما؟ أم كيف لو كان كافراً {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً} [الفرقان: 22] ويجوز أن يكون قوله لهم هذه المقالة إنما كان عند إخبارهم له بأنهم رسل الله، ويكون المعنى حينئذ أنكم لستم على صفة الآتي بالوحي، فقد اشتد على أمركم، لكوني لا أعرفكم مع(11/70)
الاستيحاش منكم، وذلك بعد محاورته لقومه ثم مقارعتهم عنهم، فكان خائفاً عليهم، فلما أخبروه أنهم ملائكة خاف منهم أن يكونوا أتوا بشيء يكرهه، وقد تقدم آنفاً أن الإخبار عما كان في حين من الأحيان لا يضر تقديم بعضه على بعض ولا إسقاط بعض وذكر آخر، ولم يزد هنا الحرف الذي أصله المصدر، وهو «أن» كما في العنكبوت، لأن استنكاره لهم وإن كان مرتباً على مجيئهم إلا أنه ليس متصلاً بأوله بخلاف المساءة.(11/71)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
ولما كانت حقيقة المنكر ما خرج عن عادة أشكاله، ولم يكن على طريقة أمثاله، أضربوا عن قوله، وكان جوابهم أن {قالوا بل} أي لسنا منكرين لأنا {جئناك} لنفرج عنك {بما} أي بسبب إيقاع ما {كانوا} أي جبلة وطبعاً {فيه يمترون *} بما جرت عادتنا أن نأتي بمثله من العذاب الذي كانوا يشكون فيه شكاً عظيماً، يحملون نفوسهم عليه ويكذبون به، والجاهل يوصف بالشك وإن كان مكذباً من جهة ما يعرض له منه، من حيث إنه لا يرجع إلى ثقة فيما هو عليه {وأتيناك بالحق} الفاصل بينك وبينهم، الواقع بهم مطابقاً لإخبارنا؛ والإتيان: الانتقال إلى جهة الشيء، والذهاب: الانتقال عنه(11/71)
{وإنا لصادقون *} في الإخبار بما يطابق الواقع.
ولما أخبروه بوقوع العذاب بهم، أمروه بما يكون سبباً فيما أمروا به من إنجائه، فقالوا: {فأسر} فأتو بالفاء لأن ما بعدها مسبب عما قبلها {بأهلك بقطع} أي طائفة {من الليل واتبع} أي كلف نفسك أن تتبع {أدبارهم} لتكون أقربهم إلينا وإلى محل العذاب، لأنك أثبتهم قلباً وأعرفهم بالله، والشر من ورائكم، وقد جرت عادة الكبراء أن يكونوا أدنى جماعتهم إلى الأمر المخوف سماحاً بأنفسهم وتثبيتاً لغيرهم، وعلماً منهم بأن مداناة ما فيه وجل لا يقرب من أجل، وضده لا يغني من قدر، ولا يباعد من ضرر، ولئلا يشتغل قلبك بمن خالفك، وليحتشموك فلا يلتفتوا، أو يتخلف أحد منهم - وغير ذلك من المصالح؛ والدبر: جهة الخلف وهو ضد القبل {ولا يلتفت} أي أصلاً {منكم أحد} إذ لا فائدة فيه لأن الملتفت غير ثابت، لأنه إما غير مستيقن لخبرنا أو متوجع لهم، فمن التفت ناله العذاب، وذلك أيضاً أجد في الهجرة، وأسرع في السير،(11/72)
وأدل على إخراج ما خلفوه من منازلهم وأمتعتهم من قلوبهم، وعلى أنهم لا يرقون لمن غضب الله عليهم مع أنهم ربما رأوا ما لا تطيقه أنفسهم {وامضوا حيث} وتعبيره بالمضارع يشعر بأنه يكون معهم بعض الملائكة عليهم السلام في قوله: {تؤمرون *} .
ولما تقرر بهذا أمر إهلاكهم من غير تصريح ولا تعيين لوقت، قال تعالى: {وقضينا} أي بما لنا من العظمة، موحين {إليه} أي خاصة {ذلك الأمر} وأشار إلى تعظيمه بالإشارة إليه بأداة البعد، ثم فسره بقوله: {أن دابر} أي آخر {هؤلاء} أي الحقيرين عند قدرتنا، وأشار بصيغة المفعول إلى عظمته سبحانه وسهولة الأمر عنده فقال تعالى: {مقطوع} حال كونهم {مصبحين *} ولا يقطع الدابر حتى يقطع ما دونه، لأن العدو يكون مستقبلاً لعدوه، فهو كناية عن الاستئصال بأن آخرهم وأولهم في الأخذ سواء، لأن الآخذ قادر، لا كما يفعل بعض الناس مع بعض من أنهم يملون في آخر الوقائع فيفوتهم البعض.(11/73)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
فلما تم ما دار بينه وبين الرسل مقدماً لما بيّن، أتبعه البيان عن(11/73)
حال قومه إشارة إلى أن الملائكة إن كانوا بصفات البشر لم يعرفهم الكفرة، وإن كانوا بصفاتهم أو بإظهار شيء من خوارقهم لم تحتمله قواهم، فلا نفع لهم في مكاشفتهم في حالة من الحالات، فسؤالهم الإتيان بهم جهل عظيم، فقال تعالى: {وجاء أهل المدينة} أي التي كان هذا الأمر فيها - قالوا: وهي سدوم - لإرادة عمل الفاحشة بالأضياف {يستبشرون *} أي يلوح على بشراتهم السرور، فهم يوجدونه لأنفسهم إيجاد من هو شديد الرغبة في طلبه، فكان حال لوط عليه السلام أن {قال} لهم: {إن هؤلاء} أي الأقرباء مني {ضيفي} .
ولما كان إكرام الضيف إكراماً لمن هو عنده وإهانته إهانته، سبب عن ذلك ما أشار إليه الكلام فقال: {فلا تفضحون *} في إصابتهم بفاحشة، وكان ذلك قبل معرفته أنهم ملائكة {واتقوا الله} أي الذي له جميع العظمة {ولا تخزون *} أي بإهانة ضيفي، فيكون ذلك عاراً عليّ مدى الدهر، فلم يكفهم ذلك بل {قالوا} بفظاظة، عاطفين على ما تقديره: ألم تعلم أنا لا نترك هذا الأمر لشيء من الأسباب: {أو لم ننهك} أي من قبل هذا {عن العالمين *} أن تجير علينا(11/74)
أحداً منهم، فما وصلوا إلى هذا الحد من الوقاحة، ذكر لهم الحريم ليحملهم ذلك على الحياء، لأنه دأب من له أدنى مروءة ولا سيما ذكر الأبكار في سياق يكاد يصرح بمراده، بأن {قال هؤلاء} مشيراً إلى بيته الذي فيه بناته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي عنهن {بناتي إن كنتم} ولا بد {فاعلين *} أي قد عزمتم عزماً ماضياً على هذا الفعل، إشارة بأداة الشك إلى أن هذا الفعل مما لا ينبغي أن يفعل، يعني وأنتم عالمون بأني لا أسلم بناتي أبداً، فعلم من ذلك أن وصولكم إلى أضيافي دون هلاكي محال.
ولما ذكر ما ذكر من أمورهم وعظيم فجورهم، وهم قد فرغ من أمرهم وقضي باستئصالهم، كان كل من يعلم ذلك قاضياً بأنهم لا عقول لهم، فأتبع سبحانه ذلك ما يدل عليه بقوله: {لعمرك} أي وحياتك يا كريم الشمائل، وأكد لأن الحال قاض في ذلك الحين استبعاد ردهم، ولتحقيق أن ذلك ضلال منهم صرف وتعنت محض، فقال: {إنهم لفي سكرتهم} أي غوايتهم الجاهلية {يعمهون *} أي يتحيرون ولا يبصرون طريق الرشد، فلذلك لا يقبلون قول النصوح، فإن كان المخاطب لوطاً عليه السلام، كان ضمير الغيبة(11/75)
لقومه، وإن كان المخاطب نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهو الظاهر - كان الضمير لقومه، وكان التقدير أنهم في خبط بعيد عن السنن في طلبهم إتيان الملائكة كما كان قوم لوط عليه السلام يقصدون الالتذاذ بالفاحشة بمن مكن من هلاكهم، فشتان ما بين القصدين! وهيهات لما بين الفعلين! فصار المعنى أن ما قذفوك به أول السورة بهم لابك، لأن من يطلب إتيان الملائكة - مع جواز أن يكون حاله حال قوم لوط عليه السلام عند إتيانهم - هو المجنون؛ والعمر - بالفتح: العمر - بالضم، وهو مدة بقاء الشيء حيّاً، لكنه لا يقال في القسم إلا بالفتح لخفته مع كثرة دور القسم، ولذلك حذفوا الذي تقديره: قسمي، والسكرة: غمور السهو للنفس.(11/76)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
ولما تم ذلك، سبب عن القضاء دابرهم قوله تعالى: {فأخذتهم} أي أخذ انتقام وغلبة {الصيحة} أي التي هي لعظمها وهولها هي الصيحة، وغيرها عدم بالنسبة إليها؛ والأخذ: فعل يصير به الشيء في جهة الفاعل، والصيحة: صوت يخرج من الفم بشدة؛ وقوله: {مشرقين *} أي داخلين في الإشراق، وهو ضياء الشمس(11/76)
عند بزوغها، وتبين به أن وقته يسمى صبحاً لغة، فإن الصبح والصبّاح والإصباح أول النهار، ولعله يطلق عليه إلى وقت الغداء أو الزوال، أو تكون الصيحة وقت الإشراق آخر أمرهم، وقلع المدائن من أماكنها وقت الصبح ابتداء أمرهم؛ ثم بين سبحانه ما تسبب عن الصيحة متعقباً لها فقال: {فجعلنا عاليها} أي مدائنهم {سافلها وأمطرنا} .
ولما كان الزجر في هذه السورة أعظم من الزجر في سورة هود عليه السلام، لطلبهم أن يأتي بجميع الملائكة، أعاد الضمير على المعذبين لا على مدنهم - كما مضى في سورة هود عليه السلام - لأن هذا أصرح، فقال: {عليهم} أي أهل المدائن التي قلبت المدائن لأجلهم {حجارة من سجيل} ثم حقق أن ذلك كله شرح لقوله {وليذكر أولوا الألباب} بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم جداً {لآيات} أي عدة من جهة غمرها بالماء بعد خسفها، ومن جهة كونه مخالفاً لمياه الأرض بالنتن والخباثة، وعدم عيش الحيوان فيه، وعدم النفع به، ومن جهة فظاعة منظرة - وغير ذلك من أمره {للمتوسمين *} جمع متوسم، وهو الناظر في السمة الدالة - وهي الأثر الدال في الوجه - والقرائن القاضية بالخير(11/77)
والشر، وكانوا يدعون أنهم أبصر الناس بمثل ذلك، فهو إلهاب لهم وتبكيت؛ ثم بين أن ذلك غير خفي عنهم ولا بعيد عمن أراد الاتعاظ به، فقال جعلاً لهم - لعدم اعتبارهم بها ومع رؤيتهم إياها في كل حين - في عداد المنكرين: {وإنها} أي هذه المدائن {لبسبيل مقيم *} أي ثابت، وهو مع ذلك مبين، فالاعتبار بها في غاية السهولة لقومك، وكانوا يمرون عليها في بعض أسفارهم إلى الشام.
ولما أشار سبحانه إلى الاستدلال بالتوسم الدال - مما هي عليه من المخالفة لسائر مياه الأرض العذبة الورادة إليها على كثرتها ومع أن البلاد التي هي بها من أبهج البلاد في عذوبة المياه وطراوة الأرض وحسن الأشجار وغير ذلك - على أن لها نبأ هو في غاية الغرابة، وأتبع ذلك سهولة الوصول إليها حثاً على إتيانها بقصد نظرها والاعتبار بها والسؤال عن سبب كونها كذلك، قال تعالى مشيراً إلى زيادة الحث بالتأكيد: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من حالها {لآية} أي علامة عظيمة في الدلالة علينا {للمؤمنين *} أي الراسخين في الصدق والتصديق، فإذا أخبروا أن سبب كونها هكذا أن الله أمر بعض جنده فرفعها ثم قلبها ثم أتبعها الحجارة ثم خسف بها وغمرها(11/78)
بهذا الماء - الذي هو في القذارة وعدم الثمرة مناسب لأفعال أهلها - لأجل عصيانهم رسوله صلى الله علية وعلى آله وسلم، آمنوا حذراً من مثل هذا العذاب إيماناً بالغيب.
ولما ذكر هذه القصة، ضم إليها ما هو على طريقها مما عذب قومه بنوع آخر من العذاب يشابه عذاب قوم لوط في كونه ناراً من السماء، فقال مؤكداً لأجل إنكار الكفار أن يكون عذابهم لأجل التكذيب، أو عدّاً لهم - لأجل تماديهم على الغواية مع العلم به - عداد المنكرين: {وإن} أي وإنه {كان} أي جبلة وطبعاً {أصحاب الأيكة} وهم قوم شعيب عليه السلام؛ والأيكة: الشجرة - عن الحسن، وجمعه الأيك كشجرة وشجر، وقيل: الأيكة: الشجر الملتف {لظالمين *} أي العريقين في الظلم {فانتقمنا منهم} أي بسبب ذلك؛ ثم أخبر عن البلدين لتقاربهما في العذاب والمكان وكونهما على طريق واحدة من طرق متاجر قريش فقال: {وإنهما} أي قرى قوم لوط ومحال أصحاب الأيكة {لبإمام} أي طريق يؤم ويتبع ويهتدي به {مبين *} واضح لمن أراده، بحيث إنه من شدة وضوحه موضح لعظمة الله(11/79)
وانتصاره لأنبيائه ممن يكذبهم، وهو مع وضوحه مقيم في مكانه لم تندرس أعلامه، ولم تنطمس آثاره، فالآية من الاحتباك: ذكر في الأولى {مقيم} دلالة على حذف مثله ثانياً، وفي الثانية {مبين} دلالة على حذف مثله أولاً.(11/80)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
ولما كان ربما قيل: إنه لو كان لأصحاب الأيكة بيوت متقنة لمنعتهم من العذاب؟ عطف عليهم من هم على طريق أخرى من متاجرهم إلى الشام، وكانوا قد طال اغترارهم بالأمل حتى اتخذوا الجبال بيوتاً، وكانت آيتهم في غاية الوضوح فكذبوا بها، تحقيقاً لأن المتعنتين لو رأوا كل آية لقالوا إنما سكرت أبصارنا فقال: {ولقد كذب} .
ولما كان السياق للمكذبين وما وقع لهم بتكذيبهم، قدم فاعل، فقال مشيراً إلى إتقان بيوتهم: {أصحاب الحجر} وهم ثمود قوم صالح عليه السلام، وديارهم بين المدينة الشريفة والشام {المرسلين *} أي كلهم بتكذيب رسولهم كما كذب هؤلاء المرسلين بتكذيبك، لأن الرسل يشهد بعضهم لبعض بالصدق، فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع، وهم في إثبات الرسالة بالمعجزة على حد سواء؛ ثم أتبع ذلك قوله: {وءاتيناهم} أي بعظمتنا على يد رسولهم صالح عليه السلام(11/80)
{ءاياتنا} أي كلها، بإيتاء الناقة وسقيها ودرها وشربها، لأن الممكنات كلها بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، فمن كذب بواحدة منها فقد كذب بالجميع {فكانوا} أي كوناً هو كالجبلة {عنها} أي الآيات كلها خاصة، لا عن زينة الدنيا التي تجر إلى الباطل {معرضين *} أي راسخين في الإعراض، لم يؤمنوا بها، التفاتاً إلى قوله تعالى {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء} - الآيتين، وتمثيلاً له رداً للمقطع على المطلع؛ ثم أخبر أنهم كانوا مثل هؤلاء في الأمن من العذاب والغفلة عما يراد بهم مع أنهم كانوا أشد منهم فقال: {وكانوا ينحتون} والنحت: قلع جزء بعد حزء من الجسم على سبيل المسح {من الجبال} التي تقدم أنا جعلناها رواسي {بيوتاً ءامنين *} عليها من الانهدام، وبها من لحاق ما يكره، لا كبيوتكم التي لا بقاء لها على أدنى درجة {فأخذتهم} أي فتسبب عن تكذيبهم أن أخذتهم أخذ العذاب والانتقام {الصيحة} حال كونهم {مصبحين *} أي داخلين في الصبح {فما} أي فتسبب عن(11/81)
الصيحة أنه ما {أغنى} أي أجزأ {عنهم ما كانوا} أي بجبلاتهم {يكسبون *} من البيوت والأعمال والعدد والآلات الخبيثة، لأنه لا يعجزنا شيء لأنه لا كلفة علينا فيما نفعل {إنما نقول له كن فيكون} وفعلنا بهم ذلك لأنهم كانوا على باطل، فكان تعذيبنا لهم حقاً.(11/82)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
ولما كان المتعنت ربما قال: ما له يخلقهم ثم يهلكهم وهو عالم حين خلقهم أنهم يكذبون؟ وكانت هذه الآية ملتفتة - مع ما فيها من ذكر الأرض - إلى تلك التي أتبعها ذكر الخافقين، استدلالاً على الساعة، قال على ذلك النمط: {وما خلقنا} أي على عظمتنا {السماوات} أي على ما لها من العلو والسعة {والأرض} على ما بها من المنافع والغرائب {وما بينهما} من هؤلاء المكذبين وعذابهم، ومن المياه والرياح والسحاب المسبب عنه النبات وغير ذلك {إلا بالحق} أي خلقاً ملتبساً بالحق، فيتفكر فيه من وفقه الله فيعلم النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى، أو بسبب الحق من إثبات ثوابت الأمور ونفي مزلزلها، لتظهر عظمتنا بإنصاف المظلوم من الظالم، وإثابة الطائع وعقاب العاصي في يوم الفصل - إلى غير ذلك من الحكم كما قال تعالى {ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي(11/82)
الذين أحسنوا بالحسنى} [النجم: 31] فمن أمهلناه في الدنيا أخذنا منه الحق بعد قيام الساعة، فلا بد من فعل ذلك {وإن الساعة لآتية} لأجل إقامة الحق لا شك في إتيانها لحكم علمها سبحانه فيظهر فيها كل ذلك، ويمكن أن يكون التقدير: فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، وما فعلنا ذلك إلا بالأمر من قولنا «كن» وهو الحق {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي بالأمر {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] يعني أنه لا مشقة علينا في شيء من ذلك، وسنعدم ذلك بالحق إذا أردنا قيام الساعة، وأن الساعة لآتيه، لأنا قد وعدنا بذلك، وليس بينكم وبين كونها إلا أن نريد فتكون كما كان غيرها مما أردناه {فاصفح الصفح} أي فأعرض - بسبب تحقق الأخذ بثارك - الإعراض {الجميل *} بالحلم ولإغضاء وسعة الصدر، في مثل قولهم {ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} فإنه لا بد من الأخذ لك منهم بالحق ولو لم يكن لك نصرة إلا في ذلك اليوم لكانت كافية؛ ثم علل هذا الأمر بقوله: {إن ربك} أي المحسن إليك الآمر لك بهذا {هو}(11/83)
أي وحده {الخلاّق} المتكرر منه هذا الفعل في كل وقت بمجرد الأمر، فلا عجب في إيجاد ما ينسب إليه من إبداع الساعة أو غيرها، وهو لذلك عالم بأحوالكم أجمعين وما يكون منها صلاحاً لك على غاية الحكمة، لأن المصور أعلم بالصورة من ناظرها والمتبصر فيها، وصانع الشيء أدرى به من مشتريه، وباني البيت أخبر به من ساكنه، وهو الذي خلق كل ما تراه منهم فهو فعله فسلم له.
ولما كان إحكام المصنوعات لا يتم إلا بالعلم، قال تعالى: {العليم *} أي البالغ العلم بكل المعلومات، فلا ترى أفعالهم وأقوالهم إلا منه سبحانه لأنه خالقها، وقد علمت أنه لا يضيع مثقال ذرة فاعتمد عليه في أخذ حقك، فإنه نعم المولى ونعم النصير، ولا يخفي عليه شيء منه؛ ويدل على ما قلته آية يس
{أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم} [يس: 81] أو يقال: فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون شيئاً مما أردنا من الحق، لأنا ما خلقنا عذابهم إلا بالحق كما خلقناهم بالحق، فلم يمتنع علينا شيء من ذلك {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي بسبب إقامة الحق وإظهار أمرنا في العدل، ولولا أن سلطنا بعض الناس على بعض لم يظهر(11/84)
لهم منا هذه الصفة غاية الظهور، فنحن نعجل من الحق الذي خلقنا ذلك بسببه على قيام الساعة - ما شئنا من الابتلاء والانتقام كما فعلنا ممن قصصنا أمرهم، ونؤخر من ذلك ما بقي إلى قيام الساعة {وإن الساعة لآتية} لا شك فيها، فلا ندع هناك شيئاً من الحقوق إلا أقمناه {فأصفح الصفح الجميل} فلا بد من الأخذ لك بحقك إما في الدنيا وإما في الآخرة أن أي لأن {ربك هو الخلاّق} أي الفاعل للخلق مرة بعد مرة، لا تنفذ قدرته ولا تهن كلمته {العليم} التام العلم، فهو قادر على ذلك عالم بوجه الحكمة فيه في وقته وكيفيته، فهو يعيد الخلائق في الساعة كما بدأهم، ويستوفي إذ ذاك جميع الحقوق ويؤتيك في ذلك اليوم ما يقر به عينك.
ولما ذكر صفة العلم بصيغة المبالغة، أتبعها ما آتاه في هذه الدار من مادة العلم بصيغة العظمة، فقال عطفاً على ما قدرته مما دل عليه السياق: {ولقد آتيناك} مما يدل على علمنا {سبعاً من المثاني} وهي الفاتحة الجامعة على وجازتها جميع معاني القرآن فتثني في النزول فإنها نزلت مرتين، وتثني في كل ركعة من الصلاة، وهي ثناء على الله(11/85)
والصالحين من عباده، وهي مقسومة بين الله وعبده، وتثني فيه مقاصدها، ويورد كل معنى من معانيها فيه بطرق مختلفة في إيضاح الدلالة عليه في قوالب الألفاظ وجواهر التراكيب الهادية إليه - وغير ذلك من التثنية {والقرآن العظيم *} أي الحاوي لجميع علوم الأولين والآخرين مما في جميع الكتب السالفة وغيره.(11/86)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
ولما كان ما أوتيه وما سيؤتاه أعظم ما أوتيه مخلوق، اتصل به قوله: {لا تمدن عينيك} أي مداً عظيماً بالتمني والاشتهاء المصمم، ولذلك ثنى العين احتزازاً عن حديث النفس {إلى ما متعنا} أي على عظمتنا {به أزواجاً} أي أصنافاً {منهم} أي أهل الدنيا؛ أو يقال: إنه لما كان المقصود لكل ذي لب إنما هو التبليغ بدار الفناء إلى دار البقاء، المؤكد إتيانها في الآية السابقة، وكان القرآن - كما تقدم - كفيلاً بذلك، وسلاه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عما يؤذونه من أقوالهم، وتبين من ذلك علو درجته، توقع السامع ذكر ما(11/86)
أسبغ عليه من النعم فقال تعالى؛ أو يقال: إنه لما أمره سبحانه بالصبر على أذاهم، علل ذلك مما معناه أنهم خلقه، وأنه منفرد بالخلق، وهو بليغ العلم بأفعالهم مريد لها، فليس الفعل في الحقيقة إلا له، وعلى المحب أن يرضى بفعل حبيبه من حيث إنه فعله، ولما كان التقدير: فهو الذي خلقهم، وعلم قبل خلقهم ما يفعلون، عطف عليه تسلية له صلى عليه وعلى آله وسلم قوله {ولقد آتيناك} أي بما لنا من العظمة كما أتينا صالحاً ما تقدم {سبعاً من المثاني} يكون كل سبع منها كفيلاً بإغلاق باب من أبواب النيران السبعة، وهي أم القرآن الجامعة لجميع معاني القرآن التي أمرنا بإعادتها في كل ركعة، زيادة في حفظها، وتبركاً بلفظها، وتذكيراً لمعانيها، تخصيصاً لها عن بقية الذكر الذي تكلفنا بحفظه {و} آتيناك {القرآن العظيم} الجامع لجميع معاني الكتب السماوية المتكفلة بخيري الدارين مع زيادات لا تحصى، المشار إلى عظمته أول السورة بالتنوين ووصفه بأنه مبين للبراهين الساطعة على نبوتك، والأدلة القاطعة على رسالتك، الدالة على الله الموصلة إليه، والآية مع ذلك دليل على العلم المختتم به ما قبلها، فكأنه قيل: فماذا أعمل؟(11/87)
فقيل في معنى {ذرهم يأكلوا} : {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} اكتفاء بهذا البلاغ العظيم الذي من تحلى به وأشربه قلبه أراه معايب هذه الدار فبغضه فيها وأشرف به على ما أمامه {ولا تحزن عليهم} لكونهم لم يؤمنوا فيخلصوا أنفسهم من النار، ويقوى بهم جانب الإسلام، وكأن هذا هو الصفح المأمور به، وهو الإعراض عنهم أصلاً ورأساً إلا في أمر البلاغ.
ولما أمره في عشرتهم بما أمر، أتبعه أمره بعشرة أصحابه رضي الله عنهم بالرفق واللين فقال تعالى: {واخفض} أي طأطىء {جناحك للمؤمنين *} أي العريقين في هذا الوصف، واصبر نفسك معهم، واكتفِ بهم، فإن الله جاعل فيهم البركة، وناصرك ومعز دينك بهم، وغير محوجك إلى غيرهم، فمن أراد شقوته فلا تلتفت إليهم، وهذا كناية عن اللين، وأصله أن الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه ثم قبضه عليه - قاله أبو حيان؛ وفي الجزء العاشر من الثقفيات عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى(11/88)
آله وسلم قال:
«المؤمن لين حتى تخاله من اللين أحمق» .
ولما كان الغالب على الخلق التقصير، قال له: {وقل} أي للفريقين، مؤكداً لما للكفار من التكذيب، ولما للمؤمنين به من طيب النفس: {إني أنا} أي لا غيري من المنذرين بالأعداء الدنيوية {النذير المبين *} لمن تعمد التقصير، إنذاري منقذ له من ورطته، لأنه محتف بالأدلة القاطعة.
ولما ذكر ما التحم بقصة أصحاب الحجر المقتسمين على قتل رسولهم، وختمه بالإنذار الذي هم أهله، عاد إلى تتميم أمرهم فشبههم بمن كذب من هذه الأمة فقال: {كما} أي كذب أولئك وآتيناهم آياتنا فأعرضوا عنها ففعلنا بهم من العذاب ما هم أهله مثل ما {أنزلنا} أي بعظمتنا من الآيات {على المقتسمين *} أي مثلهم من قريش حيث اقتسموا شعاب مكة، ينفرون الناس عنك ويفرقون القول في القرآن، فلا تأس عليهم لتكذيبهم وعنادهم مع رؤيتهم الآيات البينات، فإن سنتنا جرت بذلك فيمن أردنا شقوته كقوم صالح؛ ثم قال: {الذين} أي مع أنهم تقاسموا على قتلك واقتسموا طرق مكة للتنفير عنك {جعلوا القرءان} بأقوالهم {عضين *} أي قسموا القول فيه والحال(11/89)
أنه جامع المعاني، لا متفرق المباني - منتظم التأليف أشد انتظام. متلائم الارتباط أحكم التئام، كما قدمنا الإشارة إليه بتسميته كتاباً وقرآناً، وختمنا بأن ذلك على وجه الإبانة لاخفاء فيه، فقولهم كله عناه، فقالوا: سحر، وقالوا: شعر، وقالوا: كهانة، وقالوا: أساطير الأولين - وغير ذلك، أنزلنا عليهم آياتنا البينات وأدلتنا الواضحات، فأعرضوا عنها واشتغلوا بما لا ينفعهم من التعنت وغيره دأب أولئك فليرتقبوا مثل ما حل بهم، ومثلهم كل من تكلم في القرآن بمثل ذلك مما لا ينبغي من العرب وغيرهم؛ وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما {جعلوا القرآن عضين} قال: هم أهل الكتاب: اليهود والنصارى، جزؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وسيأتي معنى هذه اللفظة {فوربك} أي فتسبب عن فعلهم هذا أنا نقسم بالموجد لك، المدبر لأمرك، المحسن إليك بإرسالك {لنسئلنهم أجمعين *} أي هؤلاء وأولئك {عما كانوا} أي كوناً هو جبلة لهم {يعملون *} أي من تعضية القرآن وغيرها لأنا نسأل كلاًّ عما صنع {فاصدع}(11/90)
أي اجهر بعلو وشدة، فارقاً بين الحق والباطل بسبب ذلك {بما تؤمر} به من القرآن وكتاب مبين {وأعرض} أي إعراض من لا يبالي {عن المشركين *} بالصفح الجميل عن الأذى والاجتهاد في الدعاء، ويؤيد أن قوله {كما} راجع إلى قصة صالح ومتعلق بها - وإن لم أر من سبقني إليه - ذكرُ الوصف الذي به تناسبت الآيتان وهو الاقتسام، ثم وصف المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين، لئلا يظن أنهم الذين تقاسموا في بيات صالح، أي أتينا أولئك الآيات المقتضية للإيمان فما كان منهم إلا التكذيب والتقاسم كما أنزلنا على هؤلاء الآيات فما كان منهم إلا ذلك، وإنما عبر في أولئك ب {ءاتيناهم} لأن آياتهم الناقة وولدها والبئر، وهي معطاة محسوسة، لا منزلة معقولة، وقال في هؤلاء أنزلنا إشارة إلى القرآن الذين هو أعظم الآيات، أو إلى الجميع وغلب عليها القرآن لأنه أعظمها، وإلى أنهم مبطلون في جحدهم وأنه لا ينبغي لهم أن يتداخلهم نوع شك في أنه منزل لأنه أعظم من تلك الآيات مع كونها محسوسات، وأما اعتراض ما بينهما من الآيات فمن أعظم أفانين البلاغة، فإنه لما أتم قصة صالح عليه السلام، علم أنه المتعنتين ربما قالوا: لأيّ شيء يخلقهم ثم يهلكهم مع علمه بعدم(11/91)
إجابتهم؟ فرد عليهم بأنه ما خلق {السماوات والأرض وما بينهما} من هؤلاء المعاندين ومن أفعالهم وعذابهم وغير ذلك {إلا بالحق وأن الساعة لآتية} فيعلم ذلك كله بالعيان من يشك فيه الآن، وذلك حين يكشف الغطاء عن البصائر والأبصار فاصفح عنهم، فإنه لا بد من الأخذ لك بحقك، إن لم يكن في الدنيا ففي يوم الجمع، ثم أكد التصرف بالحكمة بقوله {إن ربك هو الخلاّق العليم} ثم سلاه - عما يضيّقون به صدره من التكذيب بالساعة، وأن الوعد بها إنما هو سحر، ونحو ذلك من القول، ومن افتخارهم بأموالهم ونسبته إلى الحاجة إلى المشي بالأسواق - بما آتاه من كنوز القرآن، وأمره بأن يزيد في التواضع واللين للمؤمنين لتطيب نفوسهم فلا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا، وأن ينذر الجميع ويحذرهم من سطوات الله أمثال ما أنزل بالأقدمين، ثم عاد إليهم فشبههم بهؤلاء في التكذيب ليعلم أنهم أجدر منهم بالعذاب لأنهم مشبه بهم، والمشبه به أعلى من المشبه، وذلك لكونهم أشد كفراً لأن نبيهم أعظم وآياته أجل وأكثر، وأجلى وأبهر، فيكون ذلك(11/92)
سبب اشتداد حذرهم، ولك أن تقول ولعله أحسن: إنه تعالى لما ذكر أن ثمود سكنوا الأرض سكنى الآمنين.
فأزعجتهم عنها صيحه سلبت أرواحهم، وقلبت أشباحهم، كما سيكون لأهل الأرض قاطبة بنفخة الصور، عند نفوذ المقدور، وكان قد قدم ذكر كثير مما في السماوات والأرض من الآيات والعبر بقوله تعالى {ولقد جعلنا في السماء بروجاً} وما بعد ذلك من الجن والإنس وغيرهما مما جعل ذكر اختراعه دليلاً على الساعة، أتبع ذلك أن سبب خلق ذلك كله وما حواه من الخافقين إنما هو الساعة فقال {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي بالأمر الثابت لا بالتمويه والسحر كما أنتم تشاهدون، أو بسبب إقامة الحق وإبانته من الباطل إبانة لا شك فيها يوم الجمع الأكبر، ومن إقامة الحق تنعيم الطائع وتعذيب العاصي، وذلك بعد إتيان الساعة بنفختي الصور {وإن الساعة لآتيه بالحق} أيضاً، وليست سحراً كما تظنون، ولما كان إتيانها لهذا العرض مما يشفي القلب لإدراك الثأر وهو حق لا بد منه، تسبب عنه قوله تعالى {فاصفح الصفح الجميل} .(11/93)
ولما كانت النفس بخبر الأعلم أوثق، وكان صانع الشيء أعلم به من غيره فكيف إذا كان مع ذلك تام للعلم قال الله تعالى معللاً لذلك {إن ربك} أي المحسن إليك {وهو الخلاّق} أي التام القدرة على الإيجاد والإعدام، الفعال لذلك «العليم» البالغ العلم؛ ولما ختم بهذين الوصفين بعد تقدم الأخبار عما أوتى أهل الحجر من الآيات، وأنه خلق الوجود بالحق لا بالتمويه، وكان ذلك موجباً لتوقع الإخبار عما أوتي هذا النبي الكريم منها لإرشاد أمته، وكانت الآيات إما أن تكون من قسم الخلق كآية صالح، أو من قسم الأمر الذي هو مدار العلم، أشار إلى تفضيله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفضل ابنه، فقال عاطفاً على ذلك {ولقد ءاتيناك} أي إن كنا أتينا صالحاً أو غيره آية مضت فلم يبق إلا ذكرها فقد آتيناك {سبعاً من المثاني} وهي الفاتحة التي خصصت بها، ثنى فيها البسملة للمبادىء، والحمدلة للكمالات، والرحمانية والرحيمية فيها للإبداع الأول والمرضي من الأعمال، وملك الدنيا المسمى بالربوبية لكونه مستوراً، وملك يوم الدين، وبينهما رحمانية الإيجاد الثاني بالمعاد ورحيمية الثواب للمرضي من الأسباب،(11/94)
والعبادة التي لا تكون إلا مع القدرة والاختيار، والاستعانة الناظرة إلى العجز عن كمال الاقتدار، والهداية بالهادي والمهدي، والضلال في مقابل ذلك بالمضل والضال، وفي ذلك أسرار لا تسعها الأفكار {والقرآن الكريم} الجامع لجميع الآيات مع كونه حقاً ثابتاً لا سحراً وخيالاً، بل هو آية باقية على وجه الدهر، مستمراً أمرها، دائماً تلاوتها وذكرها، تفني الجبال الرواسي وهي باقية، وتزول السماوات والأراضي وهي جديدة، إذا اصطف عسكر الفجرة قالت كل آية منها هل من مبارز؟ وإن رام عدو مطاولة لتحققه بالضعف صاحت لدوام قوتها: إني أناجز فلا تقوم لها قائم، ولا يحوم حول حماها حائم، ولا يروم خوض بحرها رائم.
ولما كانت هذه الآية لصاحبها مغنية، ولمن فاز بقبولها معجبة مرضية، حسن كل الحسن اتباعها بقوله {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} ولما كان كفرهم بعد بيانها إنما هو عناد، قال تعالى «ولا تحزن عليهم» ولما كان الغني بها ربما طن حسن أنفة الغنى، عقبه قوله {واخفض جناحك للمؤمنين} ولما كان ربما ظن أن تلاوتها تغني عن الدعاء لا سيما لمن أعرض، نفى ذلك بقوله {وقل إني أنا النذير(11/95)
المبين} تحريضاً على الاجتهاد في التحذير، وتثبيتاً للمؤمنين وإرغاماً للمعاندين، واستجلاباً لمن أراد الله إسعاده من الكافرين، إعلاماً بأن القلوب للمؤمنين بيد الله سبحانه وتعالى، فلا وثوق مع ذلك بمقبل، ولا يأمن عن مدبر.
ولما تم ذلك على هذا النظم الرصين، والربط الوثيق المتين، التفت الخاطر إلى حال من يندرهم، وكان كفار قريش - في تقسيمهم القول في القرآن واقتسامهم طرق مكة لإشاعة ذلك البهتان، تنفيراً لمن أراد الإيمان - أشبه شيء بالمقتسمين على صالح عليه السلام، قال تعالى {كما} أي آتينا أولئك المقتسمين آياتنا فكانوا عنها معرضين، مثل ما {أنزلنا} آياتنا {على المقتسمين} أي الذين تقاسموا برغبة كبيرة واجتهاد في ذلك {الذين جعلوا القرآن عضين} أي ذا أعضاء أي أجزاء متفاصلة متباينة مثل أعضاء الجزور إذا قطعت، جمع عضة مثل عدة وأصلها عضوة {فوربك لنسئلنهم أجمعين} أي لا يمتنع علينا منهم أحد {عما كانوا يعملون فاصدع} أي بسبب أمرنا لك بالإنذار وإخبارك أنا نسأل كل واحد عما عمل {بما تؤمر وأعرض عن المشركين} .(11/96)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
ولما كان هذا الصدع في غاية الشدة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكثرة ما يلقى عليه الأذى، خفف عنه سبحانه بقوله معللاً له: {إنا كفيناك} أي بما لنا من العظمة {المستهزءين *} أي شر الذين هم عريقون في الاستهزاء بك وبما جئت به، فأقررنا عينك بإهلاكهم، وزال عنك ثقل ما آذوك به، وبقي لك أجره، وسنكفيك غيرهم كما كفيناكهم، ثم وصفهم بقوله: {الذين يجعلون مع الله} أي مع ما رأوا من آياته الدالة على جلاله، وعظيم إحاطته وكماله {إلهاً} .
ولما كانت المعية تفهم الغيرية، ولا سيما مع التعبير بالجعل، وكان ربما تعنت منهم متعنت باحتمال التهديد على تألهه سبحان على سبيل التجريد، أو على دعائه باسم غير الجلالة، لما ذكر المفسرون في قوله {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] الآية آخر سبحان، زاد في الصراحة بنفي كمال كل احتمال بقوله: {ءاخر} قال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: سجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: يا الله يا رحمن،(11/97)
فقال أبو جهل: إن محمداً ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين؟ فأنزل الله هذه الآية يعني آية سبحان، وتسبب عن أخذنا للمستهزئين - وكانوا أعتاهم - أن يهدد الباقون بقولنا: {فسوف يعلمون} أي يحيط علمهم بشدة بطشنا وقدرتنا على ما نريد، ليكون وازعاً لغيرهم، أو يعلم المستهزئون وغيرهم عاقبة أمورهم في الدارين.
ولما كان صدعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك على حد من المشقة عظيم وإن أريح من المستهزئين، لكثرة من بقي ممن هو على مثل رأيهم، قال يسليه ويسخي بنفسه فيه: {ولقد نعلم} أي تحقق وقوع علمنا على ما لنا من العظمة {أنك} أي على ما لك من الحلم وسعة البطان {يضيق صدرك} أي يوجد ضيقه ويتجدد {بما يقولون} عند صدعك لهم بما تؤمر، في حقك من قولهم: {ياأيها الذي نزل عليه الذكر} إلى آخره، وفي حق الذي أرسلك من الشرك والصاحبة والولد وغير ذلك {فسبح} بسبب ذلك، ملتبساً {بحمد ربك} أي نزهه عن صفات النقص التي منها الغفلة عما يعمل(11/98)
الظالمون، مثبتاً له صفات الكمال التي منها إعزاز الولي وإذلال العدو {وكن} أي كوناً جبلياً لا انفكاك له {من الساجدين *} له، أي المصلين، أي العريقين في الخضوع الدائم له بالصلاة التي هي أعظم الخضوع له وغيرها من عبادته، ليكفيك ما أهمك فإنه لا كافي غيره، فلا ملجأ إلى سواه، وعبر عنها بالسجود إشارة إلى شرفه وما ينبغي من الدعاء فيه لا سيما عند الشدائد، فقد قال تعالى:
{واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] وروي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة - ذكره البغوي بغير سند، وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر صلى. وفي سنن النسائي الكبرى ومسند أحمد عن علي رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح. وفي لفظ لأحمد: لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحت(11/99)
شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. ولأحمد ومسلم وأبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» .
ولما أمره بعبادة خاصة، أتبعه بالعامة فقال: {واعبد ربك} أي دم على عبادة المسحن إليك بهذا القرآن الذي هو البلاغ بالصلاة وغيرها {حتى يأتيك اليقين} بما يشرح صدرك من الموت أو ما يوعدون به من الساعة أو غيرها مما {يود الذين كفروا معه لو كانوا مسلمين} قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن شرف العبد في العبودية، وأن العبادة لا تسقط عن العبد بحال ما دام حياً - انتهى. وقال البغوي: وهذا معنى ما في سورة مريم عليها السلام {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} [مريم: 31] فقد انطبق آخر السورة - في الأمر باتخاذ القرآن بلاغاً لكل خير والإعراض عن الكفار - على أولها أتم انطباق، واعتنق كل من الطرفين: الآخر والأول أي اعتناق - والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.(11/100)
سورة النحل
مقصودها الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم، فاعل بالاختيار، منزه عن شوائب النقص، وادل ما فيها على هذا المعنى أم النحل لما ذكر من شأنها من دقة الفهمة في ترتيب بيوتها ورعيها وسائر أمرها من اختلاف ألوان ما يخرح منها من أعسالها، وجعله شفاء مع أكلها من الثمار النافعة والضارة - وغير ذلك من الأمور، ووسمها بالنعم واضح في ذلك - والله أعلم.(11/101)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
{بسم الله} المحيط بدائرة الكمال ما شاء فعل {الرحمن} الذي عمت نعمته جليل خلقه وحقيره وصغيره وكبيره {الرحيم *} الذي خص من شاء بنعمة النجاة مما يسخطه بما يرضاه.
لما ختم الحجر بالإشارة إلى إتيان اليقين، وهو صالح لموت الكل، ولكشف الغطاء بإتيان ما يوعدون مما يستعجلون به استهزاء من العذاب(11/101)
في الآخرة بعد ما يلقون في الدنيا، ابتدأ هذه بمثل ذلك سواء، غير أنه ختم تلك باسم الرب المفهم للإحسان لطفاً بالمخاطب، وافتتح هذه باسم الأعظم الجامع لجميع معاني الأسماء لأن ذلك أليق بمقام التهديد، ولما ستعرفه من المعاني المتنوعة في أثناء السورة، وسيكرر هذا الاسم فيها تكريراً تعلم منه صحة هذه الدعوى، وعبر عن الآتي بالماضي إشارة إلى تحققه تحقق ما وقع ومضى، وإلى أن كل آتٍ ولا بد قريب، فقال تعالى: {أتى أمر الله} أي الملك الأعظم الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، بما يذل الأعداء، ويعز الأولياء، ويشفي صدورهم، ويقر أعينهم.
ولما كانت العجلة نقصاً، قال مسبباً عن هذا الإخبار: {فلا تستعجلوه} أيها الأعداء استهزاء، وأيها الأولياء استكفاء واستشفاء، وذلك مثل ما أفهمه العطف في قوله تعالى {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} كما تقدم؛ والضمير يجوز أن يكون لله وأن يكون للأمر.
ولما كان الجزم بالأمور المستقبلة لا يليق إلا عند نفوذ الأمر، ولا نفوذ إلا لمن لا كفوء له، وكانت العجلة - وهي الإتيان بالشيء(11/102)
قبل حينه الأولى به - نقصاً ظاهراً لا يحمل عليها إلا في ضيق الفطن، وكان التأخير لا يكون إلا عن منازع مشارك، نزه نفسه سبحانه تنزيهاً مطلقاً جامعاً بقوله تعالى: {سبحانه} أي تنزه عن الاستعجال وعن جميع صفات النقص {وتعالى} أي تعالياً عظيماً جداً {عما يشركون *} أي يدعون أنه شريك له، فلا مانع مما يريد فعله، وساقه في غير قراءة حمزة والكسائي - في أسلوب الغيبة، إظهاراً للإعراض الدال على شدة الغضب، وهي ناظرة إلى قوله آخر التي قبلها {وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94] وقوله: {الذين يجعلون مع الله إلهاً ءاخر} [الحجر: 96] وقد آل الأمر في نظم الآية إلى أن صار كأنه قيل: إنه لا يعجل لأنه منزه عن النقص، ولا بد من إنفاذ أمره لأنه متعالٍ عن الكفوء؛ أو يقال: لا تستعجلوه لأنه تنزه عن النقص فلا يجعل، وتعالى عن أن يكون له كفوء يدفع ما يريد فلا بد من وقوعه، فهي واقعة موقع التعليل لصدر الآية كما أن صدر الآية تعليل لآخر سورة الحجر.
ولما تقرر بذلك تنزهه عن كل نقص: شرك وغيره، شرع يصف نفسه سبحانه بصفات الكمال من الأمر والخلق، ولما كان الأمر أقدم وأعلى، بدأ به، ولما كان من أمره إنزال الملائكة على الصورة التي(11/103)
طلبوها في قولهم
{لو ما تأتينا بالملائكة} [الحجر: 7] وقص عليهم في سورة إبراهيم ولوط عليهما السلام ما يترتب على إنزالهم مجتمعين، وفهم منه أن لهم في نزولهم حالة أخرى لا تنكرها الرسل، وهي حالة الإتيان إليهم بالعلم الذي نسبته إلى الأرواح نسبة الأرواح إلى الأشباح، وكان ذلك ربما أثار لهم اعتراضاً يطلبون به الفرق بينهم وبين الرسل في إنزالهم عليهم دونهم - كما تقدم في الحجر، وكان ما يشركون به لا تصرف له أصلاً بإنزال ولا غيره، قال تعالى مشيراً إلى ذلك وإلى أن الوحي بواسطة الملك، وأن النبوة عطائية لا كسبية: {ينزل الملائكة} الذين هم الملأ الأعلى {بالروح} أي المعنى الأعظم الذي هو للأرواح بمنزلة الأرواح للأشباح {من أمره} الذي هو كلامه المشتمل على الأمر والنهي {ألا له الخلق والأمر} وهو مما تميز به لحقيته وإعجازه عن جميع المخلوقات، فكيف بما لا يعقل منها كالأصنام!(11/104)
{على ما يشاء من عباده} دون بعض، لأن ذلك نتيجة فعله بالاختيار، وأبدل من الروح أو فسر الإنزال بالوحي لأنه متضمن معنى القول فقال: {أن أنذروا} أي الناس سطواتي، فإنها لا محالة نازلة بمن أريد إنزالها به، بسبب {أنه لا إله إلا أنا} وعبر بضمير المتكلم لأنه أدل على المراد لكونه أعرف؛ وسبب عن وحدانيته التي هي منتهى كمال القوة العلمية قوله آمراً بما هو أقصى كمال القوة العملية: {فاتقون *} أي فليشتد خوفكم مني وأخذكم لما يكون وقاية لكم من عذابي، فإنه لا مانع مما أريد، فمن علمت أنه أهل للنقمة أنزلتها به، ومن علمته أهلاً لتلقي الروح منحته إياه.
ولما وحد نفسه، دل على ذلك بقوله، شارحاً لإيجاده أصول العالم وفروعه على وجه الحكمة: {خلق السماوات} أي التي هي السقف المظل {والأرض} أي التي هي البساط المقل(11/105)
{بالحق} أي بالأمر المحقق الثابت، لا بالتمويه والتخييل {ألا له الخلق والأمر} .
ولما كان ذلك من صفات الكمال المستلزمة لنفي النقائص، وكان قاطعاً في التنزه عن الشريك، لأنه لو كان، لزم إمكان الممانعة، فلزم العجز عن المراد، أو وجود الضدين المرادين لهما، وكل منهما محال، فإمكان الشريك محال، ولأنهما وكل ما فيهما ملكه وفي تصرفه، لا نزاع لمن أثبت الإله في ذلك، تلاه بقوله - نتيجة لذلك دالة على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام: {تعالى} أي تعالياً فات الوصف {عما يشركون *} - عرياً عن افتتاحه بالتنزيه كالأولى.(11/106)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
ولما كان خلق السماوات والأرض غيباً لتقدمه، وكان خلق الإنسان على هذه الصفة شهادة، مع كونه أدل على ذلك من حيث إنه أشرف من كل ما يعبده من دون الله، ولن يكون الرب أدنى من العبد أصلاً، قال معللاً: {خلق الإنسان} أي هذا النوع الذي خلقه أدل ما يكون على الوحدانية والفعل بالاختيار، لأنه أشرف ما في(11/106)
العالم السفلي من الأجسام لمشاركته للحيوان الذي هو أشرف من غيره بالقوى الشريفة من الحواس الظاهرة والباطنة، والشهوة والغضب، واختصاصه بالنطق الذي هو إدراك الكليات والتصرف فيها بالقياسات {من نطفة} أي آدم عليه السلام من مطلق الماء، ومن تفرع منه بعد زوجه من ماء مقيد بالدفق.
ولما كان - مع مشاركته لغيره من الحيوان في كونه من نطفة - متميزاً بالنطق المستند إلى ما في نفسه من عجائب الصنع ولطائف الإدراك، كان ذلك أدل دليل على كمال قدرة الفاعل واختياره، فقال تعالى: {فإذا هو} أي الإنسان المخلوق من الماء المهين {خصيم} أي منطيق عارف بالمجادلة {مبين *} أي بين القدرة على الخصام، وموضح لما يريده غاية الإيضاح بعد أن كان ما لا حسّ به ولا حركة اختيارية عنده بوجه، أفلا يقدر الذى ابتدأ ذلك على إعادته!
ولما صار التوحيد بذلك كالشمس، وكان كل ما في الكون - مع أنه دال على الوحدانية - نعمة على الإنسان يجب عليه شكرها، شرع يعدد ذلك تنبيهاً له على وجوب الشكر بالتبرؤ من الكفر، فقال مقدماً الحيوانات لأنها أشرف من غيرها، وقدم منها ما ينفع الإنسان لأنه(11/107)
أجلّ من غيره. مبتدئاً بما هو أولاها بالذكر لأنه أجلّها منفعة في ضرورات المعيشة وألزمها لمن أنزل الذكر بلسانهم: {والأنعام} أي الأزواج الثمانية: الضأن والمعز والإبل والبقر {خلقها} غير ناطقة ولا مبينة مع كونها أكبر منكم خلقاً وأشد قوة.
ولما كان أول ما يمكن أن يلقى الإنسان عادة من نعمها اللباس، بدأ به، فقال على طريق الاستئناف: {لكم فيها دفء} أي ما يدفأ به فيكون منه حر معتدل من حر البدن الكائن بالدثار بمنع البرد، وثنى بما يعم جميع نعمها التي منها اللبن فقال: {ومنافع} ثم ثلث بالأكل لكونه بعد ذلك فقال تعالى: {ومنها تأكلون *} وقدم الظرف دلالة على أن الأكل من غيرها بالنسبة إلى الأكل منها مما لا يعتد به، ثم تلاه بالتجمل لأنه النهاية لكونه للرجال فقال تعالى: {ولكم} أي أيها الناس خاصة {فيها} أي الأنعام {جمال} أي عظيم.
ولما كان القدوم أجل نعمة وأبهج من النزوح، قدمه فقال: {حين يريحون} بالعشي من المراعي وهي عظيمة الضروع طويلة الأسنمة {وحين تسرحون *} بالغداة من المُراح إلى المراعي، فيكون(11/108)
لها في هاتين الحالتين من الحركات منها ومن رعاتها ومن الحلب والتردد لأجله وتجاوب الثغاء والرغاء أمر عظيم وأنس لأهلها كبير.(11/109)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
ولما كانت الأسفار بعد ذلك، تلاه بقوله تعالى: {وتحمل} أي الأنعام {أثقالكم} أي أمتعتكم مع المشقة {إلى بلد} أي غير بلدكم أردتم السفر إليه {لم تكونوا} - أي كوناً أنتم مجبولون عليه - قادرين على حملها إليه، وتبلغكم - بحملها لكم - إلى بلد لم تكونوا {بالغيه} بغير الإبل {أي بشق} أي بجهد ومشقة وكلفة {الأنفس} ويجوز أن يكون المعنى: لم تبلغوه بها، فكيف لو لم تكن موجودة؛ والشق: أحد نصفي الشيء، كأنه كناية عن ذهاب نصف القوة لما يلحق من الجهد؛ والآية من الاحتباك: ذكر حمل الأثقال أولاً دليلاً على حمل الأنفس ثانياً، وذكر مشقة البلوغ ثانياً دليلاً على مشقة الحمل أولاً.
ولما كان هذا كله من الإحسان في التربية، ولا يسخره للضعيف إلا البليغ في الرحمة، وكان من الناس من له من أعماله سبب لرضى ربه، ومنهم من أعماله كلها فاسدة،(11/109)
قال: {إن ربكم} أي الموجد لكم والمحسن إليكم {لرؤوف} أي بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بما يرضيه {رحيم *} أي بليغ الرحمة بسبب وبغير سبب.
ولما كانت الأنعام أكثر أموالهم، مع أن منافعها أكثر، بدأ بها ثم ثنى بما هو دونها، مرتباً له على الأشراف فالأشراف، فقال تعالى: {والخيل} أي الصاهلة {والبغال} أي المتولدة بينها وبين الحمر {والحمير} أي الناهقة.
ولما كان الركوب فعل المخاطبين، وهو المقصود بالنفعة، ذكره باللام التي هي الأصل في التعليل فقال: {لتركبوها} ولما كانت الزينة تابعة للمنفعة، وكانت فعلاً لفاعل الفعل المعلل، نصبت عطفاً على محل ما قبلها فقال: {وزينة} .
