الإنقاذ من عذاب الإنذار الذي هذه سورته بخلاف ما مضى في الأنعام.
ولما لم يتضرعوا صادقين من قلوبهم معترفين بالحق لأهله كما يحق له، استدراجهم بإدرار النعم، فقال مشيراً إلى طول مدة الابتلاء واستبعادهم لكشف ذلك البلاء: {ثم بدلنا} ومظهر العظمة يؤيد الاحتمال الثاني {مكان} أي جعلنا {السيئة} أي النقمة {الحسنة} أي النعمة، وبين أنه مد النعمة بقوله: {حتى عفوا} أي بدل كثروا وكثرت نعمهم فلم يشكروا {وقالوا} مسندين الأمر إلى غير أهله {قد مس آباءنا الضراء} أي الشدة {والسراء} أي الرخاء والنعمة، معتقدين أن هذه عادة الدهر لا فعل الفاعل المختار.
ولما لم يعتبروا ويعلموا أن ذلك ممن يحب أن لا يعدل عن بابه ولا يغفل عن جنابه، وظنوا أن ذلك دأب الدهر وفعل الزمان، واستمروا على فسادهم في حال الشدة والرخاء، سبب عنه قوله: {فأخذناهم} أي بعظمتنا أشد الأخذ وأفظعه في الظاهر والباطن {بغتة} أي فجأة حتى لا ينفعهم التوبة، وأكد معنى البغت تحقيقاً لأمره بقوله: {وهم لا يشعرون*} فحق من سمع هذا أن يبادر إلى الرجوع عن كل مخالفة فيها خوفاً من الأخذ بغتة.
ولما بين تعالى ما كان قولهم مسبباً له من الأخذ بغتة، بين ما كان يكون ضد قولهم مسبباً له من البركات لو وقع بقوله: {ولو أن أهل القرى} أي هذه التي قصصنا أخبارها {آمنوا} أي بما أتاهم به رسلهم(8/11)
{واتقوا} أي خافوا أمر الله وجعلوا بينهم وبين سخطه وقاية من طاعاته فاستمروا على إيمانهم {لفتحنا عليهم بركات} أي خيرات ثابته لا يقدر أحد على إزالتها {من السماء} أي بالمطر الذي يكون كأفواه القرب وما شابهه {والأرض} بالنبت الغليظ وما قاربه، وقراءة ابن عامر بالتشديد يدل على كثرة تلك البركات، وأصل البركة الموظبة على الخير.
ولما كان الكلام بما أفهمته {لو} في قوة أنهم يؤمنوا عبر بقوله: {ولكن كذبوا} أي كان التكذيب ديدنهم وشأنهم، فلذلك لم يصدقوا رسلنا في شيء، ولما كان التكذيب موضع الجلافة والجمود الذي هو سبب لعدم النظر في الدليل، سبب عنه العذاب فقال: {فأخذناهم} أي بما لنا من العظمة {بما} أي بسبب ما {كانوا يكسبون*} أي بجبلاتهم الخبيثة من الأعمال المناسبة لها.(8/12)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
ولما كانوا قد ضلوا ضلالاً بعيداً في غلطهم في جعلهم السراء والضراء سبباً للأمن من مكر الله، قال منكراً عليهم أمنهم عاطفاً له على {كذبوا} لأنه سبب الغلط وهو سبب الأمن فقال: {أفأمن أهل القرى} أي كذبوا ناسين أفعالنا المرهبة بالمضارّ والمرغبة بالمسارّ فأمنوا {أن يأتيهم بأسنا} أي الناشىء عما لنا من العظمة التي لا ينساها إلا خاسر {بياتاً} أي ليلاً وهم قد أخذوا الراحة في بيوتهم، ولما كان النوم شيئاً واحداً يغمر الحواس فيقتضي الاستقرار، عبر بالاسم الدالّ على الثبات فقال: {وهم نائمون*} أي على غاية الغفلة عنه.(8/12)
ولما كان ربما قال جاهل: لو جاءهم وهم إيقاظ لأمكن أن يدافعوا! قال: {أو أمن أهل القرى} أي مجتمعين أو منفردين فأنه لا فرق عندنا في ذلك {أن يأتيهم بأسنا ضحى} أي وقت راحتهم واجتماع قواهم ونشاطهم؛ ولما كانت اليقظة موجبة للحركة، عبر بالمضارع في قوله: {وهم يلعبون*} أي يتجدد لعبهم شيئاً فشيئاً في ذلك الوقت، وفيه تقريع لهم بنسبتهم إلى أنهم صبيان العقول، لا التفات لهم إلى غير اللعب.
ولما كان ضلالهم - الذي نسبوا فيه الأمر إلى غير أهله - أشنع ضلال لتضمنه التعطيل وما يجر إليه من الأباطيل، كرر الإنكار عليهم على وجه أشد من الأول فقال مسبباً الإنكار عما أثبت هذا الكلام من العظمة التي لا يتمارى فيها ذو لب: {أفأمنوا مكر الله} أي فعله الذي يشبه المكر بأخذ الإنسان من حيث لا يشعر بالاستدراج بما يريد من النعم والنقم؛ وسبب عن ذلك قوله: {فلا يأمن مكر الله} أي الذي لا أعظم منه فلا يرد له أمر {إلا القوم الخاسرون*} أي الذين كانت قواهم سبباً لعراقتهم في الأفعال الضارة والخصال المهلكة.
ولما بان بما مضى حال الكفار مجملاً ومفصلاً، وكان المقصود من ذلك عبرة السامعين، وكان أخذهم بالبأساء والضراء مع إبقاء مهجهم وحفظ أرواحهم وأفهامهم بعد إهلاك من قبلهم في بعض ما لحقهم من ذلك وإيراثهم الأرض من بعدهم حالاً يكونون بها في حيز من يرجى(8/13)
منه الخوف المقتضي للتضرع والعلم قطعاً بأن الفاعل لذلك هو الله، وأنه لو شاء لأهلكهم بالذنوب أو غطى أفهامهم بحيث يصيرون كالبهائم لا يسمعون إلا دعاء ونداء، فسماعهم حيث لا فهم كلا سماع، فجعلوا ذلك سبباً للأمن؛ أنكر عليهم ذلك بقوله {أفأمن} إلى آخره؛ ثم أنكر عليهم عدم الاستدلال على القدرة فقال عاطفاً على {أفأمن} : {أولم يهد} أي يبين أخذنا الأمم الماضية بالبأساء والضراء ثم إهلاكهم إذا لم يتعظوا {للذين يرثون الأرض} وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف وإشارة إلى بلادتهم لعدم البحث عن الأخبار ليعلموا منها ما يضر وما ينفع فلا يكونوا كالبهائم، فإنهم لو تأملوا أحوالهم وأحوال من ورثوا أرضهم وأحوال الأرض لكفاهم ذلك في الهداية إلى سواء السبيل.
ولما كان إرثهم غير مستغرق للزمان، أتى بالجارّ فقال: {من بعد أهلها} ثم ذكر مفعول {يهد} بقوله: {أن} أي إنا {لو نشاء} أي في أيّ وقت أردنا {أصبناهم بذنوبهم} أي إصابة نمحقهم بها كما فعلنا بمن ورثوا أرضهم؛ ولما كان هذا تخويفاً للموجودين بعد المهلكين، ومنهم قريش وسائر العرب الذين يخاطبون بهذا القرآن، فكأن المخوف به لم يقع بعد، عطف على أصبنا قوله: {ونطبع على قلوبهم} أي بإزالة عقولهم حتى يكونوا كالبهائم، ولذلك سبب عنه قوله:(8/14)
{فهم لا يسمعون*} أي سماع فهم، وعبر عن الإصابة بالماضي إشارة إلى سرعة الإهلاك مع كونه شيئاً واحداً غير متجزىء، وعن الطبع بالمضارع إيماء إلى التجدد بحيث لا يمر زمن إلا كانوا فيه في طبع جديد.(8/15)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
ولما انقضى ذلك على هذا الوجه الأعظم والنظم الأبلغ الأحكم، وكانت هذه القرى بحيث تعرفها العرب ويرونها، أشار إليهم حثّاً على الاعتبار بهم، ولما كان أهلها جديرين بالبعد عنهم والهرب منهم، عبر عنهم بأداة البعد فقال: {تلك القرى} أي محالّ القبائل الخمس، ويجوز أن يكون البعد لعظمة ما حصل لأهلها من العذاب، ويؤيده قوله مبيناً لحالها: {نقص عليك} .
ولما كان العاقل من يكفيه أدنى شيء، هوّل الأمر بأن أخبارها تفوت الحصر، وأن ما قص منها يكفي المعتبر، فقال: {من أنبائها} أي أخبارها العظيمة الهائلة المطابقة للواقع شيئاً بعد شيء كما يفعل من يتتبع الأثر، وأنث الضمير لأن لرؤية القرى أنفسها مدخلاً في معرفة أخبار أهلها.
ولما كان المقام مقام العجب من التكذيب بعد ذلك البيان، كان ربما تخيل متخيل أنهم لم يؤتوا بالبيان الشافي، فشهد الله تعالى للرسل عليهم السلام تصديقاً لمن قال مهم: قد جاءتكم بينة، بقوله: {ولقد} أي والحال أنه قد {جاءتهم} أي أهل القرى لأنهم المقصودون بالذات {رسلهم} أي الذين أرسلناهم إليهم {بالبينات فما} أي فلم يتسبب عن(8/15)
ذلك بسبب طبعنا على قلوبهم إلا أنهم ما {كانوا} موفقين {ليؤمنوا} أي عند مجيئها، وقد أكد منافاة حالهم الإيمان باللام والكون أتم تأكيد {بما} أي بالذي {كذبوا} أي به، وحذفها أدل على الزجر من مطلق التكذيب وأوفق لمقصود السورة.
ولما كان تكذبيهم غير مستغرق للزمان الماضي، أدخل الجارّ فقال: {من قبل} أي قبل مجيء الرسل إليهم أو بتكذيبهم الواقع منهم للرسل فيما أتوا به عن الله من قبل الأخذ بغتة، أو من قبل مجيء الرسل بالآيات، فإنهم أول ما جاؤوهم فاجؤوهم بالتكذيب، فجوزوا على تكذيب الحق من غير نظر في دليل بالطبع على قلوبهم فأتوهم. بالمعجزات فأصروا على ذلك التكذيب ووقفوا لذلك الطبع مع حظوظهم، ومنعتهم شماختهم وشدة شكائمهم عن الإيمان لئلا يقال: إنهم خافوا أولا فيما وقع منهم من التكذيب فكانوا فيه على غير بصيرة، أو إنهم خافوا ثانياً ما قرعتهم به الرسل من الوعيد، فدخلوا جبناً فيما يعلمون بطلانه، فكان تزيين هذا لهم طبعاً على قلوبهم، فكأنه قيل: إن هذا العجب هل يقع في مثل ذلك أحد؟ فقيل: نعم، مثل ما طبعنا على قلوبهم حتى صارت مع الفهم لا تنتفع، فكأنها لا تفهم فكأنها لا تسمع {كذلك يطبع الله} أي الجامع لصفات الكبر ونعوت الجلال بما يجعل من الرين بما له(8/16)
من العظمة {على قلوب الكافرين*} أي كل من يغطي ما أعطاه الله من نور العقل بما تدعوه إليه نفسه من الهوى عريقاً في الاتصاف بذلك فيترك آيات الله.
ولما كان نقض العهد أفظع شيء ولا سيما عند العرب، قال عاطفاً على «فما كانوا» : {وما وجدنا} أي في عالم الشهادة {لأكثرهم} أي الناس، وأكد الاستغراق فقال: {من عهد} طبق ما كان عندنا في عالم الغيب، وهذا إما إشارة إلى الميثاق يوم {ألست بربكم} إن كان ذلك على حقيقته، أو إلى ما يفعلون حال الشدائد من الإقلاع عن المعاصي والمعاهدة على الشكر
{لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين} [يونس: 22] أو إلى إقامة الحجج بإفاضة العقول ونصب الأدلة، فصار بنصبها وإيضاحها للعقول كأنه أخذ العهد على من عقل أنه يبذل الجهد في التأمل ولا يتجاوز ما أبداه له صحيح النظر {وإن} أي وإنا {وجدنا} أي علمنا في عالم الشهادة {أكثرهم لفاسقين*} أي خارجين عن دائرة العهد مارقين مما أوقفهم عند الحد عريقين في ذلك طبق ما كنا نعلمه منهم في عالم الغيب، وما أبرزناه في عالم الشهادة إلا لنقيم عليهم به الحجة على ما يتعارفونه بينهم في مجاري عاداتهم ومدارك عقولهم.
ولما انقضى بيان هذا الإجمال الخالع لقلوب الرجال، أتبعه الكشف(8/17)
عما كان بعد قصة شعيب عليه السلام من قصة صهره موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وهي كالدليل على آيات الإجمال كما كانت القصص الماضية كالدليل على ما في أول السورة من الإجمال، فإن قصة فرعون مشتملة على الأخذ بالبأساء والضراء، ثم الإنعام بالرخاء والسراء، ثم الأخذ بغتة بسبب شدة الوقوف مع الضلال بعد الكشف الشافي والبيان لما على قلوبهم من الطبع وما قادت إليه الحظوظ من الفسق، وكأنه فصلها عن القصص الماضية تنويهاً بذكرها وتنبيهاً على عليّ قدرها، لأن معجزات صاحبها من معجزات من كان قبله، وجهل من عالجهم كان أعظم وأفحش من جهل تلك الأمم، ولذلك عطفها بأداة البعد مع قرب زمنها من التي قبلها إشارة إلى بعد رتبتها بما فيها من العجائب وما اشتملت عليه من الرغائب والغرائب، ولذلك مد لها الميدان وأطلق في سياقها للجواد العنان فقال: {ثم بعثنا} أي على عظمتنا {من بعدهم} أي الرسل المذكورين والأمم المهلكين {موسى بآياتنا} أي التي يحق لها العظمة بإضافتها إلينا فثبت بها النبوة {إلى فرعون} هو علم جنس لملوك مصر ككسرى لملوك فارس وقيصر لملوك الروم، وكان اسم فرعون موسى عليه السلام قابوس، وقيل: الوليد بن مصعب ابن الريان {وملئه} أي عظماء قومه، وخصمهم(8/18)
لأنهم إذا أذعنوا أذعن من دونهم، فكأنهم المقصودون والإرسال إليهم إرسال إلى الكل.
ولما سببت لهم الظلم الظلم قال: {فظلموا} أي وقعوا في مثل الظلام حتى وضعوا الأشياء في غير مواضعها فوضعوا الإنكار موضع الإقرار {بها} أي بسبب رؤيتها خوفاً على رئاستهم ومملكتهم الفانية أن تخرج من أيديهم؛ ولما كان ذلك من أعجب العجب، وهو أن سبب العدل يكون سبب الظلم، وكان هذا الظلم أعظم الفساد، سبب عنه قوله معجباً: {فانظر} أي بعين البصيرة {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {المفسدين*} فلخص في هذه الآية على وجازتها جميع قصتهم على طولها، وقدم ذكر الآيات اهتماماً بها ولأنها الدليل على صحة دعوى البعث.(8/19)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
ولما كان التقدير عطفاً على {فظلموا بها} : ووضعها موسى مواضعها، عبر عنه بقوله: {وقال موسى يا فرعون} خاطبه بما يعجبه امتثالاً لأمر الله تعالى له أن يلين في خطابه، وذلك لأن فرعون لقب مدح لمن ملك مصر.
ولما أتاهم عليه السلام وهم عارفون بأمانته وصدقه وعظم مكانته ومكارم أخلاقه وشريف عنصره وعظيم مخبره، وفرعون أعظمهم معرفة به لأنه ربي في حجره، كان هذا حالاً مقتضياً لأن يلقي إليهم الكلام غير مؤكد، لكن لما كان الإرسال من الله أمراً عظيماً جداً، وكان المقصود(8/19)
به تخلية سبيل بني إسرائيل، وكان فرعون ضنيناً بذلك، أكده بعض التأكيد فقال: {إني رسول} ثم بين مرسله بقوله: {من رب العالمين*} أي المحسن إليهم أجمعين - وأنتم منهم - بإيجادهم وتربيتهم، فهو تنبيه لمن سمعه على أن فرعون مربوب مقهور.
ولما خلفه مما يدعيه من الربوبية دالاً على تسويته ببقية العالمين: ناطقهم وصامتهم، وكان لذلك بعيداً من الإذعان لهذا الكلام، أتبعه قوله على وجه التأكيد مستأنفاً بيان ما يلزم للرسول: {حقيق} أي بالغ في الحقية، وهي الثبات الذي لا يمكن زواله {على أن لا أقول على الله} أي الذي له جميع الكمال، ولا عظمة لسواه ولا جلال {إلا الحق} أي الثابت الذي لا تمكن المماراة فيه اصلاً لما يصدقه من المعجزات، وحاصل العبارة ومآلها: حق على قولي الذي أطلقه على الله أن لا يكون إلا الحق أي غير الحق، ولذلك عبر بالاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات، وقراءة نافع بتشديد ياء الإضافة في {على} بمعنى هذا سواء، لأن من حق عليه شيء حق على كلامه.
ولما كان الحال إذ ذاك يقتضي توقع إقامة موسى عليه السلام البينة على صحة رسالته كان كأنه قيل: ما دليل صدقك؟ فقال مفتتحاً بحرف التوقع والتحقيق: {قد جئتكم} أي كلكم، لا أخص أحداً منكم {ببينة}(8/20)
دليلاً على رسالتي وقولي الحق {من ربكم} أي المحسن إليكم بكل نعمة ترونها لديكم من خلقكم وزرقكم وكف الأمم عن انتزاع هذا الملك منكم وإهلاككم، وتلك البينة هي المعجزة، فكرر البيان في هذا الكلام على أن فرعون ليس كما يدّعي لأنه مربوب، لا فرق بينة وبين بقية العالمين في ذلك.
ولما كان من المعلوم أن مثله في تمام عقله وشرف خلائقه لا يدّعي في تلك المجامع إلا حقاً مع ما نبه عليه من البيان على تفرد الله بالإلهية كما تفرد بالإحسان، كان كأنه أظهر البينة التي أقلها كفهم عن إهلاكهم. فأتبع ذلك طلب النتيجة إعلاماً بغاية ما يريد منهم بقوله مسبباً عن مجرد هذا الإخبار الذي كان قد أوقع مضمونه: {فأرسل} أي يا فرعون {معي بني إسرائيل*} أي فسبب إقامتي الدليل على صحة ما قلته أن أمُر بما جئت له - وهو إرسالهم معي - أمر من صار له سلطان بإقامة البينة لنذهب كلنا إلى بيت المقدس موطن آبائنا التي أقسم الله لهم أن يورثها أبناءهم، وفي جعل ذلك نتيجة الإرسال إليه تنبيه على أن رسالته مقصورة على قومه، فكأنه قيل: فماذا قال فرعون في جواب هذا الأمر الواضح؟ فقيل: {قال} معرضاً عنه معمياً له خوفاً من غائلته عند من يعرف موسى عليه السلام حق المعرفة معبراً بأداة الشك إيقافاً لهم: {إن كنت جئت بآية} أي علامة على صحة رسالتك {فأت بها} فأوهم(8/21)
أنه لم يفهم إلا أن المراد أنه سيقيمها من غير أن يكون في كلامه السابق دلالة على صدقه، وأكد الإبهام والشك بقوله: {إن كنت} أي جبلة وطبعاً {من الصادقين*} أي في عداد أهل الصدق العريقين فيه لتصح دعواك عندي وتثبت.
ولما ساق هذا الطلب مساقاً دالاً على أنه شاك في أمره، أخبر تعالى أنه فاجأه بإظهار الآية دالاًّ على ذلك بالفاء المسببة المعقبة من غير مهلة فقال عن فعل موسى عليه السلام: {فألقى عصاه} وعن فعله هو سبحانه {فإذا هي} أي العصا {ثعبان مبين*} أي ظاهر في كبره وسرعة حركته بحيث إنه لشدة ظهوره كأنه ينادي الناس فيظهر لهم أمره، وهو موضح لصدق من تسبب عن فعله في جميع مقالته؛ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان ثعباناً أشعر فاغراً فاه، بين لحييه ثمانون ذراعاً، وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون فوثب من سريره هارباً وأحدث، وحمل على الناس فانهزموا وصاحوا فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً، قتل بعضهم بعضاً، وصاح فرعون: يا موسى خذه وأنا أومن بك فأخذه فعاد عصاً. ثم قال: هل معك آية أخرى؟ قال: نعم {ونزع يده}(8/22)
أي أخرجها من جيبه بعد أن أراه إياها محترقة أدماً كما كانت وهو عنده {فإذا هي بيضاء} ونبه على ثبات بياضها وزيادة إعجابه بقوله: {للناظرين*} قال أبو حيان: أي للنظارة، وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض العجب لهم إلا إذا كان بياضها خارجاً عن العادة، وقال ابن عباس: صارت نوراً ساطعاً يضيء ما بين السماء والأرض، له لمعان مثل لمعان البرق فخروا على وجوههم، وما أعجب أمر هذين الخارقين العظيمين: أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء، والآخر في غير نفسه وهى العصا التي يمسكها بيده، وجمع بذينك تبديل الذوات من الخشبية إلى الحيوانية، وتبديل الأعراض من السمرة إلى البياض الساطع، فكانا دالين على جواز الأمرين - انتهى.
ولما أتى بالبيان وأقام واضح البرهان، اقتضى الحال السؤال عما أبرزوه من المقال في جوابه فقال: {قال الملأ} أي الأكابر {من قوم فرعون} ما تلقفوه من فرعون واحداً بعد واحد، يلقيه أكبرهم إلى أصغرهم {إن هذا لساحر} أي فهذا الذي رأيتموه أيها الناس من تخييله ما لا حقيقة له، فلا تبادروا إلى متابعته.
ولما كان ذلك خارجاً عما ألفوه السحرة قالوا: {عليم*}(8/23)
أي بما هم فيه، بالغ في علمه إلى حد عظيم، فذلك جاء ما رأيتم منه فوق العادة، فكأن فرعون قال ذلك أبتداء - كما في سورة الشورى - فتلقفوه منه وبادروا إلى قوله، يقوله بعضكم لبعض إعلاماً بأنهم على غاية الطواعية له خوفاً على رئاستهم تحقيقاً لقوله تعالى {فاستخف قومه فأطاعوه} [الزخرف: 54] واختير هنا إسناده إليهم، لأن السياق للاستدلال على فسق الأكثر، وأما هناك فالسياق لأنه إن أراد سبحانه انزل آية خضعوا لها كما خضع فرعون عند رؤية ما رأى من موسى عليه السلام حتى رضي لنفسه بأن يخاطب عبيده - على ما يزعم - بما يقتضي أن يكون لهم عليه أمر، فلذا كان إسناد القول إليه أحسن، لأن النصرة في مقارعة الرأس أظهر، وخضوع عنقه أضخم وأكبر.(8/24)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
ولما خيلوهم حتى أوقفوهم عما فهموا عنهم من المبادرة إلى المتابعة بادعاء أنه ساحر؛ نفروهم من ذلك وخوفوهم بأنه يريد أن يحكم فيهم قومه الذين كانوا عبيداً لهم ويزيحوهم من ديارهم التي هي لأشباحهم مثل أشباحهم لأرواحهم بقوله: {يريد أن يخرجكم} أي أيها القبط {من أرضكم} أي هذه التي أثلها لكم آباؤكم وبها قوامكم؛ ولما كان السياق لبيان فسقهم، أسقط قولهم في الموضع الآخر {بسحره} إفهاماً لعجلتهم في إبرام الأمر في ضره إشارة إلى تغاليهم في الفسق بعلمهم(8/24)
أنه محق وليس بساحر.
ولما كان المقصود بهذا الكلام استعطاف المخاطبين، استعطفوهم بعد أن أوقفوهم، ثم خوفوهم بما سببوا عن الخطاب السابق من قولهم: {فماذا تأمرون*} أي تقولون في هذه المشورة أيها السادة ليمتثل.
ولما كان كأنه قيل: فعلى أيّ شيء استقر رأيهم؟ فقيل: على تاخير الأمر إلى حشر السحرة للمعارضة، أخبر تعالى، دلالة على أن أصل قول الملأ منه، أنهم أقبلوا عليه مخاطبين له ملفتين من أبلغهم عنه تعظيماً له مسندين الأمر إليه بقوله: {قالوا} أي الملأ لفرعون بعدما استقر في أذهانهم ما نصبوه إليه من الإرادة {أرجه} أي موسى عليه السلام {وأخاه} أي أخرهما تنفيساً لنا من هذا الخناق إلى وقت ما حتى ننظر في أمرهما {وأرسل في المدائن} أي من ملك مصر {حاشرين*} يحشرون لك السحرة ويجمعونهم من كل فج عميق، والحشر: الجمع بكره {يأتوك بكل} ولما كانت دلالة السياق على رغب فرعون أقل مما في الشعراء لما اقتضاه الحال في كل منهما، قرأ الجمهور: {ساحر عليم*} أي بالغ العلم في السحر، وفي قراءة حمزه والكسائي {سحار} زيادة مبالغة أيضاً لما(8/25)
رأوا من قلق فرعون في الجملة، وهذا يدل على أن السحرة كانوا في ذلك الزمان عندهم في غاية الكثرة، ويدل على أن في طبع الناس المعارضة، فمهما أمكنت بطلت دعوى النبوة، وإذا تعذرت صحت الدعوى.
ولما كان التقدير: فأخر أمرهما وأرسل كما قالوا، فجمعوا من وجدوه منهم، عطف عليه قوله: {وجاء السحرة فرعون} ولما تشوف السامع إلى خبرهم، قال مجيباً له استئنافاً: {قالوا} أي لفرعون عندما حضروا بين يديه متوثقين لنفع أنفسهم مفهمين له أنهم غالبون، لا مانع لهم من ذلك إلا عدم إنصافهم، سائقين للكلام في قراءة الجماعة مساق الاستفهام أدباً معه في طلب الإكرام: {إن لنا لأجراً} وأكدوا طلباً لإخراج الوعد على حال التكذيب {إن كنا نحن} أي خاصة {الغالبين*} ومن أخبر أراد الاستفهام وهم نافع وابن كثير وحفص عن عاصم {قال} أي فرعون {نعم} أي لكم أجر مؤكد الخبر به، وزاد بيان التأكيد بما زادهم به رغبة في قوله: {وإنكم} أي زيادة على ذلك {لمن المقربين*} أي عندي في الحضرة.
ولما فرغوا من محاورته، تشوف السامع إلى قولهم لموسى عليه السلام، فاستأنف قوله جواباً: {قالوا} بادئين باسمه {يا موسى} مخيرين له أدباً معه كما هي عادة عقلاء الأخصام قبل وقوع الخصام في سياق مفهم أن قصدهم الإلقاء أولاً، وذلك قولهم: {إما أن تلقي} أي أنت أولاً(8/26)
ما تريد أن تلقيه للمغالبة في إظهار صحة دعواك {وإما أن نكون نحن} أي خاصة {الملقين*} أي لما معنا أولاً.
ولما فهم موسى عليه السلام مرادهم مما عبر هذا النظم عن حقيقة معناه من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر وإقحام الفصل، وكان واثقاً من الله تعالى بما وعده به جارياً مع مراده، لا فرق بين أن يتقدم أو يتأخر؛ أجابهم إلى سؤالهم. وهو أوقع في ازدراء شأنهم، فاستأنف سبحانه الخبر عنه بقوله: {قال ألقوا} أي أنتم أيها السحرة ما تريدون إلقاءه، وهو أمر تعجيز.
ولما أذن لهم بادروا إلى ذلك كما أفهمه العطف بالفاء في قوله: {فلما ألقوا} أي ما أعدوه للسحر {سحروا أعين الناس} أي عن صحة إدراكها حتى خيلوا إليها ما لا على بعض، وبعثوا جماعة ينادون: أيها الناس احذروا {واسترهبوهم} أي وأوجدوا رهبتهم إيجاد راغب فيها طالب لها غاية الطلب.
ولما قيل ذلك، كان ربما ظن أنهم خافوا مما لا يخاف من مثله، فقال تعالى مبيناً أنهم معذورون في خوفهم: {وجاءو بسحر عظيم*} قال صاحب كتاب الزينة: والسحر على وجوه كثيرة، منه الأخذ بالعين،(8/27)
ومنه ما يفرق به بين المرء وزوجه، ومنه غير ذلك، وأصله مأخوذ من التعلل بالباطل وقلب الأمر عن وجهه كما ذكرنا من لغة العرب.
ولما تناهى الأمر واشتد التشوف إلى ما صنغ موسى عليه السلام، قال معلماً عنه عطفاً على {وجاءو} : {وأوحينا} أي مظهرين لعظمتنا على رؤوس الأشهاد بما لا يقدر أحد أن يضاهيه {إلى موسى أن ألق عصاك} أي فألقاها {فإذا هي} من حين إلقائه لها {تلقف} أي تلتقم التقاماً حقيقياً شديداً سريعاً جداً بما دل عليه حذف التاء، ودل على كثرة ما صنعوا بقوله: {ما يأفكون*} أي يجددون حين إلقائهم في تزويره وقلبه عن وجهه، فابتلعت ما كان ملء الوادي من العصيّ والحبال، ثم أخذها موسى عليه السلام فإذا هي كما كانت لم يزد شيء من مقدارها على ما كانت عليه، وفي هذا السياق المعلم بتثبت موسى السلام بعد عظيم ما رأى من سحرهم إلى الإيحاء إليه بيان لأدبه عليه السلام في ذلك المقام الضنك وسكونه تحت المقاربة مع مرسله سبحانه إلى بروز أوامره الشريفة.(8/28)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
ولما علم أن ما صنعوه إنما هم خيال، وما صنعه موسى عليه السلام أثبت من الجبال، سبب معقباً قوله: {فوقع الحق} أي الذي لا شيء أثبت منه، فالواقع يطابقه لأن باطن الأمر مطابق لما ظهر منه من ابتلاعها(8/28)
لأمتعتهم فالإخبار عنه صدق، وفيه تنبيه على أن فعلهم إنما هو خيال بالنسبة إلى ظاهر الأمر، وأما في الباطن والواقع فلا حقيقة له، فالإخبار عن تحرك ما ألقوه كذب.
ولما أخبر عن ثبات الحق، أتبعه زوال الباطل فقال: {وبطل} بحيث عدم أصلاً ورأساً {ما كانوا يعملون*} فدل بكان والمضارع على أنهم - مع بطلان ما عملوا - نسوا علمهم بحيث إنه أسند عليهم باب العمل بعد أن كان لهم به ملكة كملكة ما هو كالجبلة - والله أعلم؛ ثم سبب عن هذا قوله: {فغلبوا هنالك} أي عند هذا الأمر العظيم العالي الرتبه {وانقلبوا} أي جزاء على قلبهم لتلك الحقائق عن وجوهها حال كونهم {صاغرين*} أي بعد أن كانوا - عند أنفسهم ومن يقول بقولهم وهوالأغلب - عالين، ولا ذل ولا صغار أعظم في حق المبطل من ظهور بطلان قوله على وجه لا يكون فيه حيلة.
ولما كان الأدب وذل النفس لا يأتي إلا بخير، لأنه اللائق بالعبيد، قاد كثيراً منهم إلى السعادة الأبدية، فلذلك قال: {وألقي السحرة} أي ألقاهم ملقى الخوف من الله والشوق إلى الخضوع بين يديه والذل لديه حين عرفوا أن ما فعله موسى عليه السلام أمر سماوي، صدق الله تعالى به موسى عليه السلام في أنه رسوله، ولم يتأخروا بعد ذلك أصلاً حتى كأنهم خروا من غير اختيار {ساجدين*} شكراً لله تعالى وانسلاخاً عن الكفر ودليلاً على أقصى غايات الخضوع، فعل الله ذلك بهم حتى(8/29)
تبهر به فرعون وملأه وتحير عقولهم.
ولما كانوا بمعرض التشوف العظيم إلى معرفة قولهم بعد فعلهم، أخبر عن ذلك سبحانه بقوله: {قالوا} أي حال إلقائهم للسجود {آمنّا} أي كلنا {برب العالمين*} أي الذي خلق فرعون ومن قبله وما يعيشون به؛ ثم خصوا من هداهم الله على أيديهما تصريحاً بالمراد وتشريفاً لهما فقالوا: {رب موسى} ثم أزالوا الشبهة بحذافيرها - لأن فرعون ربما ادعى بتربية موسى عليه السلام أنه المراد - بقولهم: {وهارون*} وفي الآية دليل على أن ظهور الآية موجب للإيمان عند من ظهرت له، ولو أن الرسول غير مرسل إليه.
ولما صرحوا بالذي آمنوا به تصريحاً منع فرعون أن يدلس معه بما يخيل به على قومه، شرع في تهديدهم على وجه يمكر فيه بقومه ويلبس عليهم إيقافاً لهم عن المبادرة إلى الإيمان - كما بادر السحرة - إلى وقت ما، فاستأنف الخبر عنه سبحانه بقوله مصرحاً باسمه غير مضمر له كما في في غير هذه السورة لأن مقصود السورة الإنذار، وهو أحسن الناس بالمناداة عليه في ذلك المقام، وقصته مسوفة لبيان فسق الأكثر، وهو أفسق أهل ذلك العصر: {قال فرعون} منكراً عليهم موبخاً لهم بقوله: {آمنتم} أي صدقتم {به} أي بموسى تصديقاً آمنه من رجوعكم(8/30)
عنه، ومن أخبر أراد الاستفهام، وأوهم فرعون من فهم عنهم من القبط إرادة الإيمان لأجل ما رأوا من دلائل صدق موسى عليه السلام واقتداء بالسحرة بقوله: {قبل أن آذن لكم} ليوقفهم من خطر المخالفة له بما رجاهم فيه من إذنه، فلما ظن أنهم وقفوا خيلهم بما يذهب عنهم ذلك الخاطر أصلاً ورأساً بقوله مؤكداً نفياً لما على قوله من لواتح الكذب: {إن هذا لمكر} أي عظيم جداً، وطول الكلام تبييناً لما أرادوا وتنسية لخاطر الإيمان فقال: {مكرتموه في المدينة} أي على ميعاد بينكم وبين موسى، وحيلة احتلتموها قبل اجتماعكم، وليس إيمانكم لأن صدقه ظهر لكم؛ ثم علل بما يتعلق به فكرهم وتشوش قلوبهم فقال: {لتخرجوا} أي أنتم وموسى عليه السلام {منها أهلها} وتسكنوها أنتم وبنو إسرائيل.
ولما استتب له ما أراد من دقيق المكر، شرع في تهديدهم بما يمنع غيرهم وربما ردهم، فقال مسبباً عن ذلك: {فسوف تعلمون*} أي بوعد لا خلف فيه ما أفعل بكم من عذاب لا يحتمل، ثم فسر ما أجمل من هذا الوعيد بقوله: {لأقطعن أيديكم} أي اليمنى مثلاً {وأرجلكم} أي اليسرى، ولذلك فسره بقوله: {من خلاف} أي يخالف الطرف -(8/31)
الذي تقطع منه اليد - الطرف الذي تقطع منه الرجل.
ولما كان مقصود هذه السورة الإنذار، فذكر فيها ما وقع لموسى عليه السلام والسحرة على وجه يهول ذكر ما كان من أمر فرعون على وجه يقرب من ذلك، فعبر بحرف التراخي لأن فيه - مع الإطناب الذييكون شاغلاً لأصحابه عما أدهشهم مما رأوه - تعظيماً لأمر الصلب. فيكون أرهب للسحرة ولمن تزلزل بهم من قومه فقال: {ثم لأصلبنكم} أي أعلقنكم ممدودة أيديكم لتصيروا على هيئة الصليب، أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم {أجمعين*} أي لا أترك منكم أحداً لأجعلكم نكالاً لغيركم.(8/32)
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
ولما كان حالاً يشوق النفوس إلى جوابهم، استأنفه بقوله: {قالوا} أي أجمعون، لم يرتع منهم إنسان ولا تزلزل عما منحه الله به من رتبة الإيمان {إنا إلى ربنا} أي الذي ما زال يحسن إلينا بنعمه الظاهرة والباطنة حتى جعل آخر ذلك أعظم النعم، لا إلى غيره {منقلبون*} أي بالموت انقلاباً ثابتاً لا انفكاك لنا عنه إن صلبتنا أو تركتنا، لا طمع لنا في البقاء في الدنيا، فنحن لا نبالي - بعد علمنا بأنا على حالة السعداء - بالموت على أيّ حالة كان، أو المراد أنا ننقلب إذا قتلتنا إلى من يحسن إلينا بما منه الانتقام منك، ولذلك اتبعوه بقولهم: {وما تنقم} أي تنكر {منا} أي فعلك ذلك بنا وتعيب علينا {إلا أن آمنا}(8/32)
أي إلا ما هو أصل المفاخر كلها وهو الإيمان {بآيات ربنا} أي التي عظمت بكونها صادرة عنه ولم يزل محسناً إلينا فوجب علينا شكره {لما} أي حين {جاءتنا} لم نتأخر عن معرفة الصدق المصدَّق، وهذا يوجب الإكرام لا الانتقام؛ ثم آذنوه بأنهم مقدمون على كل ما عساه أن يفعل به فقالوا: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا القادر على خلاصنا {أفرغ} أي صب صباً غامراً {علينا} أي فيما تهددنا به هذا الذي قويته علينا {صبراً} أي كثيراً تغمرنا به كما يغمر الماء من يفرغ عليه حتى لا يروعنا ما يخوفنا به {وتوفنا} أي اقبض أرواحنا وافية حال كوننا {مسلمين*} أي عريقين في الانقياد بالظاهر والباطن بدلائل الحق، والظاهر أن الله تعالى أجابهم فيما سألوه تلويحاً بذكر الرب فلم يقدره عليهم لقوله تعالى {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} [القصص: 35] ولم يات في خبر يعتمد أنه قتلهم، وسيأتي في آخر الحديد، عن تاريخ ابن عبد الحكم ما هو صريح في خلاصهم.
ولما قنع فرعون في ذلك الوقت الذي بهرت قومه تلك المعجزة الظاهرة بالانفصال على هذا الوجه الذي لم يدع فيه حيلة إلا خيل بها، وخلص موسى عليه السلام بقومه متمكناً منهم بعض التمكن، وكان السياق(8/33)
لبيان أن أكثر الخلق فاسق، أخبر تعالى بما قال قوم فرعون بعدما رأوا من المعجز القاهر دليلاً على ذلك، فقال عاطفاً على {وألقي السحرة ساجدين} وما بعده، أو على قول فرعون: {وقال الملأ} أي الأشراف {من قوم فرعون} أي ظانين أن فرعون متمكن مما يريد بموسى عليه السلام من الأذى منكرين لما وصل إليه الحال من أمر موسى عليه السلام حين فعل ما فعل وآمن به السحرة، وما عمل فرعون شيئاً، لا قتله ولا حبسه، لأنه كان لا يقدرعلى ذلك ولا يعترف به لقومه {أتذر موسى وقومه} .
ولما كان ما كان في أول مجلس من إيمان السحرة جديراً بأن يجر إليه أمثاله، سموه فساداً وجعلوه مقصوداً لفرعون إحماء له واستغضاباً فقالوا: {ليفسدوا} أي يوقعوا الفساد وهو تغيير الدين {في الأرض} أي التي هي الأرض كلها، وهي أرضنا هذه، أو الأرض كلها، لكون مثل هذا الفعل جديراً برد أهل الأرض كلهم عن عقائدهم {ويذرك وآلهتك} قيل: كان أمر قومه أن يعبدوا الأصنام تقرباً إليه، وقال الإمام: الأقرب أنه كان دهرياً منكراً لوجود الصانع، وكان يقول: مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب، وأنه المخدوم في العالم للخلق أو لتلك الطائفة والمربي لهم؛ ثم قال: وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال: إنه كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب ويعبدها على ما هو دين عبدة الكواكب انتهى.
ولذلك قال: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] ، - هكذا قيل،(8/34)
وهو ظاهر عبارة التوارة الآتية في آية القمل، ولكن إرادته غير ملائمة لهذه المعادلة، بل الظاهر أنه كان سمى أمراءة آلهة، وسمى لكل أمير قوماً يتألهونه أي يطيعونه، فإنه نقل عنهم أنهم كانوا يسمون الحاكم بل والكبير إلهاً كما سيأتي عن عبارة التوارة، فحيث وقعت الموازنة بين موسى عليه السلام وقومه وبين فرعون وقومه، عبر بالآلهة تعظيماً لجانبه بالإشارة إلى أنه إله أي حاكم معبود، ليس وراءه منتهى وملؤه كلهم آلهة أي حكام دونه، وموسى عليه السلام ليس بإله ولا في قومه إله بل هم محكوم عليهم فهم ضعفاء فكيف يتركون! وحيث نفي الإلهية عن غيره فبالنظر إلى خطابه للملأ {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38] وحيث حشر الرعية ناداهم بقوله {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] وكأن ذلك كان يطلق على الحاكم مجازاً، فجعلوه حقيقة وصاروا يفعلون ما يختص به الآلهة من التحليل والتحريم كما قال تعالى {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} [التوبة: 31] فكفروا بادعاء الربوبية بمعنى العبودية، ونفي المعبود الحق بدليل آية {ما عملت} ، والحاصل أنهم عيروه بالرضى بأن يكون رئيساً على القبط وموسى عليه السلام رئيساً على بني إسرائيل فيكونوا بهذه المتاركة(8/35)
أكفاء للقبط.
ولما أعجزه الله سبحانه أن يفعل أكثر مما كان يعمل قبل مجيء موسى عليه السلام لما يراد به من الاستدراج إلى الهلاك، أخبر عنه سبحانه بما يفهم ذلك فقال مستأنفاً: {قال} أي فرعون {سنقتل} أي تقتيلاً كثيراً {أبناءهم} أي كما كنا نفعل {ونستحيي نساءهم} أي نبقيهم أحياء إذلالاً لهم وأمناً من غائلتهم في المستقبل {وإنا فوقهم} أي الآن {قاهرون*} ولا أثر لغلبة موسى لنا في هذه المناظر لئلا تتوهم العامة أنه المولود الذي تحدث المنجمون والكهنة بذهاب ملكهم على يده فيثبطهم ذلك عن الطاعة، موهماً بهذا أن تركه لأذى موسى عليه السلام لعدم التفاته؟ إليه، لايعجزه شيء عنه.
ولما كان هذا أمراً يزيد من قلق بني إسرائيل لما شموا من رائحة الفرج، استأنف سبحانه الخبر عما ثبتهم به موسى عليه السلام قائلاً: {قال موسى لقومه} أي بني إسرائيل الذين فيهم قوة وقيام فيما يريدون من الأمور لو اجتمعت قلوبهم {استعينوا} أي ألصقوا طلب العون {بالله} الذي لا أعظم منه بما يرضيه من العبادة {واصبروا} ثم علل ذلك بأنه فعال لما يريد، ولا اعتراض عليه ولا مفر من حكمه فقال:(8/36)
{إن الأرض} أي كلها مصر وغيرها {لله} أي الذي لا أمر لأحد معه، كرره تذكيراً بالعظمة وتصريحاً وتبركاً؛ ثم استأنف قوله: {يورثها من يشاء من عباده} .
ولما أخبر أن نسبة الكل إليه واحدة، أخبر بما يرفع بعضهم على بعض فقال: {والعاقبة} أي والحال أن آخر الأمر وإن حصل بلاء {للمتقين*} أي الذين يقون أنفسهم سخط الله بعمل ما يرضيه فلا عبرة بما ترون في العاجل فإنه قد يكون استدراجاً.(8/37)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
ولما تشوف السامع إلى ما كان من جوابهم، أشار تعالى أن قلقهم كان وصل إلى حد لا صبر معه بقوله مستأنفاً: {قالوا} ولما كان الموجع هو الأذى، لا كونه من معين، بنوا للمفعول قولهم: {أوذينا} أي بالقتل والاستعباد.
ولما كان أذاهم غير مستغرق للزمان، أثبتوا الجارّ فقالوا: {من قبل أن تأتينا} أي كما تعلم {ومن بعد ما جئتنا} أي فما الذي أفادنا مجيئك {قال} مسلياً لهم وداعياً ومرجياً بما رمز إليه من قبل {عسى ربكم} أي الذي أحسن إلى آبائكم بما تعرفون وإليكم بإرسالي إليكم {أن يهلك عدوكم} فلا يهولنكم ما ترون {ويستخلفكم} أي ويوجد خلافتكم لهم متمكنين، لا يحكم عليكم غيركم {في الأرض} أي جنسها إن كنتم متقين؛ ثم سبب عن الاستخلاف قوله مذكراً لهم محذراً من(8/37)
سطواته سبحانه: {فينظر} أي وأنتم خلفاء متمكنون {كيف تعملون*} أي يعاملكم معاملة المختبر وهو في الأزل أعلم بما تعملون منكم بعد إيقاعكم للأعمال، ولكنه يفعل ذلك لتقوم الحجة عليكم على مجاري عاداتكم.
ولما رجاهم موسى عليه السلام بذلك، أخبر سبحانه أنه فعل ما أخبرهم به، فذكر مقدماته فقال: {ولقد} أي قال لهم ما قال والحال أنا وعزتنا قد {أخذنا} أي قهرنا {آل فرعون} ولينّا عريكتهم وسهلنا شكيمتهم {بالسنين} أي بالقحط والجوع، فإن السنة يطلق بالغلبة على ذلك كما تطلق على العام؛ ولما كانت السنة تطلق على نقص الحبوب، صرح بالثمار فقال، {ونقص من الثمرات} أي بالعاهات إن كان الماء كثيراً، أو السنة للبادية والنقص للحاضرة {لعلهم يذكرون*} أي ليكون حالهم حال من يرجو ناظره أن يتذكر في نفسه ولو بأدنى وجوه التذكر - بما أشار إليه الإدغام، فإن الضر يزيل الشماخة التي هي مظنة الوقوف مع الحظوظ ويوجب للإنسان الرقة فيقول: هذا إنما حصل لي بسبب تكذيبي لهذا الرسول وعبادتي من لا يكشف السوء عن نفسه ولا غيره.
ولما لم يتذكروا ولا لانوا، سبب عن أخذهم قوله معرفاً بغباوتهم(8/38)
معبراً في الخير بأداة التحقيق إشارة إلى أنه أغلب من الشر، حثاً على الشكر: {فإذا} أي فما تسبب عن ذلك إلا أنهم كانوا إذا {جاءتهم الحسنة} أي الحالة الكاملة التي يحبونها من الخصب وغيره، وعرفها بعد تحقيقها إشارة إلى إكمالها {قالوا لنا هذه} أي نحن حقيقون بها، ودل على أن الخير أكثر من غيره بقوله بأداة الشك مع التنكير: {وإن تصبهم سيئة} أي حالة يكرهونها.
ولما كانت افصابة بالسيئات تخصهم ولا يلحق بني إسرائيل منها شيء، فكان إظهارهم للتطير بهم ظاهراً في ردهم عليهم وتكذيبهم فيه، أشار سبحانه بإدغام التاء إلى أنهم كانوا إنما يدسونه إلى من يمكنهم اختداعه من الجهلة والأغبياء على وجه الحلية والخفاء، بخلاف ما في يس فقال: {يطيروا} أي يتشاءموا {بموسى ومن معه} أي بأن يقولوا: ما حصل لنا هذا السوء إلا بشؤمهم، وهو تفعل من الطير، وهو تعمد قصد الطير لأن يطير للتفاؤل به خير أو شر، وأصله أن العرب كانوا إذا مر الطائر من ميامنهم إلى جهة مياسرهم قالوا: بارح، أي مشؤوم، من البرح وهو الشدة، فإذا طار من جهة اليسار إلى جهة اليمين عدوه مباركاً، قالوا: من لي بالسانح بعد البارح، أي بالمبارك بعد المشؤوم، وعرف أن المراد هنا التشاؤم لاقترانه بالسيئة.
ولما كذبوا في الموضعين، قال مستأنفاً على وجه التأكيد:(8/39)
{ألا إنما طائرهم} أي قدرهم الذي سبق في الأزل من الخير والشر فلا يزداد ولا ينقص {عند الله} أي الملك الذي لا أمر لغيره وقد قدر كل شيء، فلا يقدر على المجيء به غيره أصلاً {ولكن أكثرهم لا يعلمون*} أي لا علم لهم أصلاً فهم لا يهتدون إلى ما ينفعهم ويظنون أن للعباد مدخلاً في ذلك، فلذلك تراهم يضيفون الأشياء إلى أسباب يتوهمونها.
ولما كان هذا الذي قالوه يدل على سوء المزاج وجلافة الطباع بما لا يقبل العلاج، أتبعه ما هو شر منه، وهو أنهم جزموا بأنه كلما أتاهم شيء في المستقبل قابلوه بالكفر فقال: {وقالوا مهما} هي مركبة من «ما» مرتين: الأولى الشرطية والثانية تأكيد. قلبت ألف الأولى هاء استثقالاً، قيل: مه هي الصوت الذي يكون للكف وما الشرطية، أي كف عنك ما أنت فيه. ثم استأنفوا «ما» {تأتنا به} أي في أيّ وقت وعلى أيّ حالة كان؛ ثم بينوا المأتي به بقولهم: {من آية} أي علامة على صدقك، وهذا على زعمه، ولذلك عللوه بقولهم: {لتسحرنا} أي لتخيل على عقولنا {بها} وتلفتنا عما نحن عليه إلى ما تريد فنحن نسميها سحراً وأنت تسميها آية؛ ثم أجابوا الشرط بقولهم: {فما نحن} أي كلنا {لك} أي خاصة {بمؤمنين*} أي من أن نكذبك.(8/40)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
ولما بارزوا بهذه العظمية، استحقوا النكال فسبب عن ذلك قوله:(8/40)
{فأرسلنا عليهم} أي عذاباً لهم - لما يفهمه حرف الاستعلاء {الطوفان} أي الرعد والبرق والنار مع المطر والبرد الكُبار الذي يقتل البقر فما دونها، والظلمة والريح الشديدة التي عمت أرضهم وطافت بها؛ ولما كان ذلك ربما أخصبت به الأرض، أخبر أنه أرسل ما يفسد ذلك فقال: {والجراد} .