ولما دل على قدرته بما ذكر في سياق الامتنان، دل على أنها لا تتناهى في ذلك السياق، فنبه على أنه خلق لهم أموراً لو عدها لهم لم يفهموا المراد على سبيل التجديد والاستمرار في الدنيا(11/110)
والآخرة {ما لا تعلمون *} فلا تعلمون له موجداً غيره ولا مدبراً سواه.(11/111)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
ولما كانوا في أسفارهم واضطرابهم في المنافع بهذه الحيوانات وغيرها يقصدون أسهل الطرق وأقومها وأوصلها إلى الغرض، ومن عدل عن ذلك كان عندهم ضالاً سخيف العقل غير مستحق للعد في عداد النبلاء، نبههم على أن ما تقدم في هذه السورة قد بين الطريق الأقوم الموصل إليه سبحانه بتكفله ببيان أنه واحد قادر عالم مختار، وأنه هو المنعم، فوجب اختصاصه بالعبادة، وأخبرهم سبحانه أنه أوجب هذا البيان على نفسه فضلاً منه فقال تعالى: {وعلى} أي قد بين لكم الطريق الأمم وعلى {الله} أي الذي له الإحاطة بكل الشيء {قصد السبيل} أي بيان الطريق العدل، وعلى الله بيان الطريق الجائر حتى لا يشك في شيء منهما، فإن الطريق المعنوية كالحسية، منها مستقيم من سلكه اهتدى {ومنها جائر} من سلكه ضل عن الوصول فهلك {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم} [التوبة: 115] الآية {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15] فالآية من الاحتباك: ذكر أن عليه بيان القصد أولاً دلالة على حذف أن عليه بيان الجائر ثانياً، وذكر أن من الطرق(11/111)
الجائر ثانياً دلالة على حذف أن منها المستقيم أولا، وتعبير الأسلوب لبيان أن المقصود بالذات إنما هو بيان النافع، ومادة قصد تدور على العدل المواه، ومنه القصد، أي الاستقامة، واستقامة الطريق من غير تعريج، وضد الإفراط كالاقتصاد، ورجل ليس بالجسيم ولا بالضئيل، وذلك لا يكون إلا عن إرادة وتوجه، فإطلاق القصد على العزم مستقيماً كان أو جائراً، إذا قلت: قصدته - بمعنى أتيته أو أممته ونويته، من دلالة الالتزام، وكذا القصد بمعنى الكسر بأيّ وجه كان، وقيل: لا يقال: قصد، إلا إذا كان بالنصف، والقصيد: ما تم شطر أبياته، لأن ذلك أعدل حالاته، قال في القاموس: ثلاثة أبيات فصاعداً أو ستة عشر فصاعداً؛ وقال الإمام أبو الفتح عثمان بن جني في آخر كتابه المغرب في شرح القوافي: فالبيت على ثلاثة أضرب: قصير، ورمل، وزجر، فأما القصيد فالطويل التام، والبسيط التام، والكامل التام، والمديد التام، والوافر التام، والرجز التام، والخفيف التام، وهو كل ما تغنى به الركبان، ومعنى قولنا: المديد التام والوافر التام.(11/112)
نريد أتم ما جاء منهما في الاستعمال، أعني الضربين الأولين منهما، فأما أن يجيئا على أصل وضعهما في دائرتيهما فذلك مرفوض مطّرخ؛ والقصيد: المخ السمين أو دونه، والعظم الممخ، والناقة السمينة بها نفي، والسمين من الأسنمة - لأن بهذا الحال استقامة كل ما ذكر، وكذا القاصد: القريب، وبيننا وبين الماء ليلة قاصدة، أي هينة السير، لأنه أقرب إلى الاستقامة، ومنه قصدت كذا - إذا اعتمدته وأممته وتوجهت إليه سواء كان ذلك عدلاً أو جوراً، وانقصد الرمح - إذا انكسر على السواء، كأنه مطاوع قصده، والواحدة من تلك الكِسَر قصده بالكسر، ورمح قصد - ككتف: متكسر، والقصد - بالتحريك: العوسج - لأنه سريع التكسر، والجوع - لأن الجائع قاصد لما يأكله متوجه إليه، والقصد: مشرة العضاه تخرج في أيام الخريف لدنة تتثنى في أطراف الأغصان، وهي خوصة تخرج(11/113)
فيها، وفي كثير من الشجر في تلك الأيام، أو هي الأغصان، أو هي الأغصان الرطبة قبل أن تتلون وتشتد - سميت بذلك لخروجها وتوجهها إلى منظر العين، أو توجه النظر إليها للسرور بها، والقصيد: العصا - لأنها تقصد ويقصد بها، وأقصد السهم: أصاب فقتل مكانه، وأقصد فلاناً: طعنه فلم يخطئه، والحية: لدغت فقتلت - يمكن أن يكون ذلك من الاستقامة لأن قصد فاعله القتل، فكأنه استقام قصده بنفوذه، ويمكن أن يكون من السلب أي أنه أزال الاستقامة لأن من مات فقد زالت استقامة حياته، ومنه المقصد كمخرج، وهو من يمرض ويموت سريعاً، والقصيد بمعنى اليابس من اللحم - فعيل بمعنى مفعل، أي أقصد فزالت استقامته بأن هلك جفافاً يبساً.
والصدق ضد الكذب، وهو من أعدل العدل وأقوم القصد، والصدق: الشدة، إذ بها يمتحن الصادق من الكاذب، ومنه رجل صدق، أي يصدق ما يعزم عليه أو يقوله بفعله، فهو شديد العزم سديد الأمر، والصديق - كأمير: الحبيب الذي يصدق قوله في الحب بفعل، والمصادقة والصداق - بالكسر: المخالة كالتصادق، والصيدق - كصقيل:(11/114)
الأمين - لأنه مصدق في قوله، والملك - لأن محله يقتضي الصدق لعدم حاجته إلى الكذب، والقطب - لأنه أصدق النجوم دلالة لثباته، وقال أبو عبد الله القزاز: هو اسم للسها، وهو النجم الخفي الذي مع بنات نعش، والصدق - بالفتح: الصلب المستوي من الرماح - لأنه صدق ظن الطاعن به، وكذا من الرجال، والكامل من كل شيء، ورجل صدق اللقاء والنظر، ومصداق الشيء: ما يصدقه، وشجاع ذو مصدق - كمنبر: صادق الحملة، أي شديدها، والصدقة - محركة: ما أعطيته في ذات الله لأنها تصدق دعوى الإيمان لدلالتها على شدة العزم فيه، والصدقة - بضم الدال وسكونها: مهر المرأة لأنه يصدق العزم فيه وكسكيت: الكثير الصدق، وصدقت الله حديثاً إن لم أفعل كذا - يمين لهم، أي لا صدقت، وفعله غب صادقة، أي بعد ما تبين له الأمر، وصدقه تصديقاً - ضد كذبه، والوحشي: عدا ولم يلتفت لما حمل عليه، والمصدق - كمحدث: آخذ الصدقات، والمتصدق: معطيها.
ولما كان أكثر الخلق ضالاً، كان ربما توهم متوهم أنه خارج عن الإرادة، فنفي هذا التوهم بقوله - عطفاً على ما تقديره: فمن شاء هداه قصد السبيل، ومن شاء أسلكه الجائر، وهو قادر على ما يريد(11/115)
من الهداية والإضلال -: {ولو شاء} هدايتكم {لهداكم أجمعين *} بخلق الهداية في قلوبكم بعد بيان الطريق القصد، ولكنه لم يشأ ذلك فجعلكم قسمين.
ولما كان ما مضى كفيلاً ببيان أنه الواحد المختار، شرع يوضح ذلك بتفصيل الآيات إيضاحاً يدعه في أتم انكشاف في سياق معدّد للنعم مذكر بها داع إلى شكرها، فقال بعد ما دل به من الإنسان وما يليه في الشرف من الحيوان مبتدئاً بما يليهما في الشرف من النبات الذي هو قوام حياة الإنسان وما به قوام حياته من الحيوان: {هو} لا غيره مما تدعي فيه الإلهية {الذي أنزل} أي بقدرته الباهرة {من السماء} قيل: نفسها. وقيل: جهتها، وقيل: السحاب - كما هو مشاهد {ماء} أي واحداً تحسونه بالذوق والبصر {لكم منه} أي خاصة {شراب} ظاهر على وجه الأرض من العيون والأنهار والغدران وغيرها.(11/116)
ولما كان أول ما يقيم الآدمي شراب اللبن الناشىء عن الماء فقدمه، أتبعه ما ينشأ منه أشرف أغذيته وهو الحيواني، فقال تعالى: {ومنه شجر} لسريانه في الأرض الواحدة واختلاطه بها، فينعقد من ذلك نبات {فيه تسيمون *} أي ترعون على سبيل الإطلاق ليلاً ونهاراً ما خلق لكم من البهائم، والشجر هنا - بما أفهمته الإسامة - عام لما يبقى في الشتاء حقيقة، ولغيره مجازاً؛ قال القزاز: الشجر ما بقي له ساق في الشتاء إلى الصيف، ثم يورق، والبقل ما لا يبقى له ساق، قال الخليل: جل الشجر عظامه وما يبقى منه في الشتاء، ودقه صنفان: أحدهما تبقى له أرومة في الأرض في الشتاء، وينبت في الربيع، ومنه ما ينبت من الأرض كما تنبت البقلة، والفرق بينه وبين البقل أن الشجر يبقى له أرومة على الشتاء ولا يبقى للبقل، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أن النبات ثلاثة أقسام: شجر وهو ما يبقى في الشتاء، ولا يذهب فرعه ولا أصله، وما نبت في بزر ولم ينبت في أرومة ثابتة فهو البقل، وما نبت في أرومة - أي أصل - وكان مما يهلك فرعه وأصله في الشتاء فهو الجنبة، لأنه فارق الشجر الذي(11/117)
يبقى فرعه وأصله، والبقل الذي يبيد فرعه وأصله، فكان جنبة بينهما.
ولما كان الشجر عاماً، شرع سبحانه يفصله تنويعاً للنعم وتذكيراً بالتفاوت، إشارة إلى أن الفعل بالاختيار، فقال مبتدئاً بالأنفع في القوتية والائتدام والتفكه: {ينبت} أي هو سبحانه {لكم} أي خاصة {به} مع كونه واحداً في أرض واحدة {الزرع} الذي تشاهدونه من أقل الشجر مكثاً وأصغره قدراً، {والزيتون} الذي ترونه من أطول الأشجار عمراً وأعظمها قدراً.
ولما كانت المنافع كثيرة في شجر التمر، سماه باسمه فقال تعالى: {والنخيل} ولما كانت المنفعة في الكرم بغير ثمرته تافهة، قال تعالى: {والأعناب} وهما من أوسط ذلك {ومن كل الثمرات} وأما كلها فلا يكون إلا في الجنة، وهذا الذي في الأرض بعض من ذلك الكل مذكر به ومشوق إليه {إن في ذلك} أي الماء العظيم المحدث عنه وعن فروعه، أو في إنزاله على الصفة المذكورة {لآية} بينة على أن فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة كما قدر على الابتداء،(11/118)
وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده.
ولما كان ذلك ممن يحس، وكان شغل الحواس بمنفعته - لقربه وسهولة ملابسته - ربما شغل عن الفكر في المراد به، فكان التفطن لدلالته يحتاج إلى فضل تأمل ودقة نظر، قال تعالى: {لقوم يتفكرون *} أي في أن وحدته وكثرة ما يتفرع عنه دليل على وحدة صانعه وفعله بالاختيار، وأفرد الآية لوحدة المحدث عنه، وهو الماء - كما قال تعالى في آية {تسقى بماء واحد} [الرعد: 4] وسيأتي في آية النحل كلام الإمام أبي الحسن الحرالي في هذا.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة في التحامها بسورة الحجر مثل الحجر بسورة إبراهيم من غير فرق، لما قال تعالى {فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [الحجر: 92] وقال تعالى بعد ذلك في وعيد المستهزئين {فسوف يعلمون} أعقب هذا ببيان تعجيل الأمر فقال تعالى {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [النحل: 1] وزاد هذا بياناً قوله {سبحانه وتعالى عما يشركون} فنزه سبحانه نفسه عما فاهوا به في استهزائهم وشركهم وعظيم بهتهم، وأتبع ذلك تنزيهاً وتعظيماً فقال تعالى {خلق السماوات(11/119)
والأرض بالحق تعالى عما يشركون} ثم أتبع ذلك بذكر ابتداء خلق الإنسان وضعف جبلته {خلق الإنسان من نطفة} ثم أبلغه تعالى حداً يكون فيه الخصام والمحاجة، كل ذلك ابتلاء منه واختبار ليميز الخبيث من الطيب، وأعقب هذا بذكر بعض ألطافه في خلق الأنعام وما جعل فيها من المنافع المختلفة، وما هو سبحانه عليه من الرأفة والرحمة اللتين بهما أخر العقوبة عن مستوجبها، وهدى من لم يستحق الهداية بذاته بل كل هداية فبرأفة الخالق ورحمته، ثم أعقب ما ذكره بعد من خلق الخيل والبغال والحمير وما في ذلك كله بقوله {ولو شاء لهداكم أجمعين} فبين أن كل الواقع من هداية وضلال خلقه وفعله، وأنه أوجد الكل من واحد، وابتدأهم ابتداء واحداً {خلق الإنسان من نطفة} فلا بعد في اختلاف غاياتهم بعد ذلك، فقد أرانا سبحانه مثال هذا الفعل ونظيره في قوله {وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر - إلى قوله: لآية لقوم يتفكرون} انتهى.(11/120)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
ولما كان ربما قال بعض الضلال: إن هذه الأشياء مستندة إلى تأثير الأفلاك، نبه على أنها لا تصلح لذلك بكونها متغيرة فلا بد لها من قاهر أثر فيها التغير، ولا يزال الأمر كذلك إلى أن ينتهي إلى واحد قديم فاعل بالاختيار، لما تقرر من بطلان التسلسل، فقال تعالى: {وسخر لكم} أي أيها الناس لإصلاح أحوالكم {الَّيل} للسكنى {والنهار} للابتغاء؛ ثم ذكر آية النهار فقال تعالى: {والشمس} أي لمنافع اختصها بها، ثم ذكر آية الليل فقال: {والقمر} لأمور علقها به {والنجوم} أي لآيات نصبها لها، ثم نبه على تغيرها بقوله: {مسخرات} أي بأنواع التغير لما خلقها له على أوضاع دبرها {بأمره} سبباً لصلاحكم وصلاح ما به قوامكم، دلالة على وحدانيته وفعله بالاختيار، ولو شاء لأقام أسباباً غيرها أو أغنى عن الأسباب.
ولما كان أمرها مع كونه محسوساً - ليس فيه من المنافع القريبة الأمر السهلة الملابسة ما يشغل عن الفكر فيه، لم يحل أمره إلى غير مطلق العقل، إشارة إلى وضوحه وإن كان لا بد فيه من استعمال القوة المفكرة، ولأن الآثار العلوية أدل على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة، فقال: {إن في ذلك} أي التسخير(11/121)
العظيم {لآيات} أي كثيرة متعددة عظيمة {لقوم يعقلون} وجمع الآيات لظهور تعدادها بالتحديث عنها مفصلة.
ولما كان ما مضى موضعاً للتفكر المنتج للعلم بوحدة الصانع واختياره، وكان التفكر في ذلك مذكراً بما بعده من سر التفاوت في اللون الذي لا يمكن ضبط أصنافه على التحرير، وكان في ذلك تمام إبطال القول بتأثير الأفلاك والطبائع، لأن نسبتها إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة واحدة، قال تعالى عطفاً على الليل: {وما ذرأ} أي خلق وبث وفرق التراب والماء {لكم} أي خاصة، فاشكروه واعلموا أنه ما خصكم بهذا التدبير العظيم إلا لحكم كبيرة أجلَّها إظهار جلاله يوم الفصل {في الأرض} أي مما ذكر ومن غيره حال كونه {مختلفاً ألوانه} حتى في الورقة، الواحدة، فترى أحد وجهيها - بل بعضه - في غاية الحمرة، والآخر في غاية السواد أو الصفرة ونحو ذلك، فلو كان المؤثر موجباً بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار، فعلم قطعاً أنه إنما هو قادر مختار، ولم يذكر(11/122)
اختلاف الصور لأن دلالتها - لأجل اختلاف أشكال النجوم من السماء وصور الجبال والروابي والوهاد من الأرض - ليست على إبطال الطبيعة كدلالة اختلاف اللون.
ولما كان ذلك - وإن كان خارجاً عن الحد في الانتشار - واحداً من جهة كونه لوناً، وحد الآية فقال: {إن في ذلك} الذي ذرأه في هذه الحال على هذا الوجه العظيم {لآية} ولما نبه في التي قبلها على أن الأمر وصل في الوضوح إلى حد لا يحتاج معه إلى غير بديهة العقل، نبه هنا على أن ذلك معلوم طرأ عليه النسيان والغفلة، حثاً على بذل الجهد في تأمل ذلك، وإشارة إلى أن دلالته على المقصود في غاية الوضوح فقال: {لقوم يذكرون *} ولو لم يمنعوا - بما أفاده الإدغام؛ والتذكر: طلب المعنى بالتفكر في متعلقه، فلا بد من حضور معنى يطلب به غيره، وقد رتب سبحانه ذلك أبدع ترتيب، فذكر الأجسام المركبة عموماً، ثم خص الحيوان، ثم مطلق الجسم النامي وهو النبات، ثم البسائط من الماء ونحوه، ثم الأعراض من الألوان.(11/123)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
ولما دل على قدرته واختياره سبحانه دلالة على القدرة على كل ما أخبر به لاسيما الساعة، بخلق السماوات والأرض الذي هو أكبر(11/123)
من خلق الناس، ثم ذكر بعض ما في المكشوف من الأرض المحيط به الهواء من التفاوت الدال على تفرد الصانع واختياره، وختمه باللون، أتبع ذلك بالمغمور بالماء الذي لا لون له في الحقيقة، إشارة إلى أنه ضمنه من المنافع والحيوانات التي لها من المقادير والكيفيات والأشكال والألوان البديعة التخطيط، الغريبة الصباغ - ما هو أدل من ذلك فقال: {وهو} أي لا غيره {الذي سخر البحر} أي ذلَّله وهيأه لعيش ما فيه من الحيوان وتكون الجواهر، وغير ذلك من المنافع، والمراد به السبعة الأبحر الكائنة في الربع المرتفع عن الماء، وهو المسكون من كرة الأرض المادَّة من البحر المحيط الغامر لثلاثة أرباع الأرض، فجعله بالتسخير بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به بالركوب والغوص وغيرهما {لتأكلوا منه} أي بالاصطياد وغيره من لحوم الأسماك {لحماً طرياً} لا تجد أنعم منه ولا ألين، وهو أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيبادر إلى أكله عذباً لذيذاً مع نشبه في ملح زعاق {وتستخرجوا منه} أي بجهدكم في الغوص وما يتبعه {حلية تلبسونها}(11/124)
أي نساؤكم، وهن بعضكم لكم، فكأن اللابس أنتم، وهي من الحجارة التي لا ترى أصلب منها ولا أصفى من اللؤلؤ وكذا من المرجان وغيره، مع نسبة هذا الصلب وذاك الطري إلى الماء، فلو أنه فاعل بطبعه لاستويا.
ولما ذكر المنافع العامة مخاطباً لهم بها، وكان المخر - وهو أن تجري السفينة مستقبلة الريح، فتشق الماء، فيسمع لجريها صوت معجب، وذلك مع الحمل الثقيل - آية عظيمة لا يتأملها إلا أرباب القلوب خص بالخطاب أعلى أولي الألباب، ومن قاربه في ابتغاء الصواب، فقال: {وترى الفلك} ولما كان النظر إلى تعداد النعم هنا أتم منه في سورة فاطر، قدم المخر في قوله: {مواخر فيه} أي جواري تشق الماء مع صوت، لتركبوها فتستدلوا - بعدم رسوبها فيه مع ميوعه ورقته وشدة لطافته - على وحدانية الإله وقدرته.
ولما علل التسخير بمنفعة البحر نفسه من الأكل وما تبعه، عطف على ذلك النفع به، فقال تعالى: {ولتبتغوا} أي تطلبوا(11/125)
طلباً عظيماً بركوبه {من فضله} أي الله بالتوصل بها إلى البلدان الشاسعة للمتاجر وغيرها {ولعلكم تشكرون *} هذه النعم التي أنتم عاجزون عنها لولا تسخيره؛ والمخر: شق الماء عن يمين وشمال، وهو أيضاً صوت هبوب الريح إذا اشتد هبوبها، وقد ابتدىء فيه بما يغوص تارة ويطف أخرى بالاختيار، وثنى بما طبعه الرسوب، وثلث بما من طبعه الطفوف.(11/126)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
ولما ذكر الأغوار، الهابطة الضابطة للبحار، أتبعها الأنجاد الشداد، التي هي كالأوتاد، تذكيراً بما فيها من النعم فقال: {وألقى في الأرض} أي وضع فيها وضعاً، كأنه قذفه فيها قذفاً، جبالاً {رواسي} مماسة لها ومزينة لنواحيها، كراهة {أن تميد} أي تميل مضطربة يميناً وشمالاً، أي فيحصل لكم الميد، وهو دوار يعتري راكب البحر {بكم} فهي ثابتة لأجل ذلك الإلقاء، ثابتة مع اقتضائها بالكرية التحرك.
ولما ذكر الأوهاد، وأتبعها الأوتاد، تلاها بما تفجره غالباً منها، عاطفاً على {رواسي} لما تضمنه العامل من معنى «جعل» فقال: {وأنهاراً} وأدل دليل على ثبات الأرض ما سبقها من ذكر البحار، ولحقها من الحديث عن الأنهار، فإنها لو تحركت ولو بمقدار شعرة في كل يوم لأغرقت البحارُ من إلى جانب الانخفاض، وتعاكست مجاري الأنهار،(11/126)
فعادت منافعها أشد المضار، ولو زادت البحار، بما تصب فيها الأنهار، على مر الليل وكر النهار، لأغرقت الأرض، ولكنه تعالى دبر الأمر بحكمته تدبيراً تعجز عن الاطلاع على كنهه أفكار الحكماء، بأن سلط حرارة الشمس على الأرض في جميع مدة الصيف وبعض غيره من الفصول، فسرت في أغوارها، وحميت في أعماقها في الشتاء، فأسخنت مياه البحار وغيرها فتصاعدت منها بخارات كما يتصاعد من القدر المغلي بقدر ما صبت فيها الأنهار، فانعقدت تلك البخارات في الجو مياهاً لما بردت، فنزل منها المطر، فأحيا الأرض بعد موتها، وتخلل أعماقها منه ما شاء الله، فأمد الأنهار، ولذلك تزيد بزيادة المطر وتنقص بنقصه، وهكذا في كل عام، فأوجب ذلك بقاء البحر على حاله من غير زيادة، فسبحان المدبر الحكيم العزيز العليم! ولما ذكر ذلك، أتبعه ما يتوصل به إلى منافع كل منه فقال تعالى: {وسبلاً} .
ولما كانت الجبال والبحار والأنهار أدلة على السبل الحسية والمعنوية، قال تعالى: {لعلكم تهتدون *} أي يحصل الاهتداء فتهتدوا إلى مقاصدكم.
ولما كانت الأدلة في الأرض غير محصورة فيها، قال: {وعلامات}(11/127)
أي من الجبال وغيرها، جمع علامة وهي صورة يعلم بها المعنى من خط، أو لفظ أو إشارة أو هيئة، وقد تكون علامة وضعية، وقد تكون برهانية.
ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأعمها وأوضحها براً وبحراً ليلاً ونهاراً، نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظن أن المخاطب مخصوص، وأن الأمر لا يتعداه، فقال تعالى: {وبالنجم هم} أي أهل الأرض كلهم، وأولى الناس بذلك أول المخاطبين، وهم قريش ثم العرب كلها، لفرط معرفتهم بالنجوم {يهتدون *} وقدم الجار تنبيهاً على أن دلالة غيره بالنسبة إليه سافلة.
ولما لم يبق - بذكر الدلائل على الوحدانية على الوجه الأكمل، والترتيب الأحسن، والنظم الأبلغ - شبهة في أن الخالق إنما هو الله، لما ثبت من وحدانيته، وتمام علمه وقدرته، وكمال حكمته، لجعله تلك(11/128)
الدلائل نعماً عامة، ومنناً تامة، مع اتضاح العجز في كل ما يدعون فيه الإلهية من دونه، واتضاح أنه سبحانه في جميع صنعه مختار، للمفاوتة في الوجود والكيفيات بين ما لا مقتضى للتفاوت فيه غير الاختيار، فثبت بذلك أنه قادر على الإًّتيان بما يريد.
قال مسبباً عن ذلك: {أفمن يخلق} أي يجدد ذلك حيث أراد ومتى أراد فلا يمكن عجزه بوجه لتمكن شركته {كمن} شركته ممكنة، فهو أصل في ذلك بسبب أنه {لا يخلق} أي لا يقع ذلك منه وقتاً ما من الأصنام وغيرها، في العجز عن الإتيان بما يقوله؛ المستلزم لأن يكون ممكناً مخلوقاً، ولو كان التشبيه معكوساً كما قيل لم يفد ما أفاد هذا التقدير من الإبلاغ في ذمهم بإنزال الأعلى عن درجته، وعبر ب «من» لأنهم سموها آلهة، وأنهى أمرها أن تكون عاقلة، فإذا انتفى عنها وصف الإلهية معه لعدم القدرة على شيء انتفى بدونه من باب الأولى.
ولما سبب عن هذه الأدلة إنكار تسويتهم الخالق بغيره في العجز،(11/129)
سبب عن هذا الإنكار إنكار تذكرهم، حثاً لهم على التذكر المفيد لترك الشرك فقال: {أفلا تذكرون *} بما تشاهدونه من ذلك ولو من بعض الوجوه - بما أفاده الإدغام - لتذكروا ما يحق اعتقاده.(11/130)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
ولما كانت المقدورات لا تحصر، وأكثرها نعم العباد مذكرة لهم بخالقهم، قال تعالى ممتناً عليهم بإحسانه من غير سبب منهم: {وإن تعدوا} أي كلكم {نعمة الله} أي إنعام الملك الذي لا رب غيره، عليكم وإن كان في واحدة فإن شعبها تفوت الحصر {لا تحصوها} أي لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم مع كفرها وإعراضكم جملة عن شكرها، فلو شكرتم لزادكم من فضله.
ولما كانوا مستحقين لسلب النعم بالإعراض عن التذكير، والعمى عن التبصر، أشار إلى سبب إدرارها، فقال تعالى: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال بجميع صفات الإكرام والانتقام {لغفور رحيم *} فلذلك هو يدر عليكم نعمه وأنتم منهمكون فيما يوجب نقمه.
ولما جرت العادة بأن المكفور إحسانه يبادر إلى قطعه عند علمه بالكفر، فكان ربما توهم متوهم أن سبب مواترة الإحسان عدم العلم بالكفران، أو عدم العلم بكفران لا يدخل تحت المغفرة، قال(11/130)
مهدداً مبرزاً للضمير بالاسم الأعظم الذي بنيت عليه السورة للفصل بالفرق بين الخالق وغيره ولئلا يتوهم تقيد التهديد بحيثية المغفرة إيماء إلى أن ذلك نتيجة ما مضى: {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الإكرام والانتقام {يعلم} أي على الإطلاق {ما تسرون} أي كله. ولما كان الإسرار ربما حمل على حالة الخلوة، فلم يكن علمه دالاً على الإعلان، قال تعالى: {وما تعلنون *} ليعلم مقدار المضاعفة لموجبات الشكر وقباحة الكفر، وأما الأصنام فلا تعلم شيئاً فلا أسفه ممن عبدها.
ولما أثبت لنفسه تعالى كمال القدرة وتمام العلم وأنه المنفرد بالخلق، شرع يقيم الأدلة على بعد ما يشركونه به من الإلهية بسلب تلك الصفات فقال تعالى: {والذين يدعون} أي دعاء عبادة {من دون الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {لا يخلقون شيئاً} ولما كان ربما ادعى مدع في شيء أنه لا يخلق ولا يخلق، قال: {وهم يخلقون *} .(11/131)
ولما كان من المخلوقات الميت والحي، وكان الميت أبعد شيء عن صفة الإله، قال نافياً عنها الحياة - بعد أن نفى القدرة والعلم - المستلزم لأن يكون عبدتها أشرف منها المستلزم لأنهم بخضوعهم لها في غاية السفه: {أموات} ولما كان الوصف قد يطلق على غير الملتبس به مجازاً عن عدم نفعه بضده وإن كان قائماً به عريقاً فيه قال: {غير أحياء} مبيناً أن المراد بذلك حقيقة سلب الحياة على ضد ما عليه الله {ألا له الخلق} من كونه حياً لا يموت، ولعله اقتصر على وصفهم - مع أنهم موات - بأنهم أموات لأن ذلك مع كونه كافياً في المقصود من السياق - وهو إبعادهم عن الإلهية - يكون صالحاً لكل مخلوق ادعى فيه الإلهية وإن اتصف بالحياة، لأن حياته زائلة يعقبها الموت، ومن كان كذلك كان بعيداً عن صفة الإلهية.
ولما كانوا - مع علمهم بأن الأصنام حجارة لا حياة لها - يخاطبون من أجوافها بألسنة الشياطين - كما هو مذكور في السير وغيرها من الكتب المصنفة في هواتف الجان، فصاروا يظنون أن لها علماً بهذا الاعتبار، ولذلك كانوا يظنون أنها تضر وتنفع، احتيج إلى نفي العلم عنها، ولما كانوا يخبرون على ألسنتها ببعض ما يسترقونه من السمع،(11/132)
فيكون كما أخبروا، لم ينف عنها مطلق العلم، بل نفي ما لا علم لأحد غير الله به، لأنهم لا يخبرون عنه بخبر إلا بان كذبه، فقال تعالى عادّاً للبعث عداد المتفق عليه: {وما يشعرون} أي في هذا الحال كما هو مدلول ما {أيان} أي أيّ حين {يبعثون *} فنفى عنهم مطلق الشعور الذي هو أعم من العلم، فينتفي كل ما هو أخص منه.(11/133)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
ولما كانت أدلة البعث قد ثبت قيامها، واتضحت أعلامها، وعلا منارها، وانتشرت أنوارها، ساق الكلام فيها مساق ما لا خلاف إلا في العلم بوقته مع الاتفاق على أصله، لأنه من لوازم التكليف، ولما اتضح بذلك كله عجز شركائهم، أشار إلى أن منشأ العجز قبول التعدد، إرشاداً إلى برهان التمانع، فقال على طريق الاستئناف لأنه نتيجة ما مضى قطعاً: {إلهكم} أي أيها الخلق كلكم، المعبود بحق {إله} أي متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أحد وكل زمان وكل مكان {واحد} لا يقبل التعدد - الذي هو مثار النقص - بوجه من الوجوه، لأن التعدد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم(11/133)
للبعد عن رتبة الإلهية {فالذين} أي فتسبب عن هذا أن الذين {لا يؤمنون بالآخرة} أي دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة {قلوبهم منكرة} أي جاهلة بأنه واحد، لما لها من القسوة لا لاشتباه الأمر - لما تقدم في هود من أن مادة «نكر» تدور على القوة وهي تستلزم الصلابة فتأتي القسوة {وهم} أي والحال أنهم بسبب إنكار الآخرة {مستكبرون *} أي صفتهم الاستكبار عن كل ما لا يوافق أهواءهم وهو طلب الترفع بالامتناع من قبول الحق أنفة من أهله، فصاروا بذلك إلى حد يخفى عليهم معه الشمس كما قال تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} [هود: 20] وربما دل {مستكبرون} على أن {منكرة} بمعنى «جاحدة ما هي به عارفة» .
ولما كانوا - لكون الإنسان أكثر شيء جدلاً - ربما أنكروا الاستكبار، وادعوا أنه او ظهر لهم الحق لأنابوا، قال على طريق الجواب لمن كأنه قال: إنهم لا يأبون استكباراً ما لا يشكون معه في أن هذا كلام الله {لا جرم} أي لا ظن في {أن الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يعلم} علماً غيبياً وشهادياً {ما يسرون} أي(11/134)
يخفون مطلقاً أو بالنسبة إلى بعض الناس. ولما كان علم السر لا يستلزم علم الجهر - كما مضى غير مرة، قال: {وما يعلنون} فهو أخبر بذلك إلا عن أمر قطعي لا يقبل المراء.
ولما كان في ذلك معنى التهديد، لأن المراد: فليجازينهم على دق ذلك وجهل من غير أن يغفر منه شيئاً - كما يأتي التصريح به في قوله: {ليحملوا أوزارهم كاملة} [النحل: 25] علل هذا المعنى بقوله: {إنه} أي العالم بالسر والعلن {لا يحب المستكبرين *} أي على الحق، كائناً ما كان.
ولما كان الطعن في القرآن - بما ثبت من عجزهم عن معارضته - دليل الاستكبار قال تعالى عاطفاً على قوله {قلوبهم منكرة} : {وإذا قيل} أي من أيّ قائل كان في أي وقت كان ولو تكرر {لهم} أي لمنكري الآخرة: {ماذا} أي أي شيء {أنزل ربكم} أي المحسن إليكم المدبر لأموركم {قالوا} مكابرين في إنزاله عادّين «ذا» موصولة لا مؤكدة للاستفهام: الذي تعنون أنه منزل ليس منزلاً، بل هو {أساطير الأولين} - مع عجزهم بعد تحديهم عن معارضة(11/135)
سورة منه مع علمهم بأنه أفصح الناس وأنه لا يكون من أحد من الناس متقدم أو متأخر قول إلا قالوا أبلغ منه.(11/136)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
ولما كان الكتاب هو الصراط المستقيم المنقذ من الهلاك، وكان قولهم هذا صداً عنه، فكان - مع كونه ضلالاً - إضلالاً، ومن المعلوم أن من ضل كان عليه إثم ضلاله، ومن أضل كان عليه وزر إضلاله - هذا ما لا يخفى على ذي عقل صحيح، فلما كان هذا بيناً، وكانوا يدعون أنهم أبصر الناس بالخفيات فكيف بالجليات، حسن جداً قوله: {ليحملوا} فإنهم يعلمون أن هذا لازم لهم قطعاً وإن قالوا بألسنتهم غيره، أو يقال: إنه قيل ذلك لأنه - مع أن الجهل أولى لهم منه - أخف أحوالهم لأنهم إما أن يعلموا أنهم فعلوا بهذا الطعن ما ليس لهم أولاً، فعلى الثاني هم أجهل الناس، وعلى الأول فإما أن يكونوا ظنوا أنهم يؤخذون به أو لا، فعلى الثاني يكون الخلق سدى، وليس هو من الحكمة في شيء، فمعتقد هذا من الجهل بمكان عظيم، وعلى الأول فهم يشاهدون كثيراً من الظلمة لا يجازون في الدنيا، فيلزمهم في الحكمة اعتقاد الآخرة، ليجازى بها المحسن والمسيء، وهذا أخف الأحوال المتقدمة، ولا يخفى ما في الإقدام(11/136)
على مثله من الغباوة المناقضة لادعائهم أنهم أبصر الناس، فقد آل الأمر إلى التهكم بهم لأنهم نُسبوا إلى علم الجهل خير منه {أوزارهم} التي باشروها لنكوبهم عن الحق تكبراً لا عن شبهة.
ولما كان الله من فضله يكفر عن أهل الإيمان صغائرهم بالطاعات وباجتناب الكبائر فكان التكفير مشروطاً بالإيمان، وكان هؤلاء قد كفروا بالتكذيب بالكتاب، قال تعالى: {كاملة} لا ينقص منها وزر شيء مما أسروا ولا مما أعلنوا، لخفاء ولا ذهول بتكفير ولا غيره من دون خلل في وصف من الأوصاف، فهو أبلغ من «تامة» لأن التمام قد يكون في العدة مع خلل في بعض الوصف {يوم القيامة} الذي لا شك فيه ولا محيص عن إتيانه {و} ليحملوا {من} مثل {أوزار} الجهلة الضعفاء {الذين يضلونهم} فيضلون بهم كما بين أولئك الذين ضلوا {بغير علم} يحملون من أوزارهم من غير أن يباشروها لما لهم فيها من التسبب من غير أن ينقص من أوزار الضالين بهم شيء وإن كانوا جهلة، لأن لهم عقولاً هي بحيث تهدي إلى سؤال أهل الذكر، وفطراً أولى تنفر من الباطل «أول» ما يعرض علهيا فضيعوها؛ ثم استأنف التنبيه(11/137)
على عظيم ما يحصل لهم من مرتكبهم من الضرر وعيداً لهم فقال تعالى: {ألا ساء ما يزرون *} فأدخل همزة الإنكار على حرف النفي فصار إثباتاً على أبلغ وجه.
ولما كان المراد من هذا الاستكبار محو الحق وإخفاء أمره من غير تصريح بالعناد - بل مع إقامة شبه ربما راجت - وإن اشتد ضعفها - على عقول هي أضعف منها، وكأن هذا حقيقة المكر التي هي التغطية والستر كما بين في الرعد عند قوله تعالى:
{بل زين للذين كفروا مكرهم} [الرعد: 23] شرع يهدد الماكرين ويحذرهم وقوع ما وقع بمن كانوا أكثر منهم عدداً وأقوى يداً، ويرجي المؤمنين في نصرهم عليهم، بما له من عظيم القوة وشديد السطوة، فقال تعالى: {قد مكر الذين} ولما كان المقصود بالإخبار ناساً مخصوصين لم يستغرقوا زمان القبل، أدخل الجار فقال تعالى: {من قبلهم} ممن رأوا آثارهم ودخلوا ديارهم {فأتى الله} أي بما له من مجامع العظمة {بنيانهم} أي إتيان بأس وانتقام {من القواعد} التي بنوا عليها مكرهم {فخر} أي سقط مع صوت عظيم لهدته {عليهم السقف} .
ولما كانت العرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط -(11/138)
إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه كما نقله أبو حيان عن ابن الأعرابي، قال تعالى صرفاً عن هذا إلى حقيقة السقوط المقيد بالجار: {من قولهم} وكانوا تحته فهلكوا كما هو شأن البنيان إذا زالت قواعده.
ولما كان المكر هو الضر في خفية، لأنه القتل بالحيلة إلى جهة منكرة، بين أن ما حصل لهم من العذاب هو من باب ما فعلوا بقوله: {وأتاهم العذاب} أي الذي اتفقت كلمة الرسل على الوعيد به لمن أبى {من حيث لا يشعرون *} لأن السبب الذي أعدوه لنصرهم كان بعينه سبب قهرهم، وهذا على سبيل التمثيل، وقيل: إنه على الحقيقة فيما بناه نمرود من الصرح.
ذكر قصته من التوراة:
قال في السفر الأول منها في تعداد أولاد نوح عليه السلام: وكوش - يعني ابن حام بن نوح - ولد نمرود، وكان أول جبار في الأرض، وهو كان مخوفاً ذا صيد بين يدي الرب، ولذلك يقال:(11/139)
هذا مثل نمرود الجبار القناص، فكان مبدأ ملكه بابل والكوش والأهواز والكوفة التي بأرض شنعار، ومن تلك الأرض خرج الموصلي فابتنى نينوى ورحبوت القرية - وفي نسخة: قرية الرحبة - والإيلة والمدائن؛ ثم قال بعد أن عد أحفاد نوح عليه السلام وممالكهم: هؤلاء قبائل بني نوح وأولادهم وخلوفهم وشعوبهم، ومن هؤلاء تفرقت الشعوب في الأرض بعد الطوفان، وإن أهل الأرض كلهم كانت لغتهم واحدة، ومنطقهم واحداً، فلما ظعنوا في المشرق انتهوا إلى قاع في أرض شنعار - وفي نسخة: العراق - فسكنوه، فقال كل امرىء منهم لصاحبه: هلم بنا نلبن اللبن ونحرقه بالنار، فيصير اللبن مثل الحجارة ويصير الجص بدل الطين للملاط، ثم قال: هلموا! نبن لنا قرية نتخذها، وصرحاً مشيداً لاحقاً بالسماء، ونخلف لنا شيئاً نذكر به، لعلنا ألا نتفرق على الأرض كلها، فنظر الرب القرية والصرح الذي يبينه الناس، فقال الرب: إني أرى هذا الشعب رأيهم واحد ولغتهم واحدة(11/140)
وقد هموا أن يصنعوا هذا الصنيع فهم الآن غير مقصرين فيما هموا أن يفعلوه، فلأورد أمراً أشتت به لغتهم حتى لا يفهم المرء منهم لغة صاحبه، ثم فرقهم الرب من هنالك على وجه الأرض كلها، ولم يبنوا القرية التي هموا ببنائها، ولذلك سميت بابل لأن هنالك فرق الرب لغة أهل الأرض كلها - انتهى.
قال لي بعض علماء اليهود: إن بابل معرب بوبال، ومعنى بوبال بالعبراني الشتات - هذا ما في التوراة، وأما المفسرون فإنهم ذكروا أن الصرح بني على هيئة طويلة في الطول والإحكام، وأن الله تعالى هدمه، فكانت له رجة تفرقت لعظم هولها لغة أهل الأرض إلى أنحاء كثيرة لا يحصيها إلا خالقها فالله أعلم.(11/141)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
ولما بين سبحانه وتعالى حال المكرة المتمردين عليه في الدنيا، أخذ يذكر حالهم في الآخرة تقريراً للآخرة وبياناً لأن عذابهم غير مقصور على الدنيوي، فقال تعالى: {ثم يوم القيامة يخزيهم} أي الله تعالى الذي فعل بهم في الدنيا ما تقدم، خزياً يشهده جميع الخلائق(11/141)
الوقوف في ذلك اليوم، فيحصل لهم من الذل - جزاء على تكبرهم - ما يجل عن الوصف، وعطفه ب «ثم» لاستبعادهم له ولما له من الهول والعظمة التي يستصغر لها كل هول {ويقول} أي لهم في ذلك الجمع تبكيتاً وتوبيخاً: {أين شركاءي} على ما كنتم تزعمون، وأضاف سبحانه إلى نفسه المقدس لأنه أقطع في توبيخهم وأدل على تناهي الغضب {الذين كنتم} أي كوناً لا تنفكون عنه {تشاقون فيهم} أوليائي، فتكونون بمخالفتهم في شق غير شقهم، فتخضعون لما لا ينبغي الخضوع له، وتتكبرون على من لا ينبغي الإعراض عنه، ما لهم لا يحضرونكم ويدفعون عنكم في هذا اليوم؟ وقرىء بكسر النون لأن مشاققة المأمور مشاققة الآمر.
ولما كان المقام للجلال والعظمة المستلزم لزيادة الهيبة التي يلزم(11/142)
عنها غالباً خرس المخزي عن جوابه لو كان له جواب، وكان من أجل المقاصد في تعذيبهم العدل بتفريح الأولياء وإشماتهم بهم، جزاء لما كانوا يعملون بهم في الدنيا، وكانت الشماتة أعلى محبوب للشامت وأعظم مرهوب للمشموت فيه، وأعظم مسلّ للمظلوم، دل على سكوتهم رغباً عن المبادرة بالجواب بتأخير الخبر عنه وتقديم الخبر عن شماتة أعدائهم فيهم في سياق الجواب عن سؤال من قال: هل علم بذلك المؤمنون؟ فقيل: {قال الذين} ولما كان العلم شرفاً للعالم مطلقاً، بني للمفعول قوله: {أوتوا العلم} أي انتفعوا به في سلوك سبيل النجاة من الأنبياء عليهم السلام ومن أطاعهم من أممهم، إشارة إلى أن الهالك يصح سلب العلم عنه وإن كان أعلم الناس، وعدل عن أن يقول: أعداؤهم أو المؤمنون ونحوه، إجلالاً لهم بوصفهم بالعلم الذي هو أشرف الصفات لكونه منشأ كل فضيلة، وتعرضاً بأن الحامل للكفار على الاستكبار الجهل الذي هو سبب كل رذيلة {إن الخزي} أي البلاء المذل {اليوم} أي يوم الفصل الذي يكون للفائز فيه العاقبة المأمونة {والسوء} أي كل ما يسوء {على الكافرين *} أي العريقين في الكفر الذين(11/143)
تكبروا في غير موضع التكبر، لا على غيرهم؛ ثم رغبهم في التوبة بقوله: {الذين تتوفّاهم} بالفوقية في قراءة الجمهور لأن الجمع مؤنث، وبالتحتية في قراءة حمزة لأن المجموع غير مؤنث، وكان وفاتهم على وجهين: وجه خفيف - بما أشار إليه التأنيث لخفة كفر صاحبه، وآخر ثقيل شديد لشدة كفر صاحبه، ولم يحذف شيء من التاءين للإشارة إلى نقصان حالهم لأنه لا يمكن خيرها لموتهم على الكفر بخلاف ما تقدم في تارك الهجرة في النساء {الملائكة} أي المؤكلون بالموت، حال كونهم {ظالمي أنفسهم} بوضعها من الاستكبار على الملك الجبار غير موضعها.
فلما تم ذلك على هذا الوجه البديع، والأسلوب الرفيع المنيع، ابتدأ الخبر عن جوابهم على وجه معلم بحالهم فقال: {فألقوا} أي من أنفسهم عقب قول الأولياء وبسبب سؤال ذي الكبرياء {السلم} أي المقادة والخضوع بدل ذلك التكبر والعلو قائلين(11/144)
ارتكاباً للكذب من غير احتشام: {ما كنا نعمل} وأعرقوا في النفي فقالوا: {من سوء} فكأنه قيل: إن هذا لبهتان عظيم في ذلك اليوم الجليل، فماذا قيل لهم؟ فقيل: {بلى} قد عملتم أعظم السوء؛ ثم علل تكذيبهم بقوله: {إن الله} أي المحيط بكل شيء {عليم} أي بالغ العلم من كل وجه {بما كنتم} أي جبلة وطبعاً {تعملون *} أي من الضلال والإضلال، فلا يسعكم الإنكار، أفما آن لكم أن تنزعوا عن الجهل فيما يضركم ولا ينفعكم ويخفضكم ولا يرفعكم!(11/145)
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
ولما كان هذا الفعل مع هذا العلم سبباً لدخول جهنم من غير أن يقام لهم وزن، لأنه لا وزن لما ضيع أساسه، قال معقباً مسبباً: {فادخلوا} أي أيها الكفرة {أبواب جهنم} أي أبواب طبقاتها ودركاتها {خالدين} أي مقدرين الخلد {فيها} أي في جهنم التي دأبها تجهم من دخلها.
ولما كان هذا المقام للمشاققة. وكان أمرها زائد القباحة. كان هذا الدخول أقبح دخول، وكان سبباً لأن يقال: {فلبئس} بالأداة الجامعة لمجامع الذم {مثوى المتكبرين *} على وجه التأكيد وبيان الوصف الذي استحقوا به ذلك، لتقدم كذبهم في قولهم {ما كنا(11/145)
نعمل من سوء} تعريضاً بأنهم جديرون - لغاية ما لهم من البلادة - أن يستحسنوا النار كما كذبوا مع العلم التام بأنه لا يروج في ذلك اليوم كذب.
ولما تم الخبر عن المنكر لما أنزل الله على ألسنة الملائكة من الروح من أمره على الأنبياء عليهم السلام، إنكاراً لفضلهم وتكبراً بما ليس لهم، بالاعتراض على خالقهم، ابتدأ الخبر عن المقرين تصديقاً لهداتهم واعترافاً بفضلهم وتسليماً لمن هم عبيده في تفضيل من يشاء، منبهاً على الوصف الذي أوجب لهم الاعتراف بالحق، فقال حاذفاً ل «إذا» دلالة على الرضى بأيسر شيء من الخير والمدح عليه ولو لم يتكرر: {وقيل للذين اتقوا} أي خافوا عقاب الله {ماذا} أي أي شيء {أنزل ربكم} أي المحسن إليكم من روحه المحيي للأرواح، على رسوله {قالوا} معترفين بالإنزال، غير متوقفين في المقال، فاهمين أن ذا مؤكدة للاستفهام لا بمعنى الذي: أنزل {خيراً} وإنما أطبق القراء على نصب هذا ورفع الأول فرقاً بين جوابي المقر والجاحد بمطابقة المقر بين الجواب والسؤال، وعدول الجاحد بجوابه(11/146)
عن السؤال؛ ثم أخذ يرغب بما لهم من حسن المآل على وجه الجواب لسؤال من كأنه قال: ما لهم على ذلك؟ فقيل مظهراً موضع الإضمار مدحاً لهم وتعميماً لمن اتصف بوصفهم: {للذين أحسنوا} فبين أن اعترافهم بذلك إحسان؛ ثم أخبر عنه بقوله: {في هذه الدنيا حسنة} أي جزاء لهم على إحسانهم {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] .
ولما كانت هذه الدار سريعة الزوال، أخبر عن حالهم في الآخرة فقال: {ولدار الآخرة خير} أي جزاء ومصيراً؛ ثم مدحها ومدحهم بقوله تعالى: {ولنعم دار المتقين *} أي هي، مرغباً في الوصف الذي كان سبب حيازتهم لها، وهو الخوف المنافي لما وصف به الأشرار من الاستكبار، بإظهاره موضع الإضمار وحذف المخصوص بالمدح لتقدم ما يدل عليه، وهو صالح لتقدير الدنيا - أي لمن عمل فيها بالتقوى - ولتقدير الآخرة، وهو واضح.
ولما كان هذا المدح مشوفاً لتفصيل ذلك قيل: {جنّات عدن} أي إقامة لا ظعن فيها {يدخلونها} حال كونها {تجري من تحتها} أي من تحت غرفها {الأنهار} ثم أجيب من كأنه سأل عما فيها من(11/147)
الثمار وغيرها بقوله تعالى: {لهم فيها} أي خاصة، لا في شيء سواها من غير أن يجلب إليهم من غيرها {ما يشاؤون} ثم زاد في الترغيب بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الجزاء العظيم {يجزي الله} أي الذي له الكمال كله {المتقين *} أي الراسخين في صفة التقوى، ثم حث على ملازمة التقوى بالتنبيه على أن العبرة بحال الموت، فقال تعالى: {الذين تتوفّاهم} أي تقبض أرواحهم وافية من نقص شيء من الروح أو المعاني - بما أشار إليه إثبات التاءين والإظهار {الملائكة طيبين} أي طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر متحلين بحلية الإيمان، فكأنه قيل: ماذا تقول لهم الملائكة؟ فقيل: {يقولون} أي مكررين للتأكيد تسكيناً لما جبلوا عليه من تعظيم جلال الله بالتقوى {سلام عليكم} ويقال لهم لتحقق فوزهم {ادخلوا الجنة} أي دار التفكه التي لا مثل لها {بما كنتم} أي جبلة وطبعاً {تعملون *} ترغيباً لهم في الأعمال التي لا يستطيعونها إلا برحمة الله لهم بتوفيقهم لها.(11/148)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
ولما أخبر تعالى عن أحوال الكفار السائلين في نزول الملائكة بعد أن وهىّ شبههم، وأخبر عن توفي الملائكة لهم ولأضدادهم المؤمنين، مشيراً بذلك إلى أن سنته جرت بأنهم لا ينزلون إلا لإنزال الروح من أمره على من يختصه لذلك أو لأمر فيصل لا مهلة فيه، قال منكراً عليهم: {هل ينظرون} أي هؤلاء الكفار في تقاعسهم عن تصديق الرسل في الإخبار بما أنزل ربهم، وجرد الفعل إشارة إلى قرب ما ينتظرونه {إلا أن تأتيهم} أي بأمر الله {الملائكة} وهم لا يأتونهم إلا بمثل ما أتوا به من قبلهم ممن قصصنا أمرهم من الظالمين إن لم يتوبوا {أو يأتي أمر ربك} أي المحسن إليك المدير لأمرك بأمر يفصل النزاع من غير واسطة ملك أو غيره.
ولما كان هذا أمراً مفزعاً، كان موجباً لمن له فهم أن يقول: هل فعل هذا أحد غير هؤلاء؟ فقيل: نعم! {كذلك} أي مثل هذا الفعل البعيد لبشاعته عن مناهج العقلاء، مكراً في تدبير الأذى،(11/149)
واعتقاداً وقولاً {فعل الذين} ولما كان الفاعلون مثل أفعالهم في التكذيب لم يستغرقوا الزمان، أدخل الجار فقال تعالى: {من قبلهم وما} أي والحال أنه ما {ظلمهم الله} أي الذي له الكمال كله في تقديره ذلك عليهم، لأنه المالك المطلق التصرف والملك الذي لا يسأل عما يفعل {ولكن كانوا} أي جبلة وطبعاً {أنفسهم} أي خاصة {يظلمون *} فاستحقوا العقاب لقيام الحجة عليهم على السنن الذي جرت به عوائدكم فيمن باشر سوء من غير أن يكره عليه إكراهاً ظاهراً، وهذا بعينه هو العلة في إرسال الرسل، ونصب الشرئع والملل {فأصابهم} أي فتسبب عن ظلمهم لأنفسهم أن أصابهم {سيئات} أي عقوبات أو جزاء سيئات {ما عملوا وحاق} أي أحاط ضابطة {بهم} من العذاب والمرسل به من الملائكة {ما كانوا به} أي خاصة {يستهزؤن *} تكبراً عن قبول الحق.
ومادة حاق واوية ويائية - بتراكيبها الست: حوق، حقو، قحو، قوح، وقح، حيق - تدور على الإحاطة، ويلزمها صلابة المحيط ولين المحاط به: حاق به الشيء - إذا نزل به فأحاط، والحيق:(11/150)
ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله، وحاق فيه السيف: حاك أي عمل - من التسمية باسم الجزء، ولأنه في الأغلب يكون في عمله الموت المحيط بالأجل، وحاق بهم الأمر: لزمهم ووجب عليهم ونزل بهم، والحيقة: شجرة كالشيح يؤكل بها التمر - كأنه يحيط بالتمرة، وحايقه: حسده وأبغضه - لإحاطة ذلك.