ولما كان الجراد ربما طار وقد أبقى شيئاً، أخبر بما يستمر لأزقاً في الأرض حتى لا يدع بها شيئاً فقال: {والقمل} قال في القاموس: القمل كالسكر: صغار الذر والدبى الذي لا أجنحة له - وهو أصغر الجراد أو شيء صغير بجناح أحمر، وشيء يشبه الحلم خبيث الرائحة أو دواب صغار كالقردان يعني القراد. وقال البخاري في بني إسرائيل من صحيحه: القمل: الحمنان يشبه صغار الحلم.
ولما ربما كان عندهم شيء مخزوناً لم يصل إليه ذلك، أخبر بما يسقط نفسه في الأكل فيفسده أو ينقصه فقال: {والضفادع} فإنها عمت جميع أماكنهم، وكانت تتساقط في أطعمتهم، وربما وثبت إلى أفواههم حين يفتحونها للأكل.
ولم تم ما يضر بالماكل، أتبعه ما أفسد المشرب فقال: {والدم} فإن مياههم انقلبت كلها دماً منتناً، وعم الدم الشجر والحجارة وجميع(8/41)
الأرض في حق القبط، وأما بنو إسرائيل فسالمون من جميع ذلك.
ولما ذكر تعالى هذه الآيات العظيمة، نبه على عظمتها بذكر حالها فقال: {آيات} أي علامات على صدقه عظميات {مفصلات} أي يتبع بعضها بعضاً، وبين كل واحدة وأختها حين يختبرون فيه مع أن مغايرة كل واحدة لأختها في غاية الظهور، وكذا العلم بأنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره.
ولما كانت حقيقة بان يتسبب عنها الإيمان عند سلامة القلب، سبب عنها قوله: {فاستكبروا} مبيناً أن الذي منعهم من الإيمان مرض القلب بالكبر والطغيان {وكانوا قوماً مجرمين*} أي في جبلتهم قطع ما ينبغي وصله مع قوتهم على ما يحاولونه.
ولما كان هذا في الحقيقة نقضاً لما أخذه الله على العباد بعهد العقل، أتبعه نقضاً حقيقياً، فقال مبيناً لحالهم عند كل آية، ولعله عبر بما يشملها ولم ينص على التكرار لأن ذلك كاف فيما ذكر من النقض والفسق: {ولما وقع عليهم الرجز} يعني العذاب المفصل الموجب للاضطراب {قالوا يا موسى ادع لنا ربك} أي المحسن إليك، ولم يسمحوا كبراً وشماخة أن يعرفوا به ليقولوا: ربنا {بما عهد عندك} أي من النبوة التي منها هذا البر الذي تراه يصنعه بك؛ ثم أكدوا العهد بقولهم استئنافاً(8/42)
أو تعليلاً: {لئن كشفت عنا الرجز} أي العذاب الذي اضطربت قلوبنا وجميع أحولنا له {لنؤمنن لك} أي لنجعلنك آمناً من التكذيب بإيقاع التصديق، ويكون ذلك خالصاً لأجلك وخاصاً بك {ولنرسلن معك} أي في صحبتك، لا نجس أحداً منكم عن الآخر {بني إسرائيل*} أي كما سألت؛ ودل على قرب الإجابة بالفاء في قوله: {فلما كشفنا} أي بعظمتنا {عنهم الرجز} كرره تصريحاً وتهويلاً، ومددنا الكشف {إلى أجل} أي حد من الزمان {هم بالغوه} أي في علمنا {إذا هم} أي بضمائرهم التي تجري ظواهرهم على حسبها {ينكثون*} .
ولما أخبر أنهم فاجؤوا النكث وكرروه، سبب عنه قوله: {فانتقمنا منهم} أي انتقاماً ليس كذلك الذي كنا نؤذيهم به، بل انتقام إهلاك عبرة لوصولهم بعد كشف جميع الشبه إلى مخص العناد؛ ثم فسره بقوله: {فأغرقناهم} بما لنا من العظمة {في اليم} أي في البحر الذي يقصد لمنافعة {بأنهم} أي بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة بما عرف من صحة نسبتها إلينا، ودل سبحانه على أنهم كذبوا بغير شبهة عرضت لهم بل عناداً بقوله: {وكانوا} أي جبلة وطبعاً {عنها غافلين*} أي يكون حالهم بعدها كحالهم قبلها، فكأنها لم تأتهم أصلاً فاستحقوا الأخذ لوقوع العلم بأن الآيات لا تفيدهم.
ولما أخبر عن إهلاكهم، عطف عليه ما صنع ببني إسرائيل فقال:(8/43)
{وأورثنا} أي بعد إهلاكهم بما لنا من العظمة {القوم} ولما اشار بهذه العبارة - التي معناها أنه كانت فيهم قوة وكثرة وشدة عزم على ما يحاولونه ويقومون به - إلى أنه هو الذي أذلهم لا فرعون، أتبعه ما يدل عليه فقال: {الذين كانوا يستضعفون} أي يطلب ضعفهم ويوجد بالشوكة واجتماع الكلمة بحاكم قد تمكنت عظمته في القلوب التي الوهم غالب عليها، وهم بنو إسرائيل {مشارق الأرض} أي الكاملة لبركاتها {ومغاربها} أي أرض الشام من الفرات إلى بحر سوف: الموضع الذي خرجوا منه من البحر وغرق فيه فرعون وآله - كما مضى نقله في المائدة عن التوارة، يعني حكمنا بإيراثهم ذلك وأنجزناه لأبناء الذين خرجوا من مصر بعد إهلاكهم في التيه؛ ثم وصفها تغبطاً بها بقوله: {التي باركنا فيها} أي في أرضها بالمياه والأشجار والثمار والخصب، وفي أرزاقها بالكثرة والطيب، وفي رجالها بالعلم والنبوة وفي طباعهم بالاستقامة، وفي عزائمهم بالنجدة والشجاعة والمكارم، وفي جميع أحوالهم بأنه لا يبغيهم ظالم إلا عوجل بالنقمة {وتمت} أي وجدت صحتها لوجود مضمونها في عالم الشهادة وظهوره من ستور الغيب {كلمت ربك} أي المحسن إليك بإنزال هذه الأنباء على هذه الوجوه المفيدة مع إعجازها لغاية العلم والحكمة {الحسنى} مستعلية {على بني إسرائيل*}(8/44)
أي التي هي أحسن الكلام وهي وعده سبحانه لهم بالخلاص من العبودية وإيراثهم مساكن آبائهم كما كانوا يسمعون من أسلافهم، وإذا استعلت عليهم منعت أعداءهم من الوصول إليهم {بما صبروا} أي بسبب صبرهم على الاستعباد وذبح الأولاد وما حصل بعد ذلك من طويل الأنكاد {ودمرنا} أي أهلكنا إهلاكاً عظمياً جعل يدمره كالرماد، لا خير فيه أصلاً {ما كان يصنع} أي صنعاً بغاية الإقبال عليه حتى كأنهم خلقوا لهم {فرعون وقومه} أي من الصنائع الهائلة المعجبة لكل من يراها أو يسمع بها مع أنهم قد مرنوا عليها فصارت أسهل شيء عندهم {وما كانوا} أي بما هو كالجبلة والطبع {يعرشون*} أي من الجنان والقصور العالية الأركان، وكفى بهذه الآية حاثة على الصبر وضامنة على كل حائز للأجر بالتفريج عن المظلوم ونصره وإهلاك الظلوم وقهره.
شرح ما يحتاج إلى شرحه هنا من التوراة الموجودة الان بين أظهر اليهود، قال مترجماً في الأصحاح الثالث من السفر الثاني ما نصه: وقال الرب لموسى في مدين: انطلق راجعاً إلى مصر لأن الرجال الذين كانوا يطلبون نفسك قد هلكوا جميعاً، فانطلق موسى بامرأته وبينه وحملهم(8/45)
على حماره وأخذ بيده عصا الرب، وقال الرب الموسى: انظر كل آية أجريتها على يدك فاصنعها أمام فرعون وأنا أقسي قلبه فلا يرسل الشعب وقل لفرعون: هكذا يقول الرب: ابني بكري إسرائيل، أرسل ليعبدني، فإن أبيت أن ترسل ابني فإني أقتل ابنك بكري، فلما صار موسى في الطريق في المبيت لقيه ملاك الرب فأخذت صفورا حجراً من حجارة المروة فحشت غرلة ابنها وأخذت برجليه - وفي نسخة السبعين: ووقعت عند رجليه - وقالت: إن اليوم عرس الدم - تعني الختان، فقال الرب لهارون: اخرج فتلق أخاك في القفر، فخرج فلقيه في جبل الله في حوريب فعانقه وقبله، فأخبر موسى هارون بجميع قول الرب الذي أرسله فيه وما أمره من الآيات، وانطلق موسى وهارون، فجمع أشياخ بني إسرائيل، فقص عليهم جميع ما قال الرب لموسى، وحرج جرائح وآيات قدام الشعب - وفي نسخة السبعين: فجمعا مشايخ بني إسرائيل وتكلم هارون بجميع الكلام الذي كلم الله به موسى وعمل الآيات قدام الشعب - فآمن الشعب وسمعوا أن الرب قد ذكر بني إسرائيل وأبصر إلى خضوعهم، وجثا الشعب وسجدوا للرب، ومن بعد هذه الآيات والخطوب دخل موسى وهارون(8/46)
وقالا لفرعون: هكذا يقول الله رب إسرائيل: أرسل شعبي يحجون إلى القفر - وفي نسخة السبعين: ليعبدوني في البرية - عوض: يحجون إلى القفر، فقال فرعون: ومن هو الرب حتى أطيعه؟ لا أعرف الرب ولا أرسل بني إسرائيل، وقالا له: الرب إله العبرانيين اعتلن لنا، فننطلق مسيرة ثلاثة أيام القفر ونذبح الذبائح لله ربنا لكيلا ينزل بنا الحزن والوباء - وفي نسخة السبعين: لئلا يفاجئنا موت أو قتل - قال فرعون: ما بالكما تبطلان الشعب من أعمالهم؟ فأمر فرعون ولاة الشعب وكتبتهم وقال لهم: لا تعودوا أن تعطوا الشعب تبناً لضرب اللبن كما كنتم تعطونهم، بل هم ينطلقون فيجمعون لأنفسهم التبن، وخذوهم بحساب اللبن على ما كنتم تأخذونهم به أمس وأول من أمس - ونسخة السبعين: في كل يوم لا تنقصوهم شيئاً من عملهم لأنهم بطروا لذلك يصيحون فيقولون: ننطلق فنذبح للرب إلهنا - فليشتد العمل على الرجال - ونسخة السبعين - فليتضاعف عمل هؤلاء القوم - حتى يهتموا به ولا يهتموا بكلام الباطل، فخرج ولاة الشعب وكتبتهم يما قال فرعون،(8/47)
فتقرق الشعب في جميع أرض مصر في جميع التبن، وجعل ولاتهم يلحون عليهم ويقولون: ارفعوا إلينا العمل كما كنتم ترفعون من قبل حيث كنتم تعطون التبن، فزادت كتبة بني إسرائيل وعوقبوا من الذين ولوهم عليهم وقالوا: لم لم ترفعوا إلينا حساب اللبن كما كنتم ترفعون، فأتى كتبة بني إسرائيل فشكوا إلى فرعون وقالوا: ما بال عبيدك يصنع بهم هذا الصنيع؟ فقال فرعون: أنتم قوم بطرون، تقولون: ننطلق لنذبح لربنا، فسار - أي الكتبة - في بني إسرائيل وقالوا لهم: لا تنقصوا من لبنكم شيئاً، بل ارفعوا إلينا كما كنتم ترفعون كل يوم، فلقوا موسى وهارون وهما واقفان أمامهم - وفي نسخة السبعين: وهما يجيئان نحوهم إذ خرجوا من بين يدي فرعون - فقالوا لهما: الله يحكم بيننا وبينكما لأنكما حرضتما علينا فرعون وعبيده حتى ضيق علينا بأن يضع السلاح فينا فيقتلنا، فرجع موسى إلى الرب وقال: يارب! لم أسأت بشعبك وأضررت به؟ لأني ساعة أن أتيت فرعون فذكرت اسمك أساء بهذا الشعب وشق عليهم وأنت تخلص شعبك، فقال الرب لموسى: الآن ترى ما أصنع بفرعون لأنه سيرسلهم - وفي نسخة السبعين: وسوف ترى ما أصنع(8/48)
بفرعون وكيف يرسلهم بيد منيعة وبذراع عظيمة يخرجهم من أرض مصر! أنا الرب الذي اعتلنت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وسميت بإله المواعيد ولم أعلمهم اسم الرب - وفي نسخة السبعين: واسمي الرب فلم أظهره لهم - وأثبت عهدي أيضاً ووعدتهم أن أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم التي سكنوها؛ وقد سمعت ضجيج بني إسرائيل من تعبد أهل مصر، وأنجيكم من أعمالهم واخلصكم بيد منيعة وذراع عالية وبأحكام عظيمة، وأختصكم لي شعباً وأكون لكم إلهاً، وتعرفون أني أنا الرب إلهكم الذي أخرجكم من تعبد المصريين وأقبل بكم إلى الأرض التي رفعت يدي لأعطيها آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأجعلها لكم ميرثاً إلى الدهر، أنا الرب! فقال موسى لبني إسرائيل هذه الأقاويل فلم يسمعوا من موسى ولم يطيعوه من شدة حزنهم واستيقاد نفوسهم من الكد الشديد، وكلم الرب موسى وقال له: انطلق إلى فرعون ملك مصر وقل له فيرسل بني إسرائيل - من أرض مصر، فقال موسى للرب: إن بني إسرائيل لا يسمعوني ولا يطيعوني، وأنا أرتّ المنطق ثقيل اللسان فكيف يطيعني فرعون ويسمع مني! فقال الرب لموسى: انظر، إني قد جعلتك إلهاً لفرعون، وهارون أخوك يكون نبياً عليك، أنت تقضي(8/49)
جميع ما آمرك به، وهارون أخوك يقول لفرعون - وفي نسخة السبعين: وهارون أخوك يكون لك نبياً وأنت تتكلم بجميع ما آمرك به وهارون أخوك يكلم فرعون - ليرسل بني إسرائيل من أرضه وأنا أقسي قلب فرعون فأكثر آياتي وعجائبي بأرض مصر، فلا يطيعكما فرعون ولا يسمع منكما فأمد يدي على مصر وأخرج جميع جنودي وشعبي بني إسرائيل من أرض مصر بالأحكام العظام، فيعرف أهل مصر أني أنا الرب، فصنع موسى وهارون كما أمرهما الرب وانتهيا إلى أمره، وكان قد أتى على موسى ثمانون سنة، وكان ابن ثلاث وثمانين سنة إذ كلما فرعون، فقال الرب لموسى وهارون، إن قال لكما فرعون: أظهرا لي آية وجريحة، قل لهارون: خذ عصاك وألقها بين يدي فرعون فتكون تنيناً عظيماً، فأتى موسى وهارون إلى فرعون فصنعا كما أمرهما الرب، فألقى عصاه - وفي نسخة السبعين: فألقى هارون عصاه - بين يدي فرعون وأمام أمرائه- وفي نسخة السبعين: وعبيده - فصارت تنيناً عظيماً، فدعا فرعون بالحكماء والسحرة، فصنع سحرة مصر أيضاً بسحرهم كذلك، فألقى كل امرىء منهم عصاه فصارت تنيناً فابتلعت عصا هارون عصيهم، فقسا قلب فرعون وأبى أن يرسلهم كما قال الرب، وقال الرب لموسى: إن قلب فرعون قد قسا وأبى أن يرسل الشعب، انطلق إلى فرعون بالغداة، هو ذا يخرج ليغتسل على شاطىء البحر، وخذ العصا التي تحولت في يدك ثعباناً(8/50)
وقل: وإن الرب إله العبرانيين أرسلني إليك، يقول لك: أرسل شعبي حتى يعبدني في البرية لأنك حتى الآن لا تسمع ولا تطيع، هكذا يقول الرب: بهذا تعلم أني أنا الرب، هأنذا أضرب ماء النهر بعصاي فيصير دماً، وتموت الحيتان التي في النهر وينتن - وفي نسخة السبعين: ولا يقدر أهل مصر أن يشربوا الماء من هذا النهر - وقال الرب لموسى: مر هارون أن يأخذ عصاه، وارفع يدك على ماء المصريين على أنهارهم وعلى غدرانهم وعلى آجامهم وعلى دواليب مياههم - وفي نسخة السبعين: وقال الرب لموسى: قل لهارون: خذ عصاك ومد يدك على ماء مصر وعلى أنهارها وآجامها ونقارها وعلى كل مائها المستنقع - فيتحول دماً، فيصير الدم في جميع أهل مصر في الأرض والخسب والحجارة، فصنع موسى وهارون كما أمرهما الرب، فرفع هارون العصا التي في يده فضرب بها ماء النهر وفرعون وعبيده ينظرون، فتحول ماء النهر فصار دماً، وماتت الحيتان التي بالنهر، ففسد ماء النهر وأنتن، ولم يقدر أهل مصر على شرب الماء من الدم، فصار الدم في جميع أرض مصر وقسا قلب فرعون فلم يطعهما كالذي قال الرب، فانصرف فرعون فدخل منزله ولم يفكر في شيء من ذلك وتهاون به، وكملت سبعة أيام من بعد ما ضرب الرب النهر، وقال الرب لموسى: انطلق إلى فرعون وقل له: هكذا يقول(8/51)
الرب: أرسل شعبي حتى يعبدوني، فإن أبيت أن ترسله فإني أضرب جميع حدودك بالضفادع فتدب الضفادع فتصعد فتدخل إلى بيتك وقيطونك وفي مبيتك وعلى مضجعك وأسرتك في بيوت عبيدك وشعبك ومخادعك وبيوت طعامك، وتدب الضفادع عليك وعلى جميع شعبك، وقال الرب لموسى: قل لهارون أخيك أن مد يدك بعصاك على الأنهار وعلى الدواليب وعلى الآجام فأصعد الضفادع على أرض مصر، فرفع هارون يده على مياه المصريين فأصعد الضفادع فغشيت أرض مصر، فدعا فرعون موسى وهارون وقال لهما: صليا بين يدي الرب فتنصرف الضفادع عني وعن شعبي حتى أرسل الشعب فيذبحوا بين يدي الرب، فقال موسى لفرعون: سل وقتاً أصلي عليك فيه وعلى عبيدك وشعبك فتنصرف الضفادع عنك وعن بيتك - وفي نسخة السبعين: عنك وعن قومك وعن بيوتك - فقال له غداً فقال له موسى: سيكون كما سألت فتعلم أنه لا إله غير إلهنا، فيصرف الضفادع عنك وعن بيتك - وفي نسخة السبعين: بيوتك وعن عبيدك وعن شعبك ما خلا الضفادع التي في النهر - فخرج موسى وهارون من بين يدي فرعون، فصلى موسى بين يدي الرب فاستجاب الرب لموسى، فماتت الضفادع في الدور والبيوت والرياض(8/52)
فجمعوها أنابير أنابير فأصلّت الأرض وأجنت - وفي نسخة السبعين: فجمعوها صبباً صبباً فأنتنت الأض - فرأى فرعون الفرج والراحة وجفا قلبه فلم يطعهما كالذي قال الرب، فقال الرب لموسى: مر هارون فيرفع عصاه ليضرب ثرى الأرض فيكون القمل في جميع أرض مصر، ففعل ذلك فدب القمل في الناس والبهائم وصار جميع ثرى الأرض قملاً في جميع أرض مصر، فصنع مثل ذلك السحرة بسحرهم فلم يقدروا أن يصرفوا القمل في الناس والبهائم، فقالت السحرة لفرعون: إن هذا فعل رب العالمين، فقسا قلب فرعون ولم يطعهما كما قال الرب، فقال الرب لموسى: أدلج باكراً وقف بين يدي فرعون، وهو ذا يخرج يغتسل - وفي نسخة السبعين: فإنه يخرج إلى الماء - فقل له: هكذا يقول الرب: أرسل شعبي فيعبدوني، فإن أنت أبيت فهأنذا مرسل - وفي نسخة السبعين: فإني مرسل - عليك وعلى شعبك وعلى أهل بيتك هوام وحشرة من كل جنس فتمتلىء - وفي نسخة: ذباب الكلب فتمتلىء - بيوت المصريين من الهوام والحشرة مثل ثرى الأرض التي هم عليها، وأميز في ذلك اليوم أرض جاسان التي يسكنها شعبي، فلا يكون فيها من الهوام والحشرة شيء لتعلم أني أنا الرب، وأميز بين شعبي وشعبك، وتكون هذه الآية غداً،(8/53)
وفعل الرب كذلك وأنزل الهوام على بيت - وفي نسخة: بيوت - فرعون وعبيده وعلى جميع أرض مصر، ففسدت الأرض بالهوام، فدعا فرعون موسى وهارون وقال لهما: انطلقوا فاذبحوا الذبائح لله ربكم في هذه الأرض، فقال موسى: لا يحسن بنا أن نفعل ذلك لأنا إنما نذبح للرب إلهنا من نجاسة المصريين وبدعهم، فإن نحن ذبحنا أمام آلهة المصريين رجمونا، بل ننطلق مسيرة ثلاثة أيام في القفر فنذبح هنالك للرب إلهنا على ما يأمرنا ويقول لنا، فقال فرعون: أنا أرسلكم فتذبحوا الذبائح للرب إلهكم في البرية، ولكن لا تنطلقوا فتتوانوا، بل صلوا عليّ أيضاً - وفي نسخة السبعين: ولكن لاتبعدوا وصلوا عليّ أيضاً إلى ربكم - فقال موسى لفرعون: هأنذا أخرج من بين يديك فأصلي بين يدي الرب، فيصرف الهوام والحشرة عن فرعون وعن عبيده وعن شعبه غداً، ولكن لا يعود فرعون أن يكذب في قوله ويأبى أن يرسل الشعب ليذبحوا الذبائح، فخرج موسى من بين يدي فرعون وصلى بين يدي الرب، فقبل الرب صلاة موسى وصرف الهوام فلم يوجد منها ولا واحد، فقسا قلب فرعون بعد هذا أيضاً ولم يرسل الشعب، فقال الرب لموسى: انطلق إلى فرعون وقل له: هكذا يقول الرب إله العبرانيين: أرسل شعبي حتى يعبدوني، فإن أبيت أن ترسله - وفي نسخة السبعين: وتمسكت به، فإن(8/54)
يد الرب تضرب ماشيتك التي في القفر من الخيول والحمير والبقر والغنم، فيقع فيها الوباء العظيم الصعب الشديد، ويميز الرب بين دواب بني إسرائيل وبين بهائم أهل مصر، فلا يموت من بهائم آل إسرائيل ولا واحد، ووقت الرب وقتاً ليكمل فيه هذا القول على الأرض، فأكمل الرب هذا الأمر من غد ذلك اليوم، فماتت جميع بهائم المصريين ولم يمت من دواب بني إسرائيل ولا واحد، وأرسل فرعون فإذا أنه لم يمت من دواب بني إسرائيل ولا دابة، فقسا قلب فرعون بعد هذا أيضاً فأبى أن يرسل الشعب، فقال الرب لموسى وهارون: خذا في حقيبتكما من رماد الأتون فيذره موسى إزاء السماء نحو فرعون، فيكون العجاج في أرض مصر، فيضرب الناس والبهائم جميعاً قروح ناتية رخوة في أرض مصر كلها، فأخذا رماد الأخدود ووقفا بين يدي فرعون فذره موسى نحو السماء أمام فرعون فظهرت قروح ناتية رخوة، فاستعلت في الناس والبهائم، فلم يقدر السحرة على الوقوف بين يدي موسى من كثرة القروح التي ظهرت في السحرة وفي جميع أهل مصر، فقسى الرب قلب فرعون فلم يسمع لهما ولم يطعهما كالذي قال الرب لموسى، فقال الرب لموسى: أدلج باكراً وقف بين يدي فرعون وقل له: هكذا يقول الرب إله العبرانيين:(8/55)
أرسل شعبي فيعبدوني وإلا فأنا مرسل في هذا الوقت ضربتي على قلبك وعلى عبيدك وعلى شعبك لتعلم أنه لا إله غيري على الأرض كلها، لأني مجمع من الآن أن أمد يدي فأضربك وشعبك بالوباء، وتبيد عن جديد الأرض، وإنما بغيتك بهذا الأمر لأظهر لك عزي وقدري ولينادي باسمي في الأرض كلها، وأنت حتى الآن تتمسك بالشعب وتأبى أن ترسله، وغداً في هذا الوقت أهبط البرد العظيم الشديد ما لم يكن - وفي نسخة السبعين: الذي لم يكن مثله - بمصر منذ اليوم الذي أسست فيه قواعدها إلى يوم الناس هذا، والآن أرسل فأدخل جميع دوابك وكل مالك في الحقل لأن كل بهيمة أو إنسان يلقى في الحقل ولا يدخل البيت يهبط عليهم البرد فيموتون، وكل من خاف كلمة الله من عبيد فرعون نقل عبيده وبهائمه إلى البيوت، والذي لم يفكر في كلمة الله وتهاون بها ترك دوابه وعبيده في الحقل، وقال الرب لموسى: ارفع يدك إلى السماء يهبط البرد على جميع أرض مصر على الناس والبهائم وجميع الحقول - وفي نسخة السبعين: على الناس والدواب وجميع نبات الصحراء - فرفع موسى عصاه نحو السماء فأرجفهم الرب بالرعد والبرد، وجعلت النار تضطرم على الأرض، فأهبط الرب البرد وكان البرد يهبط والنار تضطرم في البرد، وكان شديداًعظيماً، ولم يكن مثله في جميع أرض مصر منذ اليوم الذي سكنها بنو البشر، فضرب البرد جميع أرض مصر لكل من(8/56)
كان في الحقل من الناس والبهائم، وأهلك الرب جميع عشب الحقل وحطم جميع أشجار الغياض، فأما أرض جاسان التي كانت آل إسرائيل يسكنونها فلم يهبط عليها البرد، فأرسل فرعون فدعا موسى وهارون فقال لهما: قد خطئت في هذه المرة أيضاً، والرب بار وأنا وشعبي منافقون - وفي نسخة السبعين: إني قد أخطأت والرب بار وأنا وشعبي فجار- فصليا بين يدي الرب فإنه ذو إمهال وأناة فيصرف عنا الرجفة والرعد والبرد فأرسلكم فلا تعودوا أن تتأخروا - وفي نسخة السبعين: وأنا أرسلكم ولا أعود أن أوخركم - فقال موسى لفرعون: إذا ما خرجت من القرية أبسط يدي للرب فيصرف عنكم صوت الرعد والرجفة، ولا يعود البرد يهبط أيضاً لكي تعلم أن الأرض وما عليها لله.
وأنا أعلم أنك وعبيدك إلى الآن لم ترهبوا الله ولم تخافوا عقابه، وقد هلك الكتان والشعير - وفي نسخة السبعين: وضرب البرد الشعير والكتان - لأن الشعير كان قد بدأ أن يسبل، والكتان قد بدأ أن يبزر، فأما زرع الحنطة والكثيب فلم يهلك لأنه كان متأخراً، فلما جاء موسى من القرية من بين يدي فرعون بسط - وفي نسخة السبعين: فأما زرع الحنطة والذرة فإنه لم يضرهما لأنهما كانا لقسا، وخرج موسى من عند فرعون خارج المدينة فبسط - يديه بين يدي الله نحو السماء فصرف عنهم الرعد والبرد، وانقطع المطر عن(8/57)
الأرض، فرأى فرعون أن القطر والبرد والرعد قد انقطع وسكن فعاد وخطأ وقسا قلب فرعون وعبيده - وفي نسخة السبعين: وقسا قلبه وقلب عبيده وجفا - ولم يرسل بني إسرائيل كرسالة الرب - وفي نسخة السبعين: على ما تكلم به الرب على يد موسى - فقال الرب لموسى: انطلق إلى فرعون لأني أنا الذي أقسي قلبه وقلوب عبيده، فأظهر هذه الآيات لتجر بنيك وبني بنيك بما صنعت بأهل مصر من الآيات الكثيرة التي أظهرت، فيعلموا أني أنا الرب، فأتى موسى وهارون إلى فرعون وقالا له: هكذا يقول الرب إله العبرانيين: حتى متى تأبى أن تخافني وترهبني! أرسل شعبي ليعبدوني، فإن أبيت أن ترسل شعبي فهأنذا محدر على جميع تخومك الجراد - وفي نسخة السبعين: فإني أجلب عليك غداً هذا الوقت جراداً عظيماً على جميع حدودك - فيغطي عين الأرض فلا يقدر إنسان على النظر إلى الأرض، فمهما أبقى لكم البرد أكله، ويأكل جميع الشجر التي تنبت لكم في الحقل، ويمتلىء منه بيوتك وبيوت عبيدك وبيوت جميع المصريين ما لم ير مثله آباؤك وأجدادك من اليوم الذي أسست الأرض إلى يوم الناس هذا، ورجعا من بين يدي فرعون فقالفرعون لعبيده: حتى متى يكون لنا هذه العثرة! يرسل القوم فيعبدون - وفي نسخة السبعين: فقال عبيد فرعون لفرعون: حتى متى يكون(8/58)
لنا هذا البلاء! أرسل القوم فيعبدوا - الرب إلههم أما تعلم - وفي نسخة السبعين: أو ما عملت - أن مصر قد خربت، فردوا موسى وهارون إلى فرعون فقال لهم: انطلقوا فاعبدوا بين يدي الرب إلهكم، ولكم من منكم ينطلق؟ فقال له موسى: إنا ننطلق بشباننا وشيوخنا وبنينا وبناتنا وبغنمنا وبقرنا، لأنه عيد لنا للرب، فقال لهما: ليكن كما قلتما، والله يصحبكما إذا ما أرسلتكم وحشمكم، لعله أن يعرض لكم في الطريق آفة، ولكن ليس هكذا، انطلقوا الآن معاشر الرجال! اعبدوا بين يدي الرب لأنكم إنما تطلبون بذلك الراحة، فأخرجوهما من بين يدي فرعون، فقال الرب لموسى: ارفع يدك على أرض مصر فيأتي الجراد فيصعد على أرض مصر فيأكل عشب الحقل وجميع ما نجا من البرد، فرفع موسى عصاه على ارض مصر، فأهبَّ الرب على الأرض ريح السموم جميع ذلك اليوم - وفي نسخة السبعين: والرب جلب ريحاً قبلية على الأرض نهار ذلك اليوم - وتلك الليلة، فلما كان بالغداة احتملت ريح السموم الجراد، فصعد الجراد - وفي نسخة السبعين أخذت الريح القبلية الجراد وأصعدته - على جميع أرض مصر، فسقط على جميع تخوم أرض المصريين، وكان منيعاً عظيماً جداً، ولم يكن مثل ذلك الجراد فيما خلا ولا يكون مثله فيما بعده، فغطى جميع عين الأرض فأظلمت الأرض، وأكل جميع عشب الحقل وجميع الشجر التي نجت من البرد، ولم يبق في الشجر غصن ولا ورق ولا في(8/59)
الحقل عشب في جميع أرض مصر، فاستعجل فرعون ودعا موسى وهارون وقال لهما: قد خطئت بين يدي الله إلهكما، والآن اعفوا عن ذنبي وجهلي هذه المرة، وصليا بين يدي الرب إلهكم فيصرف عني هذه الآفة والموت، فخرج موسى من بين يدي فرعون وصلى بين يدي الرب، فعاد الرب بريح السموم عاصفاً فاحتملت الجراد فقذفت به في بحر سوف - وفي نسخة السبعين: فغير الرب تلك الريح بريح من البحر شديدة فأخذت الجراد وألقته في البحر الأحمر - ولم يبق في جميع تخوم المصريين شيء من الجراد، فقسى الرب قلب فرعون فلم يرسل بني إسرائيل، فقال الرب لموسى: ارفع يدك إلى السماء فليكن الدجى والحنادس على جميع أرض مصر فتذلهم الظلمة، فرفع موسى يده إلى السماء فكانت الظلمة والدجى - وفي نسخة السبعين: فصارت ظلمة وزوبعة - على جميع أرض مصر، ولم ير المرء منهم صاحبه ثلاثة أيام، فأما جميع بني إسرائيل فكان لهم الضياء والنور في مساكنهم، فدعا فرعون موسى فقال له: انطلقوا فاعبدوا بين يدي الرب إلهكم، فأما بقركم وغنمكم فدعوها هاهنا، وأما حاشيتكم فانطلقوا بها معكم، فقال موسى لفرعون: وأنت أيضاً تعطينا من الذبائح فنذبح لله ربنا، وبهائمنا أيضاً تنطلق بها معنا، ولا يبقى منها هاهنا ظلف على الأرض لأنا إنما نأخذ من مالنا لنذبح بين يدي الرب إلهنا، ولسنا نعلم بماذا نعبد الله إذا بلغنا هناك، فقسى الرب قلب فرعون وأبى أن يرسلهم،(8/60)
فقال فرعون لموسى: اخرج من بين يدي واحذر أن تتراءى لي أيضاً لأن اليوم الذي تتراءى لي بين يديّ تموت فيه، قال له موسى: ما أحسن قولك! لست بعائد أن أرى وجهك، قال الرب لموسى: إني أعود أيضاً فانزل بفرعون والمصريبن ضربة واحدة، وعند ذلك أرسلكم من هاهنا، فإذا أرسلتكم فاخرجوا كلكم، وأمر الشعب وقال لهم: ليستعر المرء منكم من صاحبه والمرأة من جارتها حلي ذهب وفضة - وفي نسخة السبعين: آنية الفضة وآنية الذهب - والكسوة، وجعل الرب للشعب في قلوب المصريين محبة ورحمة، وموسى كانت له هيبة وكرامة عظيمة في جميع أرض مصر - وفي نسخة السبعين: عند المصريين وعند فرعون وعند جميع عبيده - فقال موسى: هكذا يقول الرب: إني خارج نصف الليل فأجوز في أرض مصر فأتوفى جميع أبكار مصر بكر فرعون الجالس على منبره إلى بكر الأمة التي في بيت الرجل، وتموت جميع أبكار البهائم فتسمع الولولة العظيمة والصراخ والأنين الفظيع ما لم يسمع مثله أيضاً- وفي نسخة السبعين: ولا يعود أيضاً أن يكون مثلها- فأما آل إسرائيل فلا يصاب منهم ولا الناس ولا البهائم ولا الكلب بلسانه- وفي نسخة السبعين: ولا يعوي من جميع بني إسرائيل كلب بلسانه - ليعلموا أن الرب ميز بين المصريين وآل إسرائيل، فهبط جميع عبيدك هؤلاء فيسجدون لي ويقولون: اخرج أنت وجميع الشعب معك، وعند(8/61)
ذلك أخرج، فخرج موسى من بين يدي فرعون بغضب شديد، فقال الرب لموسى: إن فرعون لا يطيعكما، ذلك أني مكثر آياتي وعجائبي بأرض مصر، وإن موسى وهارون جرحا هذه الجرائح وأظهرا هذه الآيات كلها بين يدي فرعون، فقسى الرب - وفي نسخة السبعين: وأقسى الرب - قلب فرعون فلم يرسل بني إسرائيل عن أرضه، وقال الرب لموسى وهارون بأرض مصر: هذا الشهر- أي نيسان - يكون لكم رأس الشهور، ويكون هذا أول شهور السنة، قل لجميع جماعة بني إسرائيل في عشر من هذا الشهر فليأخذ الرجل منهم حملاً- وفي نسخة السبعين: خروفاً - لبيته وحملاً لآل أبيه، وإن كان آل البيت قليلاً لا يحتاجون إلى حمل فليشرك هو وجاره القريب إلى بيته على عدة الناس، وعدوا كل امرىء منهم على قدر أكله من الحمل، حملاً بلا عيب فيه ذكراً بيناً، يكون الحمل حويلاً من الخراف والجدي وتأخذونه، ويكون محفوظاً لكم حتى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر، ويذبحه كل جماعة من كنيسة بني إسرائيل أصيلاً، ويأخذون من دمه ويضعونه على القائمين والعتبة من البيت الذي تأكلون فيه، أي علامة - للملائكة الذين يؤمرون بقتل أبكار المصريين، وتأكلون اللحم في هذه الليلة مشوياً بفطير، ولا تأكلوا منه نيئاً ولا مطبوخاً بالماء،(8/62)
ولاتبقوا منه شيئاً لغد، ولا تكسروا منه عظماً، وما فضل منه إلى غد فأحرقوه بالنار، وكلوه وأنتم قيام وقد شددتم أو ساطكم ونعالكم في أرجلكم وعصيكم في أيديكم وكلوه بعجلة، فإنه فصح للرب، وأنا فإني أعبر في أرض مصر في هذه الليلة وأضرب كل بكر بأرض مصر من الناس والبهائم، وأعمل نقمة من جميع آلهة المصريين، أنا الرب! ويكون لكم هذا اليوم ذكراً وتعيدونه عيداً للرب لدهوركم إلى الأبد وتعيدونه سبعة أيام، وتأكلون فطيراً وتعزلون الخمير من بيوتكم من أول يوم، وكل من يأكل خميراً فإن تلك النفس تبيد من إسرائيل من اليوم الأول إلى اليوم السابع، وكل عمل يعمل فلا تعملوه فيها، واحفظوا هذه الوصية، ففي هذا اليوم خرج عسكركم من مصر، فاجعلوا هذا اليوم لدهوركم سنة، فإذا بدأ اليوم الرابع عشر من الشهر الأول من العشيّ كلوا فطيراً إلى يوم إحدى وعشرين من الشهر إلى العشاء، ولا يوجد خمير في بيوتكم سبعة أيام، وكل من يأكل مخمراً فإن تلك النفس تبيد من جماعة بني إسرائيل من الملة والذمة ومن سكان الأرض، ما كان خميراً فلا تأكلوه وكلوا فطيراً في جميع مساكنكم، فدعا موسى جميع أشياخ بني إسرائيل وقال لهم: عجلوا فخذوا غنماً لقبائلكم واذبحوا الفصح(8/63)
وخذوا حزمة من ريحان الأدبان واغمسوها بدم الحمل ورشوا على معاقم أبوابكم ومعاضدها - وفي نسخة السبعين: على العتبة وكلا القائمين - من الدم الذي في الإناء، ولا يخرج أحد منكم من باب بيته إلى غدوة - وفي نسخة السبعين: إلى الصباح - فتحفظون هذه السنة والوصية أنتم وبنوكم إلى الأبد، وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الرب كما وعدكم فاحفظوا هذا العمل، وإذا سأل بنوكم فقالوا لكم: ما هذا الفعل؟ فقولوا لهم: هذه ذبيحة فصح الرب إذ أفصح على بيوت بني إسرائيل بمصر إذ قتل المصريين وخلص بيوتنا، فركع الشعب كله ساجداً لله وانطلق بنو إسرائيل فصنعوا كما أمر الله موسى وهارون، وفي بيوت بني إسرائيل فلما كان عند نصف الليل قتل الرب أبكار أرض مصر- وفي نسخة السبعين: كل بكر بأرض مصر - من بكر فرعون الجالس على منبره - وفي نسخة السبعين: على كرسيه - وحتى بكر السبي المحبوس في السجن وجميع أبكار البهائم فوثب فرعون في تلك الليلة هو وجميع عبيده وكل أرض مصر - وفي نسخة السبعين: وجميع المصريين - وكانت ولولة عظيمة في جميع أرض مصر لأنه لم يوجد بيت لم يكن فيه ميت، فدعا فرعون بوسى وهارون في تلك الليلة وقال لهما: انهضا فاخرجا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل أيضاً وانطلقوا فاعبدوا بين يدي الرب كقولكما، وسوقوا غنمكم(8/64)
وبقركم أيضاً كما قلتما، وانطلقوا وصلوا عليّ أيضاً وادعوا لي، فألح المصريون على الشعب ليخرجوهم عن الأرض مسرعين لأنهم قالوا: إنا جميعاً سنموت، فحمل الشعب عجينهم قبل أن يختمر، والبارد من فطيرهم مشدوداً في عمائمهم ملقى أعناقهم، وصنع بنو إسرائيل كما أمرهم موسى، واستعاروا من المصريين حلي ذهب وفضة وكسوة - وفي نسخة السبعين: آنية الفضة والذهب والكسوة - وجعل الرب للشعب في أعين المصريين محبة ورحمة فأعاروهم، فحربوا المصريين، وظعن بنو إسرائيل من رعمسيس - وعلى حاشية نسخة السبعين أنها عين شمس - يطلبون ساخوت ستمائة ألف رجل سوى الحشم والعيال، وصعد معهم من الغرباء أيضاً من كل خلط ومن البقر والغنم والماشية كثيراً جداً، فاختبزوا العجين الذي أخرجوه معهم من مصر رغفاً - وفي نسخة السبعين: فرانيّ - فطيراً لم يختبزوه - وفي نسخة السبعين: لم يختمر- وذلك لأن المصريين أخرجوهم فلم يقدروا أن يلبثوا، ولم يتزودوا زاداً للطريق أيضاً، وكان مسكن بني إسرائيل في أرض مصر أربعمائة وثلاثين سنة، في هذا اليوم خرج جميع جنود الرب من أرض مصر- وفي نسخة السبعين: ليلاً - كان الرب وقت في سابق علمه حفظ تلك الليلة التي خرجوا فيها من مصر، وكانت هذه الليلة محفوظة معروفة لدى الرب لهلاك أبكار مصر ولإخراج جميع بني إسرائيل ليكون ذكر ذلك في جميع أحقابهم وخلوفهم، وقال الرب لموسى وهارون: هذه(8/65)
سنة الفصح، لا يأكل منه غريب، وكل عبد لرجل اشتراه إذا ختنه عند ذلك فأطعمه الفصح، والأجير والساكن فلا يأكل منه، في بيت واحد فليؤكل - وفي نسخة السبعين: وكل عبد لرجل اشتراه فليختتن ثم يأكل منه، الملجىء والأجير لا يأكلان منه، وليؤكل في بيت واحد - ولا تخرجوا من اللحم خارجاً من البيت شيئاً ولا تكسروا فيه عظماً، وإذا سكن معكم غريب فختن كل ذكر في بيته عند ذلك فليقترب - وفي نسخة السبعين، وليختن منهم كل ذكر ثم يدنون - من بعد ذلك إلى أكل الفصح، وليكن عند ذلك بمنزلة أهل الأرض، ولا يأكل منه أغرل، ولتكن سنة واحدة لأهل الأرض والغرباء الذين يسكنون معكم، وصنع جميع بني إسرائيل كما أمر موسى وهارون، وفي هذا اليوم أخرج الرب بني إسرائيل من أرض مصر وجميع جنودهم، وقال الرب لموسى: طهر لي كل ذكر ذكر ويفتح كل رحم من بني إسرائيل من الناس والبهائم يكونون لي، فقال موسى للشعب: اذكروا هذا اليوم الذي خرجتم فيه من مصر من العبودية والرق، لأن الرب أخرجكم من هاهنا بيد منيعة - إلى آخر ما مضى في سورة البقرة؛ ثم ذكر في الخامس علة الفصح فقال: احفظوا شهر البهار فاعملوا فصحاً لله ربكم لأنه إنما أخرجكم من أرض مصر في(8/66)
شهر البهار ليلاً، فاذبحوا فصحاً لله ربكم من البقر والغنم في الموضع الذي يختار الله ربكم، فلأ تأكلوا فيه خميراً بل كلوا فطيراً سبعة أيام خبزاً يدل على التواضع لأنه إنما خرجتم من أرض مصر بعجلة لتذكروا اليوم الذي أخرجتم فيه من مصر كل أيام حياتكم، ولا يرى الخمير في حدودكم سبعة أيام، ولا يحل لكم أن تأكلوا الفصح في قرية من القرى التى يعطيكم الله ربكم، ولكن في الموضع الذي يختار الله ربكم أن يصير فيه اسمه ففيه اذبحوا الفصح، ويذبح عند غروب الشمس في الوقت الذي خرجتم من أرض مصر، ثم قال: وأحصوا سبعة سوابيع من بعد عيد الفصح، ثم اعملوا عيد السوابيع وائتوا بخواص غلاتكم للرب، كما بارك لكم الله ربكم في الموضع الذي يختار الرب أن تصيروا اسمه فيه واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر، فاحفظوا هذه السنن كلها واعملوا بها، واعملوا عيد المظال سبعة أيام إذا ما دخلتم بيادركم وخزنتم معاصركم ليبارك الله ربكم في جميع غلاتكم وفي كل عمل أيديكم، وتكونوا فرحين، ويروى ذكركم أمام الله ربكم في الموضع الذي يختار ثلاث مرات في السنة: عيد الفطر وعيد السوابيع وعيد المظال - انتهى.
وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا إضافة - الابن في قوله:(8/67)
ابني بكري، وهو مؤوّل بأنه يكرمه إكرام الولد، وإطلاق الإله على غير الله سبحانه مراد به الحاكم، ولا يجوز هذا الإطلاق عندنا.(8/68)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
ولما انقضى ما أراهم سبحانه من الأفعال الهائلة التي استخلصهم بها من ذلك الجبار، شرع يذكر ما قابلوه به من الجهل به سبحانه وما قابلهم به من الحلم، ثم ما أحل بهم بعد طول المهلة من ضرب الذلة والمسخ بصورة القردة، فقال عاطفاً على قوله {فأغرقناهم في اليم} أو قوله {ثم بعثنا من بعدهم موسى} : {وجاوزنا} أي قطعنا بما لنا من العظمة - وساقه على طريق المفاعلة تعظيماً له، روي أن جوازهم كان يوم عاشوراء، وأن موسى عليه السلام صامه شكراً لله تعالى على إنجائهم وإهلاك عدوهم {ببني إسرائيل} بعد الآيات التي شاهدوها {البحر} وإنما جعلته معطوفاً على أول القصة لأن هذه القصص كلها بيان لأن في الناس السيىء الجوهر الذي لايغنيه الآيات كما مضى عند قوله: {والبلد الطيب} [الأعراف: 58] وبيان قوله {أخذنا أهلها بالبأساء والضراء} [الأعراف: 94] إلى آخرها، ويدل على ذلك - مع ما ابتدئت به القصص - ختمها بقوله {ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا} [الأعراف: 176] وقوله: {ولقد ذرأنا لجهنم} [الأعراف: 179] وحسن موقعها بعد قوله: {وتمت كلمت ربك الحسنى} [الأعراف: 137](8/68)
لأنه لما قيل {بما صبروا} تشوفت النفس إلى فعلهم حال الرخاء هل شكروا؟ فبين أن كثيراً منهم كفروا تصديقاً لقوله {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} [الأعراف: 102] وما شاكله، وما أحسن تعقيب ذلك - بقوله: {فأتوا} أي مروا- بفاء التعقيب {على قوم} أي ذوي قوة، قيل: كانوا من لخم {يعكفون} أي يدورون ويتحلقون ملازمين مواظبين {على أصنام لهم} أي لا قوة فيها ولا نفع، فهم في عكوفهم عليها مثل في الغباوة، وقيل: إنها كانت تماثيل بقر، وكان ذلك أول أمر العجل.
ولما أخبر سبحانه بذلك، علم السامع أنهم بين أمرين: إما شكر وإما كفر، فتشوف إلى ما كان منهم، فأجاب سبحانه سؤاله بقوله: {قالوا} أي لم يلبث ذكرهم لما أراهم سبحانه من عظمته وشكرهم لما أفاض عليهم من نعمته إلا ريثما أمنوا من عدوهم بمجاوزتهم البحر وإغراقهم فيه حتى طلبوا إلهاً غيره بقولهم: {يا موسى} سموه كما ترى باسمه جفاء وغلظة اعتماداً على ما عمهم من بره وحلمه غير متأدبين بما بهرهم من جلالة حظه من الله وقسمه {اجعل لنا إلهاً} أي شيئاً نراه ونطوف به تقيداً بالوهم {كما لهم آلهة} وهذا منهم قول من لا يعد الإله - الذي فعل معهم هذه الأفاعيل - شيئاً، ولا يستحضره بوجه.(8/69)
ولما كان هذا منهم عظيماً، استأنف جواب من تشوف إلى قول موسى عليه السلام لهم ما هم بقوله: {قال إنكم قوم} أي ذوو قيام في شهوات النفوس، وقال: {تجهلون*} مضارعاً إشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة، لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل، واعلم أنه لا تكرير في هذه القصص فإن كل سياق منها لأمر لم يسبق مثله فالمقصود من قصة موسى عليه السلام وفرعون - عليه اللعنة والملام - هذا الاستدلال الوجودي على قوله
{وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} [الأعراف: 102] ومن هنا تعلم أن سياق قصة بني إسرائيل بعد الخلاص من عدوهم لبيان إسراعهم في الكفر ونقضهم للعهود، واستمر سبحانه في هذا الاستدلال إلى آخر السورة، وما أنسب {وإذ أخذ ربك من بني آدم} [الأعراف: 172] الآية، لقوله {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} [الأعراف: 102] وذكر في أول التي تليها تنازعهم في الأنفال تحذيراً لهم من أن يكونوا من الأكثر المذمومين في هذه، هذا بخلاف المقصود من سياق قصص بني إسراءيل في البقرة فإنه هناك للاستجلاب للإيمان بالتذكير بالنعم، لأن ذلك في سياق خطابة سبحانه لجميع الناس بقوله: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21] {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} [البقرة: 28] وما شاكله من الاستعطاف بتعداد النعم ودفع النقم - والله أعلم.(8/70)
ولما استفيد من كلامه لهم غاية الإنكار عليهم، علل هذا الإنكار بقوله: {إن هؤلاء} أي القوم {متبر ما هم فيه} أي مكسر مفتت مهلك على وجه المبالغة، وإذا فسد الظرف فسد المظروف، وإليه الإشارة بجعل «هؤلاء» اسماً لإن، وإيلائه خبر الجمله الواقعه خبراً مقدماً على مبتدئه.
ولما كان الشيء قد يهلك في الدنيا أو في الاخرة - وهو حق، أعملهم بأن هذا الهلاك إنما هو الهلاك عند الله أعلم من كونه في الدنيا أو في الآخرة لبطلان ما هم فيه، فقال معبراً بالاسمية إشارة إلى أنه الآن كذلك، وإن رئي بخلافه: {وباطل} أي مضمحل زائل {ما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يعملون*} أي مواظبين عليه من الأصنام والعكوف وجميع أعمالهم لأجله، لا وزن لشيء منها أصلاً ولا اعتبار، وفيه إشارة إلى أن العبادة لا تنبغي إلا للباقي الذي لا يجوز عليه التغير، فإذا كان كذلك كان العمل له أيضاً ثابتاً باقياً لا يجوز عليه البطلان، وفي تعقيبها لتدمير آل فرعون إشارة إلى موجب ذلك، وأن كل من كان على مثل حالهم من عبادة غير الله كانت عاقبته الدمار.
ولما كان هذا استدلالاً على أن مثل هذه الأصنام التي مروا عليها لا تصلح لأن تعبد، كان ذلك غير كاف لهم لما - تقرر من جهلهلم، فربما ظنوا أن غيرها مما سوى الله تجوز عبادته، فكأنه قيل: هذا لا يكفي جواباً لمثل هؤلاء فهل قال لهم غير ذلك؟ فقيل: نعم! {قال} منكراً معجباً(8/71)
{أغير الله} أي الذي له جميع العظمة، فهو المستحق للعبادة {أبغيكم} أي أطلب لكم {إلهاً} فأنكر أن يتأله غيره، وحصر الأمر فيه ثم بينه بقوله: {وهو} أي والحال أنه هو وحده {فضلكم} دون غيركم ممن هو في زمانكم أو قبله {على العالمين*} أي لو لم يكن لوجوب اختصاصهم له بالعبادة سبب سوى اختصاصه لهم بالتفصيل على سائر عباده الذين بلغهم علمهم ممن هو أقوى منهم حالاً وأكثر عدداً وأموالاً لكان كافياً.
ولما أثبت أن الإلهية لا تصلح لغيره، وأن غيره لم يكن يقدر على تفضيلهم، وكان المقام للعظمة، وكان كأنه قيل إيذاناً بغلظ أكبادهم وقله فطنتهم وسوء مقابلتهم للمنعم: اذكروا ذلك، أي تفضيله لكم باصطفاء آبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وما تقدم له عندهم وعند أولادهم من النعم لا سيما يوسف عليه السلام الذي حكمه في جميع الأرض التي استذلكم أهلها؛ عطف عليه إشارة إليه قوله التفاتاً إلى مظهر العظمة تذكيراً بعظمة مدخوله: {وإذ} أي واذكروا إذ {أنجيناكم} أي على ما نحن عليه من العظمة التي أنتم لها عارفون، ولها في - كل وقت في تلك الآيات مشاهدون {من آل فرعون} وما أفضنا عليكم بعد الإنجاء من النعم الجسام وأريناكم من الآيات العظام تعرفوا أنا فضلناكم(8/72)
على جميع الأنام، ثم استأنف بيان ما أنجاهم منه بقوله: {يسومونكم} أي ينزلون بكم دائماً {سوء العذاب} .
ولما كان السياق - كما مضى - لبيان إسراعهم في الكفر وشدة علوتهم في قوتهم وجلافتهم، وكان مقصود السورة إنذار المعرضين وتحذيرهم من القوارع التي أحلها بالماضين، بين سوء العذاب عادلاً في بيانه عن التذبيح - لأنه لا يكون عند الانذباح، وهو في الأصل لمطلق الشق - إلى التعبير بالقتل لأنه أدل على الإماتة وأهز، لأنه قد يكون على هيئة شديدة بشعة كالتقطيع والنخس والخبط وغير ذلك مع أنه لا بد فيه من تفويت ذلك فقال: {يقتلون} أي تقتيلاً كثيراً - {أبناءكم} ودل على حقيقة القتل بقوله: {ويستحيون} .
ولما كان المعنى أنهم لا يعرضون للإناث صغاراً ولا كباراً، وكان إنكار ما يكون إبقاء النساء بلا رجال لما يخشى من الضياع والعار، وكان مظنة العار أكبر - عبر عنهن بقولة: {نساءكم} وتنبيهاً على أن قتل الأبناء إنما هو للخوف من صيرورتهم رجالاً لئلا يسلبهم واحد منهم أعلمهم به كهانهم ملكهم؛ وأشار إلى شدة ذلك بقوله: {وفي ذلكم} أي الأمر الصعب المهول {بلاء} أي اختبار لكم ولهم {من ربكم} أي المحسن إليكم في حالي الشدة والرخاء، فأنه أخفى عنهم الذي قصدوا القتل لأجله، وأنقذكم به بعد أن رباه عند الذي هو مجتهد في ذبحه {عظيم} .(8/73)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
ولما ذكرهم بنعمة إنجاء الأبدان، أتبعها التذكير بأكبر منها إذ كانت لحفظ الأديان وصيانة جوهرة الإيمان بما نصب لهم من الشرع في التوراة، فقال معجباً من حالهم إذ كان في الإنعام عليهم بنصب الشرع الهادي لهم من الضلال واختصاص نبيهم بمزيد القرب بالمناجاة، وهم في اتخاذ إله سواه، لا نفع فيه أصلاً، ولا يرضى قلب أو عقل أن يعبده، عاطفاً له على ما سبق تعجيبه به منهم في قوله: {وجاوزنا ببني إسرائيل} [الأعراف: 138] {وواعدنا} أي على ما لنا من باهر العظمة {موسى ثلاثين} أي مناجاة ثلاثين {ليلة} أي عقبها {وأتممناها} أي المواعدة {بعشر} أي ليال، وذلك لأنه لما مضت ثلاثون ليلة، وهو شهر ذي العقدة فيما قيل، وكان موسى عليه السلام قد صامها ليلها ونهارها، أدرك من فمه خلوفاً فاستاك، فأعلمه الله أنه قد أفسد ريح فمه، وأمره بصيام عشرة أيام أخرى وهي عشر ذي الحجة ليرجع ما أزاله من ذلك، وذلك لأن موسى عليه السلام كان وعد بني إسرائيل - وهو بمصر - أنه إذا أهلك سبحانه عدوهم، أتاهم بكتاب من عنده فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما أهلك الله عدوهم سأل موسى عليه السلام الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوماً ثم أمره بالعشر.
ولما كان من الممكن أن يكون الثلاثون هي النهاية، وتكون مفصلة إلى عشرين ثم عشر، أزال هذا الاحتمال - بقوله: {فتم ميقات ربه}(8/74)
أي الذي قدره في الأزل لأن يناجيه بعده - بالفاء {أربعين} ولما كانت العشر غير صريحة في الليالي، قال: {ليلة} فانتفى أن تكون ساعات مثلاً، وعبر بالميقات لأنه ما قدر فيه عمل من الأعمال، وأما الوقت فزمان الشيء سواء كان مقدراً أم لا، وعبر بالرب إشارة إلى اللطف به والعطف عليه والرحمة له، والميقات هو الأربعون - قاله الفارسي في الحجة، وقدر انتصاب أربعين ب «معدوداً هذا العدد» كما تقول: تم القوم عشرين، أي معدودين هذا العدد وأجمل سبحانه الأربعين في البقرة لأن المراد بذلك السياق تذكيرهم بالنعم الجسام والمتّ إليهم بالإحسان والإكرام، ليكون ذلك أدعى إلى رجوعهم إلى الإيمان وأمكن في نزوعهم عن الكفران بدليل ما سبق قصتهم من قوله: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] {كيف تكفرون بالله} [البقرة: 28] وما اكتنفها أولاً وآخراً من قوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} [البقرة: 40] الآيتين المبدوء بها والمختوم بها، وفصل هنا الأربعين إلى ثلاثين وعشر، لأن المراد بهذا السياق - كما تقدم - بيان كفرهم ومرودهم على خزيهم ومكرهم وأنه لم ينفعهم سؤال المعجزات، ولا أغنى عنهم شيئاً تواتر النعم والآيات، كما كان ذلك في قصص الأمم الخالية والقرون الماضية ممن ذكر في هذه الصورة استدلالاً - كما تقدم - على أن المفسد أكثر(8/75)
من المصلح - إلى غير ذلك مما أجمل في قوله تعالى:
{وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها} [الأعراف: 94] إلى آخره، وتسلية لهذا النبي الكريم وترهيباً لقومه لما وقع لهم من العقاب الأليم، والفصل بين الساقين يدق إلا عن أولي البصائر - والله أعلم، فيكون المراد بتفصيل الأربعين هنا بيان أن إبطاء موسى عليه السلام عما علموه من المعياد إنما كان لعشرة أيام، فارتكبوا فيها هذه الجريمة التي هي أعظم الجرائم، وأشار تعالى إلى عظيم جرأتهم وعراقتهم في السفه بقوله عاطفاً على {واعدنا} : {وقال موسى} أي لما واعدناه {لأخيه} ثم بينه تصريحاً باسمه فقال: {هارون اخلفني} أي كن خليفتي فيهم تفعل ما كنت أفعل، وأكد الارتسام بما يجده له بقوله: {في قومي} وأشار إلى حثه على الاجتهاد بقوله: {وأصلح} أي كن على ما أنت عليه من إيقاع الإصلاح.
ولما كان عالماً بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبرأ من السوء غير أن عنده ليناً قال: {ولا تتبع} أي تكلف نفسك غير ما طبعت عليه بأن تتبع {سبيل المفسدين*} أي استصلاحاً لهم وخوفاً من تنفيرهم، فاختلفوا عن الطريق كما تفرس فيهم موسى عليه السلام ولم يذكروا عاقبة فلا هم خافوا بطش من بطش بمن كان يسومهم سوء العذاب، ولا هم سمعوا لأخيه في الصلاح، ولا هم انتظروا عشرة أيام، فلا أخف منهم أحلاماً ولا أشد على المعاصي إقداماً.(8/76)
ولما ذكر سبحانه مواعدته واحتياطه في إصلاح قومه، شرح أمره حال المواعدة وحالهم بعد غيبته فقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا} أي عند أول الوقت الذي قدرناه للمناجاة؛ ولما كان مقام الجلال مهولاً لا يستطاع وعي الكلام معه، التفت إلى مقام الإكرام فقال: {وكلمه} أي من غير واسطه {ربه} أي المحسن إليه بأنواع الإحسان المتفضل على قومه بأنواع الامتنان، والذي سمعه موسى عليه السلام عند أهل السنة من الأشاعرة هو الصفة الأزلية من غير صوت ولا حرف، ولا بعد في ذلك كما لا بعد رؤية ذاته سبحانه وهي ليست بجسم ولا عرض لا جوهر، وليس كمثله شيء، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سبحانه كلمه في جميع الميقات وكتب له الألواح، وقيل: إنما كلمه في أول الأربعين، والأول أولى.
ولما كلمه بصفة الربوبية الناظر إلى العطف واللطف، وكانت الرؤية جائزة، اشتاق إلى الرؤية شوقاً لم يتمالك معه لما استحلاه من لذاذة الخطاب فسألها لعمله أنها جائزة {قال} مسقطاً الأداة كعادة أهل القرب - {رب أرني} أي ذاتك الأقداس بأن ترفع عني الحجاب فتجعلني متمكناً من النظر، وهو معنى قول الحبر ابن عباس: أعطني وحقق أنها رؤية العين بقوله في جواب الأمر - {أنظر} أي أصوب تحديق العين وأشار إلى عظمته سبحانه وعلو شأنه(8/77)
علو العظمة لا المسافة - بالتعدية بحرف النهاية بعد أن أشار بحذف أداة النداء إلى غاية القرب بالإحسان - فقال: {إليك} أي فأراك.
ولما كان سبحانه قد قضى أنه عليه السلام لا يراه في الدنيا {قال} نافياً المقصود، وهو الرؤية لا مقدمتها، وهو النظر الذي هو التحديق بالعين {لن تراني} ودل سبحانه بهذه العبارة على جواز رؤيته حيث لو يقل: لن أرى، أو لن يراني أحد؛ ثم زاد ذلك بياناً بتعليقه بممكن فقال: {ولكن انظر إلى الجبل} إشارة جبل بعهده، وهو أعظم جبل هناك، وزاد في الإشارة إلى الرؤية بالتعبير بأداة الشك وإتباعها بأمر ممكن فقال -: {فإن استقر مكانه} أي وجد قراره وجوداً تاماً، وأشار إلى بعد الرؤية أيضاً وجلالة المطلوب منها بقوله: {فسوف تراني} أي بوعد لا خلف فيه {فلما تجلى ربه} أي المحسن إليه بكل عطاء ومنع وبين بتعبيره باللام أنه تجلى قربه وخصوصيته، ولو عبر بعلى مثلاً لكان أمر آخر فقال -: {للجبل} أي بأن كشف للجبل عما شاء من حجب عظمته {جعله دكاً} أي مدكوكاً، والدك والدق أخوان {وخر} أي وقع {موسى صعقاً} أي مغشياً عليه مع صوت هائل، فعلم أن معنى الاستدراك أنك لن تثبت لرؤيتي في هذه الدار ولا تعرف ذلك الآن، ولكنك تعرفه بمثال أريكه وهو الجبل، فإن الفاني - كما نقل عن الإمام مالك - لا ينبغي له أن يرى(8/78)
الباقي - {فلما أفاق} أي من غشيته {قال سبحانك} أي تنزيهاً لك عن أن أطلب منك ما لم تأذن فيه {تبت إليك} أي من ذلك {وأنا أول المؤمنين*} أي مبادر غاية المبادرة إلى الإيمان بكل ما أخبرت به كل ما تضمنته هذه الآيات، فتعبيره بالإيمان في غاية المناسبة لعدم الرؤية لأن شرط الإيمان أن يكون بالغيب، فقد ورد في نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيتان: إحداهما يمكن أن تشير إلى الرؤية بالتعبير بالمسلمين دون المؤمنين في قوله {وأنا أول المسلمين} [المائدة: 163] والثانية تومي إلى عدمها وهي {آمن الرسول} [البقرة: 285] إلى قوله: {كل آمن بالله} [البقرة: 285]- والله أعلم -، وكل هذا تبكيت على قومه وتبكيت لهم في عبادتهم العجل وردع لهم عن ذلك، وتنبيه لهم على أن الإلهية مقرونة بالعظمة والكبر بعيدة جداً عن ذوي الأجسام لما يعلم سبحانه من أنهم سيكررون عبادة الأصنام، فأثبت للإله الحق الكلام والتردي عن الرؤية بحجاب الكبر والعظمة واندكاك الجبل عند تجليه ونصب الشرع الهادي إلى أقوم سبيل تعريضاً بالعجل، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: {ألم يروا أنه لا يكلمهم} الآية.
ولما منعه الرؤية بعد طلبه إياها، وقابل ذلك بمحاسن الأفعال والأقوال، تشوف السامع إلى ما قوبل به من الإكرام، فاستأنف سبحانه الإخبار بما منحه به تسلية له عما منعه وأمراً بشكره بقوله: {قال يا موسى}(8/79)
مذكراً له نعمه في سياق دال على عظيم قدرها وإيجاب شكرها مسقطاً عنه مظهر العظمة تأنيساً له ورفقاً به - {إني اصطفيتك} أي اخترتك اختياراً بالغاً كما يختار ما يصفى من الشيء عن كل دنس {على الناس} أي الذين في زمانك {رسالاتي} أي الآيات المستكثرة التي أظهرتها وأظهرها على يديك من أسفار التوارة وغيرها {وبكلامي} أي من غير واسطة وكأنه أعاد حرف الجر للتنبيه على ذلك، كما اصطفى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الناس عامة في كل زمان برسالته العامة وبكلامه المعجز وبتكليمه من غير واسطة في السماء التي قدست دائماً ونزهت عن التدنيس بمعصية.
ولما كان ذلك مقتضياً لغاية الإقبال والنشاط، سبب عنه قوله: {فخذ ما آتيتك} آي مخصصاً لك به {وكن من الشاكرين*} أي العريقين في صفة الشكر المجبولين عليها.(8/80)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
ولما انقضى ما أنسه سبحانه به لفت الكلام - في الإخبار لنا عن عظيم ما آتاه - لي مظهر العظمة، فقال مفصلاً لتلك الرسالة ومبيناً بعض ما كان من الكلام {وكتبنا} أي بعظمتنا {له في الألواح} عرفها لعظمتها تنبيهاً على أنها لجلالة ما اختصت به كأنها المختصة بهذا الاسم، وأعظم من هذا جعل قلب النبي الأمي لوحاً قابلاً لما يلقى إليه جامعاً لعلوم الأولين والآخرين {من كل شيء} أي يحتاجه بنو إسرائيل، وذلك هو العشر الآيات التي نسبتها إلى التوارة نسبة الفاتحة إلى القران، ففيها(8/80)
أصوال الدين وأصول الأحكام والتذكير بالنعم والأمر بالزهد والورع ولزوم محاسن الأعمال والبعد عن مساويها، ولذا قال مبدلاً: {موعظة وتفصيلاً} أي على وجازتها بما كانت سبباً {لكل شيء} أي لأنها - مع كونها أمهات وجوامع - مفصلة ترجع إليها بحور العلم وتنشق منها ينابيعها.
ولما كان هذا هكذا، تسبب عنه حتماً قوله تعالى التفاتاً إلى خطاب موسى عليه السلام بخطاب التأنيس إشارة إلى أن التزام التكاليف صعب: {فخذها} أي الألواح {بقوة} أي بجد وعزيمة في العلم والعمل {وأمر قومك} أي الأقوياء على محاولة ما يراد {يأخذوا بأحسنها} كأنه سبحانه أطلق لموسى عليه السلام الأخذ بكل ما فيها لما عنده من الملكة الحاجزة له عن شيء من المجاوزة، ولذلك قال له {بقوة} وقيدهم بالأحسن ليكون الحسن جداً مانعاً لهم من الوصول إلى القبيح، وذلك كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر.
ولما كان كأنه قيل: وهل يترك الأحسن أحد؟ فقيل: نعم، الفاسق يتركه، بل ويتجاوز الحسن إلى القبيح، بل وإلى أقبح القبيح، ومن تركه أهلكته وإن جل آله وعظمت جنوده وأمواله، قال كالتعليل لذلك: {سأوريكم دار الفاسقين*} أي الذين يخرجون عن أوامري إلى ما أنهاهم عنه فأنصركم عليهم وأمكنكم بفسقهم من رقابهم وأموالهم من(8/81)
الكنعانيين والحاثانيين وغيرهم من سكان الأراضي المقدسه لتعلموا أن من أغصبني وترك أمري أمكنت منه، وإنما ذكر الدار لئلا تغرهم منعتها إذا استقروا بها فيظنوا أن لا غالب لهم فيها بوعورة أرضها وشهوق جبالها وإحكام أسوارها، وإذا تأملت ما سيأتي في شرح هذه الآيات من التوراة لاح لك هذا المعنى، وكذا ما ذكر من التوراة عند قوله في المائدة {قل هو أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله} [المائدة: 60] وفي هذه الجملة المختصرة بشارة يإتمام الوعد بنصرتهم عليهم بطاعتهم ونذارة على تقدير معصيتهم، فكأنه قيل: إن أخذوا بالأحسن أريتهم دار الفاسقين، وأتممت عليهم النعمة ما دامو على الشكر، وإن لم يأخذوا أهلكتهم كما أهلك الفاسقين من بين أيديهم، فحذرهم لئلا يفعلوا أفعالهم إذا استقرت بهم الدار، وزالت عنهم الأكدار، ويؤيد كون المراد القدس لا مصر قراءة من قرأ: سأورثكم - من الإرث، لأنها هي المقصودة بإخراجهم من مصر وبعث موسى عليه السلام، ولا ينفي ذلك احتمال مصر أيضاً - والله أعلم.
ولما انقضى ذلك، كان كأنه قيل: وكيف يختار عاقل ذلك؟ فكيف بمن رأى الآيات وشاهد المعجزات؟ فقال: {سأصرف عن آياتي} أي المسموعة والمرئية على عظمتها بما أشارت إليه الإضافة بالصرف عن فهمها واتباعها والقدرة على الطعن فيها بما يؤثر في إبطالها(8/82)
{الذين يتكبرون} أي يطلبون الكبر بما ليس لهم ويعملون قواهم فيه {في الأرض} أي جنسها الذي أمرت بالتواضع فيه.
ولما كان من رفعه الله بصفة فاضلة فوضع نفسه موضعها ولم يهنها نظراً لما أنعم الله به عليه ومنحه إياه ربما سمى ذلك كبراً، وربما سمى طلبه لتلك الأخلاق التي توجب رفعته تكبراً، وليس كذلك وإن وافقه في الصورة، لمفارقته له في المعنى فإنه صيانة النفس عن الذل، وهو إنزال النفس دون منزلتها صنعة لا تواضعاً، والكبر رد الحق واحتقار الناس، ففي التقييد هنا إشارة خفية لإثبات العزة بالحق والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الصنعة وقوفاً على شرط العزم المنصوب على متن نار الكبر؛ قال الإمام السهروردي: ولا يؤيد في ذلك ويثبت عليه إلا أقدام العلماء الراسخين - قال تعالى احترازاً عنه ومدخلاً كل كبر خلا عن الحق الكامل: {بغير الحق} أي إنما يختار غير الأحسن من يختاره بقضائي الذي لا يرد وأمري العالي على أمر كل ذي جد فأزين لمن علمت خباثة عنصره ورداءة جوهره ما أريد حتى يرتكبوا كل قبيحة ويتركوا كل مليحة، فينصرفون عن الآيات ويعمون عن الدلالات الواضحات.
ولما أخبر بتكبرهم في الحال، عطف عليه فعلهم في المآل فقال: {وإن يروا كل آية} أي مرئية أو مسموعة {لا يؤمنوا بها} أي لتكبرهم(8/83)
عن الحق {وإن يروا سبيل} أي طريق {الرشد} أي الصلاح والصواب الذي هو أهل للسلوك {لا يتخذوه سبيلاً} أي فلا يسلكونه بقصد منهم ونظر وتعمد، بل إن سلكوه فعن غير قصد {وإن يروا سبيل الغي} أي الضلال {يتخذوه سبيلاً} أي بغاية الشهوة والتعمد والاعتمال لسلوكه.
ولما كان هذا محل عجب، أجاب من يسأل عنه بقوله: {ذلك} أي الصرف العظيم الذي زاد عن مطلق الصرف بالعمى عن الإيمان واتخاذ الرشاد {بأنهم} أي بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة {وكانوا عنها} أي خاصة جبلة وطبعاً {غافلين*} أي كان دأبهم وديدنهم معاملتهم لها بالإعراض عنها حتى كأنها مغفول عنها فهم لذلك يصرون على ما يقع منهم.
ولما ذكر أحوال المتكبرين الذين أداهم كبرهم إلى التكذيب في الدنيا، ذكر أحوالهم في الآخرة فقال: {والذين} أي كذبوا بها والحال أن الذين {كذبوا بآياتنا} أي فلم يعتبروا عظمتها {ولقاء الآخرة} أي ولقائهم إياها أو لقائهم ما وعدوا به فيها، اللازم من التكذيب بالآيات الحامل التصديق بها على معالي الأخلاق {حبطت} أي فسدت فسقطت {أعمالهم} والآية من الاحتباك: إثبات الغفلة أولاً يدل على إرادتها ثانياً، واللقاء ثانياً يدل على إرادته أولاً.(8/84)
ولما كان كأنه قيل: لم بطلت؟ قيل: {هل يجزون إلا ما} أي جزاء ما {كانوا يعملون} أي بإبطال أعمالهم وإن عملوا كل حسن سوى الإيمان بسبب أنهم أبطلوا الآيات والآخرة بتكذيبهم بها، أي عدوها باطلة، والجزاء من جنس العمل، والحاصل أنهم لما عموا عن الآيات لأنهم لم ينظروا فيها ولا انقادوا مع ما دلت عقولهم عليه من أمرها، بل سدوا باب الفكر فيها؛ زادهم الله عمى فختم على مداركهم، فصارت لاينتفع بها فصاروا لا يعون، وهذه الآيات أعظم زاجر عن التكبر، فإنها بينت أنه يوجب الكفر والإصرار عليه والوهن في جميع الأمور، ولما كان ذلك كله مما يتعجب الموفق من ارتكابه، أعقبه تعالى مبيناً ومصوراً ومحققاً لوقوعه ومقرراً قوله عطفاً على {فأتوا على قوم يعكفون} [الأعراف: 138] مبيناً لإسراعهم في الكفر: {واتخذ} أي بغاية الرغبة {قوم موسى} أي باتخاذ السامري ورضاهم، ولم يعتبروا شيئاً مما أتاهم به من تلك الآيات التي لم ير مثلها {من بعده} أي بعد إبطائه عنهم بالعشرة الأيام التي أتممنا بها الأربعين {من حليهم} أي التي كانت معهم من مالهم ومما استعاروه من القبط {عجلاً} ولما كان العجل اسماً لولد البقر، بين أنه إنما يشبه صورته فقط، فقال مبدلاً منه: {جسداً} .
ولما كان الإخبار بأنه جسد مفهماً لأنه خال مما يشبه الناشىء(8/85)
عن الروح، قال {له خوار} أي صوت كصوت البقر، والمعنى أنه لا أضل ولا أعمى من قوم كان معهم حلي أخذوه ممن كانوا يستعبدونهم ويؤذونهم وهم مع ذلك أكفر الكفرة فكان جديراً بالبغض لكونه من آثار الظالمين الأعداء فاعتقدوا انه بالصوغ صار إلهاً وبالغوا في حبه والعبودية له وهو جسد يرونه ويلمسونه، ونبيهم الذي هداهم الله به واصطفاه لكلامه يسأل رؤية الله فلا يصل إليها.
ولما لم يكن في الكلام نص باتخاذه إلهاً، دل على ذلك بالإنكار عليهم في قوله: {ألم يروا} أي الذين اتخذوا إلهاً {أنه لا يكلمهم} أي كما كلم الله موسى عليه السلام {ولا يهديهم سبيلاً} كما هداهم الله تعالى إلى سبيل النجاة، منها سلوكهم في البحر الذي كان سبباً لإهلاك عدوهم كما كان سبباً لنجاتهم؛ قال أبو حيان: سلب عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأن انتقاء التكليم يستلزم انتفاء العلم، وانتفاء الهداية إلى سبيل يستلزم انتفاء القدرة، وانتفاء هذين الوصفين يستلزم انتفاء باقي الأوصاف.
ولما كان هذا أمراً عظيماً جداً مستبعد الوقوع ولا سيما من قوم نبيهم بينهم ولا سيما وقد أراهم من النعم والآيات ما ملأت أنواره الآفاق، كان جديراً بالتأكيد فقال تعالى: {اتخذوه} أي بغاية الجد والنشاط والشهوة {وكانوا} أي جلبة وطبعاً مع ما أثبت لهم من الأنوار(8/86)
{ظالمين*} أي حالهم حال من يمشي في الظلام، أو أن المقصود أن الظلم وصف لهم لازم، فلا بدع إذا فعلوا أمثال ذلك.(8/87)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
ولما كان هذا في سياق {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} فأنتج أن من كذب على هذه الصفة أهلك، فانتظر السامع الإخبار بتعجيل هلاكهم، أخبر بأنه منعهم من ذلك وحرسهم المبادرة بالتوبة، ولما اشتد من تشوف السامع إليه، قدمه على سببه وهو رجوع موسى عليه السلام إليهم وإنكاره عليهم، ولأن السياق في ذكر إسراعهم في الفسق لم يذكر قبول توبتهم كما في البقرة؛ ولما كان من المعلوم أنهم تبين لهم عن قرب سوء مرتكبهم لكون نبيهم فيهم، عبر بما أفهم أن التقدير: فسقط في إيديهم، وعطف عليه قوله سائقاً مساق ما هو معروف: {ولما سقط} أي سقطت أسنانهم {في أيديهم} بعضها ندماً سقوطاً كأنه بغير اختيار لما غلب فيه من الوجد والأسف الذي أزال تأملهم ولذلك بناه للمفعول {ورأوا أنهم قد ضلوا} أي عن الطريق الواضح {قالوا} توبة ورجوعاً إلى الله كما قال أبوهم آدم عليه السلام {لئن لم يرحمنا ربنا} أي الذي لم يقطع قط إحسانه عنا فكيف غضبه ويديم إحسانه {ويغفر لنا} أي يمحو ذنوبنا عيناً وأثراً لئلا ينتقم منا في المستقبل {لنكونن من الخاسرين*} أي فينتقم من بذنوبنا.
ولما أخبر بالسبب في تأخير الانتقام عنهم مع مساواتهم لمن أوقعت(8/87)
بهم النقمة في موجب الانتقام، أخبر سبحانه بحال موسى عليه السلام معهم عند رجوعه إليهم من الغضب لله والتبكيت لمن خالفه مع ما اشتمل عليه من الرحمة والتواضع فقال: {ولما رجع موسى} أي من المناجاة {إلى قومه غضبان} أي في حال رجوعه لما أخبره الله تعالى عنهم من عبادة العجل {أسفاً} أي شديد الغضب والحزن {قال بئسما} أي خلافة خلافتكم التي {خلفتموني} أي قمتم مقامي وفعلتم مقامي وفعلتم خلفي.
ولما كان هذا ربما أوهم أنهم فعلوه من روائه وهو حاضر في طرف العسكر، قال: {من بعدي} أي حيث عبدتم غير الله أيها العبدة، وحيث لم تكفوهم أيها الموحدون بعد ذهابي إلى الجبل للمواعدة الإلهية وبعد ما سمعتم مني من التوحيد لله تعالى وإفراده عن خلقه بالعبادة ونفي الشركاء عنه، وقد رأيتم حين كففتكم وزجرتكم عن عبادة غيره حين قلتم {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} ومن حق الخلفاء أن يسيروا سيرة المستخلف ولا يخالفوه في شيء.
ولما كان قد أمرهم ان لا يحدثوا حدثاً حتى يعود إليهم، أنكر عليهم عدم انتظاره فقال: {أعجلتم} قال الصغاني في المجمع: سبقتم، وقال غيره: عجل عن الأمر - إذا تركه غير تام، ويضمن معنى سبق، فالمعنى:(8/88)
سابقين {أمر ربكم} أي ميعاد الذي ما زال محسناً إليكم، أي فعلتم هذا قبل بلوغ أمر الموعد الذي زاد فيه ربي وهو العشرة الأيام برجوعي إليكم إلى حده، فظننتم أني مت فغيرتم كما غيرت الأمم بعد موت أنبيائها، قال الإمام أبو عبد القزاز أيضاً: عجلتم: سبقتم، ومنه تقول: عجلت فلاناً سبقته، وأسنده ابن التياني إلى الأصمعي {وألقى الألواح} أي التي فيها التوراة غضباً لله وإرهاباً لقومه، ودل هذا على أن الغضب بلغ منه حداً لم يتمالك معه، وذلك في الله تعالى {وأخذ برأس أخيه} أي بشعره {يجره إليه} أي بناء على أنه قصر وإعلاماً لهم بأن الغضب من هذا الفعل قد بلغ منه مبلغاً يجل عن الوصف، لأنه اجتثاث للدين من أصله.
ولما كان هارون عليه السلام غير مقصر في نهيهم، أخذ في إعلام موسى عليه السلام بذلك مخصصاً الأم وإن كان شقيقه - تذكيراً له بالرحم الموجبه للعطف والرقة ولا سيما وهي مؤمنه وقد قاست فيه المخاوف، فاستأنف سبحانه الإخبار عن ذلك بقوله: {قال ابن أم} وحذف أداة النداء وياء الإضافة لما يقتضيه الحال من الإيجاز، وفتح الجمهور الميم تشبيهاً له بخمسة عشر وعلى حذف الألف المبدلة من ياء الإضافة، وكسر الميم ابن عامر وحمزه والكسائي وأبو بكر عن عاصم بتقدير حذف ياء الإضافة تخفيفاً {إن القوم} أي عبدة العجل الذين(8/89)
يعرف قيامهم في الأمور التي يريدونها {استضعفوني} أي عدوني ضعيفاً وأوجدوا ضعفي بإرهابهم لي {وكادوا يقتلونني} أي قاربوا ذلك لإنكاري ما فعلوه فسقط عني الوجوب.
ولما تسبب عن ذلك إطلاقه، خاف أن يمنعه الغضب من ثبات ذلك في ذهنه وتقرره في قلبه فقال: {فلا تشمت بي الأعداء} أي لا تسرهم بما تفعل بي فأكون ملوماً منهم ومنك؛ ولما استعطفه بالتذكير بالشماتة التي هي شماتة به أيضاً، أتبعه ضرراً يخصه فقال: {ولا تجعلني} أي بمؤاخذتك لي {مع القوم الظالمين*} أي فتقطعن بعدّك لي معهم وجعلي في زمرتهم عمن أحبه من الصالحين، وتصلني بمن أبغضه من الفاسدين الذين فعلوا فعل من هو في الظلام، فوضعوا العبادة في غير موضعها من غير شبهة ولا لبس أصلاً.
ولما تبين له ما هو اللائق بمنصب أخيه الشريف من أنه لم يقصر في دعائهم إلى الله ولا ونى في نهيهم عن الضلال، ورأى أن ما ظهر من الغضب مرهب لقومه وازع لهم عما ارتكبوا، دعاء له ولنفسه مع الاعتراف بالعجز وأنه لا يسع أحداً إلا العفو، وساق سبحانه ذلك مساق الجواب لسؤال بقوله: {قال رب} أي أيها المحسن إليَّ {اغفر لي} أي ما حملني عليه الغضب لك من إيقاعي بأخي {ولأخي} أي في كونه لما يبلغ ما كنت أريده منه من جهادهم.
ولما دعا بمحو التقصير، أتبعه الإكرام فقال: {وأدخلنا} أي(8/90)
أنا وأخي وكل من انتظم معنا {في رحمتك} لتكون غامرة لنا محيطة بنا؛ ولما كان التقدير: فأنت خير الغافرين، عطف عليه {وأنت أرحم الراحمين*} أي لأنك تنعم بما لا يحصره الجد ولا يحصيه العد من غير نفع يصل إليك ولا أذى يلحقك بفعل ذلك ولا تركه.(8/91)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
ولما كان له ولأخيه وهما معصومان من الذنوب، طوى ما يتعلق بالمغفرة وذكر متعلق الرحمة بخلاف ما يأتي في السؤال له وللسبعين من قومه فإنه عكس فيه ذلك؛ ولما صحت براءة الخليفة، وأشير إلى أنه مع ذلك فقير إلى المغفرة، التفتت النفس إلى حال المفسدين فقال مخبراً عن ذلك: {إن الذين اتخذوا العجل} أي رغبوا رغبة تامه في أخذهم إلهاً مع المخالفة لما ركز في الفطرة الأولى ودعاهم إليه الكليم عليه السلام {سينالهم} أي بوعد لا خلف فيه {غضب} أي عقوبة فيها طرد أو إبعاد، ولعله ما أمروا به من قتل أنفسهم، واشار إلى انه فيه رفق بهم وحسن تربية لتوبة من يبقى منهم بقوله: {من ربهم} أي الذي لا محسن إليهم غيره، يلحقهم في الدنيا ويتبعهم في الآخرة {وذلة في الحياة الدنيا} أي جزاء لهم على افترائهم وكذلك من رضي فعلهم ولا سيما إن كان من أولادهم كقريظة والنضير وأهل خيبر {وكذلك} أي ومثل جزائهم {نجزي المفترين*} أي المعتمدين للكذب، وهذا نص في أن كل مفتر ذليل، كما هو المشاهد - وإن أظهر الجراءة بعضهم.(8/91)
ولما ذكر المصرين علىلمعصية، عطف عليه التائبين ترغباً في مثل حالهم فقال: {والذين عملوا السيئات} عبر بالعمل إشارة إلى بالعفو وإن أقدموا عليها على علم، وجمع إعلاماً بأنه لا يتعاظمه ذنب وإن عظم وكثر وإن طال زمانه، ولذلك عطف بأداة البعد فقال: {ثم تابوا} وحقق الأمر ونفى المجاز بقوله: {من بعدها} ثم ذكر الأساس الذي لا يقبل عمل لم يبن عليه على وجه يفهم أنه لا فرق بين أن يكون في السيئات ردة أو لا فقال: {وآمنوا} ثم أجاب المبتدأ بقوله: {إن ربك} أي المحسن إليك بقبول توبة التائبين لما سيرك من ذلك لأنك بهم رؤوف رحيم {من بعدها} أي التوبة {لغفور} أي محاء لذنوب التائبين عيناً وأثراً وإن عظمت وكثرت {رحيم*} أي فاعل بهم فعل الرحيم من البر والإكرام واللطف والإنعام، وكأن المصرين هم الذين قتلوا لما أمرهم موسى عليه السلام بقتل أنفسهم، فلما أهلك المصرّ وتاب الباقي، وصحت براءة أخية وبقاؤه على رتبته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاجتهاد في أمر الله، زال موجب الغضب فأخبر سبحانه عما يعقبه فقال: {ولما سكت} أي كف، شبه الغضب بمتكلم كان يحث موسى عليه السلام ويغريه على ما يوجبه ويقتضيه، فلما شفى غيظه سكن وقطع كلامه فخلفه ضده وهوالرضى {عن موسى الغضب} وهو غليان القلب بما يتأذى به النفس {أخذ الألواح} أي التي جاء(8/92)
بها من عند الله بعدما ألقاها {وفي} أي والحال أنه في {نسختها} أي الأمر المكتوب فيها، فعلة بمعنى مفعولة، وعن ابن عباس أنه لما ألقاها صام - مثل ما كان صام للمناجاة - أربعين يوماً أخرى، فردت عليه في لوحين مكان ما تكسر.
{هدى} أي شيء موضح للمقاصد {ورحمة} أي سبب للإكرام {للذين هم لربهم} أي لا لغيره {يرهبون*} أي هم أهل لأن يخافوا خوفاً عظيماً مقطعاً للقلوب موجباً للهرب ويستمرون على ذلك.
شرح ما في هذه الآيات من عند قوله {سأوريكم دار الفاسقين} من البدائع من التوراة - قال المترجم في السفر الخامس منها بعد أن بكتهم ببعض ما فعلوه مما أوجب لهم الغضب والعقوبة بالتيه وحثهم على لزوم أمر الله لينصرهم: وأما الوصايا التي آمركم بها اليوم فاحفظوها واعملوا بها لتحيوا وتكثروا وترثوا الأرض التي أقسم الله لآبائكم فتذكروا كل الطريق الذي سيركم الله ربكم فيه، ودبركم منذ أربعين سنة في البرية ليواضعكم ويجربكم وليعلم ما في قلوبكم هل تحفظون وصاياه أم لا، فواضعكم وأجاعكم وأطعمكم منّاً لم تعرفوه أنتم ولا آباؤكم ليبين لكم أنه ليس إنما يعيش الإنسان بالخبز فقط، بل إنما يعيش بما يخرج من فم الله، ولم تبل ثيابكم ولم تجف أقدامكم منذ أربعين سنة، احفظوا وصايا الله ربكم وسيروا في(8/93)
طرقة واتقوه، لأن الله ربكم هو الذي يدخلكم إلى الأرض المخصبة، أرض كثيرة الأدوية والينابيع والعيون التي تجري في الصحارى والجبال، أرض الحنطة والشعير، فيها الكروم والتين والرمان والزيتون والدهن والعسل، أرض لاتحتاجون فيها ولا تأكلون خبزكم بالفقر، ولا يعوزكم فيها شيء، أرض حجارتها حديد تستخرجون النحاس من جبالها، فاحتفظوا، لا تنسوا الله ربكم، واحفظوا وصاياه وشرائعه التي آمركم بها اليوم، لا تبطروا، فإذا أكلتم وشبعتم وبنيتم بيوتاً وسكنتموها وكثر غنمكم وبقركم وكثرت أموالكم فتعظم قلوبكم وتنسوا الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر وأنقذكم من العبودية ودبركم في البرية المرهوبة العظيمة حيث الحيات الحردات والعقارب وفي مواضع العطش وحيث لم يكن لكم ماء، أخرج لكم من ماء الظران، وأطعمكم منّاً لم يعرفه آبائكم ليواضعكم ويجربكم ويحسن إليكم آخر ذلك، وانظروا، لا تقولوا في قلوبكم إنا إنما استفدنا هذه الأموال بقوتنا وعزة قلوبنا، ولكن اذكروا الله ربكم الذي قواكم أن تستفيدوا هذه الأموال ليثبت العهد الذي أقسم لآبائكم، وإن أنتم نسيتم الله ربكم وتبعتم آلهة أخرى وعبدتموها وسجدتم لها أشهدت عليكم اليوم فأعلمتكم أنكم تهلكون هلاك سوء، كما أهلكت الشعوب التي أباد الرب بين أيديكم كذلك تهلكون، اسمعوا يا بني إسرائيل!(8/94)
بل أنتم تجوزون اليوم نهر الأردن وتنطلقون لتمتلكوا الشعوب التي هي أقوى وأعظم منكم وتظفروا بالقرى الكبار المشيدة إلى السماء وبشعب كبير عظيم بني الجبابرة، وقد علمتم وسمعتم أنه ما يقدر إنسان أن يقوم بين يدي الجبابرة، وتعلمون يومكم هذا أن الله ربكم يجوز أمامكم وهو نار محرقة، وهو يهلكهم ويهزمهم أمامكم، ولا تقولوا في قلوبكم إنه إنما أدخلنا الرب ليرث هذه الأرض من أجل برنا، لأنه إنما يهلك الرب هذه الشعوب من أجل خطاياهم، وليثبت الأقوال التي وعد بها آباءكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاعلموا أنه ليس من أجل بركم يورثكم الله هذه الأرض المخصبة، لأنكم صلاب الرقاب، اذكروا ولا تنسوا أنكم أسخطتم الله ربكم في البرية منذ يوم خرجتم من أرض مصر حتى انتهيتم إلى هذه البلاد، ولم تزالوا مسخطين لله ربكم ونحوريت أيضاً أغضبتم الرب، وغضب الرب عليكم وأراد هلاككم حيث صعدت إلى الجبل وأخذت لوحي العهد الذي عاهدكم الرب، ومكثت في الجبل أربعين يوماً بلياليها لم أذق خبزاً ولم أشرب ماء، وأعطاني الرب لوحين من حجارة مكتوب عليهما بأصبع الله، وكانت كل الآيات التي كلمكم الرب بها من الجبل يوم الجمعة ومن بعد الأربعين، وأعطاني(8/95)
لوحي العهد، قال لي الرب: قم فانزل من هاهنا سريعاً، لأن شعبك الذي أخرجته من أرض مصر قد فسدوا ومالوا عن الطريق الذي أمرتهم عاجلاً، وعملوا لهم إلهاً مسبوكاً، وقال لي الرب: رأيت هذا الشعب فإذا هو شعب قاسي القلب، فدعني الآن حتى أهلكهم وأبيد أسماءهم من تحت السماء وأصيرك مدبراً لشعب أعظم وأعز منهم، وأقبلت فنزلت من الجبل والجبل يشتعل ناراً ولوحا العهد بيدي، ورأيت أنكم أذنبتم أمام الله ربكم سريعاً، وعمدت إلى لوحي الحجارة فرميت بهما من يدي وكسرتهما قدامكم، وصليت أمام الرب كما صليت أولاً أربعين يوماً بلياليها، لم أذق طعاماً ولم أشرب شراباً من أجل جميع الخطايا التي ارتكبتم وما عملتم من الشر بين يدي الرب وأغضبتموه: لأني فرقت وخفت غضب الله وزجره أنه أراد إهلاككم، واستجاب الله لي في ذلك الزمان، وأما عجل خطاياكم الذي عملتموه فأخذته وأحرقته بالنار وسحقته وطحنته جداً حتى صار مثل التراب وطرحت ترابه في الوادي الذي ينزل في الجبل، وبالحريق والبلايا وبقبور أصحاب الشهوة، أغضبتم الرب، وإذ أرسلكم ربكم من رقام الحي وقال لكم: اصعدوا ورثوا الأرض التي أعطيكم، اجتنبتم(8/96)
قول الرب وأغضبتموه ولم تؤمنوا به ولم تسمعوا قوله، ولم تزالوا لله مسخطين منذ يوم عرفتكم، وصليت أمام الرب أربعين يوماً بلياليها، لأن الرب أمر بهلاككم، وقلت في صلاتي، يارب! لا تهلك شعبك وميراثك الذي خلصته بعظمتك وأخرجتهم من أرض مصر بيد عزيزة، ولكن اذكر عبيدك إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا تنظر إلى معصية هذا الشعب وإثمه وخطاياه، لئلا يقول سكان تلك الأرض التي أخرجتهم منها: إن الرب لم يقو أن يدخلهم الأرض التي قال لهم، وإنما أخرجهم من عندنا لبغضه لهم ليضلهم في البرية، وهو شعبك وميراثك الذي أخرجتهم بقوتك العظيمة وذراعك العزيزة، فقال لي الرب في ذلك الزمان أن أنقر لوحين من حجارة مثل اللوحين الأولين واصعد إلى الجبل إليّ واعمل تابوتاً من خشب الشمشاد - وفي نسخة: السنط - ونقرت اللوحين من الحجارة مثل اللوحين الأولين وصعدت إلى الجبل واللوحان في يدي، وكتب على اللوحين الكتاب الأول، وهي العشر الآيات التي كلمكم الرب بها من الجبل من النار يوم الجماعة، ودفعها الرب إليّ فأقبلت نازلاً من الجبل ووضعت اللوحين في التابوت الذي عملت وتركتهما فيه كما فيه أمر الرب، وارتحل بنو إسرائيل من ثروات بني يعقان وموسار، وتوفي هارون هناك، وصار أليعازر ابنه حبراً مكانه، وارتحلوا من هناك إلى جدجد، ومن جدجد إلى يطبت أرض مسايل الماء، في ذلك الزمان أفرز الرب سبط لاوي ليحملوا تابوت عهد الرب، وأن(8/97)
يقوموا أمام الرب ويخدموه وأن يبركوا باسم الرب إلى اليوم، ولذلك ليس لبني لاوي حصة مع بني إسرائيل في ميراثهم، لأن ميراثهم لله ربهم كما قال لهم، وأنا قمت بين يدي الرب في الجبل مثل الأيام الأولى أربعين يوماً بلياليها، واستجاب لي الرب في ذلك الزمان أيضاً، ولم يخذلكم الله ربكم ولم يفسدكم، وقال لي الرب: قم فارتحل وسر أمام الشعب ليدخلوا ويرثوا الأرض التي أقسمت لآبائهم أن أعطيهم، والآن يابني إسرائيل ما الذي يطلب الله ربكم منكم! ما يطلب الآن إلا أن تتقوا الله ربكم من كل قلوبكم وتسيروا في طرقه وتحبوه، وأن تعبدوا الله ربكم من كل قلوبكم وأنفسكم، وأن تحفظوا وصايا الله ربكم التي آمركم بها اليوم ليحسن إليكم لأن السماء وسماء السماء هما لله ربكم والأرض وجميع ما فيها، وبآبائكم وحدهم سر الرب وأحبهم وانتخب نسلهم من بعدهم وفضلهم على جميع الشعوب كاليوم، اختتنوا غلفة قلوبكم، ولا تقسوا رقابكم أيضاً، لأن الله ربكم هو إله الآلهة ورب الأرباب، إله عظيم جبار مرهوب لا يحابي ولا يرتشي، ينصف للأيتام والأرامل، ويحب الذي يقبل إليه برزقه طعاماً وكسوة، فأحبوا الذين يقبلون إليه واذكروا أنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، فاتقوا الله ربكم واتبعوه واعبدوه(8/98)
وأقسموا باسمه، لأنه إلهكم ومريحكم، وهو الذي أكمل لديكم العجائب التي رأت أعينكم، واعلموا أنه إنما أنزل آبائكم إلى مصر سبعين رجلاً، والآن فقد كثركم الله ربكم مثل نجوم السماء، أحبوا الله ربكم واحفظوا سننه وأحكامه كل الأيام، واعلموا يومكم هذا أنه ليس لبنيكم الذين لم يعاينوا ولم يعلموا ما رب الرب وعظمته ويده المنيعة وذراعه العظيمة وآياته وأعماله التي عمل بمصر وبفرعون ملك مصر وكل أرضه وما صنع بأجناد ملك مصر وما فعل بالخيل والمراكب وفرسانها الذين قلب عليهم ماء بحر سوف حيث خرجوا في طلبكم وأهلكهم الرب إلى اليوم وجميع ما صنع بكم في البرية حيث انتهيتم إلى هذه البلاد وما صنع بداثان وأبيرم ابني أليب بن روبيل اللذين فتحت الأرض فاها وابتلعتهما وبيتهما، وخيامهم وكل شيء هو لهم إذ كانوا قياماً على أرجلهم بين يدي جميع بني إسرائيل، ولكن قد رأت أعينكم جميع أعمال الله العظيمة التي عمل، فاحفظوا جميع الوصايا التي أمركم الله بها اليوم لتدخلوا الأرض التي تجوزون إليها لترثوها وتطول أعماركم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم ويرثها نسلهم - وستأتي تتمته إن شاء الله تعالى عند
{ولقد بوأنا بني إسرائيل(8/99)
مبوأ صدق} [يونس: 93] ، وفيه من المتشابه قوله: فم الله، وإصبع الله، والأول - لكونه لا يجوز إطلاقه في شرعنا - مؤوّل بالكلام، والثاني بالقدرة.(8/100)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
ولما فرغ سبحانه من ذكر الوعد بالميقات المقصود به سعي الكليم عليه السلام فيما يهديهم إلى صراط الله، وذكر سعيهم فيما أضلهم عن الطريق باتخاذهم العجل، وكان ختام ذلك ما بدا من موسى عليه السلام من الشفقة على أخيه ثم على الكافة بأخذ الألواح عند الفراغ مما يجب من الغضب لله، رد الكلام على ذكر شيء فعله في الميقات مرادٍ به عصمتُهم في صراط الله بنقلهم - بمشاركته في سماعهم لكلام الله - من علم اليقين إلى عين اليقين بل حق اليقين شفقة عليهم ورحمة لهم، ليكون إخبارهم عما رأوا مؤيداً لما يخبر به، فيكون ذلك سبباً لحفظهم من مثل ما وقعوا فيه من عبادة العجل، ومع ذلك وقع منهم العصيان بطلب ما لا ينبغي لهم من الرؤية على وجه التعنت، فقال: {واختار} أي اجتهد في أخذ الخيار {موسى قومه} ثم أبدل منهم قوله: {سبعين رجلاً} إشارة إلى أن من عداهم عدم، لا يطلق عليهم اسم القوم في المعنى الذي أراده، وهو نحو ما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما «الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة» ثم ذكر علة الاختيار فقال: {لميقاتنا} أي فما أختار إلا من رأى أنه يصلح لما نريد من عظمتنا في الوقت الذي حددناه له، ودنا بهم من الحضرة(8/100)
الخطابية في الجبل هو وهارون عليهما السلام، واستخلف على بني إسرائيل يوشع بن نون عليه السلام، كل ذلك عن أمر الله له، وفي هذا الكلام عطف على قوله {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} [الأعراف: 142] فيكون الميقات هو الأول وهو ظلاهر التوارة كما مر بيانه في البقرة، ويجوز أن يكون عطفاً على قوله {واتخذ قوم موسى} [الأعراف: 148] أو على قوله {أخذ الألواح} [الأعراف: 154] وحينئذ يكون هذا الميقات غير الميقات الأول، ويؤيده ما نقل من أن هارون عليه السلام كان معهم، وكأنهم لما سمعوا كلام الله طلب بعضهم الرؤية جاعليها شرطاً لإيمانهم فقالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55] كما فعل النقباء الاثنا عشر حين أرسلهم لجس أحوال الجبارين فنقص أكثرهم، فأخذتهم الرجفة فماتوا، فخشي موسى عليه السلام أن يتهمه بنو إسرائيل في موتهم كنفس واحدة {فلما أخذتهم} أي أخذ قهر وغلبة {الرجفة} أي التي سببتها الصاعقة التي تقدمت في البقرة، فزلزلت قلوبهم فأماتتهم، وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن هؤلاء غير السبعين الذين قالوا {أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة} [النساء: 153] وأن أولئك كانوا قبل هؤلاء، فالظاهر أن سبب الرجفة ما رأوا عند سماع الكلام من جلال الله وعظيم هيبته من الغمام الذي تغشى الجبل والقتار والبروق وأصوات القرون وغير ذلك بحيث كادت الرجفة - وهي رعدة - تفرق أوصالهم بعضها من بعض {قال} أي موسى تملقاً لربه سبحانه(8/101)
{رب} أي أيها المحسن إليّ {لو شئت أهلكتهم} أي أمتّهم.