والحوق - بالضم: ما أحاط بالكمرة من حروفها، وبالضم والفتح معاً: استدارة في الذكر، والحوق - بالفتح فقط: الإحاطة، والأحوق والمحوق - كمعظم: الكمرة - كأنها مختصة بذلك لكبرها، ومنه فيشلة حوقاء: عظيمة - كأنها لعظمها هي التي ظهر حرفها دون غيرها، وأرض محوقة - بضم الحاء: قليلة النبت لقلة المطر - كأنه تشبه بالكمرة في ملاستها، وتركت النخلة حوقاء - إذا أشعل في الكرانيف - لاستدارة النار بها أو لشبهها بعد حريق السعف بالذكر أو رأسه، والحوقة بالفتح: الجماعة الممخرقة - لأن الجماعة لها قوة الاستدارة، والممخرق إن كان من الكذب فمن لازمه العوج، وإن كان من المخراق - وهو المنديل الذي يلف للعب به - فاللعب به على هيئة الاستدارة، وحوق(11/151)
عليه تحويقاً: عوج عليه الكلام، والحوق - بالفتح أيضاً: الكنس والدلك والتمليس لأن كلاًّ منها ترد فيه اليد إلى قريب من مكانها فيشبه الإحاطة ولو بالتعويج.
والحقو: الكشح، وهو ما بين عظم رأس الورك إلى الضلع الخلف لأنه موضع إحاطة الإزار، والإزار نفسه حقو لأنه آلته أو الحقو معقد الإزار، والحقو: موضع غليظ مرتفع عن السيل - من الصلابة والاستدارة لأن السيل يحيط به أو يكاد، ومن السهم: موضع الريش لأنه يشبه الحقو في استدارته وغلظ بعض ودقة بعض، وفي إحاطة الريش به، ومن الثنية: جانباها - من الإحاطة أو مطلق العوج، والحقوة: وجع في البطن من أكل اللحم - للحوق وجعه الحقو.
والأقحوان: نبت يستدير به زهرة، وأقاحي الأمر: تباشيره - لأنها تحيط به غالباً، وقحاً المال: أخذه - لما يلزمه من الإحاطة، والمقحاة: المجرفة - لأنها تحيط بالمجروف.
ومن اللين: قاح الجرح يقوح: صارت فيه مدة خالصة لا يخالطها(11/152)
دم كقاح يقيح - واوية ويائية، ولما يلزمه من الاستدارة غالباً، وقوّح الجرح: انتبر - إما من الموضع الغليظ المرتفع عن السيل، وإما من استدارته، وقاح البيت: كنسه كقوّحه، والقاحة: الساحة - لاستدارتها غالباً، وأقاح: صمم على المنع بعد السؤال - إما من لإزالة - أي أزال اللين - وإما من الصلابة.
ومن الصلابة: الوقاح - للحافر الصلب، وهو من الاستدارة أيضاً، ورجل وقاح الوجه: قليل الحياء - منه، والموقح - كمعظم: المجرب، وتوقيح الحوض: إصلاحه بالمدر والصفائح - للاستدارة والصلابة.
ولما تم ما هو عجب من مقالهم ومآلهم، في سوء أحوالهم، وختم بتهديدهم، عطف على قوله {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم} موجباً آخر للتهديد، معجباً من حالهم فيه، فقال: {وقال الذين أشركوا} أي الراسخ منهم في هذا الوصف والتابع له، على سبيل الاعتراض على من يدعوهم إلى التوحيد من نبي وغيره، محتجين بالقدر عناداً منهم، ومعترضين على من لا يسأل عما يفعل بأنه - لقدرته على كل شيء -(11/153)
غير محتاج إلى بعث الرسل، فإرسالهم عبث - تعالى الله الحكيم عن قولهم، فهو قول من يطلب العلة في أحكامه تعالى وفي أفعاله، وهو قول باطل، لأنه سبحانه الفعال لما يريد سواء أطلع العباد على حكمته أم لا: {لو شاء الله} أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، عدم عبادتنا لغيره {ما عبدنا} .
ولما كانت الرتب كلها متقاصرة عن رتبته وكانت متفاوته، وكان ما يعبدونه من الأصنام في أدناها رتبة، أدخلوا الجار فقالوا: {من دونه} وأعرقوا في النفي فقالوا: {من شيء} أي من الأشياء {نحن ولا ءاباؤنا} من قبلنا! ولما ذكروا الأصل أتبعوه الفرع فقالوا: {ولا حرمنا} أي على أنفسنا {من دونه} أي دون أمره {من شيء} لأن ما يشاء لا يتخلف على زعمكم، لكنه لم يشأ العدم، فقد شاء وجود ما نحن عليه، فنحن نتبع ما شاءه لا نتغير عنه، لأنه لا يشاء إلا ما هو حق، وضل عن الأشقياء - بكلمتهم هذه الحق التي أرادوا بها الباطل - أن مدار السعادة والشقاوة إنما هو موافقة الأمر لا موافقة الإرادة، فما كان من الفعل والكف على وفق الأمر سعد فاعله، وما خالفه قامت به الحجة على فاعله على(11/154)
ما جرت به عوائد الناس فشقي.
فلما انتهك ستر هذه المقالة المموهة، وكان كأنه قيل استبعاداً لها: هل قالها غيرهم؟ فقيل: نعم! {كذلك} أي مثل هذا البعيد من السداد، والقول الخارج عن الهداية والرشاد، وهو الاعتراض على ربهم في إرسال الرسل، مانعين لجواز الإرسال بهذه الشبهة الضعيفة، فإنه تعالى يريد إظهار ثمرة الملك بالحكم على ما يتعارفه العباد من إقامة الحجة بالأفعال الاختيارية وإن كانت بقضائه، لأن ذلك مستور عن العباد {فعل} أي كذب بدليل الأنعام {الذين} ودل على عدم الاستغراق للزمان بقوله: {من قبلهم} وكان تكذيباً، لأن قولهم اقتضى أن يكون ما هم عليه مما يرضاه الله، والرسل يقولون: لا يرضاه، ولا يرضى إلا ما أخبروا بأن صاحبه مثاب عليه أو غير معاقب، فكان ذلك سبباً للإنكار عليهم بقوله: {فهل} أي فما {على الرسل} أي الذين لا رسل في الحقيقة غيرهم، وهم الذين أرسلهم الله لدعاء العباد خلفاً عن سلف؛ ولما كان الاستفهام(11/155)
بمعنى النفي - كما تقدم - إلا أنه صور بصورته ليكون كدعوى الشيء بدليلها فقال: {إلا البلاغ المبين *} وقد بلغوكم وأوضحوا لكم، فصار وبال العصيان خاصاً بكم.(11/156)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
ولما كان جمع الرسل مفهماً لتوزيعهم على الأمم، كان موضع توقع التصريح بذلك، فقال - دافعاً لكرب هذا الاستشراف، نافياً لطروق احتمال، دالاً علا أن هذا القول السابق منصب إنكاره بالذات إلى اعتراضهم على الإرسال، ومسلياً لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحاثاً لهم على الاعتبار، عطفاً على ما تقديره: فلقد بعثناك في أمتك هذه لأن يعبدوا الله وحده ويجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدينا، ومنهم من حقت عليه الضلالة، فكان من غير شك بعضهم مرضٍ لله وبعضهم مغضب له، فإنه لا يكون حكم المتنافيين واحداً أبداً: {ولقد} أي والله لقد {بعثنا} أي على ما لنا من العظمة التي من اعترض عليها أخذ {في كل أمة} من الأمم الذين قبلكم {رسولا} فما بقي في الأرض أحد لم تبلغه الدعوة، ولأجل أن(11/156)
الرسل قد تكون من غير المرسل إليهم كلوط وشعيب عليهما السلام في أصحاب الأيكة وسليمان عليه السلام في غير بني إسرائيل من سائر من وصل إليه حكمه من أهل الأرض لم يقيد ب «منهم» .
ولما كان البعث متضمناً معنى القول، كان المعنى: فذهبوا إليهم قائلين: {أن اعبدوا الله} أي الملك الأعلى وحده {واجتنبوا} أي بكل جهدكم {الطاغوت} كما أمركم رسولنا {فمنهم} أي فتسبب عن إرسال الرسل أن كانت الأمم قسمين: منهم {من هدى الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة، للحق فحقت له الهداية فأبصر الحق وعمل به باتباع الدعاة الهداة فيما أمروا به عن الله، فحقت له الجنة {ومنهم من حقت} أي ثبتت غاية الثبات {عليه الضلالة} بأن أضله الله فنابذ الأمر فلم يعمل به وعمل بمقتضى الإرادة، فإن الأمر قد لا يكون ما تعلق به، والإرادة لا بد أن يكون ما تعلقت به، وقد يكون موافقها عاملاً بالضلالة فحق عليه عذابها فحقت له النار فهلك، لأنه لم تبق له حجة يدفع بها عن نفسه، فلو كان كل ما شاءه(11/157)
حقاً كان الفريقان محقين فلم يعذب أحدهما، لكنه لم يكن الأمر كذلك، بل عذب العاصي ونجى الطائع في كل أمة على حسب ما قال الرسل، وهذا هو معنى رضي الله، إطلاقاً لاسم الملزوم على اللازم، فدل ذلك قطعاً على صدق الرسل وكذب مخالفيهم، فالآية من الاحتباك: ذكر فعل الهداية أولاً دليلاً على فعل الضلال ثانياً، وحقوق الضلالة ثانياً دليلاً على حقوق الهداية أولاً.
ثم التفت إلى مخاطبتهم إشارة إلى أنه لم يبق بعد هذا الدليل القطعي في نظر البصيرة إلا الدليل المحسوس للبصر فقال: {فسيروا} أي فإن كنتم أيها المخاطبون في شك من إخبار الرسل فسيروا {في الأرض} أي جنسها {فانظروا} أي إذا سرتم ومررتم بديار المكذبين وآثارهم، وعبر هنا بالفاء المشيرة إلى التعقب دون تراخ لأن المقام للاستدلال المنقذ من الضلال الذي تجب المبادرة إلى الإقلاع عنه بخلاف {ثم انظروا} في الأنعام لما تقدم، وأشار بالاستفهام إلى أن أحوالهم مما يجب أن يسأل عنه للاتعاظ به فقال: {كيف كان} أي كوناً لا قدرة على الخلاص منه {عاقبة} أي(11/158)
آخر أمر {المكذبين *} أي من عاد ومن بعدهم الذين تلقيتم أخبارهم عمن قلدتموهم في الكفر من أسلافكم، فإنهم كذبوا الرسل فيما أمرتهم بإبلاغه مخالفة لأمري وعملاً بمشيئتي، فأوقعت بهم لأنهم خالفوا أمري باختيارهم مع جهلهم بإرادتي، فقامت عليهم الحجة على ما يتعارفه الناس بينهم.
ولما كان المحقق أنه ليس بعد الإيصال في الاستدلال إلى الأمر المحسوس إلا العناد، أعرض عنهم ملتفتاً إلى الرؤوف بهم الشفيق عليهم، فقال مسلياً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {إن تحرص على هداهم} فتطلبه بغاية جدك واجتهادك {فإن الله} أي الملك الأعظم {لا يهدي} أي هو بخلق الهداية في القلب - هذا على قراءة الكوفيين بفتح الياء وكسر الدال، ومن هاد ما بوجه من الوجوه على قراءة الجمهور بالبناء للمفعول {من يضل} أي من يحكم بضلاله، وهو الذي أضلهم فلا يمكن غيره أن يهديهم لأنه لا غالب لأمره؛ وقرىء شاذاً بفتح الياء من ضل بمعنى نسي، أي فلا تمكن هداية من نسيه، أي(11/159)
تركه من الهداية ترك المنسي فإنه ليس في يد غيره شيء، ونقل الصغاني في مجمع البحرين أنه يقال: ضل فلان البعير أي أضله، والضلال عند العرب سلوك غير سبيل القصد، فالمعنى أنه كان سبباً لسلوك البعير غير المقصود، فمعنى الآية: لا تهدي من يضله الله - بفتح الياء، أي يكون سبباً لسلوكه غير سبيل القصد، فلا تحزن ولا يضيق صدرك من عدم تأثرهم بنصحك وإخلاصك في الدعاء، ولا يقع في فكرك أن في دعائك نقصاً، إنما النقص في مرائيهم العمياء، وليس عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى -: {وما لهم} أي هؤلاء الذين أضلهم الله وجميع من يضله {من ناصرين *} أي ينصرونهم عند مجازاتهم على الضلال، لينقذوهم مما لحقهم عليه من الوبال، كما فعل بالمكذبين من قبلهم - عطف على نتيجة ما قبله، وهو فلا هادي لهم ما أراد الله ضلالهم، وتبكيت لهم وتقريع وحث وتهييج على أن يقوموا بأنفسهم ويستعينوا بمن شاؤوا على نصب دليل ما يدعونه من أنهم أتبع الناس للحق، إما بأن يبرهنوا على صحة معتقدهم أو يعينوهم على الرجوع عنه عند العجز عن ذلك، أو يكفوا عنهم العذاب إذا حاق بهم.(11/160)
ولما كان من حقهم - بعد قيام الأدلة على كمال قدرته وشمول علمه وبلوغ حكمته في إبداع جميع المخلوقات مما نعلم وما لا نعلم على أبدع ترتيب وأحسن نظام - تصديق الهداة في إعلامهم بأنه سبحانه يعيدهم للبعث وأنهم لم يفعلوا ولا طرقوا لذلك احتمالاً، بل حلفوا على نفيه من غير شبهة عرضت لهم ولا إخبار عن علم وصل إليهم فعل الجلف الجافي الغبي العاسي، أتبع ذلك سبحانه تعجيباً آخر من حالهم، فقال - عاطفاً على {وقال الذين أشركوا} لأن كلاًّ من الجملتين لبيان تكذيبهم الرسل والتعجيب منهم في ذلك، دالاً على ان اعتقادهم مضمون هذه الجملة هو الذي جرأهم على قول الأولى وما تفرع منها -: {وأقسموا بالله} أي الملك الأعظم {جهد أيمانهم} جعلت الأيمان جاهدة لكثرة ما بالغوا فيها: {لا يبعث الله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {من يموت} أي يحيي أحداً بعد موته، استناداً منهم إلى مجرد استبعاد مالم تجر به نفسه عندهم عادة، جموداً منهم عن حلها بأن النشأة الأولى كانت من غير عادة، مع ادعائهم أنهم أعقل الناس وأحدهم أذهاناً وأثقبهم أفهاماً.
ثم رد عليهم بقوله تعالى: {بلى} أي ليبعثهم لأنه لا مانع له(11/161)
من ذلك وقد وعد به {وعداً} وبين أنه لا بد منه بقوله: {عليه} وزاده تأكيداً في مقابلة اجتهادهم في أيمانهم بقوله: {حقاً} أي لأنه قادر عليه وهو لا يبدل القول لديه، فصار واجباً في الحكمة كونه، وأمر البعث معلوم عند كل عاقل سمع أقوال الهداة تاركاً لهواه {ولكن أكثر الناس} أي بما لهم من الاضطراب {لا يعلمون *} أي لا علم لهم يوصلهم إلى ذلك لأنه من عالم الغيب لا يمكن عقولهم الوصول إليه بغير إرشاد من الله، ولا هم يقبلون أقوال الدعاة إليه الذين أيدهم بروح منه لتقيدهم بما توصلهم إليه عقولهم، وهي مقصورة على عالم الشهادة لا يمكنها الترقي منه إلى عالم الغيب بغير وساطة منه سبحانه تعالى، فلذلك ترى الإنسان منهم يأبى ذلك استعباداً لأن يكون شيء معقول لا يصل إليه بمجرد عقله وهو خصيم مبين.(11/162)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
ولما بين أنه لا بد من ذلك لسبق الوعد به من القادر، بين حكمته بأمر مبين أنه لا يسوغ تركه بوجه، وهو أنه لا يجوز في عقل عاقل أن أحداً ملكاً فما دونه يأمر عبيده بشيء ثم يهملهم فلا يسألهم ولا سيما إن اختلفوا ولا سيما إن أدى اختلافهم إلى المقاطعة والمقاتلة(11/162)
فكيف إن كان حاكماً فكيف إذا كان حكيماً فكيف وهو أحكم الحاكمين! فقال معلقاً بما دل عليه {بلى} : {ليبين} أي فعله ووعد به فهو يبعثهم ليبين {لهم} أي للناس {الذي يختلفون} أي يوجد اختلافهم {فيه} من البعث وغيره، ويجزي كلاًّ بما عمل لأن ذلك من العدل الذي هو فعله {وليعلم الذين كفروا} أي جهلوا الآيات الدالة عليه، فكأنهم ستروها لأنها لظهورها لا تجهل {أنهم كانوا} أي جبلة وطبعاً {كاذبين *} أي عريقين في الكذب في إنكارهم للمعاد وزعمهم أنهم المختصون بالمفاز علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
ولما بين تحتمه وحكمته، بين إمكانه ويسره عليه وخفته لديه، فقال تعالى: {إنما قولنا} أي بما من العظمة {لشيء} إبداء وإعادة {إذا أردناه} أي أردنا كونه {أن نقول له} ثم ذكر محكى القول النفسي فقال - بانياً من «كان» التامة ما دل على موافقة الأشياء المرادة موافقة المأمور للآمر المطاع -: {كن} أي أحدث {فيكون *} أي فيتسبب عن ذلك القول أنه يكون حين تعلق القدرة به من غير مهلة أصلاً، فنحن خلقنا الخلق لنأمرهم وننهاهم.
ولما كان التقدير تفصيلاً لفريقي المبين لهم وترغيباً في الهجرة لأنها بعد الإيمان أوثق عرى الإسلام: فالذين كفروا(11/163)
واغتروا بما شاهدوه من العرض الفاني لنخزينهم في الدنيا والآخرة ولنجازينهم بجميع ما كانوا يعملون، عطف عليه قوله تعالى: {والذين هاجروا} أي أوقعوا المهاجرة فراراً بدينهم فهجروا آباءهم وأبناءهم وأقاربهم من الكفار وديارهم وجميع ما نهوا عنه {في الله} أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال، بعدما «تمادى» المكذبون بالبعث على إيذائهم، فتركوا لهم بلادهم.
ولما كانت هجرتهم لم تستغرق زمان البعد لموت بعض من هجروه وإسلام آخرين بعد احتمالهم لظلمهم ما شاء الله، قال تعالى: {من بعد ما ظلموا} أي وقع ظلمهم من الكفار، بناه للمفعول لأن المحذور وقوع الظلم لا كونه من معين {لنبوئنهم} أي نوجد لهم منزلاً هو أهل لأن يرجع إليه، بما لنا من الملائكة وغيرهم من الجنود وجميع العظمة {في الدنيا} مباءة {حسنة} كبيرة عظيمة، جزاء لهم على هدمتنا، بأن نعلي أمرهم وإن كره المشركون، كما يراه من يتدبر بمعني لأوليائي على قلتهم، وسينكشف الأمر عما قريب انكشافاً(11/164)
لا يجهله أحد، فالآية دليل على ما قبلها.
ولما كان التقدير: ولنبوئنهم في الآخرة أجراً كبيراً، عطف عليه قوله تعالى: {ولأجر الآخرة} المعد لهم {أكبر} مما جعلته لهم في الدنيا {لو كانوا يعلمون *} أي لو كان الكفار لهم بجبلاتهم علم بأن يكون لهم عقل يتدبرون به لعلموا - بإحساني إلى أوليائي في الدنيا من منعي لهم منهم في عنادهم مع كثرتهم وقلتهم، وإسباغي لنعمي عليهم لا سيما في الأماكن التي هاجروا إليها من الحبشة والمدينة وغيرهما مع اجتهادهم في منعها عنهم - أني أجمع لأوليائي الدارين، وأن إحساني إليهم في الآخرة أعظم - روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أكثر وأفضل - ثم تلا هذه الآية.(11/165)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
ولما نبه على إحسانه إليهم، وكان فيه من أول الأمر نوع غموض لظهور الكفرة في بادي الرأي، وصفهم بما يحتاج إليه في الاستجلاب لتمامه حثاً وإلهاباً، فقال تعالى - واصفاً للمهاجرين بياناً لأصل ما حملهم(11/165)
على ما استحقوا به هذا لأجر الجزيل -: {الذين صبروا} أي استعملوا الصبر على ما نابهم من المكاره من الكفار وغيرهم في الإقامة بين أظهرهم مدة ثم في الهجرة بمفارقة الوطن الذي هو حرم الله المشرب حبه لكل قلب، فكيف بقلوب من هو مسقط رؤوسهم ومألف أبدانهم ونفوسهم، وفي بذل الأرواح في الجهاد وغير ذلك، ولفت الكلام إلى وصف والإحسان تنبيهاً على ما يحمل على التوكل فقال تعالى: {وعلى ربهم} أي المحسن إليهم بإيجادهم وهدايتهم وحده {يتوكلون *} في كل حالة يريدونها رضى بقضاء الله تعالى.
ولما أخبر تعالى أنه بعث الرسل، وكان عاقبة من كذبهم الهلاك، بدلالة آثارهم، وكانوا قد قدحوا في الرسالة بكون الرسول بشراً ثم بكونه ليس معه ملك يؤيده، رد ذلك بقوله - مخاطباً لأشرف خلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكونه أفهمهم عنه مع أنه أجل من توكل وصبر، عائداً إلى مظهر الجلال بياناً لأنه يظهر من يشاء على من يشاء -: {وما أرسلنا} أي بما لنا من العظمة.
ولما كان الإرسال بالفعل إنما كان في بعض الأزمنة، دل عليه(11/166)
بالجار فقال: {من قبلك} إلى الأمم من طوائف البشر {إلا رجالاً} لا ملائكة بل آدميين، هم في غاية الاقتدار على التوكل والصبر الذي هو محط الرجلة {نوحي إليهم} بواسطة الملائكة، وما أحسن تعقيب ذلك للصابرين، لأن الرسل أصبر الناس.
ولما كانوا قد فزعوا إلى سؤال أهل الكتاب في بعض الأمور، وكانوا قد أتوا علماً من عند الله، سبب عن هذا الإخبار الأمر بسؤالهم عن ذلك، فقال مخاطباً لهم ولكل من أراد الاستثبات من غيرهم: {فسئلوا} أي أيها المكذبون ومن أراد من سواهم {أهل الذكر} أي العلم بالكتاب، سمي ذكراً لأن الذكر - الذي هو ضد السهو - بمنزلة السبب المؤدي إليه فأطلق عليه، كأن الجاهل ساهٍ وإن لم يكن ساهياً، وكذا الذكر - الذي هو الكلام المذكور - سبب للعلم.
ولما كان عندهم حسّ من ذلك بسماع أخبار الأمم قبلهم، أشار إليه بقوله تعالى: {إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {لا تعلمون*} أو هو التنفير من الرضى بالجهل.
ولما كانت رسل الملوك تقترن بما يعرف بصدقهم، قال - جواباً لمن كأنه قال: بأي دلالة أرسلوا؟ -: {بالبينات} المعرفة بصدقهم(11/167)
{والزبر} أي الكتب الهادية إلى أوامر مرسلهم.
ولما كان القرآن أعظم الأدلة، أشار إلى ذلك بذكره مدلولاً على غيره من المعجزات بواو العطف، فقال - عاطفاً على ما تقديره: وكذلك أرسلناك بالمعجزات الباهرات -: {وأنزلنا} أي بما لنا من العظمة {إليك} أي وأنت أشرف الخلق {الذكر} أي الكتاب الموجب للذكر، المعلي للقدر، الموصل إلى منازل الشرف {لتبين للناس} كافة بما أعطاك الله من الفهم الذي فقت فيه جميع الخلق، واللسان الذي هو أعظم الألسنة وأفصحها وقد أوصلك الله فيه إلى رتبة لم يصل إليها أحد {ما نزل} أي وقع تنزيله {إليهم} من هذا الشرع الحادي إلى سعادة الدارين بتبيين المجمل، وشرح ما أشكل، من علم أصول الدين الذي رأسه التوحيد، ومن البعث وغيره، وهو شامل لبيان الكتب القديمة لأهلها ليدلهم على ما نسخ، وعلى ما بدلوه فمسخ.
ولما كان التقدير: لعلهم بحسن بيانك يعملون! عطف عليه بياناً(11/168)
لشرف العلم قوله تعالى: {ولعلهم يتفكرون *} إذا نظروا أساليبه الفائقة، ومعانيه العالية الرائقة، فيصلوا بالفكر فيه - بسبب ما فتحت لهم من أبواب البيان - إلى حالات الملائكة، بأن تغلب أرواحهم على أشباحهم فيعلموا أنه تعالى واحد قادر فاعل بالاختيار، وأنه يقيم الناس للجزاء فيطيعونه رغبة ورهبة، فيجمعون بين شرفي الطاعة الداعية إليها الأرواح، والانكفاف عن المعصية الداعية إليها النفوس بواسطة الأشباح.(11/169)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
ولما نبه سبحانه على التفكر، وكان داعياً للعاقل إلى تجويز الممكن والبعد من الخطر، سبب عنه إنكار الأمن من ذلك فقال تعالى: {أفأمن} أي أتفكروا فتابوا، أو استمروا على عتوهم؟ أفأمن {الذين مكروا} بالاحتيال في قتل الأنبياء وإطفاء نور الله الذي أرسلهم به، المكرات {السيئات أن} يجازوا من جنس عملهم بأن {يخسف الله} أي المحيط بكل شيء {بهم} أي خاصة {الأرض} فإذا هم في بطنها، لا يقدرون على نوع تقلب بمدافعة ولا غيرها، كما فعل بقارون وأصحابه وبقوم لوط عليه السلام من قبلهم {أو يأتيهم العذاب} على غير تلك الحال {من حيث لا يشعرون *} به في حالة من هاتين الحالتين شعوراً ما، هم في حال سكون ودعة بنوم أو غفلة {أو يأخذهم}(11/169)
أي الله بعذابه {في} حال {تقلبهم} وتصرفهم ومشاعرهم حاضرة وقواهم مستجمعة.
ولما كانت هذه الأحوال الثلاثة مفروضة في حال أمنهم من العذاب وكان الأمن من العدو يكون عن ظن عدم قدرته عليه، علل ذلك بقوله تعالى: {فما هم بمعجزين *} أي في حالة من هذه الأحوال، سواء علينا غفلتهم ويقظتهم، ولم يعلل ما بعده بذلك لأن المتخوف مجوّز للعجز، فقال تعالى: {أو يأخذهم} أي الله أخذ غضب {على تخوف} منهم من العذاب وتحفظ من أن يقع بهم ما وقع بمن قبلهم من عذاب الاستئصال، ويجوز أن يراد بما مضى عذاب الاستئصال، وبهذا الأخذ شيئاً فشيئاً، فإن التخوف التنقص عند هذيل، روي أن عمر رضي الله عنه سأل الناس عنها فسكتوا فأجابه شيخ من هذيل بأنه التنقص، فقال عمر رضي الله عنه: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم! قال شاعرنا(11/170)
أبو كثير الهذلي يصف ناقة:
تخوف الرحل منها تامكاً قرداً ... كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر رضي الله عنه: أيها الناس! عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.
ولما كان التقدير: لم يأمنوا ذلك في نفس الأمر، ولكن جهلهم بالله - لطول أناته وحلمه - غرهم سبب عنه قوله التفاتاً إلى الخطاب استعطافاً: {فإن ربكم} أي المحسن إليكم بإهلاك من يريد وإبقاء من يريد {لرءوف} أي بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بنوع وسيلة، وكذا لمن قاطعه أتم مقاطعة، وإليه أشار بقوله تعالى:(11/171)
{رحيم *} أي فتسبب عن إمهاله لهم في كفرهم وطغيانهم مع القدرة عليهم العلم بأن تركه لمعاجلتهم ما هو إلا لرأفته ورحمته.
ولما خوفهم، دل على تمام قدرته على ذلك وغيره بقوله: عاطفاً على ما تقديره: أو لم يروا إلى عجزهم عما يريدون وقسره لهم على ما لا يريدون، فيعلموا بذلك قدرته وعجزهم، فيعلموا أن عفوه عن جرائمهم إحسان منه إليهم ولطف بهم: {أولم} ولما كان حقهم المبادرة بالتوبة فلم يفعلوا، أعرض عنهم في قراءة الجماعة تخويفاً فقال تعالى: {يروا} بالياء التحتية، وقرأ حمزة والكسائي بالخطاب على نسق ما قبله، أي ينظروا بعيون الأبصار متفكرين بالبصائر، وبين بعدهم عن المعارف الإلهية بحرف الغاية فقال تعالى: {إلى ما خلق الله} أي الذي له جميع الأمر {من شيء} أي له ظل {يتفيؤا} أي تترجع إلى جهة الشاخص {ظلاله} وهو ما ستره الشاخص عن الشمس متجاوزة له {عن اليمين} وهي ما على يمين المستدير للشمال، المستقبل للجنوب، الذي هو ناحية الكعبة لمن في بلاد الشام التي هي مسكن الأنبياء عليهم السلام، وأفراد لأن(11/172)
الظل يكون أول ما تشرق الشمس مستقيماً إلى تلك الجهة على استواء، وجمع في قوله: {والشمائل} لأن الشمس كلما ارتفعت تحول ذلك الظل راجعاً إلى جهة ما وراء الشاخص، ولا يزال كذلك إلى أن ينتصب عند الغروب إلى جهة يساره قصداً على ضد ما كان انتصب إليه عند الشروق، فلما كان بعد انتصابه إلى جهة اليمين طالباً في تفيئه جهة اليسار، سميت تلك الجهات التي تفيأ فيها باسم ما هو طالبه تنبيهاً على ذلك، وفيه إشارة إلى قلة الجيد المستقيم وكثرة المنحرف الرديء.
ولما كانت كثرة الخاضعين أدل على القهر وأهيب، جمع بالنظر إلى معنى «ما» في قوله: {سجداً} أي حال كونهم خضعاً {لله} أي الملك الأعلى بما فيهم من الحاجة إلى مدبرهم.
ولما كان امتداد الظل قسرياً لا يمكن أحداً الانفصال عنه، قال جامعاً بالواو والنون تغليباً: {وهم داخرون *} ذلاً وصغاراً، لا يمتنع شيء منهم على تصريفه، وخص الظل بالذكر لسرعة تغيره، والتغير دال على المغير.
ولما حكم على الظلال بما عم أصحابها من جماد وحيوان، وكان الحيوان(11/173)
أشرف من الجماد، رقي الحكم إليه بخصوصه فقال تعالى: {ولله} أي الذي له الأمر كله {يسجد} أي يخضع بالانقياد للمقادير والجري تحت الأقضية، وعبر بما هو ظاهر في غير العقلاء مع شموله لهم فقال تعالى: {ما في السماوات} ولما كان المقام للمبالغة في إثبات الحكم على الطائع والعاصي، أعاد الموصول فقال تعالى: {وما في الأرض} ثم بين ذلك بقوله تعالى: {من دآبة} أي عاقلة وغير عاقلة.
ولما كان المقرب قد يستهين بمن يقربه، قال مبيناً لخضوع المقربين تخصيصاً لهم وإن كان الكلام قد شملهم: {والملائكة} .
ولما كان الخاضع قد يحكم بخضوعه وإن كان باطنه مخالفاً لظاهره، قال - دالاً على أن في غيرهم من يستكبر فيكون انقياده للإرادة كرهاً، وعبر عن السجودين: الموافق للأمر والإدارة طوعاً، والموافق للارداة المخالف للأمر كرهاً، بلفظ واحد، لأنه يجوز الجمع بين مفهومي المشترك والحقيقة والمجاز بلفظ: {وهم} أي الملائكة {لا يستكبرون *} ثم علل خضوعهم بقوله دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء: {يخافون ربهم} أي الموجد لهم، المدبر لأمورهم، المحسن إليهم، خوفاً مبتدئاً {من فوقهم} إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو حال كون ربهم مع إحسانه إليهم له العلو والجبروت، فهو المخوف المرهوب،(11/174)
فهم عما نهوا عنه ينتهون {ويفعلون} أي بداعية عظيمة علماً منهم بما عليهم لربهم من الحق مع عدم منازع من حظ أو شهوة أو غير ذلك، ودل على أنهم مكلفون بقوله تعالى: {ما يؤمرون *} فهم لرحمته لهم يرجون؛ فالآية من الاحتباك: ذكر الخوف أولاً دال على الرجاء ثانياً، وذكر الفعل ثانياً دال على الانتهاء أولاً.(11/175)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
ولما كان التوحيد أعظم المأمورات، وكان العصيان فيه أعظم العصيان، وكان سبحانه قد أكثر التخويف من عصيانه، أبلغ الأمر إلى نهايته بالإخبار بأن الملائكة تخافه، وكان الملائكة من أعظم الموحدين، كما كانوا من أعظم الساجدين، من أهل السماوات والأرضين، وكانت هذه الآيات من أعظم أدلة التوحيد، أتبعها - عطفاً على {وأنزل إليك الذكر} ليتظافر على ذلك أدلة العقل والنقل وتسليكاً بأحوال الملائكة - قوله تعالى: {وقال الله} فعبر لأجل تعظيم المقام بالاسم الأعظم الخاص الذي بنيت عليه السورة: {لا تتخذوا} أي لا تكلفوا فطركم الأولى السليمة المجبولة على معرفة أن الإله واحد إلى أن تأخذ في اعتقادها {إلهين} ويجوز أن يكون معطوفاً على ما علم من المقدمات المذكورة أول السورة إلى قوله: {وما يشعرون أيان يبعثون} من النتيجة وهي {إلهكم إله واحد} لاحتمال أن يقول متعنت: إنه لم يأمرنا(11/175)
بذلك وإن دلت عليه الأدلة، ويجوز وهو أقرب - أن يعطف على قوله: {وقال الذين أشركوا} تبكيتاً لهم بأنهم احتجوا بحكمه، ولم يبادروا إلى امتثال أمره.
ولم كان قد فهم المراد من التثنية، وكان ربما قال المتعنت: إن المنهي عنه تكثير الأسماء، قال مؤكداً ومحققاً: {اثنين} تنبيهاً على أن الألوهية لأنه موضع لإمكان التنازع الملزوم للعجز المنافي لتلك الرتبة مطلق العدد ينافي المنيفة الشماء، وفي ذلك أيضاً - مع كون معبوداتهم كانت كثيرة - إشارة إلى أن ما يسمى آلهة - وإن زاد عدده - يرجع بالحقيقة إلى اثنين: خالق ومخلوق، ومن المعلوم لكل ذي لب أن المخلوق غير صالح للألوهية، فانحصر الأمر في الخالق، وإن لم يكن فيه الخالق كان منقسماً لا محالة، وأقل ما ينقسم إلى اثنين: وباب الاتخاذ إذا كان مفعوله نكرة، اكتفى بواحد كما تقول: اتخذت بيتاً، واتخذت زوجة - ونحو ذلك، ثم علل ذلك النهي بما اقتضاه السياق من الوحدانية فقال تعالى: {إنما هو} أي الإله المفهوم من لفظ {إلهين} الذي لا يستحق غيره أن يطلق عليه هذا الضمير إلا مجازاً، لأنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً إلا على ما وجدوه من ذاته {إله} أي يستحق هذا الوصف على الإطلاق.(11/176)
ولما كان السياق مفهماً للوحدانية من النهي عن التثنية، وكان ربما تعنت متعنت بأن المراد إثبات الإله الدال على الجنس، قال رافعاً لكل شبهة: {واحد} أي لا يمكن أن يثني بوجه ولا أن يجزأ لغناء المطلق عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه، فكونوا ممن يسجد له طوعاً ولا تكونوا ممن لا يسجد له إلا كرهاً.
ولما كان أسلوب الغيبة لا يعين الإله في المتكلم، التفت إلى أسلوب التلكم فقال تعالى: {فإياي} أي ذلك الواحد أنا وحدي لا شريك لي، فمن لم يوحدني أوقعت به بقوتي ما لا يطيقه لعجزه.
ولما كانت الوحدانية مما لا يخفى على عاقل، وكانت مركوزة في كل فطرة بدليل الاضطراب عند المحن، والشدائد والفتن، وكانت الرهبة - كما مضى عن الحرالي في البقرة - خاصة بالخوف مما خالف العاصي فيه العلم، عبر بها فقال تعالى: {فارهبون *} مختصاً بذلك ولا تخافوا شيئاً غيري من صنم ولا غيره، فإنه ليس لشيء من ذلك قدرة، وإن أودعته فإنه لا يتمكن من إنفاذها، فالأمر كله إليّ وحدي.(11/177)
ولما كان أسلوب الغيبة من الحاضر دالاً على التردي بحجاب الكبر المؤذن بشدة البطش وسرعة الانتقام وبعد المقام، رجع إليه فقال تعالى: {وله} فأعاد الضمير على الله الاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى {ما في السَّماوات} .
ولما كان الأمر قد تأكد وتأطد، وظهر المراد منه غاية الظهور، لم يحتج إلى تأكيده بإعاداة النافي، فقال تعالى: {والأرض} أي مما تعبدونه وغيره، فكيف يتصور أن يكون شيء من ذلك إلهاً وهو ملكه، مع كونه محتاجاً إلى الزمان والمكان وغيرهما {وله الدين} أي الخضوع والتذلل من كل ما فيهما ومن فيهما بالطوع والكره، بإنفاذ القضاء والقدر، بالصحة والسقم، والغنى والفقر، والحياة والموت، والإيجاد والإعدام، والإذلال والإعزاز، والإقبال والإعراض - كما بين آنفاً، وله الدينونة بالمجازاة {واصباً} أي دائماً ثابتاً عاماً لا كالملوك الذين تنقطع ممالكهم مع خصوصها، والمعبودات التي تنقطع عبادتها في وقت من الأوقات(11/178)
فتصير كاسدة بعد أن كانت رابحة وإن طال المدى، مع خصوصها بناس دون غيرهم، ولا يخلو يوم من الأيام لملك غيره من جري أمور على غير مراده وإن عظم سلطانه، وعلا شأنه، وكثرت أعوانه، فكيف يتصور من له أدنى بصر أن يكون غيره إلهاً، وقد تقدم في {إن ربي على صراط مستقيم} [هود: 56] في هود ما ينفع استحضاره هنا.
ولما تقرر هذا الدليل على هذه الصفة، وكان من مفهومات الدين الجزاء الناظر إلى الأفعال الواقية مما يضر، تسبب عنه الإنكار الشديد على من يلتفت بشيء من أفعاله إلى غيره بعد علمه بأنه دائم لا يزول، وأن كل ما سواه زائل، فقال معبراً بالتقوى التي هي نتيجة الرهبة: {أفغير الله} أي الذي له العظمة كلها {تتقون *} وأتبع ذلك ما يوجب تعظيم الإنكار عليهم، فقال مبيناً أنه لا ينبغي أن يتعلق خوف ولا رجاء إلا به: {وما بكم} أي التبس بكم أيها الناس عامة مؤمنكم وكافركم {من نعمة} أي جليلة أو حقيرة {فمن الله} أي المحيط بكل شيء وحده لا من غيره.
ولما كان إخلاصهم له - مع ادعائهم ألوهية غيره - أمراً مستبعداً، عبر بأداة التراخي والبعد في قوله تعالى: {ثم إذا مسكم} أي أدنى مس(11/179)
{الضر} بزوال نعمة مما أنعم به عليكم {فإليه} أي وحده {تجأرون *} أي تعرفون أصواتكم بالاستعانة لما ركز في فطركم الأولية السليمة من أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.(11/180)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
ولما كان الرجوع إلى الإشراك بعد الإخلاص مستبعداً أيضاً لاستهجانهم سرعة الاستحالة، قال تعالى: {ثم إذا كشف} سبحانه عما تشركون {الضر} أي الذي مسكم {عنكم} ونبه على مسارعة الإنسان في الكفران فقال تعالى: {إذا فريق} أي جماعة هم أهل فرقة وضلال {منكم} أيها العباد! {بربهم} الذي تفرد بالإنعام عليهم {يشركون *} أي يوقعون الإشراك به بعبادة غيره تغيراً منهم عما كانوا عليه عند الاستغاثة به في الشدة، فكان منطبقاً عليهم ما ضربوا المثل بكراهته بقولهم:
وإذا تكون كريهة أُدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
وهذا أجهل الجهل.
ولما كان هذا ملزوماً بجحد النعمة، وكان من شأن العاقل البصير(11/180)
بالأمور - كما يدعونه لأنفسهم - أن يغفل عن شيء من لوازم ما يقدم عليه، قال: {ليكفروا} أي يوقعوا التغطية لأدلة التوحيد التي دلتهم عليها غرائز عقولهم {بما ءاتينهم} أي من النعمة، تنبيهاً على أنهم ما أقدموا على ذلك الشرك إلا لهذا الغرض إحلالاً لهم محل العقلاء البصراء الذين يزعمون أنهم أعلاهم، ورفعاً لهم عن أحوال من يقدم على ما لا يعلم عاقبته، ولا خزي أعظم من هذا، لأنه أنتج أن الجنون خير من عقل يكون هذا مآله، فهو من باب التهكم {فتمتعوا} أي فتسبب عن هذا أن يُقبل على هذا الفريق إقبال عالم قادر عليه قائلاً: تمتعوا {فسوف} أي فإن تمتعكم على هذا الحال سبب لأن يقال لكم تهديداً: سوف {تعلمون *} غب تمتعكم، فهو إقبال الغضب والتهديد بسوء المنقلب، وحذف المتهدد به أبلغ وأهول لذهاب النفس في تعيينه كل مذهب.
ولما هددهم بإشراكهم المستلزم لكفر النعمة، أتبعه عجباً آخر من أمرهم فقال عاطفاً على قوله تعالى {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} :(11/181)
{ويجعلون} أي على سبيل التكرير {لما لا يعلمون} مما يعبدونه من الأصنام وغيرها لكونه في حيز العدم في نفسه وعدماً محضاً بما وصفوه به كما قال تعالى {أم تنبئونه بما لا يعلم} [الرعد: 33] {نصيباً مما رزقناهم} بما لنا من العظمة، من الحرث والأنعام وغير ذلك، تقرباً إليها كما مضى شرحه في الأنعام، ولك أن تعطفه - وهو أقرب - على {يشركون} فيكون داخلاً في حيز «إذا» أي فاجأوا مقابلة نعمته في الإنجاء بالإشراك والتقرب برزقه إلى ما الجهل به خير من العلم به، لأنه عدم لأنه لا قدرة له ولا نفع في المقام الذي أقاموه فيه؛ ثم التفت إليهم التفاتاً مؤذناً بما يستحق على هذا الفعل من الغضب فقال تعالى: {تالله} أي الملك الأعظم {لتسئلن} يوم الجمع {عما كنتم} أي كوناً هو في جبلاتكم {تفترون *} أي تتعمدون في الدنيا من هذا الكذب، سؤال توبيخ، وهو الذي لا جواب لصاحبه إلا بما فيه فضيحته.
ولما بين سفههم في صرفهم مما آتاهم إلى ما هو في عداد العدم الذي لا يعلم، بين لهم سفهاً هو أعظم من ذلك بجعلهم لمالك الملك وملكه أحقر ما يعدونه مما أوجده لهم، لافتقارهم إليه وغناه عنه على وجه(11/182)
التوالد المستحيل عليه مع كراهته لأنفسهم، فصار ذلك أعجب العجب، فقال تعالى: {يجعلون لله} أي الذي لا معلوم على الحقيقة سواه لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام. ولما كان المراد تقريعهم، وكانت الأنوثة ربما أطلقت على كرائم الأشجار، نص على المراد بقوله: {البنات} فلا أعجب منهم حيث يجعلون الوجود للمعدوم المجهول، ويجعلون العدم للموجود المعلوم؛ ثم نزه نفسه عن ذلك معجباً من وقوعه من عاقل بقوله تعالى: {سبحانه} .
ولما ذكر ما جعلوا له مع الغنى المطلق، بين ما نسبوا لأنفسهم مع لزوم الحاجة والضعف فقال: {ولهم ما يشتهون *} من البنين، وذلك في جملة اسمية مدلولها الثبات، ليكون منادياً عليهم بالفضيحة، لأنهم لا يبقون لأبنائهم ولا يبقى أبناؤهم لهم، وقد يكونون أعدى أعدائهم؛ ثم بين حالهم إذا حصل لهم نوع ما جعلوه له سبحانه فقال تعالى: {وإذا} أي جعلوا كذا والحال أنه إذا {بشر أحدهم} ولما تعين وزال المحذور، جمع بين الخساستين كما بين آخر الصافات فقال تعالى: {بالأنثى} أي قابل هذه البشرى(11/183)
التي تستحق السرور بحصول نسمة تكون سبباً لزيادة هذا النوع، وقد تكون سبب سعادته، دالة على عظمة الله - بضد ما تستحق مما لا يفيده شيئاً بأن {ظل وجهه} وكنى عن العبوس والتكدر والغبرة بما يفوز فيه من الغيظ بقوله تعالى: {مسوداً} أي من الغم والكراهة، ولعله اختير لفظ «ظل» الذي معناه العمل نهاراً وإن كان المراد العموم في النهار وغيره دلالة على شهرة هذا الوصف شهرة ما يشاهد نهاراً {وهو كظيم *} ممتلىء غيظاً على المرأة ولا ذنب لها بوجه، والبشارة في أصل اللغة: الخبر الذي يغير البشرة من حزن أو سرور، ثم خص في عرف اللغة بالسرور، ولا تكون إلا بالخبر الأول، ولعله عبر عنه بهذا اللفظ تنبيهاً على تعكيسهم للأمور في جعلهم وسرورهم وحزنهم وغير ذلك من أمرهم.(11/184)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
ولما كان سواد الوجه والكظم قد لا يصحبه الخزي، وصل به قوله تعالى: {يتوارى} أي يستخفي بما يجعله في موضع كأنه الوراء لا اطلاع لأحد عليه {من القوم} أي الرجال الذين هو(11/184)
فيهم {من سوء ما بشر به} لعده له خزياً، ثم بين ما يلحقه من الحيرة في الفكر عند ذلك بقوله تعالى: {أيمسكه على هون} أي ذلك وسفول أمر، ولما كانوا يغيبون الموءودة في الأرض على غير هيئة الدفن، عبر عنه بالدس فقال تعالى: {أم يدسه في التراب} قال ابن ميلق: قال المفسرون: كانت المرأة إذا أدركها المخاض احتفرت حفيرة وجلست على شفيرها، فإن وضعت ذكراً أظهرته، وظهر السرور أهله، وإن وضعت أنثى استأذنت مستولدها، فإن شاء أمسكها على هون وإن شاء أمر بإلقائها في الحفيرة ورد التراب عليها وهي حية لتموت - انتهى. قالوا: وكان الوأد في مضر وخزاعة وتميم.
ولما كان حكمهم هذا بالغاً في القباحة، وصفه بما يستحقه فقال مؤكداً لقبحه: {ألا ساء ما يحكمون *} أي بجعل ما يكرهونه لمولاهم الذي لا نعمة عندهم إلا منه، وجعل ما يختارونه لهم خاصاً بهم.
ولما كان شرح هذا أنهم تكلموا بالباطل في جانبه تعالى وجانبهم، بين ما هو الحق في هذا المقام، فقال تعالى على تقدير الجواب لمن كأنه قال: فما يقال في ذلك؟ مظهراً في موضع الإضمار، تنبيهاً على الوصف الذي أوجب الإقدام على الأباطيل من غير خوف:(11/185)
{للذين لا يؤمنون} أي لا يوجدون الإيمان أصلاً {بالآخرة مثل} أي حديث {السوء} من الضعف والحاجة والذل والرعونة {ولله} أي الذي له الكمال كله {المثل} أي الحديث أو المقدار أو الوصف أو القياس {الأعلى} من الغنى والقوة وجميع صفات الكمال بحيث لا يلحقه حاجة ولا ضعف ولا شائبة نقص أصلاً، وأعدل العبارات عن ذلك لا إله إلا الله، ويتأتى تنزيل المثل على الحقيقة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في سورة الروم.
ولما كان أمره سبحانه وتعالى أجل مما تدركه العقول، وتصل إليه الأفهام، أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {وهو} لا غيره {العزيز} الذي لا يمتنع عليه شيء فلا نظير له {الحكيم *} الذي لا يوقع شيئاً إلا في محله، فلو عاملهم بما يستحقونه من هذه العظائم التي تقدمت عنهم لأخلى الأرض منهم {ولو يؤاخذ الله} أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال {الناس} كلهم.
ولما كان السياق للحكمة، وكان الظلم - الذي هو إيقاع الشيء في غير موقعه - شديد المنافاة لها، وكان الشرك - الذي هذا سياقه -(11/186)
أظلم الظلم، قال معبراً بالوصف الشامل لما وقع منهم منه بالفعل ولما هم منطوون وهو وصف لهم ولم يباشروه إلى الآن بالفعل قال: {بظلمهم} أي يعاملهم معاملة الناظر لخصمه المعامل له بمحض العدل من غير نظر إلى الفضل، وعبر بصيغة المفاعلة لأن دلالتها على المناقشة أبلغ {ما ترك} ولما اقتضى الحال ذكر الظلم، وكان سياق هذه الآية أغلظ من سياق فاطر، عبر بما يشمل كل محمول الأرض سواء كان على الظهر أو في البطن مغموراً بالماء أو لا فقال تعالى: {عليها} أي الأرض المعلوم أنها مستقرهم المدلول عليها التراب، وأعرق في النفي فقال تعالى: {من دآبة} أي نفس تدب على وجه الأرض، لأن الكل إما ظالم يعاقب بظلمه، وإما من مصالح الظالم فيهلكه عقوبة للظالم، أو لأنه ما خلقهم إلا للبشر، فإذا أهلكهم أهلكهم كما وقع قريب منه في زمن نوح عليه السلام {ولكن} لا يفعل بهم ذلك فهو {يؤخرهم} إمهالاً بحكمته وحلمه {إلى أجل مسمى} ضربه لهم في الأزل.(11/187)
ولما قطع العلم بالغاية عما يكون، سبب عن ذلك الإعلام بما يكون فيه فقال: {فإذا جاء أجلهم} الذي حكم بأخذهم عنده {لا يستأخرون} أي عنه {ساعة} أي وقتاً هو عام التعارف بينكم، ثم عطف على جملة الشرط من أولها قوله تعالى: {ولا يستقدمون *} أي عن الأجل شيئاً.(11/188)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
ولما كان ما تقدم أمارة على كراهتهم لما نسبوه إلى الله تعالى، أتبعه التصريح بعد التلويح بقوله تعالى: {ويجعلون لله} أي وهو الملك الأعظم {ما يكرهون} أي لأنفسهم، من البنات والأموال والشركاء في الرئاسة، ومن الاستخفاف برسلهم وجنودهم والتهاون برسالاتهم، ثم وصف جراءتهم مع ذلك، الكائنة في محل الخوف، المقتضية لعدم التأمل اللازم لعدم العقل فقال: {وتصف} أي تقول معتقدة مع القول الصفاء، ولما كان قولاً لا حقيقة له بوحه، أسنده إلى اللسان فقال: {ألسنتهم} أي مع ذلك مع أنه قول لا ينبغي أن يتخيله عاقل {الكذب} ثم بينه بقوله: {أن لهم الحسنى} أي عنده، ولا جهل أعظم ولا حكم أسوأ من أن تقطع بأن من تجعل له ما تكره يجعل لك ما تحب، فكأنه قيل: فما لهم(11/188)
عنده؟ فقيل: {لا جرم} أي لا ظن ولا تردد في {أن لهم النار} التي هي جزاء الظالمين {وأنهم مفرطون *} أي مقدمون معجلون إليها بتقديم من يسوقهم وإعجاله لهم؛ وقال الرماني: متروكون فيها، من قول العرب: ما أفرطت ورائي أحداً، أي ما خلفت ولا تركت، وقرأ نافع بالتخفيف والكسر، أي مبالغون في الإسراف والجراءة على الله. ولما بين مآلهم، وكانوا يقولون: إن لهم من يشفع فيهم، بين لهم ما يكون من حالهم، بالقياس على أشكالهم تهديداً، وتسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال تعالى: {تالله} أي الملك الأعلى {لقد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة، رسلاً من الماضين {إلى إمم} ولما كان الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل، قال: {من قبلك} كما أرسلناك إلى هؤلاء {فزين لهم الشيطان} أي المحترق بالغضب. المطرود باللعنة {أعمالهم} كما زين لهؤلاء فضلوا كما ضلوا فأهلكناهم {فهو} لا غيره {وليهم اليوم} بعد إهلاكهم حال كونهم في النار ولا قدرة له على نصرهم {ولهم عذاب أليم *} فلا ولي لأنه لو قدر على نصرهم لما أسلمهم للهلاك وقد أطاعوه، بل لو عدموا ولايته كان ذلك أولى لهم، فهو نفي لأن يكون لهم ولي على أبلغ الوجوه.(11/189)
ولما كان حاصل ما مضى الخلاف والضلال والنقمة، كان كأنه قيل: فبين لهم وخوفهم ليرجعوا، فإنا ما أرسلناك إلا لذلك {وما أنزلنا} أي بما لنا من العظمة من جهة العلو {عليك الكتاب} أي الجامع لكل هدى. ولما كان في سياق الدعاء والبيان عبر بما يقتضي الإيجاب فقال: {إلا لتبين} أي غاية البيان {لهم} أي لمن أرسلت إليهم وهم الخلق كافة {الذي اختلفوا فيه} من جميع الأمور ديناً ودنيا لكونك أغزرهم علماً وأثقبهم فهماً، وعطف على موضع «لتبين» ما هو فعل المنزل، فقال تعالى: {وهدى} أي بياناً شافياً {ورحمة} أي وإكراماً بمحبة.