ولما لم يكن إهلاكهم مستغرقاً للماضي، أدخل الجارفقال: {من قبل وإياي} أي قدرتك عليّ وعليهم قبل أن نقترب من هذه الحضرة المقدسة ونحن بحضرة قومنا كقدرتك علينا حين تشرفنا بها، وقد أسبلت علينا ذيل عفوك وأسبغت علينا نعمتك ونحن في غيرالحضرة فلم تهلكنا، فإنعامك علينا ونحن في حضرة القدس وبساط القرب والأنس أولى.
ثم لما كان الحال مقتضياً لأن يقال: ألم تر إلى ما اجترؤوا عليه، وكان كأنه قال: إنما قال ذلك قوم منهم سفهاء، دل على ذلك بقوله استعطافاً: {أتهلكنا} وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رجفتهم كانت بسبب أنهم لم ينهوا عن عبادة العجل مع أنهم لم يرضوا بذلك. وكأن موسى عليه السلام عبر بهذه العبارة المقتضية لإهلاك الجميع لأنه جوز أنه كما أهلك هؤلاء يهلك غيرهم لتقصير آخر بسبب ذلك كعدم الجهاد مثلاً حتى يعمهم الهلاك {بما فعل السفهاء منا} فكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضي أنه إن لم يشملهم العفو أن يخص العفو بمن لم يذنب بالفعل ويعفو عمن قصر بالسكوت، وعلى تقدير كون الميقات غير الأول يجوز أن يكون بعد اتخاذهم العجل كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما، فيكون موسى عليه السلام خاف أن يكون إهلاكهم فتنة لبني إسرائيل وسبباً لكفرهم كما كان إبطاؤه عنهم بزيادة عشرة أيام(8/102)
الثلاثين في الميقات الأول سبباً لاتخاذهم العجل، ويجوز حينئذ أن يراد بفعل السفهاء اتخاذ العجل، ويؤيده التعبير بالفعل دون القول وقد تقدم نقله عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما كان قوله هذا ربما أفهم رضاه بهلاك المذنبين، قال معرضاً بالسؤال في العفو عن الجميع: {إن هي} أي الفتنة التي أوقعها السفهاء {إلا فتنتك} أي ابتلاؤك واختبارك {تضل بها من تشاء} أي تظهر في عالم الشهادة من ضلاله ما كان معلوماً لك في عالم الغيب {وتهدي من تشاء} أي تظهر ما في علمك من ذلك.
ولما أثبت أن الكل بيده، استأنف سؤاله في أن يفعل لهم الأصلح فقال: {أنت} أي وحدك {ولينا} أي نعتقد أنه لا يقدر على عمل مصالحنا غيرك، وأنت لا نفع لك في شيء من الأمرين ولا ضر، بل الكل بالنسبة إليك على حد سواء، ونحن على بصيرة من أن افعالك لا تعلل بالأغراض، وعفوك عنا ينفعنا وانتقامك منا يضرنا، ونحن في حضرتك قد انقطعنا إليك وحططنا رحال افتقارنا لديك.
ولما اثبت أنه الفعال لما يشاء وأنه لا ولي لهم غيره، وكان من شأن الولي جلب النفع ودفع الضر، سبب عن كونه الولي وحده قوله بادئاً بدفع الضرر: {فاغفر لنا} أي امح ذنوبنا {وارحمنا} أي ارفعنا؛ ولما كان التقدير: فأنت خير الراحمين، عطف عليه قوله: {وأنت خير الغافرين*}(8/103)
أي لأن غيرك يتجاوز عن الذنب للثناء أو الثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة وهي صفة الحقد ونحوه، وأنت منزه عن ذلك، وكأنه أحسن العفو عنهم فقال عاطفاً على سؤاله فيه: {واكتب لنا} أي في مدة إحيائك لنا {في هذه الدنيا} أي الحاضرة والدنية {حسنة} أي عيشة راضية طيبة {وفي} الحياة {الآخرة} أي كذلك؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنا هدنا} أي تبنا {إليك} أي عما لا يليق بجنابك كما أمرتنا أن نخبر ما عساه يقع منا بالمبادرة إلى التوبة، فبدأ بذكر عزة الربوبية وثنى بذلة العبودية وهما أقوى أسباب السعادة، وهذا تلقين لهم وتعليم وتحذير من مثل ما وقعوا فيه وحث على التسليم، وكأنه لما كان ذنبهم الجهر بما لا يليق به سبحانه من طلب الرؤية، عبر بهذا اللفظ أو ما يدل على معناه تنبيهاً لهم على أن اسمهم يدل على التوبة والرجوع إلى الحق والصيرورة إلى الصلاح واللين والضعف في الصوت والاستكانة في الكلام والسكوت عما لا يليق، وأن يهودا الذي أخذ اسمه من ذلك إنما سموا به ونسبوا إليه تفاؤلاً لهم ليتبادروا إلى التوبة.
ولما كان في كلامه عليه السلام إنكار إهلاك الطائع بذنب العاصي وإن كان ذلك إنما كان على سبيل الاستعطاف منه والتملق مع العلم بأنه عدل منه تعالى وله أن يفعل ما يشاء بدليل قوله {ولو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} [الأعراف: 155] استأنف سبحانه الإخبار عن الجواب عن كلامه على وجه منبه للجماهير على أن له التصرف المطلق بقوله:(8/104)
{قال عذابي} أي انتقامي الذي يزيل كل عذوبه عمن وقع به {أصيب به} أي في الدنيا والآخرة {من أشاء} أي أذنب أو لم يذنب {ورحمتي} أي إنعامي وإكرامي.
ولما كان الإيجاد من الرحمة فإنه خير من العدم فهو إكرام في الجملة، قال: {وسعت كل شيء} أي هذا شأنها وصفتها في نفس الأمر وإن بلغ في القبائح ما عساه أن يبلغ، وهذا معنى حديث أبي هريرة في الصحيح «إن رحمتي سبقت - وفي رواية: غلبت - غضبي» سواء قلنا: إن السبق بمعنى الغلبة، أو قلنا إنه على بابه، إما الأول فلأن تعلق الرحمة أكثر، لأن كل ما تعلق به الغضب تعلقت به الرحمة بإيجاد وإفاضة الرزق عليه، ولا عكس كالحيونات العجم والجمادات وأهل السعادة من المؤمنين والملائكة والحور وغيرهم من جنود الله التي لا تحصى. ولما أعلم أن رحمته واسعة وقدرته شاملة، وكان ذلك موسعاً للطمع، سبب عن ذلك قوله ذاكراً شرط إتمام تلك الرحمة ترهيباً لمن يتوانى عن تحصيل ذلك الشرط: {فسأكتبها} أي أخص بدوامها بوعد لا خلف فيه لأجل تمكني بتمام القدرة مما أريد مبتوتاً أمرها بالكتابة {للذين يتقون} أي يوجد لهم هذا الوصف الحامل على كل خير ولا يخلّ بوسعها أن أمنع دوامها بعد الإيجاد من غيرهم، فإن الكل لو دخلوا فيها دائماً ما ضاقت بهم، فهي في نفسها واسعة ولكني أفعل ما أشاء.(8/105)
ولما ذكر نظرهم إلى الخالق بالانتهاء عما نهى عنه والائتمار بما أمر به، أتبعه النظر إلى الخلائق فقال: {ويؤتون الزكاة} ولعله خصها لأن فرضها كان في هذا الميقات كما تقدم في البقرة ولأنها أمانة فيما بين الخلق والخالق كما أن صفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كتبها لهم وشرط قبول أعمالهم باتباعه كذلك؛ ثم عمم بذكر ثمرة التقوى فقال مخرجاً لمن يوجد منه ذانك الوصفان في الجملة على غير جهة العموم: {والذين هم بآياتنا} أي كلها {يؤمنون} أي يصدقون بالقلب ويقرون باللسان ويعملون تصديقاً لذلك بالأكارن، فلا يكفرون ببعض ويؤمنون ببعض.(8/106)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
ولما كان اليهود ربما ادعوا ذلك مكابرة، وأضح غاية الإيضاح بقوله: {الذين يتبعون} أي بغاية جهدهم {الرسول} ولما كان هذا الوصف وحده غير مبين للمراد ولا صريح في الرسالة عن الله ولا في كونه من البشر، قال: {النبي} أي الذي يأتيه الوحي من الله فبدأ بالأشراف وثنى بما خصه برسالة الله وكونه من الآدميين لا من الملائكة.
ولما لم يتم المراد، قال مبيناً لأعظم المعجزات، وهي أن علمه بغير معلم من البشر: {الأمي} أي الذي هو مع ذلك العلم المحيط على صفة الأم، وأمة العرب لا يكتب ولا يقرأ ولا يخالط العلماء العلماء للتعليم منهم بل لتعليمهم، فانطبق الوصف على الموصوف مع التنويه(8/106)
بجلالة الأوصاف والتشويق إلى الموصوف، ولم يعطف لئلا يوهم تعداد الموصوف - والمعنى أني لا أغفر لأحد من بني إسرائيل ولا من غيرهم إلا إن اتبع محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الاتباع تارة يكون بالقوة فقط لمن تقدم موته على زمانه، وتارة يخرج منة القوة إلى الفعل ممن لحق زمانه دعوته، فمن علم الله منه أنه لا يتبعه إذا أدركه لا يغفر له ولو عمل جميع الطاعات غير ذلك، وعرفه لهم بجميع خواصه حتى لا يتطرق إليه عند مجيئه ولا ريب يتعلل في أمره بعلة، ولذلك أتبعه بقوله: {الذي يجدونه} أي علماء بني إسرائيل؛ ولما اشتد تشوف بذكر الوجدان، قال: {مكتوباً} ثم قرب الأمر بقوله: {عندهم} ثم بين أنه مما لا يدخله شك بقوله: {في التوراة والإنجيل} أي اللذين يعلمون أنهما من عند الله بصفته البينة كما تقدم بيانه عما عللوا عن تبديله منهما في البقرة {وإذا ابتلى إبراهيم ربه} [البقرة: 124] وفي آل عمران عند {إن الله اصطفى آدم ونوحاً} [آل عمران: 33] وفي النساء عند {ما قتلوه يقيناً} [النساء: 157] وفي التوارة أيضاً من ذلك في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس: وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب ولا يوجد فيكم من يطلب تعليم العرافين، ثم قال: لأن هذه الشعوب التي ترثونها كانت تطيع العرافين والمنجمين، فأما أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم، يل يقيم لكم نبياً من إخوتكم مثلي،(8/107)
فأطيعوا ذلك النبي كما طلبتم إلى الله ربكم في حوريب يوم الجماعة وقلتم: لا تسمع صوت الله ربنا ولا تعاين هذه النار العظيمة لئلا نموت، فقال الرب: ما أحسن ما تكلموا، إني سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك، أجعل كلامي في فيه ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه - انتهى.
هكذا رأيته مترجماً في بعض نسخ التوارة، ثم رأيت السموأل بن يحيى المغربي ترجمه في كتابه الذي ذكر فيه سبب إسلامه وكان من أكابر علمائهم بل العلماء فقال: نبياً أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك، بع فليؤمنوا - انتهى.
وهو يعني أن يكون هذا النبي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه من بني إسماعيل أخي إسحاق وقد أتى بشريعة مستقله لا تعلق لها بشريعة قبلها ولا توقف لها عليها، وذلك أن في العبارة كلمتين: مثل وإخوة، وحقيقة الأخ ابن أحد الأبوين، وهو لا يتأتى في أحد من أنبيائهم، فأقرب المجاز إلى حقيقته الحمل على أخي الأب، وهو إسماعيل عليه السلام، والشائع في الاستعمال في نحو ذلك على تقدير إرادة أحد منهم أن يقال: من أنفسهم، لا من إخوتهم، وحقيقة المثل المشارك في أخص الصفات،(8/108)
وأخص صفات موسى عليه السلام الرسالة والكتاب بشريعة مستقلة، ولم يأت منهم بعده من هو بهذه الصفة، لأن عيسى عليه السلام لم ينسخ من شريعة موسى عليه السلام إلا بعض الأحكام، وعلى تقدير دعوى ذلك فيه لكونه نسخ في الجملة وتسليم ذلك لا يتأتى قصده بهذا النص لوجهين: أحدهما أنه ليس من رجالهم إلا بواسطة أمه، فحق العبارة فيه: من بني أخواتهم - جمع أخت، وإذا أريد آباء أمه كان المجاز فيهم أبعد من المجاز في بني إسماعيل لما تقدم، ولا ينتقل إلى الأبعد إلا بقرينة تصرف عن الأقرب - والله أعلم. وقال السمؤال بن يحيى أحد أحبارهم في سبب إسلامه: إن اليهود يقولون: إن هذه البشارة نزلت في حق سموأل أحد أنبيائهم الذين بعد موسى لأنه كان مثل موسى عليه السلام في أنه من سبط لاوي، وقال: إنه رأى سموأل عليه السلام في المنام وأنه دفع إليه كتاباً فوجد فيه هذه البشارة فقال له: هنيئاً لك يا نبي الله ما خصك الله به! فنظر مغضباً وقال: أوإياي أراد الله بهذا يا ذكي! ما أفادتك إذن البراهين الهندسية، فقلت: يا نبي الله! فمن أراد الله بهذا؟ قال: الذي أراد في قوله: هوفيع ميهار فاران، وتفسيره إشارة إلى نبوة وعد بنزولها على جبال فاران، فعرفت أنه يعني المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه المبعوث من جبال فاران وهي جبال مكة، ثم قال: أو ما علمت ان الله لم يبعثني بنسخ شيء من التوارة، وإنما بعثني أذكرهم بها وأحيي شرائعها(8/109)
وأخلصهم من أهل فلسطين، قلت: بلى يانبي الله! قال: فأي حاجة بهم إلى أن يوصيهم ربهم باتباع من لم ينسخ دينهم ولم يغير شريعتهم، أرأيتهم احتاجوا إلى أن يوصيهم بقبول نبوة دانيال أو يرميا أو حزقيل؟ قلت: لا لعمري! فأخذ الكتاب من يدي وانصرف مغضباً فارتعبت لغضبه وازدجرت لموعظته واستيقظت مذعوراً. وقال في كتابه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود: إن الله يطلق الإخوة على غير بني إسرائيل كما قال في بني العيص بن إسحاق عليه السلام في الجزء الأول من السفر الخامس ما تفسيره: أنتم عابرون في تخم إخوتكم بني العيص فإذا كانوا بنو العيص إخوة لبني إسرائيل لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق، فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم عليهم السلام، قال: وفي الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة في ذكر البشارة لإبراهيم عليه السلام ما تفسيره: وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك، ها قد باركت فيه وأثمره وأكثره جداً جداً وقال: إن جداً جداً بلسان العبراني مفسر «بماد ماد» وهاتان الكلمتان إذا عددنا حروفها بحساب الجمل كان اثنتين وتسعين، وذلك عدد حساب حروف اسم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعني فتعين أن يكون مراداً بها لأنها في البشارة بتكثير إسماعيل عليه السلام، وليس في(8/110)
أولاده من كثره الله به وعدد اسمه هذا العدد غير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: وإنما جعل ذلك في هذا الموضع ملغزاً، لأنه لو صرح به لبدلته اليهود أو أسقطته من التوراة كما عملوا في غيره - انتهى.
وفي آخرة فصول التوراة: دعا موسى عبد الله لبني إسرائيل قبل وفاته قال: أتى ربنا من سيناء وشرق لنا من جبل ساعير وظهر لنا من جبل - وفي نسخة: جبال فاران، معه ربوات الأطهار على يمينه، أعطاهم وحببهم إلى الشعوب وبارك على جميع أطهاره - وهم يتبعون آثارك ويتناقلون كلماتك. وفي نسخة بدل: معه ربوات الأطهار - إلى آخره: وأتى من ربوات القدس بشريعة نوره من يمينه لهم، واصطفى أيضاً شعباً فجميع خواصه في طاعتك وهم يقفون آثارك وسيتناقلون كلماتك انتهى. فالذي ظهر من جبال فاران هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم معترفون أنها مكة، ومعه ربوات، أي جماعات الأطهار، وأمته حببت إلى الشعوب، لأن كلاًّ من فريقي أهل الكتاب يقدمهم على الفريق الآخر، ولم يقبل أحد جميع كلام موسى عليه السلام ويتبع جميع آثاره في بشارته ممن يأتي بعد غيرهم - هذا وأما الإنجيل فالبشائر فيه أكثر وقد تقدم كثير منها، وهي تكاد أن تكون صريحة في سورة النساء في قصة رفعه عليه السلام،(8/111)
ومما فيه أيضاً ما في إنجيل متى وغيره وأغلب السياق له: كثيراً أولون يصيرون آخرين وآخرون يصيرون أولين، يشبه ملكوت السماوات إنساناً رب بيت حرج بالغداة يستأجر فعلة الكرمه فشارط الأكرة على دينار واحد في اليوم وأرسلهم إلى كرمه، ثم خرج في ثالث ساعة فأبصر آخرين قياماً في السوق بطالين، فقال لهم: امضوا أنتم إلى كرمي وأنا أعطيكم ما تستحقون، فمضوا، وخرج أيضاً في الساعة السادسة والتاسعة فصنع كذلك، وخرج في الحادية عشرة فوجد آخرين قياماً، فقال لهم: ما قيامكم كل النهار بطالين؟ فقالوا له: لم يستأجرنا أحد، فقال لهم: امضوا أنتم بسرعة إلى الكرم وأنا أعطيكم ما تستحقون، فلما كان المساء قال رب الكرم لوكيله: ادع الفعلة وأعطهم الأخرة وابدأ بهم من الآخرين إلى الأولين، فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة فأخذوا دينار كل واحد، فجاء الأولون فظنوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا دينار كل واحد، لما أخذوا تعمقوا على رب البيت وقالوا إن هؤلاء الآخرين عملوا ساعة واحدة، جعلتهم أسوتنا ونحن حملنا ثقل النهار وحرّه! فقال لواحد منهم: ياصاحب! ما ظلمتك، ألست بدينار شارطتك، خذ شيئك وامض، أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك، أو ما لي أن أفعل ما أردت بمالي؟ وأن عينك شريرة، كذلك يكون الآخرون أولين، والأولون آخرين، ما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين،(8/112)
وقال: ودخل إلى الهيكل فجاء إليه رؤساء النكهة وشيوخ الشعب وقالوا له وهو يعلم: بأيّ سلطان تفعل هذا؟ ومن اعطاك هذا السلطان؟ أجاب يسوع وقال لهم: أنا أسألكم عن كلمة واحدة، فإن أنتم قلتم لي قلت لكم بأي سلطان أفعل هذا، معمودية يوحنا من أين هي؟ من السماء أو من الناس؟ ففكروا في نفوسهم قائلين: إن قلنا: من السماء قال لنا: لماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا: من الناس، خفنا من الجمع، وقال لوقا: وإن قلنا من الناس فإن جميع الشعب يرجمنا لأنهم قد تيقنوا أن يوحنا نبي؛ وقال متى: لأن يوحنا كان عندهم مثل نبي؛ وقال مرقس: لأن جميعهم كان يقول: إن يوحنا نبي؛ قال متى: فقالوا: لا نعلم، فقال: ولا أنا أيضاً أعلمكم بأي سلطان أفعل هذا.
قال مرقس: وبدأ يكلمهم بأمثال قائلاً؛ قال متى: ماذا تظنون بإنسان كان له ابنان فجاء إلى الأول فقال له: يابني! اذهب اليوم واعمل في الكرم، فأجاب وقال: ما أريد - وبعد ذلك ندم ومضى، جاء الى الثاني وقال له مثل هذا فأجاب وقال: نعم يارب! أنا امضي - ولم يمض، من منهما فعل إرادة الأب؟ فقالوا له: الأول، فقال لهم يسوع: الحق أقوال لكم! إن العشارين والزنا يسبقونكم إلى ملكوت الله، جاءكم يوحنا بطريق العدل فلم تؤمنوا به، والعشارون والزناة آمنوا به، فأما أنتم فرأيتم ذلك ولم تندموا أخيراً لتؤمنوا به. اسمعوا مثلاً آخر: إنسان رب بيت غرس كرماً وأحاط(8/113)
به سياجاً وحفر فيه معصرة وبنى فيه برجاً ودفعه إلى فعلة وسافر - قال لوقا: زماناً كثيراً - فلما قرب زمان الثمار أرسل عبيده إلى الفعلة ليأخذوا ثمرته، فأخذ الفعلة عبيده، ضربوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً، فأرسل أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين فصنعوا بهم كذلك، وفي الآخرة أرسل إليهم ابنه وقال: لعلهم يستحيون من ابني، فلما رأى الفعلة الابن قالوا: هذا هو الوارث تعالوا نقلته ونأخذ ميراثه، فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم وقتلوه، فإذا جاء رب البيت ماذا يفعل بهؤلائك الفعلة؟ قالوا له: يهلكهم ويدفع الكرم إلى فعلة آخرين ليعطوه ثمرته في حينه، قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب أن الحجر الذي رذله البناؤون صار رأس الزاوية، هذا كان من قبل الرب وهو عجب في أعيننا، من هذا أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمم يصنعون ثمرتها، ومن سقط على هذا الحجر ترضض، ومن سقط عليه طحنه.
فلما سمع رؤساء الكهنة والفريسيين امثاله علموا انه يقول من أجلهم، فهموا أن يمسكوه وخافوا من الجموع لأنه كان عندهم مثل نبي. وقال أيضاً: يشبه ملكوت السماء رجلاً صنع عرساً لابنه، فأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العرس، فلم يريدوا أن ياتوا، ثم أرسل عبيداً آخرين وقال: قولوا المدعوين: إن طعامي معد، وعجولي المعلوفة قد ذبحت وكل شيء معد، فتعالوا إلى العرس، فتكاسلوا(8/114)
وذهبوا فمنهم إلى حقله ومنهم إلى تجارته والبقية أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم، فلما بلغ الملك غضب وأرسل جنده وأهلك هؤلائك القتلة وأحرق مدينتهم؛ حينئذ قال لعبيده: أما العرس فمستعد، والمدعوون فغير مستحقين، اذهبوا إلى مسالك الطريق وكل من وجدتموه ادعوه إلى العرس، فخرج أولئك العبيد إلى الطرق فجمعوا كل من وجدوا أشراراً وصالحين، فامتلأ العرس من المتكئين، فلما دخل الملك لينظر إلى المتكئين رأى هناك رجلاً ليس عليه ثياث العرس فقال: يا هذا! كيف دخلت هاهنا وليس عليك ثياب العرس؟ فسكت، حينئذ قال الملك للخدام: شدوا يديه ورجليه وأخرجوه إلى الظلمة البرانية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، ما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين. وعبارة لوقا عن ذلك: إنسان صنع وليمه عظيمة ودعا كثيراً فأرسل عبده يقول للمدعوين يأتون فهو ذا كل شيء معد، فبدؤوا بأجمعهم يستعفون، فالأول قال: قد اشتريت كرماً والضرورة تدعوني إلى الخروج ونظره، فأسألك أن تعفيني فما أجيء، وقال آخر: قد اشتريت خمسة أزواج بقر وأنا ماض أجربها، أسألك أن تعفيني فما أجيء، وقال آخر: قد تزوجت امرأة، لأجل ذلك ماأقدر أجي، فأتى العبد وأخبره سيده، فحينئذ غضب رب البيت وقال لعبده: اخرج(8/115)
مسرعاً إلى الطريق وشوارع المدينة وادع المساكين والعور والعميان والمقعدين، اخرج الى الطريق والسياجات وألح عليهم حتى يدخلوا ويمتلىء بيتي ولا أجد من هؤلائك يذوق لي عشاء. وقال يوحنا: الحق أقول لكم! إن من لا يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف، بل يتسور من موضع آخر فإن ذلك لص، الذي يدخل من الباب هو راعي الخراف، والبواب يفتح له، والخراف تسمع له، وكباشه تتبعه لأنها تعرف صوته، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف، فأما الآخر الذي ليس براع وليست الخراف له، فإذا راى الذئب قد أقبل يدع الخراف ويهرب، فيأتي الذئب ويخطف ويبدد الخراف، وإنما يهرب الأجير لأنه مستأجر وليس يشفق على الخراف، أنا الراعي الصالح، ولي كباش أخر ليست من هذا القطيع، فينبغي لي أن آتي بهم أيضاً، فتكون الرعية واحدة، فوقع أيضاً بين اليهود خلف من أجل هذا القول وقال كثير منهم: إن به شيطاناً قد جن، فما استماعكم منه! وقال آخرون: إن هذا ليس كلام مجنون.
وفي أوائل السيرة الهشامية: قال ابن إسحاق:(8/116)
وقد كان فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل من صفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما أثبت يحنس الحواري لهم حين نسخ لهم الإنجيل أنه قال: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لمن يصنعها أحد قبلي ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزوني وأيضاً للرب، ولكن لابد من أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجاناً - أي باطلاً، فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس، هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القدس، هذا الذي من عند الرب خرج، فهو شهيد علي وأنتم أيضاً لأنكم قديماً كنتم معي، هذا قلت لكم لكيما لا تشكوا. فالمنحمنا بالسريانية محمد، وهو بالرومية البارقليطس - انتهى.
ولما دل سبحانه عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأوصافه في نفسه وفي الكتب الإلهيه، دل عليه بشريعته فقال: {يأمرهم بالمعروف} أي بكل ما يعرفونه من التوراة والإنجيل وما يعرفونه فيهما أنه ينسخ شرعهم ويأتي من عند الله بهذا المذكور {وينهاهم عن المنكر} أي عن كل ما ينكرونه فيهما، فثبتت بذلك رسالته، فأنه لكونه أمياً لا يعرف المعروف والمنكر فيهما إلا وهو صادق عن علام الغيوب، ثم شرع(8/117)
بعد ثبوت رسالته يبين لهم ما في رسالته من المنة عليهم بالتخفيف عنهم بإباحة ما كانوا قد حملوا ثقل تحريمه، فكانوا لا يزالون يعصون الله بانتهاك حرماته والإعراض عن تبعاته فقال: {ويحل لهم الطيبات} أي التي كانت حرمت عليهم عقوبة لهم كالشحوم {ويحرم عليهم} وعبر بصيغة الجموع إشارة إلى أن الخبيث أكثر من الطيب في كل مائي الأصل فقال: {الخبائث} أي كل ما يستخبثه الطبع السليم أو يؤدي إلى الخبث كالخمر المؤدية إلى الإسكار والرشى المؤدية إلى النار بعد قبيح العار {ويضع عنهم إصرهم} أي ثقلهم الذي كان حمل عليهم فجعلهم لثقلة كالمحبوس الممنوع من الحركة {والأغلال التي كانت عليهم} أي جميع ما حملوه من الأثقال التي هي لثقلها وكراهة النفوس لها كالغل الذي يجمع اليد إلى العنق فيذهب القوة {فالذين آمنوا به} أي أوجدوا بسببه الأمان من التكذيب بشيء من آيات الله {وعزروه} أي منعوه من كل من يريده بسوء وقووا يده تقوية عظيمة على كل من يكيده: قال في القاموس: والتعزير: ضرب دون الحد أو هو أشد الضرب، والتفخيم والتعظيم ضد، والإعانة كالعزر والتقوية والنصر- انتهى.
وقال عبد الحق: العزر: المنع، تقول: عزرت فلاناً عن كذا، أي منعته - انتهى. فالمادة كلها تدور على هذا المعنى والضرب واضح فيه التعظيم وما في معناه منع من يكيده {ونصروه} أي أيدوه(8/118)
وقمعوا مخالفة {واتبعوا النور} أي الوحي من القرآن والسنة {الذي أنزل معه} أي مصاحباً إنزاله إرساله، سمي نوراً لأنه يجعل المقتدي به ببيان طريق الحق كالماشي في ضوء النهار {أولئك هم} أي خاصة {المفلحون*} أي الفائزون بكل مأمول.
ولما تراسلت الآي وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام وبيان مناقبه العظام ومآثره الجسام، كان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصباً وأعظمهم رتبة، فساق سبحانه هذه الآيات هذا السياق على هذا الوجه الذي بين أن أعلاهم مراتب وأزكاهم مناقب الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلاً، وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل اهتماماً به وتعجيلاً له مع ما سيذكر مما يظهر أفضليته ويوضح أكمليته بقصته مع قومه في مبدإ أمره وأوسطه ومنتهاه في سورتي الأنفال وبراءة بكمالها.
ذكر شيء من الآصار التي كانت عليهم وخففت عنهم لو دخلوا في الإسلام ببركته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير ما أسلفته في آخر البقرة عند قوله تعالى {ولا تحمل علينا إصراً} [البقرة: 286] وفي المائدة عند قوله تعالى {وليحكم أهل الإنجيل} [المائدة: 47] قال في السفر الثاني من التوراة: وقال الرب لموسى: اعمد فخذ طيباً - إلى أن قال: وليكن معجوناً طيباً للقدس ودقه واسحقه وبخر منه قدام تابوت الشهادة في قبة الزمان(8/119)
لأواعدك إلى هناك، ويكون عندكم طهراً مخصوصاً، وأيما رجل اتخذ مثله ليتبخر به فليهلك ذلك الرجل من شعبه؛ وقال في الثالث: ثم كلم الرب موسى قال له؛ كلم هارون وبنيه وجماعة بني إسرائيل وقل لهم؛ هذا ما أمرني به الرب ان أخبركم، أي رجل من بني إسرائيل يذبح في محلة بني إسرائيل أو يذبح خارجاً من العسكر ولا يجيء بقربانه إلى باب قبة الزمان ليقربه يعاقب ذلك الرجل عقوبة من قتل قتيلاً؛ وكلم الرب موسى وقال له: كلم هارون وقل له: من كان عيب من نسلك - أي من الأحبار - في جميع الأحقاب لا يدنو من مقدسي، لا يقرب قربانا ً مثل الرجل الأعراج والأعمى والأفطس والأصمع الأذن أو رجل مسكور اليد أو رجل قيصر أو منحن أو رجل قد أشتر حاجباه أو أجهر العين أو من في عينه بياض أو أبرص أو أحدب أو رجل له خصية واحدة، أي رجل كان فيه عيب من نسل هارون الكاهن لا يدنو من المذبح ليقرب قربان الرب لأن فيه عيباً؛ وقال في السفر الرابع وهو من الحجج على أن التوراة لم تنزل جملة: وكلم الرب موسى في برية سيناء في السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر في الشهر الأول وقال: تعمل بنو إسرائيل الفصح في وقته في أربعة عشر يوماً من هذا الشهر - إلى أن قال: وعملوا الفصح، والقوم الذين تنجسوا بأنفس الناس لم يقدروا أن يعملوا الفصح فقالوا: قد تنجسنا بأنفس الناس، أي مسسنا ميتاً، فهل يحرم علينا عمل الفصح؟ فقال لهم موسى:(8/120)
قوموا في مواضعكم حتى تسمعوا ما يأمر الرب فيكم، وكلم الرب موسى وقال له: قل لهم: الرجل إذا تنجس منكم لميت أو كان في مكان بعيد يعمل فصحاً للرب في أربعة عشر يوماً من الشهر الثاني، ومن كان زكياً ولم يكن مسافراً ولم يعمل الفصح في وقته تهلك تلك النفس من بين بني إسرائيل، وقال قبل ذلك: وكلم الرب موسى وقال له: مر بني إسرائيل أن يخرجوا من عسكرهم كل من به برص أو سلس وكل من كان نجساً بنفسه ذكراً كان أو أنثى، يخرجونهم خارج العسكر، ولا تنجسوا عساكركم لأني نازل بينكم؛ ثم ذكر: الرجل إذا غار على امرأته واتهمها، إنه يأتي الكاهن فيقيمها ويلقنها لعناً، فإذا قالته كتبه وأخذ ماء مقدساً في وعاء فخار ووضع فيه من الترب الذي أسفل المذبح وسقاه لها، فإن كانت خانت انتفخ بطنها وفسد فخذاها وتصير لعنة في شعبها، وإن كانت لم تخن تطهرت وولت ذكراً، ثم أمرهم بذبح بقرة وإحراقها حتى تصير رماداً، ويغسل الحبر الذي ذبحها ثيابه ويديه، فكل من يقترب إلى ميت أو ميتة يكون نجساً سبعة أيام، وينضح عليه من ذلك الماء في اليوم الثالث واليوم السابع ويتطهر، وإن لم يرش عليه كذلك فلا يتطهر، وكل من دنا من إنسان ميت ولا ينضح عليه من ذلك الماء فقد نجس جناب الرب، فلتهملك تلك النفس لأنه لم ينضح عليه من ماء الرش شيء، فلذلك يكون نجساً ولا يفارقه نجاسته، وهذه(8/121)
سنة الإنسان إذا مات في قبة الزمان، فكل من كان هناك في القبة وكل من يدخلها يكون نجساً سبعة أيام، وكل وعاء يكون مكشوفاً غير مغطى نجساً، وكل من دنا من قتيل أو يمس عظم إنسان أو يدخل القبر يكون نجساً سبعة أيام ويؤخذ للمنتخس من رماد البقرة ويصيب في وعاء ماء عذب وينضح منه - على كيفية ذكرها - ليكون زكياً، ومن تنجس ولم يرش عليه من ذلك الماء تهلك نفسه من جماعتها، ومن دنا من ماء الرش يكون نجساً إلى الليل، ومن اقترب إلى ذلك الذي تنجس يكون نجساً إلى الليل - ثم قال: ثم كلم الرب موسى وقال له: مر بني إسرائيل وقل لهم: قرابتي يكون محفوظة في أوقاتها - ثم ذكر له كثيراً من أمر القرابين، ثم ذكر من أوقاتها يوم السبت ورؤوس الشهور، ثم قال: وفي أربع عشرة ليلة من الشهر الأول هو فصح الرب، ويوم خمسة عشر اتخذوه عيداً، وكلوا الفطير سبعة أيام، وصيّروا أول يوم من السبعة مميزاً مطهراً لا تعملوا فيه عملاً، واليوم السابع يكون مميزاً مطهراً لا تعملوا فيه عملاً وأول يوم من الشهر السابع يكون مختصاً مطهراً، لا تعملوا فيه عملاً(8/122)
مما يعمل، بل صيروه يوماً يهتف فيه بالقرون، وقربوا ذبائح كاملة - ثم وصفها وكذا غيره من الأيام ثم قال: وكذلك فافعلوا في أول الشهر أبداً، وفي عشر من الشهر السابع اجعلوه يوماً مختصاً، مطهراًَ لا تعملوا فيه عملاً، ولكن قربوا، ويوم خمسة عشر من هذا الشهر السابع، ويكون مدعواً، لا تعملوا فيه عملاً، بل اتخذوه عيداً للرب سبعة أيام؛ ثم قال: حتى إذا كان اليوم الثامن فاحتفلوا بأجمعكم، ولا تعملوا شيئاً مما يعمل، وقربوا قرابين كاملة - وأطال في ذلك جداً على كيفيات حفظها فضلاً عن العلم بها في غاية المشقة؛ ثم قال قربوا للرب في أيام أعيادكم غير نذوركم وغير خواصكم التي تختصون للرب؛ ثم قال مخاطباً للمجاهدين في مدين: وأما أنتم فانزلوا خارجاً من العسكر سبعة أيام، كل من قتل نفساً أو مس قتيلاً ينضح عليه من ماء التطهير في الثالث والسابع - وأمرهم بأشياء من الآصار ثم قال: وتطهروا بالماء في اليوم السابع، ثم بعد ذلك تدخلون العسكر؛ ثم قال في الخامس: هذه السنن والأحكام التي يجب عليكم أن تعملوها وتحفظوها في الأرض التي يعطيكم الله ربكم ميراثاً كل أيام حياتكم، خربوا كل البلدان التي ترثونها، والآلهة التي عبدها أهلها فيها على الجبال(8/123)
الرفيعة والآكام وتحت كل شجرة كبيرة تظل، واستأصلوا مذابحهم وكسروا أنصابهم، وأحرقوا أصنامهم المصنوعة وأوثانهم المنحوته، ولا تصنعوا أنتم مثل ما صنع أولئك في عبادتكم الله ربكم، ولكن المواضع التي يختار الله ربكم أن تصيِّروا اسمه فيها من جميع قبائلكم، وافحصوا عن محلته، وانطلقوا بجمعكم بقرابينكم الكاملة، كلوا هناك أمام الله ربكم أنتم وأهاليكم، ولا تعملوا كما يعمل هاهنا اليوم أي قبل الوصول إلى أرض الميراث؛ ثم قال: انظروا لا تقربوا قرابينكم في المواضع التي تريدون، لكن في المواضع الذي يختار الرب، في حد سبط من أسباطكم؛ ثم قال: وإذا بنيت بيتاً جديداً فحجر على البيت لئلا يقع إنسان من فوقه فليلزمك دمه، ولا تزرعن في حرثك خلطاً لئلا تفسد غلة زرعك وكرمك، لا تحرث بالثور والحمار جميعاً، ولا تنسج ثوباً من قطن وصوف جميعاً، اعمل خيوطاً في أربعة أطراف ردائك الذي تلبس؛ ثم قال: وإن وجد رجل فتاة عذراء لم تملك، فيظفر بها ويضاجعها ويوجد، يدفع إلى أبيها خمسين مثقالاً من فضة، وتصير امرأته لأنه فضحها، ولا يقدر أن يطلقها حتى يموت.
ولا يدخل(8/124)
ولد الزنا إلى بيت الرب، ولا يدخل نسله من بعده إلى عشرة أحقاب، ولا يدخل عماني ولا مؤابيّ إلى بيت الرب، ولا يدخل نسلهما من بعدهما إلى عشرة أحقاب، لأنهم لم يضيفوكم ولم يعشوكم بالخبز والماء حيث خرجتم من أرض مصر، ولأنهم اكتروا بلعام بن بعور من فتورام من بين النهرين - وهي حران - ليلعنكم، ولم يحب الرب أن يسمع قول بلعام بن بعور، وقلب الله لعنه إلى الدعاء، لأن الله ربكم أحبكم، فلا تريدوا لهم الخير أيام حياتكم، لا تدفعوا الأدومي عنكم لأنه أخوكم، ولا تبعدوا المصري أيضاً لأنكم كنتم سكاناً بأرض مصر، وإن كان في معسكركم رجل أصابته جنابة، يخرج خارج العسكر، ولا يجلس بين أصحابه في العسكر، وإذا كان العشيّ فليستحم بالماء، وإذا غابت الشمس وأمسى يدخل العسكر، وليكن لكم موضع معروف خارج العسكر تخرجون إليه إلى الخلاء، ويكون على سلاحكم وتد من حديد، فإذا جلستم للخلاء احفروا موضعاً للخلاء وغطوا رجيعكم، لأن الله ربكم معكم في العسكر لينقذكم ويدفع عنكم أعداءكم، فليكن عسكركم مطهراً(8/125)
مزكياً لئلا يرى فيكم أمراً قبيحاً، فيرتفع عنكم ولا يصحبكم؛ ثم قال: وإن سكن أخوان جميعاً ومات أحدهما ولم يخلف ولداً، لا تتزوج امرأته من رجل غريب، ولكن يتزوج بها وارثه ويقيم زرعاً، وأول ولد تلد ينسب إلى أخيه الذي مات، ويقال إنه ابن ذلك الذي مات ولم يخلف ولداً، لئلا يبيد اسمه من بني إسرائيل، وإن لم يعجب الرجل أن يتزوج امرأة أخيه، ترتفع امرأة أخيه إلى المشيخة فيدعونه، فإن ثبت على قوله تتقدم إليه المرأة بين يدي المشيخة وتخلع خفيه من قدميه وتبصق في وجهه وتقول: كذلك يصنع بالرجل الذي لا يحب أن يبني بيتاً لأخيه، ويدعى اسمه بين بني إسرائيل: صاحب خلع الخفين، وإن شاجر الرجل صاحبه فدنت امرأة أحدهما لتخلص زوجها من الذي يقاتله، فتمد يدها إلى مذاكير الرجل، يقطع يدها ولا يشفق عليها ولا يترحم - انتهى. وكل هذه الآصار على النصارى أيضاً ما لم يرد في الإنجيل نسخها.(8/126)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
ولما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم حثاً على الإيمان به وإيجاباً له على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدم زمانه أو تأخر؛ أمره سبحانه أن(8/126)
يصرح بما تقدم التلويح إليه، ويصرّح بما أخذ ميثاق الرسل عليه تحقيقاً لعموم رسالته وشمول دعوته فقال: {قل} وأتى بأداة البعد لأنه محلها {يا أيها الناس} وقد مضى في الأنعام أن اشتقاقهم من النوس، وأن الإمام السبكي قال: إن ذلك يقتضي دخول الجن والكملائكة فيهم. وتقدم عند {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} في هذه السورة ما ينفع هنا {إني رسول الله} أي الذي له جميع الملك {إليكم جميعاً} أي لا فرق بين أدركني ومن تأخر عني أو تقدم عليّ في أن الكل يشترط عليهم الإيمان بي والاتباع لي؛ وهذا المراد بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه حين رفع إليه الذراع فنهش منها فقال: «أنا سيد الناس يوم القيامة» وللدرامي في أوائل مسنده عن جابر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وانا أول شافع وأول مشفع ولا فخر» وللترمذي في المناقب عن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال؛ «أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا مستشفعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» وقال: حديث حسن غريب، وله في المناقب أيضاً عن أبي(8/127)
بن كعب رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر» وقال: حسن صحيح غريب؛ وللترمذي والدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ألا! وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامه تحته آدم فمن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامه ولا فخر، وانا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر» وللترمذي وقال: حسن - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامه ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» الفخر: ادعاء العظمة والكبر والشرف، أي لا أقوله تبجحاً، ولكن شكراً وتحديثاً بالنعمة؛ وما اجتمع بهم في مجمع إلا كان إمامهم قبل موته وبعده، اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس فصلى بهم إماماً، ثم اجتمع بهم في السماء فصلى بجميع أهل السماء إماماً، وأما يوم الجمع الأكبر والكرب الأعظم فيحيل الكل عليه ويؤمنون بالرسالة، وما أحال بعض الكابر على بعض إلا علماً منهم بأن الختام يكون به.
ليكون أظهر للاعتراف بأمانته والانقياد لطاعته، لأن المحيل على المحيل(8/128)
على الشيء محيل على ذلك الشيء، ولو أحال أحد ممن قبل عيسى عليه السلام لطرقه احتمال، والحاصل أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يظهر في ذلك الموقف رسالته بالفعل إلى الخلق كافة، فيظهر سر هذه الآية {الذين يتبعون الرسول} والله الموفق.
ولما دل بالإضافة إلى اسم الذات الدال على جميع الصفات على عموم دعوته وشمول رسالته حتى للجن والملائكة، أيد ذلك بقوله: {الذي له} أي وحده {ملك السماوات والأرض} أي فلا بدع أن يرسله إلى جميع من فيهما، بل وما فيهما.
ولما كان مما بالغه في الدنيا أنه ربما في مملكة الملك من يناظره أو يقرب منه من ولي عهد أو نحوه، فربما رد بعض أمره في صورة نصح أو غيره؛ نفى ذلك بقوله مبيناً تمام ملكه: {لا إله إلا هو} أي فالكل منقادون لأمره خاضعون له، لأنه لا موجود بالفعل ولا بالإمكان من يصلح للإلهية سواه؛ ثم علل ذلك بقوله {يحيي ويميت} أي له هاتان الصفتان مختصاً بهما، ومن كان كذلك كان منفرداً بما ذكر، وإذا راجعت ما يأتي إن شاء الله تعالى في أول الفرقان مع ما مضى في أوائل الأنعام، لم يبق عندك شك في دخول الملائكة عليهم السلام في عموم الدعوة.
ولما تقرر أنه لا منازع له، تسبب عن ذلك توجيه الأمر بالانقياد(8/129)
لرسوله فقال: {فآمنوا بالله} أي لما ثبت له من العظمة والإحاطة بأوصاف الكمال وبكل شيء فإن الإيمان به أساس لا ينبني شيء من الذين إلا عليه.
ولما كان أقرب الفروع الأصلية إليه الرسالة قال: {ورسوله} أي لأنه رسوله؛ ثم وصفه بما دل على قربه فقال: {النبي} أي الذي يخبره بما يريد من الأمور العظيمة غيباً وشهادة، ويعليه عن كل مخلوق بإخباره بإرساله؛ ولما كان علوه على كل عالم - مع أنه ثم يتعلم من آدمي - أدل شيء على صدقه قال: {الأمي} أي الذي هو - مع كونه لا يحسن كتابة ولا قراءة، بل هو على الفطرة الأولى السليمة التي لم يخالطها هوى، ولا دنسها حظ ولا شهوة - بحيث يؤم ويقصد للاقتداء به، لما حوى من علوم الدنيا والآخرة والتخلق باوصاف الكمال.