ولما كان ذلك ربما شملهم وهم على ضلالهم، نفاه بقوله تعالى: {لقوم يؤمنون *} والتبيين: معنى يؤدي إلى العلم بالشيء منفصلاً عن غيره، وقد يكون عن المعنى نفسه، وقد يكون عن صحته، والبرهان لا يكون إلا عن صحته فهو أخص، والاختلاف: ذهاب كل إلى غير جهة صاحبه، والهدى: بيان طريق العلم المؤدي إلى الحق.(11/190)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
ولما انقضى الدليل على أن قلوبهم منكرة استكباراً وما يتعلق به، وختمه بما أحيا به القلوب بالإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة: الإلهيات، والنبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار، وكان أجل هذه المقاصد الإلهيات، شرع في أدلة الوحدانية والقدرة والفعل بالاخيتار المستلزم للقدرة على البعث على وجه غير المتقدم ليعلم أن أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار، وأجلى من ضياء النهار فعطف على قوله: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} قوله جامعاً في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي: {والله} أي الذي له الأمر كله {أنزل من السماء} في الوقت الذي يريده {ماء} بالمطر والثلج والبرد {فأحيا به الأرض} الغبراء. ولما كانت عادته بذلك مستمرة، وكان السياق لإثبات دعائم الدين، وكان الإحياء بالماء لا يزال أثره قائماً في زرع أو شجر في بعض الأراضي، أعرى الظرف من الجار لأن المعنى به أبلغ فقال: {بعد موتها} باليبوسة والجدب وتفتت النبات أصلاً ورأساً.
ولما كان ما أقامه على ذلك في هذه السورة من الأدلة قد صار إلى(11/191)
حد لا يحتاج معه السامع العاقل إلى أكثر من السماع، قال تعالى {إن في ذلك} الماء المؤثر بتدبيره هذا الأثر العظيم {لآية لقوم يسمعون *} هذا التنبيه في هذا الأسلوب المتضمن لما مضى من التشبيه، فيعلمون أنه ينزل من أمره ما يريده فيحيي به أجساد العباد بعد موتها كما أحيى أجساد النبات بالماء بعد موتها وأرواح الأشباح بالعلم بعد موتها، والحاصل ان هذه الأدلة لا تحتاج مع الحس إلى كبير عمل بالقلب غير الانقياد إلى الحق، وترك العناد والجهل، فهو من سماع الأذن وما ينشأ عنه من الإجابة، استعمالاً للشيء في حقيقته ومجازه، ولعله لم يختمها ب «يبصرون» لئلا يظن أن ذلك من البصيرة، فيظن أنه يحتاج فيها إلى كبير فكر فيفوت ما أريد من الإشارة إلى شدة الوضوح.
ولما ذكر سبحانه هذا الأمر العام، ونبه على ما فيه من غريب الصنع الذي غفل عنه لشدة الألف به، أتبعه بعض ما ينشأ عنه من تفاصيل الأمور، المحتوية على عجائب المقدور، وبدأ بأعمها وأشدها ملابسة لهم، وأكثرها في نفسه وأعظمها منفعة ودخلاً في قوام عيشهم، فقال: {وإن لكم} أي أيها المخاطبون المغمورون في النعم! {في الأنعام} ولما كانت الأدلة يعبر بها من الجهل(11/192)
إلى العلم قال: {لعبرة} فكأنه قيل: ما هي؟ فقيل: {نسقيكم} بضم النون في قراءة الجماعة من أسقاه - إذا أعد له ما يشربه دائماً من نهر أو لبن وغيرهما، وبالفتح في قراءة نافع وابن عامر وعاصم في رواية شعبة: من سقاه - إذا ناوله شيئاً فشربه.
ولما كان الأنعام اسم جمع، فكان مفرداً كما نقل ذلك سيبويه، وذكر المسقي وهو اللبن، لما اقتضاه سياق السورة من تعداد النعم فتعينت إرادة الإناث لذلك، فانتفى الالتباس مع تذكير الضمير، قال تعالى: {مما} أي من بعض الذي {في بطونه} فذكر الضمير لأمن اللبس والدلالة على قوة المعنى لكونها سورة النعم بخلاف ما في المؤمنون.
ولما كان موضع العبرة تخليص اللبن من غيره، قدم قوله تعالى: {من بين فرث} وهو الثفل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً {ودم لبناً خالصاً} من مخالط منهما أو من غيرهما(11/193)
يبغي عليه بلون أو رائحة؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أكلت البهيمة العلف واستقر في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثاً، وأوسطه لبناً، وأعلاه دماً. والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها، فيجري الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويبقى الفرث في الكرش. {سائغاً} أي سهل المرور في الحقل {للشاربين *} ثم عطف عليه ما هو أنفس منه عندهم وأقرب إليه في المعاني المذكورة، فقال تعالى معلقاً ب «نسقيكم» {ومن ثمرات النخيل والأعناب} .
ولما كان لهم مدخل في اتخاذ ما ذكر منه بخلاف اللبن الذي لا صنع لهم يه أصلاً، أسند الأمر إليهم وليكون ذلك إشارة إلى كراهة السكر وتوطئة للنهي عنه في قوله مستأنفاً: {تتخذون} أي باصطناع منكم وعلاج، ولأجل استئناف هذه الجملة كان لا بد من قوله: {منه} أي من مائه، وعبر عن السكر(11/194)
بالمصدر إبلاغاً في تقبيحه، وزاد في الإبلاغ بالتعبير بأثقل المصدرين وهو المحرك، يقال: سكر سكْراً وسكَراً مثل رشد رشْداً ورشَداً، ونحل نحْلاً ونحَلاً، فقال تعالى: {سكراً} أي ذا سكر منشّياً مطرباً سادّاً لمجاري العقل قبيحاً غير مستحسن للرزق {ورزقاً حسناً} لا ينشأ عنه ضرر في بدن ولا عقل من الخل والدبس وغيرهما، ولا يسد شيئاً من المجاري، بل ربما فتحها كالحلال الطيب، فإنه ينير القلب، ويوسع العقل، والأدهان كلها تفتح سدد البدن، وهذا كما منحكم سبحانه العقل الذي لا أحسن منه فاستعمله قوم على صوابه في الوحدانية، وعكس آخرون فدنسوه بالإشراك؛ قال الرماني: قيل: السكر ما حرم من الشراب، والرزق الحسن: ما أحل منه - عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإبراهيم والشعبي وأبي رزين والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم. والسكر في اللغة على أربعة أوجه: الأول ما أسكر. الثاني ما أطعم من الطعام. الثالث السكون.(11/195)
الرابع المصدر من السكر، وأصله انسداد المجاري مما يلقي فيها، ومنه السكر - يعني بكسر ثم سكون، ومن حمل السكر على السكر قال: إنها منسوخة بآية المائدة، والتعبير عنه بما يفهم سد المجاري يفهم كراهته عندما كان حلالاً؛ والآية من الاحتباك: ذكر السكر أولاً دال على الفتح ثانياً، وذكر الحسن دال القبيح أولاً، فالآية أدل ما في القرآن على المعتزلة في أن الرزق يطلق على الحرام، ولتقارب آيتي الأنعام والأشجار جمعهما سبحانه فقال تعالى: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من هذه المنافع {لآية} ولوضوح أمرهما في كمال قدرة الخالق ووحدانيته قال تعالى: {لقوم يعقلون *} .(11/196)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
ولما كان أمر النحل في الدلالة على تمام القدرة وكمال الحكمة أعجب مما تقدم وأنفس، ثلث به وأخره لأنه أقل الثلاثة عندهم، وغير الأسلوب وجعله من وحيه إيماء إلى ما فيه من غريب الأمر وبديع الشأن فقال تعالى: {وأوحى ربك} أي المحسن إليك بجعل العسل في مفاوز البراري المقفرة المفرطة المرارة وغيرها(11/196)
من الأماكن وبغير ذلك من المنافع، الدال على الفعل بالاختيار وتمام الاقتدار {إلى النحل} أي بالإلهام؛ قال الرازي في اللوامع: فالله تعالى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فبعضها بالتسخير المجرد كالجمادات، وبعضها بالإلهام والتسخير كالنحل والسرفة - أي بضم وسكون، وهي دويبة تتخذ بيتاً من دقاق العيدان فتدخله وتموت - والعنكبوت، وبعضها بالتسخير والإلهام والعقل المتفق على نظام واحد كالملائكة، وبعضها بكل ذلك والفكر والتمييز والأعمال المختلفة المبنية على الفكر كالإنسان.
ولما كان في الإيحاء معنى القول، أتى ب «أن» المفسرة فقال تعالى: {أن اتخذي} أي افعلي ما يفعله المتكلف من أن يأخذ {من الجبال بيوتاً} أيّ بيوت! ما أعجبها! {ومن الشجر} أي الصالحة لذلك في الغياض والجبال والصحارى {ومما يعرشون *} أي يرفع الناس من السقوف والجدران وغيرها، وبدأ بالبيوت لأنها من عجب الدهر في حسن الصنعة وبداعة الشكل وبراعة الإحكام وتمام التناسب.(11/197)
ولما كان أهم شيء للحيوان بعد الراحة من همّ المقيل الأكل، ثنى به، ولما كان عاماً في كل ثمر، ذكره بحرف التراخي إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها، فقال تعالى: {ثم كلي} وأشار إلى كثرة الرزق بقوله تعالى: {من كل الثمرات} قالوا: من أجزاء لطيفة تقع على أوراق الأشجار من الظل، وقال بعضهم: من نفس الأزهار والأوراق.
ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أن تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه، نبه على خرقه للعادة في تيسيره لها فقال تعالى: {فاسلكي} أي فتسبب عن الإذن في الأكل الإذن في السير إليه {سبل ربك} أي المحسن إليك بهذه التربية العظيمة لأجل الأكل ذاهبة إليه وراجعة إلى بيوتك حال كون السبل {ذللاً} أي موطأة للسلوك مسهلة كما قال تعالى {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً} [الملك: 15] وأشار باسم الرب إلى أنه لولا عظيم إحسانه في تربيتها لما اهتدت إلى ذلك؛ ثم أتبعه نتيجة ذلك جواباً لمن كأنه قال: ماذا يكون عن هذا كله؟ فقال تعالى: - {يخرج من بطونها} - بلفت الكلام لعدم قصدها إلى هذه النتيجة {شراب} أيّ شراب! وهو العسل لأنه مع كونه من أجلّ المآكل هو «مما يشرب» {مختلف ألوانه}(11/198)
من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك، اختلافاً دالاً على أن فاعله مع تمام قدرته مختار، ثم أوضح ذلك بقوله تعالى: {فيه} أي مع كونه من الثمار النافعة والضارة {شفاء للناس} قال الإمام الرازي في اللوامع: إذ المعجونات كلها بالعسل، وقال إمام الأولياء محمد بن علي الترمذي: إنما كان ذلك لأنها ذلت لله مطيعة وأكلت من كل الثمرات: حلوها ومرها محبوبها ومكروهها، تاركة لشهواتها، فلما ذلت لأمر الله، صار هذا الأكل لله، فصار ذلك شفاء للأسقام، فكذلك إذا ذل العبد لله مطيعاً، وترك هواه، صار كلامه شفاء للقلوب السقيمة - انتهى.
وكونه شفاء - مع ما ذكر - أدل على القدرة والاختيار من اختلاف الألوان، لا جرم وصل به قوله تعالى: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من أمرها كله {لآية} وكما أشار في ابتداء الآية إلى غريب الصنع في أمرها، أشار إلى مثل ذلك في الختم بقوله تعالى: {لقوم يتفكرون *} أي في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة واللطائف الخفية بالبيوت المسدسة، والاهتداء إلى تلك الاجزاء اللطيفة(11/199)
من أطراف الأشجار والأوراق - وغير ذلك من الغرائب حيث ناطه بالفكر المبالغ فيه من الأقوياء، تأكيداً لفخامته وتعظيماً لدقته وغرابته في دلالته على تمام العلم وكمال القدرة، وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين، تارة بالإفراد وتارة بالجمع، ونوطها تارة بالعقل وتارة بالفكر، وتارة بالذكر وتارة بغيرها.
وقد جعل الإمام الرباني أبو الحسن الحرالي في كتابه المفتاح لذلك باباً بعد أن جعل أسنان الألباب مثل أسنان الأجساد ما بين تمييز واحتلام وشباب وكهولة وغيرها كما تقدم نقله عنه في سورة براءة عند قوله تعالى {ومنهم الذين يؤذون النبي} [براءة: 61] فقال: الباب التاسع في وجوه إضافات الآيات واتساق الأحوال لأسنان القلوب في القرآن - أي فإن لذلك مراتب في العلم والأفهام -: اعلم أن الآيات والأحوال تضاف وتتسق لمن اتصف بما به أدرك معناها، ويؤنب عليها من تقاصر عنها، وينفي منالها عمن لم يصل إليها، وهي أطوار أظهرها(11/200)
آيات الاعتبار البادية لأولي الأبصار، لأن الخلق كله إنما هو عَلَم للاعتبار منه، لا أنه موجود للاقتناع به {ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} [يونس: 7-8] اتخذوا ما خلق للعبرة به إلى ربه كسباً لأنفسهم حتى صار عندهم وعند أتباعهم آيتهم، لا آية خالقه {أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون} [الشعراء: 128] ، {والله خلقكم وما تعملون} ثم يلي آيات الاعتبار ما ينال إدراك آيته العقل الأدنى ببداهة نظره {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [النحل: 12] جمع الآيات لتعدد وجوهها في مقصد البيان، ثم يلي ما يدرك ببداهة العقل ما يحتاج إلى فكر يثيره العقل الأدنى لشغل الحواس بمنفعته عن التفكر في وجه آيته
{هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} [النحل: 10] أفرد الآية لاستناد كثرته إلى وحدة الماء ابتداء ووحدة الانتفاع انتهاء؛ ثم يلي ما يدرك بفكر العقل الأدنى ما يقبل(11/201)
بالإيمان ويكون آية أمر قائم على خلق، وهو مما يدرك سمعاً لأن الخلق مرئي والأمر مسموع {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون} [النحل: 63-64-65] هذه آية حياة القلوب بنور العلم والحكمة الذي أخذ سمعاً عند تقرر الإيمان، وعند هذا الحد يتناهى العقل إلى فطرة الأشد وتعلو بداهته وتترقى فطره إلى نظر ما يكون آية في نفس الناظر لأن محار غيب الكون يرد إلى وجدان نقص الناظر، وكما أن الماء آية حياة القلوب صار الشرابان: اللبن والخمر، آيتين على أحوال تخص القلوب بما يغذوها من الله غذاء اللبن وينشيها نشوة السكر، منبعثاً من بين فرث ودم ونزول الخلق المقام عن الأمر القائم عليه {وإن لكم في الأنعام لعبرة} - الآيتين إلى قوله تعالى: {إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} وهذا العقل الأعلى، وأفرد الآية لانفراد موردها في وجد القلب،(11/202)
وكما للعقل الأدنى فكرة تنبىء عن بداهته فكذلك للعقل الأعلى فكرة تنبىء عن عليّ فطرته {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر - إلى قوله: لآية لقوم يتفكرون} وهذا العقل الأعلى هو اللب الذي عنه يكون التذكر بالأدنى من الخلق لللأعلى من الأمر {وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون} [النحل: 13] وفي مقابلة كل من هذه الأوصاف أضداد يرد البيان فيها بحسب مقابلتها، وكذلك حكم وصف المسلمين فيها يظهر أن «لا أنجى للعبد من إسلامه نفسه لربه» ووصف المحسنين فيما يظهر قيام ظاهر حسه {آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة: 1] من استغنى بما عنده من وجدٍ لم يتفرغ لقبول غيب {يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله} [الحديد: 28] ، {إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا} [المائدة: 93] ، {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} ، {ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} «(11/203)
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به» {وفي خلقكم وما يبث من دابة ءايات لقوم يوقنون} [الجاثية: 4] {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} [الأنعام: 75] ولجملة هذه الأوصاف أيضاً أضداد يرد بيان القرآن فيها بحسب تقابلها ويجري معها إفهامه، وما أوصله خفاء المسمع والمرأى إلى القلب هو فقهه، ومن فقد ذلك وصف سمعه بالصمم وعينه بالعمى، ونفى الفقه عن قلبه، ونسب إلى البهيمية، ومن لم تنل فكرته أعلام ما غاب عيانه نفي عنه العلم
{الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً} [الكهف: 101] ، {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179] ، {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة} [المنافقون: 8]-إلى قوله: {ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8] ، {يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} - الآية إلى قوله تعالى: {ولكن المنافقين لا يفقهون} نفي العلم فيما ظهرت أعلامه والفقه فيما خفي أمره، ومراد البيان عن أضدادها هذه الأوصاف بحسب تقابلها، وهذا الباب لمن يستفتحه من أنفع فواتح(11/204)
الفهم في القرآن - انتهى.(11/205)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
ولما أيقظهم من رقدتهم، ونبههم على عظيم غفلتهم من عموم القدرة وشمول العلم، المقتضي للفعل بالاختيار، المحقق للبعث وغيره، من كل ما يريده سبحانه ببعض آياته المبثوثة في الآفاق من جماد ثم حيوان، وختم ذلك بما هو شفاء، ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك مذكراً بمراتب عمر الإنسان الأربع، وهي سن الطفولية والنمو، ثم سن الشباب الذي يكون عند انتهائه الوقوف، ثم سن الكهولة وفيه يكون الانحطاط مع بقاء القوة، ثم سن الانحطاط مع ظهور الضعف وهو الشيخوخة، مضمناً ما لا يغني عنه دواء، حثاً على التفكر في آياته والتعقل لها قبل حلول ذلك الحادث، فيفوت الفوت، ويندموا حيث لا ينفع الندم، فقال: {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {خلقكم} فجعلكم بعد العدم أحياء فهّماً خصّماً {ثم يتوفاكم} على اختلاف الأسنان، فلا يقدر الصغير على أن يؤخر، ولا الكبير على أن يقدم، فمنكم من يموت حال قوته {ومنكم من يرد} أي بأيسر أمر منا، لا يقدر على مخالفته بوجه {إلى أرذل العمر} لأنه يهرم فيصير إلى مثل حال الطفولية(11/205)
في الضعف مع استقذار غيره له، ولا يرجى بعده {لكي لا يعلم} .
ولما كان مقصود السورة الدلالة على تمام القدرة وشمول العلم والتنزه عن كل شائبة نقص، وكان السياق هنا لذلك أيضاً بدليل ختم الآية، نزع الخافض للدلالة على استغراق الجهل لزمن ما بعد العلم، فيتصل بالموت، ولا ينفع فيه دواء ولا تجدي معه حيلة فقال: {بعد علم شيئاً} لا يوجد في شيء من ذلك عند إحلاله شفاء، ولا يمنعه دواء: فبادروا إلى التفكر والاعتبار قبل حلول أحد هذين، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {عليهم قدير *} أي بالغ العلم شامل القدرة، فمهما أراد كان، ومهما أراد غيره ولم يرده هو، أحاط به علمه، فسبب له بقدرته ما يمنعه.
ولما ذكر المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار للخوف كل لحظة من مصيبة الموت، ثنى بالمفاوتة في الأرزاق فقال تعالى: {والله} أي الذي له الأمر كله(11/206)
{فضل بعضكم} أيها الناس {على بعض} .
ولما كانت وجوه التفضيل كثيرة، وكان التفضيل في المعاش الذي يظن الإنسان أن له قدرة على تحصيله، وكانت المفاوتة فيه أدل على تمام القدرة والفعل بالاختيار الذي السياق له، قال تعالى: {في الرزق} أي ولربما جعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، وأقبلوا بجميع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار؛ قال الإمام أبو نعيم في الحلية: حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد ثنا أحمد بن أحمد بن عمرو الخلال قال: سمعت ابن أبي عمر يقول: كنا عند سفيان بن عيينة فذكروا الفضل بن الربيع ودهاءه، فأنشأ سفيان يقول:
كم من قويّ قوي في تقلبه ... مهذب الرأي عنه الرزق منحرف
ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط ... كأنه من خليج البحر يغترف
وعن نوادر أبي علي القالي أنه قال: قال أبو بكر بن الأنباري: وحدثني(11/207)
أبي قال: بعث سليمان المهلبي إلى الخليل بن أحمد بمائة ألف درهم وطالبه بصحبته فرد عليه المائة ألف، وكتب إليه هذه الأبيات:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخي بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
والفقر في النفس لا في المال تعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
ولما كان جعل المملوك في رتبة المالك مما يتعاظمهم في حقوقهم مع أنه في الحقيقة لا مالك ولا مُلك، فلا يدينون لذلك ولا يدانونه وإن جل الخطب وأدى إلى ذهاب الأرواح، بل من كانت أمه مملوكة حطوا رتبته وإن كان أبوه من كان، وإن كانت العبرة عندهم في(11/208)
النسب بالأب، وهذا هو الذي أحوج عنترة إلى قوله:
إني امرؤ من خير عبس منصباً ... شطري وأحمي سائري بالمنصل
إلى غير ذلك مما كان يعتذر به عن جهة أمه، نبههم سبحانه على ما وقعوا فيه في حقه من ذلك بسبب الإشراك مع أنه مالك الملك وملك الملوك بعد ما اجترؤوا عليه في تفضيل أنفسهم في نسبة البنات إليه، فقال تعالى: {فما الذين فضلوا} أي في الرزق {برادّي رزقهم} أي الذي اختصوا به {على ما ملكت أيمانهم} وإن جل نفعهم وتعاظم عندهم وقعهم {فهم فيه سواء} أي فيكون بذلك الرد المالك والمملوك سواء، فهو جواب للنفي - نقله الرمال عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم.
ولما وضح ذلك وضوح الشمس وظهر حتى ما به أصلاً نوع لبس، تسبب عنه الإنكار في قوله على وجه الإعراض عن خطابهم(11/209)
المؤذن بالمقت: {أفبنعمة الله} أي الذي لا رب غيره {يجحدون *} في جعلهم له شركاء يضيفون إليهم بعض ما أنعم به عليهم، فيسوون بينهم وبينه في ذلك وبنعمتهم يعترفون ولها يحفظون في إنزال ما ملكت أيمانهم عنهم في المراتب والأموال.
ولما ذكر الخلق والرزق، أتبعهما الألذاذ بالتأنس بالجنس من الأزواج والأولاد وغيرهما اللازم له القيام بالمصالح فقال تعالى: {والله} أي الذي له تمام القدرة وكمال العلم {جعل لكم} ولما كان الأزواج من الجنس، قال: {من أنفسكم} لأن الشيء آلف لنوعه وأقرب إلى جنسه {أزواجاً} أي تتوالدون بها ويبكون السكون إليها سبباً لبقاء نوعكم {وجعل لكم} أي أيها الناس الذين يوجهون رغباتهم إلى غيره! {من أزواجكم بنين} ولعله قدمهم للشرف؛ ثم عطف على ذلك ما هو أعم فقال: {وحفدة} أي من البنات والبنين وأولادهم والأصهار والأختان، جمع حافد، يخفّون في أعمالكم ويسرعون في خدمكم طاعة وموالاة، لا كما يفعل الأجانب وبعض العاقين، وهذا معنى ما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه فسرهم بالخدام والأعوان، وهو الصواب لأن مادة حفد(11/210)
تدور على الإسراع والخفة.
حفد: خفّ في العمل وأسرع، والحفد - محركة: الخدم - لخفتهم، ومشي دون الخبب، والحفدة: البنات وأولاد الأولاد أو الأصهار - لذلك، وصناع الوشي - لإسراعهم فيه وإسراع لابسه إلى لبسه منبسط النفس، والمحفد - كمجلس ومنبر: شيء يعلف فيه الدواب - لإسراعها إليه، وكمنبر: طرف الثوب لإسراع حركته، وقدح يكال به - لخفته، وكمجلس الأصل - لدوران الأمور عليه وإسراعها إليه، وسيف محتفد: سريع القطع، وأحفده: حمله على الإسراع، والفادحة: النازلة، وفوادح الدهر - خطوبه - لإسراعها بالمكروه وإسراع المنزول به ومن يهمه شأنه إلى مدافعتها، ومن ذلك فدحه الأمر: أثقله - لأن المكروه يسرع فيثقل فيكثر اضطراب المنزول به.(11/211)
ولما ذكر ذلك سبحانه، أتبع ما لا يطيب العيش إلا به، فقال تعالى: {ورزقكم} أي لإقامة أودكم وإصلاح أحوالكم؛ ولما كان كل النعيم إنما هو في الجنة، بعّض فقال: {من الطيبات} بجعله ملائماً للطباع، شهياً للأرواح، نافعاً للإشباع، فعلم من هذا قطعاً أن صاحب هذه الأفعال، هو المختص بالجلال، ومن أنكر شيئاً من حقه فقد ضل أبعد الضلال، فكيف بمن أنكر خيره، وعبد غيره، وهو باسم العدم أحق منه باسم الوجود، فلذلك تسبب عنه قوله معرضاً عن خطابهم إعراض المغضب: {أفبالباطل} أي من الأصنام وما جعلوا لهم من النصيب {يؤمنون} أي على سبيل التجديد والاستمرار {وبنعمت الله} أي الملك الأعظم {هم} وله عليهم خاصة - غير ما يشاركون فيه الناس - من المنن ما له {يكفرون} حتى أنهم يجعلون مما أنعم به عليهم من السائبة والوصيلة والحامي وغيرها لأصنامهم، وذلك متضمن لكفران النعمة الكائنة منه، ومتضمن لنسبتها إلى غيره، لأنه لم يأذن لهم في شيء مما حرموه،(11/212)
ولا يحل التصرف في مال المالك إلا بإذنه؛ ثم قال عطفاً على ما أنكره عليهم هناك: {ويعبدون} وأشار إلى سفول المراتب كلها عن رتبته سبحانه فقال تعالى: {من دون الله} أي من غير من له الجلال والإكرام مما هو في غاية السفول من الأصنام وغيرها {ما لا يملك} أي بوجه من الوجوه {لهم رزقاً} تاركين من بيده جميع الرزق، وهو ذو العلو المطلق الذي رزقهم من الطيبات؛ ثم بين جهة الرزق فقال تعالى: {من السماوات والأرض} ثم أكد تعميم هذا النفي بقوله - مبدلاً من {رزقاً} ، مبيناً أن تنوينه للتحقير -: {شيئاً} ثم أكد حقارتهم بقوله جامعاً لأن ما عجز عند الاجتماع فهو عند الانفراد أعجز: {ولا يستطيعون} أي ليس لهم نوع استطاعة أصلاً، ولك أن تجعله معطوفاً على ما مضى من المعجَّب منه من أقوالهم وأفعالهم في قوله {ويجعلون لله ما يكرهون} ونحوه.(11/213)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
ولما دحض بهذه الحجة جميع ما أقاموه من الشبه وضربوه من الأمثال فيما ارتكبوه من قولهم إن الملك لا يتوصل إليه إلا(11/213)
بأعوان من حاجب ونائب ونحو ذلك، ولا يتوصل إليه إلا بأنواع القربان، فعبدوا الأصنام، وفعلوا لها ما يفعل له تشبيهاً به عز شأنه، وتعالى سلطانه، لأن الفرق أن ملوك الدنيا المقيس عليهم إنما أقاموا مَن ذكر لحاجتهم وضعف مُلكهم ومِلكهم، فحالهم مخالف لوصف من لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يشغله شأن عن شأن، وكل شيء في قبضته وتحت قهره وعظمته، فلذلك تسبب عنها قوله تعالى: {فلا تضربوا لله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {الأمثال} أي فتشبهوه تشبيهاً بغيره وإن ضرب لكم هو الأمثال؛ قال أبو حيان وغيره: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي لا تشبهوه بخلقه - انتهى. وهو - كما قال في الكشاف - تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به، لأن من يضرب الأمثال مشبه حالاً بحال وقصة بقصة - انتهى. وهذا النهي عام في كل مثل لخطر الأمر خشية أن يكون ذلك المثل غير لائق بمقداره، وقد تقرر أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، لا سيما في هذا لأن الخطأ فيه كفر، ويدل على ذلك تعليل الحكم بقوله تعالى: {إن الله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره {يعلم}(11/214)
أي له جميع صفة العلم، فإذا ضرب مثلاً أتقنه بإحاطة علمه بحيث لا يقدر غيره أن يبدي فرقاً ما بين الممثل والممثل به في الأمر الممثل له {وأنتم لا تعلمون *} أي ليس لكم علم أصلاً، فلذلك تعمون عن الشمس وتلبّس عليكم ما ليس فيه لبس، وهذا المقام عال ومسلكه وعر، وسالكه على غاية من الخطر.
ولما ختم سبحانه بذلك تأكيداً لإبطال مذهب عبدة الأصنام بسلب العلم الذي هو مناط السداد عنهم، حسن أن يصل به قوله - إقامة للدليل على علمه بأن أمثاله لا يتطرق إليها الطعن، ولا يتوجه نحوها الشكوك -: {ضرب الله} أي الذي له كمال العلم وتمام القدرة {مثلاً} بالأحرار والعبيد له ولما عبدتموه معه؛ ثم أبدل من مثلاً: {عبداً} ولما كان العبد يطلق على الحر بالنسبة إلى الله تعالى، قال تعالى: {مملوكاً} لا مكاتباً ولا فيه شائبة للحرية {ولا يقدر على شيء} بإذن سيده ولا غيره، وهذا مثل شركائهم، ثم عطف على «عبداً» قوله: {ومن رزقناه منا} من الأحرار {رزقاً حسناً} واسعاً طيباً {فهو ينفق منه} دائماً، وهو معنى {سراً وجهراً} وهذا مثل الإله وله المثل الأعلى؛ ثم بكتهم إنكاراً عليهم بقوله تعالى:(11/215)
{هل يستوون} أي هذان الفريقان الممثل بهما، لأن المراد الجنس، فإذا كان لا يسوغ في عقل أن يسوي بين مخلوقين: أحدهما حر مقتدر والآخر مملوك عاجز، فكيف يسوي بين حجر موات أو غيره وبين الله الذي له القدرة التامة على كل شيء؟
ولما كان الجواب قطعاً: لا، وعلم أن الفاضل ما كان مثالاً له سبحانه، على أن من سوى بينهما أو فعل ما يؤول إلى التسوية أجهل الجهلة.
فثبت مضمون {إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون} وأن غيره تعالى لا يساوي شيئاً، فثبت بلا ريب أنه المختص بالمثل الأعلى، فعبر عن ذلك بقوله تعالى: {الحمد لله} أي له الإحاطة بالعلم وجميع صفات الكمال التي منها اختصاصه بالشكر، لكونه هو المنعم وليس لغيره إحاطة بشيء من ذلك ولا غيره، فكأنهم قالوا: نحن نعلم ذلك، فقيل: {بل أكثرهم} أي في الظاهر والباطن - بما أشار إليه الإضمار {لا يعلمون *} لكونهم يسوون به غيره، ومن نفى عنه العلم - الذي هو أعلى صفات الكمال - كان في عداد الأنعام، فهم لذلك يشبهون به ما ذكر، ويضربون الأمثال الباطلة، ويضيفون نعمه إلى ما لا يعد، ولعله أتى بضمير الغيبة لقصر ذلك على من ختم بموته على الضلال، أو يقال وهو أرشق: لما كان الجواب قطعاً: لا يستووت والفاضل مثالك، فقد علم كل ذي لب أن لك المثل الأعلى، فترجم عن وصفه(11/216)
بقوله «الحمد لله» أي الإحاطة بصفات الكمال للملك الأعظم، وعن نسبتهم إلى علم ذلك بقوله تعالى {بل أكثرهم لا يعلمون} أي ليس لهم علم بشيء أصلاً، لأنهم يعملون في هذا بالجهل، فنسبتهم إلى الغباوة أحسن في حقهم من نسسبتهم إلى الضلال على علم، وسيأتي في سورة لقمان إن شاء الله تعالى ما يكون نافعاً في هذا المقام، وإنما فسرت الحمد بما تقدم لأنه قد مضى في سورة الفاتحة أن مادة «حمد» تدور على بلوغ الغاية، ويلزم منه الاتساع والإحاطة والاستدارة، فيلزمها مطأطأة الرأس وقد يلزم الغاية الرضى فيلزمه الشكر، وبيانه أن الحمد بمعنى الرضا والشكر لأنهما يكونان غالباً من غاية الإحسان، ويرجع إلى ذلك الحمد بمعنى الجزاء وقضاء الحق، وحماداك - بالضم، أي غايتك، ويوم محتمد: شديد الحر، وحمد النار - محركة: صوت التهابها، وأما يتحمد عليّ - بمعنى يمتن - فأصله: يذكر ما يلزم منه حمده، ومنه المدح: وهو حسن الثناء، وتمدح بمعنى تكلف أن يمدح وافتخر(11/217)
وتشبع بما ليس عنده، فإنه في كل ذلك بذل جهده، ودحمه - كمنع: دفعه شديداً، والمرأة: نكحها - لما في ذلك من بلوغ الغاية في الشهوة وما يلزمها من الدفع ونحوه، والدحم - بالكسر: الأصل - لأنه غاية الشيء الذي ينتهي إليه، وحدم النار - ويحرك: شدة احتراقها وحميها، واحتدم الدم: اشتدت حمرته حتى يسود، والحدمة - محركة: النار - لأنها غاية الحر، والحدمة أيضاً: صوتها - لدلالته على قوة التهابها، ومن ذلك الحدمة أيضاً لصوت جوف الحية، أو صوت في الجوف كأنه تغيظ - لأنه يدل على غاية التهاب الباطن، والحدمة - كفرحة: السريعة الغلي من القدور؛ ومن الاتساع: تمدحت الأرض أي اتسعت؛ ومن الاستدارة: الداحوم لحبالة الثعلب - لأنها بلغت الغاية من مراد الصائد، ولأنه لما لم يقدر على الخلاص منها كانت كأنها قد أحاطت به، والدمحمح: المستدير الململم، ودمح تدميحاً: طأطأ رأسه - لأن الانعطاف مبدأ الاستدارة - والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما انقضى هذا المثل كافياً في المراد، ملزماً لهم لاعترافهم بأن الأصنام عبيد الله في قولهم «لبيك اللهم لبيك لا شريك لك(11/218)
إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وكان ربما كابر مكابر فقال: إنهم ليسوا ملكاً له، أتبعه مثلاً آخر لا تمكن المكابرة فيه، فقال تعالى: {وضرب الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة أيضاً {مثلاً} ثم أبدل منه {رجلين} ثم استأنف البيان لما أجمل فقال تعالى: {أحدهما أبكم} أي ولد أخرس؛ ثم ترجم بكمته التي أريد بها أنه لا يَفهم ولا يُفهِم بقوله: {لا يقدر على شيء} أي أصلاً {وهو كل} أي ثقل وعيال، والأصل فيه الغلظ الذي يمنع من النفوذ، كلت السكين كلولاً - إذا غلظت شفرتها فلم تقطع، وكل لسانه - إذا لم ينبعث في القول، لغلظه وذهاب حده - قاله الرماني {على مولاه} الذي يلي أمره؛ ثم بين ذلك بقوله تعالى: {أينما يوجهه} أي يرسله ويصرفه ذلك المولى {لا يأت بخير} وهذا مثل شركائهم الذين هم عيال ووبال على عبدتهم.(11/219)
ولما انكشف ضلالهم في تسويتهم الأنداد - الذين لا قدرة لهم على شيء ما - بالله الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً، حسن كل الحسن توبيخهم والإنكار عليهم بقوله تعالى: {هل يستوي هو} أي هذا المذكور {ومن} أي ورجل آخر على ضد صفته، فهو عالم فطن قوي خبير مبارك الأمر ميمون النقيبة {يأمر} بما له من العلم والقدرة {بالعدل} أي ببذل النصيحة لغيره {وهو} في نفسه ظاهراً وباطناً {على صراط} أي طريق واضح واسع {مستقيم} أي عامل بما يأمر به، وهذا مثال للمعبود بالحق الذي يكفي عابده جميع المؤن، وهو دال على كمال علمه وتمام قدرته.(11/220)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
ولما تم هذان المثلان، الدالان على تمام علمه وشمول قدرته، والقاضيان بأن غيره عدم، عطف على قوله {إن الله يعلم} قوله مصرحاً بتمام علمه وشمول قدرته: {ولله} أي هذا علم الله في المشاهدات الذي علم من هذه الأدلة أنه مختص به، ولذي الجلال والإكرام وحده {غيب السماوات والأرض} كما أن له وحده شهادتهما، فما أراد(11/220)
من ذلك كانت قدرته عليه كقدرته على الشهادة من الساعة التي تنكرونها استعظاماً لها، ومن غيرهما بما فصله لكم من أول السورة إلى هنا من خلق السماوات والأرض وما فيهما {وما أمر الساعة} وهي الوقت الذي يكون فيه البعث، على اعتقادكم أنها لا تكون استبعاداً لها واستصعاباً لأمرها في سرعته عند الناس لو رأوه، ولذا عبر عنه بالساعة {إلا كلمح البصر} أي كرجع الطرف المنسوب إلى البصر أيّ بصر كان {أو هو أقرب} وإذا الخلق قد قاموا من قبورهم مهطعين إلى الداعي - هذا بالنسبة إلى علمهم وقياسهم، وأما بالنسبة إليه سبحانه فأمره في الجلالة والعظم والسرعة والإتقان يجل عن الوصف، وتقصر عنه العقول، ولا شك فيه ولا تردد، ولذلك علله بقوله تعالى: {إن الله} أي الملك الأعظم {على كل شيء} أي ممكن {قدير *} .
ولما انقضى توبيخهم على إيمانهم بالباطل وكفرانهم بالحق وما استتبعه، وختم بأمر الساعة، عطف على قوله تعالى {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} ما هو من أدلة الساعة وكمال القدرة والفعل بالاختيار من النشأة الأولى، فقال تعالى: {والله} أي الذي له العظمة كلها(11/221)
{أخرجكم} بعلمه وقدرته {من بطون أمهاتكم} والذي أخرجكم منها قادر على إخراجكم من بطن الأرض بلا فرق بل بطريق الأولى، حال كونكم عند الإخراج {لا تعلمون شيئاً} من الأشياء قل أو جل، وعطف على {أخرجكم} قوله: {وجعل لكم} بذلك أيضاً {السمع والأبصار والأفئدة} آلات لإزالة الجهل الذي وقعت الولادة عليه، وفتق مواضعها وسواها وعدلها وأنتم في البطون حيث لا تصل إليه يده، ولا يتمكن من شق شيء منه بآلة، فالذي قدر على ذلك في البطون إبداعاً قادر على إعادته في بطن الأرض، بل بطريق الأولى، ولعله جمعهما دون السمع، لأن التفاوت فيهما أكثر من التفاوت فيه بما لا يعلمه إلا الله؛ والأفئدة هي القلوب التي هيأها للفهم وإصلاح البدن بما أودعها من الحرارة اللطيفة القابلة للمعاني الدقيقة {لعلكم تشكرون *} أي لتصيروا - بمعارف القلوب التي وهبكموها إذا سمعتم المواعظ وأبصرتم الآيات - في حال يرجى فيها شكركم لما أفاض عليكم من لطائف صنعه، بأن تعرفوا ما له من العلم والقدرة وحسن التعرف، فتعترفوا له بجميع ما أتتكم به رسله، وأهمه(11/222)
الذي تبنى عليه جميع مقاصد الأصول أو المنعم عليكم بهذه النعم إله واحد عالم بكل شيء قادر على كل شيء فاعل بالاختيار، وأن الطبائع من جملة مقدوراته، لا فعل لها إلا بتصريفه.
ولما كان المقصود من تعداد هذه النعم الإعلام بأنه الفاعل بالاختيار وحده لا الطبائع ولا غيرها، دلهم على ذلك مضموناً إلى ما مضى بقوله مقرراً لهم: {ألم يروا} بالخطاب والغيبة - على اختلاف القراءتين لأن سياق الكلام وسباقه يحتمل المقبل والمعرض بخلاف سياق الملك فإنه للمعرض فقط، فلذا اختلف القراء هنا وأجمعوا هناك {إلى الطير مسخرات} أي مذللات للطيران بما أقامهن الله فيه من المصالح والحكم بالطيران وغيره {في جو السماء} في الهواء بين الخافقين بما لا تقدرون عليه بوجه من الوجوه مع مشاركتكم لها في السمع والبصر وزيادتكم عليها بالعقول، فعلم قطعاً ما وصل بذلك من قوله: {ما يمسكهن} أي في الجو عن الوقوع.(11/223)
ولما كان للسياق هنا مدخل عظيم في الرد على أهل الطبائع وهم الفلاسفة، ولهم وقع عظيم في قلوب الناس، عبر بالاسم الأعظم، إشارة إلى أنه لا يقوى على رد شبههم إلا من أحاط علماً بمعاني الأسماء الحسنى، فكان متمكناً من علم أصول الدين فقال: {إلا الله} أي الملك الأعظم، لأن نسبتكم وإياها إلى الطبيعة واحدة، فلو كان ذلك فعلها لا ستويتم؛ ثم نبههم على ما في ذلك من الحكم بقوله: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من إخراجكم على تلك الهيئة، والإنعام عليكم بما ليس لها، وتقديرها على ما لم تقدروا عليه مع نقصها عنكم {لآيات} ولما كان من لم ينتفع بالشيء كأنه لم يملكه، قال تعالى: {لقوم يؤمنون *} أي هيأهم الفاعل المختار للإيمان.(11/224)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
ولما ذكرهم سبحانه بنعمة الإدراك بعد ابتداء الخلق، وأتبعه ما منّ به على الطير من الارتفاع الحامي لها من الحر، أتبعه ما يسكنون إليه فيظلهم ويجمعهم لأنه أهم الأشياء للحيوان، فقال تعالى: {والله} أي الذي له الحكمة البالغة والقدرة الشاملة {جعل لكم} أي أيها الغافلون {من بيوتكم} أصل البيت المأوى ليلاً ثم اتسع فيه {سكناً} هو(11/224)
مصدر بمعنى مفعول، ولم يسلط عليكم فيها الحشرات والوحوش كما سلطكم عليهم؛ ثم أتبع ما يخص الحضر ما يصلح له وللسفر بما ميزهم به عن الطير وغيرها من سائر الحيوانات، فقال تعالى: {وجعل لكم} أي إنعاماً عليكم {من جلود الأنعام} التي سلطكم عليها.
ولما كانت الخيام، التي من جلود الأنعام، في ظلها الظليل تقارب بيوت القرى، جمعها جمعاً فقال تعالى: {بيوتاً} فإنهم قالوا: إن هذا الجمع بالمسكن أخص، والأبيات بالشعر أخص {تستخفونها} أي تطالبون بالاصطناع خفها فتجدونها كذلك {يوم ظعنكم} أي وقت ارتحالكم، وعبر به لأنه في النهار أكثر {ويوم إقامتكم} ثم أتبعه ما به كمال السكن فقال تعالى: {ومن أصوافها} أي الضأن منها {وأوبارها} وهي للإبل كالصوف للغنم {وأشعارها} وهي ما كان من المعز ونحوه من المساكن والملابس والمفارش والأخبية وغيرها {أثاثاً} أي متاعاً من متاع البيت كثيراً، من قولهم: شهر أثيث أي كثير، وأث النبت. إذا كثر {ومتاعاً} تتمتعون به(11/225)
{إلى حين *} أي وقت غير معين بحسب كل إنسان في فقد ذلك، وأعرض عن ذكر الحرير والكتان والقطن لأنها لم تكن من صناعتهم، وإشارة إلى الاقتصاد وعدم الإسراف.
ولما ذكر ما يخصهم، أتبعه ما يشاركون فيه سائر الحيوانات فقال: {والله} أي الذي له الجلال والإكرام {جعل لكم} أي من غير حاجة منه سبحانه {مما خلق ظلالاً} من الأشجار والجبال وغيرها {وجعل لكم} أي مع غناه المطلق {من الجبال أكناناً} جمع كن وهو ما يستكن به - أي يستتر - من الكهوف ونحوها، ولو كان الخالق غير مختار لكانت على سنن واحد لا ظلال ولا أكنان؛ ثم أتبع ذلك ما هداهم إليه عوضاً مما جعله لسائر الحيوان فقال: {وجعل لكم} أي مَنّاً منه عليكم {سرابيل} أي ثياباً {تقيكم الحر} وهي كل ما لبس من قميص وغيره - كما قال الزجاج.
ولما كانت السرابيل نوعاً واحداً، لم يكرر «جعل» فقال تعالى: {وسرابيل} أي دروعاً ومغافر وغيرها {تقيكم بأسكم} أضافه إليهم إفهاماً لأنه الحرب، وذلك كما جعل لبقية الحيوان - من الأصواف ونحوها والأنياب والأظفار ونحوها - ما هو نحو ذلك يمنع(11/226)
من الحر والبرد، ومن سلاح العدو، ولم يذكر سبحانه هنا وقاية البرد لتقدمها في قوله تعالى {لكم فيها دفء} [النحل: 5] .
ولما تم ذلك كان كأنه قيل: نبهنا سبحانه بهذا الكلام على تمام نعمة الإيجاد، فهل بعدها من نعمة؟ فقال: نعم! {كذلك} أي كما أتم نعمة الإيجاد عليكم هذا الإتمام العظيم بهذه الأمور ونبهكم عليها {يتم نعمته عليكم} في الدنيا والدين بالهداية والبيان لطريق النجاة والمنافع، والتنبيه على دقائق ذلك بعد جلائله {لعلكم تسلمون *} أي ليكون حالكم - بما ترون من كثرة إحسانه بما لا يقدر عليه غيره مع وضوح الأمر - حال من يرجى منه إسلام قياده لربه، فلا يسكن ولا يتحرك إلا في طاعته.(11/227)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
فلما صار هذا البيان، إلى أجلى من العيان، كان ربما وقع في الوهم أنهم إن لم يجيبوا لِحقَ الداعي بسبب إعراضهم حرج، فقال تعالى نافياً لذلك معرضاً عنهم بإعراض المغضب، مقبلاً عليه(11/227)
صلى الله عليه وعلى آله وسلم إقبال المسلي، معبراً بصيغة التفعل المفهمة لأن الفطر الأولى داعية إلى الإقبال على الله فلا يعرض صاحبها عما يرضيه سبحانه إلا بنوع معالجة: {فإن تولوا} أي كلفوا أنفسهم الإعراض ومتابعة الأهواء فلا تقصير عليك بسبب توليهم ولا حرج {فإنما} أي بسبب أنه إنما {عليك البلاغ المبين *} وليس عليك أن تردهم عن العناد، فكأنه قيل: فهل كان إعراضهم عن جهل أو عناد؟ فقيل فيهم وفيهم: {يعرفون} أي كلهم {نعمت الله} أي الملك الأعظم، التي تقدم عد بعضها في هذه السورة وغيرها {ثم ينكرونها} بعبادتهم غير المنعم بها أو بتكذيب الآتي بالتنبيه عليها، بعضهم لضعف معرفته، وبعضهم عناداً، وكان بعضهم يقول: هي من الله ولكن بشفاعة آلهتنا {وأكثرهم} أي المدعوين بالنسبة إلى جميع أهل الأرض الذين أدركتهم دعوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم {الكافرون *} أي المعاندون الراسخون في الكفر.
ولما كان من أجل المقاصد بهذه الأساليب التخويف من البعث، وكان من المعلوم أنه ليس بعد الإعراض عن البيان والإصرار على كفران المعروف من الإحسان إلا المجازاة لأن الحكيم يمهل ولا يهمل،(11/228)
قال تعالى: عاطفاً على ثمرة {فإنما عليك البلاغ المبين} وهي: فبلغهم وبين لهم ولا تيأس من رجوعهم: {ويوم} أي وخوفهم يوم {نبعث} بعد البعث {من كل أمة شهيداً} يحكم بقوله الملك إجراء للأمر على ما يتعارفون وإن كان غنياً عن شهيد.
ولما كان الإذن لهم في الاعتذار في بعض المواقف الطويلة في ذلك اليوم متعذراً، عبر عنه سبحانه بأداة البعد فقال تعالى: {ثم لا يؤذن} أي لا يقع إذن على تقدير من التقادير {للذين كفروا} أي بعد شهادة الشهداء في الاعتذار كما يؤذن في هذه الدار للمشهود عليه عند السؤال في الإعذار، لأنه لا عذر هناك في الحقيقة {ولا هم} أي خاصة {يستعتبون *} أي ولا يطلب منهم الإعتاب المؤثر للرضى وهو إزالة العتب وهو الموجدة المعبر بها عن الغضب المعبر به عن آثاره من السطوة والانتقام، وأخذ العذاب لأهل الإجرام من قبيح ما ارتكبوا، لأن تلك الدار ليست بدار تكليف؛ ثم وصل به أن ما يوجبه الغضب يدوم عليهم في ذلك اليوم، فقال تعالى عاطفاً على(11/229)
ما بعد «ثم» : {وإذا رءا} وأظهر موضع الإضمار تعميماً فقال تعالى: {الذين ظلموا} فعبر بالوصف الموجب للعذاب {العذاب} بعد الموقف وشهادة الشهداء، وجزاء الشرط محذوف لدلالة ما قرن بالفاعلية تقديره: لابسهم {فلا يخفف} أي يحصل تخفيف بنوع من الأنواع ولا بأحد من الخلق {عنهم} شيء منه {ولا هم ينظرون *} بالتأخير ولا لحظة بوجه من الوجوه على تقدير من التقادير من أحد ما.
ولما بين سبحانه حاصل أمرهم في البعث وما بعده، وما من أهم المهم أمرهم في الموقف مع شركائهم الذين كانوا يترجونهم، عطف على ذلك قوله تعالى: {وإذا رءا} أي بالعين يوم القيامة {الذين أشركوا} فأظهر أيضاً الوصف المناسب للمقام {شركاءهم} أي الآلهة التي كانوا يدعونها شركاء {قالوا ربنا} يا من أحسن إلينا وربانا! {هؤلاء شركاؤنا} أضافوهم إلى أنفسهم لأنه لا حقيقة لشركتهم سوى تسميتهم لها الموجب لضرهم؛ ثم بينوا المراد بقولهم: {الذين كنا ندعوا} أي نعبد.
ولما كانت المراتب متكثرة دون رتبته سبحانه لأن علوه غير منحصر، أدخل الجار فقال تعالى: {من دونك} ليقربونا إليك، فأكرمنا لأجلهم(11/230)
جرياً على منهاجهم في الدنيا في الجهل والغباوة، فخاف الشركاء من عواقب هذا القول والإقرار عليه سطوات الغضب {فألقوا} أي الشركاء {إليهم} أي المشركين {القول} أي بادروا به حتى كان إسراعه إليهم إسراع شيء ثقيل يلقى من علو؛ وأكدوا قولهم لأنه مطاعنة لقول المشركين فقالوا: {إنكم لكاذبون *} في جعلنا شركاء وأنا نستحق العبادة أو نشفع أو يكون لنا أمر نستحق به أن نذكر {وألقوا} أي الشركاء {إلى الله} أي الملك الأعلى {يومئذ} أي يوم القيامة إذ نبعث من كل أمة شهيداً {السلم} أي الانقياد والاستسلام بما علم به الكفار أنهم من جملة العبيد لا أمر لهم أصلاً، فأصلد زندهم، وخاب قصدهم، وقيد بذلك اليوم لأنهم كانوا في الدنيا - بتزيين الشياطين لأمورهم ونطقهم على ألسنتهم - بحيث يظن عابدوهم أن لهم منعة، وبهم قوة ويجوز أن يكون ضمير «ألقوا» للمشركين {وضل عنهم} أي عن الكفار {ما كانوا} أي بجبلاتهم {يفترون *} أي يتعمدون من دعوى النفع لهم والضر كذباً وفجوراً، فكأنه قيل: هذا للذين أشركوا، فما للذين كانوا دعاة إلى الشرك مانعين من الانتقال عنه؟ فقيل: {الذين كفروا} أي أوجدوا(11/231)
الكفر في أنفسهم {وصدوا} مع ذلك غيرهم {عن سبيل الله} أي الذي له الإحاطة كلها {زدناهم} أي بما لنا من العظمة، بصدهم غيرهم {عذاباً فوق العذاب} الذي استحقوه على مطلق الشرك {بما كانوا} أي كوناً جبلياً {يفسدون *} أي يوقعون الفساد ويجددونه؛ ثم كرر التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السالفة، وهو أن الشهادة تقع على الأمم لا لهم، وتكون بحضرتهم، فقال تعالى: {ويوم} أي وخوفهم يوم {نبعث} أي بما لنا من العظمة {في كل أمة} من الأمم {شهيداً} أي هو في أعلى رتب الشهادة {عليهم} .
ولما كانت بعثة الأنبياء السابقين عليهم السلام خاصة بقومهم إلا قليلاً، قال: {من أنفسهم} وهو نبيهم.
ولما كان لذلك اليوم من التحقق ما لا شبهة فيه بوجه وكذا شهادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عبر بالماضي إشارة إلى ذلك، وإلى أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يزل من حين بعثه متصفاً بهذه الصفة العلية فقال تعالى: {وجئنا} أي بما لنا من العظمة {بك شهيداً} أي شهادة هي مناسبة لعظمتنا {على هؤلاء} أي الذين بعثناك(11/232)
إليهم وهم أهل الأرض، وأكثرهم ليس من وقوعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك لم يقيد بعثته بشيء؛ ثم بين أنه لا إعذار في شهدائه فإنه لا حجة في ذلك اليوم لمن خالف أمره اليوم، لأنه سبحانه أزاح العلل، وترك الأمر على بيضاء نقية ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فقال عاطفاً على قوله {وما أنزلنا عليك الكتاب} - الآية، المتعقب لقوله {لا جرم} - الآيتين: {ونزلنا} أي بعظمتنا بحسب التدريج والتنجيم {عليك الكتاب} الجامع للهدى {تبياناً} أي لأجل البيان التام، قالوا: وهو اسم وليس بمصدر كتلقاء {لكل شيء} ورد عليك من أسئلتهم ووقائعهم وغير ذلك، وهو في أعلى طبقات البيان كما أنه في أعلى طبقات البلاغة، لأن المعنى به أسرع إلى الأفهام وأظهر، في الإدراك، والنفس أشد تقبلاً له لما هو عليه من حسن النظام والقرب إلى الافهام، وإنما احتيج إلى تفسيره مع أنه في نهاية البيان لتقصير الإنسان في العلم بمذاهب العرب الذين هم الأصل في هذا اللسان، وتقصير العرب عن جميع مقاصده كما قصروا عن درجته في البلاغة، فرجعت الحاجة إلى تقصير الفهم لا إلى تقصير الكلام في البيان، ولهذا تفاوت الناس في فهمه لتفاوتهم في درجات البلاغة ومعرفة طرق العرب في جميع أساليبها؛ قال الإمام الشافعي(11/233)
رضي الله عنه في آخر خطبة الرسالة بعد أن دعا الله تعالى أن يرزقه فهماً في كتابه ثم في سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، واحتج بآيات منها هذه، وذلك لأنه سبحانه بين فيه التوحيد والمبدأ والمعاد والأمر والنهي والحلال والحرام والحدود والأحكام بالنص على بعضها، وبالإحالة على السنة في الآخر، وعلى الإجماع في نحو قوله تعالى {ويتبع غير سبيل المؤمنين} [النساء: 115] وعلى الاقتداء بالخلفاء الراشدين في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» وبالاقتداء بجميع أصحابه رضي الله عنهم في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤوا طرق القياس والاجتهاد ولم يخرج أحد منهم عن الكتاب والسنة، فهو من دلائل النبوة في كونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً لكونه ما أخبر عنهم إلا بما هم أهله.(11/234)
ولما كان لتبيان قد يكون للضلال، قال تعالى: {وهدى} أي موصلاً إلى المقصود. ولما كان ذلك قد لا يكون على سبيل الإكرام، قال تعالى: {ورحمة} ولما كان الإكرام قد لا يكون بما هو في أعلى طبقات السرور، قال سبحانه: {وبشرى} أي بشارة عظيمة جداً {للمسلمين} ويجوز أن يكون التقدير {في كل أمة شهيداً عليهم} وهو رسولهم الذي أرسلناه إليهم في الدنيا {وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} لكوننا أرسلناك إليهم وجعلناك أميناً عليهم {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} فلا عذر لهم، فيكون معطوفاً على ما دل الكلام السابق دلالة واضحة على تقديره.(11/235)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
ولما بين تعالى فضل هذا القرآن بما يقطع حجتهم، وكان قد قدم فضل من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، أخذ يبين اتصاف القرآن ببيان كل شيء، وتضمنه لذلك الطريق الأقوم، فقال تعالى جامعاً لما يتصل بالتكاليف فرضاً ونفلاً، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموماً وخصوصاً: {إن الله} أي الملك المستجمع لصفات الكمال {يأمر بالعدل} وهو الإنصاف الذي لا يقبل عمل يدونه،(11/235)
وأول درجاته التوحيد الذي بنيت السورة عليه، والعدل يعتبر تارة في المعنى فيراد به هيئة في الإنسان تطلب بها المساواة، وتارة في العقل فيراد به التقسيط القائم على الاستواء، وتارة يقال: هو الفضل كله من حيث إنه لا يخرج شيء من الفضائل عنه، وتارة يقال: هو أكمل الفضائل من حيث إن صاحبه يقدر على استعماله في نفسه وفي غيره، وهو ميزان الله المبرأ من كل زلة وبه يستتب أمر العالم، وبه قامت السماوات والأرض، وهو وسط كل أطرافه جور، وبالجملة الشرع مجمع العدل، وبه تعرف حقائقه، ومن استقام على نهج الحق فقد استتب على منهج العدل - ذكره الرازي في اللوامع وفيه تلخيص، وفي آخر الجزء الخامس عشر من الثقفيات أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال لمحمد بن كعب القرظي رضي الله عنه: صف لي العدل، فقال: كن لصغير الناس أباً، ولكبيرهم ابناً، وللمثل أخاً، وللنساء كذلك، وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على قدر أجسامهم، ولا تضربن(11/236)
لغضبك سوطاً واحداً فتعدَّى فتكون من العادين انتهى. {والإحسان} وهو فعل الطاعة على أعلى الوجوه، فالعدل فرض، والإحسان فضل، وهو مجاوزة النصفة إلى التحامل على النفس، لأنه ربما وقع في الفرض نقص فجبر بالنفل، وهو في التوحيد الارتقاء عن أول الدرجات، ومن أعلاه الغنى عن الأكوان، وتكون الأكوان في غيبتها عند انبساط نور الحق كالنجوم في انطماسها عند انتشار نور الشمس، وغايته الفناء حتى عن هذا الغنى، وشهود الله وحده، وهو التوحيد على الحقيقة كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وهو روح الإنسانية، ففي الجزء الثامن من الثقفيات عن عاصم بن كليب الجرمي قال:: «حدثني أبي كليب أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: وأنا غلام أعقل وأفهم، قال: فانتهى بالجنازة إلى القبر ولما يمكن لها فجعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولسوّ ذا أو خذ ذا! قال: حتى ظن الناس أنها سنة، فالتفت إليهم فقال: أن هذا لا ينفع الميت ولا يضره، ولكن الله تعالى يحب من العامل إذا(11/237)
عمل أن يحسن»
{وإيتاء ذي القربى} فإنه من الإحسان، وهو أولى الناس بالبر، وذلك جامع للاحسان في صلة الرحم.
ولما أمر بالمكارم، نهى عن المساوىء والملائم فقال تعالى: {وينهى عن الفحشاء} وهي ما اشتد تقصيره عن العدل فكان ضد الإحسان {والمنكر} وهو ما قصر عن العدل في الجملة {والبغي} وهو الاستعلاء على الغير ظلماً، وقال البيضاوي في سورة الشورى: هو طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتجزأ كمية أو كيفية. وهو من المنكر، صرح به اهتماماً، وهو أخو قطيعة الرحم ومشارك لها في تعجيل العقوبة «ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه ورفعه، وأصل البغي الإدارة، كأنه صار بفهم هذا المعنى المحظور - المحذور عند حذف مفعوله، لأن الإنسان - لكونه مجبولاً على النقصان - لا يكاد يصلح منه إرادة، فعليه أن يكون مسلوب الاختيار، مع الملك الجبار، الواحد القهار، فتكون إرادته تابعة لإرادته، واختياره من وراء طاعته، وعن الحسن أن الخلقين(11/238)
الأولين ما تركا طاعة إلا جمعاها والأخيرين ما تركا معصية إلا جمعاها.
ولما دعا هذا الكلام على وجازته إلى أمهات الفضائل لي هي العلم والعدل والعفة والشجاعة، وزاد من الحسن ما شاء، فإن الإحسان من ثمرات العفة، والنهي عن البغي الذي هو من ثمرات الشجاعة المذمومة إذن فيما سواه منها، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالعلم وكان هذا أبلغ وعظ، نبه عليه سبحانه بقوله تعالى: {يعظكم} أي يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة ثلاثة ومجانبة ثلاثة {لعلكم تذكرون *} أي ليكون حالكم حال من يرجى تذكره، لما في ذلك من المعالي بما وهب الله من العقل، الداعي إلى كل خير، الناهي عن كل ضير، فإن كل أحد من طفل وغيره يكره أن يفعل معه شيء من هذه المنهيات، فمن كان له عقل واعتبر بعقله علم أن غيره يكره منه ما يكره هو منه، ويعلم أنه إن لم يكف عن فعل ما يكره أخوه وقع التشاجر، فيحصل الفساد المؤدي إلى خراب الأرض، هذا في الفعل مع أمثاله من المخلوقين، فكيف بالخالق بأن يصفه بما لا يليق به سبحانه، وعز اسمه، وتعالى جده، وعظم أمره! .(11/239)
ولما تقررت هذه الجمل التي جمعت - بجمعها للمأمورات والمنهيات ما تضيق عنه الدفاتر والصدور، وشهد لها المعاندون من بلغاء العرب أنها بلغت قاموس البحر وتعالت عن طوق البشر، عطف على ما أفهمه السياق - من نحو: فتذكروا أو فالزموا ما أمرتم به ونابذوا ما نهيتم عنه - بعض ما أجملته، وبدأ بما هو مع جمعه أهم وهو الوفاء بالعهد الذي يفهم منه العلماء بالله ما دل عليه العقل من الحجج القاطعة بالتوحيد وصدق الرسل ووجوب اتباعهم، فكانت أعظم العهود، ويفهم منه غيرهم ما يتعارفونه مما يجري بينهم من المواثيق، فإذا ساروا فيها بما أمر سبحانه وتحروا رضاه علماً منهم بأنه العدل، قادهم ذلك إلى رتبة الأولين فقال تعالى: {وأوفوا} أي أوقعوا الوفاء الذي لا وفاء في الحقيقة غيره {بعهد الله} أي الملك الأعلى الذي عاهدكم عليه بأدلة العقل والنقل من التوحيد وغيره من أصول الدين وفروعه
{الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} [الرعد: 20] {وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} [البقرة: 27] {إذا عاهدتم} بتقبلكم له بإذعانكم لأمثاله من الأدلة فيما عرف من عوائدكم، وصرحتم به(11/240)
عند شدائدكم {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} ثم عطف عليه ما هو من جنسه وأخص منه فقال تعالى: {ولا تنقضوا الأيمان} واحترز عن لغو اليمين بقوله تعالى: {بعد توكيدها} وحذف الجار لأن المنهي عنه إنما هو استغراق زمان البعد بالنقض، وذلك لا يكون إلا بالكذب الشامل له كله، بعضه بالقوة وبعضه بالفعل، ولعله جمع إشارة إلى أن المذموم استهانتها من غير توقف على كفارة، لأن من فعل ذلك ولو في واحدة كان فاعلاً ذلك في الجميع، بخلاف من ينقض ما نقضه خير بالكفارة فإنه ناقض للبعض لا للكل، لأنه دائر مع الخير والأول دائر مع الهوى؛ ثم حذرهم من النقض بأنه مطلع قادر، فقال تعالى مقبحاً حالهم إذ ذاك: {وقد جعلتم الله} أي الذي له العظمة كلها {عليكم كفيلاً} أي شاهداً ورقيباً.
ولما كان من شأن الرقيب حفظ أحوال من يراقبه، قال تعالى مرغباً مرهباً: {إن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {يعلم ما تفعلون *} فلم تفعلوا شيئاً إلا بمشيئته وقدرته، فكانت كفالته مجعولة بهذا الاعتبار وإن لم يصرح بالجعل، فمتى نقضتم فعل بكم فعل الكفيل القادر(11/241)
بالمكفول المماطل من أحد الحق والعقوبة.
ولما أمر بالوفاء ونهى عن النقض، شرع في تأكيد وجوب الوفاء وتحريم النقض وتقبيحه تنفيراً منه فقال تعالى: {ولا تكونوا} أي في نقضكم لهذا الأمر المعنوي {كالتي نقضت غزلها} ولما كان النقض لم يستغرق زمان البعد، قال تعالى: {من بعد قوة} عظيمة حصلت له {أنكاثاً} أي أنقاضاً، جمع نكث وهو كل شيء نقض بعد الفتل سواء كان حبلاً أو غزلاً، فهو مصدر مجموع من نقضت لأنه بمعنى نكثت، قال في القاموس: النكث - بالكسر أن تنقض أخلاق الأكسية لتغزل ثانية. فيكون مثل جلست قعوداً، أي فتكونوا بفعلكم ذلك كهذه المرأة التي ضربتم المثل بها في الخرق مع ادعائكم أنه يضرب بأدناكم المثل في العقل، ثم وصل بذلك ما يعرف أنهم أسفه من تلك المرأة بسبب أن ضررها لا يتعداها، وأما الضرر بفعلهم فإنه مفسد لذات البين فقال تعالى: {تتخذون}(11/242)
أي بتكليف الفطرة الأولى ضد ما تدعو إليه من الوفاء {أيمانكم دخلاً} أي فيضمحل كونها أيماناً إلى كونها ذريعة إلى الفساد بالخداع والغرور {بينكم} من حيث إن المحلوف له يطمئن فيفجأه الضرر، ولو كان على حذر لما نيل منه ولا جسر عليه، وكل ما أدخل في الشيء على فساد فهو دخل {إن} أي تفعلون ذلك بسب أن {تكون أمة} أي وهي الخادعة أو المخدوعة لأجل سلامتها {هي} أي خاصة {أربى} أي أزيد وأعلى {من أمة} في القوة أو العدد، فإذا وجدت نفاداً لزيادتها غدرت.
ولما عظم عليهم النقض، وبين أن من أسبابه الزيادة، حذرهم غوائل البطر فقال تعالى: {إنما يبلوكم} أي يختبركم {الله} أي الذي له الأمر كله {به} أي يعاملكم معاملة المختبر بالأيمان والزيادة ليظهر للناس تمسككم بالوفاء أو انخلاعكم منه اعتماداً على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين «أو غيرهم» مع قدرته سبحانه على ما يريد، فيوشك أن يعاقب بالمخالفة فيضعف القوي ويقلل(11/243)
الكثير {وليبينن لكم} أي إذا تجلى لفصل القضاء {يوم القيامة} مع هذا كله {ما كنتم} أي بجبلاتكم {فيه تختلفون *} فاحذروا يوم العرض على ملك الملوك بحضرة الرؤساء والملوك وجميع المعبودات والكل بحضرته الشماء داخرون، ولديه صاغرون، ومن نوقش الحساب يهلك.(11/244)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
ولما أمر ونهى، وخوف من العذاب في القيامة، وكان ربما ظن من لا علم له - وهم الأكثر - من كثرة التصريح بالحوالة على القيامة نقص القدرة في هذه الدار، صرح بنفي ذلك بقوله تعالى: {ولو شاء الله} أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، أن يجعلكم أمة واحدة لا خلاف بينكم في أصول الدين ولا فروعه {لجعلكم أمة واحدة} متفقة على أمر واحد لا تؤم غيره، منفياً عنها أسباب الخلاف {ولكن} لم يشأ ذلك وشاء اختلافكم، فهو {يضل من يشاء} عدلاً منه، لأنه تام الملك عام الملك ولو كان الذي أضله على أحسن الحالات {ويهدي} بفضله {من يشاء} ولو كان على أخس الأحوال،(11/244)
فبذلك يكونون مختلفين في المقاصد، يؤم هذا غير ما يؤمه هذا، فيأتي الخلاف مع تأدية العقل إلى أن الاجتماع خير من الافتراق فالاختلاف مع هذا من قدرته الباهرة.
ولما تقرر بهذا أن الكل فعله وحده فلا فعل لغيره أصلاً، كان ربما أوقع في الوهم أنه لا حرج على أحد في شيء يفعله بين أن السؤال يكون عن المباشرة ظاهراً على ما يتعارف الناس في إسناد الفعل إلى من ظهر اكتسابه له، فقال تعالى مرغباً مرهباً مؤكداً لإنكارهم البعث عما ينشأ عنه: {ولتسئلن عما كنتم} أي كوناً أنتم مجبولون عليه {تعلمون *} وإن دق، فيجازي كلاًّ منكم على عمله وإن كان غنياً عن السؤال، فهو بكل شيء عليم.
ولما بين أن الكذب وما جر إليه أقبح القبائح، وأبعد الأشياء عن المكارم، وكان من أعظم أسباب الخلاف، فكان أمره جديراً بالتأكيد، أعاد الزجر عنه بأبلغ مما مضى بصريح النهي مرهباً مما يترتب على ذلك، فقال معبراً بالافتعال إشارة إلى أن ذلك لا يفعل(11/245)
إلا بعلاج شديد من النفس لأن الفطرة السليمة يشتد نفارها منه: {ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً} أي فساداً ومكراً وداء وخديعة {بينكم} أي في داخل عقولكم وأجسامكم {فتزل} أي فيكون ذلك سبباً لأن تزل {قدم} هي في غاية العظمة بسبب الثبات {بعد ثبوتها} عن مركزها الذي كانت به من دين أو دنيا، فلا يصير لها قرار فتسقط عن مرتبتها، وزلل القدم تقوله العرب لكل ساقط في ورطة بعد سلامة {وتذوقوا السوء} مع تلك الزلزلة {بما صددتم} أي أنفسكم ومنعتم غيركم بأيمانكم التي أردتم بها الإفساد لإخفاء الحق {عن سبيل الله} أي الملك الأعلى، يتجدد لكم هذا الفعل ما دمتم على هذا الوصف {ولكم} مع ذلك {عذاب عظيم} ثابت غير منفك إذا متم على ذلك.
ولما كان هذا خاصاً بالأيمان، أتبعه النهي عن الخيانة في عموم العهد تأكيداً بعد تأكيد للدلالة على عظيم النقض فقال تعالى: {ولا تشتروا} أي تكلفوا أنفسكم لجاجاً وتركاً للنظر في(11/246)
العواقب أن تأخذوا وتستبدلوا {بعهد الله} أي الذي له الكمال كله {ثمناً قليلاً} أي من حطام الدنيا وإن كنتم ترونه كثيراً، ثم علل قلته بقوله تعالى: {إنما عند الله} أي الذي له الجلال والإكرام من ثواب الدارين {هو خير لكم} ولا يعدل عن الخير إلى ما دونه إلا لجوج ناقص العقل؛ ثم شرط علم خيريته بكونهم من ذوي العلم فقال تعالى: {إن كنتم} أي بجبلاتكم {تعلمون *} أي ممن يتجدد له علم ولم تكونوا في عداد البهائم، فصار العهد الشامل للأيمان مبدوءاً في هذه الآيات بالأمر بالوفاء به ومختوماً بالنهي عن نقضه، والأيمان التي هي أخص منه وسط بين الأمر والنهي المتعلقين به، فصار الحث عليها على غاية من التأكيد عظيمة ورتبة من التوثيق جليلة، ثم بين خيريته وكثرته بقوله تعالى على سبيل التعليل: {ما عندكم} أي من أعراض الدنيا، وهو الذي تتعاطونه بطباعكم {ينفد} أي يفنى، فصاحبه منغص العيش أشد ما يكون به اغتباطاً بانقطاعه أو بتجويز انقطاعه إن كان في عداد من يعلم {وما عند الله} أي الذي(11/247)
له الأمر كله من الثواب {باق} فليؤتينكم منه إن ثبتم على عهده؛ ثم لوح بما في ذلك من المشقة عطفاً على هذا المقدر فقال تعالى مؤكداً لأجل تكذيب المكذبين: {ولنجزين} أي الله - على قراءة الجماعة بالياء ونحن - على قراءة ابن كثير وعاصم بالنون التفاتاً إلى التكلم للتعظيم {الذين صبروا} على الوفاء بما يرضيه من الأوامر والنواهي {أجرهم} ولما كان كرماء الملوك يوفون الأجور بحسب الأعمال من الأحسن وما دونه، أخبر بأنه يعمد إلى الأحسن فيرفع الكل إليه ويسوي الأدون به فقال: {بأحسن ما كانوا} أي كوناً هو جبلة لهم {يعملون *} .
ولما وعد بعد أن توعد، أتبعه ما يبين أن ذلك لا يخص شريفاً ولا وضيعاً، وإنما هو دائر مع الوصف الذي رمز إليه فيما مضى بالعدل تارة، وبالعهد أخرى، وهو الإيمان، فقال تعالى جواباً لمن كأنه قال: هذا خاص بأحد دون أحد، مرغباً في عموم شرائع الإسلام: {من عمل صالحاً} ولما كانت عامة، وكانت ربما خصت الذكور، بين المراد من عمومها بقوله تعالى: {من ذكر أو أنثى} فعم ثم قيد مشيراً بالإفراد إلى قلة الراسخين(11/248)
بقوله تعالى: {وهو مؤمن} .
ولما كان الإنسان كلما علا في درج الإيمان، كان جديراً بالبلاء والامتحان، بين تعالى أن ذلك لا ينافي سعادته، ولذلك أكد قوله: {فلنحيينه} دفعاً لما يتوهمه المستدرجون بما يعجل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا {حياة طيبة} أي في الدنيا بما نؤتيه من ثبات القدم، وطهارة الشيم {ولنجزينهم} كلهم {أجرهم} في الدنيا والآخرة {بأحسن ما كانوا} أي كوناً جبلياً {يعملون *} قال العلماء رضي الله عنهم: المطيع في عيشه هنيئة، إن كان موسراً فلا كلام فيه، وإن كان معسراً فبالقناعة والرضى بحكم النفس المطمئنة، والفاجر بالعكس، إن كان معسراً فواضح، وإن كان موسراً فحرصه لا يدعه يتهنأ فهو لا يزال في عيشة ضنك.
ولما تقررت هذه الأحكام على هذه الوجوه الجليلة، وأشارت بحسن ألفاظها وشرف سياقها إلى أغراض هي مع جلالتها غامضة دقيقة، فلاح بذلك أن القرآن تبيان لكل شيء في حق من سلم من غوائل الهوى وحبائل الشيطان، وختم ذلك بالحث على العمل الصالح، وكان القرآن تلاوة وتفكراً وعملاً بما ضمن(11/249)
أجل الأعمال الصالحة، تسبب عن ذلك الأمر بأنه إذا قرىء هذا القرآن المنزل على مثل تلك الأساليب الفائقة يستعاذ من الشيطان لئلا يحول بوساوسه بين القارىء وبين مثل تلك الأغراض والعمل بها، وحاصله الحث على التدبر وصرف جميع الفكر إلى التفهم والالتجاء إليه تعالى في كل عمل صالح لئلا يفسده الشيطان بوساوسه، أو يحول بين الفهم وبينه، بياناً لقدر الأعمال الصالحة، وحثاً على الإخلاص فيها وتشمير الذيل عند قصدها، لا سيما أفعال القلوب التي هي أغلب ما تقدم هنا، فقال تعالى مخاطباً لأشرف خلقه ليفهم غيره من باب الأولى فيكون أبلغ في حثه وأدعى إلى اتباعه: {فإذا قرأت} أي أردت أن تقرأ مثل {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا} [الأعراف: 4] {القرآن} الذي هو قوام العمل الصالح والداعي إليه والحاث عليه، مع كونه تبياناً لكل شيء، وهو اسم جنس يشمل القليل منه والكثير {فاستعذ} أي إن شئت جهراً وإن شئت سراً؛ قال الإمام الشافعي: والإسرار أولى في الصلاة، وفي قول: يجهر كما يفعل خارج الصلاة. {بالله} أي سل الذي له الكمال كله أن يعيذك {من الشيطان} أي المحترق باللعنة {الرجيم *} أي المطرود عن الرحمة من أن يصدك بوساوسه عن اتباعه، فإنه لا عائق(11/250)
عن الإذعان، لأساليبه الحسان، إلا خذلان الرحمن، بوساوس الشيطان، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن ذلك أوفق للقرآن، وقد ورد به بعض الأخبار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً وهو المشهور ونص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه، والصارف لهذا الأمر عن الوجوب أحاديث كثيرة فيها القراءة بدون ذكر تعوذ كحديث البخاري وغيره «عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له ما منعك أن تجيبني؟ قال: كنت أصلي، قال: ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} [الأنفال: 24] ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن {الحمد لله رب العالمين} » وفي رواية الموطأ «أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم نادى أبياً وأنه قال: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال أبي: فقرأت {الحمد لله رب العالمين} حتى أتيت على آخرها»
ومن طالع كتابي «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور» رأى مثل هذا أحاديث جداً من أحسنها حديث(11/251)
نزول سورة الكوثر، وقيل: التعوذ بعد القراءة لظاهر الآية، وختام القرآن بالمعوذتين موافق لهذا القول بالنسبة إلى الحال، والقول الأول الصحيح بالنسبة إلى ما ندب إليه المرتحل من قراءة الفاتحة وأول البقرة.
ولما كان ذلك ربما هو أوهم تعظيمه، نفى ذلك بقوله جواباً لمن كأنه قال: هل له سلطان؟ : {إنه ليس له سلطان} أي بحيث لا يقدر المسلط عليه على الانفكاك عنه {على الذين ءامنوا} بتوفيق ربهم لهم {وعلى ربهم} أي وحده {يتوكلون *} ويجوز أن يكون المعنى أنه لما تقرر في الأذهان أنه لا نجاة من الشيطان، لأنه سلط علينا بأنه يرانا من حيث لا نراه ويجري فينا مجرى الدم، وكانت فائدة الاستعاذة الإعاذة، أشير إلى حصولها بقوله على سبيل التعليل «إنه» أي استعذ بالله يعذك منه، لأنه ليس له سلطان على الذين آمنوا بالله ليردهم كلهم عما(11/252)
يرضي الله، وعلى ربهم وحده يتوكلون، ثم وصل بذلك ما أفهمه من أن له سلطاناً على غيرهم فقال تعالى: {إنما سلطانه} أي الذي يتمكن به غاية التمكن بإمكان الله له {على الذين يتولونه} أي تولوه وأصروا على ذلك بتجديد ولايته كل حين {والذين هم} أي بظواهرهم وبواطنهم {به} أي بالشيطان {مشركون *} دائماً لأنهم إذا تبعوا وساوسه، وأطاعوا أوامره فقد عبدوه فجعلوه بذلك شريكاً، فهم لا يتأملون دقائق القرآن بل ولا يفهمون ظواهره على ما هي عليه لما أعماهم به الشيطان من وساوسه، وحبسهم به عن هذه الأساليب من محابسه، فهم لا يزالون يطعنون فيه بقلوب عمية وألسنة بذية؛ ثم عطف على هذا المقدر - الذي دل عليه الكلام - ما أنتجه تسلط الشيطان عليهم فقال تعالى: {وإذا بدلنا} أي بعظمتنا بالنسخ {ءاية} سهلة كالعدة بأربعة أشهر وعشر، وقتال الواحد من المسلمين لاثنين من الكفار، أو شاقّة كتحريم الخمر وإيجاب صلوات خمس، فجعلناها(11/253)
{مكان ءاية} شاقة كالعدة بحول، ومصابرة عشرة من الكفار، أو سهلة كالآيات المتضمنة لإباحة الخمر وإيجاب ركعتين أول النهار وركعتين آخره، فكانت الثانية مكان الأولى وبدلاً منها، أو يكون المعنى: نسخنا آية صعبة فجعلنا مكانها آية سهلة؛ والتبديل: رفع الشيء مع وضع غيره مكانه {والله} أي الذي له الإحاطة الشاملة {أعلم بما ينزل} من المصالح بحسب الأوقات والأحوال بنسخ أو بغيره {قالوا} أي الكفار {إنما أنت} أي يا محمد! {مفتر} أي فإنك تأمر اليوم بشيء وغداً تنهى عنه وتأمر بضده، وليس الأمر كما قالوا {بل أكثرهم} وهم الذين يستمرون على الكفر {لا يعلمون *} أي لا يتجدد لهم علم، بل هم في عداد البهائم، لعدم انتفاعهم بما وهبهم الله من العقول، لانهماكهم في اتباع الشيطان، حتى زلت أقدامهم في هذا الأمر الواضح بعد إقامة البرهان بالإعجاز على أن كل ما كان معجزاً كان من عند الله، سواء كان ناسخاً أو منسوخاً أو لا، فصارت معرفة أن هذا القرآن وهذا غير قرآن بعرضه على هذا البرهان من أوضح الأمور وأسهلها تناولاً لمن أراد ذلك منهم أو من غيرهم من فرسان البلاغة(11/254)
فكأنه قيل: فما أقول؟ فقال: {قل} لمن واجهك بذلك منهم: {نزله} أي القرآن بحسب التدريج لأجل اتباع المصالح لإحاطة علم المتكلم به {روح القدس} الذي هو روح كله، ليس فيه داعٍ إلى هوى، فكيف يتوهم فيما ينزله افتراء لا سيما مع إضافته الطهر البالغ، فهو ينزله {من ربك} أيها المخاطب الذي أحسن إليك بإنزاله ثم بتبديله بحسب المصالح كما أحسن تربيتك بالنقل من حال إلى حال لا يصلح في واحدة منها ما يصلح في غيرها من الظهر إلى البطن، ثم من الرضاع إلى الفطام، فما بعده، فكيف تنكر تبديل الأحكام للمصالح ولا تنكر تبديل الأحوال لذلك، حال كون ذلك الإنزال {بالحق} أي الأمر الثابت الذي جل عن دعوى الافتراء بأنه لا يستطاع نقضه {ليثبت} أي تثبيتاً عظيماً {الذين آمنوا} في دينهم بما يرون من إعجاز البدل والمبدل مع تضاد الأحكام، وما فيه من الحكم والمصالح بحسب تلك الأحوال - مع ما كان في المنسوخ من مثل ذلك بحسب الأحوال السالفة - وليتمرنوا على حسن الانقياد، ويعلم بسرعة انقيادهم في ترك الألف تمام استسلامهم وخلوصهم عن شوائب الهوى؛ ثم عطف على محل {ليثبت} قوله: {وهدى} أي بياناً واضحاً {وبشرى} أي بما فيه من تجدد العهد(11/255)
بالملك الأعلى وتردد الرسول بينه وبينهم بوساطة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم {للمسلمين *} المنقادين المبرئين من الكبر الطامس للأفهام، المعمي للأحلام، ولولا مثل هذه الفوائد لفاتت حكمة تنجيمه.(11/256)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
ولما نقض شبهتهم هذه إشارة وعبارة بما فضحهم، نقض لهم شبهة أخرى بأوضح من ذلك وأفضح فقال تعالى: {ولقد نعلم} أي علماً مستمراً {أنهم يقولون} أي أيضاً قولاً متكرراً لا يزالون يلهجون به {إنما يعلمه بشر} وهم يعلمون أن ذلك سفساف من القول؛ ثم استأنف الرد عليهم فقال تعالى: {لسان} أي لغة وكلام {الذين يلحدون} أي يميلون أو يشيرون {إليه} بإن علمه إياه، مائلين عن القصد جائرين عادلين عن الحق ظالمين {أعجمي} أي غير لغة العرب، وهو مع ذلك ألكن في النادية غير بين، وهو غلام كان نصرانياً لبعض قريش اختلف في اسمه، وهذا التركيب وضع في لسان العرب للإبهام والإخفاء، ومنه عجم الزبيب - لاستتاره، والعجماء: البهيمة - لأنها لا تقدر على أيضاح ما في نفسها، وأما أعجمت الكتاب فهو للإزالة.(11/256)
{وهذا} أي القرآن {لسان عربي مبين *} أي هو من شدة بيانه مظهر لغيره أنه ذو بيان عظيم، فلو أن المعلم عربي للزمهم أن لا يعجزوا عن الإتيان بمثل ما علم، فكيف وهو أعجمي.
فلما بانت بهذا فضيحتهم، كان كأنه قيل: إن من العجب إقدامهم على مثل هذا العار وهم يدعون النزاهة؟ فأجاب بقوله تعالى: {إن الذين لا يؤمنون} أي يصدقون كل تصديق معترفين {بآيات الله} أي الذي له العظمة كلها {لا يهديهم الله} أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق، بل يضلهم عن القصد، فلذلك يأتون بمثل هذه الخرافات فأبشر لمن بالغ في العناد، بسد باب الفهم والسداد.
ولما كان ربما توهم أنه لكونه هو المضل لا يتوجه اللوم عليهم نفى ذلك بقوله: {ولهم عذاب أليم *} أي بذلك، لمباشرتهم له مع حجب المراد عنهم وخلق القدرة لهم، إجراء على عوائد بعض الخلق مع بعض.
ولما زيف شبههم، أثبت لهم ما قذفوه به وهو بريء منه مقصوراً عليهم، فقال تعالى: {إنما يفتري} أي يتعمد {الكذب الذين لا يؤمنون} أي لا يتجدد منهم الإيمان {بآيات الله} أي الذي له الكمال كله، فإن ردهم لما قام الدليل على أنه حق وعجزوا(11/257)
عنه تعمد منهم للكذب؛ ثم قصر الكذب عليهم فقال: {وأولئك} أي البعداء البغضاء {هم} أي خاصة {الكاذبون *} أي العريقون في الكذب ظاهراً وباطناً.
ولما ذكر الذين لا يؤمنون مطلقاً، أتبعهم صنفاً منهم هم أشدهم كفراً فقال تعالى: {من} أي أي مخلوق وقع له أنه {كفر بالله} أي الذي له صفات الكمال، بأن قال أو عمل ما يدل على الكفر، ولما كان الكفر كله ضاراً وإن قصر زمنه، أثبت الجار فقال تعالى: {ومن بعد إيمانه} بالفعل أو بالقوة، لما قام على الإيمان من الأدلة التي أوصلته إلى حد لا يلبس فصار استكباره عن الإيمان ارتداداً عنه وجوب الشرط دل ما قبله وما بعده على أنه: فهو الكاذب، أو فعليه غضب من الله {إلا من أكره} أي وقع إكراهه على قول كلمة الكفر {وقلبه} أي والحال أن قلبه {مطمئن بالإيمان} فلا شيء عليه، وأجمعوا - مع إباحة ذلك له - أنه لا يجب عليه التكلم بالكفر، بل إن ثبت كان ذلك أرفع درجة، والآية
«نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه(11/258)
أكرهوه فتابعهم وهو كاره، فأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه كفر، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كلا! إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمسح عينيه ويقول: إن عادوا فعد لهم بمثل ما قلت» {ولكن من شرح} أي فتح فتحاً صار يرشح به {بالكفر صدراً} أي منه أو من غيره بالتسبب فيه لأن حقيقة الإيمان والكفر يتعلق بالقلب دون اللسان، وإنما اللسان معبر وترجمان معرف بما في القلب لتوقع الأحكام الظاهرة {فعليهم} لرضاهم به {غضب} أي غضب؛ ثم بين جهة عظمه بكونه {من الله} أي الملك الأعظم {ولهم} أي بظواهرهم وبواطنهم {عذاب عظيم *} لارتدادهم على أعقابهم.
ولما كان من يرجع إلى الظلمات بعد خروجه منها إلى النور جديراً بالتعجب منه، كان كأنه قيل: لم يفعلون، أو لم يفعل(11/259)
بهم ذلك؟ فقال تعالى: {ذلك} الارتداد أو الوعيد العظيم {بأنهم} أي بسبب أنهم {استحبوا} أي أحبوا حباً عظيماً {الحياة الدنيا} أي الدنيئة الحاضرة الفانية، فآثروها {على الآخرة} الباقية الفاخرة لأنهم رأوا ما فيه المؤمن من الضيق والكافر من السعة {و} بسبب {أن الله} أي الملك الذي له الغنى الأكبر {لا يهدي القوم الكافرين *} الذين علم استمرارهم عليه، بل يخذلهم ويسلط الشيطان عليهم يحتالهم عن دينهم.(11/260)
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
ولما كان استمرارهم على الكفر أعجب من ارتدادهم، أتبعه سببه فقال تعالى: {أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين طبع} أي ختم ختماً هو كفيل بالعطب {الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه {على قلوبهم} ولما كان التفاوت في السمع نادراً، وحده فقال تعالى: {وسمعهم وأبصارهم} فصاروا - لعدم انتفاعهم بهذه المشاعر - كأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون {وأولئك} أي الأباعد من كل خير {هم الغافلون *} أي الكاملو الغفلة؛ ثم أتبع ذلك جزاءهم(11/260)
عليه فقال تعالى: {لا جرم} أي لا شك {أنهم في الآخرة هم} أي خاصة {الخاسرون *} أي أكمل خسارة لأنهم خسروا رأس المال وهو نفوسهم، فلم يكن لهم مرجع يرجعون إليه.
ولما قدم الفاتن والمفتون، أتبع ذلك ذكر حكمهما على القراءتين فقال تعالى: بحرف التراخي إشارة إلى تقاصر رتبتهما عن رتبة من لم يفعل ذلك: {ثم إن ربك} أي المحسن إليك بالعفو عن أمتك وتخفيف الآصار عنهم في قبول توبة من ارتد بلسانه أو قلبه {للذين هاجروا} أهل الكفر بالنزوح من بلادهم توبة إلى الله تعالى مما كانوا فيه.
ولما كان سبحانه يقبل اليسير من العمل في أي وقت كان، أشار إلى ذلك بالجار فقال تعالى مبيناً أن الفتنة بالأذى - وإن كان بالغاً - غير قادحة في الهجرة وما تبعها، فيفيد ذلك في الهجرة بدونها من باب الأولى {من بعد ما فتنوا} بالبناء للمجهول - على قراءة الجماعة، لأن المضر هو الفتنة مطلقاً، وللفاعل على قراءة ابن عامر، أي ظلموا بأن فتنوا من آمن بالله حين كانوا كفاراً،(11/261)
أو أعطوا الفتنة من أنفسهم ففتنوها بأن أطاعوا في كلمة الكفر، أو في الرجوع مع من ردهم إلى بلاد الكفر بعد الهجرة من بعد إيمانهم {ثم جاهدوا} أي أوقعوا جهاد الكفار مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توبة إلى الله تعالى {وصبروا} على ذلك إلى أن ماتوا عليه {إن ربك} أي المحسن إليك بتسخير من هذه صفاتهم لك.
ولما كان له سبحانه أن يغفر الذنوب كلها ما عدا الشرك، وأن يعذب عليها كلها وعلى بعضها، وأن يقبل الصالح كله، وأن يرد بعضه، أشار إلى ذلك بالجار فقال تعالى: {من بعدها} أي هذه الأفعال الصالحة الواقعة بعد تلك الفاسدة وهي الفتنة {لغفور} أي بليغ المحو للذنوب {رحيم *} أي بليغ الإكرام فهو يغفر لهم ويرحمهم.(11/262)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
ولما تقدم كثير من التحذير والتبشير، وتقدم أنه لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون، وختم ذلك بانحصار الخسار في الكفار، بيَّن اليوم الذي تظهر فيه تلك الآثار، ووصفه بغير الوصف المقدم باعتبار المواقف، فقال تعالى مبدلاً من {يوم نبعث من كل أمة شهيداً}(11/262)
{يوم تأتي} أي فيه {كل نفس} أي إنسان وإن عظم جرمها {تجادل} أي تعتذر، وعبر بالمجادلة إفهاماً للذفع بأقصى ما تقدر عليه، وأظهر في قوله: {عن نفسها} أي ذاتها بمفردها لا يهمها غير ذلك لما يوهم الإضمار من أن كل أحد يجادل عن جميع الأنفس. ولما كان مطلق الجزاء مخوفاً مقلقاً، بني للمفعول قوله: {وتوفَّى كل نفس} صالحة وغير صالحة {ما عملت} أي جزاء من جنسه {وهم} ولما كان المرهوب مطلق الظلم، وكان البناء للمفعول أبلغ جزاء في نفيه قال تعالى: {لا يظلمون *} أي لا يتجدد عليهم ظلم لا ظاهراً ولا باطناً، ليعلم بإبدال «يوم» من ذلك المتقدم أن الخسارة بإقامة الحق عليهم لا بمجرد إسكاتهم.
ولما عقب سبحانه ما ضرب سابقاً من الأمثال بقوله تعالى {ورزقكم من الطيبات} وتلاه بذكر الساعة بقوله تعالى: {وما أمر الساعة} إلى آخره، واستمر فيما مضت مناسباته آخذاً بعضه بحجز بعض حتى ختم بالساعة وآمن من الظلم فيها، وبين أن الأعمال هناك هي مناط الجزاء، عطف على ما مضى - من الأمثال المفروضة المقدرة المرغبة - مثلاً محسوساً موجوداً، مبيناً أن الأعمال في هذه(11/263)
الدار أيضاً مناط الجزاء، مرهباً من المعاجلة فيها بسوط من العذاب فقال تعالى: {وضرب الله} أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لكم أيها المعاندون! {مثلاً قرية} من قرى الماضين التي تعرفونها كقرية هود أو صالح أو لوط أو شعيب عليهم السلام كان حالها كحالهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها مكة {كانت ءامنة} أي ذات أمن يأمن به أهلها في زمن الخوف {مطمئنة} أي تارة بأهلها، لا يحتاجون فيها إلى نجعة وانتقال بسبب زيادة الأمن بكثرة العدد وقوة المدد، وكف الله الناس عنها، ووجود ما يحتاج إليه أهلها {يأتيها} أي على سبيل التجدد والاستمرار {رزقها رغداً} أي واسعاً طيباً {من كل مكان} براً وبحراً بتيسير الله تعالى لهم ذلك.
ولما كانت السعة تجر إلى البطر غالباً، نبه تعالى لهم ذلك بالفاء فقال تعالى: {فكفرت} ونبه سبحانه على سعة فضله بجمع القلة الدال على أن كثرة فضلة عليهم تافهة بالنسبة إلى ما عنده سبحانه وتعالى فقال: {بأنعم الله} أي الذي له الكمال كله كما كفرتم {فأذاقها الله}(11/264)
أي المحيط بكل شيئ قدرة وعلماً {لباس الجوع} بعد رغد العيش {والخوف} بعد الأمن والطمأنينة حتى صار لهم ذلك بشموله لهم لباساً، وبشدة عركهم ذواقاً، فكأن النظر إلى المستعار له، وهو هنا أبلغ لدلالته على الإحاطة والذوق، ولو نظر إلى المستعار لقال: فكساها، فكان يفوت الذوق، وذلك كما نظر إليه كثيّر في قوله:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً ... غلقت لضحكته رقاب المال
استعار الرداء للمعروف لأنه يصون صون الرداء لما يلقى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا وصف الرداء الذي هو المستعار، ولو نظر إليه لوصفه بالسعة أو الطول مثلاً كما نظر إليه من قال ذاكراً السيف الذي يصون به الإنسان نفسه:
ينازعني ردائي عبد عمرو ... رويدك يا أخا بكر بن عمرو
لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطر(11/265)
فنظر إلى المستعار وهو الرداء في لفظ الاعتجار، فبانت فضيحة ابن الراوندي في زندقته إذ قال لابن الأعرابي: هل يذاق اللباس؟ فقال له: لا بأس يا أيها النسناس! هب أن محمداً ما كان نبياً، أما كان عربياً؟ {بما كانوا} أي بجبلاتهم {يصنعون *} من الكفر والكبر، قد مرنوا عليه بكثرة المداومة مرون الإنسان على صنعته.
ولما كان تعالى لا يعذب حتى يبعث رسولاً، حقق ذلك بقوله تعالى: {ولقد جاءهم} أي أهل هذه القرية {رسول منهم} كما وقع لكم {فكذبوه} كما فعلتم {فأخذهم العذاب} كما سمعتم، وإن كان المراد بها مكة فالمراد به الجوع الذي دعا عليهم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قال «اللهم أعني بسبع كسبع يوسف» وأما الخوف فما كان من جهاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهم {وهم ظالمون *} أي عريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها، لأنهم استمروا على كفرهم مع الجوع، وسألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الإغاثة فدعا لهم.(11/266)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
ولما تقرر بما مضى من أدلة التوحيد، فثبت ثباتاً لا يتطرق إليه شك أن الله هو الإله وحده كما أنه هو الرازق وحده، ونبههم على دقائق في تقديره للأرزاق تدل على عظمته وشمول علمه وقدرته واختياره، فثبت أنهم ظالمون فيما جعلوا للأصنام من رزقه، وأنه ليس لأحد أن يتحرك إلا بأمره سبحانه، وختم ذلك بهذا المثل المحذر من كفران النعم، عقبه بقوله تعالى صاداً لهم عن أفعال الجاهلية: {فكلوا} أي فتسبب عن جميع ما مضى أن يقال لهم: كلوا {مما رزقكم الله} أي الذي له الجلال والجمال مما عده لكم في هذه السورة وغيرها، حال كونه {حلالاً طيباً} أي لا شبهة فيه ولا مانع بوجه {واشكروا نعمت الله} أي الذي له صفات الكمال حذراً من أن يحل بكم ما أحل بالقرية الممثل بها {إن كنتم إياه} أي وحده {تعبدون *} كما اقتضته هذه الأدلة، لأن وحده هو الذي يرزقكم وإلا عاجلكم بالعقوبة لأنه ليس بعد العناد عن البيان إلا الانتقام، فصار الكلام في الرزق والتقريع على عدم الشكر مكتنفاً الأمثال قبل وبعد.(11/267)
ولما كان الإذن إنما هو في بعض الرزق في الحال المذكور فاحتيج إلى معرفته، وكانت المباحات أكثر من المحظورات، حصر القليل ليعلم منه الكثير، لأن كل ضدين معروفين إجمالاً عُين أحدهما، عرف من تعيينه الآخر، فقال تعالى: {إنما حرم} أي الله الذي لا أمر لأحد معه {عليكم الميتة} التي بينت على لسان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنها ميتة وإن ذكيت {والدم ولحم الخنزير} خصه بالذكر بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارى أكله كالدين {وما أهل} أي بأيّ إهلال كان من أي مهل كان. ولما كان مقصود السورة لبيان الكمال، كان تقديم غيره لتقبيح حال المعتنى به أولى فقال تعالى: {لغير الله} أي الملك الأعظم الذي لا ملك سواه {به} .
ولما كان الإنسان قد يضطر إلى أكل كلّ ما يمكن أكله، بين لهم أنه رفق بهم فأباح لهم سد الرمق من الحرام فقال تعالى: {فمن اضطر} أي كيفما وقع له الاضطرار {غير باغ} على مضطر آخر {ولا عاد} سدَّ الرمق.
ولما كان الإذن في الأكل من هذه الأشياء حال الضرورة(11/268)
إنما هو رخصة، وكانت الشهوة داعية إلى ما فوق المأذون فيه قال تعالى: {فإن الله} أي المختص بصفات الكمال، بسبب تناوله منها على ما حده {غفور رحيم *} فمن زاد على ما أذن له فيه فهو جدير بالانتقام.(11/269)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
ولما تبين بهذه الآية - كما مضى تقريره في الأنعام - جميع المحرم أكله من الحيوانات، فعلم بذلك جهلهم فيما حرموه على أنفسهم لأجل أصنامهم، صرح بالنهي عنه إبلاغاً في تأكيد ذلك الحصر فقال تعالى: {ولا تقولوا} أي بوجه من الوجوه في وقت ما.
ولما كان تحليلهم وتحريمهم قولاً فارغاً ليس له حقيقة أصلاً، لأنه لا دليل عليه، عبر عنه بأنه وصف باللسان لا يستحق أن يدخل إلى القلب فقال تعالى: {لما تصف} أي لأجل الذي تصفه {ألسنتكم} أي من الأنعام والحروث والزروع. ولما حرك النفس إلى معرفة ما يقال لأجل ذلك، بين مقول ذلك القول فقال تعالى: {الكذب} أي القول الذي هو عين الكذب.
ولما اشتد التشوف إلى تعيين ذلك المقول، أبدل منه فقال تعالى: {هذا حلال وهذا حرام} ويجوز أن يكون {الكذب} مفعول {تصف} فتكون {ما} مصدرية، أي لوصفها إياه، فكأن(11/269)
حقيقة الكذب كانت مجهولة فلم تعرف إلا بوصف ألسنتهم لها، فهو مبالغة في وصف كلامهم بالكذب، وما بعده مقول القول.
ولما كانوا - كما تقدم يدعون أنهم أعقل الناس، فكان اللائق بهم إرخاءً للعنان النسبة إلى معرفة اللوازم عند الإقدام على الملزومات، قال تعالى: {لتفتروا على الله} أي الملك الأعلى {الكذب} لأن من قال على أحد ما لم يأذن فيه كان قوله كذباً، وكان كذبه لقصد افتراء الكذب، وإلا لكان في غاية الجهل، فدار أمرهم في مثل هذا بين الغباوة المفرطة أو قصد ما لا يقصده عاقل، وهذا باب من التهكم عجيب، فكأنه قيل: فما يستحقون على ذلك؟ فأجاب بقوله تعالى: {إن الذين يفترون} أي يقتطعون عمداً {على الله} أي الذي له الأمر كله {الكذب} منكم ومن غيركم {لا يفلحون *} .
ولما كان الفلاح عندهم هو العيش الواسع في هذه الدنيا، أجاب من كأنه قال: فإنا ننظرهم بنعمة ورفاهة؟ فقال تعالى: {متاع قليل} أي ما هم فيه لفنائه وإن امتد ألف عام {ولهم} بعده {عذاب أليم *} ومن ألمه العظيم دوامه فأيّ متاع هذا.
ولما بين لهم نعمته بتوسعته عليهم بما ضيقوا به على أنفسهم، بين لهم نعمة أخرى بتمييزهم على بني إسرائيل فقال تعالى:(11/270)
{وعلى الذين هادوا} أي اليهود {حرمنا} أي بعظمتنا عقوبة لهم بعدوانهم وكذبهم على ربهم {ما قصصنا} أي بما لنا من العظمة التي كان المقصوص بها معجزاً {عليك} .
ولما لم يكن قص ذلك عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مستغرقاً زمان القبل، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي في الأنعام {وما ظلمناهم} أي الذين وقع منهم الهود بتحريمنا عليهم ما حرمنا {ولكن كانوا} أي دائماً طبعاً لهم وخلقاً مستمراً {أنفسهم} أي خاصة {يظلمون *} أي بالبغي والكفر، فضيقنا عليهم معاملة بالعدل، وعاملناكم أنتم حيث ظلمتم بالفضل، فاشكروا النعمة واحذروا غوائل النقمة.
ولما بين هذه النعمة الدنيوية عطف عليها نعمة هي أكبر منها جداً، استجلاباً لكل ظالم، وبين عظمتها بحرف التراخي فقال تعالى: {ثم إن ربك} أي المحسن إليك {للذين عملوا السوء} وهو كل ما من شأنه أن يسوء، وهو ما لا ينبغي فعله {بجهالة} كما عملتم وإن عظم فعلهم وتفاحش جهلهم {ثم تابوا} .
ولما كان سبحانه يقبل اليسير من العمل، أدخل الجار فقال تعالى: {من بعد ذلك} أي الذنب ول كان عظيماً، فاقتصروا على ما أذن(11/271)
فيه خالقهم {وأصلحوا} بالاستمرار على ذلك {إن ربك} أي المحسن إليك بتسهيل دينك وتيسيره. ولما كان إنما يغفر بعد التوبة ما عدا الشرك الواقع بعدها، أدخل الجار فقال تعالى: {من بعدها} أي التوبة وما تقدمها من أعمال السوء {لغفور} أي بليغ الستر لما عملوا من السوء {رحيم *} أي محسن بالإكرام فضلاً ونعمة.(11/272)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
ولما دعاهم إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن مساوئها بقبوله لمن أقبل إليه وإن عظم جرمه، إجابة لدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام في قوله {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 36] أتبع ذلك ذكره ترغيباً في اتباعه في التوحيد والميل مع الأمر والنهي إقداماً وإحجاماً إن كانوا ممن يتبع الحق أو يقلد الآباء، فقال على سبيل التعليل لما قبله: {إن إبراهيم} أي أباكم الأعظم إمام الموحدين {كان أمة} فيه من المنافع الدنيوية والأخروية ما يوجب أن يؤمه ويقصده كل أحد يمكن انتفاعه به {قانتاً} أي مخلصاً {لله} أي الملك الذي له الأمر كله ليس فيه شيء من الهوى {حنيفاً} ميالاً مع الأمر والنهي بنسخ أو بغيره، فكونوا حنفاء أتباعاً للحق،(11/272)
لما قام عليه من الأدلة، واستناناً بأعظم آبائكم.
ولما كان السياق لإثبات الكمال لإبراهيم عليه السلام، وكانت الأوصاف الثبوتية قريبة المأخذ سريعة الوصول إلى الفهم، وأتى بعدها وصف سلبي بجملة، حذف نون {يكن} منها إيجازاً وتقريباً للفهم تخفيفاً عليه وحفظاً له من أن يذهب قبل تمامها إلى غير المراد، وإعلاماً بأن الفعل منفي عنه عليه السلام على أبلغ وجوه النفي لا ينسب إليه شيء منه ولو قل، فقيل: {ولم يك} ولما كانوا مشركين هم وكثير من أسلافهم، قبح عليهم ذلك بأن أعظم من يعتقدون عظمته من آبائهم ليس من ذلك القبيل، فقال تعالى: {من المشركين *} الواقفين مع الهوى، فلا تكونوا منهم؛ ثم بين حاله فقال: {شاكراً} ولما كان لله على من جعله أمة من النعم ما لا يحصى، بين أن ذلك كله قليل في جنب فضله، فقال مشيراً إلى ذلك بجمع القلة وإلى أن الشاكر على القليل يشكر إذا أتاه الكثير من باب الأولى: {لأنعمه} فهو لا يزال يزيده من فضله، فتقبل دعاءه لكم(11/273)
فاشكروا الله اقتداء به ليزيدكم، فكأنه قيل: فما أثابه على ذلك؟ أو علل ما قبل، فقال تعالى: {اجتباه} أي اختاره اختياراً تاماً {وهداه} أي بالبيان الأعظم والتوفيق الأكمل {إلى صراط مستقيم *} وهو الحنيفية السمحة، فكان ممن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، وكان مخالفاً للأبكم الموصوف في المثل السابق؛ ثم قال: {وءاتيناه} أي بما لنا من العظمة {في الدنيا} بلسان الصدق والثناء الجميل الذي ذللنا له ألسنة الخلق {حسنة} ونبه بالتعبير عن المعطي بنون العظمة على جلالته حيث جعله إماماً معظماً لجميع أهل الملل، فجمع القلوب على محبته، وجعل له فيهم لسان صدق، ورزقه في أولاده من النبوة والصلاح والملك والكثرة ما هو مشهور.