ولما أشارة بهذه الصفة إلى أن سبب الإيمان الخلاص من الهوى بالكون على الفطره الأولى، قال منبهاً على وجوب الإيمان به، لكونه أول فاعل لما يدعو إليه: {الذي يؤمن بالله} أي لأجل ما يقتضية ذاته سبحانه من التعبد له لما له من العظمة، فكلما تجدد له علم من علوم الذات بحسب ترقيه في رتب الكمال من رتبة كاملة إلى أكمل منها إلى ما لا نهاية له، جدد له إيماناً بحسبه، لا تعتريه غفلة ولا يخالطه سهو(8/130)
ولا شائبة فتور {وكلماته} كذلك أيضاً، كلما تجدد له علم بصفة منها جدد لها إيماناً، ومنها المعجزات التي جرت على يديه، كل واحدة منها كلمة لأن ظهوره بالكلمة، كما سمى عيسى عليه السلام كلمة لذلك.
ولما تقرر أنه امتثل ما أمر به، فثبتت بذلك رسالته، استحق أن يكون قدوة فقال: {واتبعوه} أي في كل ما يقول ويفعل مما ينهى عنه أو يأمر به أو يأذن فيه {لعلكم تهتدون*} أي ليكون حالكم حال من يرجى له حصول ما سأل في الفاتحة من الاهتداء، أي خلق الهداية في القلب مع دوامه.
ولما كثر عد مثالب إسرائيل، وختم بتخصيص المتبع لهذا النبي الكريم بالهداية والرحمة المسببة عنها، وكان فيهم المستقيم على ما شرعه له ربه، المتمسك بما لزمه أهل طاعته وحزبه، سواء كان من صفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيرها، مع الإذعان لذلك كله؛ نبه عليه عائداً إلى تتميم أخبارهم، ثم ما وقع في أيام موسى عليه السلام وبعدها من شرارهم، تعزية لهذا النبي الكريم وتسلية، وتطييباً لنفسه الزكية وتأسية، وهو مع ما بعده من أدله {سأصرف عن آياتي} [الأعراف: 146] فقال تعالى عاطفاً على {واتخذ قوم موسى من بعده} [الأعراف: 148] {ومن قوم موسى أمة} أي قوم يستحقون أن يؤموا لأنهم لا يتكبرون في الأرض بغير الحق، بل(8/131)
{يهدون} أي يوقعون الهداية وهي البيان {بالحق وبه} أي خاصه {يعدلون*} أي يجعلون القضايا المختلفة المتنازع فيها معادلة ليقع الرضى بها، لا يقع منهم جور في شيء منها، ومنهم الذين اتبعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعبد الله بن سلام ومخيريق رضي الله عنهما.(8/132)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
ولما مدحهم، شرع يذكرهم شيئاً مما أسبغ عليهم من النعم لأجل هؤلاء المهتدين من التكثير بعد القلة والإعزاز بعد الذلة بجعلهم ممن يؤم استعطافاً لغيرهم، ويذكر بعض عقوباتهم ترهيباً فقال: {وقطعناهم} أي فرقنا بينهم بالأشخاص بعد أن كانوا ماء واحداً من شخص واحد، وهو إسرائيل عليه السلام؛ وصرح بالكثرة بعد أن لوح بها بالتقطيع بقوله: {اثنتي عشرة} وميزه - موضع المفرد الذي هو مميز العشرة - بالجمع للإشارة إلى أن كل سبط يشتمل لكثرته على عدة قبائل بقوله: {أسباطاً} والسبط - بالكسر: ولد الولد، والقبيلة من اليهود، وهذه المادة تدور على الكثرة والبسط؛ وبين عظمتهم وكثرة انتشارهم وتشعبهم بقوله: {أمماً} أي هم أهل لأن يقصدهم الناس لما لهم من الكثرة والقوة والدين، أو أن كل أمة منهم تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى من غيرهم ديناً.(8/132)
ولما وصفهم بهذه الكثرة، وكان ذلك مجرى لذكر الإنعام عليهم بالكفاية في الأكل والشرب، ذكر نعمة خارقة للعادة في الماء، وبدأ به لأنه الأصل في الحياة، وهي من نوع تقسيمهم من نفس واحدة مشيرة إلى ظلمهم وإسراعهم في المروق فقال: {وأوحينا إلى موسى إذ} أي حين {استسقاه قومه} أي طلبوا منه برية لا ماء بها أن يسقيهم، وذلك في التيه، والتعبير بالقوم إشارة إلى تبكيتهم بكونهم أهل قوة ولم يتأسوا بموسى عليه السلام في الصبر إلى أن يأتي الله الذي أمرهم بهذا المسير بالفرج، بل طلبوا منه ذلك على الوجه المذكور في البقرة من إظهار القلق والدمدمة {أن اضرب بعصاك} أي التي جعلناها لك آية وضربت بها البحر فانفلق {الحجر} أي أيّ حجر أردته من هذا الجنس؛ وبين سبحانه سرعة امتثال موسى عليه السلام وسرعة التأثير عن ضربه بحذف: فضربه، وقوله مشيراً إليه: {فانبجست} أي فانشقت وظهرت ونبعت، وذلك كاف في تعنيفهم وذمهم على كفرهم بعد المن به، وهذا السياق الذي هو لبيان إسراعهم في المروق هو لا ينافي أن يكون على وجه الانفجار، ويكون التعنيف حينئذ أشد {منه اثنتا عشرة عيناً} على عدد الأسباط، وأشار إلى شدة تمايزها بقوله؛ {قد علم كل أناس} أي من الأسباط {مشربهم} ولما لم يتقدم للأكل ذكر ولا كان هذا سياق الامتنان، لم يذكر ما أتم هذه الاية به في البقرة.(8/133)
ولما ذكر تبريد الأكباد بالماء، أتبعه تبريدها بالظل فقال: {وظللنا} أي في التيه {عليهم الغمام} أي لئلا يتأذوا بالشمس؛ ولما أتم تبريد الأكباد، أتبعه غذاء الأجساد فقال: {وأنزلنا عليهم المن} أي خبراً {والسلوى} أي إداماً؛ وقال السمؤال بن يحيى: وهو طائر صغير يشبه السماني، وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية، يموت إذا سمع صوت الرعد كما أن الخطاف يقتله البرد، فيلهمه الله عز وجل أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انفصال أوان المطر والرعد، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض.
ولما ذكر عظمته في ذلك، ذكر نتيجته فقال: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} أي بصفة العظمة القاهرة لما نريد مما لم تعالجوه نوع معالجة، ودل على أنهم قابلوا هذا الإحسان بالطغيان والظلم والعدوان بقوله عطفاً على ما تقديره: فعدلوا عن الطبيات المأذون فيها، وأكلوا الخبائث التي حرمناها عليهم بالاصطياد يوم السبت - كما يأتي - وفعلوا غير ذلك من المحرمات، فظلملوا أنفسهم بذلك: {وما ظلمونا} أي بشيء مما قابلوا فيه الإحسان بالكفران {ولكن كانوا} أي دائماً جبلة وطبعاً {أنفسهم} أي خاصة {يظلمون*} وهو - مع كونه من أدلة {سأصرف عن آياتي} الآية - دليل على صحة وصف هذا الرسول بالنبي، فإن من علم هذه الدقائق من أخبارهم مع كونه أمياً ولم يخالط أحداً من أحبارهم،(8/134)
كان صادقاً عن علام الغيوب من غير مؤيد وكذا ما بعده.
ولما ذكر ما حباهم في القفار، أتبعه إنعامه عليهم عند الوصول إلى الدار فقال: {وإذ} أي اذكر لهم هذا ليصدقوك أو يصيروا في غاية الظلم كأصحاب السبت فيتوقعوا مثل عذابهم، واذكر لهم ما لم تكن حاضره ولا أخذته عنهم، وهو وقت إذ، وعدل عن الإكرام بالخطاب ونو العظمة، لأن السياق للأسراع في الكفر فقال: {قيل لهم اسكنوا} أي ادخلوا مطمئنين على وجه الإقامة، ولا يسمى ساكناً إلا بعد التوطن بخلاف الدخول، فإنه يكون بمجرد الولوج في الشيء على أيّ وجه كان {هذه القرية} . فهو دليل آخر على الأمرين: الصرف والصدق؛ وعبر هنا بالمجهول في {قيل} إعراضاً عن تلذيذهم بالخطاب إيذاناً بأن هذا السياق للغضب عليهم بتساقطهم في الكفر وإعراضهم عن الشكر، من أيّ قائل كان وبأيّ صيغة ورد القول وعلى أيّ حالة كان، وإظهاراً للعظمة حيث كانت، أدنى إشارة منه كافية في سكناهم في البلاد واستقرارهم فيها قاهرين لأهلها الذين ملؤوا قلوبهم هيبة حتى قالوا {إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها} [المائدة: 24] .
ولما خلت نعمة الأكل في هذا السياق عما دعا إليه سياق البقرة(8/135)
من التعقيب وهو الاستعطاف، ذكرت بالواو الدالة على مطلق الجمع، وهي لا تنافي تلك، فقال: {وكلوا منها} أي القرية {حيث شئتم} وأسقط الرغد لذلك، وقدم {وقولوا حطة} ليكون أول قارع للسمع مما أمروا به من العبادة مشعراً بعظيم ما تحملوه من الآثام، إيذاناً بما سيقت له هذه القصص في هذه السورة المقام.
ولما أمروا بالحطة قولاً، أمروا أن يشفعوها بفعل، لتحط عنهم ذنوبهم، ولا ينافي التقديم هنا التأخير في البقرة، لأن الواو لا ترتب، فقال: {وادخلوا الباب} أي باب بيت المقدس حال كونكم {سجداً نغفر لكم} ولما كان السياق هنا لبيان إسراعهم في الكفر، ناسب ذلك جمع الكثرة في قوله: {خطاياكم} في قراءة أبي عمرو، وأما قراءة ابن عامر {خطيتكم} بالإفراد وقراءة غيرهما {خطياتكم} جمع قلة فللإشارة إلى أنها قليل في جنب عفوة تعالى، وكذا بناء {نغفر} للمجهول تأنيثاً وتذكيراً، كل ذلك ترجيه لهم واستعطافاً إلى التوبة، ولذلك ساق سبحانه ما بعده مساق السؤال لمن كأنه قال: هذا الرجاء قد حصل، فهل مع مع المغفرة من كرامة؟ فقال: {سنزيد} أي بوعد لا خلف فيه عن قريب، وهو لا ينافي إثبات الواو في البقرة {المحسنين*} أي العريقين في هذا الوصف،(8/136)
وللسياق الذي وصفت قيد قوله: {فبدل الذين ظلموا} بقوله: {منهم} لئلا يتوهم أنهم من الدخلاء فيهم {قولاً غير الذي} .
ولما كان من المعلوم أن القائل من له إلزامهم، بناه للمجهول فقال: {قيل لهم} وقال: {فأرسلنا} أي بما لنا من العظمة {عليهم} بالإضمار تهويلاً لاحتمال العموم بالعذاب {رجزاً من السماء} ولفظُ الظلم - في قوله: {بما كانوا يظلمون*} بما يقتضيه من أنهم لا ينفكون عن الكون في الظلام إما مطلقاً وإما مع تجديد فعل فعل من هو فيه - أهول من لفظ الفسق المقتضي لتجديد الخروج مما ينبغي الاستقرار فيه، كما أن لفظ الإرسال المعدي ب {على} كذلك بالنسبة إلى لفظ الإنزال.
ولما فرغ من هتك أستارهم فيما عملوه أيام موسى عليه السلام وما يليها، أتبعه خزياً آخر أشد مما قبله، كان بعد ذلك بمدة لا يعلمه أحد إلا من جهتهم أو من الله، وإذا انتفى الأول ثبت الثاني، فقال: {وسئلهم} أي بني إسرائيل مبكتاً لهم ومقرراً {عن القرية} أي البلد الجامع {التي كانت حاضرة البحر} أي على شاطئه وهي أيلة، ولعله عبر بالسؤال، ولم يقل: وإذ تعدو القرية التي - إلى آخره، ونحو ذلك، لأن كراهتهم للإطلاع على هذه الفضيحة أشد مما مضى، وهي دليل على الصرف والصدق. ولما كان السؤال عن خبر أهل القرية قال(8/137)
مبدلاً بدل اشتمال من القرية {إذ} أي حين {يعدون} أي يجوزون الحد الذي أمرهم الله به {في السبت إذ} أي العدو حين {تأتيهم} وزاد في التبكيت بالإشارة إلى المسارعة في الكفر بالإضافة في قوله: {حيتانهم} إيماء إلى أنها مخلوقة لهم، فلو صبروا نالوها وهم مطيعون، كما في حديث جابر رضي الله عنه رفعه «بين العبد وبين رزقه حجاب، فإن صبر خرج إليه، وإلا هتك الحجاب ولم ينل إلا ما قدر له» {يوم سبتهم} أي الذي يعظمونه بترك الاشتغال فيه بشيء غير العبادة {شرعاً} أي قريبة مشرفة لهم ظاهرة على وجه الماء بكثرة، جمع شارعة وشارع أي دان {ويوم لا يسبتون} أي لا يكون سبت، ولعله عبربهذا إشارة إلى أنهم لو عظموا الأحد على أنه سبت جاءتهم فيه، وهو من: سبتت اليهود - إذا عظمت سبتها {لا تأتيهم} أي ابتلاء من الله لهم، ولو أنهم صبروا أزال الله هذه العادة فأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ولما كان هذا بلاء عظيماً، قال مجيباً لسؤال من كأنه قال لشدة ما بهره من هذا الأمر: هل وقع مثل هذا؟ مشيراً إلى أنه وقع، ولم يكتف به، بل وقع لهم أمثاله لإظهار ما في عالم الغيب منهم إلى عالم الشهادة: {كذلك} أي مثل هذا البلاء العظيم {نبلوهم} أي نجدد اختبارهم كل قليل {بما} أي سبب ما {كانوا} أي جبلة وطبعاً {يفسقون*} أي يجددون في علمنا من الفسق، وهو الخروج مما هو(8/138)
أهل للتوطن من الطاعات.(8/139)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
ولما أخبر أن الفسق ديدنهم، أكده بقوله عطفاً على {إذ يعدون} [الأعراف: 163] {وإذ} أي واسألهم عن خبرهم حين {قالت أمة منهم} أي جماعة ممن يعتبر ويقصد من الواعظين الصالحين الذين وعظوا حتى أيسوا لأمة أخرى منهم لا يقلعون عن الوعظ تخويفاً للموعوظين بما يتجاوزون به {لم تعظون قوماً} أي معتمدين على قوتهم {الله} أي الذي له الملك كله {مهلكهم} أي لا محالة لأنهم لا ينتهون عن الفساد ولا يتعظون بالمواعظ {أو معذبهم عذاباً شديداً} أي بعظيم ما يرتكبونه وتماديهم فيه {قالوا} أي الأمة الأخرى من الواعظين: وعظنا {معذرة إلى ربكم} أي المحسن إليكم بالحفظ عما وقعوا فيه من الذنب والإقبال على الوعظ حتى إذا سئلنا عن أمرنا في عصيانهم نقول: فعلنا في أمرهم جهدنا، هذا إن لم يرجعوا {ولعلهم يتقون*} أي وليكون حالهم حال من يرجى خوفه لله فيرجع عن غيه.
ولما تراجعوا بهذا الكلام ليكون زاجراً للعاصين فلم يرجعوا، أخبر أنه صدق ظنهم بإيقاع الأمرين معاً: العذاب الشديد والإهلاك فقال: {فلما نسوا ما ذكروا به} أي فعلوا في إعراضهم عنه فعل الناسي وتركوه ترك المنسيّ، وهو أن الله لا يهملهم كما أن الإنسان لا يمكن أن يهمل(8/139)
أحداً تحت يده، ليفعل ما يشاء من غير اعتراض {أنجينا} أي بعظمتنا {الذين ينهون} أي استمروا على النهي {عن السوء} أي الحرام {وأخذنا} أي أخذ غلبة وقهر {الذين ظلموا} أي بالعدو في السبت {بعذاب بئيس*} أي شديد جداً {بما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يفسقون*} أي بسبب استمرارهم على تجديد الفسق.
ولما ذكر ما هددهم بهمن العذاب الشديد، أتبعه الهلاك فقال: {فلما عتوا} أي تكبروا جلافة ويبساً عن الانتهاء {عن ما نهوا عنه} أي بعد الأخذ بالعذاب الشديد، وتجاوزوا إلى الاجتراء على جميع المعاصي عناداً وتكبراً بغاية الوقاحة وعدم المبالاة، كان مواقعتهم لذلك الذنب وإمهالهم مع الوعظ أكسبتهم ذلك وغلظت أكبادهم عن الخوف بزاجر العذاب، من عتا يعتو عتواً - إذا أقبل على الآثام، فهو عات، قال عبد الحق في كتابة الواعي: وقيل إذا أقدم على كل أموره، ومنه هذه الآية، وقيل: العاتي هو المبالغ في ركوب المعاصي، وقيل: المتمرد الذي لا ينفع فيه الوعظ والتنبيه، ومنه قوله سبحانه {فعتوا عن أمر ربهم} [الذاريات: 44] أي جاوزوا المقدار والحد في الكفر - انتهى. وحقيقته: جاوزوا الأمر إلى النهي، أو جاوزوا الائتمار بأمره، والمادة ترجع إلى الغلظ والشدة والصلابة {قلنا لهم} أي بما لنا من القدرة العظيمة {كونوا قردة} أي في صورة القردة حال كونكم {خاسئين*} أي صاغرين مطرودين(8/140)
بعدين عن الرحمة كما يبعد الكلب. ولما تبين بما مضى من جرأتهم على المعاصي وإسراعهم فيها استحقاقهم لدوام الخزي والصغار، أخبر أنه فعل بهم ذلك على وجه موجب للقطع بأنهم مرتبكون في الضلال، مرتكبون سيىء الأعمال، ما دام عليهم ذلك النكال، فقال: {وإذ} وهو عطف على {وسئلهم} أي واذكر لهم حين {تأذن} أي أعلم إعلاماً عظيماً جهراً معتنى به {ربك} أي المربي لك والممهد لأدلة شريعتك والناصر لك على من خالفك.
ولما كان ما قيل جارياً مجرى القسم، تلقى بلامه، فكان كأنه قيل: تاذن مقسماً بعزته وعظمته وعلمه وقدرته: {ليبعثن} أي من مكان بعيد، وأفهم أنه بعث عذاب بأداة الاستعلاء المفهمة لأن المعنى: ليسلطن {عليهم} أي اليهود، ومد زمان التسليط فقال: {إلى يوم القيامة} الذي هو الفيصل الأعظم {من يسومهم} أي ينزل بهم دائماً {سوء العذاب} بالإذلال والاستصغار وضرب الجزية والاحتقار، وكذا فعل سبحانه فقد سلط عليهم الأمم ومزقهم في الأرض كل ممزق من حين أنكروا رسالة المسيح عليه السلام، كما أتاهم به الوعد الصادق في التوارة، وترجمة ذلك موجودة بين أيديهم الآن في قوله في آخر السفر الأول: لا يزول القضيب من آل يهودا، لا يعدم سبط يهودا ملكاً مسلطاً واتخاذه نبياً مرسلاً ختى يأتي الذي له الملك - وفي نسخة:(8/141)
الكل - وإياه تنتظر الشعوب، يربط بالحلبة جحشه؛ وقال السمؤال في أوائل كتابه غاية المقصود: نقول لهم: فليس في التوارة التي في أيديكم ما تفسيره: لا يزول الملك من آل يهودا والراسم بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح فلا يقدرون على جحده، فنقول لهم: إذاً علمتم أنكم كنتم أصحاب دولة وملك إلى ظهور المسيح ثم انقضى ملككم - انتهى. ومن أيام رسالة المسيح سلط الله عليهم الأمم ومزقهم في الأرض، فكانوا مرة تحت حكم البابليين، وأخرى تحت أيدي المجوس، وكرة تحت قهر الروم من بني العيص، وأخرى في أسر غيرهم إلى أن أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضرب عليهم الجزية هو وأمته من بعده.
ولما كان السياق للعذاب وموجباته، علل ذلك مؤكداً بقوله: {إن ربك} أي المحسن إليك بإذلال أعدائك الذين هم أشد الأمم لك ولمن آمن بك عداوة {لسريع العقاب} أي يعذب عقب الذنب بالانتقام باطناً بالنكته السوداء في القلب، وظاهراً - إن أراد - بما يريد، وهذا بخلاف ما في الأنعام فإنه في سياق الإنعام بجعلهم خلائف.
ولما رهب، رغب بقوله: {وإنه لغفور} أي محاء للذنوب عيناً وأثراً لمن تاب وآمن {رحيم*} أي مكرم منعم بالتوفيق لما يرضاه ثم بما يكون سبباً له من الإعلاء في الدينا والآخرة.(8/142)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
ذكر شيء مما هددوا به التوارة على العصيان والبغي والعدوان غير ما تقدم في المائدة عند {من لعنه الله وغضب عليه} [المائدة: 60] وغيرها من الايات - قال في السفر الخامس: وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب وتتق الله ربك وتهب اسمه المحمود المرهوب، يخصك الرب بضربات موجعة ويبتليك بها، ويبتلي نسلك من بعدك وتدوم عليك، ويبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء، وتجلون عن الأرض التي تدخلونها لترثوها، ويفرقكم الرب بين الشعوب، وتعبدون هنالك الآلهة الأخرى التي عملت من الحجارة والخشب، ولا تسكنون أيضاً بين تلك الشعوب، ولكن يصير الله قلوبكم هناك فزعة مرتجفة بالغداة تقولون: متى نمسي؟ وبالعشيّ تقولون: متى نصبح؟ وذلك من فزع قلوبكم وخوفكم وقلة حيلتكم، ويردكم الله إلى ارض مصر في الوف في الطريق الذي قال الرب: لا تعودوا أن تروه، وتباعون هناك عبيداً وإماء، ولا يكون من يشتريكم - هذه أقوال العهد التي أمر الله بها موسى أن يعاهد بني إسرائيل في أرض مؤاب سوى العهد الذي عاهدهم بحوريب؛ ثم دعا موسى جميع بني إسرائيل وقال لهم: قد رأيتم ما صنع الله بأرض مصر بفرعون(8/143)
وجميع عبيده وكل شعبه والبلايا العظيمه التي رأت أعينكم والآيات والأعاجيب التي شهدتموها، ولم يعطكم الرب قلوباً تفهم وتعلم، ولا أعيناً تبصر ولا آذاناً تسمع إلى يومنا هذا، ودبركم في البرية أربعين سنة، لم تبل ثيابكم عليكم ولم تخلق خفافكم أيضاً ولم تأكلوا خبزاً، لتعلموا أني أنا الله ربكم، وأنا الذي أتيت بكم إلى هذه البلاد، فاحفظوا وصايا هذه التوارة واعملوا بها وأتموا جميع الأعمال في طاعة الله وأكملوها، لأنكم قد عرفتم جميعاً أن كنا سكاناً بأرض مصر وجزنا بين الشعوب، ورأيتم نجاستهم وأصنامهم، لعل فيكم اليوم رجلاً أو امرأة أو قبيلة أو سبطاً يميل قلبه عن عبادة الله ربنا ويطلب عبادة آلهة تلك الشعوب، فيسمع هذا العهد فيقول: يكون لي السلام فاتبع مسرة قلبي، هذا لا يريد الرب أن يغفر له، ولكن هناك يشتد غضب الرب وزجره عليه وينزل به كل اللعن الذي في هذا الكتاب، ويستأصل الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب من جميع أسباط بني إسرائيل للشر والبلايا ويقول الحقب الآخر بنوكم الذين يقومون من بعدكم والغرباء، وينظرون إلى ضربات تلك الأرض والأوجاع أنزل الله بها ويقول الشعب: لماذا صنع الرب هكذا؟ ولماذا اشتد غصبة على هذا الشعب العظيم؟ ويقولون: لأنهم تركوا عهد الله إله آبائهم، فاشتد غضب الرب على هذه الأمة وأمر أن ينزل بها كل اللعن الذي كتب في هذا(8/144)
الكتاب، ويجليهم الرب عن بلادهم بغضب وزجر شديد ويبعدهم إلى أرض غريبة كما ترى اليوم، فأما الخفايا والسرائر فهي لله ربنا، والأمور الظاهرة المكشوفة هي لنا.
ولما أخبر سبحانه بالتأذن، كان كأنه قيل: فأسرعنا في عقابهم بذنوبهم وبعثنا عليهم من سامهم سوء العذاب بالقتل والسبي، فعطف عليه قوله: {وقطعناهم} أي بسبب ما حصل لهم من السبي المترتب على العذاب بما لنا من العظمة تقطيعاً كثيراً بأن أكثرناًُ تفريقهم {في الأرض} حال كونهم {أمماً} يتبع بعضهم بعضاً، فصار في كل بلدة قليل منهم ليست لهم شوكة ولا يدفعون عن أنفسهم ظلماً.
ولما كان كأنه قيل: فهل أطبقوا بعد هذا العذاب على الخير؟ قيل: لا، بل فرقتهم الأديان نحو فرقة الأبدان {منهم الصالحون} أي الذين ثبتوا على دينهم إلى أن جاء الناسخ له فتبعوه امتثالاً لدعوة كتابهم {ومنهم دون ذلك} أي بالفسق تارة وبالكفر أخرى {وبلوناهم} أي عاملناهم معاملة المبتلى ليظهر للناس ما نحن به منهم عالمون {بالحسنات} أي النعم {والسيئات} أي النقم {لعلهم يرجعون*} أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن غيه رغبة أو رهبة.
ولما كان العذاب الذي وقع التأذن بسببه ممتداً إلى يوم القيامه،(8/145)
تسبب عنه قوله: {فخلف} أي نشأ، ولما كانوا غير مستغرقين لزمان البعد، أتى بالجار فقال: {من بعدهم خلف} أي قوم هم أسوأ حالاً منهم {ورثوا الكتاب} أي الذي هو نعمة، وهو التوراة، فكان لهم نقمة لشهادته عليهم بقبح أفعالهم، لأنه بقي في أيديهم بعد أسلافهم يقرؤونه ولا يعملون بما فيه؛ قال ابن فارس: والخلف ما جاء من بعد، أي سواء كان محركاً أو ساكناً، وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين: ويقال:؛ خلف سوء - أي بالسكون - وخلَف صدق، وقال الزبيدي في مختصر العين: والخلف: خلف السوء بعد أبيه، والخلَف: الصالح، وقال ابن القطاع في الأفعال: وخَلَفَ خَلَفُ سوء: صاروا بعد قوم صالحين، وخَلَف سوء، قال الأخفش: هما سواء، أي بالسكون، منهم من يسكن ومنهم من يحرك فيهما جميعاً، ومنهم من يقول: خلف صدق - أي بالتحريك - وخلف سوء - أي بالسكون - يريد بذلك الفرق بينهما، وكل إذا أضاف، يعني فإذا لم يضف كان السكون - للفساد، والتحريك للصلاح؛ وقال في القاموس: خلف نقيض قدام، والقرن بعد القرن، ومنه: هؤلاء خلف سوء، والرديء من القول، وبالتحريك الولد الصالح، فإذا كان فاسداً أسكنت اللام، وربما استعمل كل منهما مكان الآخر، يقال: هو خلف صدق من أبيه - إذا قام مقامه،(8/146)
أو الخلف بالسكون وبالتحريك سواء، الليث: خلف للاشرار خاصة، وبالتحريك ضده. والمادة ترجع إلى الخلف الذي هو نقيض قدام، كما بنيت ذلك في فن المضطرب من حاشيتي على شرح ألفية العراقي.
ولما كان المظنون بمن يرث الكتاب الخير، فكان كأنه قيل: ما فعلوه من الخير فيما ورثوه؟ قال مستأنفاً: {يأخذون} أو يجددون الأخذ دائماً، وحقر ما أخذوه بالإعلام بأنه مما يعرض ولا يثبت بل هو زائل فقال: {عرض} وزاده حقارة بإشارة الحاضر فقال {هذا} وصرح بالمراد بقوله: {الأدنى} أي من الوجودين، وهو الدنيا {ويقولون} أي دائماً من غير توبة.
ولما كان النافع الغفران من غير نظر إلى معين، بنوا للمفعول قولهم: {سيغفر لنا} أي من غير شك، فأقدموا على السوء وقطعوا بوقوع ما يبعد وقوعه في المستقبل حكماً على من يحكم ولا يحكم عليه، وصرح بما افهمه ذلك من إصرارهم معجباً منهم في جزمهم بالمغفرة مع ذلك بقوله: {وإن} أي والحال أنه إن {يأتهم عرض مثله} أي في الدناءة والخسة - والحرمة كالرشى {يأخذوه} .
ولما كان هذا عظيماً، أنكر عليهم مشدداً - للنكير بقوله(8/147)
مستأنفاً: {ألم يؤخذ عليهم} بناه للمفعول إشارة إلى أن العهد يجب الوفاء به على كل حال، ثم عظمه بقوله: {ميثاق الكتاب} أي الميثاق المؤكد في التوارة {أن لا يقولوا} أي قولاً من الأقوال وإن قل {على الله} أي الذي له الكمال العظمة {إلا الحق} أي المعلوم ثباته، وليس من المعلوم ثباته إثبات المغفرة على القطع بغير توبة، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب.
ولما كان ربما وقع في الوهم أنه أخذ على أسلافهم ولم يعلم هؤلاء به، نفى ذلك بقوله: {ودرسوا ما فيه} أي ما في ذلك الميثاق بتكرير القراءة للحفظ {والدار الأخرة} أي فعلوا ما تقدم من مجانبة التقوى والحال أن الآخرة {خير} أي مما يأخذون {للذين يتقون} أي وهم يعلمون ذلك بإخبار كتابهم، ولذلك أنكر عليهم بقولة: {أفلا تعقلون*} أي حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدلاً مما يسعدهم ويبقى، وعلى قراءة نافع وابن عامر وحفص بالخطاب يكون المراد الإعلام بتناهي الغضب.(8/148)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
ولما بين ما للمفسدين من كونهم قالوا على الله غير الحق فلا يغفر لهم، بين ما للصالحين المذكورين في قوله {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 159] فقال عاطفاً على تقديره: أولئك حبطت أعمالهم فيما(8/148)
درسوا من الكتاب، ولا يغفر لهم ما أتوا من الفساد: {والذين يمسكون} أي يمسكون إمساكاً شديداً يتجدد على كل وجه الا ستمرار، وهو إشارة إلى إن التمسك بالسنة في غاية الصعوبة لا سيما عند ظهور الفساد {بالكتاب} أي فلا يقولون على الله إلا الحق، ومن جملة تمسيكهم المتجدد انتقالهم عن ذلك الكتاب عند إتيان الناسخ لأنه ناطق بذلك - والله الموفق.
ولما كان من تمسيكهم بالكتاب عند نزول هذا الكلام انتقالهم عن دينهم إلى الإسلام كما وقع الأمر به في المواضع التي تقدم بيانها، عبر عن إقامة الصلاة المعهودة لهم بلفظ الماضي دون المضارع لئلا يجعلوه حجة في الثبات على دينهم. فيفيد ضد المراد فقال: {وأقاموا الصلاة} وخصها إشارة إلى أن الأولين توكوها كما صرح به في آية مريم، وتنويهاً بشأنها بياناً لأنها من أعظم شعائر الدين، ولما كان التقدير إخباراً عن المبتدإ: سنؤتيهم أجورهم لإصلاحهم، وضع موضعه للتعميم قوله: {إنا لا نضيع} أي بوجه من الوجوه {أجر المصلحين*} .
ولما ذكر الكتاب أنه رهبهم من مخالفته ورغبهم في مؤالفته، وكان عذاب الآخرة مستقبلاً وغائباً، وكان ما هذا شأنه يؤثر في الجامدين، أمره أن يذكرهم بترهيب دنيوي مضى إيقاعه بهم، ليأخذوا مواثيق الكتاب لغاية الجد مع أنه لا يعلمه إلا علماؤهم، فيكون(8/149)
علم الأمي له من أعلام نبوته الظاهرة فقال: {وإذ} أي اذكر لهم هذا، فإن لمن يتعظوا اذكر لهم إذ {نتقنا} أي قلعنا ورفعنا، وأتى بنون العظمة لزيادة الترهيب {الجبل} عرفه لمعرفتهم به، وعبر لدلالة لفظه على الصعوبة والشدة دون الطور - كما في البقرة - لأن السياق لبيان نكدهم بإسراعهم في المعاصي الدالة على غلظ القلب.
ولما كان مستغرقاً لجميع الجهة الموازية لعساكرهم، حذف الجار فقال: {فوقهم} ثم بين أنه كان أكبر منهم بقوله: {كأنه ظلة} أي سقف، وحقق أنه صار عليهم موازياً لهم من جهة الفوق كالسقف بقوله: {وظنوا} هو على حقيقته {أنه واقع} ولما كان ما تقدم قد حقق العلو، لم يحتج إلى حرف الاستعلاء، فقال مشيراً إلى السرعة واللصوق: {بهم} أي إن لم يأخذوا عهود التوارة، قالوا: ولما رأوا ذلك خر كل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر، وصار ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فزعاً من سقوطه، وهي سنة لهم في سجودهم إلى الآن، يقولون: هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة.
ولما كان كأنه قيل: فقالوا: أخذنا يارب عهودك، قال مشيراً إلى عظمته ليشتد إقبالهم عليه إشارة إلى أنه علة رفع الجبل: {خذوا ما آتيناكم} أي بعظمتنا، فهو جدير بالإقبال عليه وإن يعتقد فيه الكمال، وأكد ذلك بقوله: {بقوة} أي عزم عظيم على احتمال(8/150)
مشاقه؛ ولما كان الأخذ للشيء بقوة ربما نسيه في وقت، قال: {واذكروا ما فيه} أي من الأوامر والنواهي وغيرهما - فلا تنسوه {لعلكم تتقون*} أي ليكون حالكم حال من يرجى تقواه، فدل سبحانه بهذا على تأكيد المواثيق عليهم في أخذ جميع ما في الكتاب الذي من جملته ألا تقولوا على الله إلا الحق ولا تكتموا شيئاً منه، قالوا: ولما قرأ موسى عليه السلام الألواح وفيها كتاب الله لم يبق على الأرض شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز، فلذلك لا ترى يهودياً يسمع التوارة إلا اهتز وأنقض رأسه.
ولما ذكر أنه ألزمهم أحكام الكتاب على هذه الهيئة القاهرة الملجئة القاسرة التي هي من أعظم المواثيق عند أهل الأخذ وأنه أكد عليهم المواثيق في كثير من فصول الكتاب، وكان ذلك كله خاصاً بهم؛ أمره أن يذكر لهم أنه ركب لهم في عموم هذا النوع الآدمي من العقول ونصب من الأدلة الموضحة للأمر إيضاح المشهود للشاهد ما لو عذب تاركه والمتهاون به لكان تعذيبه جارياً على المناهج ملائماً للعقول، ولكنه لسبق رحمته وغلبة رأفته لم يؤاخذ بذلك حتى ضم إليه الرسل، وأنزل معهم الكتب، وأكثر فيها من المواثيق، وزاد في الكشف والبيان، وإلى ذلك الإشارة باسم الرب، فكأن من عنده علم أشد ملامة من الجاهل، فقال: {وإذ} أي واذكر لهم إذ {أخذ} أي خلق بقوله وقدرته {ربك} أي المحسن(8/151)
إليك بالتمهيد لرسالتك كما يؤخذ القمل بالمشط من الرأس.
ولما كان السياق لأخذ المواثيق والأخذ بقوة، ذكر أخذ الذرية من أقوى نوعي الآدمي، وهم الذكور فقال: {من بني آدم} وذكر أنه جعلها من أمتن الأعضاء فقال: {من ظهورهم} كل واحد من ظهر أبيه {ذريتهم} إشارة إلى أنه أكد عليهم المواثيق وشددها لهم وأمرهم - بالقوة في أمرها، أعطاهم من القوة في التركيب والمزاج ما يكونون به مطيعين لذلك، فهو تكليف بما في الوسع، وجعل لهم عقولاً عند من قال: هو على حقيقته كنملة سليمان عليه الصلاة والسلام {وأشهدهم على أنفسهم} أي أوضح لهم من البراهين من الإنعام بالعقول مع خلق السماوات والأرض وما فيهما على هذا المنوال الشاهد له بالوحدانية وتمام العلم والقدرة، ومن إرسال الرسل المؤيدين بالمعجزات ما كانوا كالشهود بأنه لا رب غيره؛ وقد ذكر معنى هذا الإمام حجة الإسلام الغزالي في الكلام على العقل من باب العلم من الإحياء فإنه قال معنى هذه الآية: والمراد إقرار نفوسهم، لا إقرار الألسنة، فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة حيث(8/152)
وجدت الألسنة والأشخاص؛ ثم ذكر أن النفوس فطرت على معرفة الأشياء على ما هي عليه لقرب الاستعداد للإدراك.
ولما تبين أنه فرد لا شريك له فلا راد لأمره، وأنه رب فلا أرأف منه ولا أرحم، كان ذلك أدعى إلى طاعته خوفاً من سطوته ورجاء لرحمته، فكانوا بذلك بمنزلة من سئل عن الحق فأقر به، فلذلك قال: {ألست بربكم} أي المحسن إليكم بالخلق والتربية بالرزق وغيره {قالوا بلى شهدنا} أي كان علمنا بذلك علماً شهودياً، وذلك لأنهم وصلوا بعد البيان إلى حد لا يكون فيه الجواب إلا ذلك فكأنهم قالوه؛ فهو - والله أعلم - من وادي قوله تعالى {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} [الرعد: 15]- الآية و {لله يسجد ما في السماوات والأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} [النحل: 49] .
ولما كان كأنه قيل: لم فعل ذلك؟ قيل: دلالة على أن المتقدم إنما هو على طريق التمثيل يجعل تمكينهم من الاستدلال كالإشهاد، فعله كراهة {أن تقولوا يوم القيامة} أي إن لم ينصب لهم الأدلة {إنا كنا عن هذا} أي وحدانيتك وربوبيتك {غافلين*} أي لعدم الأدلة فلذلك أشركنا {أو تقولوا} أي لو لم نرسل إليهم الرسل {إنما أشرك آباؤنا من قبل} أي من قبل أن نوجد(8/153)
{وكنا ذرية من بعدهم} فلم نعرف لنا مربياً غيرهم فكنا لهم تبعاً فشغلنا اتباعهم عن النظر ولم يأتنا رسول منبه، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون*} أي من آبائنا؛ قال أبو حيان: والمعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان: إحدهما «كنا غافلين» والأخرى «كنا تبعاً لأسلافنا» فكيف والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلنا - انتهى. ومما يؤيد معنى التمثيل حديث أنس في الصحيح «يقول الله لأهون أهل النار عذاباً: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك شيئاً، فأبيت إلا الشرك» وذلك لأن التصريح بالآباء ينافي كون الإقرار على حقيقته، والأخذ وهو في الصلب إنما هو بنصب الأدلة وتقرير الحق على وجه مهيىء للاستدلال بتركيب العقل على القانون الموصل إلى المقصود عند التخلي من الحظوظ والشوائب، وهذا الذي وقع تأويل الآية به لا يعارضه حديث الاستنطاق في عالم الذر على تقدير صحته، فإنه روي من طرق كثيرة جداً ذكرتها في كتابي سر الروح، منها في الموطأ ومسند أحمد وإسحاق بن راهويه ومحمد بن نصر المروزي وأبي يعلى الموصلي ومستدرك الحاكم وكتاب المائتين لأبي عثمان(8/154)
الصابوني عن صحابة وتابعين مرفوعاً وموقوفاً - منهم عمر وأبيّ بن كعب وأبو هريرة وحكيم بن حزام وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عمرو وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وأبي العالية رحمهم الله، وإنما كان لا يعارضه لأن في بعض طرقه عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه سبحانه قال بعد أن استنطقهم:
«فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، فلا تشركوا بي شيئاً، فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، فقالوا: نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك» فالاستنطاق في الحديث على بابه، عبرة لأبينا آدم عليه السلام ومن حضر ذلك من الخلق، وإيقافاً لهم على بديع قدرته وعظيم علمه، وإشهاد ما أشهد من المخلوقات بمعنى أنه نصب فيها من الأدلة ما يكون إقامة الحجة به عليهم بالنقض إن أشركوا كشهادة الشاهد الذي لا يرد، وليس في شيء من الروايات ما ينافي هذا؛ والحاصل أنه أخذ علينا عهدان: أحدهما حالي تهدى إليه العقول، وهو نصب الأدلة، والآخر مقالي أخبرت به الرسل، كل ذلك للإعلام بمزيد الاعتناء بهذا النوع البشري لما له من الشرف الكريم ويراد به من(8/155)
الأمر العظيم - والله الموفق.(8/156)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
ولما كان كأنه قيل تبيهاً على جلالة هذه الآيات: انظر كيف فصلنا هذه الآيات هذه التفاصيل الفائقة وأبرزناها في هذه الأساليب الرائقة، قال: {وكذلك} أي ومثل ذلك التفصيل البديع الجليل الرفيع {نفصل الآيات} أي كلها لئلا يواقعوا ما لا يليق بجانبنا جهلاً لعدم الدليل {ولعلهم يرجعون*} أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن الضلال إلى ما تدعو إليه الهداة من الكمال عن قرب إن حصلت غفلة فواقعوه، وذلك من أدلة {والذي خبث لا يخرج إلا نكداً} [الأعراف: 58] و {ما وجدنا لأكثرهم من عهد} [الأعراف: 102] و {سأصرف عن آياتي} [الأعراف: 146] .
ولما ذكر لهم ما أخذ عليهم في كتابهم من الميثاق الخاص الذي انسلخوا منه، واتبعه الميثاق العام الذي قطع بع الأعذار، أتبعهما بيان ما يعرفونه من حال من انسلخ من الآيات، فأسقطه الله من ديوان السعداء، فأمره صلىلله عليه وسلم أن يتلو عليهم، لأنه - مع الوفاء بتبكيتهم - من أدلة نبوته الموجبة عليهم اتباعه، فذكره ما وقع له في نبذ العهد والانسلاخ من الميثاق بعد أن كان قد أعطى الآيات وأفرغ عليه من الروح فقال: {واتل} أي اقرأ شيئاً بعد شيء {عليهم} أي اليهود وسائر الكفار الخلق كلهم {نبأ الذي} وعظم ما أعطاه بمظهر العظمة ولفظ الإيتاء بعد ما عظم خبره بلفظ الإنباء فقال: {آتيناه} .(8/156)
ولما كان تعالى قد أعطاه من إجابة الدعاء وصحة الرؤيا وغير ذلك مما شاء سبحانه أمراً عظيماً بحيث دله تعالى دلالة لا شك فيها، وكانت الآيات كلها متساوية الأقدام في الدلالة وإن كان بعضها أقوى من بعض، قال تعالى: {آياتنا} وهو بلعام من غير شك للسباق واللحاق، وقيل: وهو رجل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين فرشاه فتبع دينه فافتتن به الناس، وقيل: هو أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «آمن شعره وكفر قلبه» قاله عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم، وقيل: هو أبو عامر الراهب الذي سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفاسق، وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنكروه.
ولما كان الذي جرأهم على عظمته سبحانه ما أنعم عليهم به من إعطاء الكتاب ظناً منهم أنه لا يشقيهم بعد ذلك، رهبهم ببيان أن الذي سبب له هذا الشقاء هو إيتاء الآيات فقال: {فانسلخ منها} أي فارقها بالكيلة كما تنسلخ الحية من قشرها، وذلك بسبب أنه لما كان مجاب الدعوة سأله ملك زمانه الدعاء على موسى وقومه فامتنع فلم يزل يرغبه حتى خالف أمر الله اتباعاً لهوى نفسه، فتمكن من الشيطان وأشار عليه أن يرسل إليهم النساء مزينات ويأمرهن أن لا يمتنعن من أحد، فأشقاه الله، وهذا معنى {فأتبعه الشيطان} أي فأدركه مكره فصار قريناً له(8/157)
{فكان} أي فتسبب عن إدراك الشيطان له أن كان {من الغاوين*} أي الضالين الراكبين هوى نفوسهم، وعبر في هذه القصة بقوله: {اتل} دون
{وأسألهم عن} [الأعراف: 163] نحو ما مضى في القرية، لأن هذا الخبر مما يحبون ذكره لأن سلخه من الآيات كان لأجلهم، فهو شرف لهم، فلو سألهم عنه لبادروا إلى الإخبار به ولم يتلعثموه فلا تكون تلاوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك لما أنزل في شأنه واقعاً موقع ما لو أخبرهم به قبل، ولعل المقصود الأعظم من هذه الآية والتي قبلها الاستدلال على كذب دعواهم في قولهم {سيغفر لنا} [الأعراف: 169] بما هم قائلون به، فيكون من باب الإلزام، وكأنه قيل: أنتم قائلون بأن من أشرك لا يغفر له لتركه ما نصب له من الأدلة حتى إنكم لتقولون {ليس علينا في الأميين سبيل} [آل عمران: 75] لذلك، فما لكم توسعون المغفرة لكم في ترك ما أخذ عليكم به الميثاق الخاص وقد ضيقتموها على غيركم في ترك ما أخذ عليهم به الميثاق العام؟ ما ذلك إلا مجرد هوى، فإن قلتم: الأمر في أصل التوحيد أعظم فلا يقاس عليه، قيل لكم؛ أليس المعبود قد حرم الجميع؟ وعلى التنزل فمن المسطور في كتابكم أمر بلعام وأنه ضل، وقد كان أعظم من أحباركم، فإنا آتيناه الآيات من غير واسطة رسول، وكان سبب هلاكه - كما تعلمون - وخروجه من ربقة الدين وإحلاله دمه مشورته على ملك زمانه بأن يرسل(8/158)
النساء إلى عسكر بني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن، وذلك من الفروع التي هي أخف من باب الأموال، فقد بحتم كذبكم في قولكم {سيغفر لنا} وأنكم لم تتبعوا فيه إلا الهوى كما تبعه بلعام فانظروا ما فعل به.
ولما كان هذا السياق موهماً لمن لم يرسخ قدمه في الإيمان أن الشيطان له تأثير مستقل في الإغواء، نفى ذلك غيره على هذا المقام في مظهر العظمة فقال: {ولو شئنا} أي أن نرفعه بها على ما لنا من العظمة التي من دنا ساحتها بغير إذن محق {لرفعناه} أي في المنزلة رفعة دائمة {بها} أي الآيات حتى لا يزال عاملاً بها.
ولما علق الأمر بالمشيئة تنبيهاً على أنها هي السبب الحقيقي وإن ما لم يشأه سبحانه لا يكون، وكان التقدير: ولكنا لم نشأ ذلك وشئنا له الكفر فأخلدناه - إلى آخره، عبر عنه تعليماً للأدب في إسناد الخير إلى الله والشر إلى غيره وإن كان الكل خلقه حفظاً - لعقول الضعفاء من إيهام نقص أو إدخال لبس بقوله مسنداً نقصه إليه: {ولكنه أخلد} أي فعل فعل من أوقع الخلد - وهو الدوام - وأوجده {إلى الأرض} أي رمى بنفسه إلى الدنيا رمياً، تهالكاً على ما فيها من الملاذ الحيوانية والشهوات النفسانية {واتبع} أي اتباعاً شديداً(8/159)
{هواه} فأعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات مقدماً لداعي نفسه على داعي روحه، لأن القلب الذي هو نتيجتهما في عالم الأمر له وجهان: وجه إلى الروح العلوي الروحاني الذي هو الأب، وله الذكورة المناسبة للعلو؛ ووجه إلى النفس التي هي الروح الحيواني التي هي الأم ولها المناسبة للأرض بالأنوثة وبأن أصلها من التراب الذي له الرسوب بوضع الجبلة فالتقدير: فحط نفسه حطّاً عظيماً، لأنا لم نشأ رفعه بما أعطيناه من الآيات، وإنما جعلناه وبالاً عليه، فلا يغتر أحد بما أوتي من المعارف، وما حاز من المفاخر واللطائف، فإن العبرة بالخواتيم، ولنا بعد ذلك أن نفعل ما نشاء.
ولما كان هذا حاله، تسبب عنه أن قال تعالى: {فمثله} أي مع ما أوتي من العلم في اتباعه لمجرد هواه من غير دليل بعد الأمر بمخالفة الهوى {كمثل الكلب} أي في حال دوام اللهث.
ولما كان كأنه قيل: مثله في أيّ أحواله؟ قال: في كونه {إن تحمل عليه} أي لتضربه {يلهث أو تتركه يلهث} فإن أوجب لك الحمل عليه ظن أن لهثه لما حاول من ذلك التعب ردك عنه لهثه في الدعة، فتعلم حينئذ أنه ليس له سبب إلا اتباع الهوى، فتابع الهوى مثل الكلب كما بين، ومثال هذا المنسلخ الجاهل الذي لا يتصور أن يتبع غير الهوى، لأنه يتبع الهوى مع إيتاء الآيات فبعد الانسلاخ منها أولى، فقد وضح تشبيه مثله بمثل الكلب، لا تشبيه مثله بالكلب؛ وهذه القصة تدل على(8/160)
أن من كانت نعم الله في حقه أكثر، كان بعده عن الله إذا أعرض عنه أعظم وأكبر.