ولما كانت عظمة الدنيا لا تعتبر إلا مقرونة بنعمة الآخرة، قال تعالى: {وإنه في الآخرة} وقال تعالى -: {لمن الصالحين *} أي له ما لهم من الثواب العظيم - معبراً ب «من» تعظيماً لمقام الصلاح وترغيباً فيه.
ولما قرر من عظمته في الدنيا والآخرة ما هو داعٍ إلى اتباعه، صرح بالأمر به تنبيهاً على زيادة عظمته بأمر متباعد في الرتبة على سائر النعوت التي أثنى عليه بها، وذلك كونه صار مقتدي لأفضل ولد آدم، مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي الدال على علو رتبته بعلو رتبة من أمر باتباعه فيما مهده مما أمر به من التوحيد والطريق الواضح(11/274)
السهل فقال سبحانه: {ثم أوحينا} أي ثم زدناه تعظيماً وجلالة بأن أوحينا {إليك} وأنت أشرف الخلق، وفسر الإيحاء بقوله عز وجل ترغيباً في تلقي هذا الوحي أحسن التلقي باقتفاء الأب الأعظم: {أن اتبع} أي بغاية جهدك ونهاية همتك.
ولما كان المراد أصل الدين وحسن الاقتضاء فيه بسهولة الانقياد والانسلاخ من كل باطل، والدعوة بالرفق مع الصبر، وتكرير الإيراد للدلائل وكل ما يدعوا إليه العقل الصرف والفطرة السليمة، عبر بالملة فقال تعالى: {ملة إبراهيم} ولا بعد في أن يفهم ذلك الهجرة أيضاً.
ولما كانت الحنيفية أشرف أخلاق إبراهيم عليه السلام، فكانت مقصودة بالذات، صرح بها فقال تعالى: {حنيفاً} أي الحال كونك أو كونه شديد الانجذاب مع الدليل الحق؛ ورغب العرب في التوحيد ونفرهم من الشرك بقوله تعالى: {وما كان} أي بوجه من الوجوه {من المشركين *} ولما دعا سبحانه فيها إلى معالي الشيم وعدم الاعتراض، وختم بالأمر بالملة الحنيفية التي هي سهولة الانقياد للدليل، وعدم الكون مع الجامدين، اقتداء بالأب(11/275)
الأعظم، وكان الخلاف والعسر مخالفاً لملته، فكان لا يجر إلى خير، وكان من المعلوم أن كل حكم حدث بعده ليس من ملته، وكان اليهود يزعمون جهلاً أنه كان على دينهم، وكان السبت من أعظم شعائرهم، أنتج ذلك قوله تعالى جواباً لمن قد يدعي من اليهود أنه كان على دينهم، وتحذيراً من العقوبة على الاختلاف في الحق بالتشديد في الأمر. {إنما جعل} أي بجعل من لا أمر لغيره {السبت} أي تحريمه واحترامه أو وباله {على الذين اختلفوا فيه} حين أمرهم نبيهم بالجمعة فقبل ذلك بعضهم وأراد السبت آخرون، فبدلوا بالجمعة السبت. وشدد عليهم في أمره انتقاماً منهم بما تفهمه التعدية ب «على» فكان ذلك وبالاً عليهم، وفي ذلك تذكير بنعمة التيسير علينا؛ قال البغوي؛ قال الكلبي: أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة فقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً، فاعبدوه يوم الجمعة، ولا تعملوا فيه عملاً لصنعتكم، وستة أيام لصناعتكم، فأبوا إلا شرذمة منهم وقالوا:(11/276)
لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت، فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه، ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، فأخذوا الأحد، فأعطى الله الجمعة هذه الأمة فقبلوها وبورك لهم فيها.
وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرني معمر أخبرني من سمع مجاهداً يقول في قوله تعالى {إنما جعل السبت} فقال: ردوا الجمعة وأخذوا السبت مكانه. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له. فهم لنا فيه تبع، فاليهود غداً والنصارى بعد غد» .
ولما كان الإشراك واضحاً في أمر النصارى، استغنى بنفيه عنه عن التصريح بأنه ليس على دينهم؛ ثم حذر من الاختلاف مثبتاً أمر البعث فقال تعالى: {وإن ربك} أي المحسن إليك بطواعية أصحابك لك {ليحكم بينهم} أي هؤلاء المختلفين {فيه يختلفون *} من قبول الجمعة وردها، ومن الإذعان لتحريم الصيد وإبائه وغير ذلك، فيجازى كل فريق منهم بما يستحقه. {يوم القيامة} واجتماع جميع(11/277)
الخلائق {فيما كانوا} أي بجبلاتهم {فيه يختلفون *} من قبول الجمعة وردها، ومن الإذعان لتحريم الصيد وإبائه وغير ذلك، فيجازى كل فريق منهم بما يستحقه.(11/278)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
ولما قدم سبحانه في هذه السورة حكاية كثير من استهزائهم بوعده ووعيده، وتكذيبهم لرسله على أبشع وجه، والتفتير عن حرقة الحرص عليهم، المفضي إلى شدة التأسف على ضلالهم وغير ذلك مما ربما أيأس منهم فأقعد عن دعائهم، وأتبعه ضرب الأمثال، ونصب الجدال - على تلك المناهيج المعجزة بما يسبق من ظواهرها إلى الفهم عند قرع السمع من المعاني الجليلة، والمقاصد الجميلة - لعامة الخلق ما يجل عن الوصف، وإذا تأملها الخواص وجدوا فيها من دقائق الحقائق، ومشارع الرقائق، ومحكم الدلائل، ومتقن المقاصد والوسائل، ما يوضح - بتفاوت الأفهام وتباين الأفكار - أنه بحر لا ساحل له ولا قرار، ولا منتهى لما تستخرج منه الأنظار، وختم باتباع الأب الأعظم، لما كان ذلك، وأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو السميع المطيع أن يستن بآثاره، ويقتدي بإضماره وإظهاره، فسر(11/278)
له تلك الملة التي أمره باتباعها فقال تعالى: {ادع} أي كل من تمكن دعوته {إلى سبيل ربك} أي المحسن إليك، بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه، وهو الإسلام الذي هو الملة الحنيفية {بالحكمة} وهي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد، وقيل لها حكمة لأنها بمنزلة المانع من الفساد وما لا ينبغي أن يختار، فالحكيم هو العالم بما يمنع من الفساد - قاله الرماني، وهي في الحقيقة الحق الصريح، فمن كان أهلاً له دعا به {والموعظة} بضرب الأمثال والوعد والوعيد مع خلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة {الحسنة} أي التي يسهل على كل فهم ظاهرها، ويروق كل نحرير ما ضمنته سرائرها، مع اللين في مقصودها وتأديتها هذا لمن لا يحتمل إلا ذلك {وجادلهم} أي الذين يحتملون ذلك منهم افتلهم عن مذاهبهم الباطلة إلى مذهبك الحق بطريق الحجاج {بالتي هي أحسن} من الطرق بالترفق واللين والوقار والسكينة، ولا تعرض عنهم(11/279)
يأساً منهم، ولا تجازهم بسيىء مقالهم وقبيح فعالهم صفحاً عنهم ورفقاً بهم، فهو بيان لأصناف الدعوة بحسب عقول المدعوين، لأن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وقيل: الدعوة إن كانت لتقرير الدين وتثبيت الاعتقاد في قلوب أهله - وهي مع ذلك يقينية مطهرة عن احتمال نقيض - فهي الحكمة وهي لطالب الحق المذعن إن كان مستعداً للقبول بفكره الثاقب، وإن كانت مقارنة لاحتمال النقيض مفيدة للظن والإقناع فهي الموعظة وهي للمذعن الذي لا استعداد له، وإن كانت لإلزام الجاحدين وإفحام المعاندين فهي المجادلة، فإن كانت مركبة من مقدمات مسلمة عند الجمهور أو عند الخصم فقط فهي الحسنة، وإن كانت من مقدمات كاذبة غير مسلمة يراد ترويجها بالحيل الباطلة والطرق الفاسدة فهي السيئة التي لا تليق بمنصف؛ ثم علل الملازمة لدعائهم على هذا الوجه بقوله تعالى: {إن ربك} أي المحسن إليك بالتخفيف عنك {هو} أي وحده {أعلم} أي من كل من يتوهم فيه علم {بمن ضل عن سبيله} فكان في أدنى درجات الضلال - وهو أعلم بالضالين الراسخين في الجور عن الطريق -(11/280)
فلا انفكاك له عن الضلال، وهو أعلم بمن اهتدى لسبيله فكان في أدنى درجات الهداية {وهو} أي خاصة {أعلم بالمهتدين *} أي الذين هم في النهاية منها، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً «من ضل» دليلاً على حذف ضده ثانياً، و {المهتدين} ثانياً دليلاً على حذف ضدهم أولاً.
وأما أنت فلا علم لك بشيء من ذلك إلا بإعلامنا، وقد ألزمناك البلاغ المبين، فلا تفتر عنه معرضاً عن الحرص المهلك واليأس فإنه ليس عليك هداهم.
ولما بين أمر الدعوة وأوضح طرقها وقدم أمر الهجرة والإكراه في الدين والفتن فيه المشير إلى ما سبب ذلك من المحن والبلاء من الكفار ظلماً، وختم ذلك بالأمر بالرفق بهم، عم - بعد ما خصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم به من الأمر بالرفق، بالأمر لأشياعه بالعدل والإحسان كما تقدم ولو مع أعدى الأعداء، والنهي عن مجازاتهم إلا على وجه العدل - فقال تعالى: {وإن عاقبتم} أي كانت لكم عاقبة عليهم تتمكنون فيها من أذاهم {فعاقبوا بمثل ما}(11/281)
ولما كان الأمر عاماً في كل فعل من المعاقبة من أيّ فاعل كان فلم يتعلق بتعيين الفاعل غرض، بنى للمفعول قوله تعالى: {عوقبتم به} وفي ذلك إشارة - على ما جرت به عوائد الملوك في كلامهم - إلى إدالتهم عليهم وإسلامهم في يديهم، وجعله بأداة الشك إقامة بين الخوف والرجاء.
ولما أباح لهم درجة العدل، رقاهم إلى رتبة الإحسان بقوله تعالى: {ولئن صبرتم} بالعفو عنهم {لهو} أي الصبر {خير للصابرين *} وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف.
ولما كان التقدير: فاصبروا، عطف عليه إفراداً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالأمر، إجلالاً له وتسلية فيما كان سبب نزول الآية من التمثيل بعمه حمزه رضي الله عنه، وتنويهاً بعظم مقام الصبر زيادة في حث الأمة، لأن أمر الرئيس أدعى لامتثال أتباعه، فقال تعالى: {واصبر} ثم اتبع ذلك بما يحث على دوام الالتجاء إليه المنتج للمراقبة والفناء عن الأغيار ثم الفناء عن الفناء، لئلا يتوهم أن لأحد فعلاً مستقلاً فقال تعالى: {وما صبرك} أي أيها الرسول(11/282)
الأعظم! {إلا بالله} أي الملك الأعظم الذي شرع لك هذا الشرع الأقوم وأنت قائم في نصره، ولقد قابل هذا الأمر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأعلى مقامات الصبر، وذلك أنهم مثلوا بقتلى المسلمين في غزوة أحد إلا حنظلة الغسيل رضي الله عنه فإن أباه كان معهم فتركوه له، فلما وقف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على عمه حمزة رضي الله عنه فوجدهم قد جدعوا أنفه وقطعوا أذنيه وجبوا مذاكيره وبقروا بطنه، نظر إلى شيء لم ينظر قط إلى أوجع لقلبه منه فقال:
«رحمة الله عليك، فإنك كنت فعالاً للخير وصولاً للرحم، ولولا أن تحزن صفيه لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى، أما والله! لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم» ، وقال الصحابة رضي الله عنهم: لنزيدن على صنيعهم، فلما نزلت الآية بادر صلى الله عليه وعلى آله وسلم الامتثال، وكان لا يخطب خطبة إلا نهى عن المثلة، وأحسن يوم الفتح بأن نهى عن قتالهم بعد أن صاروا في قبضته - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً.(11/283)
ولما كان - بعد توطين النفس على الصبر وتفريغ القلب من الأحنة - يرجع إلى الأسف على إهلاكهم أنفسهم بتماديهم على العتو على الله تعالى، قال سبحانه: {ولا تحزن عليهم} أي في شدة كفرهم فتبالغ في الحرص الباخع للنفس.
ولما كان سبحانه في مقام التبشير، بالمحل الكبير والموطن الخطير، الذي ما حازه قبل نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشير ولا نذير، وذلك هو الإسراء إلى الملكوت الأعلى، والمقام الأسمى من السماوات العلى، في حضرات القدس، ومحال الأنس، ووطأ لذلك في سورة النعم بمقامات الكرم إلى أن قارب الوصول إليه، أوجز في العبارة بحذف حرف مستغنى عنه دلالة عليه فقال: {ولا تك} بحذف النون أشارة إلى ضيق الحالة عن أدنى إطالة:
وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديار
وهذا بخلاف ما يأتي في سورة النمل إن شاء الله تعالى {في ضيق} ولو قل - كما لوح إليه تنوين التحقير بما يشير إليه حذف النون، فإن أذى الكفار الذي السياق للتسلية عنه لا يضرك في المقصود الذي بعثت لأجله، وهو إظهار الدين وقمع المفسدين بوجه من الوجوه {مما يمكرون *} أي من استمرار مكرهم بك {واعبد ربك حتى(11/284)
يأتيك اليقين} وكأنك به، وقد أتى فاصبر فإن الله تعالى معزك ومظهر دينك وإن كرهوا؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي الجامع لصفات الكمال بلطفه وعونه {مع الذين اتقوا} أي وجد منهم الخوف من الله تعالى، فكانوا في أول منازل التقوى، وهو مع المتقين الذين كانوا في النهاية منها، فعدلوا في أفعالهم من التوحيد وغيره عملاً بأمر الله في الكتاب الذي هو تبيان لكل شيء، وهو مع الذين أحسنوا وكانوا في أول درجات الإحسان {والذين هم} أي بضمائرهم وظواهرهم {محسنون *} أي صار الإحسان صفة لهم غير منفكة عنهم، فهم في حضرات الرحمن، وأنت رأس المتقين المحسنين، فالله معك، ومن كان الله معه كان غالباً، وصفقته رابحة، وحالته صالحة، وأمره عال، وضده في أسوإ الأحوال، فلا تستعجلوا قلقاً كما استعجل الكفار استهزاء، تخلقاً في التأني والحلم بصفة من تنزه عن نقص الاستعجال، وتعالى عن ادعاء الأكفاء والأمثال، فقد عانق آخرها أولها، ووافق مقطعها، وآخرها احتباك: ذكر {الذين اتقوا} أولاً دليلاً على حذف {الذين أحسنوا} ثانياً، {والمحسنين} ثانياً دليلاً على حذف المتقين أولاً - والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.(11/285)
سورة الإسراء
وتسمى سبحان وبني إسرائيل
المقصود بها الإقبال على اله وحده، وخلع كل ما سواه، لأنه وحده المالك لتفاصيل الأمور، وتفضيل بعض الخلق على بعض، وذلك هو العمل بالتقوى التي أدناها التوحيد الذي افتتحت به النحل، وأعلاها الإحسان الذي اختتمت به، وهو الفناء عما سوى الله، وهي من أوائل ما أنزل، روى البخاري في فضائل القرآن وغيره عن ابن مسعود رض الله عنه قال: بنو إسائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي.
وكل من أسمائها واضح الدلالة على ما ذكر أنه مقصودها، أما (سبحان) ، الذي هو علم للتنزيه فمن أظهر ما يكون فيه، لأن من كان على غاية النزاهة عن كل نقص، كان جديراً بأن لا نعبد إلا إياه، وأن نعرض عن كل ما سواه، لكونه متصفاً بما ذكر، وأما بنو إسرائيل فمن أحاط أيضاً بتفاصيل(11/286)
أمرهم في سيرهم إلى الأرض المقدسة الذي هو كالإسراء وإيتائهم الكتاب وما ذكر مع ذلك من أمرهم في هذه السورة عرف ذلك) باسم الله (الملك المالك لجميع الأمر) الرحمن (لكل ما أوجده بما رباه) الرحيم (لمن خصه بالتزام العمل بما يرضاه.(11/287)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
لما كان مقصود النحل التنزه عن الاستعجال وغيره من صفات النقص، والاتصاف بالكمال المنتج لأنه قادر على الأمور الهائلة ومنها جعل الساعة كلمح البصر أو أقرب، وختمها بعد تفضيل إبراهيم عليه السلام والأمر باتباعه بالإشارة إلى نصر أوليائه - مع ضعفهم في ذلك الزمان وقلتهم - على أعدائه على كثرتهم وقوتهم، وكان ذلك من خوارق العادات ونواقص المطردات، وأمرهم بالتأني والإحسان، افتتح هذه بتحقيق ما أشار الختم إليه بما خرقه من العادة في الإسراء، وتنزيه نفسه الشريفة من توهم استبعاد ذلك، تنبيهاً على أنه قادر على أن يفعل الأمور العظيمة الكثيرة الشاقة في أسرع وقت، دفعاً لما قد يتوهم أو يتعنت به من يسمع نهيه عن الاستعجال وأمره بالصبر، وبياناً(11/287)
لأنه مع المتقي المحسن، وتنويهاً بأمر محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإعلاماً بأنه رأس المحسنين وأعلاهم رتبة وأعظمهم منزلة، بما آتاه من الخصائص التي منها المقام المحمود، وتمثيلاً لما أخبر به من أمر الساعة فقال تعالى: {سبحان} وهو علم للتنزيه، دال على أبلغ ما يكون من معناه، منصوب بفعل متروك إظهاره، فسد مسده {الذي أسرى} فنزه نفسه الشريفة عن كل شائبة نقص يمكن أن يضفيها إليه أعداؤه بهذا اللفظ الأبلغ عقب الأمر بالتأني آخر النحل. كما نزه نفسه الشريفة بذلك اللفظ عقب النهي عن الاستعجال في أولها، وهو راد لما علم من ردهم عليه وتكذيبهم له إذا حدثهم عن الإسراء، وفيه مع ذلك إيماء إلى التعجيب من هذه القصة للتنبيه على أنها من الأمور البالغة في العظمة إلى حد لا يمكن استيفاء وصفه.
ولما كان حرف الجر مقصوراً على إفادة التعدية في «سرى» الذي بمعنى أسرى وكان أسرى يستعمل متعدياً وقاصراً عبر به، واختير القاصر للدلالة على المصاحبة زيادة في التشريف فقال تعالى: {بعبده} أي الذي هو أشرف عباده وأحقهم بالإضافة إليه الذي لم يتعبد قط لسواه من صنم ولا غيره لرجاء شفاعة ولا غيرها.
ولما كان الإسراء هو السير في الليل، وكان الشيء قد يطلق على جزء معناه بدلالة التضمن مجازاً مرسلاً، نفي هذا بقوله تعالى: {ليلاً}(11/288)
وليدل بتنوين التحقير على أن هذا الأمر الجليل كان في جزء يسير من الليل، وعلى أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج - في الإسراء والعروج إلى سدرة المنتهى وسماع الكلام من العلي الأعلى - إلى رياضة بصيام ولا غيره، بل كان مهيئاً لذلك متأهلاً له، فأقامه تعالى من الفرش إلى العرش {من المسجد الحرام} أي من الكعبة المشرفة مسجد إبراهيم عليه السلام، قيل: كان نائماً في الحطيم، وقيل: في الحجر، وقيل: في بيت أم هانىء - وهو قول الجمهور، فالمراد بالمسجد حينئذ الحرم لأنه فناء المسجد {إلى المسجد الأقصى} أي الذي هو أبعد المساجد حينئذ وأبعد المسجدين الأعظمين مطلقاً من مكة المشرفة، بينهما أربعون ليلة، فصلى بالأنبياء كلهم: إبراهيم وموسى ومن سواهما - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام، ورأى من آياتنا ما قدرناه له، ورجع إلى بين أظهركم إلى المسجد الأقرب منكم في ذلك الجزء اليسير من الليل وأنتم تضربون أكباد الإبل في هذه المسافة شهراً ذهاباً وشهراً(11/289)
إياباً، ثم وصفه بما يقتضي تعظيمه وأنه أهل للقصد فقال تعالى: {الذي باركنا} أي بما لنا من العظمة، بالمياه والأشجار وبأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة وموطن العبادات ومعدن الفواكه والأرزاق والبركات {حوله} أي لأجله فما ظنك به نفسه! فهو أبلغ من «باركنا فيه» ثم منه إلى السماوات العلى إلى سدرة المنتهى إلى ما لم ينله بشر غيره صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً؛ ولعله حذف ذكر المعراج من القرآن هنا لقصور فهومهم عن إدراك أدلته لو أنكروه بخلاف الإسراء، فإنه أقام دليله عليهم بما شاهدوه من الأمارات التي وصفها لهم وهم قاطعون بأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يرها قبل ذلك، فلما بان صدقه بما ذكر من الأمارات أخبر بعد ذلك من أراد الله بالمعراج؛ ثم ذكر سبحانه الغرض من الإسراء بما يزيد في تعظيم المسجد فقال: {لنريه} بعينه وقلبه {من ءاياتنا} السماوية والأرضية كما أرينا أباه الخليل عليه السلام ملكوت السماوات والأرض، وجعل الالتفات(11/290)
لتعظيم الآيات والبركات؛ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن فقال جبرئيل عليه السلام: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك.
وعن
جابر
رضي
الله
عنه
سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» .
ولما كان المعول عليه غالباً في إدراك الآيات حس السمع والبصر، وكان تمام الانتفاع بذلك إنما هو بالعلم، وكان سبحانه قد خص هذا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كمال الحس مما يعد معه حس غيره عدماً، عبر عن ذلك كله بقوله تعالى: {إنه} أي هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء {هو} أي خاصة {السميع} أي أذناً وقلباً بالإجابة لنا والإذعان لأوامرنا {البصير *} بصراً وبصيرة بدليل ما أخبر به من الآيات، وصدقه من الدلالات، حين نعت(11/291)
ما سألوه عنه من بيت المقدس ومن أمر عيرهم وغيرهما مما هو مشهور في قصة الإسراء مما كان يراه وهو ينعت لهم وهم لا يرونه ولا يقاربون ذلك ولا يطمعون فيه، وقال من كان دخل منهم إلى بيت المقدس: أما النعت والله فقد أصاب، أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها، وأحوالها وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق، فخرجوا ذلك اليوم نحو الثنية يشتدون، فقال قائل: هذه والله الشمس قد طلعت، فقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت، يقدمها جمل أورق كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا وقالوا: إن هذا إلا سحر مبين.
قال الإمام الرازي في اللوامع: وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبصر جميع ما في الملكوت بالعين المبصرة مشاهدة لم يسترب فيه حتى روي أنه قال: «رأيت ليلة أسري بي إلى العلى الذرة تدب على وجه الأرض من سدرة المنتهى» وذلك لحدة بصره، والبصر على أقسام: بصر الروح، وبصر العقل الذي منه التوحيد، وبصر القربة الذي خص به الأولياء وهو نور الفراسة، وبصر النبوة، وبصر الرسالة. وهذه الأبصار كلها مجموعة لرسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً، وله زيادة بصر قيادة الرسل وسيادتهم، فإنه سيد المرسلين وقائدهم،(11/292)
وكان مطلعاً على الملك والملكوت كما قال: زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها - انتهى. وهذا الأخير رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها» وكان يبصر من ورائه كما يبصر من أمامه - كما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه، وفي كثير من طرقه عدم التقييد بالصلاة، وهذا صريح في أن بصره لم يكن متقيداً بالعين، بل خلق الله تعالى الأبصار في جميع أعضائه وكذا السمع، فإن كون العين محلاً لذلك وكذا الأذن إنما هو بجعل الله، ولو جعل ذلك في غيرهما لكان كما يريد سبحانه ولا مانع، ولم يكن الظلام يمنعه من نفود البصر ففي مسند أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فقدت رحلي ليلة فمررت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يشد لعائشة(11/293)
رضي الله عنها، فقال: ما لك يا جابر؟ فقلت: فقدت جملي أو ذهب في ليلة ظلماء، فقال لي: هذا جملك، اذهب فخذه، فذهبت نحو ما قال لي، فلم أجده فرجعت إليه فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! ما وجدته، فقال لي: على رسلك، حتى إذا فرغ أخذ بيدي فانطلق حتى أتينا الجمل فدفعه إليّ، قال: هذا جملك - الحديث. وروى البيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرى بالليل في الظلمة كمل يرى بالنهار في الضوء، وروي مثل ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وقال القاضي عياض في الشفا: حكى بقي بن مخلد عن عائشة رضي الله عنها قالت، كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، وأسند عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: لما تجلى الله لموسى عليه الصلاة والسلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ.
وجوز أن يكون اختصاص نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك بعد الإسراء - انتهى. وقد أخرج حديث(11/294)
أبي هريرة هذا الحافظ نور الدين الهيثمي في زوائد المعجمين: الأوسط والأصغر للطبراني، ولعل هذا من مناسبة تعقيب هذه الآية بذكر موسى عليه السلام.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم قوله {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً} إلى قوله تعالى {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً} الآية، كان ظاهر ذلك تفضيل إبراهيم عليه السلام على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلى جميع الأنبياء لا سيما مع الأمر بالاتباع، فأعقب ذلك بسورة الإسراء، وقد تضمنت من خصائص نبيناً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وانطوت على ما حصل منه المنصوص في الصحيح والمقطوع به والمجمع عليه من أنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم - سيد ولد آدم، فاستفتحت السورة بقصة الإسراء وقد تضمنت - حسبما وقع في صحيح مسلم وغيره - إقامته بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفيهم إبراهيم وموسى وغيرهما من الأنبياء من غير استثناء، هذه رواية ثابت عن أنس رضي الله عنه، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه - صلى الله(11/295)
عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً - أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيراً ونذيراً، وأنزل عليّ القرآن فيه تبيان كل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطاً وجعل أمتي هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحاً وخاتماً، فقال إبراهيم عليه السلام: بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه من طريق الربيع بن أنس وذكر سدرة المنتهى وأنه تبارك وتعالى قال له: سل! فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلاً، وأعطيته ملكاً عظيماً، وكلمت موسى تكليماً، وأعطيت داود ملكاً عظيماً، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكاً عظيماً، وسخرت له الجن والإنس والشياطين والرياح، وأعطيته ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل، فقال له ربه تبارك وتعالى: قد اتخذتك حبيباً فهو مكتوب في التوراة - «(11/296)
محمد حبيب الرحمن» وأرسلتك إلى الناس كافة، وجعلت أمتك هم الأولون والآخرون.
وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلتك أول النبيين خلقاً وآخرهم بعثاً، وأعطيتك سبعاً من المثاني ولم أعطها نبياً قبلك، وأعطيتك خواتم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبياً قبلك، وجعلتك فاتحاً وخاتماً. وفي حديث شريك أنه رأى موسى عليه السلام في السماء السابعة قال: بتفضيل كلام الله، قال: ثم علا به فوق ذلك ما لا يعلمه إلا الله، فقال موسى: لم أظن أن يرفع عليّ أحد. وفي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرجه البزار «في ذكر تعليمه عليه الصلاة والسلام الأذان وخروج الملك فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يا جبريل! من هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق! إني لأقرب الخلق مكاناً، وإن هذا الملك(11/297)
ما رأيته قط منذ خلقت قبل ساعتي هذه. وفيه: ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقدمه، فأم بأهل السماء فيهم آدم ونوح» ، وفي هذا الحديث قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين راويه: فيومئذ أكمل الله لمحمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم - الشرف على أهل السماوات والأرض؛ قال ابن الزبير: وقد حصل منه تفضيله صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً - بالإسراء وخصوصه بذلك، ثم قد انطوت السورة على ذكر المقام المحمود، وهو مقامه في الشفاعة الكبرى، وذلك مما خص به حسبما ثبت في الصحيح وانعقد عليه إجماع أهل السنة، ولا أعلم في الكتاب العزيز سورة تضمنت من خصائصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً - الذي فضل به كافة الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام مثل ما تضمنت هذه والحمد لله - انتهى.
ولما ثبت بهذه الخارقة ما أخبر به عن نفسه المقدسة من عظيم القدرة على كل ما يريد، وما حباه صلى الله عليه وعلى آله وسلم به من الآيات البينات في هذا الوقت اليسير، أتبعه ما منح في المسير من مصر إلى الأرض المقدسة من الآيات في مدد طوال جداً موسى عليه السلام الذي كان أعظم الأنبياء بركة على هذه الأمة ليلة الإسراء(11/298)
لما أرشد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليه من مراجعة الله تعالى في تخفيف الصلاة حتى رجعت من خمسين إلى خمس مع أجر خمسين، والذي كان أنهى العروج به إذ ناجاه الله وقربه رأس جبل الطور بعد الأمر بالرياضة بالصوم والتخلي أربعين يوماً، والذي تقدم في آخر النحل أن قومه اختلفوا عليه في السبت، تنفيراً من مثل حالهم، وتسلية عمن تبعهم في تكذيبهم وضلالهم، وذلك في سياق محذر للمكذبين عظائم البلاء، فقال تعالى - عاطفاً على ما تقديره، فآتينا عبدنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم الكتاب المفصل المعجز، وجعلناه هدى للخلق كافة، وتولينا حفظه فكان آية باقية حافظاً لدينه دائماً: {وءاتينا} أي بعظمتنا {موسى الكتاب} أي الجامع لخيري الدارين لتقواه وإحسانه، معظماً له بنون العظمة، فساوى بين النبيين في تعظيم الإراءة والإيتاء وخص محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإضافة آياته إلى مظهر العظمة، وكان إيتاء موسى عليه السلام الكتاب في نيف وأربعين سنة بعد أن أخرج معه بني أسرائيل من حبائل فرعون وجنوده الذين كانوا لا يحصون كثرة بتلك الآيات الهائلة التي لا يشك عاقل أن من قدر عليها لا يمتنع عليه شيء أراده، وفي هذه المدة الطويلة -(11/299)
بل بزيادة - كان وصول بني إسرائيل من مصر إلى هذا المسجد الذي أوصلنا عبدنا إليه ورددناه إليكم في بعض ليلة راكباً البراق الذي كان يركبه الأنبياء قبله، يضع حافره في منتهى طرفه، وبنو إسرائيل كانوا يسيرون جميع النهار مجتهدين ثم يبيتون في الموضع الذي أدلجوه منه في التيه لا يقدرون أن يجوزوه أربعين سنة - على ما قال كثير من العلماء، أو أنهم كانوا في هذه المدة يدورون حول جبل أدوم كما في التوراة، فثبت أنا إنما نفعل بالاختيار على حسب ما نراه من الحكم، ثم ذكره ثمرة كتاب موسى عليه السلام فقال تعالى: {وجعلناه} أي الكتاب، بما لنا من العظمة {هدى} .
ولما كان هذا التنوين يمكن أن يكون للتعظيم يستغرق الهدى، بين الحال بقوله: {لبني إسرائيل} بالحمل على العدل في التوحيد والأحكام، وأسرينا بموسى عليه السلام وبقومه من مصر إلى بلاد المسجد الأقصى، فأقاموا سائرين إليها أربعين سنة ولم يصلوا، ومات كل من خرج منهم من مصر إلا «النقيبين الموفيين» بالعهد، فقد بان الفصل(11/300)
بين الإسرائين كما بان الفصل بين الكتابين، فذكر الإسراء أولاً دليل على حذف مثله لموسى عليه السلام ثانياً، وذكر إيتاء الكتاب ثانياً دليل على حذف مثله أولاً، فالآية من الاحتباك؛ ثم نبه على أن المراد من ذلك كله التوحيد اعتقاداً وعبادة بقوله تعالى: {ألا} أي لئلا {تتخذوا} بالياء التحتية في قراءة أبي عمرو، وبالفوقانية في قراءة الباقين، فنبه بصيغة الافتعال على أنه - لكثرة ما على وحدانيته من الدلائل، وله إلى خلقه من المزايا والفضائل - لا يعدل عنه إلى غيره إلا بتكلف عظيم من النفس، ومنازعة بين الهوى والعقل وما فطر سبحانه عليه النفوس من الانقياد إليه والإقبال عليه، ونفر من له همة علية ونفس أبية من الشرك بقوله منبهاً بالجار على تكاثر الرتب دون رتبة عظمته سبحانه وعد الاستغراق لها، تاركاً نون العظمة للتنصيص على المراد من دون لبس بوجه: {من دوني} وقال تعالى: {وكيلاً *} أي رباً يكلون أمورهم إليه ويعتمدون عليه من صنم ولا غيره، لتقريب إليه بشفاعة ولا غيرها - منبهاً بذكر الوكالة على سفه آرائهم في(11/301)
ترك من يكفي في كل شيء إلى من لا كفاية عنده لشيء، ثم أتبعه ما يدل على شرفهم بشرف أبيهم، وأنه لم ينفعهم إدلاءهم إليه - عند إرادة الانتقام - بما ارتكبوا من الإجرام، فقال - منبهاً على الاهتمام بالتوحيد والأمر بالإخلاص بالعود إلى مظهر العظمة حيث لا لبس، ناصباً على الاختصاص في قراءة أبي عمرو، وعلى النداء عند الباقين، تذكيراً بنعمة الإيحاء من الغرق: {ذرية من حملنا} أي في السفينة بعظمتنا، على ظهر ذلك الماء الذي طبق ما تحت أديم السماء، ونبه على شرفهم وتمام نعمتهم بقوله تعالى: {مع نوح} أي من أولاده وأولادهم الذين أشرفهم إبراهيم الذي كان شاكراً ثم إسرائيل عليهما السلام، لأن الصحيح أن من كان معه من غيرهم ماتوا ولم يعقبوا، ولم يقل: ذرية نوح، ليعلم أنهم عقب أولاده المؤمنين لتكون تلك منة أخرى؛ ثم نبه على تقواه وإحسانه حثاً على الاقتداء به بقوله: {إنه كان} أي كوناً جبلياً {عبداً شكوراً *} أي مبالغاً في الشكر الذي هو صرف جميع ما أنعم الله به فيما خلقه له فأحسن إليه لشكره بأن(11/302)
جعل في ذريته النبوة والكتاب كما فعل بإبراهيم عليه السلام لأنه كان شاكراً، فاقتدوا بهذين الأبوين العظيمين في الشكر يزدكم، ولا تقلدوا غيرهما في الكفر يعذبكم، وخص نوحاً عليه السلام لأنه ما أملى لأحد ما أملى لقومه ولا أمهل أحداً ما أمهلهم، ثم أهلكهم أجمعين كما أومأ إليه قوله {حملنا} إهلاك نفس واحدة، ثم أذهب الماء بعد إغراقهم بالتدريج في مدة طويلة، فثبت أنه منزه عن العجلة، وأنه سبحانه تارة يفعل الأمور الكثيرة الشاقة في أسرع وقت، وترة يعمل ما هو دونها في أزمان طوال، فبان كالشمس أنه إنما يفعل على حسب ما يريد مما تقتضيه حكمته؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مما ذلك؟ يجمع الله الناس: الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم(11/303)
البصر، وتدنو الشمس، فبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فذكر حديث الشفاعة العظمى وإتيانهم الأنبياء آدم وبعده أولي العزم عليهم الصلاة والسلام، وأنهم يقولون لنوح عليه السلام: وقد سماك الله عبداً شكوراً، وكلهم يتبرأ ويحيل على من بعده إلى أن وصل الأمر نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع! فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي(11/304)
نفسي بيده! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى ثم أتبع ذلك ما يدل على شرف كتاب موسى وصحة نسبته إليه تعالى بما يقتضي شمول العلم وتمام القدرة بما كشف عنه الزمان من صدق إخباره، وفظاظة وعيده وإنذاره، تنبيهاً على أن من كذب بكتابه أهلكه كائناً من كان وإن طال إمهاله، فلا تغتروا بحلمه لأن الملوك لا تقر على أمر يقدح في ملكها، فقال تعالى: {وقضينا} أي بعظمتنا بالوحي المقطوع به، منزلين ومنهين {إلى بني إسرائيل} أي عبدنا يعقوب عليه السلام الذي كان أطوع أهل زمانه لنا {في الكتاب} الذي أوصلناه إليهم على لسان موسى عليه السلام {لتفسدن} أكد بالدلالة على القسم باللام لأنه يستبعد الإفساد مع الكتاب المرشد {في الأرض} أي المقدسة التي كأنها لشرفها هي الأرض بما يغضب الله {مرتين ولتعلن} أي بما صرتم إليه من البطر لنسيان المنعم {علواً كبيراً *} بالظلم والتمرد، ولا ينتقم منكم إلا على حسب ما تقتضيه حكمتنا في الوقت الذي نريد بعد إمهال طويل؛ والقضاء: فصل الأمر على إحكام {فإذا جاء وعد أولاهما}(11/305)
أي وقته الذي حددناه له للانتقام فيه {بعثنا} أي بعظمتنا؛ ونبه على أنهم أعداء بقوله: {عليكم} ونبه على عظمته، قدرته وسعة ملكه بقوله تعالى: {عباداً لنا} أي لا يدان لكم بهم لما وهبنا لهم من عظمتنا {أولي بأس} أي عذاب وشدة في الحرب شديدة {شديد فجاسوا} أي ترددوا مع الظلم والعسف وشديد السطوة؛ والجوس: طلب الشيء باستقصاء {خلال} أي بين {الديار} الملزوم لقهر أهلها وسفولهم بعد ذلك العلو الكبير؛ والخلال: انفراج ما بين الشيئين وأكثر لضرب من الوهن {وكان} أي ذلك البعث ووعد العقاب به {وعداً مفعولاً *} أي لا شك في وقوعه ولا بد أن يفعل لأنه لا حائل بيننا وبينه، ولا يبدل القول إلا عاجز أو جاهل؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم جالوت وجنوده؛ وعن سعيد بن المسيب أنهم بختنصر وجنوده؛ وعن الحسن: العمالقة؛ وعن سعيد بن جبير: سنجاريب وجنوده؛ قال في السفر الخامس من التوراة(11/306)
إشارة إلى هذه المرة الأولى - والله أعلم: وإن أنتم لم تسمعوا قول الله ربكم لم تحفظوا ولم تعملوا بجميع سننه التي آمركم بها اليوم، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص عليكم كله، ويدرككم العقاب، وتكونوا ملعونين في القرية والسفر وفي الخصر، ويلعن نسلكم وثمار أرضكم، وتكونوا ملعونين إذا دخلتم، وملعونين إذا خرجتم، ينزل بكم الرب البلاء والحشرات، وينزل بكم الضربات الشديدة وبكل شيء تمدون أيديكم إليه لتعملوه حتى يهلككم ويتلفكم سريعاً، من أجل سوء أعمالكم وترككم لعبادتي، يسلط الله عليكم الموت فيهلككم من الأرض التي تدخلونها لترثوها، يضربكم الله بحيران العقل والبهق والبرص، وبالحريق باشتمال النار، وباليرقان والجرب والسموم، ويسلط عليكم هذه الشعوب حتى تهلكوا، وتكون السماء التي فوقكم عليكم شبه النحاس، والأرض التي تحتكم شبه الحديد، ويصير الرب مطر أرضهم غباراً ويكسركم الرب بين يدي أعدائكم، تخرجون إليهم في طريق واحدة وتهربون في سبعة طرق، وتكونون مثلاً وفزعاً لجميع مملكات الأرض،(11/307)
وتكون جيفكم طعاماً لجميع السباع وطيور السماء، ولا يذب أحد عنكم، ويضربكم الرب بالجراحات التي ضرب بها أهل مصر، ويبليكم بالبرص والزحير وبالحكة، ولا يكون لكم شفاء من ذلك، ويضربكم الرب بالعمى والكمه ورعب القلب، وتكونون تجسسون في الظهيرة مثل ما يتجسس العميان، ولا يتم شيء مما تعملون، ولا يكون له تمام، وتكونون مقهورين مظلومين مغصوبين كل أيام حياتكم ولا يكون لكم منقذ، تخطبون المرأة فيتزوجها غيركم، وتبنون بيتاً ويسكنه غيركم، وتغرسون كروماً ولا تعصرون منها، وتذبحون ثيرانكم بين أيديكم ولا تأكلون منها شيئاً، ويؤخذ حمارك ظلماً ولا تقدر أن تخلصه، ويسوق العدو أغنامكم ولا يكون لكم منقذ، ويسبي بنيك وبناتك شعب آخر وتنظر إليهم ولا تقدر لهم على خلاص، وتشقى وتغتم نهارك كله أجمع ولا يكون لك حيلة، وثمار أرضك وكل كدك يأكله شعب لا تعرفه، وتكون مضطهداً مظلوماً طول عمرك،(11/308)
ويضربك الرب بجرح رديء على ركبتيك وساقيك ولا يكون لك، ويسلط عليك الجراحات من قرنك إلى قدمك ويسوقك الرب، ويسوق ملكك الذي ملكته عليك إلى شعب لم يعرفه أبوك، وتعبد هناك آلهة عملت من خشب وحجارة، وتكون مثلاً وعجباً ويفكر فيك كل من يسمع خبرك ثم قال: ويولد لك بنون وبنات ولا يكونون لك بل يسبون، وينطلق بهم مسبيين.
ثم قال: ويسلط الرب عليك شعباً يأتيك وأنت جائع ظمآن، وتخدم أعداءك الذين يسلطهم الله عليك من بعيد من أقصى الأرض، ويسرع إليك مثل طيران النسر شعب لا تعرف لغتهم شعب وجوههم صفيقة لا تستحيي من الشيوخ، ولا ترحم الصبيان، ويضيق عليك في جميع قراك حتى يظفر بسوراتك المشيدة التي تتوكل عليها وتثق بها، وتضطر حتى تأكل لحم ولدك من الحاجة والضيق الذي يضيق عليك عدوك، والرجل المدلل منكم المتلذذ المفيق تنظر عيناه إلى أخيه وحليلته وإلى من بقي من ولده جائعاً ولا يعطيهم من لحم ابنه الذي يأكل، لأنه لا يبقى عنده شيء من الاضطهاد(11/309)
والضيق الذي يضيق عليك عدوك في كل قراك، والمرأة المخدرة المدللة المفيقة التي لم تطأ الأرض قدماها من الدلال تنظر عيناها إلى زوجها وإلى ابنها وبنتها وإلى ولدها التي تلد، وهي تأكلهم، وذلك من الحاجة والفقر وعدم الطعام مما يضيق عليك عدوك ويضطهدك في جميع قراك.(11/310)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
ولما بين سبحانه أنه قادر على إذلال العزيز بعد ضخامة عزه، بين أنه مقتدر على إدالته على من قهره بعد طول ذله إذا نقاه من درنه وهذبه من ذنوبه، فقال تعالى مشيراً بأداة التراخي إلى عظمة هذه الإدالة بخرقها للعوائد: {ثم رددنا} أي بما لنا من العظمة، وعجل لهم البشرى بقوله تعالى: {لكم} أي خاصة {الكرة} أي العودة والعظمة؛ وبين أن ذلك مع السطوة بقوله سبحانه: {عليهم} قال بعض المفسرين: في زمان داود عليه السلام {وأمددناكم} أي أعنَّاكم(11/310)
بعظمتنا {بأموال} تستعينون بها على قتال أعدائكم {وبنين} أي تقوون بهم {وجعلناكم} أي بعظمتنا {أكثر} أي من عدوكم {نفيراً *} أي ناساً ينفرون معكم إذا استنفرتموهم للقتال ونحوه من المهمات، والظاهر أنه ليس المراد بهذه المرة ما كان على يدي داود عليه السلام لأن الله يقول في هذه المرة الثانية {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة} وداود عليه السلام أسس المسجد ولم يكمله، إنما أكمله ابنه سليمان عليهما السلام من بعده، والذي عز من قال ذلك أن بني إسرائيل كانوا قهروا قبل داود عليه السلام من الفلسطينيين وغيرهم، ثم كان خلاصهم على يده عليه السلام - كما مضت الإشارة إليه في سورة البقرة، قال في الزبور في المزمور الثالث عشر: من يعطي صهيون الخلاص لإسرائيل؟ إذا رد الرب سبي شعبه يتهلل يعقوب ويفرح إسرائيل؛ وفي الثالث والأربعين: اللهم! إنا قد سمعنا بآذاننا(11/311)
وأخبرنا آباؤنا بالأعمال التي صنعت في أيامهم الأولى، فلنسبحك يا إلهنا كل يوم، ونشكر اسمك إلى الدهر، الآن أضعفتنا وأقصيتنا، ولم تكن يا رب تصحب جيوشنا، لكن رددتنا على أعقابنا عن أعدائنا، واختطفنا مبغضونا، جعلتنا مأكلة كالغنم، مددتنا بين الشعوب، بعت شعبك بلا ثمن، أقللت كثرة عددهم، صيرتنا عاراً في جيرتنا، هزاً وطنزاً لمن حولنا، صرنا مثلاً في الشعوب، وهزاً للرؤوس في الأمم، حزني بين يديّ النهار كله، الخزي غطى وجهي، من صوت المعير، اللهم! إن هذا كله قد نالنا ولم ننس اسمك، ولا نكثنا عهدك، ولا صرفنا قلوبنا عنك، عدلت بقصدنا عن سبلك، أنزلتنا محال وعرة، غشيتنا بظلال الموت، ولم ننسك يا رب، وقال في المزمور الثامن والسبعين والذي بعده: اللهم! إن الأمم دخلت ميراثك ونجست هيكل قدسك، جعلوا أورشليم خراباً كالمحرس، وصيروا جثث عبيدك(11/312)
طعاماً لطير السماء، ولحوم أصفيائك لوحوش الأرض، سفكوا دماءهم كالماء حول أورشليم وليس لهم دافن، صرنا عاراً في جيراننا، هزءاً وطنزاً لمن حولنا، حتى متى تسخط يا رب، دائماً يشتعل مثل النار غضبك، أفض رجزك على الأمم الذين لا يعرفونك وعلى الملوك الذين لم يدعوا اسمك، فإنهم أكلوا يعقوب وأخربوا دياره، لا تذكر خطايانا الأولى بل تغشانا رأفتك سريعاً، لأنا قد تمسكنا جداً، فكن لنا معيناً يا إلهنا ومخلصنا، ونمجد اسمك يا رب، نجنا واغفر لنا خطايانا لأجل اسمك الكريم، لئلا تقول الأمم: أين إلههم؟ عند ذلك تعلم الشعوب وتنظر عيوننا انتقام دماء عبيدك المسفوكة، وليدخل إليك تنهد الأسارى، وكمثل عظمة ذراعك أنقذ بني المقتولين، جاز جيراننا في حضنهم للواحد سبعة بالعار الذي عيروك يا رب! نحن شعبك وغنم رعيتك، نشكرك إلى الأبد ونخبر بتسابيحك من جيل إلى جيل.
أنصت يا راعي(11/313)
إسرائيل الذي هدى يوسف كالخروف، انظر أيها الجالس على الكروبين استعلن قدام إفرام وبنيامين ومنشا، وأظهر جبروتك وتعال لخلاصنا، اللهم! أقبل وأشرق وجهك علينا وخلصنا، اللهم ربنا القوي! حتى متى تسخط على صلاة عبيدك، وتطعمهم الخبز بدموعهم وتسقيهم الدموع بالكيل، جعلتنا عاراً لجيراننا، واستهزأ بنا أعداؤنا، اللهم رب القوات! أقبل بنا وأشرق وجهك علينا وخلصنا، أنت نقلت الكرمة من مصر، طردت الشعوب وغرستها، سهلت طريقاً أمامها، مكنت أصولها، امتلأت الأرض منها، ظلل الجبال ظلها وأغصانها على أرز الله، كذلك امتدت عروقها إلى البحر وإلى الأنهار فروعها، ثم إنك هدمت سياجها، وقطعها كل عابري السبيل، خنزير الغاب أفسدها، وحيوان الوحش رعتها، اللهم رب القوات! اعطف علينا، واطلع من السماء، وانظر وتعاهد هذه الكرمة، وأصلح الغرس الذي غرسته يمينك وابن الإنسان الذي قويته، ولتهلك الذين أحرقوها بالنار برجزك، ولتكن يدك على رجل يمينك وابن الإنسان الذي(11/314)
اصطفيته لك، لا تبعدنا منك وأنقذنا لنمجد اسمك، اللهم رب القوات! اعطف علينا وأشرق وجهك علينا وخلصنا؛ وفي الرابع والثمانين: رضيت يا رب عن أرضك، ورددت سبي يعقوب، غفرت ذنوب شعبك سترت جميع خطاياهم، سكنت كل رجزك، ورددت شدة غضبك؛ وفي الثامن والثمانين: قدوس إسرائيل ملكنا بالوحي، كلمت نبيك وقلت: إني جعلت عوناً للقوى، رفعت مختاراً من شعبي، ووجدت داود عبدي، مسحته بدهن قدسي، يدي أعانته، وذراعي قوته، عدوه لا يضره، وابن الخطيئة لا يذله، وقطعت أعداءه من بين يديه، ولمغضبيه قهرت، أمانتي ورحمتي معه، وباسمي يرتفع قرنه، جعلت في البحار طريقه، وفي الأنهار يمينه، هو يدعوني: أنت أبي وإلهي ناصري وخلاصي، وأنا أجعله بكراً رفيعاً على جميع ملوك الأرض وأحفظ عليه رحمتي إلى الأبد؛ ثم قال: وأنت رفضت وأقصيت(11/315)
مسيحك، ونقضت عهد عبدك في الأرض، ودنست قدسه، وهدمت جميع سياجه، وكل حصونه أخفت، اختطفه عابرو السبيل، صار عاراً في جيرته، رفعت يمين أعدائه، فرحت جميع مبغضيه، رددت نصرة سيفه، لم تعنه في الحرب، أبطلت شجاعته، طرحت في الأرض كرسيه، صغرت أيام سنيه، صببت حزناً عليه، فحتى متى تسخط يا رب؟ إلى الأبد يتقد مثل النار رجزك، اذكر خلقك لي، فإنك لم تخلق الإنسان باطلاً، من هو الإنسان الذي يعيش ولا يعاين الموت أو ينجي نفسه من الجحيم؟ اللهم! أين رحمتك القديمة التي حلفت بحقك لداود عليه السلام؟ اللهم أعداؤك عيروا آثار مسيحك، تبارك الرب إلى الأبد، يكون يكون؛ وفي الخامس بعد المائة: خلصنا يا إلهنا واجمعنا من الأمم لنشكر اسمك القدوس، ونفتخر بتسبيحك، تبارك(11/316)
الرب إله إسرائيل من الآن وإلى الأبد، يقول جميع الشعب: يكون، وفي الخامس والعشرين بعد المائة: إذا رد الرب سبي صهيون صرنا كالمتغربين، حينئذ تمتلىء أفواهنا فرحاً وألسنتنا تهليلاً، هناك يقال في الأمم: قد أكثر الرب الصنيع إلى هؤلاء، أكثر الرب الصنيع إلينا فصرنا فرحين، يا رب اردد سبينا كأودية اليمن، الذين يزرعون بالدموع ويحصدون بالفرح، كانوا ينطلقون يبذرون زرعهم باكين ويأتون مقبلين بالتهليل حاملين غلاتهم؛ وفي السادس والثلاثين بعد المائة: على أنهار بابل جلسنا هناك وبكينا حين ذكرنا صهيون، وعلقنا قيتاراتنا على الصفصاف الذي في وسطها، لأن الذين سبونا سألونا هناك قول التمجيد، والذين انطلقوا قالوا: سبحوا لنا في تسابيح صهيون! كيف نسبح لكم تسابيح الرب في أرض غريبة؟ إن نسيتك يا يروشليم فتنساني يميني، ويلصق لساني بحنكي إن لم أذكروك وإن لم أسبق وأصعد إلى يروشليم في ابتداء فرحي، اذكر يا رب بني أدوم(11/317)
في يوم أورشليم القائلين: اهدموا إلى الأساس.
يا ابنه الشقية! طوبى لمن يجازيك جزاء صنيعك بنا، طوبى لمن أخذ أطفالك وضرب بهم الصخرة.
وهذا الذي في هذا المزمور إيذان بما يحل بهم من بختنصر، وقد تقدم غير مرة أن ما كان فيما ينقل من هذه الكتب القديمة من لفظة توهم نقصاً كالأب ونحوه فإنها على تقدير صحتها عنهم لا يجوز إطلاقها في شرعنا، والظاهر أن هذه الادلة المذكورة في القرآن في هذه الكرة هي التي كانت في أيام عزير عليه السلام على يد كورش ملك الفرس - كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأن الذين كانوا قهروهم أولاً هم أجناد بختنصر - كما تقدم، ففي سفر أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بعد موسى عليه السلام أن الله تعالى أوحى إلى إرميا بن حلقيا(11/318)
من الأحبار الذين كانوا في عناثوث في أرض بنيامين على عهد يوشيا ملك يهوذا في السنة الثالثة عشرة من ملكه يتوعدهم بأنهم إن لم يرجعوا عما أحدثوا من الضلالات سلط عليهم ملك بابل، ولم يزل يحذرهم مثل ذلك ويخبرهم بما يحصل لهم من الشر بذنوبهم إلى أن تمت أيام يواكيم بن يوشيا، وفي إحدى عشرة سنة لصديقيا بن يوشيا إلى يوم سبيت أورشليم في الشهر الخامس، وهو شهر آب وكان يخبرهم بأن ملك بابل يأسر صديقيا ملك اليهود، ويسوقه مع الأسرى إلى بابل، ويستمرون في أسرهم سبعين سنة ثم يردهم الله تعالى إلى بيت المقدس.
قال إرميا عليه السلام: إن الله تعالى قال لي: من قبل أن أصورك في البطن عرفتك، وخصصتك لي نبياً من قبل أن تخرج من الرحم وجعلتك نبياً للشعوب، فقلت: أطلب إليك يا رب وإلهي أن تعفيني، لأني لست أعلم أن أنطق لأني حدث، فقال لي الرب: لا تقل: إني حدث. لأنك تتوجه إلى كل ما أرسلك فيه وتجمع ما آمرك به(11/319)
من القول، فأدّه ولا تخف لأني معك أنقذك من كل آفة، وإن الرب مد يده وقربها إلى فيّ وقال لي الرب: قد صيرت أقوالي في فيك، فاعلم أني قد سلطتك اليوم على جميع مملكات الأمم لتهدم وتنقض وتهلك وتستأصل وتبكت وتتنبأ وتقدسني، ثم أوحى إليّ الرب وقال: ما الذي رأيت يا إرميا؟ فقلت: رأيت غصناً من شجر اللوز، فقال لي الرب: ما أحسن ما رأيت لأن معجل فصل أقوالي؛ ثم أوحى إليّ الرب ثانية: ما الذي رأيت؟ فقلت منجلاً منصوباً ووجهه إلى ناحية الجربياء - أي الشمال - فقال لي الرب: من ناحية الجربياء ينفتح الشر وينزل في جميع الأرض التي ليهوذا، ها أنا مرسلك أن تدعو جميع عشائر مملكات الجربياء، يقول الرب. فيأتون ويلقي كل رجل منهم كرسيه في مدخل أبواب أورشليم، ويحوطون بسورها كما(11/320)
يدور، وبجميع قرى يهوذا، وأنتقم منهم بأحكام وقضائي من أجل جميع سرورهم وبسوء أعمالهم، لأنهم اجتنبوني وبخروا لآلهة غريبة بالبخور، وسجدوا لصنعة أيديهم فأمت أنت فشد على ظهرك، وقم فقل عليهم جميع الأقوال التي آمرك بها ولا تخفهم ولا تحابهم لئلا أكسرك بين أيديهم وأذلك، وقد جعلتك اليوم كالقرية العزيزة الممتنعة، ومثل قضيب من حديد، وصيرتك مثل سور من نحاس على الأرض كلها، وعلى جميع ملوك يهوذا وعلى عظمائهم وعلى أحبارهم وآبائهم، وعلى جميع شعب الأرض، فإن جاهدوك لم يقهروك لأني معك وأنا منقذك منهم.
ولم يزل يقوم فيهم بمثل هذا من كلام في غاية البلاغة والرقة بحيث يفتت الأكباد، ويصدع القلوب، ويفيض العيون، نحو أربع كراريس، لولا خوف الملالة وكراهة الإطالة لأتيت بكثير منه، وكان المتنبئون الكذبة يقومون فيهم بخلاف ذلك مما يؤمنهم إلى أن(11/321)
ضربوا إرميا ليترك عنهم مثل ذلك، فلم يكن يستطيع تركه وقال لشخص من المتنبئين اسمه حنينا: إن الرب لم يرسلك، أنت وكلت هذا الشعب على الزور، ومن أجل هذا يقول الرب: هو ذا أطرحك عن وجه الأرض، وفي هذه السنة تموت، لأنك تكلمت بالإثم قدام الرب، فمات حنينا النبي الكذاب في تلك السنة في الشهر السابع. ثم زاد تحذير إرميا لهم إلى أن حبسوه، ثم إن الله تعالى أمره أن يكتب لهم ما يوحيه إليه في صحيفة ويرسلها إليهم، فدعا باروخ بن ناريا الكاتب وأمره بكتابة ما أنطقه به الرب وقال له ها أنا محبوس ولست أستطيع أن أدخل بيت الرب، فخذ هذه الصحيفة وادخل أنت إلى بيت الرب في يوم الصوم واقرأها عليهم، فإنها كلام الرب، لعلهم يرجعون عن طريقة السوء، ويكف الرب عن الشر الذي قاله عليهم.
لأنه عظيم الرجز والغضب الذي تكلم به الرب على هذا الشعب. ففعل باروخ ذلك، فأخذوا الصحيفة من يده وأوصلوها(11/322)
إلى الملك يواقيم بن يوشيا فشققها وأحرقها بالنار، فأمره الله أن يكتب صحيفة أخرى مثلها ويزيد ما يأمره الله به، ومنه أن يواقيم ملك يهوذا لا يكون له من يجلس على كرسي داود عليه السلام، وجيفته تكون مطروحة في السموم بالنهار وفي الجليد بالليل، وآمر به وبذريته وبعبيده، وآتى على أورشليم وعلى سكانها وعلى بيت يهوذا بكل الشر الذي قلت عليهم، لأنهم لم يسمعوا صوتي.
ولما ملك صاديقيا على اليهود، وكانت السنة العاشرة من ملكه، وهي الثامنة عشرة لبختنصر ملك بابل، أحاطت جيوش ملك بابل بأورشليم، وكان إرميا النبي محبوساً في دار حرس الملك، حبسه فيها صاديقيا ملك يهوذا، وقال له: ما لك تتنبأ وتقول: هكذا يقول الرب: هوذا أدفع هذه القرية وصديقيا ملك يهوذا في يدي ملك بابل ويضبطها، ولا ينجو من أيدي الكلدانيين، لأن الرب دفاع يدفعه في يدي ملك بابل(11/323)
ويكلمه فمه لفمه وعيناه إلى عينيه، وينطلق به إلى بابل؟ فأوحى الله إلى إرميا وهو محبوس فقال: يقول الرب: هوذا أدفع هذه القرية إلى ملك بابل فيحرقها بالنار، وأنت فلا تفلت من يديه، ولكنك أخذاً تؤخذ وتدفع إليه وعيناك إلى عينيه تنظر، وفمك إلى فمه يكلم، وإلى بابل تذهب، ولكن اسمع يا صديقيا ملك يهوذا قول الرب، هكذا يقول الرب عليك: إنك لست تموت بالحرب، ولكنك موت سلامة تموت، وكالذي ناحوا على آبائك الملوك الأولين الذين كانوا قبلك ينوحون عليك ويقولون: واسيداه! لأن هذا القول الذي تكلمت به قاله الرب، هذا كله، وأجناد ملك بابل تحاصر أورشليم وتقاتلها.
ثم إن صديقيا أرسل إلى فرعون بمصر ليستنجد به فخرج جنده، فلما سمع بهم الكلدانيون انصرفوا عن أورشليم، وحل قول الرب على(11/324)
إرميا أن هكذا يقول الرب إله إسرائيل لملك يهوذا الذي بعث إلى جند فرعون ليعينوه: هوذا الآن جند فرعون يرجعون إلى أرض مصر، ويرجع الكلدانيون ويقاتلون هذه القرية ويحتوون عليها ويحرقونها بالنار، هكذا يقول الرب، لا تظنوا في أنفسكم أن الكلدانيين الذين انصرفوا عنكم ليس يرجعون، بل إنهم يرجعون ويحرقون القرية بالنار ثم إن اليهود اتهموا إرميا بأنه يريد أن يفر إلى الكلدانيين فجلدوه وطرحوه في السجن، فأخرجه الملك صديقيا وسأله في البيت سراً عن قول الرب فقال له: في يد ملك بابل تدفع، وقال له: ماذا أخطأت إليك وإلى عبيدك وإلى هذا الشعب إذ طرحتموني في السجن؟ وأين الذين كانوا يتنبؤون لكم أنه لا يأتي عليكم ملك بابل ولا على هذه الأرض؟ فرده إلى السجن ولم ينزله إلى الجب لأنه كان لا يقدر على مخالفة أشراف مملكته.
ثم قال إرميا: هكذا يقول الرب: من يسكن هذه القرية بالحرب(11/325)
فبالجوع والموتان يذهب، فأما من يخرج إلى الكلدانيين فإنه يحيي نفسه ويعيش، هكذا يقول الرب، فقال الأشراف: يقتل هذا الرجل لأنه يسقط أيادي المقاتلة الذين بقوا في القرية وأيادي الشعب إذا قال هذا الكلام، فقال الملك صديقيا: هوذا منذ وقع في أيديكم لا يستطيع أن يغير هذا الكلام، ولم يكن الملك يقدر يقول لهم شيئاً، فأخذوا إرميا وطرحوه في جب إميلخيا بن الملك في دار السجن، والجب لم يكن فيه ماء ولكن حمأة، فغرق إرميا في الحمأة، وسمع عبد الملك حبشي وكان رجلاً مؤمنا فقال للملك: يا سيدي! بئس ما صنع هؤلاء القوم بالنبي إذ طرحوه في جب، وهو ذا يموت، فقال الملك: خذ معك من هنا ثلاثين رجلاً، وانطلقوا اصعدوا إرميا من الجب قبل أن يموت، وإن عبد الملك أخذ رجالاً ودخل إلى الخزانة التي أسفل بيت الملك، وأخذ من ثَمَّ خلقاناً فسبسبها إلى إرميا بالحبل وقال له: خذ هذه الخلقان، واجعلها تحت إبطيك، لئلا(11/326)
يعقرك الحبل، ففعل إرميا كذلك وأصعدوه من الجب وأجلسوه في دار السجن، وأرسل الملك فأدخل إرميا إليه وجعله في داخل ثلاثة أبيات، مخدع داخل مخدع وقال له: إني أسألك أن لا تكتمني شيئاً، قال إرميا لصديقيا: إني أخاف أن تقتلني، وإن أنا أشرت عليك لم تطعني، فقال صديقيا: حيّ هو الرب الذي خلقني إني لا أقتلك ولا أدفعك إلى الناس الذين يريدون نفسك، فقال إرميا: هكذا يقول الرب إله إسرائيل: لئن خرجت إلى أشراف ملك بابل لتحيين نفسك، وهذه القرية تسلم ولا تحرق بالنار، وتعيش أنت وبنوك، وإن أنت لم تخرج إليهم فستدفع هذه القرية إلى الكلدانيين ويحرقونها بالنار وأنت فلا تنجو من أيديهم، فقال الملك لإرميا: إني أخشى من اليهود أن أخرج إلى الكلدانيين فلعلهم يدفعونني في أيديهم ويهزؤون بي، قال إرميا: إنهم ليس يدفعونك في أيديهم، اسمع إلى كلمة الرب لمنفعتك لتحيي نفسك.
وحل على إرميا قول الرب إذ كان محبوساً في دار الحرس: انطلق فقل للعبد الحبشي الذي للملك: هكذا يقول الرب القوي إله(11/327)
إسرائيل: هو ذا آتي على هذه القرية بالشر، ويكونون قدامك في ذلك اليوم، وأنجيك، قال الرب: ولا تدفع في يد القوم الذين لا يخشون الله، ولا تسقط في الحرب، ولكنك تنجو بنفسك لأنك توكلت على ما قال لك الرب.
وجلس إرميا في دار السجن حتى اليوم الذي أخذ فيه الكلدانيون أورشليم في السنة التاسعة لصديقيا ملك يهوذا في الشهر العاشر، وفي تسعة من الشهر أتى بختنصر ملك بابل في كل أجناده إلى أورشليم وحلوا عليها، وفي إحدى عشرة سنة لصديقيا في الشهر الخامس انثلمت القرية، فأتى كل أشراف ملك بابل إلى الباب الأوسط، فلما رأى صديقيا أنهم قد جلسوا في الباب الأوسط وقد هرب المقاتلة وخرجوا بالليل، خرج الملك أيضاً من الباب الذي بين السورين في طريق نيسان، فلما صار إلى الصحراء طلبه جند الكلدانيين على الأثر، فأدركوه في صحراء أريحا وافترق عنه أجناده فساقوه حتى أصعدوه إلى بختنصر ملك بابل في ديلاب من أرض حماة وذبح(11/328)
ملك بابل بني صديقيا وكل أشراف يهوذا، وأعمى عيني صديقيا وأوثقه في السلاسل لكي يذهب به إلى بابل، وأحرق بيت الملك وبيوت الشعب بالنار، واستأصل السور المحيط بأورشليم، وكذا بقية الشعب، الذين بقوا في القرية والذين هربوا إليه سباهم ودفعهم إلى وازردان صاحب شرطته، فانطلق بهم إلى بابل، ومساكين الشعب - الذين ليس لهم شيء - تركهم في أرض يهوذا، واستعمل عليهم أخيقام بن شافان، وأمر بختنصر صاحب شرطته أن يأخذ إرميا وقال: لتكن عينك عليه، ولا تفعل به بأساً، وما قال لك من شيء فافعله، فأرسل إلى إرميا فأخذه من دار الحبس، ودفعه إلى أجدليا بن أخيقام بن شافان ليرده إلى بيته، وقال وازردان صاحب الشرطة لإرميا: إلهك الذي قال هذا الشر على هذه البلدة وفعل كالذي قال، لأنكم أخطأتم للرب ولم تسمعوا صوته، فأنزل بكم هذا الأمر، وأما أنت فهاأناذا قد أحللتك من السلاسل التي كانت في يديك، فإن شئت أن تأتي معي إلى بابل فتعال، وإن شئت فأقم، فهذه الأرض(11/329)
في يديك كلها، فحيثما كان خيراً لك وحيث يحسن في عينيك فانطلق إليه، وإلا فاجلس عند جدليا بن أخيقام بن شافان الذي سلطه بختنصر في يهوذا، وأعطاه صاحب الشرطة مواهب في الطريق وسرحه بسلام، فأتى إرميا إلى أجدليا بن أخيقام إلى مسفيا، وجلس عنده مع الشعب الذين خلفهم ملك بابل في الأرض.
هذا ما دل على أولي البأس الشديد الذين سلطهم الله عليهم، وأما ما دل على رحمة الله لهم ففي تأريخ يوسف بن كريون أن الروم لما بلغهم أن بختنصر ملك بابل فتح مدينة المقدس ازداد خوفهم من الكسدانيين، فأرسلوا إلى بختنصر رسلاً وهدايا، وطلبوا منه الأمان والمسالمة، فآمنهم وعاهدهم على طاعته وموالاته، فاطمأنوا وآمنوا وانقطعت عنهم تلك الحروب إلى زمان دارا الملك، وكان(11/330)
سبب الحروب بين الروم وبين الكسدانيين. أن الكسدانيين كانوا يعادون اليونانيين، فأعان الروم اليونانيين فغضب الكسدانيون من ذلك فحاربوا أهل رومية، واتصلت الحروب بينهم إلى هذا الحد، فلما انتقد الله العزيز على الكسدانيين طول تجبرهم وحكم بزوال ملكهم وانقضاء دولتهم كما أخبرت به الأنبياء عليهم السلام، أثار عليهم من ملوك الأمم ملكين عظيمين: أحدهما دارا ملك ماداي، والآخر كورش ملك الفرس، فتزوج كورش ملك الفرس بنت دارا واتفقا على معصية الكسدانيين، وأظهر الخلاف على بلتشصار بن بختنصر ملكهم، ثم سار إلى بابل في عساكر قوية، فأرسل إليهم بلتشصر عسكراً كبيراً، فجرت بينهم حرب عظيمة، قتل فيها من الفريقين خلق كثير، ثم انهزم عسكر بلتشصر وهربوا، فتبعهم(11/331)
كورش ودارا إلى مسيرة يوم عن بابل، وقتلا كثيراً منهم، وأقام دارا وكورش في ذلك الموضع، ثم إن بلتشصر بعث إليهما بألف قائد من قواده ومعهم جميع خاصته وجبابرته، فخرجوا من بابل آخر النهار، وساروا ليلتهم فانتهوا إلى عسكر دارا وكورش عند الصباح فكبسوهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، فانهزم دارا وثبت كورش فقاتل الكسدانيين ومنعهم أن يتبعوا عسكر دارا، وقامت الحرب بينهم طول النهار، ثم استظهر الكسدانيون على الفرس وقتلوا جماعة منهم، فانهزم الفرس وعاد قواد بلتشصار إليه ظافرين غانمين، فعظم سرور بلتشصار بذلك، وصنع لقواده صنيعاً عظيماً أحفل فيه وأحضر الآلات الحسنة من الفضة والذهب، وبالغ في إكرامهم وحضر معهم مجلس الشراب، فأكل وشرب وعظم سرورهم وسروره، فلما أخذ الشراب منه أراد أن يزيد في إكرام أصحابه وسرورهم، فأمر بإحضار آلات الذهب والفضة التي كان جده بختنصر الملك قد أخذها من هيكل بيت المقدس، ونقلها مع جالية بني إسرائيل إلى بابل، فأحضرت تلك الآلات بحضرة بلتشصر فشرب فيها الخمر وسقى فيها قواده ونساءه وجواريه، وأقبلوا يسبحون لأصنامهم ويحمدونها، قال: فسخط الله سبحانه من ذلك وكره ما فعله بلتشصار من ابتذال آلات القدس(11/332)
ولم يخف من الله ولم يشكره على ما ظفره بأعدائه، فأرسل ملاكاً وأمره أن يكتب بحضرة بلتشصار ألفاظاً بأحمر تتضمن ذكر ما حكم الله به عليه وعلى مملكته، فحل الملاك بأمر الله عز وجل وكتب الألفاظ على حائط المجلس مقابل المنارة، وكان يرى أصابع الملاك وهي تكتب وما رأى بقية شخصه، وكانت تلك الأصابع شديدة البهار والنور، فلما رآها ذهل ولحقه رعب شديد وفزع وارتعد جميع جسمه رعدة شديدة، ورعب جيمع جنده، ولم يفهم تلك الكتابة ولا وجد في أصحابه من يقرأها لأن الخط كان كسدانياً وكان اللفظ عبرانياً.
فأمر بإحضار دانيال النبي - صلى الله على نبينا محمد وعليه السلام - فقرأها وفسرها وقال: أيها الملك! قد أخطأت خطأ عظيماً بابتذالك آلات قدس الله بأيدي جندك وجواريك فنجسوها، ولذلك سخط الله وأرسل ملاكه حتى كتب هذه الألفاظ ليعلمك ما يريد أن يفعله، فأما هذه الألفاظ المكتوبة فهي «حسب ووزن ونقل» وتفسيرها أن الله حسب مدة دولتكم التي قد جعلها لكم فوجدها قد انقضت(11/333)
وانتهت ولم يبق منها شيء، ووزنك في الميزان فوجدك ناقصاً، يريد أنه جربك بالإحسان إليك والظفر بأعدائك فوجدك غير شاكر لإحسانه ولم تحمده، بل سبحت الأصنام، وأما تفسير «نقل» فإن الله قد قضى وحكم بزوال الملك عنك ونقله إلى كورش ودارا؛ قال: فلما سمع بلتشصار ما قال دانيال ازداد خوفه وفزعه واضطرب قواده أيضاً وفزعوا فزعاً شديداً وانصرفوا إلى منازلهم وهم خائفون، فلما نام بلتشصر في تلك الليلة جاء إليه خادم من خدمه فقتله على فراشه، وأخذ رأسه ومضى إلى دارا وكورش، وأخبرهما بخبر بلتشصار وما فعل من ابتذال آنية القدس، وخبر الكتابة التي كتبها الملاك قدامه وتفسير دانيال لها، وما أخبره به من انقضاء ملكه وانتقال دولته إلى ملوك مادي وفارس بسبب ابتذاله آنية القدس، فلما سمع دارا وكورش ما أخبرهما به ونظرا رأس بلتشصار شكرا الله عز وجل واعترفا بقدرته وأكثرا تسبيحه وتمجيده، ونذر كورش أنه يبني بيت الله بأورشليم، ويرد تلك الآنية، ويطلق جالية اليهود أن يرجعوا إلى بلادهم، ثم سار كورش ودارا من مواضعهما، ودخلا بابل وقتلا جميع أهلها بأشد(11/334)
القتل وأعظم العذاب، فتم عند ذلك ما أخبرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من انتقام الله تعالى من الكسدانيين وأهل بابل ومجازاتهم بما فعلوه بآنية قدسه، ثم اقتسم دارا وكورش مملكة الكسدانيين فأخذ دارا مدينة بابل وأعمالها وتسلم قصر بلتشصار وجلس على سريره، وأخذ كورش جميع مملكة الكسدانيين التي هي غير بابل وأعمالها واستقر الأمر بينهما على ذلك، وكان دارا في ذلك الوقت شيخاً فلم تطل مدته فلما مات اتفق عظماء مادي وفارس على أن ملكوا عليهم كورش، ومنذ ذلك الوقت صار ملك مادي وفارس واحداً، وبقي الأمر على ذلك ولم يتغير، ولما تسلم كورش مملكة الكسدانيين، وجلس على كرسي بابل وملك على مادي وفارس حركه الله تعالى في السنة الأولى من ملكه، فذكر نذره الذي كان قد نذر أنه يطلق لجالية بني إسرائيل الرجوع إلى بلدهم، وأنه يبني قدس الله، ويرد آلاته إليه، فأمر بإحضار شيوخ الجالية وكبرائهم، فأخبرهم بما قد عزم عليه من بناء بيت المقدس وإطلاقهم وقال لهم: من اختار من(11/335)
جالية اليهود أن يمضي إلى مدينة القدس لبناء الهيكل الذي أخربه بختنصر فليمض ويستعن بالله عز وجل فإنه يعينه، وأنا كورش عبد الإله العظيم أطلق من خزائني جميع ما يحتاج إليه من المال والعدد لعمارة بيت الرب الذي ظفرني بالكسدانيين، وأعطاني ملكهم، قال: فلما سمع شيوخ الجالية مقالة كورش عظم سرورهم بذلك وشكروا الله عز وجل على إحسانه، وطلعوا إلى مدينة بيت المقدس، ومعهم جماعة كثيرة، ومعهم عزرا الكاهن عليه السلام ونحميا ومردخاي ويشوع وسائر رؤساء الجالية ومقدميهم، فبنوا بيت الله على المقدار الذي رسم لهم كورش، وبنوا المذبح على واجبه وحدوده، وقربوا القرابين على واجبها، وكان كورش يطلق لهم كل سنة ما يحتاجون إليه لخدمة بيت الله من المال والحنطة والزيت والخمر والغنم والبقر، وأطلق لهم مالاً كثيراً، ولم يزل الأمر يجري على ذلك طول مملكة الفرس، قال: ثم عظم أمر كورش وبسط الله يده على جميع الأمم والممالك، وفتح له الحصون المنيعة وأعطاه كنوز الأرض(11/336)
وذخائرها، ولم يزل مقبلاً مظفراً حيثما توجه كما أخبر الله تعالى على يد أشعيا النبي عليه السلام أنه يفعل ذلك بكورش من أجل إحسانه إلى بني إسرائيل؛ قال في سفر الأنبياء في نبوة أشعيا بن آموص: هكذا يقول الرب: أنا الذي أبطل آيات العرافين، وأصير كل تعريفهم جهلاً، وأرد الحكماء إلى خلفهم، وأعرف أعمالهم للناس، وأثبت كلمة عبيدي، وأتمم قول رسلي، لأنه قال لأورشليم: إنها تعمر، ولقرى يهوذا: إنها تبنى وتعمر خراباتها، ويقول للغور أن يخرب وتيبس أنهاره، ويقول لكورش: ارع لتتم جميع إرادتي، وتأمر ببناء أورشليم وتقيم هياكلها، هكذا يقول الرب لمسيحه وكورش الذي أخذ بيمينه لتخضع له الشعوب ويظهر على الملوك أبداً: افتح الأبواب بين يديه، ولا تغلق الأبواب أمامه، أنا أسير قدامه، وأسهل له العسر، أكسر أبواب النحاس، وأحطم أمخال الحديد، وأعطيه الذخائر(11/337)
التي في الظلمات، والأشياء المطمورة المستورة، ليعلم أني أنا الرب الذي دعوته قبل مولده إله إسرائيل، من أجل عبدي يعقوب وإسرائيل صفِي دعوتك باسمك، وكنيتك من قبل أن تعرفني، أنا الرب ولا إله غيري - انتهى ما في سفر الأنبياء.
ولم يزل كورش يحسن إلى بني إسرائيل حتى مات وملك بعده ابنه تمكيشه فأنفذ ما كان صنعه أبوه من البر إلى اليهود وإطلاق الأموال الكثيرة لهم تعظيماً لبيت الله، وكان من بعده من ملوك الفرس على ذلك، ويطلقون ما كان كورش يطلقه للقرابين وغيرها، ويجلون بيت الله ويعظمونه ويتبركون به، حتى كان أحشويرش - وهو أردشير الملك - فتغيرت حال اليهود في زمانه بسبب وزير استوزره من العماليق يسمى هامان، ثم إن الله تعالى عطفه عليهم بسبب زوجة له من اليهود، ولم يزل أمرهم مستقيماً وهم تحت طاعة الفرس إلى أن ملك الإسكندر الثاني، قال ابن كثير في سورة الكهف: وهو الذي يؤرخ له من مملكة الروم، وقد كان قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة انتهى. وهو(11/338)
الماقيدوني اليوناني الرومي، ملك بعد قتل أبيه فليفوس، وكان عمره حين ملك عشرين سنة، وكان حكيماً عارفاً بسائر العلوم، وكان الذي علمه الحكمة أرسطاطاليس الحكيم، وكان الإسكندر يشاوره في أموره ويرجع إلى رأيه ويتدرب بتدبيره، ولم يكن يشبه أباه ولا أمه، وكان وجهه كوجه الأسد وعيناه مختلفتين: اليمنى سوداء تنظر إلى أسفل، واليسرى صافية اللون كعين السنور تنظر إلى فوق، وأسنانه دقيقة حادة كأسنان الكلب، وكان شجاعاً جريئاً مقداماً من صباه، فلما فتح بلاد المغرب ورجع منها قصد بلاد الشام وتوجه إلى بيت المقدس فلقيه ملاك الرب فأمره أن يعظم القدس وأهلها، ففعل ثم قصد دارا الثاني ملك الفرس، فلما حاذى نابلس خرج إليه سنبلاط السامري صاحبها وحمل إليه أموالاً كثيرة وهدايا، ثم سار إلى دارا فقتله، ثم إلى ملك الهند فكذلك، ثم إلى مطلع الشمس، ثم أحب أن يرى أطراف الأرض فضرب فيها، ورأى من الأمم والعجائب ما هو مذكور في سيره، ورجع فمات ببابل، ثم كان أمر اليهود تارة وتارة وهم تحت حكم اليونان الذين ملكوا بعد الإسكندر، ثم غلب الروم فكان اليهود تحت أيديهم، وكانوا يقومون ويقعدون تارة وتارة إلى أن كثرت فيهم الأحداث، وعظمت المصائب والفتن، وعم الفساد،(11/339)
وكثرت فيهم الخوارج، واتصل القتل والغدر والنهب والغارات، وقتلوا زكريا ويحيى وابنه عليهما السلام، وأطبقوا على إرادة قتل المسيح ابن مريم عليهما السلام، فرفعه الله تعالى إليه ثم سلط عليهم طيطوس قيصر فأهلكهم وأخرب البيت الخراب الثاني - كما سيأتي ثم لم يقم لليهود أمر إلى الآن.
فلما ثبت بكون ما توعد به سبحانه في أوقاته كما أخبر به بطشه وحلمه، فثبتت قدرته وعلمه، أشار إلى أن من سبب إذلاله لمن يريد به الخير المعصية، وسبب إعزازه الطاعة، فقال تعالى: {إن أحسنتم} أي بفعل الطاعة على حسب الأمر في الكتاب الداعي إلى العدل والإحسان {أحسنتم لأنفسكم} فإن ذلك يوجب كوني معكم فأكسبكم عزاً في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما {وإن أسأتم} أي بارتكاب المحرمات والإفساد {فلها} الإساءة، وذكرها باللام تنبيها على أنها أهل لزيادة النفرة لأن كل أحد يتطير من نسبتها إليه عبارة كانت، فإذا تطير مع العبارة المحبوبة فكيف يكون حاله مع غيرها.(11/340)
ولما انتهزت فرصة الترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية، عطف الوعيد الثاني بالفاء إشارة إلى أنه بعد نصر بني إسرائيل على أهل المرة الأولى، ولعلها أيضاً مؤذنة بقرب مدتها من مدة الإدالة فقال تعالى: {فإذا جاء} أي أتى إتياناً هو كالملجأ إليه قسراً على خلاف ما يريده الآتي إليه {وعد الآخرة} أي وقته، فاستأهلتم البلاء لما أفسدتم وأحدثتم من البلايا التي أعظمها قتل زكريا ويحيى عليهما السلام والعزم على قتل عيسى عليه السلام {ليسوءوا} أي بعثنا عليكم عباداً لنا ليسوءوا {وجوهكم} أي يجعل آثار المساءة بادية فيها، وحذف متعلق اللام لدلالة الأول عليه {وليدخلوا المسجد} أي الأقصى الذي سقناكم إليه من مصر في تلك المدد الطوال وأعطيناكم بلاده بالتدريج، وجعلناه محل أمنكم وعزكم، ثم جعلناه محلاً لإكرام أشرف خلقنا بالإسراء به إليه وجمع أرواح النبيين كلهم فيه وصلاته بهم ثَّمَ، وهذا تعريض بالتهديد لقريش بأنهم إن لم يرجعوا أبدل أمنهم في الحرم خوفاً وعزهم ذلاً، فأدخل عليهم جنوداً لا قبل لهم بها، وقد فعل ذلك عام الفتح لكنه فعل إكرام لا إهانة ببركة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم دائماً أبداً {كما دخلوه}(11/341)
أي الأعداء {أول مرة} بالسيف، ويقهروا جميع جنودكم دفعة واحدة {وليتبروا} أي يهلكوا ويدمروا مع التقطيع والتفريق {ما علوا} أي عليه من ذلك، وقيل: ما مصدرية، أي مدة علوهم فيكون {يتبروا} قاصراً فيعظم مدلوله، وأكد الفعل وحقق الوعد فقال: {تتبيراً *} .
وقال في التوراة إشارة إلى هذه المرة الأخيرة - والله أعلم - بعد ما مضى من الإشارة إلى المرة الأولى سواء: وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب لتتقي الله ربك وتهاب اسمه المحمود المرهوب، يخصك الرب بضربات موجعة ويبتليك بها ويبتلي نسلك من بعدك، وينزل بك جميع الضربات التي أنزلها بأهل مصر تدوم عليك، وكل وجع وكل ضربة لم تكتب في هذا الكتاب يبتليك الله بها حتى تهلك وتبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء، لأنك لم تسمع قول الله ربك، فيكون كما فرحكم الرب وأنعم عليكم وكثركم يستأصلكم بالعقاب والنكال، ويدمر عليكم ويتلفكم، وتجلون عن الأرض التي تدخلونها لترثوها، ويفرقكم الرب بين جميع الشعوب من أقطار السماء إلى أقطارها، وتعبدون هناك الآلهة الأخرى التي(11/342)
عملت من الحجارة والخشب لم تعرفوها أنتم ولا آباؤكم، ولا تسكنون أيضاً بين تلك الشعوب ولا تكون راحة لأقدامكم، ولكن يصير الله قلوبكم فزعة مرتجفة، ويبتليكم بظلمة العين وسيلان الأنفس، وتكون حياتكم معلقة حيالكم من بعيد؛ وتكونون فزعين الليل والنهار، ولا تصدقون أنكم تعيشون، بالغداة تقولون: متى نمسي؟ وبالعشي تقولون: متى نصبح؟ وذلك من فزع قلوبكم وخوفكم ومن ظلمة أبصاركم وقلة حيلتكم، ويردكم الله إلى أرض مصر في سفن على الحال الذي قلت لكم، لا تعودون أن تروها أبداً، وتباعون هناك عبيداً وإماء، ولا يكون من يشتريكم، هذه أقوال العهد التي أمر الله بها موسى أن يعاهد بني إسرائيل في أرض موآب سوى العهد الذي عاهدهم بحوريب - انتهى.
وإنما قلت: إن هذا إشارة إلى المرة الثانية، لأنه تكرير لذلك الذي قدمته في الأولى، فحمله على أن يكون مشيراً إلى غير ما أشار إليه الأول أولى، بل ربما كان متعيناً، ثم أخبرني بعض فضلاء اليهود أن علماءهم قالوا كذلك، وكان الخراب في هذه المرة على يد طيطوس(11/343)
بعد أن تملك أبوه أسفسيانوس على الروم ورجع من الأرض المقدسة بعد موت ملكهم تيروس الذي كان أرسله لقتال اليهود لما خرجوا عن طاعته، وكان معه يوسف بن كريون أحد أكابر اليهود، وكان أحد من ندبه اليهود لقتال أسفسيانوس ومن معه، فأسروه وأحسنوا إليه فاستمر عندهم، فلما مات تيروس وملكه أصحابه رجع إلى رومية وبعث ابنه للفراغ من القدس وبعث يوسف معه بعد أن استمر البيت عامراً من عمارة العزير عليه السلام أربعمائة سنة وعشرين سنة، ولم يدخل بعد هذا الخراب في أيدي اليهود، وكان هذا لثلاثمائة سنة وثمانين سنة من ولاية الإسكندر، وقال مؤرخهم في شرح هذا الخراب: إن طيطوس كان في قيسارية، فسار منها حتى انتهى إلى يالو فأخذ من نقاوة عسكره ستمائة رجل، وسار إلى بيت المقدس ليقف على أحوال المدينة، وينظر الحصن، ويعلم ما يحتاج إلى علمه، ويدبر الأمور بحسب ذلك، وعمل على أن يراسل أهل بيت المقدس بالجميل ويدعوهم إلى المسالمة ويبذل لهم الأمان، فلما قرب من المدينة(11/344)
وجد الأبواب مغلقة، وليس يخرج من المدينة ولا يدخل إليها أحد لما بين الخوارج من الحروب المتصلة، فما وجد من خاطبه من القوم، فانصرف راجعاً إلى عسكره.
قال: وكان قوم من أصحاب الخوارج لما علموا بمجيء طيطوس قد خرجوا من المدينة، فكمنوا له في بعض الطريق، فما اجتاز بهم وهو راجع أحاطوا به وحالوا بينه وبين أصحابه، فقاتلهم قتالاً شديداً حتى خلص بعد أن أشرف على الهلاك، فعلم ما القوم عليه من النجدة والشر فأعد لذلك عدته لما أراد الله من خراب القدس، وكان الله سبحانه وتعالى ملكه وعز سلطانه قد أظهر لبني إسرائيل أموراً دلتهم على زوال أمرهم لو أنهم تبصروا، منها شبه كوكب كبير له نور قوي وضوء شديد كان القدس يضيء منه البلد كله طول الليل قريباً من ضوء النهار، فأقام كذلك سبعة أيام مدة عيد الفصح، ففرح به الجهال واغتم العلماء، ومنها أنهم أحضروا في هذا العيد بقرة ليقربوها، فولدت خروفاً فاستنكر الناس ذلك، ومنها أن باب القدس الشرقي كان عظيماً ثقيلاً لا يعالجه إلا جماعة، فلما كان في تلك الأيام كانوا يجدونه كل يوم مفتوحاً من غير فاتح، فيجتمع الرجال المعتادون له فيغلقونه ثم يعودون إليه فيجدونه مفتوحاً، فكان الجهال يفرحون والعلماء(11/345)
يغتمون، ومنها أنه ظهر على بيت قداس الأقداس في الهواء صورة وجه الإنسان شديد الحسن عظيم البهاء والنور، ومنها أنه ظهر أيضاً في الجو صور ركبان من نار يطيرون في الهواء قريباً من الأرض على بيت المقدس وعلى جميع أرض اليهود، ومنها أنه سمع الكهنة في ليلة عيد العنصرة في القدس حس جماعة كثيرة يذهبون ويجيئون في الهيكل من غير أن يروهم بل كانوا يسمعون وطأهم فقط، ثم سمعوا صوتاً عظيماً يقول: امضوا بنا حتى نرتحل عن هذا البيت، ومنها أنه كان قد ظهر قبل هذا بأربع سنين في المدينة رجل يمشي كالمجنون ويصيح بأعلى صوت يقول: صوت من المشرق، صوت من المغرب، صوت من أربع جهات الدنيا، صوت على أورشلام، وصوت على الهيكل، وصوت عل الحصن، وصوت على الفروس، وصوت على جميع الناس، الويل على أورشلام، الويل على أورشلام، وكان لا يهدأ من هذا الكلام، وكان الناس يبغضونه ويزجرونه ويتصورونه بالجنون، فلم يزل على ذلك إلى أن أحاط العدو بالمدينة،(11/346)
فابتدأ في بعض الأيام يتكلم على عادته، فأتاه حجر في رأسه فمات ووجد في حائط قدس الأقداس حجر قديم مكتوب عليه «إذا صار بنيان الهيكل مربعاً ملك على أرض بني إسرائيل ملك عظيم، ويتسلط على سائر الأرض» فقال قوم: هو ملك بني إسرائيل، وقال الحكماء والكهنة: بل الروم، ووجد أيضاً حجر قديم مكتوب عليه «إذا كمل بنيان القدس وصار مربعاً فإنه عند ذلك يخرب» فلما وقع الحصار وانهدم أنطونيا سدوا السور فصار الهيكل مربعاً كما سيأتي، وأعظم الأمارات ما كان عليه خوارجهم من القتال، وسفك دماء الخاص والعام، والحريق والجوع، بحيث إنه أحاط البلاء بهم وبجميع الناس ولا يجدون مهرباً حتى كرهوا الحياة.
ولما خلص طيطوس من الخوارج بات في عسكره، ثم سار بالليل من يالو، فأصبح على بيت المقدس ونزل على رأس جبل الزيتون الذي في شرقي المدينة أورشليم، ليحجز الوادي بينه وبينها ولا يخفى عليه من يخرج إليه منها، ثم رتب عسكره ووصاهم بالتعاون والتظافر واليقظة والحذر، وأن لا يفارق بعضهم بعضاً، وقال: إنكم تقاتلون قوماً لم تقاتلوا مثلهم في البأس والشجاعة والصبر على القتال والبصر(11/347)
بالحرب، فلما رآه اليهود اصطلح رؤساء الخوارج يوحانان وشمعون والعازار على أن لا يحارب بعضهم بعضاً ويتفقوا على محاربة الروم، واجتمعوا وفتحوا باب المدينة ولقوا من كان قرب من الروم، فقاتلوهم واشتد الحرب فانهزم الروم، فردهم طيطوس وشجعهم فعادوا فكانت بينهم حرب عظيمة قتل فيها خلق كثير، وانهزم اليهود فوقفوا عند السور وبعثوا جريدة من أصحابهم في عدد كثير من جهة أخرى، فداروا من وراء عسكر الروم، وزحف أولئك من أمامهم، فكان الروم بين العسكرين فقتل منهم خلق كثير فانهزموا، وثبت طيطوس في جمع من أصحابه فاشتد الأمر حتى كاد يقتل، فقال أصحابه: امضِ إلى الجبل، فاختار الموت على الهزيمة ولم يزل يقاتلهم حتى تخلص بعد أن استظهر عليه اليهود ثلاث دفعات، ولما عاد اليهود إلى المدينة نقضوا عهودهم وحارب بعضهم بعضاً كما كانوا، لأن يوحانان كان يريد الرئاسة، وكان شمعون والعازار يأبيان ذلك، وحضر عيد الفصح - وهو الفطير - فدخل يوحانان في أصحابه إلى القدس(11/348)
في اليوم الأول، فلقيهم الناس بالجميل وسروا بهم، فنزعوا ما ظهر من ثيابهم فإذا تحتها السلاح، وأخذوا على الناس الأبواب، فقتلوا خلقاً كثيراً من الكهنة وغيرهم ولم يرحموا صغيراً ولا كبيراً، فقتل العازار وشمعون من كان خارج القدس من جماعة يوحانان، فخرج إليهم واشتد الأمر واتصلت الحرب، فلما علم طيطوس زحف إلى المدينة فقال له قوم من اليهود الذين على السور: نفتح لك الباب على أن تؤمننا وتريحنا من هؤلاء الخوارج، فلم يثق بهم لما ظهر لهم من شرهم وغدرهم، وعلت الأصوات في المدينة، لأن بعضهم كان يريد أن يفتح لطيطوس وبعضهم يمنع، وتبادروا إلى حفظ الأبواب والسور، فتقدم جماعة من الروم إلى المدينة طمعاً في أن يفتح لهم الباب فرماهم الخوارج بالحجارة والنشاب، وأعانهم الذين كانوا استدعوا الروم للدخول، ثم خرج جماعة من اليهود فهزموا الروم وأنكوا فيهم وتبعوهم إلى قرب عسكرهم، وشرعوا يهزؤون بهم ويعيرونهم بالهزيمة، فأراد من في العسكر أن يلاقوهم فمنعهم طيطوس واشتد غضبه على أصحابه وقال: لست أعجب من اليهود في غدرهم، ولكن أعجب منكم مع بصركم بالحرب وكثرة تجاربكم فكيف خدعوكم؟(11/349)
فمضيتم إلى المدينة بغير أمري وخالفتم وصيتي، ولذلك انهزمتم لأنه لا يجوز للرعيه أن تخالف أمر الملك، وقد علمتم أن بعض ملوكنا قتل ابنه لأنه مضى إلى الحرب بغير أمره، فأنتم مستحقون للقتل بعصياني، مستوجبون لما جرى عليكم من الهزيمة، فسجد أصحاب طيطوس له واعترفوا بخطئهم وقالوا: لا نعاود، فأمرهم أن يعدلوا ما حول المدينة من المعاثر والوهدات، ويسدوا الآبار ليسهل عليهم القتال ويهدم السور، ففعلوا ذلك وقطعوا كل ما حول المدينة من الشجر والنبات، وكان حولها من سائر الجهات بساتين كثيرة فيها أنواع الأشجار والفواكه مسيرة أميال من كل جهة، فكان إذا أقبل إنسان عليها يرى أحسن منظر فلم يبق الروم من ذلك شيئاً، وكان من يعرف تلك البساتين إذا رآها بعد إتلافها يبكي ويستوحش، واشتغل اليهود بخوارجهم، واتفق شمعون والعازار على يوحانان وكان قد ملك القدس ومعه ثمانية آلاف وأربعمائة رجل من الشجعان، وكان مع شمعون عشرة آلاف من اليهود وخمسة آلاف من أدوم - أي النصارى - وكان الكهنة وجماعة من أهل المدينة مع العازار، وحصل الناس بين هؤلاء بأسوأ حال، وكانوا إذا استظهر الروم على المدينة اتفقوا وحاربوهم، فإذا دفعوهم عادوا إلى الشر فيما بينهم.(11/350)
ثم إن طيطوس أحضر كبش الحديد وغيره من آلات القتال ليهدم السور، وصنع أبراجاً عظيمة من الخشب توازي سور المدينة وتحتها بكر ليدفعها الرجال وتصعد عليها المقاتلة، وأرسل إليهم رجلاً من أصحابه يدعوهم إلى المسالمة فرماه بعض من على السور فقتله، واصطلح الخوارج وخرجوا إلى الروم فقاتلوهم وأحرقوا الكبش وجميع تلك الآلات وأبعدوهم ورجعوا إلى المدينة يتقاتلون، فلما علم طيطوس بذلك دفع الكبش على السور فهدم منه قطعة كبيرة، فهرب من كان وراءه إلى السور الثاني، فأبعد الروم ما سقط من حجارة السور ليتسع لهم المجال، فاصطلح الخوارج وفرقوا أصحابهم على جهات المدينة، واشتد بينهم وبين الروم، وصدق الفريقان، وتولى طيطوس الحرب بنفسه، وأقبل يشجع أصحابه ويعدهم بالأموال والصلات، وشجع الخوارج أصحابهم ونادى شمعون: من انهزم قتل وهدم منزله.
فلما رأى طيطوس ثبات أصحاب شمعون مال إلى جهة يوحانان، ولأنها معتدلة وطيئة، وأراد أن ينطح السور الثاني، فناداه رجل(11/351)
اسمه قصطور من فوق السور: أسألك يا سيدي أن تشفق على هذه المدينة والأمر يجري على ما تحب، فظن طيطوس صدقه فتوقف وشرع يكلمه، وأطال المراجعة احتيالاً منه ليتمكن أصحابه من إحراق الكبش، ثم سأله أن يبعث له شخصاً من أصحابه ليتفق معه، فأرسل إليه شخصاً من وجوه الروم فقال له: اقرب حتى ألقي إليك ما لي ثم انزل، فألقى عليه صخرة فأخطأته وقتلت رجلاً كان معه، فغضب طيطوس ودفع الكبش على السور الثاني فانهدم منه قطعة كبيرة، فاشتد أسف قصطور فقتل نفسه، وتبادر اليهود فمنعوا الروم من الدخول من الموضع الذي انثلم، وحاربوهم إلى أن أخرجوهم عن السور الأول وقتلوا جماعة منهم، واتصلت الحرب بين الفريقين أربعة أيام، وورد على طيطوس في اليوم الرابع عسكر كبير من أمم مختلفة تعينه على اليهود، فخرج اليهود على عادتهم فقاتلوهم فلم تكن لهم بهم طاقة فانهزموا ودخلوا إلى الحصن الثالث، فأمر طيطوس برفع الحرب وكف عنهم خمسة أيام، وركب في اليوم الخامس وتقدم إلى قرب السور،(11/352)
فوجد يوحانان وشمعون وأصحابهما قد خرجوا من المدينة ليحرقوا الكبش، فابتدأهم طيطوس بالسلام وخاطبهم بالجميل والملاطفة وقال: قد رأيتم ما جرى من هدم هذين السورين، وليس يتعذر هدم السور الثالث، وقد علمتم أنكم ما انتفعتم في هذه المدة بما فعلتموه، وكذلك لا تنتفعون أيضاً بدوامكم على ما أنتم عليه من اللجاج في مخالفتنا. فارجعوا عن ذلك قبل أن أهدم هذا السور الباقي، وأستبيح المدينة، وأخرب الهيكل، ولست أختار ذلك ولا أريده، فإن رجعتم إلى طاعتنا كنا لكم على أفضل ما عهدتموه منا، ودامت لكم السلامة، وزال عنكم ما أنتم فيه من المكروه.
وأمر يوسف بن كريون أن يقرب منهم ويبلغ معهم الغاية في القول ويستدعيهم إلى المسالمة ويبذل لهم من الأمان والعهود ما يثقون به ويسكنون إليه، فوقف قدام باب المدينة وقال: اسمعوا مني يا معشر بني إسرائيل ما أنا مخاطبكم به، فإني إنما أخاطبكم يما ينفعكم ويعود بصلاحكم إن قبلتموه، واعلموا أن محاربة الأعداء ومقاومتهم قد كانت تحسن بكم حين كانت بلدانكم عامرة، وعساكركم متوافرة، وأحوالكم مستقيمة، فأما بعد أن(11/353)
بلغتم إلى هذه الحال، من خراب البلدان وفناء الرجال، وذهاب النعم واختلال الأحوال، فكيف تطمعون في مقاومة هذه الأمة العظيمة القوية التي قد قهرت الممالك والأمم واستولت عليهم، فعلى أيّ شيء تعتمدون؟ فإن قلتم: إنا نعتمد على الله عز وجل ونرجو أن ينصرنا كما جرت عادته مع آبائنا، فيجب أن تعلموا أنه هو الذي سلط عليكم هذه الأمة لسوء أفعالكم وكثرة ذنوبكم، لأنكم ارتكبتم المحارم، وسفكتم الدماء، ونجستم هيكل الله المقدس، وقتلتم كهنته وصلحاء أمته ظلماً، فكيف ترجون من الله النصر والمعونة مع هذه الأفعال القبيحة والله لا ينصر من عصاه، وإن كنتم تتكلون على الحصون والعدد والعساكر فأنتم تعلمون أن جميع ذلك قد ذهب أكثره، ولم يبق منه إلا القليل، وهذه المدينة قد هدم سوران من أسوارها ولم يبق غير واحد وهم مجدون في هدمه، وأنتم كل يوم في نقصان وضعف وعدوكم في زيادة وقوة، فإن دمتم على ما أنتم عليه هلكتم ولم يبق منكم باقية، فإن(11/354)
قلتم: إنا نختار القتل على الذل للأمم وطاعتهم، فقد علمتم أن آباءنا وأصولنا - وهم السادة الذين يجب علينا أن نقتدي بهم - لم يمتنعوا من مسالمة الأمم الذين جاوروهم ومداراتهم، ولو كان أمراً مكروهاً لقد كانوا أولى بكراهته منكم، والمتقدمون منا أطاعوا المصريين في أزمان كثيرة وملوك الموصل والكسدانيين والفرس ثم اليونانيين الذين جاروا عليهم وأساؤوا إليهم وصبروا على ظلمهم لهم على أن أذن الله بخلاصهم منهم على أيدي بني حشمناي الكهنة، ثم أطاعوا بعد ذلك ملوك الروم إلى هذه الغاية، ولم يروا أن عليهم نقصاً في طاعتهم، وكذلك أنتم إن أطعتموهم كان ذلك أولى بكم من أن تعرضوا أنفسكم للهلاك، ونعمتكم للزوال، وبلدكم للخراب، وتحصلوا بعد ذلك في أضعاف ما كرهتموه من الذلن ولا يعذركم في ذلك عاقل ولا يحمد رأيكم، على أن الروم ما زالوا محسنين إليكم، كفوكم أمر أعدائكم من اليونانيين، وأزالوا سلطانهم عنكم، وأعانوكم على كثير من الأمم الذين يعادونكم حتى غلبتموهم واستوليتم عليهم، فأنتم بطاعتهم أولى منكم بمعصيتهم، وقد علمتم أن الله عز وجل قد جعل لكل أمة دولة وسلطاناً سلطها فيه، فإذا انقضى ذلك الزمان زالت دولتها وسلطانها فذلت لغيرها وخضعت لمن كان يخضع لها،(11/355)
وقد بسط الله أيديكم زماناً، وسلطكم على غيركم دهراً، ثم جعل الدولة والسلطان لسواكم، وأراد أن يذلكم لهم، فمتى خالفتم مراد الله ولم تقبلوا حكمه هلكتم، وليس يشك في أن الله أراد في هذا الزمان أن يرفع الروم ويبسط أيديهم، لأنه قد أذل لهم الملوك وظفرهم بالأمم حتى أطاعهم من في سائر جهات الدنيا ممن هو أشد منكم بأساً، وأكثر عدداً، وأقوى سلطاناً، وكيف تطمعون في أن تغلبوهم وأنتم تشاهدون إقبالهم وقوة أمرهم ومعونة الله لهم، وترون أنفسكم بخلاف ذلك، وليس يعيب الإنسان ولا ينقصه طاعته لمن هو أقوى منه وأعلى يداً، لأن الله عز وجل قد جعل أمر الخلق في الدنيا مبنياً على أن يكون بعضهم تابعاً لبعض، وبعضهم قاهراً لبعض، وبعضهم محتاجاً إلى بعض، وكل صنف يخضع لمن هو أقوى منه ويذل له ويطيعه، وذلك ظاهر موجود في الناس على طبقاتهم، وفي الحيوانات على اختلافها، وليس يستغني عن ذلك أحد، ولا يذمه عاقل، وإذ كان الأمر كذلك فليس ينقصكم طاعة الروم، ولا الروم بأول من أطعتموهم وقد تقدمت طاعتكم لهم منذ سنين؛ وقد ابتدؤوكم في هذا الوقت بالجميل، ودعوكم إلى المسالمة، وبذلوا لكم الأمان، وضمنوا لكم الإحسان، وظهر منهم الإشفاق على مدينتكم وقدسكم فاتقوا الله،(11/356)
وتلافوا أمركم، وأحسنوا النظر لمن بقي منكم، فارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعتهم لتبقوا وتتماسك أحوالكم، وتسلم هذه المدينة وهذا القدس الجليل قبل أن يهدم هذا الحصن الباقي فتهلكوا.