ولما تقرر المثلان، وكان كل منهما منطبقاً على حالة كل مكذب، كانت النتيجة قوله: {ذلك} أي كل من المثلين {مثل القوم} أي الأقوياء ما يحاولونه {الذين كذبوا بآياتنا} أي في أن تركهم لها إنما هو بمجرد الهوى، لأن لها من الظهور والعظمة بنسبتها إلينا ما لا يخفي على من له أدنى بصيرة {فاقصص القصص} أي فأخبر الإخبار العظيم الذي تتبعت به مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم، وهو مصدر قص الشيء - إذا تبع أثره واستقصى في ذلك {لعلهم يتفكرون*} أي ليكون حالهم حال من يرجى تفكره في هذه الآيات، فيعلمون أنه لا يأتي بمثلها من غير معلم من الناس إلا نبي فيردهم ذلك إلى الصواب حذراً من مثل حال هذا.
ولما ظهر بهذا أن مثل الكلب الذي اكتسب من ممثوله من السوء والقذارة ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى مثل المكذبين بالآيات، أنتج ذلك قوله تأكيداً لذمهم وزجرهم: {ساء مثلاً القوم} أي مثل القوم {الذين كذبوا بآياتنا} أي فلو لم يكن عليهم درك في فعلهم أن لا تنزل هذا المثل عليهم لكان أعظم زاجراً له أدنى مروءة، لأنهم نزلوا عما(8/161)
لمن يتبعها من العظمة إلى ما ظهر بهذا المثل من الخسة، فكيف وهم يضرون أنفسهم بذلك ولا يضرون إلا إياها، وذلك معنى قوله: {وأنفسهم} أي خاصة {كانوا يظلمون*} أي كان ذلك في طبعهم جبلة لهم، لا يقدر غير الله على تغييره.
ولما كان ذلك محل عجب ممن يميل عن المنهج بعد إيضاحه هذا الإيضاح الشافي، قال جواباً لمن كأنه قال: فما لهم لا يؤمنون؟ مفصلاً لقوله {ولو شئنا لرفعناه بها} [الأعراف: 176] : {من يهد الله} أي يخلق الهداية في قلبه الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه {فهو المهتدي} أي لا غيره.
ولما كان في سياق الاستدلال على أن أكثر الخلق هالك بالفسق ونقض العهد، وحد {المهتدي} [الأعراف: 177] نظراً إلى لفظ {من} وجمع الضال نظراً إلى معناها فقال: {ومن يضلل فأولئك هم} أي البعداء البغضاء خاصة لا غيرهم {الخاسرون*} إذ لا فعل لغيره أصلاً، والآية من فذلكة ما مضى، وما أحسن ختمها بالخسران في وعظ من ترك الآخرة بإقباله على أرباح الدنيا وأعرضها الفانية، ثم تعقيبها بذرء جهنم الذين لا أخسر منهم.
ذكر قصة بلعام من التوراة - قال في السفر الرابع منها بعد أن ساق قتالهم لسيحون ملك الأمورانيين: وفرق المؤابيون من الشعب(8/162)
فرقاً شديداً لأنهم رأوه شعباً عظيماً، فاضطرب المؤابيون ورجفت قلوبهم خوفاً من بني إسرائيل، وقال ملك مؤاب لأشياخ مدين: اعلموا أن هذا الجمع يرتعي حرثنا، ولا يدع أحداً إلا أهلكه، ويرتعي كل من حولنا كما يرتعي الثور عشب الأرض، وكان ملك المؤابيين في ذلك الزمان بالاق بن صفور، فأرسل رسلاً إلى بلعام بن بعور العراف المعبر للأحلام الذي كان ينزل على شاطىء النهر قريباً من أرض بني عمون ليدعوه إليه فيستعين به: أخبرك أنه قد خرج شعب من أرض مصر، فغشى وجه الأرض كلها، وقد نزلوا جبالنا، فأطلب إليك أن تأتي وتلعن هذا الشعب لأنه أقوى وأعز منا، لعلنا نقدر أن نحاربه ونهلكه عن جديد الأرض، لأني عارف أن الذي تباركه هو مبارك، والذي تلعنه هو ملعون، وانطلق أشياخ مؤاب وأشياخ مدين ومعهم هدايا وجوائز، فأتوا بلعام فقالوا له قول بالاق، فقال لهم: بيتوا هاهنا ليلتكم هذه فأخبركم بما يقول الرب، فأقام أشراف مؤاب عند بلعام، فأتى ملك الله بلعام وقال له: من القوم الذين أتوك؟ قال بلعام للملاك: بالاق بن صفور ملك مؤاب أرسل إلي وقال: قد خرج شعب من أرض مصر فملأ وجه الأرض، فأقبل إلينا حتى تلعنه، لعلي أقدر أن أجاهده وأهلكه، وقال الملاك لبلعام: لا تنطلق مع القوم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك، فقال بلعام بكرة لعظماء(8/163)
بالاق: انطلقوا إلى صاحبكم، لأن الرب لم يحب أن يدعني أنطلق معكم، ونهض عظماء مؤاب فأتوا بالاق وقالوا له: لم يهو بلعام إتيانك معنا، فعاد بالاق أيضاً فأرسل رسلاً أعظم وأكرم من الأولين، فأتوا بلعام وقالوا له: هكذا يقول بالاق بن صفور: لا تمتنع أن تأتيني لأني سأعظمك وأكرمك جداً، وما قلت لي من شيء فعلت، وأقبل إلينا لتلعن لي - هذا الشعب، فرد بلعام على رسل بالاق قائلاً: لو أن بالاق أعطاني ملء بيته ذهباً وفضة لم أقدر أن أتعدى قول ربي وإلهي، ولا أحيد عن قول صغير ولا كبير من أقواله، فعرجوا أنتم أيضاً عندنا ليلتكم هذه حتى أنظر ما يخبروني ملاك الله من أمركم، فنزل وحي الله على بلعام ليلاً، وقال له: إن كان هؤلاء القوم إنما أتوك ليدعوك فقم فانطلق معهم، ولكن إياك أن تعمل إلا ما أقول فنهض بلعام بكرة وأسرج أتانه وانطلق مع عظماء مؤاب، فقال ملاك الرب في الطريق ليكون له لدداً، فرأت الأتان ملاك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه في يده، فحادت عن الطريق وسارت في الحرث، فضربها بلعام ليردها إلى الطريق، فقام ملاك الرب في طريق ضيق بين كرمين فرأت الأتانة ملك الرب فزحمت الحائط وضغطت رجل بلعام في(8/164)
الحائط، فعاد يضربها أيضاً، ثم عاد ملاك الرب وقام في موضع ضيق حيث ليس لها موضع تحيد منه يمنة ولا يسره، فبصرت بملاك الرب وربضت تحت بلعام، فاشتد غضب بلعام وضرب الأتان بالعصا، وفتح الرب فم الأتان وقالت لبلعام: ما الذي صنعت بك حتى ضربتني ثلاث مرات؟ قال بلعام: لأنك زريت بي، ولو أنه كان في يدي سيف كنت قد قتلتك الآن، فقالت: ألست أتانتك التي تركبني منذ صباك إلى اليوم؟ هل صنعت مثل هذا الصنع قط؟ قال لها: لا وجلّى الرب عن بصر بلعام فرأى ملك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه بيده، فجثا وخر على وجهه ساجداً، فقال له ملاك الرب: ما بالك ضربت أتانك ثلاث مرات أنا الذي خرجت لأكون لك لداداً، لأنك أخذت في طريق خلافاً لأمري، فلما رأتني الأتان حادت عني ثلاث مرات، ولو أنها لم تحد عني كنت قتلتك وأبقيت عليها، قال بلعام لملاك الرب: أسأت وأجرمت، لم أعلم أنك قائم بإزائي في الطريق، فالآن إن كان انطلاقي مما تكرهه رجعت، قال ملاك الرب لبلعام: انطلق مع القوم وإياك أن تفعل شيئاً إلا ما أقول لك! فانطلق بلعام، فسمع بالاق فخرج ليتلقاه وقال بالاق: لم تأتني؟ قال: قد أتيتك الآن، لعلك تظن أني أقدر أن أقول شيئاً إلا القول الذي(8/165)
يجريه الله على لساني به أنطق، فلما كان الغد عمد بالاق إلى بلعام وأصعده إلى بيت بعل الصنم، فرأى من هناك أقاصي منازل شعب إسرائيل، وقال بلعام لبالاق: ابني لي هاهنا سبعة مذابح، وهيىء لي سبعة ثيران وسبعة كباش، وفعل بالاق كما قال له بلعام، ورفع بالاق الكباش والثيران على المذبح قرباناً، وقال بلعام لبالاق: قم هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا، لعل الرب يوحي إليّ ما أهواه، وأنا مظهر لك ما يوحي به، فانطلق فظهر الله وألهمه قولاً وقال له: انطلق إلى بالاق وقل له هذا القول، فأتاه وهو قائم عند قرابينه وجميع قواد مؤاب معه، ورفع بلعام صوته بأمثاله وقال: ساقني بالاق ملك المؤابيين من أرام التي في المشرق، وقال لي: أقبل حتى تلعن يعقوب وتهلك آل إسرائيل، فكيف ألعنه ولم يلعنه الله، وكيف أهلكه والرب لا يريد هلاكه، رأيته من رؤوس الجبال، ونظرت إليه من فوق الآكام وإذا هو شعب وحده لا يعد مع الشعوب، ومن يقدر يحصي جميع عدد يعقوب، أو من يقدر يحصي عدد ربع بني إسرائيل، تموت نفسي موتاً ويكون آخري إلى آخرهم، قال بالاق لبلعام: دعوتك لتلعن أعدائي(8/166)
فإذا أنت تباركهم وتدعوا لهم، فرد بلعام قائلاً: الذي يلهمني الرب ويجري على لساني إياه أحفظ، وبه أنطق: قال له بالاق: مر معي إلى موضع آخر لنراهم من هناك، وإنما أسوقك لترى آخرهم ولا تراهم أجمعين، وانطلق به إلى حقل الربية وأقامه على رأس الأكمة، وابتنى هناك سبعى مذابح، وقرب عليها الثيران والكباش، قال بلعام: قف هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا الآن، فانظر ما الذي يقال؟ وتجلى الرب على بلعام وأجرى على فيه قولاً وقال له: انطلق إلى بالاق فأخبره بهذا القول، فأتاه وهو قائم عند قرابينه ومعه أشراف مؤاب، فرفع بلعام صوته بأمثاله وقال؛ انهض بالاق واسمع قولي وأصغ لشهادتي يا ابن صفور! اعلم أن الله ليس مثل الرجل يحلف ويكذب؛ إذا قال الرب قولاً فعله، وكلامه دائم إلى الأبد، ساقني لأعود وأبرك، ولا أرد البركة ولا أخالف ما أمرت به، لست أرى في آل يعقوب إثماً ولا غدراً عند بني إسرائيل ولا ظلماً، لأن الله ربه معه الله الذي أخرجهم من مصر بعزة وعظمة قوية، ولست أرى في آل يعقوب طيرة، ولا حساب نجوم أو عراف بين بني إسرائيل، كيف أقول والشعب قائم مثل الضرغام لا يربض حتى يفترس فريسته ويشرب دم القتل، فقال بالاق لبلعام: أطلب أن لا تلعنه ولا تدعوا له، فرد بلعام على بالاق قائلاً: ألست قلت لك: إني إنما أنطق بما يقول لي الرب، فقال(8/167)
بالاق: انطلق بنا إلى موضع آخر، لعل الله يرضى بغير هذا فتلعنه لي هناك، فأصعده إلى رأس فغور الذي بإزاء إستيمون، فأمره بمثل ما تقدم من الذبح والقربان، فرأى بلعام أن الرب يحب أن يدعو لبني إسرائيل، ولم ينطلق كما كان ينطلق في كل وقت ليطلب الوحي، ولكن أقبل بوجهه إلى البرية ومد بصره، فرأى بني إسرائيل نزولاً قبائل قبائل فحل عليه روح الله، ورفع صوته بأمثاله وقال: قل يا بلعام بن بعور، قل أيها الرجل الذي أجلى عن بصره، قل أيها الذي سمع قول الله ورأى رؤيا الله وهو ملقى وعيناه مفتوحتان، ما أحسن منزلك يا يعقوب ومنازلك يا إسرائيل! وخيمك كالأدوية الجارية، ومثل الفراديس التي على شاطىء النهر، ومثل الجنى الذي ركزه الله، ومثل شجر الأرز على شاطى النهر يخرج رجل من بينه وذريته أكثر من الماء الكثير، ويعظم على الملك، وذلك بقوة الله الذي أخرجهم من أرض مصر بغير توقف رثماً، يأكل خيرات الشعوب أعدائه ويكسر عظامهم ويقطع ظهوهم، رتع وربض كالأسد ومثل شبل الليث، ومن يقدر أن يبعثه، يبارك مباركوك ويلعن لاعنوك، فاشتد غضب بالاق على بلعام وصفق بيديه متلهفاً وقال: دعوتك للعن أعدائي، فماذا أنت تباركهم وتدعو لهم ثلاث مرات، انصرف الآن إلى بلادك، قد كنت(8/168)
عزمت على إكرامك وإجازتك فإذا الرب قد أحرمك ذلك، فرد بلعام على بالاق قائلاً: قد كنت قلت لرسلك الذين أرسلتهم إليّ أنه لو وهب لي بالاق ملء بيته من ذهب وفضة لم أقدر أتعدى عن قول الرب، ولكن إنما انطق ما يلهمني الرب، فأنا أنطلق الآن إلى أرضي، فأسمع ما أشير عليك وأخبرك ما يصنع هذا الشعب بشعبك آخر الأيام، ثم رفع صوته بأمثاله وقال: قل يا بلعام بن بعور قل أيها الرجل المجلى عن بصره! قل أيها الذي سمع قول الله وعلم علم العلي ورأى رؤيا الله إذ هو ملقى وعيناه مفتوحتان! فإني رأيته وإذا ليس ظهوره الآن وإن كان متدانفاً، ونظرت في أمره وإذا ليس بقريب، يشرق نجم من آل يعقوب، ويقوم رئيس من بني إسرائيل، ويهلك جبابرة من مؤاب ويبيد جميع بني شيث، وتثير أدوم ميراثه، وساعير وراثة أعدائه يصير له، ويستفيد بنو إسرائيل قوة بقوته - ونحو ذلك من الكلام الذي فيه ما يكون سبباً لا نسلاخه من الآيات، لكن ذكر المفسرون أنه أشار عليه باختلاط نساء بلاده ببني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن منهم ليزنوا بهن فيحل بهم الرجز، فوقع بهم ذلك، وهو الصواب لأنه ستأتي الإشارة إليه في التوارة عند فتح مدين بقوله: لماذا أبقيتم على الإثاث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته -(8/169)
وسيأتي ذلك قريباً، وما فيه من ذكر الوحي فهو محمول على المنام أو غير ذلك مما يليق؛ ثم قال: وقام بلعام ورجع منصرفاً إلى بلاده وبالاق أيضاً رجع إلى بيته، وسكن بنو إسرائيل شاطيم، وبدأ الشعب أن يسفح مع بنات مؤاب، ودعون الشعب إلى ذبائح آلهتهم، وأكل الشعب - من ذبائحهم وسجدوا لآلهتهم، وكمل بنو إسرائيل لعبادة بعليون الصنم، فاشتد غضب الله على بني إسرائيل، فقال الرب لموسى اعمد إلى جميع بني إسرائيل فافضحهم، فقال موسى: يقتل كل رجل منكم كل من أخطأ وسجد لبعليون، وإذا رجل من بني إسرائيل قد أتى بجرأة أمام إخوته من غير أن يستحي، فدخل على امرأة مدينية وموسى وبنو إسرائيل يبكون في باب قبة الآمد، فرآه فنحاس بن اليعازر بن هارون الحبر فنهض من الجماعة غضباً لله وأخذ بيده رمحاً ودخل إلى بيت الذي كانا فيه فطعنهما بالرمح فقتلهما، فكف الموت الفاشي عن بني إسرائيل، وكان عدد الذين ماتوا في الموت البغتة أربعة وعشرين ألفاً، وكلم الرب موسى وقال له: فنحاس صرف غضبي عن بين إسرائيل وغار غيرة لله بينهم وطهر بني إسرائيل، وكان اسم القتيل الذي قتل مع المدينية زمري ابن سلو، وكان رئيساً في قبيلة شمعون،(8/170)
وكانت المرأة المدينية كزبى بنت صور، وكان أبوها - من رؤساء أهل مدين، وقال بعض المفسرين: أنه خرج رافعاً الحربة إلى السماء، قد اعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاس من كل ذبيحة القبة والذراع واللحي والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنه كان بكراً لعيزار بن هارون.
ثم كلم الرب موسى وقال له: ضيق على أهل مدين وأهلكهم كما ضيقوا عليكم ولحسوكم، ثم قال: ثم كلم الرب موسى وقال له: إني لمنتقم من المدينيين ما صنعوا بين بني إسرائيل، ثم تقتص إلى شعبك، ثم قال موسى للشعب: يتسلح منكم قوم للحرب لينتقموا للرب من المدينيين، وليكونوا اثنى عشر ألفاً، فانتخب موسى من بني إسرائيل ألفاً من كل سبط، اثنى عشر أبطالاً متسلحين وأرسلهم، وصير قائدهم فنحاس بن اليعازر الحبر ومعه أوعية القدس وقرون ينفخ بها، وتقووا على مدين كما أمر الرب موسى وقتلوا كل ذكر فيها وقتلو ملوك مدين مع القتلى، وقتل بلعام بن بعور معهم في الحرب، وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وانتهبوا مواشيهم وسلبوا جميع دوابهم وأموالهم وأخربوا جميع قرى مساكنهم وأتو بما انتهبوه إلى موسى، وخرج(8/171)
موسى وجميع عظماء الجماعة فتلقوهم خارج العسكر، وغضب موسى على رؤساء الأحبار ورؤساء الألوف والمئين الذي أتوه من الحرب فقال لهم: لماذا أبقيتم على الإناث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته، وفتنوا وغدروا وتمردوا على الرب في أمر فغور - وفي نسخة السبعين: فإن هؤلاء كن شيئاً لبني إسرائيل لقوم بلعام أن يتباعدوا ويتهاونوا بكلمة الرب من أجل فغور - فواقعت السخطة جماعة الرب - وفي النسخة الأخرى: وتسلط الموت على جماعة الرب - بغتة، فاقتلوا الآن جميع الذكورة من الصبيان، وكل امرأة أدركت وعقلت وعرفت الرجال فاقتلوها، وأبقوا على جميع النساء اللواتي لم يعرفن الرجال وأما أنتم فانزلوا خارجاً عن العسكر سبعة أيام - إلى آخر ما مضى قريباً في الآصار.(8/172)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
ولما انقضت هذه القصص فأسفرت عن أن أكثر الخلق هالك، صرح بذلك فقال مقسماً لأنه لا يكاد يصدق أن الإنسان يكون - أضل من البهائم، عاطفاً على ما تقديره: هؤلاء الذين قصصنا عليكم أخباركم ذرأناهم لجهنم: {ولقد} وعزتنا وجلالنا {ذرأنا} أي خلقنا بعظمتنا وأنشأنا وبثثنا ونشرنا {لجهنم كثيراً} أي وألجأناهم(8/172)
إليها ولم يجعل بينهم وبينها حائلاً.
ولما كانوا يعظمون الجن ويخافونهم ويضلون بهم، بدأ بهم فقال: {من الجن} أي بنصبهم أنفسهم آلهة بإضلالهم الإنس في تزيين عبادتهم غير الله، فهم في الحقيقة المعبودون لا الحجارة، ونحوها {والإنس} أي بعبادتهم لمن لا يصلح، وعلم أن الآية صالحة لأن تكون معطوفة على الجملة التي قبلها فهي من فذلكة ما تقدم.
ولما كان كأنه قيل: ما لهم رضوا لأنفسهم بطريق جهنم؟ قيل: {لهم} ولما كان السياق للتفكر، بدأ بالقلوب فقال: {قلوب لا يفقهون بها} أي الفقه الذي كلفوا به، وهو النظر في أدلة التوحيد وثبوت النبوة وما تفرغ عن ذلك، وهو الفقه المسعد، عد غيره عدماً لأنه لم ينفعهم النفع المقصود في الحقيقة، وما أحسن التعبير بالفقه في السياق إقامه الأدلة التي منها إرسال الرسل وإنزال الكتب.
ولما كان البصر أعم من السمع، لأنه ينتفع به الصغير الذي لا يفهم القول، وكذا كل من في حكمه، قدمه فقال: {ولهم أعين} ولما لم يترتب عليهما الإبصار النافع في الآخرة الباقية، نفى إبصارهم وإن كانوا أحدّ الناس إبصاراً فقال: {لا يبصرون بها} أي الآيات المرئية إبصار تفكر واعتبار {ولهم آذان} ولما لم يترتب على سمعها ما ينفعهم، نفاه على نحو ما مضى فقال: {لا يسمعون بها} أي الآيات المسموعة وما(8/173)
يدل عليها سماع ادكار وافتكار، ولما سلبت عنهم هذه المعاني كانت النتيجة: {أولئك} أي البعداء من المعاني الإنسانية {كالأنعام} أي في عدم الفقه، ولما كانوا قد زادوا على ذلك تفقد نفع السمع والبصر قال: {بل هم أضل} لأنهم إما معاند وإما جاهل بما يضره وينفعه، والأنعام تهرب إذا سمعت صوتاً منكراً فرأت بعينها أنه يترتب عليه ضرها، وتنتظر ما ينفعها من الماء والمرعى فتقصده، والأنعام لا قدرة لها على ما يترتب على هذه المدارك من الفقه. وهؤلاء مع قدرتهم على ذلك أهملوه فنزلوا عن رتبتها درجة كما أن من طلب الكمال وسعى له سعيه مع نزاع الشهوات علا عن درجة الملائكة بما قاسى من الجهاد.
ولما تشاركوا الأنعام بهذه في الغفلة وزادوا عليها، أنتج ذلك قطعاً على طريق الحصر: {أولئك} أي البعداء البغضاء {هم} أي خاصة {الغافلون*} لا الأنعام، فإنها - وإن كانت غافلة عما يراد بها - غير خالدة في العذاب، فلم تشاركهم في العمى والصمم عما ينفعها ولا في الغفلة عن الخسارة الدائمة، فقد أشارت الآية إلى تفضيل الإنسان على الملك كما اقتضته سورة الزيتون، لأنه جعل في خلقه وسطاً بين الملك الذي هو عقل صرف والحيوان الذي هو شهوة مجردة، فإن غلب عقله كان أعلى بما عالجه من جهاد الشهوات فكان في
{أحسن تقويم} [التين: 5] وإن غلبت شهوته كان اسفل من الحيوان بما أضاع من عقله فكان {أسفل سافلين} [التين: 5] .(8/174)
ولما أنتج هذا أن لهم الأسماء السوأى ولمعبوداتهم أسوأ منها، عطف عليه دفعاً لوهم من يتوهم بالحكم بالضلال والذرء لجهنم ما لا يليق، وتنبيهاً على أن الموجب لدخول جهنم الغفلة عن ذكر الله ودعائه - قوله: {ولله} أي الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال وحده {الأسماء} ولما كان الاسم إذا لحظت فيه المناسبة كان بمعنى الصفة، أنث في قوله {الحسنى} أي كلها باتصافه دون غيره بصفات الكمال التي كل واحدة منها أحسن شيء وأجمله وتنزهه عن شوائب النقص وسمات الحدث، فكل أفعاله حكمة وإنما كان مختصاً بذلك لأن الأشياء غيره ممكنه لتغيرها، وكل ممكن محتاج وأدنى ما يحتاج إلى مرجح يرجح وجوده، وبذلك نعلم وجود المرجح ونعلم أن ترجيحه على سبيل الصحة والاختيار لا الوجوب، وإلا لدام العالم بدوامه، وبذلك ثبتت قدرته، وتكون أفعاله محمكه ثبت علمه فثبتت حياته وسمعه وبصره وكلامه وإرادته ووحدانيته، وإلا لوقع التنازع فوقع الخلل، فالعلم بصفاته العلى ليس في درجة واحدة بل مترتباً، وعلم بهذا أن الكمال له لذاته، وأما غيره فكماله به وهو بذاته غرق في بحر الفناء واقع في حضيض النقصان {فادعوه} أي فصفوه وسموه واسألوه {بها} لتنجوا من جهنم وتنالوا كل ما تحمد عاقبته، فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله أقبل على الدنيا وشهواتها فوقع في نار الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال(8/175)
في رغبة إلى رغبة حتى لا يبقى له مخلص، وإذا أقبل على الذكر تخلص عن نيران الآفات واستشعر بمعرفة الله حتى تخلص من رق الشهوات فيصير حراً فيسعد بجميع المرادات، وكثرة الأسماء لا تقدح في التوحيد بل تدل على عظيم المسمى {وذروا} أي اتركوا على حالة ذرية {الذين يلحدون} أي يميلون عما حد لهم بزيادة فيشبهوا أو نقص فيعطوا {في أسمائه} أي فيطلقونها على غيره بأن يسموه إلهاً، فيلزمهم أن يطلقوا عليه جميع أوصاف الإله. فقد ألحدوا في البعض بالفعل وفي الباقي باللزوم، أو بأن يسموه بما لم يأذن فيه، وما لم يأذن فيه تارة يكون مأذوناً فيه في الجملة كالضار فلا يجوز ذكره إلا مع النافع، وتارة لا، مثل إطلاق الأب عليه والجسم، وكذا كل ما أوهم نقصاً، فلم يكن أحسن، ولورود إطلاق بعض اشتقاقاته عليه مثل علم لا يجوز أن يقال لأجله: معلم، وكذا لحبهم لا يجوز لأجله أن يقال: ياخالق الديدان والقردة مثلاً، وكذا لا يجوز أن يذكر اسم لا يعرف الذاكر معناه ولو كان الناس يفهمون منه مدحاً كما يقول البعض البدو: يا أبيض الوجه! يا أبا المكارم! فإن ذلك كله إلحاد، وهذا الفعل يستعمل مجرداً فيقال: لحد في كذا وألحد فيه - بمعنى واحد، وهو العدول عن(8/176)
الحق والإدخال فيه ما ليس منه - نقله أبو حيان عن ابن السكيت؛ وقال الإمام أبو القاسم علي بن جعفر بن القطاع في كتاب الأفعال: لحد الميت لحداً وألحده: شق له القبر، وإلى الشيء وعنه وفي الدين: مال، وقرئ بهما كذلك.
ولما كان كأنه قيل: فما يفعل بمن ألحد؟ وكان المرهب إيقاع الجزاء، لا كونه من معين، قال بانياً للمفعول: {سيجزون} أي في الدنيا والآخرة بوعد لا خلف فيه {ما كانوا} أي بجبلاتهم {يعملون*} أي فيفعل بهم من أنواع الإهانة والعقوبة ما يوجب وصفهم بأقبح الأوصاف ضد ما كانوا يسمعونه في الدنيا ممن يدانيهم.
ولما أخبر تعالى عن ذرء جهنم من القبلتين، تشوف السامع إلى معرفة حال الباقين منهما، فقال مصرحاً بالخبر عنهم عاطفاً على {ولقد ذرأنا} [الأعراف: 179] مشيراً بمن التبعيضية إلى قتلهم تصديقاً لقوله {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} [الأعراف: 102] {وممن خلقنا} أي بما لنا من العظمة {أمة} أي جماعة عرفت من هو أهل لأن يؤم ويهتدى به فقصدته فاقتبست من أنواره فصارت هي أهلاً لأن تقصد ويؤتم بها.
ولما أفهم لفظ الأمه هذا صرح به في قوله: {يهدون بالحق} أي الثابت الذي يطابقه الواقع {وبه} أي الحق خاصة {يعدلون*}(8/177)
أي يجعلون الأمور متعادلة، لا زيادة في شيء منها على ما ينبغي ولا نقص، لأنا وفقناهم فكشفنا عن بصائرهم حجاب الغفلة التي ألزمناها أولئك، قال أكثر المفسرين: هم أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورواه بعضهم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبهم الأمر بعد تعيين قوم موسى عليه السلام تعظيماً لهم.
ولما بين حال الهادين المهديين، وكان أصل السياق الضالين المضلين، أتبعه بقية الحديث عنهم على وجه ملوح بأن علة الهداية التوفيق، فقال عاطفاً على تقديره: فنحن نعلي أمرهم ونطيب ذكرهم: {والذين كذبوا} أي نسبوا الرسل إلى الكذب بسبب إتيانهم {بآياتنا} على ما يشاهد من عظمتها {سنستدرجهم} أي نستنزلهم ونستدنيهم بوعد لا خلف فيه إلى ما نريد بهم من الشر العظيم درجة درجة بسبب أنهم كلما أحدثوا جريمة أسبغنا عليهم نعمة، وإذا عملوا طاعة قصرنا عنهم في الإنعام، أو ضربناهم بسوط الانتقام، فيظنون أن المعاصي سبب النعم فينسلخون من الدين، ولذلك قال: {من حيث لا يعلمون} أي فيرتكبون ما يتعجب من مداناته فضلاً عن مباشرته ومعاناته من له أدنى بصيرة حتى يكمل ما نريد منهم من المعاصي، وهو من أدلة {سأصرف عن آياتي} وأتى في الاستدراج بأداة العظمة وفي الإملاء بضمير الواحد فقال {وأملي لهم} أي أمهلهم(8/178)
بوعد جازم زماناً طويلاً وأمد لهم وهم يعصون حتى يظنون أن الله يحبهم حتى يزيدوا في ذلك لأنهم لا يفعلون شيئاً إلا بمرادي ولا يفوتوني ولم يأت بهما على نهج واحد، لأن الاستدراج يكون بواسطة وبغيرها، فكأنه قال: سأستدرجهم بنفسي من غير واسطة تارة وبمن أتيح لهم النعم على يده من عبيدي وجنودي أخرى، وأما الإملاء وهو تطويل الأجل - فلا يتصور أن يكون إلا من الله تعالى.
ولما كان هذا موجباً لهم - ولابد - الإصرار على المعاصي حتى يصلوا إلى ما حكم عليهم به من النار، قال مستأنفاً {إن كيدي} أي فعلي الذي ظاهرة رفعة وباطنه ضيعة - ظاهره إحسان وباطنه خذلان {متين*} أي شديد قوي لا يمكن أحداً قطعه، قال الإمام بعد تأويل للمعتزله حملهم عليه إيجابهم رعاية الأصلح: وأنا شديد التعجب من المعتزله، يرون القرآن كالبحر الذي لاساحل له مملوءاً من هذه الآيات، والدلائل العقلية القاهرة مطابقة لها، ثم يكتفون في تأويلها - أي عن أنه تعالى يريد الشر - بهذه الوجوه الضعيفة إلا أن علمي بما أراد الله كائن، مزيل هذا التعجب.
ولما كان السياق من أول السورة لإنذارهم، وكان لا بد في صحة الإنذار من تصحيح الرسالة، وختم بأمر الاستدراج، وكانوا قد واقعوا من المعاصي ما لا يجترىء عليه إلا مطموس البصيرة، وكان عندهم أن(8/179)
من قال: إنهم على حال سيىء، - مع ما هم فيه من النعم الظاهر - مجنون، وكان التقدير دلالة على صحة الاستدراج؛ ألم يروا أنهم يقدمون على ما لا يرضاه لنفسه عاقل من عبادتهم للحجر وشماختهم عن أكمل البشر ووصفه بالجنون ووصفهم أفضل الكلام بالسحر والكذب إلى غير ذلك مما يغضب من ليس النفع والضر إلا بيده، وهو مع ذلك يوالي عليهم النعم، ويدفع عنهم النقم، هل ذلك إلا استدراج؛ قال منكراً عليهم عطفاً على ما أرشد السياق والعطف على غير معطوف عليه إلى تقديره: {أولم يتفكروا} أي يعملوا أفكارهم ويمعنوا في ترتيب المقدمات ليعلموا أنه لا يتوجه لهم طعن يورث شبهة بوجه من الوجوه، وبين المراد من هذا التفكر وعينه بقوله: {ما بصاحبهم} أي الذي طالت خبرتهم لأنه أمتنهم عقلاً وأفضلهم شمائل ولم يقل: ما برسولي ونحوه، لئلا يقول متعنتهم مالا يخفى، وأعرق في النفي فقال: {من جنة} أي حالة من حالات الجنون.
ولما نفى أن يكون به شيء مما نسبوه إليه وافتزوه عليه فثبتت رسالته، حصر أمره في النذارة لأنها النافعة لهم مع أن المقام لها في هذه السورة فقال: {إن} أي ما {هو إلا نذير} أي بالغ في نذارته {مبين*} أي موضح للطريق إيضاحاً لا يصل إلى غيره، ومن أدلة ذلك عجز الخلق عن معارضة شيء مما يأتي به من أنه أحسن الناس(8/180)
خَلقاً وأعلاهم خُلقاً وأفضلهم عشرة وأرضاهم طريقة وأعدلهم سيرة وأطهرهم سريرة وأشرفهم عملاً وأحكمهم علماً وأرصنهم رأياً وأعظمهم عقلاً وأشدهم أمانة وأظهرهم نبلاً.(8/181)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعاً على تقرير أدلة التوحيد، وكان المقصود من الإنذار الرجوع عن الإلحاد، قال منكراً عليهم عدم النظر في دلائل التوحيد الراد عن كل حال سيىء: {أولم} ولما كان الأمر واضحاً قال: {ينظروا} أي نظر تأمل واعتبار، ودل على أنه بالبصيرة لا البصر بالصلة، فقال إشارة إلى كل ذرة فيها دلائل جمة {في ملكوت} وعظم الأمر بقوله: {السماوات والأرض} أي ملكهما البالغ من حد العظمة أمراً باهراً بظاهره الذي يعرفونه وباطنه الذي يلوح لهم ولا يدركونه.
ولما كانت أدلة التوحيد تفوت الحصر، ففي كل ذرة برهان قاهر ودليل ساطع باهر، قال؛ {وما} أي وفيما {خلق الله} أي على ما له من الجلال والجمال {من شيء} أي غيرهما، ليعلموا أنه لا يقدر على شيء من ذلك فضلاً عن ذلك غيره، ويتحققوا أن كتابه سبحانه مباين لجميع مخلوقاته فيعلموا أنه صفته سبحانه وكلامه، فلا يلحدوا في أسمائه فلا يسموا بشيء منها غيره لما ظهر لهم من تمام(8/181)
قدرته وتمام عجز غيره عن كل شيء ومن شمول علمه وتناهي جهل غيره بكل شيء إلى غير ذلك حتى يعلموا بعضامة هذا الكون أنه سبحانه عظيم، وبقهره لك شيء أنه قهار شديد، وبعجزه كل شيء عن كل شيء من أمره أنه عزيز، وبإسباغه النعمة أنه رحيم كريم إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العلى التي تنطق الأشياء بها بألسنة الأحوال وتتحدث بها صدور الكائنات وإن لم يكن لها مقال، ويشرحها كلام التدبير بما له من الكمال {وأن عسى} أي وينظروا في الإشفاق والخوف من أنه ممكن وخليق وجدير {أن يكون قد اقترب} أي دنا دنوّاً عظيماً {أجلهم} أي الذي لا شك عندهم في كونه بموته من موتات هذه الأمم التي أسلفنا أخبارهم كنفس واحدة أو بالتدريج فيبادروا بالإيمان به خشية انخرام الأجل للنجاة من أعظم الوجل، فإن كل عاقل إذا جوز خطراً ينبغي له أن ينظر في عاقبته ويجتهد في الخلاص منه.
ولما كان قد تقدم في أول السورة النهي عن التحرج من الإنذار بهذا الكتاب، وبان بهذه الآيات أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتصف بالإنذار به حق الاتصاف، وبان أن القرآن مباين لجميع المخلوقات، فثبت أنه كلام الله؛ تسبب عن ذلك الإنكار على من يتوقف عن الإيمان به،(8/182)
والتخويف من إحلال أجله قبل ذلك فيقع فيما لا يمكنه تداركه، وذلك في أسلوب دال على أن الإيمان بعد هذا البيان مما لا يسوغ التوقف فيه إلا لانتظار كلام آخر فقال: {فبأي حديث} أي كلام يتجدد له في كل واقعة بيان المخلص منها {بعده} أي بعد هذه الرتبة العظيمة {يؤمنون*} فقد دلت هذه الآية على أن للإيمان طريقين: أحدهما سمعي، والآخر عقلي، قال الحرالي في كتاب له في أصول الفقه: الحكم إنما يتلقى من خطاب الله البالغ على ألسنة رسله، وقد اتضح واشتهر أن السمع من طرق تفهم خطاب الله الذي تبلغه الرسل، وكذلك أيضاً قد تحقق لقوم من أولي الألباب أن الرؤية وسائر الحواس طريق من طرق تفهم خطاب الله أيضاً، يعي منه اللب العقلي معنى الإرسال في كتابه المخلوق كما يعي العقل معنى الإرسال من مفهوم كلامه المنطوق، وقوم ممن فهم من مرئي كتاب الله المشهود إرسالاً ولقن أحكاماً يسمون الحنيفيين كقس ابن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل، وقد شهد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن كل واحد منهم «يبعث أمه واحدة» لاهتدائه من نفسه من غير رسالة هاد خارج عنه، بل من رسول موجدته وإحساسه للعالم، ولأنه إنما أخذ بكلية حكم الإيمان ووجوب المناصفة مع الخلق من شهود خلق الله، وصار مع ذلك يترقب تأكيد ما يحصل له عقلاً من مسموع خطاب الله، وعلى نحو هذه الحال - وأتم هي - حال(8/183)
الأنبياء والصديقين قبل مورد الوحي على النبي وقبل سماع صديقه وارد وحيه، وهؤلاء هم - الذين لا يتوقفون عن الإيمان بالنبي عند ابتداء دعوته، وكما أن النبي لا يلزم ويحكم بل يبلغ عن الله فكذلك نظر العقل لا يلزم ولا يحكم بل يبلغ عن الله فيكون الحكم الذي هو تصرف الحق في أفعال الخلق بهذا على ضربين، شرعي أي مأخوذ من الإرسال الشرعي، وعقلي أي مأخوذ من الإرسال العقلي، وحاصل ذلك أن العالم المشهود مبين عن أمر الله، وكل مبين مبلغ، فالعلم مبلغ أي بما يفهمه الفاهم من كلامه عن الله، فإن النحاة قالوا - كما ذكره ابن عصفور في شرح الإيضاح لأبي علي وكذا غيره: إن الكلام في الإصطلاح لا يقع الإ على اللفظ المركب وجوداً أو تقديراً المفيد بالوضع، قال: واحترزوا باللفظ عما يقال له كلام لغة وليس بلفظ كالخط والإشارة وما في النفس وما يفهم من حال الشيء، وقال الحرالي: نحو حال الخجل والغضبان، وبالفعل نحو الإشارة باليد والعقد بالأنامل وبآثار الفعل كالصنائع والأعمال، وباللفظ الذي يلفظ به القلب إلى ظاهر اللسان، وبآثار رقوم يحاذي بها حذو مفهوم اللفظ وهو الخط - انتهى.
ولما كان ذلك كله من أعجب العجب، كانت فذلكته قطعاً تعليلاً لما قبله من إعراضهم عما لا ينبغي الإعراض عنه دليلاً على أن الأمر ليس إلا بيد منزله سبحانه قوله: {من يضلل الله} أي الذي له جميع العظمة {فلا هادي} أصلاً {له} بوجه من الوجوه؛ ولما دل بالإفراد(8/184)
على أن كل فرد في قبضته، وكان التقدير: بل يستمر على ضلاله، وعطف عليه بضمير الجمع دلالة علىأن جمعهم لا يغني من الله شيئاً فقال: {ويذرهم} أي يتركهم على حالة قبيحة، وعبر بالظرف إشارة إلى إحاطة حكمه بهم فقال: {في طغيانهم} أي تجاوزهم للحدود حال كونهم {يعمهون} أي يتحيرون ويترددون في الضلال لا يعرفونه طريقاً ولا يفهمون حجة.
ولما بين التوحيد والنبوة والقضاء والقدر، أتبعه المعاد لتكمل المطالب الأربعة التي هي أمهات مطالب القرآن، مبيناً ما اشتمل عليه هذا الكلام من تبلدهم في العمه وتلددهم في إشراك الشبه بقوله: {يسئلونك} أي مكررين لذلك {عن الساعة} أي عن وقتها سؤال استهزاء {أيان مرساها} أي أيّ وقت ثبات ثقلها واستقراره، والمرسى يكون مصدراً وزماناً ومكاناً، من رست السفينة - إذا ثبتت بالحديدة المتشعبة، وإنما كان هذا بياناً لعمههم فإنهم وقعوا بذلك في الضلال من وجهين: السؤال عما غيره لهم أهم، وجعله على طريق الاستهزاء مع ما قام عليه من الأدلة، وسيكرره في هذه السورة، وكان اللائق بهم أن يجعلوا بدل السؤال عنها اتقاءها بالأعمال الصالحة.
ولما كان السؤال عن الساعة عاماً ثم خاصاً بالسؤال عن وقتها، جاء الجواب عموماً عنها بقوله: {قل إنما علمها} أي علم وقت إرسائها وغيره(8/185)
{عند ربي} أي المحسن إليّ بإقامتها لينعم على تبعني وينتقم ممن تركني، لم يطلع على ذلك أحداً من خلقه، ولا يقيمها إلا في أحسن الأوقات وأنفعها لي، وإخفاؤها أنفع للخلق لأنه أعظم لشأنها وأهيب، فيكون أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية وأقرب إلى التوبة، ثم خصصت من حيث الوقت بقوله مشيراً إلى أن لها أشرطاً تتقدمها: {لا يجليها} أي يبينها غاية البيان {لوقتها إلا هو} .
ولما كان قد أشار إلى ثقل الساعة بالإرساء، وكان الشيء إذا جهل من بعض الوجوه أشكل وإذا أشكل ثقل، قال: {ثقلت} أي الساعة فغاصت إلى حيث لم يتغلغل إليها علم العباد فأهمهم كلهم عليّ شأنها، ولذلك عبر بالظرف فقال: {في السماوات والأرض} أي نسبة أهلهما إلى خفائها والخوف منها على حد سواء لأن مالكها قادر على ما يشاء، وله أن يفعل ما يشاء - ثم قرر خفاءها على الكل فقال: {لا تأتيكم} أي في حالة من الحالات {إلا بغتة} أي على حين غفلة.
ولما كانوا قد ألحفوا في سؤاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها، وكانت صفة الربوبية المذكورة في الجملة الأولى ربما حملت على سؤاله طمعاً في تعرفها من المحسن إليه، قطع الأطماع بقوله مؤكداً للمعنى: {يسئلونك} أي عن الساعة مطلقاً في وقت وقوعها وما يحصل من أمورها ويحدث من شدائدها، أي ويلحفون في سؤالك كلما أخبرتهم أنه لا يعلمها إلا الله(8/186)
{كأنك حفيٌّ} أي عالم بأمرها مستقص مبالغ في السؤال {عنها قل} أي قطعاً لسؤالهم {إنما علمها عند الله} أي الذي له جميع العزة والعظمة والكبرياء فلا يستطاع علم شيء مما عنده إلا بإذنه، ولم يأذن في علمها لأحد من الخلق {ولكن أكثر الناس} أي الذين غلبت عليهم صفة الاضطراب {لا يعلمون} أي ليسوا من أهل العلم فهم بالسؤال عنها يستهزئون، ولو كانوا من أهله ما كذبوك، فوقعوا ما لا يعنيهم من السؤال عنها وغيره من أنواع التعنت، وتركوا ما ينجيهم ويغنيهم من المبادرة إلى الإيمان بهذا القرآن خوف انخرام الآجال وهم يهيمون في أدوية الضلال.
ولما كان علم الغيب ملزوماً لجلب الخير ودفع الضير، وكانت الساعة أدق علم الغيب، أمره بنفي هذا اللازم فينتفي الأعم فينتفي بانتفائه الأخص، وقدم النفع لأنه أهم إلى النفس، وليس في السياق ما يوجب تأخيره بخلاف ما في سورة يونس عليه السلام، فقال آمراً بإظهار ذل العبودية: {قل لا أملك} أي في وقت من الأوقات أصلاً {لنفسي نفعاً} أي شيئاً من جلب النفع قليلاً ولا كثيراً {ولا ضراً} كذلك، فإن قدرتي قاصرة وعلمي قليل، وكل من كان عبداً كان كذلك.
ولما كان من المعلوم بل المشاهد أن كل حيوان يضر وينفع، أعلم أن ذلك إنما هو بالله فقال: {إلا ما شاء الله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد سواه أن يقدرني عليه.(8/187)
ولما بين لهم بهذا أن سؤالهم عن الساعة وغيرها من المغيبات جهل منهم، لأن حاله واضح في أنه لا يعلم من ذلك إلا ما علمه الله الذي اختص بعلم الغيب، دل عليه بقوله: {ولو كنت} أي من ذاتي {أعلم الغيب} أي جنسه {لا ستكثرت} أي أوجدت لنفسي كثيراً {من الخير} باستجلاب المنافع بنصب أسبابها.
ولما كان الضر لا يحتمل منه شيء قال: {وما مسني السوء} أي هذه الجنس بإقامة الموانع له عني لأن لازم إحاطة العلم شمول القدرة كما سيقرر إن شاء الله تعالى في سورة طه، ولما بين أن علم الغيب رتبة الإله، ختم الآيه ببيان رتبته، فقال قالباً ما أدعوه فيه من الجنون لما بان بقوله: «يا بني عبد مناف! اتقوا الله، يا بني فلان يا بني فلان» وكذا ما لزم عن إلزامهم له بعلم الساعة من أنه يكون إلهاً: {إن أنا إلا} ولما كانت السورة للإنذار، قدمه فقال: {نذير} أي مطلقاً للكافر ليرجع عن كفره، والمؤمن ليثبت على إيمانه {وبشير لقوم يؤمنون*} أي خاصة، أو الصفتان لهم خاصة بالنظر إلى النفع، وأما ما لا نفع فيه فعدم.(8/188)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
ولما ذكر سبحانه الساعة هنا كما ذكرها أول السورة بما لم يذكره(8/188)
هناك من تهكمهم واستهزائهم، وختم هنا بحصر العلم والقدرة في الله الموجب لتفرده بالإلهية، وكان الذي جرهم إلى ذلك الاستهزاء إشراكهم، ذكر ما ذكر قبلها أول السورة من ابتداء الخلق على وجه الحصر المستلزم لتمام القدرة الموجب لنفي الشريك واعتقاد القدرة على الساعة وغيرها والصدق في كل ما وقع الإخبار به من أمرها وغيره الموجب للاستقامة في قبول بشارته ونذارته والإقبال بالكلية على الخالق، فقال مقرراً للتوحيد مؤكداً لأمره: {هو} أي وحده {الذي خلقكم} أي ولم تكونوا شيئاً {من نفس واحدة} أي خلقها ابتداء من تراب وهي آدم عليه السلام - كما مر بيانه، ومن قدر على اختراع حي من شيء ليس له أصل في الحياة، كان على إعادته حياً من ذلك الشيء بعد أن صار له أصل في الحياة أقدر.
ولما كان آدم عليه السلام بعد صيرورته لحماً ودماً أقرب إلى السببية لخلق ذات لحم ودم منه، قال معبراً بالواو لأنه كاف في نفي الشرك الذي السياق للتحذير منه بخلاف الزمر فإنه للقهر، وتأخير المسببات عن الأسباب مدة أدل عليه لأنه خلاف الأصل، {وجعل} لأن الجعل - كما قال الحرالي - إظهار أمر عن سبب وتصيير {منها} أي لا من غيرها {زوجها} أي حواء من لحمها ودمها وعظمها.
ولما كان المراد بالنفس آدم عليه السلام وكان الزوج يقال على الذكر(8/189)
والأنثى، استخدم ضميره في المذكر ذاكراً علة الجعل بقوله: {ليسكن} أي آدم هو المراد بالنفس هنا، ولما كان الزوج هنا هو المرأة أنث الضمير فقال: {إليها} وتنقلكم من ذلك السكون منه إليها - لأن النفس إلى الجنس أميل وعليه أقبل، ولا سيما إن كان بعضاً، ألا ترى إلى محبة الوالد لولده والقريب لقريبه، وإنما منع سبحانه من نكاح الأصل والفرع لما في ذلك من الضرار وغيره من الحكم الكبار، فيغشاها عند ما يسكن إليها فيحصل الحبل والولادة فتتفرع النفوس من تلك النفس.
ولما كان السكون هنا كناية عن الجماع، أعاده بلفظ أقرب منه - فقال مؤذناً بقرب غشيانها بعد جعلها، أو ناسقاً له على ما تقديره: فسكن إليها فمالت نفسه إليها فلم يتمالك أن غشيها {فلما تغشّاها} أي غشيها آدم عليه السلام المعبر عنه بالنفس بهمة عظيمة {حملت حملاً خفيفاً} أي لأنه نطفة {فمرت به} أي فعالجت به أعمالها وقامت وقعدت، لم يعقها عن شيء من ذلك، إعلاماً بأن أمرها فيه كان على عادة النساء التي نعرفها {فلما أثقلت} أي صارت ثقيلة بكبره وتحركه في بطنها {دعوا الله} أي آدم وحواء عليهما السلام.