فصاح الخوارج بشتم يوسف والفرية عليه ورموه بالسهام والحجارة، فتباعد قليلاً وأغلظ لهم في الكلام وقال: يا معشر العصاة! أخبروني ما الذي حملكم على قتال الروم إن كنتم تقصدون بذلك صيانة القدس عن الأعداء فأنتم قد ابتذلتموه بالمعاصي ونجستموه بما سفكتم فيه من الدماء الكثيرة ظلماً، وإن كنتم تريدون نصرة الأمة وإعزازها فأنتم تقتلونها بأيديكم وتبالغون في ظلمها والإساءة إليها، وهل يفعل الأعداء بكم أكثر مما فعلتموه؟ أو يبلغون فيكم أكثر مما قد بلغتموه في أنفسكم؟ أخبروني متى كان من تقدم من أمتنا أو تأخر يغلبون من يحاربهم ويستظهرون على أعدائهم بالعساكر والعدد دون الصلاح(11/357)
والتقوى؟ وهل تخلص من تخلص من الشدائد إلا بطاعة الله والدعاء له؟ وهل كانوا يغلبون إلا بنصر الله لهم ومعونته إياهم؟ وهل كان ينصرهم إلا إذا أطاعوه واتقوه؟ فلما عصوه سلط عليهم الأعداء ومكنهم منهم حتى قهروهم وأذلوهم، ولم ينتفعوا بعددهم وسلاحهم ولا قدروا على مقاومة الأعداء ببأسهم وقوتهم، وقد علمتم أن الله عز وجل كفى الصالحين في كل زمان أمر أعدائهم، فمنهم من دعا الله عز وجل عند الشدائد فاستجاب له بلا حرب، وأظهر الآيات العظيمة في معونتهم وكفايتهم، فبلغوا بذلك ما لم يكونوا يبلغون إليه بحولهم وقوتهم، ومنه من حارب الأعداء واستعان بالله عز وجل فأعانه على عدوه وظفره به، ولم يفعل الله مثل ذلك مع العصاة ليظهر فضيلة الصالحين، اعتبروا بأبيكم إبراهيم عليه السلام، لما أخذ فرعون امرأته ألم يضرب الله فرعون وأهله بالبلاء العظيم حتى خضع فانكسر ورد امرأة إبراهيم عليه السلام وهي سليمة، ثم أحسن إليه وأكرمه، فهل قدر إبراهيم عليه السلام على ذلك بالسيف والمحاربة أو بالصلاح(11/358)
والدعاء إلى الله عز وجل؟ وكذلك فعل الله مع إسحاق عليه السلام لما أخذ أبيمالخ ملك فلسطين امرأته، وقد علمتم أن موسى عليه السلام لم يستظهر على فرعون وعساكر المصريين حتى هلكوا وتخلصت أمة بني إسرائيل منهم بحرب ولا عدة، بل بالدعاء وكفاية الله له، ولما حارب عماليق بني إسرائيل هل غلبوه إلا بدعاء موسى عليه السلام وصلاته؟ ويوشع بن نون عليه السلام لما عبر الأردن مع بني إسرائيل قد كان في جمع كبير وقوة فهل فتح يريحا بالحرب أو بالآية العجيبة في سقوط الحصن؟ ولما أخطأ عاخان بما أخذه من يريحا من الغنيمة التي نهى الله عنها بني إسرائيل ألم يسخط الله على الأمة بسببه حتى غلبهم أهل مدينة عاي وهم قليل، فلم يقدر بنو إسرائيل مع كثرتهم على مقاومتهم إلى أن صلى يوشع بن نون عليه السلام ودعا إلى الله عز وجل فاستجاب الله دعاءه ونصر بني إسرائيل على عاي وجدعون لما غلب عسكر مدين وعماليق مع كثرتهم(11/359)
هل غلبهم إلا بمعونة الله لهم؟ واذكروا كيف انهزم عسكر الأرمن العظيم عن سبسطية بصلاة اليشع النبي عليه السلام ودعائه، وقد كان أهل المدينة أشرفوا على الهلاك من الجوع، فأوقع الله الخوف في قلوب الأرمن فانهزموا بغير حرب ولا قتال، وخرج أهل المدينة فغنموا عسكرهم وزال عنهم الجوع، واذكروا ما فعل الله مع نساء الملك ويوشافاط لما ظفرهما بأعدائهما بالدعاء والصلاة، وقد علمتم أن شمشون قبل أن يخطىء كان جباراً مظفراً، فلما أخطأ أسره أعداؤه فصار ذليلاً في أيديهم مثل أقل الناس وأضعفهم وطحنوه بالرحى مثل الإماء، وكذلك شاوول - وفي نسخة: طالوت - الملك لما كان طائعاً لله تعالى كان الله ينصره، فلما عصاه أسلمه الله إلى أعدائه فظفروا به، ولم ينتفع بعساكره وعدده، وأمصيا لما حارب أدوم غلبهم وظفر بهم، فلما أخذ أصنامهم ونصبها في بيت المقدس(11/360)
سخط الله عليه، فلما حارب يواش ملك بني إسرائيل بعد ذلك انهزم أقبح هزيمة لخذلان الله له وتركه معونته، واذكروا هلاك عسكر سنحاريب ملك الموصل العسكر العظيم بغير حرب ولا قتال بل بصلاة حزقيا الملك والأنبياء عليهم السلام ودعائهم، واعتبروا بصدقيا الملك لما عصى الكسدانيين وظن أنهم يغلبهم بعساكره وبعدته وخالف الأنبياء عليهم السلام في مسالمتهم، هل انتفع بذلك؟ وهل كانت عاقبته وعاقبة الأمة إلا إلى الهلاك؟ فهذا وغيره مما لم أذكره لكم يدلكم على عناية الله بالأخيار، وخذلانه للعصاة الأشرار.
وساق لهم من مثل هذا كلاماً كثيراً بلغياً، ثم رغبهم في طاعة اسفسيانوس بالخصوص بما اشتهر من حسن سيرته، وقال: ولو لم تعلموا ذلك إلا بما عاملني به من الجميل، وقد كنت أستوجب منه غير ذلك لكفاكم، لأني كنت أول من اجتهد في محاربته، وقتلت خلفاً كثيراً من أصحابه، ولقد كنت أعلم أني خالفت الصواب، ولكني لما رأيتكم بأجمعكم قد اتفقتم على(11/361)
محاربتهم وبعثتموني لم أخالفكم، وبذلت المجهود في مناصحتكم، وثبت في حصن يودنات إلى أن فنى أصحابي، وغلبني الأمر، ولم يبق لي حيلة، ثم حصلت مع الروم فما أساؤوا إليّ بل أحسنوا وأجملوا وعفوا عني وأنا معهم إلى هذه الغاية على ما أحب، وقد كنت اجتهدت قبل حصولي معهم أن أهرب إليكم فما تم لي ذلك، وأنا الآن أحمد الله تعالى إذ لم يسهل لي ذلك، فإني لو كنت معكم لكنت إما أن أشارككم في أفعالكم هذه فأكون مخطئاً، أو أخالفكم فتقتلوني ظلماً، فتأملوا ما خاطبتكم به ولا تظنوا أن الله ينصركم، فإنكم لا تستحقون ذلك لأنكم قد أسخطتموه، واستدلواعلى ذلك بآية عين سلوان، فإنها قد كانت قريبة من الجفاف قبل أن ينزل بكم هذه العساكر، فلما نزلوا غزرت فصارت كالنهر لتعلموا أن الله تعالى يريد معونة أعدائكم عليكم، وأنا أعلم أن كلامي لا يؤثر فيكم ليتم ما قد حكم الله به من هلاك هذه المدينة وخراب هذا القدس الجليل، ولذلك قد قست قلوبكم فصارت كالحجارة بل هي أقسى وأصلب من الحجارة، لأن الحجر قد يؤثر فيه(11/362)
الماء إذا دام انصبابه عليه، وأنتم لا تؤثر فيكم المواعظ الكثيرة، ولا تلين قلوبكم ولا تنكسر، ولكني قد بلغت الغاية فيما يلزمني من نصيحتكم، فاقبلوا نصحي وأشفقوا على هذا القدس الجليل الذي بنته الأنبياء المقدسون والملوك العظماء، فإن بقاء عزكم وثبات أمركم مقرون ببقائه وعمارته، وإن خرب لم يبق لكم عز ولا إقبال ولا دولة، فاقبلوا ما بذله لكم ابن الملك من الأمان، وثقوا بعهده وما ضمنه من الإحسان، وأنا الضامن لكم عنه، وإن اتهمتموني بأني أخدعكم وأريد معاونة الروم عليكم فأنتم تعلمون أن أبي وأمي وزوجتي الكريمة عليّ وأولادي معكم، فإن ظهر لكم من طيطوس بعد مسالمتكم له ما تكرهون فاقتلوهم واقتلوني فقد وهبتكم دماءهم ودمي على ذلك.
ثم بكى يوسف بكاء شديداً، وكان طيطوس يسمع كلامه فرق له وأمر بإطلاق من كان من السبي في عسكره، وأطلق لهم أن يمضوا حيث شاؤوا فمال أكثر أهل المدينة إلى طاعة طيطوس، فمنعهم الخوارج ووكلوا بأبواب المدينة من يحفظها، وأمروا الموكلين أن يقتلوا كل من أراد الخروج، ولما طال الحصار اشتد الجوع، وكان الخوارج يفتشون منازل الناس وينهبون الطعام ويقتلون من مانعهم عنه، فكان الناس يموتون في المدينة بالجوع، ومن أراد الخروج إلى ظاهر(11/363)
المدينة ليأخذ شيئاً من نبات الأرض قتله الخوارج، وإن قدر على الخروج قتله الروم، فأفناهم ذلك، وكان طيطوس إذا سمع ذلك رق لهم واستعطفهم، فلا يزيد استعطافه الخوارج إلا قسوة، ويخاطبونه بالقبيح ليكف عن ذلك لئلا يميل معه الناس، فلما رأى ذلك جد في إخراب السور الثالث ليخلص الناس من الخوارج، فقسم عسكره أربعة أقسام ونصب كباشاً على الجهات الأربع، فخرج إليهم الخوارج فقاتلوهم قتالاً شديداً، وقتلوا من الروم خلقاً كثيراً، وكانوا قد ندبوا أربعة من أشدائهم لإحراق الكباش إذا اشتغلوا بالقتال، ولم يزالوا يقاتلونهم حتى تم لهم ما أرادوا وأحرقوا الكباش وجميع آلاتها، ونظر الروم من شجاعة اليهود وبأسهم ما هالهم فانهزموا، فردهم طيطوس وجعل يشجعهم وقال: أما تأنفون أن يغلبكم اليهود بعد أن استظهرنا عليهم، وهدمنا سورين من أسوار المدينة، ولم يبق غير سور واحد، وقد هلك أكثرهم وليس لهم من ينصرهم، ونحن فعساكرنا متوافرة، ومعنا أمم كثيرة تعيننا عليهم، ثم أمرهم أن يتركوا قتالهم حتى يهلكوا من الجوع، فضبطوا جميع(11/364)
طرق المدينة، فضاق الأمر بهم جداً واشتد الجوع، ولم يكن أحد يقدر أن يطحن قمحاً لئلا ينهب، ولا يخبر لئلا يفضحه الدخان، فكان من عنده شيء يستفّون القمح والدقيق، فمات كثير من الناس، واشتغل الأحياء بأنفسهم، فما كانوا يدفنون موتاهم، وكان الحي ربما أخذ ميته فألقاه في بئر ثم يلقي نفسه بعده ليموت، وكان بعضهم يحفر له قبراً ثم يضطجع فيه حتى يموت، وامتلأت الشوارع بالموتى، فكان الخوارج يلقونهم من السور إلى الوادي الشرقي، فلما رآهم طيطوس اغتم ورق لهم، وكان ببيت المقدس امرأة من أهل النعم، أصلها من مدينة في حيرة الأردن، فلما كثرت الفتن هناك انتقلت في جملة من انتقل إلى بيت المقدس بجميع عبيدها وسائر نعمتها، ولم يكن لها غير ابن واحد صغير وهي تحبه حباً شديداً، فلما قويت المجاعة، ونهب الخوارج جميع ما عندها، اشتد بها الأمر وكان ابنها يتضور من الجوع، فلما زاد بها الجوع وما يؤلم قلبها من تضور ابنها، أرادت قتل ابنها لتأكله، فبقيت حائرة لا تدري على أيّ الأمرين تحمل نفسها، هل تقتل ولدها العزيز عليها بيدها، وذلك من أعظم الأمور وأشنعها، أم تصبر على(11/365)
ما تراه به وبنفسها من البلاء وقد فارقها الصبر وعدمت الجلد، ثم زاد بها الجوع فزال عنها التمييز فقالت: يا ابني وواحدي! قد كنت آمل أن تعيش حتى تبرني، وكنت أخاف أن تموت قبلي فأفجع بموتك، فيا ليتني كنت قد ثكلتك فدفنتك واحتسبتك عند الله، والآن يا ولدي فقد أحاط بنا المكروه وأيقنا بالهلاك، فالحي لا يرجو الحياة والميت لا يدفن، وأنا وأنت هالكان، وإن مت يا بني لم يدفنك أحد وكنت كغيرك ممن أكلته الكلاب وطيور السماء، وقد رأيت أن أقتلك لتستريح مما أنت فيه ثم آكلك فأجعل بطني التي حملتك فيها قبراً لك، وأسد بك جوعي، فيكون ذلك عوض برك بي الذي كنت أرجوه، وتنال بذلك الأجر العظيم، ويكون ذلك عاراً على هؤلاء الخوارج الذي أوقعونا في هذا البلاء، وزيادة في سخط الله عليهم، ويذكر ذلك على ممر الدهر، ويتحدث به بعدنا الأجيال، ويعتبر به ذوو الألباب، ثم قبضت على ابنها بيدها الواحدة وأخذت الحديدة بالأخرى وهي كالمجنونة،(11/366)
وحولت وجهها عنه لئلا تراه وضربته بالحديدة فمات، ثم أخذت منه وشوته وأكلته، فلما شم الخوارج ريح ذلك اللحم هجموا عليها فقالوا لها: من أين لك هذا اللحم؟ ولم استأثرت به علينا؟ فقال: ما كنت بالتي أوثر نفسي عليكم فاجلسوا، فجاءت بالمائدة وأخرجت ما بقي من جسم ابنها وقالت: هذا ولدي وأعز الناس عندي قتلته بيدي لإفراط الجوع وأكلت من لحمه، وهذا بقية جسمه عزلتها لكم، فكلوا واشعبوا ولا تكونوا أشد رحمة لولدي مني، ولا تضعف قلوبكم عن ذلك فإنه قبيح لشجعان مثلكم أن تكون امرأة أقوى قلباً منكم، وأنتم أحق بأن ترضوا بهذا مني، لأنكم الذين سببتم علينا البلاء حتى بلغنا هذا المبلغ، ثم رفعت صوتها تبكي وتنتحب وتنوح على ابنها، فلما رأوا ذلك هالهم وخرجوا مذعورين واشتهر خبرها، فقلق الناس قلقاً شديداً، وتحققوا صحة الوعيد الذي سبق من الله، وانكسر الخوارج لذلك واستعظموه وأطلقوا للناس الخروج، فخرج في ذلك الوقت خلق كثير.(11/367)
فلما اتصل ذلك بطيطوس استعظمه واشتد خوفه من الله تعالى، فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم! أنت العالم بالخفيات والمطلع على السرائر والنيات، أنت تعلم أني لم أجىء إلى هذه المدينة لأسيء إلى أهلها ولقد ساءني أمر هذه المرأة فلا تؤاخذني به، وطالب هؤلاء الخوارج وانتقم منهم، وظفرني بهم ولا تمهلهم. وأمر بالإحسان إلى من خرج إليه من اليهود، فكان كثير منهم لا يقدرون على فتح أفواههم، وكثير منهم مات لما أكل الطعام، وكان الصبيان وغيرهم يختطفون الخبز إذا نظروه وينهشونه بلا عقل، فإذا أكلوا ماتوا، فقال طيطوس ليوسف بن كريون: ما الحيلة في هؤلاء حتى لا يموتوا؟ فقال: ينبغي أن يسقوا اللبن والحساء الرقيق أياماً حتى تلين أمعاؤهم، ثم الطعام بعد ذلك، ففعل ذلك فسلم منهم جماعة. وتقدم الروم إلى السور الثالث ليهدموه فخرج إليهم يوحانان وشمعون وأصحابهما مع ما هم فيه من الضر فقاتلوهم قتالاً شديداً، وقتلوا منهم جماعة، فأمر طيطوس بدفع الكبش على السور، فدفع عليه في الليل فهدم، وكبر الروم تكبيراً عظيماً وكبر اليهود من داخل المدينة، فلم يجسر الروم على(11/368)
دخول المدينة، فلما أصبحوا إذا سور جديد بإزاء الهدم قد بناه اليهود تلك الليلة وهم قيام عليه، فاستعظم الروم ذلك وأيسوا من الفتح، فقال طيطوس: هذا رطب لم يستحكم، وإذا ضربه الكبش أسرع الانهدام، فطلع الروم على السور الذي هدموه، ووقف اليهود على الجديد واشتد القتال، فهزمهم اليهود بعد أن قتلوا كثيراً منهم فضجر الروم وعزموا على الرحيل، فجمع طيطوس أصحابه وقال: اعلموا أن كل من يعمل عملاً فإنما قصده إلى الغاية: ولذلك يصبر على التعب ليبلغ ما أراد، وربما كان آخر العمل أشق من أوله، فإن تركه ذهب تعبه ضائعاً وبقي عمله ناقصاً لا ينتفع به.
وضرب لهم أمثالاً في ذلك ثم قال: وأنتم قد صبرتم على محاربة هؤلاء القوم واستظهرتم عليهم إلى هذه الغاية حتى هلك رؤساؤهم وجبابرتهم، وخربت حصونهم ونفوا بالجوع والسيف، ولم يبق منهم غير شرذمة يسيرة كالموتى، فأن انصرفتم كنتم قد ضيعتم تعبكم وأنتم على أنفسكم وأهنتموها(11/369)
عند كل من يسمع خبركم، ولو كنتم انصرفتم عنهم قبل هذا كان أحسن بكم، وأما الآن فلا عذر لكم في عجزكم عن محاربة قوم قد بلغ بهم الضر والجوع هذا المبلغ، فإن رجعتم عنهم طمع فيكم كل أحد، واجترأ عليكم كل من يخافكم، ولم لا تتأسون باليهود في الصبر والشجاعة مع فناء رجالهم، واجتماع المكاره عليهم، وانقطاع رجائهم، فصبرهم إما طمعاً في الظفر، أو أنفة من الغلبة، أو رغبة في بقاء الذكر، فأنتم أحق بذلك منهم لتدفعوا العار عن أنفسكم على أنكم قد صبرتم في أيام تيروس قيصر على محاربة هؤلاء القوم، وعملتم على أن لا ترجعوا عنهم إلا بعد الظفر، فلما ملك أسفسيانوس الذي هو أشجع من تيروس وأعظم بأساً، أردتم أن ترجعوا عنهم قبل أن تظفروا، فأيّ عذر لكم. فلما سمعوا هذا ثبتوا.
ثم مضى جماعة منهم ليلاً، فصعدوا من تلك الثلمة ودخلوا إلى المدينة فكبروا، فانتبه اليهود وكانوا قد ناموا لطول تعبهم وضرهم، ولزم كل منهم مكانه، ومضى طيطوس إلى أصحابه فوقف عند السور(11/370)
إلى أن أصبحوا، فانهزم اليهود إلى القدس وتبعهم الروم فاقتتلوا في الصحن البراني، ولم يكن إلا السيوف لضيق الموضع، فكان بينهما قتال لم يكن فيما مضى لاستقبال الجميع، لأنهم حصلوا في موضع لا مطمع فيه بالسلامة إلا بالصدق في القتال، وكان الكل رجالة، فعظمت الحرب بينهم وعلت أصواتهم وضجيجهم حتى سمعت من البعد، وكثرت القتلى في الفريقين واستظهر اليهود آخراً وأخرجوا الروم قرب ربع النهار، وأمر طيطوس بهدم سور مضوع متصل بالقدس يسمى أنطونيا ليتسع المجال لأصحابه، فلما هدم ذلك انثلم سور القدس وسهلت الطريق إليه، فبادر اليهود وبنوه وأدخلوه في جملة القدس فصار مربعاً، فكان ذلك تصديق ما رأوه قبل ذلك مكتوباً على الحجر القديم المقدم ذكره «إذا كمل بنيان القدس فصار مربعاً فعند ذلك يخرب بيت المقدس» وكان اليهود قد نسوا ذلك، فلما رأوه تذكروا وعلموا أن المدة قد تمت وأنه سيخرب.
وكان يوم هذه الحرب العظيمة عيد العنصرة، فقرب طيطوس من القدس وكلمهم ورغبهم في المسالمة ليتمكنوا من العبادة في هذا العيد، ووعدهم بالإحسان إليهم وقال: قد علمتم أن ملككم بحنيا لما حاصره(11/371)
بختنصر ملك بابل وخرج إليه مستأمناً، انتفع بذلك ونفع قومه وبلده فسلموا، وأن صدقيا الملك لما لج في محاربة بختنصر ولم يسالمه كما أمرته الأنبياء، أهلك المدينة والأمة وأساء إلى نفسه وإليهم، فسبيلكم أن تعتبروا بهما وتهتدوا بأصوبهما فعلاً وأحمدهما عاقبة، فاقبلوا نصيحتي، واكتفوا بما جرى، ووعدهم أن يعفو عن جميع ما تقدم ويحسن إليهم - وأطال الكلام.
وكان يوسف بن كريون يترحم لهم ويبكي بكاء شديداً، ثم قال لهم يوسف: إني لست أعجب من خراب هذه المدينة، لعلمي بأن مدتها قد انتهت، ولكني أتعجب منكم وأنتم تقرؤون كتاب دانيال النبي عليه السلام وتعلمون ما ذكره من بطلان القرابين وعدم الكاهن المسيح، وأنتم مع ذلك لا تنكسرون ولا تخضعون لله، ولا تستسلمون لمن قد سلطه الله عليكم. فلم يقبل الخوارج ولا رجعوا غير أن جماعة من الكهنة والرؤساء تم لهم الخروج إلى الروم فآمنهم وأحسن إليهم، فمنع الخوارج من بقي، وضبطوا الطرق، فبكى اليهود وشكوا منع الخوارج لهم من الخروج، فأراد الخوارج قتلهم فبادر الروم ليخلصوهم فهجموا إلى القدس فقاتلوهم قتالاً شديداً فانهزم الروم، وأدتهم الهزيمة(11/372)
إلى داخل القدس الأعظم قدس الأقداس، فقتلهم اليهود فيه، فاختار طيطوس من عسكره ثلاثين ألفاً وأمرهم أن يدخلوا إلى صحن القدس لمحاربتهم، وأراد هو الدخول معهم فمنعه أصحابه وقالوا: قف على موضع عال لتقوى قلوب أصحابك، ويبذلوا المجهود في القتال، ولا تخاطر بنفسك وبنا، واتفق رأيهم على بيات، فعلم بذلك اليهود فلم يناموا تلك الليلة، فلما أصبحوا افترق اليهود على أبواب صحن القدس وأقاموا على مقاتلة الروم سبعة أيام، فقتلوا منهم جماعة كثيرة وأبعدوهم عن القدس، فأمر طيطوس أصحابه بالكف عنهم ليفنيهم الجوع، وكان بقرب القدس قصر عظيم من بناء سليمان بن داود عليهما السلام، ثم زاد فيه ملوك البيت الثاني طبقة عالية من الخشب الحسن ووزروا جميع الجدر بالخشب، فطلوا جميع ما فيه من الخشب بالنفط والكبريت والزفت، ثم أخفوا فيه رجلاً منهم ليشعل النار في مواضع من ذلك الخشب إذا دخله الروم، وكان فيه باب خفي يخرج إلى موضع آخر لا يفطن له إلا من يعرفه، ثم مضوا إلى عسكر الروم ليلاً وهم في القدس فناوشوهم، فاجتمع عليهم من الروم خلق كثير فقاتلوهم ساعة، ثم انهزموا فدخلوا هذا القصر، فدخل الروم وراءهم فلم يجدوا أحداً منهم، فصعدوا(11/373)
إلى الطبقة العالية، فخرج اليهودي الذي كان قد اختفى، فاختلط بهم وأطلق النار في تلك المواضع، فاضطرمت النار في جميع جوانبه فبادر الروم إلى الباب فوجدوا اليهود قد سدوه بسيوفهم فهلكوا، وكان فيهم جماعة من وجوه الروم، فخاف الروم من اليهود ولم يأمنوا أن يحتالوا عليهم بأمر آخر، فخرجوا من القدس والمدينة ورجعوا إلى معسكرهم، فأمر طيطوس بضبط الطرق والتضييق عليهم ليهلكهم الجوع فمات أكثرهم، وخرج كثر من أصحاب الخوارج إلى طيطوس فقتلهم، ثم دخلت الروم إلى بيت الله فلم يجدوا من يمانعهم، وكان طيطوس قد أكد على أصحابه في أن لا يحرقوا القدس فقال له رؤساء أصحابه: إنك إن لم تحرقه لم تتمكن من اليهود، لأنهم لا يزالون يقاتلون ما كان باقياً، فإذا أحرق ذهب عزهم فانكسرت قلوبهم فلم يبق لهم ما يقاتلون عنه، فقال: لا تحرقوه إلا أن آمركم، وكان في طريقه باب مغشى بصفائح الفضة وهو مغلق، فأحرقه بعض الروم ليأخذوا الفضة، فلما احترق وجدوا الطريق إلى القدس الأجل، فدخلوه وحملوا أصنامهم فنصبوها فيه، فخرج قوم ممن بقي من اليهود في الليل إلى أولئك الذين في القدس فقتلوهم، فلما بلغ ذلك طيطوس جاء إلى القدس فقتل أكثر من وجد فيه من اليهود، وهرب من بقي منهم إلى(11/374)
جبل صهيون، فلما كان الغد أحرق الروم أبواب قدس الأقداس، وكانت مغشاة بالذهب، فلما سقطت كبروا وصرخوا صراخاً عظيماً، فجاء طيطوس مسرعاً ليمنع من إحراقه فلم يتم له ذلك، ويقال: إنه صاح حتى انقطع صوته، فلما علم أن الأمر قد خرج عن يده دخل لينظره قبل أن يحترق، فلما رأى حسنه وبهجته تحير وتعجب وقال: حقاً إن هذا البيت الجليل ينبغي أن يكون بيت الله إله السماء ومسكن جلاله ونوره، وإنه ليحق لليهود أن يحاربوا عنه ويستقلوا عليه، ولقد أصابت الأمم وأحسنت فيما كانت تفعله من إعظام هذا البيت وإكرامه وحمل الهدايا إليه، وإنه لأعظم من هيكل رومية ومن جميع هياكل الأمم التي شاهدناها وبلغنا خبرها، وما أردت إحراقه ولكن هم فعلوا ذلك بشرهم ولجاجهم، وكان من بقي من الكهنة لما رأوا الحريق حاربوا الروم عنه، فلما علموا أنهم عاجزون عن دفعهم قالوا: ما نريد أن نبقى بعده فطرحوا أنفسهم في النار فهلكوا، ومضى عند ذلك من بقي من اليهود إلى جميع ما في المدينة من القصور الجليلة والمنازل الحسنة فأحرقوها بجميع ما فيها من الذخائر(11/375)
والآلات، وكان حريق القدس في اليوم العاشر من الشهر الخامس وهو آب، وذلك نظير اليوم الذي أحرق فيه الكسدانيون البيت الأول.
ولما كان في غد هذا اليوم ظهر من اليهود رجل متنبىء فقال لهم: اعلموا أن هذا القدس سيعود عن قليل مبنياً كما كان من غير أن يبنيه الآدميون، بل بقدرة الله تعالى، فداوموا على ما أنتم عليه من محاربة الروم والامتناع من طاعتهم، فاجتمع عليه جماعة فقاتلوا، فظفر بهم الروم فقتلوهم بأسرهم، وقتلوا كثيراً من عوام اليهود وضعفائهم ممن كانوا قد رحموه قبل ذلك، وراسل يوحانان وشمعون طيطوس يطلبان منه الأمان فقال: قد كنت طلبت إليكما ذلك قبل، فأما الآن فأنتما في قبضتي وليس لي عذر عند الله ولا عند أحد من الناس في استبقائكما.
فانحدر ليلاً إلى القدس بأصحابهما فقتلوا قائدين من الروم فأمر طيطوس بقتل من بقي في المدينة من اليهود ممن كان قدر رحمه، فلما رأى(11/376)
أصحاب شمعون ذلك خافوا على أنفسهم، فأرسلوا إلى طيطوس أن يؤمنهم، فقتل شمعون رؤساءهم وهرب الباقون إلى طيطوس فآمنهم وكف أصحابه عمن بقي من اليهود في المدينة؛ ثم هرب شمعون ويوحانان من جبل صهيون إلى موضع استترا فيه، فتم استيلاء طيطوس على جميع البلد وهدم سور جبل صهيون، ولما طال عليهما الاستتار واشتد بهما الجوع خرجا إلى طيطوس فقتلهما، ثم رحل متوجهاً إلى رومية ومعه السبي والغنائم، وكان كلما نزل منزلاً يقدم جماعة ممن ظفر به من الخوارج إلى السباع التي معه حتى أفناهم، وكان العازر لما رأى إفساد شمعون وقتله من لم يكن له ذنب من اليهود قد علم أن لا مخلص لهم من البلاء، فخرج عنه قبل استيلاء الروم على البلد عنها وأقام في بعض المواضع، فلما رحل طيطوس مضى إلى قرية مصيرا فعمر حصنها، فسمع به طيطوس وهو بأنطاكية فرد إليه قائداً من قواده فحاصره، فلما عاين الهلكة دعا أصحابه إلى قتل من خلفهم من العيال والاستقتال ليموتوا أعزة، فأجابوه إلى ذلك وقاتلوا حتى قتلوا كلهم - فسبحان القوي الشديد، الفعال لما يريد.(11/377)
ولما انقضى ذلك، كان كأنه قيل: أما لهذه المرة من كرة كالأولى؟ فأطمعهم بقوله سبحانه وتعالى: {عسى ربكم} أي الذي عودكم بإحسانه {أن يرحمكم} فيتوب عليكم ويكرمكم؛ ثم أفزعهم بقوله تعالى: {وإن عدتم} أي بما نعلم من دبركم إلى المعصية مرة ثالثة فما فوقها {عدنا} أي بما تعلمون لنا من العظمة، إلى عذابكم في الدنيا، وقد عادوا غير مرة بما أشار إليه الكلام، وإن كان في سياق الشرط، ليظهر الفرق بين كلام العالم وغيره، وأشار إلى ذلك قوله في التوراة عقب ما مضى: وإذا تمت عليك هذه الأقوال كلها والدعاء واللعن الذي تلوت عليك فتب في قلبك وأنت متفرق بين الشعوب التي يفرقك الله فيها، واقبل إلى ربك واسمع قوله، واعمل بجميع ما آمرك به اليوم أنت وبنوك من كل قلبك، فيرد الرب سبيك ويرحمك، ويعود فيجمعك من جميع الشعوب التي فرقك فيها، وإن كان المبددون يا آل إسرائيل في أقطار الأرض يجمعك الله ربك من هناك ويقربك من ثم ويردك إلى الأرض التي ورثها أبوكم وترثون، وينعم عليكم وتكثرون أفضل من آبائكم، ويختن الله الرب قلوبكم وقلوب نسلكم إلى الأبد،(11/378)
وتتقون الله ربكم من كل قلوبكم وأنفسكم لما يريحكم وينعمكم وينزل الله كل هذا اللعن بأعدائكم وشنأتكم الذي آذوكم. {وجعلنا} أي بعد ذلك بعظمتنا {جهنم} التي تلقى داخلها بالتهجم والكراهة {للكافرين} وهذا الوصف الظاهر موضع ضمير لبيان تعليق الحكم به على سبيل الرسوخ سواء في ذلك هم وغيرهم، وفيه إشارة إلى أنهم يعودون إلى الإفساد، وإلى أن منهم من يؤمن ومنهم من يكفر {حصيراً *} أي محبساً يحصرهم غاية الحصر، وعن الحسن أن الحصير هو الذي يفرش ويبسط، فالمعنى أنه يجعلها مهادهم.(11/379)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
ولما ثبت أن كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل عليه فيما بين مصر وبيت المقدس في تلك المدة المتطاولة هو هدى لبني إسرائيل، صادق الوعد والوعيد فيما قضى فيه إليهم من أمرهم وأمر بيت المقدس من ترقية حال من أطاعه وإعلائهم وأخذ من عاداهم ومن تعكيس أحوال العصاة مرة بعد أخرى بتسليط الأعداء عليهم بالقتل والأسر(11/379)
والنهب وتخريب البلاد، تنبيهاً على أن طاعة الله تجلب كل خير وكرامة، ومعصيته توجب كل بلية، كما كشف عنه الزمان على ما هو معروف من تواريخ اليهود وغيرها، لاح أن القرآن يزيد عليه في كل معنى حسن وأمر شريف فيما أتى به من الوعود الصادقة، والأحكام المحكمة، والمعاني الفائقة، في النظوم العذبة الرائقة، مع الإعجاز عن الإتيان بآية من مثله لجميع الإنس والجان بنسبة ما زاد المسير المحمدي إلى بيت المقدس - الذي أراه فيه من آياته - على المسير الموسوي الذي آتاه فيه الكتاب، فقال - في جواب من كأنه قال: قد علم أن كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل في مسيرة لقصد محل المسجد الأقصى قيم في الهداية والوعود الصادقة، فما حال الكتاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي أنزل عليه منه في سبب مسيرة إليه في ذلك؟ {إن هذا القرءان} أي الجامع لكل حق والفارق بين كل ملتبس {يهدي} .
ولما كان صاحب الذوق السليم يجد لحذف الموصوف هزة وروعة، لما يجد من الفخامة بإبهامه لا يجدها عند ذكره وإيضاحه، قال {للتي}(11/380)
أي للطرائق والأحوال والسنن التي {هي أقوم} من كل طريقة وسنة وحال دعا إليها كتاب من الكتب السماوية، أما في الصورة فباعتبار ما علا به من البيان، وأما في الوعود فباعتبار العموم لجميع الخلق في الدارين، وأما في الأصول فبتصريف الأمثال وتقريب الوسائل، وحسم مواد الشبه وإيضاح وجوه الدلائل، وأما الفروع فباعتبار الأحسنية تارة في السهولة والخفة، وتارة في غير ذلك - كما هو واضح عند من تأمل ما بين الأمرين.
ولما انقسم الناس إلى مهتد به وضال، أتبع سبحانه ذلك بيانه، وكان التعبير عن حالهما بالبشرى في قوله تعالى: {ويبشر المؤمنين} أي الراسخين في هذا الوصف، ولهذا قيدهم بياناً لهم بقوله تعالى: {الذين} يصدقون إيمانهم بأنهم {يعملون} أي على سبيل التجديد والاستمرار والبناء على العلم {الصالحات} من التقوى والإحسان {أن لهم} أي جزاء لهم في ظاهرهم وبواطنهم {أجراً كبيراً *} إشارة إلى صلاح هذه الأمة وثباتهم على دينهم وأنه لا يزال أمرهم ظاهراً كما كان إنذار كتاب موسى عليه السلام قومه إشارة إلى إفسادهم وتبديلهم دينهم.
ولما بشرهم بما لهم في أنفسهم، أتبعه ما لهم في أعدائهم فقال تعالى:(11/381)
{وأن} أي ويبشر المؤمنين أيضاً بأن {الذين لا يؤمنون} أي لا يتجدد منهم إيمان {بالآخرة} حقيقة أو مجازاً، المسبب عنه أنهم لا يعملون الصالحات حقيقة لعدم مباشرتها، أو مجازاً ببنائها على غير أساس الإيمان؛ وعبر بالعتاد تهكماً بهم، فقال تعالى: {أعتدنا} أي أحضرنا وهيأنا ما هو في غاية الطيب والنفاسة والملاءمة على سبيل الوعد الصادق الذي لا يتخلف بوجه، وهو مع ذلك منظور إليه، لعظمتنا {لهم} من عندنا بواسطة المؤمنين أو بلا واسطة.
ولما استشرف الأعداء إلى هذا الوعد استشراف المغتبط المسرور، أتاهم في تفسيره بما خلع قلوبهم على طريقة «تحية بينهم ضرب وجيع» وسر قلوب الأولياء سروراً عظيماً، فقال تعالى: {عذاباً أليماً *} فإنه لا بشرى لذوي الهمم أعلى ولا أسر من الانتقام من مخالفيهم، فصار فضل الكتاب على الكتاب كفضل الذهاب على الذهاب، وحذف المؤمنين الذين لا يعملون الصالحات، لتمام البشارة بالإشارة إلى أنهم من القلة في هذه الأمة الشريفة بحيث لا يكادون أن يوجدوا.
ولما ذكر سبحانه ما لكلامه من الدعاء إلى الأقوام،(11/382)
أتبعه ما عليه الإنسان من العوج الداعي له إلى العدول عن التمسك بشرائعه القويمة والإقدام على ما لا فائدة فيه، تنبيهاً على ما يجب عليه من التأني للنظر فيما يدعو إليه نفسه ووزنِه بمعيار الشرع، فقال تعالى: {ويدع} حذف واوه - الذي هو لام الفعل - خطأ في جميع المصاحف ولا موجب لحذفه لفظاً في العربية - مشير إلى أنه يدعو بالشر لسفهه وقلة عقله، وهو لا يريد علو الشر عليه - بما أشير إليه بحذف ما معناه عند أهل الله الرفعة والعلو، وإلى أن غاية فعله الهلاك إلى أن يتداركه الله، وقد ذكرت حكم الوقف عليه وعلى أمثاله في سورة القمر {الإنسان} أي عند الغضب ونحوه على نفسه وعلى من يحبه، لما له من الأنس بنفسه والنسيان لما يصلحه {بالشر} أي ينادي ربه ويتضرع إليه بسبب إيقاع الشر به {دعاءه} أي مثل دعائه {بالخير} أي بحصول الخير له ولمن يحبه؛ ثم نبه على الطبع الذي هو منبع ذلك، فقال تعالى: {وكان الإنسان} أي هذا النوع بما له من قلة التدبر لاشتغاله بالنظر في عطفيته والأنس بنفسه، كوناً هو مجبول عليه {عجولاً *} أي مبالغاً في العجلة يتسرع إلى طلب كل ما يقع في(11/383)
قلبه ويخطر بباله من غير أن يتأنى فيه تأني المتبصر الذي لا يريد أن يوقع شيئاً إلا في أتم مواقعه، ولذلك يستعجل العذاب لنفسه استهزاء، ولغيره استشفاء؛ والعجلة: طلب الشيء في غير وقته الذي لا يجوز تقديمه عليه، وأما السرعة فهي عمله في أول وقته الذي هو أولى به.(11/384)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
ولما ثبت ما لصفته تعالى من العلو، ولصفة الإنسان من السفول تلاه بما لأفعاله تعالى من الإتقان، ذاكراً ما هو الأقوم من دلائل التوحيد والنبوة في العالمين: العلوي والسفلي، ثم ما لأفعال الإنسان من العوج جرياً مع طبعه، أو من الإحسان بتوفيق اللطيف المنان، فقال تعالى مبيناً ما منحهم به من نعم الدنيا بعد ما أنعم عليهم به من نعم الدين: {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة {الّيل والنهار آيتين} دالتين على تمام العلم وشمول القدرة، آية الليل كالآيات المتشابهة، وآية النهار كالمحكمة، فكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يتيسر الانتفاع به إلا بهاتين الآيتين {فمحونا}(11/384)
أي بعظمتنا الباهرة {آية الّيل} بإعدام الضياء فجعلناها لا تبصر بها المرئيات كما لا يبصر الكتاب إذا محي {وجعلنا} أي بعظمتنا {ءاية النهار} ولما كانت في غاية الضياء يبصر بها كل من له بصر، أسند الإبصار إليها مبالغة فقال: {مبصرة} أي بالشمس التي جعلها منيرة في نفسها، فلا تزال هذه الدار الناقصة في تنقل من نور إلى ظلمة ومن ظلمة إلى نور كما للإنسان - بعجلته التي يدعو إليها طبعه وتأنيه الداعي إليه عقله - من انتقال من نقصان إلى كمال ومن كمال إلى نقصان، كما أن القمر الذي هو أنقص من الشمس كذلك: ثم ذكر بعض المنافع المترتبة على ذلك، فقال تعالى: {لتبتغوا} أي تطلبوا طلباً شديداً {فضلاً من ربكم} أي المحسن إليكم فيهما بضياء هذا تارة وبرد هذا أخرى {ولتعلموا} بفصل هذا من هذا {عدد السنين} أي من غير حاجة إلى حساب، لأن النيرين يدلان على تحول الحول بمجرد تنقلهما.
ولما كانا أيضاً يدلان على حساب المطالع والمغارب، والزيادة والنقصان، وغير ذلك من الكوائن، لمن أمعن النظر، وبالغ في الفكر،(11/385)
قال تعالى: {والحساب} أي جنسه، فصلناهما لذلك على هذا الوجه المتقن بالزيادة والنقصان، وتغير الأحوال في أوقات معلومة، على نظام لا يختل على طول الزمان مقدار ذرة، ولا ينحل قيس شعرة إلى أن يريد الله خراب العالم وفناء الخلق، فيبيد ذلك كله في أسرع وقت وأقرب زمن، ولولا اختلافهما لاختلطت الأوقات وتعطلت الأمور {وكل شيء} غيرهما مما تحتاجون إليه في دينكم أو دنياكم {فصلناه} أي بعظمتنا، وأزلنا ألباسه، وأكد الأمر تنبيهاً عل تمام القدرة، وأنه لا يعجزه شيء يريده، فقال تعالى: {تفصيلاً *} فانظروا بأبصاركم وبصائركم، وتتبعوا في علانياتكم وسرائركم، تجدوا أمراً متقناً ونظاماً محكماً {ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير} [الملك: 4] .
ولما كان هذا أمراً دقيقاً جداً، أتبعه ما هو أدق منه وأغرب في القدرة والعلم من تفاصيل أحوال الآدميين، بل كل مكلف بعضها من بعض من قبل أن يخلقهم، فقال تعالى: {وكل إنسان} أي من في طبعه التحرك والاضطراب {ألزمناه} أي بعظمتنا {طائره} أي عمله الذي قدرناه عليه من خير وشر، ولعله عبر به(11/386)
لأنهم كانوا لا يقدمون ولا يحجمون في المهم من أعمالهم إلا بالطائر فيقولون: جرى لفلان الطائر بكذا.
{في عنقه} أي الذي محل الزين بالقلادة ونحوها، والشين بالغل ونحوه، إلزاماً لا يقدر أن ينفك عن شيء منه كما لا يقدر على الانفكاك عن العنق، وذلك كما ألزمنا بني إسرائيل ما قضينا إليهم في الكتاب، فكان كما قلنا، وهم يعلمون نه من السوء بمكان، فلم يقدروا على الاحتراز منه والانفصال عنه، فلا يمكن أن يظهر في الأبد إلا ما قضى به في الأزل «جف القلم بما هو كائن» {ونخرج} أي بما لنا من العظمة وشمول العلم وتمام القدرة {له يوم القيامة} أي الذي لا بد من إيجاده {كتاباً} بجميع ما عمل {يلقاه} حال كونه {منشوراً *} تكتبه حَفَظَتَنا كل يوم، ثم إذا صعدوا قابلوا ما فيه على ما سطرناه قديماً في اللوح المحفوظ فيجدونه كما هو، لا خلاف فيه أصلاً، فإذا لقي كتابه يوم العرض قيل له: {اقرأ كتابك} أنت بنفسك غير ملزم بما يقرأه غيرك {كفى} وحقق الفاعل بزيادة الباء فقال تعالى: {بنفسك اليوم} أي في جميع هذا اليوم الذي تكشف فيه الستور، وتظهر جميع الأمور {عليك حسيباً *} أي حاسباً بليغاً، فإنك تعطي القدرة على قراءته(11/387)
أمياً كنت أو قارئاً، ولا ترى فيه زيادة ولا نقصاً، ولا تقدر أن تنكر منه حرفاً، إن أنكره لسانك شهدت عليك أركانك، فيا لها من قدرة باهرة، وقوة قاهرة، ونصفة ظاهرة! .
ولما كان ما مضى، أنتج قطعاً معنى ما قلنا لبني إسرائيل {إن أحسنتم} الآية، لكل أحد منهم ومن غيرهم، وذلك قوله تعالى: {من اهتدى} فتبع الهدى {فإنما يهتدي لنفسه} لأن ثوابه لا يتعداه {ومن ضل} بالإعراض عما أنزلنا من البيان {فإنما يضل عليها} لأن عقابه عليه، لا يتجاوزه {ولا تزر وازرة} أي أي وازرة كانت {وزر أخرى} لتخفف عنها، بل لكل جزاء عمله لا يتعداه إلى غيره، فنثيب من اهتدى ونعذب من ضل {وما كنا} أي على عظمتنا {معذبين} أحداً {حتى نبعث} أي بعثاً يناسب عظمتنا {رسولاً *} فمن بلغته دعوته فخالف أمره واستكبر عن اتباعه عذبناه بما يستحقه، وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام في جميع الأمم كما قال تعالى {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً} [النحل: 36] {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} [(11/388)
فاطر: 24] فإن دعوتهم إلى الله تعالى قد انتشرت، وعمت الأقطار واشتهرت، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبي بعد إسماعيل عليه السلام
{ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة} [ص: 7] فإنه يفهم أنهم سمعوه في الملة الأولى فمن بلغته دعوة أحد منهم بوجه من الوجوه فقصر في البحث عنها فهو كافر مستحق للعذاب، فلا تغتر بقول كثير من الناس في نجاة أهل الفترة مع إخبار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار، وأن ما يدحرج الجعل خير منهم - إلى غير ذلك من الأخبار؛ قال الإمام أبو عبد الله الحليمي أحد أجلاء الشافعية وعظماء أئمة الإسلام رضي الله عنهم في أوائل منهاجه في باب من لم تبلغه الدعوة: وإنما قلنا: إن من كان منهم عاقلاً مميزاً إذا رأى ونظر إلا أنه لا يعتقد ديناً فهو كافر، لأنه وإن لم يكن سمع دعوة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء الذين كانوا قبله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على كثرتهم، وتطاول أزمان دعوتهم، ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم والذين كفروا بهم وخالفوهم،(11/389)
فإن الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق، وإذا سمع آية دعوة كانت إلى الله فترك أن يستدل بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر، كان بذلك معرضاً عن الدعوة فكفر - والله أعلم، وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت إلهاً - وما نرى أن ذلك يكون - فإن كان فأمره على الاختلاف - يعني عند من يوجب الإيمان بمجرد العقل ومن لا يوجبه إلا بانضمام النقل. وما قاله الحليمي نقل نحوه عن الإمام الشافعي نفسه رضي الله عنه؛ قال الزركشي في آخر باب الديات من شرحه على المنهاج: وقد أشار الشافعي إلى عسر قصور - أي عدم بلوغ - الدعوة حيث قال: وما أظن أحداً إلا بلغته الدعوة إلا أن يكون قوم من وراء النهر بكوننا، وقال الدميري: وقال الشافعي: ولم يبق من لم تبلغه الدعوة.
ولما أشار إلى عذاب المخالفين، قرر أسبابه وعرف أنها بقدره،(11/390)
وأن قدره لا يمنع حقوق العذاب، لبناء الأمر على ما يتعارفه ذوو العقول بينهم فقال تعالى: {وإذا} أي فنبعث الرسل بأوامرنا ونواهينا، وإذا أردنا أن نحيي قرية الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ألقينا في قلوب أهلها امتثال أوامرنا والتقيد باتباع رسلنا، وإذا {أردنا} وإرادتنا لا تكون إلا عظيمة جداً {أن نهلك} أي بعظمتنا {قرية} في الزمن المستقبل {أمرنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر أحد على مخالفتها {مترفيها} الذين لهم الأمر والنهي بالفسق، أي استدرجناهم بإدرار النعم ودفع النقم على ما يعملون من المعاصي، الذي كان - بكونه سبباً لبطرهم ومخالفتهم - كالأمر بالفسق {ففسقوا فيها} بعد ما أزال الرسول معاذيرهم بتبليغ الرسالة كما قال تعالى
{فلما نسوا ما ذكروا به} [الأنعام: 44]- أي على ألسنة الرسل - {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} [الأنعام: 44] الآية {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها} [الأنعام: 123] وخص المترفين لأن غيرهم لهم تبع، ولأنهم أحق الناس بالشكر وأولى بالانتقام عند الكفر، ويجوز أن يكون: أمرناهم بأوامرنا ففسقوا فيها، أي الأوامر بالطاعات التي يعلم قطعاً(11/391)
أن أوامرنا تكون بها ولا تكون بغيرها، لأنا لا نأمر بالفحشاء، وقد جرت العادة بأن المترف عسر الانقياد، لا تكاد تسمح نفسه بأن يصير تابعاً بعدما كان متبوعاً، فعصوا فتبعهم غيرهم لأن الأصاغر تبع للأكابر فأطبقوا على المعصية فأهلكناهم، وقرأ يعقوب: آمرنا - بمد الهمزة بمعنى كثرنا، من آمرت الشيء وأمرته فأمر - إذا كثرته، وفي الحديث «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج؛ وروى البخاري في التفسير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية: آمر بنو فلان. والكثرة راجعة إلى الأمر الذي هو ضد النهي، فإنه نتيجة العز الذي هو لازم الكثرة، ويجوز أن يكون من المؤامرة، أي أمرناهم بأوامرنا فما امتثلوا وأمرونا بأوامرهم، أي سألونا ما يريدون فأعطيناهم ذلك استدراجاً فأبطرهم نيل الأماني ففسقوا {فحق} أي وجب وجوباً لا شك في وقوعه {عليها القول} الذي توعدناهم به على لسان الرسول بمباشرة البعض للفسق وسكوت الباقين على حسب ما تتعارفونه بينكم في أن من خالف الأمر الواجب للفسق وسكوت الباقين على حسب ما تتعارفونه بينكم في أن من خالف الأمر الواجب عليه استحق العقاب {فدمرناها} أي أهلكناها إهلاكاً شديداً بغتة غير مبالين بها فجعلناها(11/392)
كالمدرة المفتتة، وكان أمرها على عظمتنا هيناً، ولذلك أكد فقال تعالى: {تدميراً *} .(11/393)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
ولما قرر أن هذا شأنه إذا أراد أن يهلك، أخبر أنه فعل ذلك بمن لا يحصيهم العد من القرون، ولا يحيط بهم الحد من الأمم، لأن الاعتبار بالمشاهد أوقع في القلب وأهول عند النفس، فكأنه قال: كم فعلنا ذلك بالقرى ولم نستعجل في إهلاك قرية منهم ولا أخذناهم من غير إنذار، بل أرسلنا فيهم وأملينا لهم إلى أن كان ما علمناه في الأزل، وجاء الوقت الذي قدرناه، وبلغوا في الذنوب ما يستحقون به الأخذ، ولقد أهلكنا قوم نوح على هذا السنن، وكانوا أهل الأرض - كما مضت الإشارة إليه ووقع التنبيه عليه، وإهلاكهم كان في إبلاغ أهل الأرض ما أرسلنا به رسلنا من التوحيد لأن ذلك لم يخفف على أحد بعدهم، وعطف على هذا المقدر قوله تعالى: {وكم أهلكنا} أي بما لنا من العظمة، وبين مدلول «كم» بقوله تعالى: {من القرون} على هذا السنن.
ولما كان الإهلاك بعذاب الاستئصال لم يستغرق ما بعده، أدخل الجار فقال تعالى: {من بعد نوح} الذي أنتم ذرية من أنجيناه(11/393)
بالحمل معه بذنوبهم أمهلناهم حتى أعذرنا إليهم ثم أخذناهم في مدد متفاوتة، فكان بعضهم أقصر مدة من بعض وبعضهم أنجيناه بعد أن أحطنا به مخايل العذاب، وأما من قبل نوح فالظاهر من عبارة التوراة وسكوت القرآن أنهم لم يكونوا كفاراً، وبه صرح كثير من المفسرين في تفسير {كان الناس أمة واحدة} [البقرة: 213] .
ولما كان ذلك ربما أوجب أن يقال: كيف يعذب الساكت مع إمكان عذره بعجز أو غيره؟ قال دافعاً لذلك تاركاً مظهر العظمة، تلطفاً بهذا النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، في جملة حالية: {وكفى بربك} أي المحسن إليك بالعفو عن أمتك وأعقابهم من الاستئصال {بذنوب عباده} أي لكونه خلقهم وقدر ما فيهم من جميع الحركات والسكنات {خبيراً} من القدم، فهو يعلم السر وأخفى، وأما أنتم فلستم هناك، فكم من إنسان كنتم ترونه من أكابر الصالحين ثم أسفرت عاقبته عند الامتحان عن أنه من أضل الضالين {بصيراً *} بها، إذا وقعت لا يخفى عليه شيء منها، وأما أتم فكم من شخص(11/394)
كنتم ترونه مجتهداً في العبادة، فإذا خلا بارز ربه بالعظائم.
ولما تقرر أنه سبحانه خبير بذنوبهم بعد تزهيده في الدنيا بما ذكر من مصارع الأولين، أتبعه الإخبار بأنه يعاملهم على حسب علمه على وجه معرف بعلمه بجميع طوياتهم من خير وشر، مرغب في الآخرة، مرهب من الدينا، لأنها المانعة من اتباع الرسل والتقيد بطاعتهم، خوفاً من نقص الحظ من الدينا بزوال ما هو فيه من الرئاسة والمال والانهماك في اللذة جهلاً بأن ما قدر لا يكون غيره سواء كان صاحبه في طاعة أو معصيته فقال تعالى: {من كان يريد} أي إرادة هو فيها في غاية الإمعان بما اقتضاه طبعه المشار إليه بفعل الكون.
ولما كان مدار مقصود السورة على الإحسان الذي هو العبادة على المشاهدة، وكان ذلك منافياً لحال من يلتفت إلى الدنيا، عبر بقوله تعالى: {العاجلة} أي فقط {عجلنا} أي بعظمتنا {له فيها} أي العاجلة {ما نشاء} مما يريده لا جميع ما يريده؛ ثم أبدل من «له» قوله تعالى: {لمن نريد} أي لا لكل من أراد ذلك، تنبيهاً على أن ذلك بقوتنا لا بقوة ذلك المريد {ثم جعلنا}(11/395)
أي بما لنا من العظمة {له} أي لظاهره وباطنه {جهنم} أي الدركة النارية التي تلقى بالتجهم من كان يلقى الدنيا وأهلها بالتبسم {يصلاها} في الآخرة {مذموماً} أي مفعولاً به الذم، وهو ضد المدح {مدحوراً *} مدفوعاً مطروداً مبعداً، فينبغي لمريد الدنيا أن لا يزال على حذر لأنه لا ينفك من عذاب الآخرة، فإن لم يعط شيئاً من مناه - كما أشار إليه {لمن نريد} اجتمع له العذابان كاملين: فقر الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أعطى فهو لا يعطي كل ما يريد - بما أشار إليه «ما نشاء» - فيجتمع له عذاب ما منعه منها مع عذاب الآخرة.
ولما ذكر الجاهل ذكر العالم العامل فقال تعالى: {ومن أراد الآخرة} أي مطلق إرادة - بما أشار إليه التجريد {من كان} {وسعى} أي وضم إلى نيته العمل بأن سعى {لها سعيها} أي الذي هو لها، وهو ما كانت جديرة به من العمل بما يرضي الله بما شرعه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا أي سعي كان بما لم يشهد ظاهر الكتاب والسنة، إعلاماً بأن النية لا تنفع إلا مع العمل، إما بالفعل عند التمكن، وإما بالقوة عند عدمه؛ ثم ذكر شرط السعي الذي لا يقبل إلا به، فقال تعالى: {وهو مؤمن} أي راسخ في هذا الوصف(11/396)