ولما ذكر الاسم الأعظم استحضاراً لأن المدعو هو الذي له جميع الكمال، فهو قادر على ما دعوا به لأنه قادر على كل ما يريد، ذكر صفة الإحسان رجاء القبول والامتنان فقال: {ربهما} أي الذي أحسن إليهما،(8/190)
مقسمين {لئن آتيتنا صالحاً} أي ولداً لا عيب فيه {لنكونن من الشاكرين*} أي نحن وأولادنا على نعمتك علينا، وذلك أنهما جوزا أن يكون غير سوى لقدرة الله على كل ما يريد، لأنه الفاعل المختار لا الطبيعة ولا غيرها، وأشار بالفاء إلى قرب الولادة من الدعاء فقال: {فلما آتاهما} أي أبويكم آدم وحواء {صالحاً} أي جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدناً وقوة وعقلاً، فكثروا في الأرض وانتشروا في نواحيها ذكوراً وإناثاً {جعلا} أي النوعان من أولادهما الذكور والإناث، لأن «صالحاً» صفة لولد وهو للجنس فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير، فكأنه قيل: فلما آتاهما أولاداً صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان {له شركاء} أي بعضهم أصناماً وبعضهم ناراً وبعضهم شمساً وبعضهم غير ذلك، هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة نافع وأبي بكر عن عاصم بكسر الشين وإسكان الراء والتنوين التقدير: ذوي شرك {فيما آتاهما} أي من القوى بالعبادة والرزق بالنذور ونحوها.
ولما لم يضر المشركون بالإشراك إلا أنفسهم، سبب عن ذلك قوله: {فتعالى الله} أي بما له من صفات الكمال التي ليست لغيره تعالياً كثيراً، والدليل على إرادة النوعين قوله: {عما يشركون*} بالجمع،(8/191)
وكذا ما بعده من عيب عبادة الأصنام.
ولما ذكر علوه سبحانه، شرع يذكر من أوصافه عبارة وإشارة ما يدل على ذلك، ويقيم الأدلة على عدم صلاحية ما أشركوا به للشركة بعجزها، بأنها من جملة خلقه ولا تصرف لها تستحق به وجهاً من التعظيم، فقال منكراً على عبادها دالاًّ على أن المراد الشرك الحقيقي، لاما ذكر من قصة إبليس في تسببه في التسمية بعبد الحارث ونحوه: {أيشركون} أي المشركون وأولادهما في العبادة {ما لا يخلق} أي من الأصنام والطبائع والكواكب وغيرها {شيئاً} أي يوجده من العدم كما يفعل الله الذي أشركوها به.
ولما كان يلزم أن يكون ما لا يخلق شيئاً مخلوقاً لأنه لا يتكون عاجزاً بغير قادر أوجده، صرح به في قوله مجرياً للأوثان مجرى أولي العلم لتنزيلهم منزلتهم في الاعتقاد والعبادة: {وهم} ولما كان المصنوع لا يكون صانعاً، اكتفى بالبناء للمفعول فقال: {يخلقون*} أي متجدداً خلق أعراضهم وذواتهم وأمثالهم {ولا يستطيعون لهم} أي للمشركين الذين يعبدونها {نصراً} وهو المعونة على العدو، ولعله عبر بصيغة العاقل إشارة إلى أنهم لو كانوا يعقلون، وكانوا بهذه الصفات الخسيسة ما أهلوهم لأن يكونوا أحبابهم فضلاً عن أن يجعلوهم أربابهم.(8/192)
ولما كان من لا ينصر غيره قد ينصر نفسه، نفي ذلك بقوله: {ولا أنفسهم ينصرون*} أي في وقت من الأوقات عند يصيبهم بسوء، بل عبدتهم يدافعون عنهم.
ولما تبين من هذا الاستفهام الإنكاري المعجب من حالهم في ضلالهم في أسلوب الغيبة أن من أشركوه ليس فيه نوع قابلية لما أهلوه، فإن المعبود يجب أن يكون قادراً، ومن كان عاجزاً نوع عجز كان مربوباً، وكان للتنبيه بالخطاب ما ليس له بالغيبة؛ أتبع ذلك في إسلوبه تعجيباً آخر منهم أشد من الأول، وذلك أن معبوداتهم التي أشركوا بها كما أنها لا تفعل شيئاً من تلقاء أنفسها، لا تفعله عند دعاء الداعي ولا تهتدي إليه فقال تعالى {وإن تدعوهم} أي وإن تدعوا أيها المشركون أصنامكم دعاء مستمراً متجدداً {إلى الهدى} أي إلى الذي يدل الداعي إليه قطعاً، على أن المتخلف عنه سيىء المزاح، محتاج إلى العلاج، لكونه تخلف عما لا يتخلف عنه من له نوع صلاح لكونه أشرف الأشياء، فالمتخلف عنه راض لنفسه بالدون {لا يتبعوكم} أي في ذلك الهدى الذي دعوتموهم إليه ولم بالغتم في الاستتباع، ولعله عبر بصيغة الافتعال إشارة إلى أنها لا يتصور منها قصد التبع فضلاً عن إيجاده، ثم بين أن ذلك ليس بأمر عارض، بل هو مستمر دائم بقوله مستأنفاً تأكيداً للمعنى: {سواء عليكم} .(8/193)
ولما كان السواء لا يكون إلا بين أمرين، تشوف السامع إليهما فقال؛ {أدعوتموهم} أي وجد منكم ذلك الدعاء الذي أشير إلى استمراره، وعبر بالاسمية إشارة إلى أنهم لا يدعونهم في وقت الشدائد، بل يدعون الله فقال: {أم أنتم صامتون*} أي عن ذلك على الدوام على عادتكم في الإعراض عن دعائهم في أوقات الملمات، فالذين يدعون معتقديهم في وقت الضرورات أقبح حالاً في ذلك من المشركين ويجوز أن تكون الآية من الاحتباك، فيكون نظمها: أدعوتموهم مرة أو أنتم داعوهم دائماً أم صَمَتُّمْ عن دعائهم في وقت ما أم أنتم صامتون دائماً عن دعائهم، حاكم في كل هذه الأجوبة سواء في عدم الإجابة، لا اختلاف فيه بوجه، دل بالفعل أولاً على حذف مثله ثانياً، وبالاسم ثانياً على حذف مثله أولاً.
ولما كان اتباع من يدعي أنه أعقل الناس وأبعدهم عن النقائص وأعرقهم في معالي الأخلاق وأرفعهم عن سفسافها لمن هذا سبيله أخزى الخزي وأقبح العار، وكانوا مع العلم بهذا الذي وصفت به - معبوداتهم يفعلون في الإشراك بهم وفي خوفهم ورجائهم ما هو عين الجهل؛ كرر تبكيتهم باتباعهم في أسلوب آخر أوضح مما قبله في تبيين النقائص والتنبيه على المعايب ملجىء إلى الاعتراف أو التصريح بالعناد أو الجنون فقال مؤكداً: {إن الذين تدعون} أي أيها المشركون دعاء(8/194)
عبادة ملازمين لذلك، أو أنه أطلق الدعاء على العبادة إشارة إلى أنه لا تصح عبادة من ليس فيه قابيلة أن يدعى، والحاصل أن الدعاء يلازم المعبود.
ولما كان دعاؤهم لهم إنما هو على سبيل الإشراك، قال مشيراً إلى سفول رتبتهم بإثبات الجار: {من دون الله} أي الذي له صفات الكمال والعظمه والجلال {عباد أمثالكم} أي في العجز عن كل شيء لا سيما عما وقع به التحدي من معارضة القرآن وغيرها، وأنتم تزيدون عليها بالحياة والعقل، والمعبود لا يصح أن يكون مثل العابد فكيف إذا كان دونه؛ ولما كانوا لا يسلمون أنهم أمثالهم، سبب عن ذلك أمرهم بدعائهم لبيان دعوى المثلية بل الدونية فقال: {فادعوهم} أي إلى شيء من الأشياء.
ولما كان الإله الحق يجيب وليه عند التحدي من غير تخلف، أشار إلى ذلك بالربط بالفاء فقال: {فليستجيبوا لكم} أي يوجدوا لكم إجابة بينة في الإتيان بسورة تماثل شيئاً من القرآن وفي شيء من المنافع.
ولما كان المقام محتاجاً إلى مزيد توبيخ وإلهاب، قدم منه ما رأيت، ثم زاد في الإلهاب فقال: {إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {صادقين*} أي في دعوى أنهم آلهة، فإن رتبة الإله تقتضي ذلك، وقرأ سعيد بن جبير {إن} خفيفة و {عباداً أمثالكم بنصب الدال واللام،(8/195)
واتفق المفسرون على تخريجها على أن «إن» هي النافية أعملت عما «ما» الحجازية، فرفعت الاسم ونصبت الخبر، وإعمالها هذا العمل فيه خلاف، أجازه الكسائي وأكثر الكوفيين، ومن البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني، ومنع منه الفراء وأكثر البصريين، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد، والصيحح أن إعمالها لغة ثبت ذلك في النظم والنثر - ذكر ذلك كله أبو حيان وذكر أنه أشبع الكلام فيه في شرح التسهيل، واعترض على هذا التخريج بأنه يلزم منه منافاتها للقراءة المشهورة، وإنما يسلم له ذلك لو توارد النفي والإثبات على شيء واحد، وليس الأمر هنا كذلك، فالإثبات لمماثلتها لهم في مطلق العجز، والنفي لمساواتها لهم فيه لزيادتهم عنها بالبطش ونحوه، أو يكون الأمر - كما قال الزمخشري - أن الإثبات على سبيل التنزل والنفي على الحقيقة.
ولما أثبت عجزهم وأنهم أمثالهم، دل عليه وعلى أنهم دونهم بأسلوب إنكار وتعجيب مفصلاً لبعض ما نفاه عنهم - فقال مقدماً الأرجل لأن أول ما يخشى من الشيء انتقاله: {ألهم أرجل} ولما كانت لهم جوارح مصنوعة، بين المراد بقوله: {يمشون بها} .
ولما كان المخشيّ بعد الانتقال مدّ اليد، قال: {أم لهم أيد} أي موصوفة بأنهم {يبطشون بها} أي نوعاً من البطش؛ ولما كان المخوف بعد البطش باليد البصر خوفاً من الدلالة قال: {أم لهم أعين}(8/196)
أي منعوتة بأنهم {يبصرون بها} أي ضرباً من الإبصار؛ ولما كان الإنسان ربما خاف مما يقصد ضره فتغيب عنه فلا يصل إليه بعد ذلك إلا بالسمع قال خاتماً: {أم لهم آذان} أي مقول فيها أنهم {يسمعون بها} أي شيئاً من السمع.
ولما سواها بهم ونفى عنهم ما تقدم، لزم نقصانها عنهم وأنه في الحقيقة مسلوب عنهم لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا العدم، والقدرة فيما يقدرون عليه إنما هي بيد الصانع لهم أشركهم معها، وقال دالاًّ على ذلك مستأنفاً: {قل} أي لهولاءالمشركين {ادعوا شركاءكم} أي هذه التي تقدمت ومهما شئتم غيرها، واستعينوا بها في عداوتي.
ولما كان هذا تحدياً عظيماً يحق لفاعله التمدح به، نبه عليه بآداة التراخي فقال: {ثم كيدون} أي جميعاً أنتم وهم وأنتم أكثر من حصى البطحاء ورمل الفضاء وأنا وحدي، ولما كان المعنى: وعجلوا، عطف بفاء السبب قوله: {فلا تنظرون*} أي تمهلون لحظة فما فوقها لئلا تعتلوا في الإنظار بعلة، وعلل عدم المبالاة بكيدهم بقوله دالاًّ على اتصاف معبوده بما نفاه عن شركائهم من الإحاطة بمنافع الدارين فيما يتعلق بالأديان والأبدان، وقدم الدين إشارة إلى أنه الأهم فقال مؤكداً في مقابلة إنكارهم: {إن وليّي} أي ناصري ومتولي جميع أموري {الله} أي الجامع لصفات الكمال {الذي نزل} أي بحسب التديج(8/197)
متكفلاً بفصل الوقائع {الكتاب} أي الجامع لعلوم الأولين والآخرين وأمر المعاش والمعاد وأحوال الدارين وكل ما فيه صلاح من أحوال القلوب وغيرها الذي عجزتم بأجمعكم ومن دعيتم شركته عن معارضة شيء منه.
ولما تكفل هذا التنزيل بجميع الصفات، وهي الحياة التامة المستلزمه للإرادة والقدرة والعلم والسمع والبصر والكلام، وكان عجزهم عن المعارضة للكتاب دليلاً شهودياً قولياً على كذبهم، أتبع ذلك دليلاً آخر شهودياً فعلياً فقال: {وهو} أي وحده {يتولى} أي يلي ولاية تامه {الصالحين*} أي كلهم بنصرهم على كل مناو وكفايتهم لكل مهم وقد علمتم ما قدمه في هذه السورة من وقائعه بمن كذب أنبياءه واستهزأ برسله وأنه أنجى كل من والاه، وأهلك جميع من عاداه كمن عدوهم آلهة، وهو وما بعده وما قبله متلفت إلى قوله تعالى {اتبعوا ما أنزل إليكم ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] بالشرح، وهو دال على أنه الذي فعل ما تقدم لأجل أوليائه بدليل أنه أعجزهم عن معارضة شيء من كتابه، وعن الوصول إلى جميع ما يريدون من أوليائه وأحبابه.(8/198)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
ولما صور بهذا جلاله، وقرر عظمته وكماله، باتصافه بجميع الصفات العلى التي منها القدرة التي تكفهم عنه؛ كرر التنفير عن أندادهم في أسلوب آخر تأكيداً للمعنى السابق بزيادة بالغة في العجز وهو تصويب(8/198)
النظر من غير إبصار، مع أن الأول للتقريع، وهذا الفرق بين من يعبد بحق ومن يعبد بباطل ليرجعوا عن غيهم وعنادهم، فقال مبيناً أنهم ليسوا في شيء من صفاته مصرحاً بنفي النصرة التي أثبتها له عنهم مع المواجهة بالخطاب الذي هو أفظع في الجواب: {والذين تدعون} أي تديمون دعاءهم {من دونه} - فإنهم يدعونه سبحانه في بعض الأوقات - أوتدعونهم تاركين له {لا يستطيعون نصركم} أي بوجه من وجوه النصرة بدليل عجزكم عني وأنا وحدي وأنتم أهل الأرض {ولا أنفسهم ينصرون*} بدليل أن الكلب يبول عليهم فلا يمنعونه.
ولما كان دعاء الجماعة أقرب إلى السماع من دعاء الواحد، نسق على ما قبله قوله: {وإن تدعوهم} أي يا من هم أضل منهم وأعجز {إلى الهدى} أي إلى الذي هو أشرف الخلال ليهتدوا في نصر أنفسهم أو غير ذلك {لا يسمعوا} أي شيئاً من ذلك الدعاء ولا غيره؛ ولما كان حالهم في البصر بالنسبة إلى كل أحد على حد سواء، قال مفرداً للمخاطب: {وتراهم} أي أيها الناظر إليهم {ينظرون إليك} أي كأنهم ينظرون لما صنعوا لهم من الأعين {وهم لا يبصرون*} أي نوعاً من الإبصار، وما أشبه مضمون هذه الآيات بما في سفر أنبياء بني إسرائيل في نبوة أشعياً: هكذا يقول الرب ملك إسرائيل ومخلصه: أنا الأول وأنا الآخر، وليس إله غيري. ومن مثلي يدعي ويظهر قوته ويخبر بما كان(8/199)
منذ بسطت الدنيا إلى الأبد، والآيات القديمة تظهر للشعوب، فلا يفزعون ولا يخافون، ألم أسمعكم منذ أول الدهر وأظهرها لكم وأبين لكم الأمور وأنتم شهدائي أن ليس إله غيري، وليس عزيز منيع إلا وأنا أعز منه، لأن جميع الصناع الذين يعملون الأصنام إنما عملهم باطل وليس في أعمالهم منفعة، وأن الصناع الذين يعملونها هم يشهدون عليها أنها لا تبصر ولا تسمع ولا تعلم، لذلك يخزي جميع صناع الأوثان المسبوكة لأن جميع ما صنعوا لا عقل له، فيجمعون كلهم ويخزون ويفتضحون لأن النجار نحت بحديده وهيأ صنماً بمنقاره وسدده بقوة ساعده وجاع وعطش في عمله. والنجار اختار خشبة وقدرها وألصق بعضها ببعض بالغراء وركبها وعملها كشبه الإنسان، أقام من الخشب الذي قطع من الغيضة كشبه رجل الذي نبت من شرب المطر ليصير للناس للوقود فعملوه لهم إلهاً وعبدوه وسجدوا له، الذي ينصفه خبزوا لهم خبزاً وشووا لهم لحماً على جمرة وأكلوا وشربوا واصطلوا وقالوا: قد حمينا لأنا قد أوقدنا ناراً واصطلينا، والذي بقي منه اتخذوه إلهاً منحوتاً وسجدوا له وصلوا وقالوا: نجّنا لأنك إلهنا.
ولم يخطر على بالهم فكر أن يقولوا: إنا قد أوقدنا نصفه بالنار، وخبزنا خبزنا وشوينا على جمره اللحم وأكلنا، ولم يعلموا أن باقيه عمل منه صنم وسجدوا له، لأن قلوبهم متمرغة في رماده، وضلت عقولهم فلا يقدرون ينجون أنفسهم ولا يقولون: إن أيادينا عملت الباطل(8/200)
واتخذت الكذب، ثم قال: أليس أنا الرب منذ أول، وليس إله غيري ولا مخلص سواي، ادنوا إليّ يا جميع الذين في أقطار الأرض لتنجوا لأني أنا الرب وليس إله غيري، حلفت بيميني وأخرجت كلمة صدق ولست أرجع عنها لأنه لي تنحني كل ركبة، وبي يحلف كل إنسان ويقول: إنما البر بالرب، وإليه تدنو الأعزاء ويخزى جميع المبغضين، وبي يمتدح ويتبرر، بمن شبهتموني؟ وإلى من نسبتموني؟ بالضالين الذين أخرجوا الذهب من أكياسهم ووزنوا الفضة بالميزان واكتروا الصناع حتى عملوا لهم آلهة يسجدون لها ويحملونها على أكتافهم ويمشون بها ثم يصلون لها ويدعونها لا تجيبهم ولا تخلصهم من شدائدهم ثم يحملونها أيضاً ويردونها إلى مواضعها، اذكروا هذه الأشياء واعقلوا أيها الأثمة واخطروها على قلوبكم وتذكروا الأيام التي كانت من الابتداء، إني أنا الله الخالق وليس إله غيري ولا مثلي، فأنا أظهر العتيدات وأخبر بالذي يكون قبل أن يكون، وأثبت رأيي وأكمل إراداتي وهواي، وأدعو من في المشارق فيأتون أسرع من الطير، وأتاني الرجل الذي قد عمل مسرتي من الأرض البعيدة، لأني أنا إذا تكلمت بشيء فعلته. أنا خلقت وأنا أخلق؛ وفي الزبور في المزمور الثالث عشر بعد المائه: إلهنا في الأرض، كل ما يشاء يصنع، أوثان الأمم ذهب وفضة عمل أيدي(8/201)
البشر، لها أفواه ولا تتكلم، لها أعين ولا تنظر، لها آذان ولا تسمع، وآناف ولا تشم، وأيد ولا تلمس، وأرجل ولا تمشي، ولا صوت بحناجرها ولا روح في أفواهها، فليكن صانعوها مثلها وجميع من يتوكل عليها - انتهى.
ولما كان محصل أمرهم الإعراض عما أتاهم بالتكذيب والإقبال على ما لم يأتهم بالطلب والتعنت كالسؤال عن الساعة، والأمر بالمنكر من الشرك وما يلزم منه من مساوي الأخلاق، والنهي عن المعروف الذي هو التوحيد وما يتبعه من محاسن الشرع، وذلك هو الجهل، وختم ذلك بالإخبار بأنه سبحانه أصلح له الدين بالكتاب، والدنيا بالحفظ من كل ما ينتاب، وكان حالهم ربما كان موئساً من فلاحهم، مفتراً عن دعائهم إلى صلاحهم، كان الداعي لهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه قال: فما أصنع في أمرهم؟ فأجابه بالتحذير من مثل حالهم والأمر بضد قالهم وفعالهم والإبلاغ في الرفق بهم فقال: {خذ العفو} أي ما أتاك من الله والناس بلا جهد ومشقه، وهذا المادة تدور على السهولة، وتارة تكون من الكثرة وتارة من القلة، فعفا المال، أي كثر، فصار يسهل إخراجه ويسمح به لزيادته عن الحاجة، وعفا المنزل، أي درس، فسهل أمره حتى صار لا يلتفت إليه.(8/202)
ولما أمره بذلك في نفسه، أمره به في غيره فقال:؛ {وأمر بالعرف} أي بكل ما عرفه الشرع وأجازه، فإنه من العفو سهولة وشرفاً، وقد تضمن ذلك النهي عن المنكر فأغنى بذلك عن ذكره لأن السياق للمساهلة؛ ولما أمره بالفعل في نفسه وغيره، أتبعه الترك فقال: {وأعرض عن الجاهلين*} أي فلان تكافئهم بخفتهم وسفههم ولا تمارهم فإن ذلك أسهل من غيره، وذلك بعد فضيحتهم بالدعاء، وذلك - لأن محط حالهم اتباع الهوى فيدعوهم إلى تكلف ضد هذه الخصال، وفيه إشارة إلى النهي عن أن يذهب نفسه عليهم حسرات مبالغة في الشفقة عليهم، وعن جعفر الصادق أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.
ولما كان الشيطان بعداوته لبني آدم مجتهداً في التنفير من هذه المحاسن والترغيب في أضدادها، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نزع منه حظ الشيطان بطرح تلك العلقة السوداء من قبله إذ شق جبرائيل عليه السلام صدره وغسل قلبه وقال: هذا حظ الشيطان منك؛ شرع لأمته ما يعصمهم منه عند نزغه مخاطباً له بذلك ليكون أدعى لهم إلى القبول وأجدر باشتداد الخوف المقتضي للفرار المثمر للنجاة، لأنهم إذا علموا(8/203)
قصد الشيطان لمن نزع منه حظه وعصم من كل محنة علموا أنه لهم أشد قصداً وأعظم كيداً وصداً، فقال مؤكداً بأنواع التأكيد إشارة إلى شدة قصد الشيطان للفتنة وإفراطه في ذلك، ليبالغ في الحذر منه وإن كان قصده بذلك في محل الإنكار لعلمه بالعصمة - لذلك عبر بأداة الشك إشارة إلى ضعف كيده للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن الله تعالى أعانه على قرينه فأسلم: {وإما} أي إن، وأكدت ب {ما} إثباتاً للمعنى ونفياً لضده {ينزغنك} أي ينخسنك نخساً عظيماً {من الشيطان نزغ} أي نخس بوسوسته من شأنه أن يزعج فيسوق إلى خلاف ما تقدم من المحاسن في نحو غضب من جهل الجاهل وسفه السفيه أو إفراط في بعض أوجه كما تساق الدابة بما تنخس به، فيفسر ويجعل النخس ناخساً إشارة إلى شدته {فاستعذ} أي فأوجد أو اطلب العوذ وهو الاعتصام {بالله} أي الذي له جميع العز والعظمة والقدرة والقهر لا نقطاعك عن الإخوان والأنصار إليه فلا ولي لك ولا ناصر إلا هو، فإنه إذا أراد إعاذتك ذكرك من عزيز نعمه وشديد نقمه ما يريد عن الفساد رغباً ورهباً، والآية ناظرة إلى قوله تعالى أولها {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16] .
ولما أبطل تعالى أن يكون لشركائهم سمع أو علم، صار إثبات ذلك(8/204)
له كافياً في اختصاصه به من غير حاجة إلى الحصر المتضمن لنفيه عن غيره لتقدمه صريحاً بخلاف ما في فصلت، فقال معللاً: {إنه سميع} أي بالغ السمع فهو يسمع استعاذتك فيجيبك إن شاء {عليم*} شامل العلم بما تريد ويريد منك عدوك، فلا يعجزه شيء، وختم بصفة العلم في الموضعين لأن الوسوسة من باب ما يعلم، وختمها في سورة المؤمن بالبصير المشتق من البصر والبصيرة، لأن المستعاذ منه أمر الناس ومنه ما يبصر.
ولما كان لا يحصل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا شيء خفيف جداً كما نبه عليه بالنزغ، وهو ليس بمحقق كما نبهت عليه أداة الشك، وكان لا يستعيذ بالله إلا المتقون فكان كأنه قيل: افعل ذلك عند أول نزغه لتكون من المتقين، علله بقوله: {إن الذين اتقوا} أي حصل لهم هذا الوصف، وحقق أذاه لهم بأداة التحقيق - بخلاف ما مضى عند إفراد الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: {إذا مسهم طائف} أي طواف على أنه مصدر، ويجوز أن يكون تخفيف طيّف كميت وهو بمعنى قراءة طائف على أنه فاعل كميت ومائت، ويجوز أن يكون مصدراً أيضاً، وهو إشارة إلى أن الشيطان دائر حولهم لا يفارقهم، فتارة يؤثر فيهم طوافه فيكون قد مسهم مساً هو أكبر من النزغ لكونه أطاف بهم من جميع الجوانب، وتارة لا يؤثر {من الشيطان} أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة {تذكروا} أي كلفوا أنفسهم ذكر الله بجميع ما ينفعهم في ذلك إقداماً وإحجاماً.(8/205)
ولما كانوا بإسراع التذكر كأنهم لم يمسهم شيء من أمره، أشاره إلى ذلك بالجملة الاسمية مؤكداً لسرعة البصر بإذا الفجائية: {فإذا هم} أي بنور ضمائرهم {مبصرون *} أي ثابت إبصارهم فلا يتابعون الشيطان، فإن المتقي من يشتهي فينتهي، ويبصر فيقصر، وفي ذلك تنبيه على أن من تمادى مع الشيطان عمي لأنه ظالم، والظالم هو من يكون كأنه في الظلام.(8/206)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
ولما وصف المتقون الذين هم العلماء ملوحاً إلى نصح وليهم لهم، وعرف من حالهم أنهم أعداء الشيطان، وعرف أن أضدادهم أولياؤه؛ أتبعه وصف الجاهلين وغش أوليائهم لهم والكل غير متقين، فقال: {وإخوانهم} أي وإخوان الجاهلين من شياطين الأنس والجن {يمدونهم} أي يمدون الجاهلين، من المد وهو الإمهال والإطالة على قراءة الجماعة، وهو بمعنى قراءة أهل المدينة بالضم من الإمداد، وقال الواحدي: إن هذا أكثر ما يأتي فيما يحمد كأمددناهم بفاكهة، فهو من استعمال الشيء في ضده نحو {فبشرهم بعذاب} ، وكأنه يشير إلى أن الشيطان أكثر ما يأتي الإنسان في صورة الناصح الشفيق، والأوجه أن يكون الإخوان الجاهلين لأنهم في مقابلة {الذين اتقوا} ويكون الضمير للشيطان المراد به الجنس، أي وإخوان الشياطين - وهم الجاهلون الذين لا يتقون - يمدهم أولياؤهم من الشياطين {في الغي} وهو ضد(8/206)
الرشاد، وأشار إلى مزيد اعتنائهم بالإغواء ومثابرتهم على الإضلال والإغراء بأداة التراخي فقال: {ثم لا يقصرون*} أي لا يتركون إغواءهم ولو لحظة لجهلهم وشرهم.
ولما تقرر ما شرعه من التعفف وعدم التنطع والتكلف، وكان قد أخبر أن من عمههم تكلفهم السؤال عن الساعة، والشياطين لا يفترون عن إغوائهم، أخبره عن مطلق تكلفهم تعجباً منهم وإشهاداً لتماديهم مع إغواء شياطينهم، وأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يجيبهم به فقال عاطفاً على {يمدونهم} : {وإذا لم تأتهم بآية} أي على حسب اقتراحهم {قالوا لولا} أي هلا {اجتبيتها} والجبي: الجمع، والإجباء تركه، والاجتباء: الجد في الجمع، ويلزم منه الاصطفاء والاختبار، فمعنى اجتبيتها اجتلبتها، أي تكلفت من عند نفسك الإتيان بها مختاره.
ولما كان المقام داعياً إلى السؤال في تعليم الجواب، أسعف ذلك بقوله: {قل} أي إذا قالوا ذلك {إنما أتبع} أي أتعمد وأتكلف اتباع {ما يوحي إليّ} أي يأتيني به الملك {من ربي} أي المحسن إليّ بتعليمي ما ينفعني، لا أني آتي بشيء من عند نفسي ولا أقترح على ربي.
ولما حصر حاله في اتباع الوحي كان كأنه قيل: ما هذا الذي(8/207)
يوحي إليك؟ فقال - ويجوز أن يكون تعليلاً لاتباعه لأنه كاف في إثبات نبوته مغنٍ عن الآيات المقترحه قاهر في وجوب اتباعه -: {هذا} مشيراً إلى ما يوحى إليه تنبيهاً على أنه يجب أن يكون مستحضراً في سائر الأذهان، حاضراً بين عيني كل إنسان {بصائر} أي أشياء هي - على حسب ما طلبتم - مجتباة، بل هي خيار الخيار، يكون بها نور القلب فيصير للعيون أيضاً بصر يقربه مما يحث الكتاب على نظره من الآيات المرئيات إلى علوم لم تكن لها قبل ذلك، وهي حجج بينة قاهرة على تصديقي وقبول كل ما جئت به، وسماه بذلك لأنه سبب لبصر العقول بدلائل التوحيد والنبوة والمعاد وجميع الشريعة أصولاً وفروعاً، فهو تسمية للسبب باسم المسبب، وعليّ مدحها بقولة: {من ربكم} أي الذي لم يقطع إحسانه عنكم أصلاً، فهو جدير بأن يتلقي ما أتى منه بكل جميل.
ولما كانت البصائر جمعاً، وكانت العادة جارية بأن مفردات الجمع تكون متفاوتة، أكدها بما يشير إلى أنها خارقة للعادة في أنها على حد سواء في أعلى طبقات الهداية فقال: {وهدى} أي بيان؛ ولما كان البيان قد لا يكون على وجه الإكرام، قال: {ورحمة} أي إكرام.(8/208)
ولما كان من لا ينتفع بالشيء يصح أن ينفي عن الشيء النافع النفع بالنسبة إليه، قال: {لقوم يؤمنون*} أي يوجدون هذه الحقيقة ويستمرون على تجديدها في كل وقت، وأما غيرهم فقد يكون عليهم عذاباً.
ولما عظم الله شأن القرآن، فكان التقدير: فآمنوا به تفلحوا، عطف عليه قوله: {وإذا قرىء القرآن} أي وهو هذا الذي يوحى إليّ، فتأدبوا وتواضعوا لأنه صفة ربكم {فاستمعوا له} أي ألقوا إليه أسماعكم مجتهدين في عدم شاغل يشغلكم عن السمع.
ولما كان بعض الفهماء يسمع وهو يتكلم، أشار إلى أن هذا الكتاب أعلى قدراً من أن يناله من يشتغل عنه بأدنى شغل فقال: {وأنصتوا} أي للتأمل والتدبر لتنجلي قلوبكم فتعلموا حقيقته فتعلموا بما فيه ولا يكون في صدوركم حرج منه؛ ولما كان ظاهر الآية وجوب الإنصات لكل قارىء على كل أحد، رغب فيه تعظيماً لشأنه فقال: {لعلكم ترحمون*} أي لتكونوا على رجاء من أن يكرمكم ربكم ويفعل بكم كل ما يفعله الراحم مع المرحوم.
ولما تقدم الأمر بالذكر عند نزغ الشيطان، ومر إلى أن أمر بالاستماع لأعظم الذكر، وكان التالي ربما بالغ في الجهر ليكثر سامعه، وربما أسر لئلا يوجب على غيره الإصغاء، علمهم أدب القراءة،(8/209)
وأطلق ذلك في كل حال لأنه ربما فهم فاهم الاقتصار على ذكر في حالة النزغ، ورقي الخطاب منهم إلى إمامهم ليكون أدعى لقبولهم مع الإشارة إلى أنه لا يكاد يقوم بهذا الأمر حق قيامه غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {واذكر} أي بكل ذكر من القرآن وغيره - {ربك} أي الذي بلغ الغاية في الإحسان إليك {في نفسك} أي ذكراً يكون راسخاً فيك مظروفاً لك لفهمك لمعانيه وتخلقك بما فيه، وليكن سراً لأن ذلك أقرب إلى الإخلاص وأعون على التفكر، وكونه سراً دال على أشرف الأحوال، وهو المراقبة مع تحقق القرب، فإذا كان كذلك أثمر قوله: {تضرعاً} أي حال كونك ذا تضرع بالظاهر {وخيفة} أي لتدعو المخافة إلى تذلل قبلك لتجمع بين تضرع السر والعلن، وبهذا يكمل ذل العبودية لعز الربوبية.
ولما أمر بالسر، قال مقابلاً له: {ودون الجهر} أي لأنه أدخل في الإخلاص، ومن المعلوم أنه فوق السر، وإلا لم تفد الجملة شيئاً، ولما كان الجهر قد يكون في الأفعال، أكده بقوله: {من القول} أي فإن ذلك يشعر بالتذلل والخضوع من غير صياح كما يناجي الملوك ويستجلب منهم الرغائب، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابة وقد جهروا بالدعاء فوق المقدار
«إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً» فإن(8/210)
المقصود حصول الذكر اللساني ليعين الذكر القلبي، والمقصود حاصل بإسماع النفس فإنه يتأثر الخيال فيتقوى الذكر القلبي، ولا تزال الأنوار تتزايد فينعكس تراجع بعضها إلى بعض حتى يزداد الترقي من ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام.
ولما أمر بالذكر مكيفاً بكيفيته اللائقة به، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمداومة عليه ذاكراً أحسن الأوقات له وأحقها به، لكونها لما فيها من الشغل - أدل على إيثارة لمزيد المحبة والتعظيم فقال: {بالغدو} أي أوقات البكر، ولعله أفرده على جعله مصدر غداً، لأنه ما ثم إلا صلاة الصبح، وجمع ما بعده للعصرين والمغرب فقال: {والآصال} أي أوقات العشاء، وقيل: الغدو وجمع غدوة، فيراد حينئذ مع الصبح الضحى، وآخر كل نهار متصل بأول ليلة اليوم الثاني فسمي آخر اليوم أصيلاً لأنه يتصل بما هو أصل اليوم الثاني، وخص هذين الوقتين وإن كان المراد الدوام بتسمية كل من اليوم والليل باسم جزئه، ليذكر بالغدو الانتشار من الموت، وبالأصيل السكون بالموت والرجوع إلى حال العدم فيستحضر بذلك جلال الله عز وجل فيكون ذلك حاوياً على تعظيمه حق تعظيمه.
ولما كان ربما أوهم هذا الخصوص بهذين الوقتين وإن ظاهراً في(8/211)
الدوام، قال مصرحاً: {ولا تكن من الغافلين*} أي في وقت غيرهما، بل كن ذاكره في كل وقت على كل حال؛ ثم علل الأمر بالمراقبة الدالة على أعظم الخضوع بأنها وظيفة المقربين فقال: {إن الذين} وزاد ترغيباً في ذلك بقوله: {عند ربك} أي المحسن إليك بتقريبك من جنابه وجعلك أكرم أحبابه، وهم الملائكة الكرام أولو العصمة، والقرب دنو مكانة لا مكان {لا يستكبرون} أي لا يوجدون ولا يطلبون الكبر {عن عبادته} أي الخضوع له والتلبس بانحاء التذلل مع مزيد قربهم وغاية طهارتهم وحبهم {ويسبحونه} أي ينزهونه عن كل مالا يليق مع خلوصهم عن دواعي الشهوات والحظوظ.
ولما كان هذا يرجع إلى المعارف، وقدمه دلالة على أنه الأصل في العبادة أعمال القلوب، أردفه بقوله: {وله} أي وحده {يسجدون} أي يخضعون بإثباتهم له كل كمال، وبالمباشرة لمحاسن الأعمال، وقد تضمنت الآية الإخبار عن الملائكة الأبرار بثلاثة أخبار: عدم الاستكبار الذي هو أجل أنواع العبادة إذ هو الحامل على الطاعة كما أن ضده حامل على المعصية، والتسبيح الذي هو التنزيه عن كل مالا يليق، وتخصيصه بالسجود، ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار، وكانت على قسمين: قلبية وجسمانية، أشار إلى القلبية بالتنزيه، وإلى الجسمانية بالسجود، وهو الحال الذي يكون العبد به عند ربه كالملائكة قرباً وزلفى «(8/212)
أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» نبه عليه أبو حيان على أن العبادتين مرجعهما القلب، وإحداهما مدلول عليها بالقول والأخرى بالفعل، وقد رجع آخر السورة في الأمر باتباع القرآن إلى أولها أحسن رجوع، ولوصف المقربين بعدم الاستكبار والمواظبة على وظائف الخضوع إلى وصف إبليس بعصيان أمر الله في السجود لآدم عليه السلام على طريق الاستكبار أيّ التفات، بل شرع في رد المقطع على المطلع حين أتم قصص الأنبياء، فقوله
{ولقد ذرأنا} [الأعراف: 179] هو قوله {والذي خبث لا يخرج إلا نكداً} [الأعراف: 58] يتضح لك ذلك إذا راجعت ما قدمته في المراد منها {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180] هو - {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} و {ممن خلقنا أمة يهدون بالحق} [الأعراف: 180]- هو {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة} [الأعراف: 42] {والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها} [الأعراف: 36] {وإن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} [الأعراف: 185] هو {إذا جاء أجلهم لا يستأخرون} [الأعراف: 34] و {يسئلونك عن الساعة} [النازعات: 42] هو {كما بدأكم تعودون} [الأعراف: 29] و {لكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [الأعراف: 24] و {هو الذي خلقكم من نفس واحدة} [الأعراف: 189] {لقد خلقناكم ثم صورناكم} [الأعراف: 11] {إنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي} [الأعراف: 203]- إلى آخرها بعد التنفير من الأنداد - هو كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه - إلى قوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون} [ٍالأعراف: 3] فسبحان من هذا كلامه، وتعالى حجابه وعز مرامه، وعلى من أنزل عليه صلاته وسلامه، وتحيته وإكرامه.(8/213)
وتسمى الجهاد (بسم الله) أي الذي له جميع الحول والقوة والطول (الرحمن) الذي أحاط دائرة العقل بشموس الأدلة من كل منقول (الرحيم) الذي منّ على من شاء من الأتباع؛ ومقصد هذه السورة تبرؤ العباد من الحول والقوة، وحثهم على التسليم لأمر الله المثمر لاجتماع الكلمة المثمر لنصر الدين وإذلال المفسدين المنتج لكل خير، والجامع لذلك كله أنه لما ثبت بالسور الماضية وجوب اتباع أمر الإله والاجتماع عليه لما ثبت من تفرده واقتداره، كان مقصود هذه إيجاب اتباع الداعي إليه بغاية الإذغان والتسليم والرضى والتبرؤ من كل حول وقوة إلى من انعم بذلك ولو شاء سلبه وأدل ما فيها على هذا قصة الأنفال التي اختلفوا في امرها وتنازعوا قسمها فمنعهم الله منها وكف عنهم حظوظ الأنفس وألزمهم الإخبات والتواضع، وأعطاها نبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لأنه الذي هزمهم بما رمى من الخصبات التي خرق الله فيها العادة بأن بثها في أعين جميعهم وبما أرسل من جنوده، فكأن الأمر له وحده، يمنحه من يشاء، ثم لما صار له النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ،(8/214)
رده فيهم منة منه عليهم وإحساناً إليهم، واسمها الجهاد كذلك لأن الكفار دائماً أضعاف المسلمين، وما جاهد قوم من أهل الإسلام قط إلا أكثر منهم، وتجب مصابرة الضعف، فلو كان النظر إلى غير قوته سبحانه ماأطيق ذلك، ولهذه المقاصد سنت قراءتها في الجهاد لتنشيط المؤمنين للجلاد، وإن كثرت من الأعادي الجموع والأعداد، وتوالت إليهم زمر الأمداد من سائر العباد، كما ذكره الحافظ أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي المغربي في فتوح البلاد من كتابه الاكتفاء في سيرة المصطفى وأصحابه الثلاثة الخلفاء، وكذا شيخةالخطيب أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن حبيش في كتابه الذي جمعه في الفتوح، قالا وقعه اليرموك من فتوح الشام عن حديث سيف بن عمر وهذا لفظ ابن سالم: قال: وكان القارئ يوم ذاك المقداد، قالوا: ومن السنة التي سن رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بعد بدر أن نقرأ سورة الجهاد عند اللقاء، وهي سورة الأنفال، ولم يزل الناس بعد على ذلك؛ قالا في وقعه القادسية من فتوح فارس واللفظ لابن سالم أيضاً قالوا: ولما صلى سعد - يعني ابن أبي وقاص - رضي الله عنه الظهر أمر غلاماً كان عمر رضي الله عنه ألزمه إياه وكان من القراء يقرأ سورة الجهاد، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها فقرأها على الكتبية التي تليه، وقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها، قال مصعب بن سعيد: وكانت قراءتها سنة يقرأها رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عند الزخرف ويستقرئها، فعمل(8/215)
الناس بذلك - انتهى.
ومناسبتها للأعراف انه لما ذكر تعالى - كما تقدم - قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم في تلك، ناسب أن يذكر قصة هذا النبي الكريم صلى عليه وسلم مع قومه، وتقدم أنه لما أطنب سبحانه في قصة موسى عليه السلام كان ذلك ربما أوهم تفضيله على الجميع، فأتى بقصة المخاطب بهذا القرىن في سورتين كاملتين، الأنفال في أول أمره وأثانه، وبراءة في ختام أمره وانتهائه، وفرق بين القصتين، وذلك أن قوم مةوسى عليه السلام كانوا في سوء العذاب، وكانوا يعلمون عن اسلافهم أن الله سيذكرهم وينجيهم من أيدي القبط، فلما أتاهم موسى عليه السلام وبين لهم الآيات التي أمره الله بها لم يشكوا في انه الموعود به من رحمة الله لهم، وإتيانه نفع لهم عاجل مع ما فيه من النفع الآجل، فأطبقوا على أتباعه، وكانوا أكثر من ستمائة الف مقاتل، ومع ذلك فقد كانوا يخالفون عليه في كل قليل، ولا يجدون قلوباً يواجهون بها القبط في الإباء عن امتثال أوامرهم، وأما محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فاتى قومه ولا حس عندهم من نبوة ولا علم لهم بها، ولم يكونوا تحت ذل أحد، بل كانوا ملوك العرب، فعندهم أنه جاء يسلبهم عزهم ويصيرهم له تبعاً فخالفوا اشد المخالفة ولم يدعوا كيداً حتى باشروه في رده عما جاء به، ومع ذلك فنصره الله عليهم ولم يزل يؤيده حتى دخل الناس هم وغيرهم في دين الله افواجاً، واظهر دينه على الدين كله كماوعده سبحانه، ثم أيد أمره من بعده ولم يزل اتباعه ظاهرين ولا يزالون إلى يوم الدين،(8/216)
فبين القصتين فرقان لأولى الإبصار والإتقان، وأما مناسبة أولها لآخر تلك فقد تبين أن آخر الأعراف آخر قصة موسى عليه السلام المختتمة بقصة بلعام وأن ما بعد ذلك إنما هو تتمات لما تقدم لا بد منها وتتمات للتتمات حتى كان آخر ذلك مدح من أهلهم لعنديته سبحانه بالإذعان وتمام الخضوع، فلما أضيفوا إلى تلك الحضرة العالية، اقتضى ذلك سؤالاً عن حال الذين عند المخاطب (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فأجيب(8/217)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
بقوله تعالى: {يسألونك} أي الذين عند ربك هم الذين هزموا الكفار في الحقيقة كما علمتم ذلك - وسيأتي بيانه، فهم المستحقون للأنفال وليس لهم إليها التفات وإنما همهم العبادة، والذين عندك إنما جعلتهم آلة ظاهرة ومع ذلك فهم يسألون {عن الأنفال} التي توليتهم إياها بأيدي جنودي سؤال منازعة ينبغي الاستعاذة بالله منها - كما نبه عليه آخر الأعراف - لأن ذلك يفضي إلى افتراق الكلمة والضعف عن مقاومة الأعداد، وهو جمع نفل - بالتحريك، وهو ما يعطاه الغازي زيادة على سهمه، والمراد بها هنا الغنيمة، وهي المال المأخوذ من أهل الحرب قهراً، سميت هنا بذلك لأن أصلها في اللغة الزيادة، وقد فضل المسلمون بها على سائر الأمم.
ولما كان السؤال عن حكمها، كان كأنه قيل: فماذا يفعل؟ فقال(8/217)
دالاًّ على أنهم سألوا عن مصرفها وحكمها - ليطابق الجواب السؤال: {قل} أي لهم في جواب سؤالهم {الأنفال لله} أي الذي ليس النصر إلا من عنده لما له من صفات الكمال {والرسول} أي الذي كان جازماً بأمر الله مسلماً لقضائه ماضياً فيما أرسله به غير متخوف من مخالطة الردى بمواقعة العدى؛ قال أبو حيان: ولا خلاف أن الآية نزلت في يوم بدر وغنائمه، وقال ابن زيد: لا نسخ، إنما أخبر أن الغنائم لله من حيث إنها ملكه ورزقه، وللرسول عليه السلام من حيث هو مبين لحكم الله والصادع فيها بأمره ليقع التسليم من الناس، وحكم القسمة نازل خلال ذلك - انتهى.
ولما أخبر سبحانه أنه لا شيء لهم فيها إلا عن أمر الله ورسوله، وكان ذلك موحباً لتوقفهم إلى بروز أمره سبحانه على لسانه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت التقوى موجبة للوقوف خوفاً حتى يأتي الدليل الذي يجسّر على المشي وراءه، سبب عن ذلك قوله: {فاتقوا الله} أي خافوا خوفاً عظيماً في جميع أحوالكم من الذي لا عظمة لغيره ولا أمر لسواه، فلا تطلبوا شيئاً بغير أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تتخاصموا، فإن الله تعالى الذي رحمكم بإرسال رسول لنجاتكم وإنزال كتاب لعصمتكم غير مهمل ما يصلحكم، فهو يعطيكم ما سبق في علمه الحكم بأنه(8/218)
لكم، ويمنعكم ما ليس لكم {وأصلحوا ذات بينكم} أي الحال التي هي صاحبة افتراقكم واجتماعكم، فإن أغلب أمرها البين الذي هو القطيعة، وقد أشرفت على الفساد بطلب كل فريق الأثرة على صاحبه فأقبلوا على رعايتها بالتسليم لأمر الله ورسوله الأمرين بالإعراض عن الدنيا ليقسمها بينكم على سواء، القوي والضعيف سواء، فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، لتجتمع كلمتكم فيشتد أمركم ويقوى أزركم فتقدروا على إقامة الدين وقمع المفسدين {وأطيعوا الله} أي الذي له جميع العظمة {ورسوله} أي الذي عظمته من عظمته في كل ما يأمرانكم به من تنفيل لمن يراه وإنفاذ شرط ووفاء عهد لمن عاهده.
ولما أمر ونهى هيج وألهب فقال مبيناً كون الإيمان مستلزماً للطاعة: {إن كنتم مؤمنين*} أي صادقين في دعوى الإيمان، فليس كل من يدعي شيئاً يكون صادقاً في دعواه حتى يحصل البيان بالامتحان، ولذلك وصل به قوله مؤكداً غاية التأكيد لأن التخلص من الأعراض الدنيوية عسر: {إنما المؤمنون} أي الراسخون في وصف الإيمان {الذين} أي يقيمون الدليل على دعوى الإيمان بتصديق أفعالهم لأقوالهم فيكونون {إذا ذكر الله} أي الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال مجرد ذكر في نحو قوله {الأنفال لله} {وجلت} أي خافت خوفاً عظيماً يتخلل صميم عظامهم ويجول في سائر معانيهم وأجسامهم {قلوبهم} أي(8/219)
بمجرد ذكره استعظاماً له {وإذا تليت} أي قرئت على سبيل الموالاة والاتصال من ايّ تال كان {عليهم آياته} أي كما يأتي في إقامة الأدلة على ذلك الحكم الذي ورد ذكره فيه {زادتهم إيماناً} أي بإيمانهم بها وبما حصل لهم من نور القلب وطمأنينة اليقين بسببها، فإنها هي الدالة على الله بما تبين من عظيم أفعاله ونعوت جلاله وجماله، وتظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه، وكمال قدرة الله تعالى إنما يعرف بواسطة آثار حكمته في مخلوقاته، وذلك بحر لا ساحل له، ولما كانت المراتب لا نهاية لها، كانت مراتب التجلي والمعرفة لا نهاية لها، فالزيادة في أشخاص التصديق {وعلى} أي والحال أنهم على {ربهم} أي الدائم الإحسان إليهم وحده {يتوكلون} أي يجددون إسناد أمورهم إليه مهما وسوس لهم الشيطان بالفقر أو غيره ليكفيهم من حيث لا يحتسبون، فإن خزائنه واسعة، ويده سحاء الليل والنهار، كما أنهم لما توكلوا عليه في القتال نصرهم وقد كانوا في غاية الخوف من الخذلان، وكان حالهم جديراً بذلك لقلقهم وخوفهم وقتلهم وضعفهم.
ولما وصفهم بالإيمان الحامل على الطاعة والتوكل الجامع لهم الدافع للمانع منها، منتقلاً من عمل الباطن إلى عمل الظاهر مبيناً أن همتهم إنما هي العبادة والمكارم: {الذين يقيمون الصلاة} أي يفترون عن تجديد ذلك؛ ولما كانت صلة بين الخلق والخالق، أتبعها الوصلة بين(8/220)
الخلائق فقال: {ومما رزقناهم} أي على عظمتنا وهو لنا دونهم {ينفقون*} ولو كانوا مقلين اعتماداً على ما عندنا فالإنفاق وإهانة الدنيا همتهم، لا الحرص عليها، فحينئذ يكونون كالذين عند ربك في التحلي بالعبادة والتخلي من الدنيا إعراضاً وزهادة، وهو تذكير بوصف المتقين المذكور أول الكتاب بقوله: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} .(8/221)
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
ولما حققوا إيمانهم بأفعال القلوب والجوارح والأموال، فاستوفوا بذلك جميع شعب الدين، عظم سبحانه شأنهم بقوله: {أولئك} أي العالو الهمم {هم} أي خاصة {المؤمنون} وأكد مضمون الجملة بقوله: {حقاً} .
ولما كانت صفاتهم الخمس المذكورة المشتملة على الأخلاق والأعمال لها تأثيرات في تصفية القلوب وتنويرها بالمعارف الإلهية، وكلما كان المؤثر أقوى كانت التأثيرات أعلى، فلما كانت هي درجات كان جزاؤها كذلك، فلهذا قال سبحانه تعالى في جواب من كأنه قال: فما جزاؤهم على ذلك؟ {لهم درجات} ولما كثرها بجمع السلامة بما دل عليه سياق الامتنان، عظمها بقوله: {عند ربهم} أي بتسليمهم لأمره.
ولما كان قدر الله عظيماً، وكان الإنسان عن بلوغ ما يجب عليه من ذلك ضعيفاً حقيراً، وكان بأدنى شيء من أعماله يستفزه الإعجاب، أشار سبحانه إلى أنه لا يسعه إلا العفو ولو بذل فوق الجهد فقال:(8/221)
{ومغفرة} أي لذنوبهم إن رجعوا عن المنازعة في الأنفال وغيرها، {ورزق كريم*} أي لا ضيق فيه ولا كدر بوجه ما من منازعة ولا غيرها، فهو يغنيهم عن هذه الأنفال، ويملأ أيديهم من الأموال من عنائم فارس والروم وغير ذلك، هذا في الدنيا، واما في الآخرة فما لا يحيط به الوصف؛ قال أبو حيان: لما تقدمت ثلاث صفات قلبية وهي الوجل وزيادة الإيمان والتوكل - وبدنية ومالية، ترتب عليها ثلاثة أشياء، فقوبلت الأعمال القلبية بالدرجات والبدنية بالغفران، وقوبلت المالية بالرزق الكريم، وهذا النوع من المقابلة من بديع علم البديع - انتهى. ولما كان الإيمان عند الشافعي رحمه الله الاعتقاد والإقرار والعمل جوز أن يقال: مؤمن إن شاء الله، لأن استيفاء الأعمال مشكوك فيه وإن كان الاعتقاد والإقرار يقيناً، وعند أبي حنيفة رحمه الله الإيمان الاعتقاد والإقرار فقط، فلم يجوز الاستثناء، فالخلاف لفظي، هذا إذا كان الاستثناء للشك، وإن كان لغيره كان لكسر النفس عن التمدح، وللشهادة بالجنة التي هي للمؤمن، وللحكم على حالة الموت، على أن هذه الكلمة لا تنافي الجزم، فهي بمجرد التبرك كقوله تعالى {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} [الفتح: 27] ذكر ذلك الإمام فخر الدين.
ولما كان ترك الدنيا شديداً على النفس، وترك النزاع بعد الانتساب فيه أشد، شرع يذكر لهم ما كانوا له كارهين ففعله بهم(8/222)
وأمرهم به لعلمه بالعواقب فحمدوا أثره، ليكون ادعى لتسليمهم لأمره وازدجارهم بزجره، فشبه حال كراهتهم لترك مرادهم في الأنفال بحال كراهتهم لخروجهم معه ثم بحال كراهتهم للقاء الجيش دون العير، ثم إنهم رأوا أحسن العاقبة في كلا الأمرين فقال: {كما} أي حالهم في كراهية تسليم الأنفال - مع كون التسليم هو الحق والأولى لهم - كما كانت حالهم إذ {أخرجك ربك} أي المحسن إليك بالإشارد إلى جميع مقاصد الخير {من بيتك بالحق} أي الأمر الفيصل الفارق بين الثابت والمزلزل {وإن} أي والحال أن {فريقاً} عبر به لأن آراءهم كانت تؤول إلى الفرقة {من المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان {لكارهون*} ثم ذكر دليل كراهتهم فقال: {يجادلونك} أي يكررون ذلك إرادة أن يفتلوك عن اللقاء للجيش إلى الرجوع عنه.
ولما كان الجيش امراً قد حتمه الله فلا بد من وقوعه مع أنه يرضيه، قال: {في الحق} أي الذي هو إيثار الجهاد {بعد ما تبين} أي وضح وضوحاً عظيماً سهلاً من غير كلفة نظر بقرائن الأحوال بفوات العير وتيسير أمر النفير وبإعلام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم تارة صريحاً وتارة تلويحاً كقوله «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، هذا مصرع فلان وذلك مصرع فلان» .
ولما كان سبحانه قد حكم باللقاء والنصرة تأييداً لوليه وإعلاء لكلمته مع شدة كراهتهم لذلك، شبه سوقه لهم إلى مراده.(8/223)
فقال بانياً للمفعول لأن المكروه إليهم السوق لا كونه من معين: {كأنما يساقون} أي يسوقهم سائق لا قدرة لهم على ممانعته {إلى الموت وهم ينظرون*} لأنها كانت أول غزوة غزاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان فيها لقاء، وكانوا غير متأهبين للقتال غاية التأهب، إنما خرجوا للقاء العير، هذا مع أنهم عدد يسير، وعدد أهل النفير كثير، وكانوا في غاية الهيبة للقائهم والرعب من قتالهم، وكل هذا تذكير لهم بأنه لم ينصرهم إلا الله بلا صنع منهم، بل كانوا في يد قدرته كالآلة في يد أحدهم، لينتج ذلك أنه ليس لهم أن ينازعوا في الأنفال.
ولما لانوا بهذا الخطاب، وأقبلوا على الملك التواب، أقبل عليهم فقال: {وإذ} أي اذكروا هذا الذي ذكره الله لكم وقد كان حالكم فيه ما ذكره، ثم أفضى إلى سعادة عظيمة وعز لا يشبهه عز، واذكروا إذ {يعدكم الله} أي الجامع لصفات الكمال {إحدى الطائفتين} : العير أو النفير، وأبدل من الإحدى - ليكون الوعد بها مكرراً - قوله: {أنها لكم} أي فتكرهون لقاء ذات الشوكة {وتودون} أي والحال أنكم تحبون محبة عظيمة {أن غير ذات الشوكة} أي السلاح والقتال والكفاح الذي به تعرف الأبطال ويميز بين الرجال من ذوات الحجال {تكون لكم} أي العير لكونها لم يكن فيها إلا ناس قليل، يقال: إنهم أربعون رجلاً، جهلاً منكم بالعواقب، ثم تبين لكم أن ما فعله الله خير لكم بما لا يبلغ كنهه، فسلموا له الأمر في السر والجهر(8/224)
تنالوا الغنى والنصر، وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير العاصمي في مناسبة تعقيب الأعراف بهذه السورة ومناسبة آخر تلك لأول هذه ما نصه: لما قصَّ سبحانه على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سوة الأعراف أخبار الأمم، وقطع المؤمنون من مجموع ذلك بأنه لا يكون الهدى إلا بسابقة السعادة، لافتتاح السورة من ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام، وكلاهما كفر على علم ولم ينفعه ما قد كان حصل عليه، ونبه تعالى عباده على الباب الذي أتى منه على بلعام بقوله سبحانه ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فأشار سبحانه إلى أن اتباع الأهواء أضل كل ضلال، نبهوا على ما فيه الحزم من ترك الأهواء جملة فقال تعالى
{يسألونك عن الأنفال} [الأنفال: 1] الآية، فكان قد قيل لهم: اتركوا ما ترون أنه حق واجب لكم، وفوضوا في أمره لله وللرسول، فذلك أسلم لكم وأحزم في ردع أغراضكم وقمع شهواتكم وترك أمور ربكم وقد ألف في هذه الشريعة السمحة البيضاء حسم الذرائع كثيراً وإقامة مظنة الشيء مقامه كتحريم الجرعة من الخمر والقطرة، والخطبة في العدة واعتداد النوم الثقيل ناقضاً، فهذه مظان لم يقع الحكم فيها على ما هو لأنفسها ولا بما هي كذا، بل بما هي مظان ودواع لما منع لعينه(8/225)
أو استوجب حكماً لعينه وعلته الخاصة به، ولما أمر المسلمون بحل أيديهم عن الأنفال يوم بدر إذ كان المقاتلة قد هموا بأخذها وحدثوا أنفسهم بالأنفراد بها ورأوا أنها من حقهم وأن من لم يباشر قتالاً من الشيوخ ومن انحاز منه لمهم فلا حق له فيها، ورأى الآخرون أيضاً أن حقهم فيها ثابت لأنهم كانوا فيه للمقاتلين عدة وملجأ وراء ظهورهم، كان ما أمرهم الله به من تسليم الحكم في ذلك إلى الله رسوله من باب حسم الذرائع لأن تمشية أغراضهم في ذلك - وإن تعلق كل من الفريقين بحجة - مظنة لرئاسة النفوس واستسهال اتباع الأهواء، فأمرهم الله بالتنزه عن ذلك والتفويض الله ولرسوله فإن ذلك أسلم لهم وأوفى لدينهم وأبقى في إصلاح ذات البين وأجدى في الأتباع {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} [الأنفال: 1] الآية، ثم ذكروا بما ينبغي لهم يلتزموا فقال تعالى {إنما المؤمنون} [الأنفال: 2]- إلى قوله: {زادتهم إيماناً} [الأنفال: 2] ثم نبهوا على أن أعراض الدنيا من نفل أو غيره لا ينبغي للمؤمن أن يعتمد عليه اعتماداً يدخل عليه ضراراً من الشرك أو التفاتاً إلى غير الله سبحانه بقوله: {وعلى ربهم يتوكلون} ثم ذكروا بما وصف به المتقين من الصلاة والإنفاق ثم قال {أولئك هم المؤمنون حقاً} تنبيهاً على أن من قصر في هذه الأحوال ولم يأت بها على كمالها لم يخرج عن الإيمان ولكن ينزل عن درجة الكمال بحسب تقصيره، وكان في هذا إشعار بعذرهم في كلامهم في الأنفال وأنهم قد كانوا في مطلبهم على حالة من الصواب وشرب من(8/226)
التمسك والأتباع، ولكن أعلى الدرجات ما بين لهم ومنحوه، وأنه الكمال والفوز، ثم نبههم سبحانه بكيفية أمرهم في الخروج إلى بدر وودهم أن غير ذات الشوكة تكون لهم وهو سبحانه يريهم حسن العاقبة فيما اختاره لهم، فقد كانوا تمنوا لقاء العير، واختاروا ذلك على لقاء العدو ولم يعلموا ما وراء ذلك
{ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} [الأنفال: 7] إلى ما قصه تعالى عليهم من اكتنافهم برحمته وشمول ألطافه وآلائه وبسط نفوسهم ونبههم على ما يثبت يقينهم ويزيد في إيمانهم، ثم أعلم أن الخير كله في التقوى فقال: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} [الأنفال: 29] الاية، وهذا الفرقان هو الذي حرمه إبليس وبلعام، فكان منهما ما تقدم من اتباع الأهواء القاطعة لهم عن الرحمة، وقد تضمنت الآية حصول خير الدنيا والآخرة بنعمة الاتقاء، ثم أجمل الخيران معاً في قوله {والله ذو الفضل العظيم} [الأنفال: 29] بعد تفصيل ما إليه إسراع المؤمنين من الفرقان والتكفير والغفران، ولم يقع التصريح بخيري الدنيا الخاص بها مع اقتضاء الآية إياه تنزيهاً للمؤمن في مقام إعطاء الفرقان وتكفير السيئات، والغفران من ذكر متاع الدنيا التي هي لهو ولعب فلم يكن ذكر متاعها الفاني ليذكر مفصلاً مع ما لا يجانسه ولا يشاكله {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} [العنكبوت: 64] ثم التحمت الآي، ووجه آخر وهو(8/227)
أنه تعالى لما قال {وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له} بيَّن لهم كيفية هذا الاستماع وما الذي يتصف به المؤمن من ضروبه فقال {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله} [الأنفال: 2] الآية، فهؤلاء لم يسمعوا بآذانهم فقط، ولا كانت لهم آذان لا يسمعون بها ولا قلوب لا يفقهون بها، ولو كانوا كذا لما وجلت وعمهم الفزع والخشية وزادتهم الآيات إيماناً، فإذن إنما يكون سماع المؤمن هكذا {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} [الأنفال: 21] ولما كان هؤلاء إنما أتى عليهم من اتباع أهوائهم والوقوف مع أعراضهم وشهواتهم {يأخذون عرض هذا الأدنى} [الأعراف: 169] {ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه} [الأعراف: 176] وهذه بعينها كانت آفة إبليس، رأى لنفسه المزيد واعتقد لها الحق ثم اتبع هذا الهوى حين قال {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون} [الحجر: 33] فلما كان اتباع الهوى أصلاً في الضلال وتنكب الصراط المستقيم، أمر المؤمنين بحسم باب الأهواء، والتسليم فيما لهم به تعلق وغن لم يكن هوى مجرداً لكنه مظنة تيسير لاتباع الهوى، فافتتحت السورة بسؤالهم عن الأنفال وأخبروا أنها لله ورسوله، يحكم فيها ما يشاء {فاتقوا الله} واحذروا الأهواء التي أهلكت من قص عليكم ذكره {وأصلحوا ذات بينكم} برفع التنازع، وسلموا لله ولرسوله، وإلا لم تكونوا سامعين وقد أمرتم أن تسمعوا السماع الذي(8/228)
عنه ترجى الرحمة، وبيانه في قوله {إنما المؤمنون} - الآيات، ووجه آخر وهو أن قصص بني إسرائيل عقب بوصاة المؤمنين وخصوصاً بالتقوى وعلى حسب ما يكون الغالب فيما يذكر من أمر بني إسرائيل، ففي البقرة أتبع قصصهم بقوله
{يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا} [البقرة: 104] ولما كان قصصهم مفتتحاً بذكر تفضيلهم {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} افتتح خطاب هذه الأمة بما يشعر بتفضليهم، وتأمل ما بين {يا بني إسرائيل} و {يا أيها الذين آمنوا} وأمر أولئك بالإيمان {وآمنوا بما أنزلت} [البقرة: 41] وأمر هؤلاء بتعبد احتياطي فقيل {وقولوا انظرنا واسمعوا} [البقرة: 104] ثم أعقبت البقرة بآل عمران وافتتحت ببيان المحكم والمتشابه الذي من جهته أتى على بني إسرائيل في كثير من مرتكباتهم، ولما ضمنت سورة آل عمران من ذكرهم ما ورد فيها، أعقبت بقوله تعالى؛ {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران: 100] ثم أعقبت السورة بقوله {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} [النساء: 1] وعدل عن الخطاب باسم الإيمان للمناسبة، وذلك أن سورة آل عمران خصت من مرتكبات بني إسرائيل بجرائم كقولهم في الكفار {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} [النساء: 51] فهذا بهت، ومنها قولهم {الله فقير ونحن أغنياء} [آل عمران: 181] إلى(8/229)
ما تخلل هاتين من الآيات المنبئة عن تعمدهم الجرائم، فعدل عن {يا أيها الذين آمنوا} إلى {يا أيها الناس} ليكون أوقع في الترتيب وأوضح مناسبة لما ذكر، ولما ضمنت سورة النساء قوله تعالى {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات} [النساء: 160]- إلى قوله: {وأكلهم أموال الناس بالباطل} [النساء: 161] أتبعت بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [المائدة: 51] ثم ذكر لهم ما أحل لهم وحرم عليهم ليحذروا مما وقع فيه أولئك، فعلى هذا لما ضمنت سورة الأعراف من قصصهم جملة، وبين فيها اعتداءهم، وبناه على اتباع الأهواء والهجوم على الأغراض، طلب هؤلاء باتقاء ذلك والبعد عما يشبهه جملة، فقيل في آخر السورة {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا} [الأعراف: 201] ثم افتتحت السورة الأخرى بصرفهم عما لهم به تعلق وإليه تشبث يقيم عذرهم شرعاً فيما كان منهم، فكان قد قيل لهم: ترك هذا أعلم وأبعد عن اتباع الأهواء، فسلموا في ذلك الحكم لله ورسوله واتقوا الله، ثم تناسج السياق والتحمت الآي، وقد تبين وجه اتصال الأنفال بالأعراف من وجوه، والحمد لله - انتهى.
ولما أخبر تعالى بما هو الحق من أن إرادتهم بل ودادتهم إنما كانت منصبة إلى العير لا إلى النفير، تبين أنه لا صنع لهم فيما وقع إذ لو كان لكان على ما أرادوا، فلا حظ لهم في الغنيمة إلا ما يقسمه الله لهم لأن الحكم لمراده لا لمراد غيره، فقال تعالى عاطفاً على {وتودون} : {ويريد الله} أي بما له من العز والعظمة والعلم {أن يحق الحق}(8/230)
اي يثبت في عالم الشهادة الثابت عنده في عالم الغيب، وهو هنا إصابة ذات الشوكة {بكلماته} أي التي أوحاها إلى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم يهزمون ويقتلون ويؤسرون، وأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان، ليعلي دينه ويظهر أمره على كل أمر {ويقطع دابر} أي آخر {الكافرين*} أي كما يقطع أولهم، أي يستأصلهم بحيث لا يبقى منهم أحد يشاقق أهل حزبه فهو يدبر أمركم على ما يريد، فلذلك اختار لكم ذات الجد والشوكة ليكون ما وعدكم به من إعلاء الدين وقمع المفسدين بقطع دابرهم {ليحق الحق} أي الذي هو دينه القيم وفيه فوز الدارين {ويبطل الباطل} وهو كل ما خالفه {ولو كره} أي ذلك {المجرمون*} أي الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويكسر قوتهم بضعفكم ويفني كثرتهم بقلتكم ويمحق عزهم بذلتكم فيظهر علو أمره ويخضع الأعناق لذكره {إذ} ظرف {ليحق الحق} {تستغيثون ربكم} أي تطلبون إغاثة المحسن إليكم، وهو بدل من {إذ يعدكم} فهو من البيان لكراهتهم لقاء ذات الشوكة بشدة جزعهم الموجب لهم الاستغاثة مع إسفار العاقبة عن أن الخير فيما كرهوه، وأنه أحق الحق وأظهر الدين وأوهن أمر المشركين.
ولما أسرع سبحانه الإجابة، دل على ذلك بقوله: {فاستجاب} أي فأوجد الإجابة إيجاد من هو طالب لها شديد الرغبة فيها {لكم} بغاية ما تريدون تثبيتاً لقلوبكم {أني} أي بأني {ممدكم} أي موجد(8/231)
المدد «لكم» أي بإمدادكم، ولعله حول العبارة لما في التصريح بضميره من العظمة والبركة {بألف من الملائكة} حال كونهم {مردفين*} أي متبعين بأمثالهم.(8/232)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
ولما كانت نصرة المسلمين في هذه الغزوة ظاهرة جداً، قال: {وما جعله الله} اي الإمداد والوعد به على ما له سبحانه من العظمة التي من راقبها لم يهب شيئاً {إلا بشرى} أي لتستبشر به نفوسكم، ولم يحتج إلى تقييد بأن يقال: لكم، وأما في قصة أحد فقد كان المقتول منهم أكثر من المقتول من الكفار فلولا قوله «لكم» لربما طرق بعض الأوهام حين سماع أول الكلام أن الإمداد بشرى للكفار.
ولما كان الذي وقع الحكم به هنا على الإمداد أنه بشرى نفسه من غير قيد، علم أن العناية به أشد، فكان المحكوم به الطمأنينة كذلك، فكان أصل الكلام: إلا بشرى هو وطمأنينة هو، فلذلك وجب تقديم ضميره في قوله «به» على القلوب تأكيداً لأمره وتفخيماً لشأنه، وإشارة إلى إتمامه على عادة العرب في تقديم ماهم به أعنى وهو عندهم أهم فقال: {ولتطمئن} أي وطمأنينة لتطمئن {به} أي وحده من غير نظر إلى شيء من قوتكم ولا غيرها {قلوبكم} فالآية من الاحتباك، وأما في قصة أحد فلما قيدت البشرى بالإمداد بلكم لما تقدم، علم الطمأنينة كذلك، فكان الأنسب تأخير ضميره وتقديم القلوب الملابسة لضميرهم موازنة لقوله «لكم» .(8/232)
ولما كان ذلك مفهماً أن النصر ليس إلا بيده وأن شيئاً من الإمداد أو غيره لا يوجب النصر بذاته، صرح به في قوله: {وما النصر} أي حاصلاً وموجوداً بالملائكة وغيرهم من الأسباب {إلا من عند الله} أي لأن له وحده صفات الكمال، فما عنده ليس منحصراً في الإمداد بالملائكة فالنصر وإن كان بها فليس من عندها، فلا تعتمدوا على وجودها ولا تهنوا بفقدها اعتماداً عليه سبحانه خاصة، فإن ما عنده من الأسباب لا يحيط به علماً، هذا إذا أراد النصر بالأسباب، وإن أراد بغير ذلك فعل فكان التعبير بعند لإفهام ذلك.
ولما كانت هذه الغزوة في أول الأمر، وكانوا بعد بروز الوعد الصادق لهم بإحدى الطائفتين كارهين للقاء ذات الشوكة جداً، ثم وقع لهم ما وقع من النصر، كان المقام مقتضياً لإثبات عزة الله وحكمته على سبيل التأكيد إعلاماً بأن صفات الكمال ثابتة له دائماً، فهو ينصر من صبر واتقى بعزته، ويحكم أمره على أتم وجه بحكمته، هذا فعله دائماً كما فعل في هذه الغزوة فلذلك قال معللاً لما قبله مؤكداً: {إن الله} أي الملك الأعظم {عزيز} أي هو في غاية الامتناع والقهر لمن يريد قهره أزلاً وأبد. لا يغلب ولا يحوج وليه إلى زيادة العدد ولا نفاسة العدد {حكيم} أي إذا قضى أمراً كان في غاية الإتقان والإحكام، فلا يستطيع أحد نقص شيء منه، هذا له دائماً، فهو يفعل في نصركم هكذا مهما استأنستم(8/233)
إلى بشراه ولم تنظروا إلى قوتكم ولا غيرها مما سواه فلا تقلقوا إذا أمركم بالهجوم على البأس ولو كان فيه لقاء جميع الناس.
ولما أكد هنا، لم يحتج إلى إعادة تأكيده في آل عمران فقيل {العزيز الحكيم} [آل عمران: 126] أي الذي أخبركم عن عزته وحكمته في غزوة بدر بما يليق بذلك المقام من التأكيد، وأخبركم أنكم إن فاديتم الأسرى قتل منها في العام المقبل مثل عددهم، فوقوع الأمر على ما قال مغن عن التأكيد، ولم يكن أحد من المسلمين في أحد متردداً في اللقاء ولا هائباً له الإ ما وقع من الهم بالفشل من الطائفتين والعصمة منه في الحال، وقد مضى في آل عمران لهذا مزيد بيان.
ولما ذكر البشرى والطمأنينة بالإمداد، ناسب أن يذكر لهم أنه أتبع القول الفعل فألقى في قلوبهم بعزته وحكمته الطمأنينة والأمن والسكينة بدليل النعاس الذي غشيهم في موضع هو أبعد الأشياء عنه وهو موطن الجلاد ومصاولة الأنداد والتيقظ لمخاتلة أهل العناد، وكذا المطر وأثره، فقال مبدلاً أيضاً من {إذ يعدكم} أو معلقاً بالنصر أو بما في الظرف من رائحة الفعل مصوراً لعزته وحكمته: {إذ يغشاكم} بفتح حرف المضارعة في قراءة ابن كثير وأبي عمرو فالفاعل {النعاس} وضم الباقون الياء،(8/234)
وأسكن نافع الغين وفتحها الباقون وشددوا الشين المكسورة، فالفاعل في القراءة الأولى مفعول هنا، والفاعل ضمير يعود على الله، ولما ذكر هذه التغشية الغريبة الخارقة للعوائد، ذكر ما فعلت لأجله فقال: {أمنة} ولما كان ذلك خارقاً للعادة، جاء الوصف بقوله: {منه} أي بحكمته لأنه لا ينام في مثل تلك الحال إلا الآمن، ويمنع عنكم العدو وأنتم نائمون بعزته، ولم يختلف فاعل، الفعل المعلل في القراءات الثلاث لأن كون النعاس فاعلاً مجاز، ويصح عندي نصبها على الحال.
ولما كان النعاس آية الموت، ذكر بعده آية الحياة فقال: {وينزل عليكم} وحقق كونه مطراً بقوله: {من السماء ماء} ووقع في البيضاوي وأصله وكذا تفسير أبي حيان أن المشركين سبقوا إلى الماء وغلبوا عليه، وليس كذلك بل الذي سبق إلى بدر وغلب على مائها المؤمنون كما ثبت في صحيح مسلم وغيره، فيكون شرح القصة أنم مطروا في المنزل الذي ساروا منه إلى بدر فحصل للمسلمين منه ما ملؤوا منه أسقيتهم فتطهروا من حدث أو جنابة ولبد لهم الرمل وسهل عليهم المسير، وأصاب المشركين ما زلق أرضهم حتى منعهم المسير، فكان ذلك سبباً لسبق المسلمين لهم إلى المنزل وتمكينهم من بناء الحياض وتغوير(8/235)
ما وراء الماء الذي نزلوا عليه من القلب كما هو مشهور في السير، ويكون رجز الشيطان وسوسته لهم بالقلة والضعف والتخويف بكثرة العدو، والربط على القلوب طمأنينتهم وطيب نفوسهم بما أراهم من الكرامة كما يوضح ذلك جميعه قول ابن هشام {وينزل عليكم من السماء} ماء للمطر الذي أصابهم تلك الليلة، فحبس المشركين أن يسبقوا إلى الماء وخلى سبيل المؤمنين إليه {ليطهركم به} أي من كل درن، وابتدأ من فوائد الماء بالتطهير لأنه المقرب من صفات الملائكة المقربين من حضرات القدس وعطف عليه - بقوله: {ويذهب عنكم} أي لا عن غيركم {رجز الشيطان} بغير لام ما هو لازم له، وهو العبد الذي كان مع الحدث الذي منه الجنابة المقربة من الخبائث الشيطانية بضيق الصدر والشك والخوف لإبعاد من الحضرات الملائكة «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب» والرجز يطلق على القذر وعبادة الأوثان والعذاب والشرك، فقد كان الشيطان وسوس لهم، ولا شك أن وسوسته من أعظم القذر فإنها تجر من تمادى معها إلى كل ما ذكر؛ ثم عطف عليه ما تهيأ له القلب من الحكم الإلهية وهو إفراغ السكينة فقال: {وليربط} أي بالصبر واليقين.
ولما كان ذلك ربطاً محكماً غالباً عالياً، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال: {على قلوبكم} أي بعد إسكانها الوثوق بلطفه عند كل ملمة حتى(8/236)
امتلأت من كل خير وثبت فيها الربط، فشبهها بجراب ملىء شيئاً ثم ربط رأسه حتى لا يخرج من ذلك الذي فيه شيء، وأعاد اللام إشارة إلى أنه المقصد الأعظم وما قبله وسيلة إليه وعطف عليه بغير لام لازمه من التثبيت فقال: {ويثبت به} أي بالربط بالمطر {الأقدام*} أي لعدم الخوف فإن الخائف لا تثبت قدمه في المكان الذي يقف به، بل تصير رجله تنتقل من غير اختيار أو بتلبيد الرمل.
ولما ذكر حكمة الإمداد وما تبعه من الآثار المثبتة للقلوب والأقدام، ذكر ما أمر به المدد من التثبيت بالقول والفعل فقال: {إذ} بدلاً ثالثاً من {إذ يعدكم} أو ظرفاً ليثبت {يوحي ربك} أي المحسن إليك بجميع ذلك {إلى الملائكة} وبين أن النصر منه لا من المدد بقوله: {أني معكم} أي ومن كنت معه كان ظافراً بجميع مأموله {فثبتوا} أي بسبب ذلك {الذين آمنوا} أي بأنواع التثبيت من تكثير سوادهم وتقوية قلوبهم وقتال أعدائهم وتقليلهم في أعينهم وتحقير شأنهم؛ ثم بيّن المعية بقوله: {سألقي} أي بوعد لا خلف فيه {في قلوب الذين كفروا} أي أوجدوا الكفر {الرعب} فلا يكون لهم ثبات {فاضربوا} أي أيها المؤمنون من الملائكة والبشر غير هائبين بسبب ذلك.(8/237)
ولما كان ضرب العنق والراس أوحى مهلك للإنسان، وكان العنق يستر في الحرب غالباً، عبر بقوله: {فوق الأعناق} أي الرؤوس أو أعالي الأعناق منهم لأنها مفاصل ومذابح.
ولما كان إفساد الأصابع أنكى ما يكون بعد ذلك لأنه يبطل قتال المضروب أو كمال قتاله، قال: {واضربوا منهم كل بنان} أي فإنه لا مانع من ذلك لكوني معكم، ثم علل تسليطهم عليهم بقوله: {ذلك} أي التسليط العظيم، وأخبر عنه بقوله: {بأنهم} أي الذي تلبسوا الآن بالكفر ولو كانوا ممن يقضي بايمانه بعد {شاقوا الله} أي الملك الأعلى الذي لا يطاق انتقامه {ورسوله} أي طلبوا أن يكونوا بمخالفة الأوامر والنواهي في شق غير الذي فيه حزب الهدى في مكر منهم وخداع، وشاقوه باشتهار السيف جهراً - ثم بين ما لفاعل ذلك، فقال عاطفاً على تقديره: فمن شاق الله ورسوله فافعلوا به ذلك، فإني فاعل به ما فعلت بهؤلاء، وأظهر الإدغام في المضارع لأن القصة للعرب وأمرهم في عداوتهم كان بعد الهجرة شديداً ومجاهرة، وأدغم في الماضي لأن ما مضى قبلها كان ما بين مساترة بالمماكرة ومجاهرة بالمقاهرة، وعبر بالمضارع ندباً إلى التوبة بتقييد الوعيد بالاستمرار، وأدغم في الحشر في الموضعين لأن القصة لليهود وأمرهم كان ضعيفاً(8/238)
ومساترة في مماكرة: {ومن يشاقق الله} أي الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه ويشاقه سراً أو جهراً {ورسوله} بأن يكون في شق غير الشق الذي يرضيانه {فإن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {شديد العقاب*} أي له هذه الصفة، فليتوقع مشاققه عذابه، فالآية من الاحتباك: ذكر الفعل المدغم أولاً دليل على حذف المظهر ثانياً، والمظهر ثانياً على حذف المدغم أولاً.
ولما ختم الآية ببيان السبب الموجب لإهانة الذين كفروا وبما له من الوصف العظيم، أتبعه ما يقول لهم لبيان الحال عند ذلك بقوله التفاتاً إليهم لمزيد التبكيت والتوبيخ.(8/239)
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
{ذلكم} أي هو سبحانه بما له من هذا الوصف الهائل يذيق عدوه من عذابه ما لا طاقة لهم به ولا يدان، فيصير لسان الحال مخاطباً لهم نيابة عن المقال: الأمر الذي حذرتكم منه الرسل وأتتكم به الكتب وكنتم تستهزئون به أيها الكفرة هو هذا الأمر الشديد وقعه البعيد على من ينزل عليه دفعه دهمكم، فما لكم لا تدافعونه! كلا والله شغل كلاًّ ما قابله ولم يقدر أن يزاوله.
ولما كان ما وقع لهم في وقعة بدر من القتل والأسر والقهر يسيراً جداً بالنسبة إلى ما لهم في الآخرة، سماه ذوقاً لأنه يكون بالقليل ليعرف به حال الكثير فقال: {فذوقوه} أي باشروه قهراً مباشرة(8/239)
الذائق واعلموا أنه بالنسبة إلى ما تستقبلونه كالمذوق بالنسبة إلى المذوق لأجله {وأنَّ} أي والأمر الذي أتتكم به الرسل والكتب أن لكم مع هذا الذي ذقتموه في الدنيا، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال: {للكافرين} أي على كفرهم وإن لم يظهروا المشاققة {عذاب النار*} وهو مواقعكم وهو أكبر وسترون.
ولما قرر إهانتهم في الدنيا والآخرة بما حسر عليهم القلوب، حسن أن يتبع ذلك نهي من ادعى الإيمان عن الفرار منهم وتهديد من نكص عنهم بعد هذا البيان وهو يدعي الإيمان فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي بما أتاهم من عند ربهم {إذا لقيتم الذين كفروا} أي بآيات ربهم فشاققوه، وعبر عن حال لقائهم بالمصدر مبالغة في التشبيه فقال: {زحفاً} أي حال كونهم زاحفين محاربين وهم من الكثرة بحيث لا يدرك من حركتهم - وإن كانت سريعة - إلا مثلل الزحف {فلا تولوهم الأدبار*} أي هرباً منهم وإن كنتم أقل منهم {ومن يولهم} ولما كان الأغلب في وقوع القتال النهار، وكان التولية مما لا يكون الظرف معياراً له لأنها مما لا يمتد زمنه، فالعصيان يقع بمجرد الالتفات بقصد الفرار، والتمادي تكرير أمثال، لا شرط في صحة(8/240)
إطلاق الاسم، عبر باليوم، وجرده عن «في» ندباً إلى الكر بعد الفر مع عدم الالتباس، فإن الظرف لا يكون معياراً للفعل إلا إذا كان ممتد الزمان كالصوم فقال {يومئذ} أي إذ لقيتم على هذه الحالة في أيّ وقت كان من أوقات القتال من ليل كان أو نهار {دبره} أي يجعل ظهره إليهم لشيء من الأشياء تولية لا يريد الإقبال إلى القتال منها {إلا} أي حال كونه {متحرفاً} أو الحال التحرف، وهو الزوال عن جهة الاستواء {لقتال} أي لا يتسهل له إلا بذلك يخيل إلى عدوه أنه منهزم خداعاً له ثم يكر عليه {أو متحيزاً} أي متنقلاً من حيز إلى آخر ومتنحياً {إلى فئة} أي جماعة أخرى من أهل حزبه هم أهل لآن يرجع إليهم ليستعين بهم أو يعينهم.
ولما كان هذا محل توقع السامع للجواب وتفريغ ذهنه له، أجاب رابطاً بالفاء إعلاماً بأن الفعل المحدث عنه سبب لهذا الجزاء فقال: {فقد باء} أي رجع {بغضب من الله} اي الحائز لجميع صفات الكمال {ومأواه جهنم} أي تتجهمه كما أنه هاب تجهم الكفار ولقاء الوجوه العابسة بوجه كالح عابس {وبئس المصير*} هذا إذا لم يزد الكفار عن(8/241)
الضعف - كما سيأتي النص به.
ولما تقدم إليهم في ذلك، علله بتقرير عزته وحكمته، وأن النصر ليس إلا من عنده، فمن صح إيمانه لم يتوقف عن امتثال أوامره، فقال مسبباً عن تحريمه الفرار وإن كان العدو كثيراً، تذكيراً بما صنع لهم في بدر، ليجريهم على مثل ذلك، ومنعاً لهم من الإعجاب بما كان على أيديهم في ذلك اليوم من الخوارق {فلم تقتلوهم} أي حلَّ على المدبر الغضب لأنه تبين لكل مؤمن أنه تعالى لا يأمر أحداً إلا بما هو قادر سبحانه على تطويقه له، فإنه قد وضح مما يجري على قوانين العوائد أنكم لم تقتلوا قتلى بدر وإن تعاطيتم أسباب قتلهم، لأنكم لم تدخلوا قلوب ذلك الجيش العظيم الرعب الذي كان سبب هزيمتهم التي كانت سبب قتل من قتلتم، لضعفكم عن مقاومتهم في العادة، وفيه مع ذلك زجر لهم عن أن يقول أحد منهم على وجه الافتخار: قتلت كذا وكذا رجلاً وفعلت كذا {ولكن الله} أي الذي له الأمر كله فلا يخرج شيء عن مراده {قتلهم} أي بأن هزمهم لكم لما رأوا الملائكة وامتلأت أعينهم من التراب الذي رماهم به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقلوبهم جزعاً حتى تمكنتم من قتلهم خرق عادة كان وعدكم بها، فصدق مقاله وتمت أفعاله.
ولما رد ما باشروه إليه سبحانه، أتبعه ما باشره نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دلالة على ذلك لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى قريشاً مقبلة قال: اللهم! هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، فقال(8/242)
جبرائيل عليه السلام: خذ قبضة من تراب فأرمهم بها، ففعل فملأت أعينهم فانهزموا فقال: {وما رميت} أي يا سيد المؤمنين الرمل في أعين الكفار {إذ رميت} أي أوقعت صورة قذفه من كفك، لأن هذا الأثر الذي وجد عن رميك خارق للعادة، فمن الواضح أنه ليس فعلك، وهذا هو الجواب عن كونه لم يقل: فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم، لأن زهوق النفس عن الجراح المثخن هو العادة، فهم الذين قتلوهم حين باشروا ضربهم، فلا يصح: فلم تقتلوهم حتى قتلتموهم، والمنفيّ إنما هو السبب المتقدم على القتل الممكن من القتل، وهو تسكين قلوبهم الناشىء عند إقدامهم وإرعاب الكفار الناشىء عند ضعفهم وانهزامهم الممكن منهم، فالمنفي عنهم البداية والمنفي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغاية، أو أن الملائكة عليهم السلام لما باشرت قتل بعضهم صح أن ينفي عنهم قتل المجموع مطلقاً، أو أنهم لما افتخر بعضهم بقتل من قتل نفاه سبحانه عنهم مطلقاً لأن مباشرتهم لقتل من قتل في جنب ما أعد لهم من الأسباب وأيدهم به من الجنود عدم، وأما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه فعل ما أمر به من رمي الرمل ولم يعد فعله ولا ذكره، فأثبته سبحانه له مع نفي تأثيره عنه وإثباته لمن إليه ترجع الأمور تأديباً منه سبحانه لهذه الأمة، أي لا ينظر أحد إلى شيء من طاعته، فإنا قد نفينا هذا الفعل العظيم عن أكمل الخلق مع أنه عالم مقر بأنه منا فليحذر الذي يرى له فعلاً من عظيم سطواتنا، ولكن لينسب جميع أفعاله الحسنة إلى الله تعالى كما نسب الرمي إليه بقوله: {ولكن الله}(8/243)
أي الذي لا راد لأمره {رمى} لأنه الذي أوصل أثره بما كان هازماً للكفار، فعل ذلك كله ليبلي الكفار منه بأيدي من أراد من عباده بلاء عاقبته سيئة {وليبلي المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان {منه} أي وحده {بلاء حسناً} أي من النصر والغنيمة والأجر، ومادة بلاء يائية أو واوية بأيّ ترتيب كان تدور على الخلطة، وتارة تكون مطلقة نحو أبلاه عذراً، وتارة بكثرة ومحاولة وعناء وهو أغلب أحوال المادة، وتارة تكون للامتحان وأخرى لغيره، وماأباليه بالة - أظنه من البال الذي هو الخاطر فهو من بول لا بلو، أجوف لا من ذوات الأربعة، ومعناه: ما أفاعله بالبال، أي ما أكترث به فما أصرف خاطري إلى مخالطة أحواله حيث يصرف خاطره إليّ أي ما أفكر في أمره لهوانه عليّ وسيأتي بسط معاني المادة إن شاء الله تعالى في سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى
{ما بال النسوة} [يوسف: 50] وهذه المادة معناها ضد الدعة، لأن هذه يلزمها شغل الخاطر الذي عنه ينشأ التعب بمدافعة الملابس، والدعة يلزمها هدوء السر وفراغ البال الذي هو منشأ الراحة، فمعنى الآية أنه تعالى فعل ذلك من الإمكان من إذلال الكفار ليخالطهم من شؤونه ما يكون لهم في مدافعته عاقبة سيئة، وليخالط المؤمنين من ذلك ما يكون لهم في مزاولته عاقبة حسنة بل أحسن من الراحة، لأنه يفضي بهم(8/244)
إلى راحة دائمة، والدعة تقضي إلى تعب طويل - والله موفق.
ولما ثبت بما مضى أن له تعالى الأفعال العظيمة والبطشات الجسمية. ودلت أقوال من قال من المؤمنين: إنا لم نتأهب للقاء ذات الشوكة، على ضعف العزائم؛ ختم الآية بقوله: {إن الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال {سميع} أي لأقوالكم من الاستعانة في المعونة على النصرة وغيرها {عليم*} أي بعزائمكم وإن لم تتكلموا بها، فهو يجازي المؤمن على حسب إيمانه والكافر على ما يبدي ويخفي من كفرانه، الأمر {ذلكم} العظيم الشأن البعيد المتناول الذي أمركم فيه بأوامره ونهاكم به عن مناهيه وأبلاكم فيه البلاء الحسن، وأراكم بأعينكم توهينه لهذه الطائفة التي قصدتكم وأنتم عندها أكلة جزور وعصفور بين يدي صقور، وبين لكم من علل ذلك وعجائب مقدوره ما لم يبق معه عذر لمؤمن، فألزموا طاعته وسابقوا في طاعة رسوله ولا تنظروا في عاقبة شيء مما يأمر به، فإنه ما ينطق عن الهوى بل إنما يأمر عنا، ونحن لم نأمر بشيء إلا بعد تدبيره على أحكم الوجوه وأتقنها {وأنَّ} أي والأمر أيضاً أن {الله} أي الحاوي لجميع صفات العز والعظمة {موهن} أي مضعف إضعافاً شديداً ثابتاً دائماً أبداً {كيد الكافرين*} أي الراسخين في الكفر جميعهم، فلا تهنوا في ابتغاء القوم وإن نالكم قرح فإنا نجعله لكم تطهيراً وللكافرين تدميراً والعاقبة للتقوى، فنطلعكم على عوراتهم ونلقي الرعب(8/245)
في قلوبهم ونفرق كلمتهم وننقض ما أبرموا.
ولما تضمن ذلك إيقاع الإهانة بالكفار بهذه الوقعة، والوعد بإلزامهم الإهانة فيما يأتي، كان ذلك مفصلاً للالتفات إلى تهديدهم في قالب استجلائهم والاستهزاء بهم وتفخيم أمر المؤمنين فقال: {إن تستفتحوا} أي تسألوا الفتح أيها الكفار بعد هذا اليوم كما استفتحتم في هذه الوقعة عند أخذكم أستار الكعبة وقت خروجكم بقولكم: اللهم انصر أهدى الحزبين، وأكرم الجندين، وأعلى الفئتين، وأفضل الدينين، ووقت ترائي الجمعين؛ بقول أبي جهل: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعلم فأحنه الغداة؛ أتاكم الفتح كما أتاكم في هذا اليوم {فقد جاءكم} أي في هذا اليوم بنصر المؤمنين {الفتح} أي الذي استفتحتم له لأنهم أهدى الفئتين وأكرم الطائفتين {وإن تنتهوا} أي بعد هذا عن مثل هذه الأقوال والأفعال المتضمنه للشك أو العناد {فهو خير لكم} وقد رأيتم دلائل ذلك {وإن تعودوا} أي إلى المغالبة لأنكم لم تنتهوا {نعد} أي إلى خذلانكم {ولن تغني عنكم} أي أبداً {فئتكم} أي جماعتكم التي ترجعون إليها للاعتزاز بها {شيئاً} أي من الإغناء {ولو كثرت} لأن الله على الكافرين {وأنَّ الله} أي الملك الأعظم {مع المؤمنين*} أي الراسخين في الإيمان، ولعله عبر المستقبل في الشرط والماضي في الجزاء(8/246)
إشارة إلى أنكم استفتحتم في بدر وجاءكم من الفتح ما رأيتم، فإن كان أعجبكم فألزموه في المستقبل، فإني لا أجيئكم أبداً ما دمتم على حالكم إلا بما جئتكم به يومئذ، والفتح يحتمل أن يكون بمعنى النصر فيكون تهكماً بهم، وأن يكون بمعنى القضاء.
ولما كان سبب ما أحله بالكفار - من الإعراض عن إجابتهم فيما قصدوا من دعائهم ومن خذلانهم في هذه الوقعة وإيجاب مثل ذلك لهم أبداً - هو عصيانهم الرسول وتوليهم عن قبول ما يسمعونه منه من الروح؛ حذر المؤمنين من مثل حالهم بالتمادي في التنازع في الغنيمة أو غيرها فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك {أطيعوا الله} أي الذي له جميع العز والعظمة {ورسوله} تصديقاً لدعواكم الإيمان.
ولما كانت طاعة الرسول هي طاعة الله لأنه إنما يدعوه إليه وإنما خلقه القرآن، وحد الضمير فقال: {ولا تولوا عنه} أي عن الرسول في حال من الأحوال، في أمر من الأوامر من الجهاد وغيره، من الغنائم وغيرها، خف أو ثقل، سهل أو صعب {وأنتم} اي والحال أنكم {تسمعون*} أي لكم سمع لما يقوله، أو وأنتم تصدقونه، لأن ارتكاب شيء من ذلك يكذب دعوى الإيمان وينطبق علىأحوال الكفار، وإلى ذلك إشارة بقوله: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا} أي بآذاننا {وهم لا يسمعون*} أي لا يستجبون فكأنهم لم يسمعوا، لما انتفت(8/247)
الثمرة عد المثمر عدماً.(8/248)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
ولما كانت حال من هذا شأنه مشابهة لحال الأصم في عدم السماع لعدم الانتفاع به، والأبكم في عدم كلامه لعدم تكلمه بما ينفع، والعادم للعقل في عدم عقله لعدم انتفاعه به، قال معللاً لهذا النهي معبراً بأنسب الأشياء لما وصفهم به: {إن شر الدواب} أي التي تدب على وجه الأرض، جعلهم من جنس الحشرات أو البهائم ثم جعلهم شرها.
ولما كان لهم من يفضلهم، وكانت العبرة بما عنده سبحانه، قال تعالى: {عند الله} أي الذي له جميع الكمال من إحاطة العلم والقدرة وغيرها {الصم البكم} أي الطرش الخرس طرشاً وخرساً بالغين {الذين لا يعقلون*} أي لا يتجدد لهم عقل، ومن لم ينتفع بسماع الداعي كان كذلك.
ولما كان ذلك ربما دعا السامع إلى أن يقول: ما للقادر لم يقبل بمن هذا شأنه إلى الخير؟ أجاب بأنه جبلهم من أول الأمر - وله أن يفعل في مِلكه ومُلكه ما يريد - جبلة عريقة في الفساد، وجعل جواهرهم شريرة كجوهر العقرب التي لا تقبل التأديب بوجه ولا تمر بشيء إلا لسبته، فعلم سبحانه أنه لا خير فيهم فتركهم على ما علم منهم {ولو علم الله} أي الذي له الكمال كله {فيهم خيراً} أي قبولاً للخير {لأسمعهم} أي إسماعاً هو الإسماع، وهو ما تعقبه الإجابة المستمرة.(8/248)
ولما كان علم الله تعالى محيطاً، وجب أن يعلم كل ما كان حاصلاً، فكان عدم علمه بوجود الشيء من لوازم عدمه، فلا جرم كان التقدير هنا: ولكنه لم يعلم فيهم خيراً، بل علم أنه لا خير فيهم فلم يسمعهم هذا الإسماع {ولو أسمعهم} وهم على هذه الحالة من عدم القابلية للخير إسماعاً قسرهم فيه على الإجابة {لتولوا} أي بعد إجابتهم {وهم معرضون*} أي ثابت إعراضهم مرتدين على أعقابهم، ولم يستمروا على إجابتهم لماة جبلوا عليه من ملاءمة الشر ومباعدة الخير، فلم يريدوا الإسلام وأهله بعد إقبالهم إلا وهناً، وكما كان لأهل الردة الذين قتلوا مرتدين بعد أن كانوا دخلوا في الإسلام خوفاً من السيف ورغبة في المال وهو من وادي {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] فإن علم الله تعالى أربعة أقسام: جملة الموجودات، وجملة المعدومات، وأن كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً كيف يكون حاله، وأن كل واحد من المعدومات لو كان موجوداً كيف يكون حاله، والقسمان الأولان علم بالواقع، والآخران علم بالقدر، والآية من القسم الأخير، ولعمري إنا دفعنا إلى زمان أغلب من فيه على قريب من هذا الأمر، أجرأ الناس على الباطل، وأثبتهم في المصاولة فيه، وأوسعهم حبلاً في التوصيل إليه، وأجبنهم عند الدعوة(8/249)
إلى الحق، وأسرعهم نكوصاً عند الإقدام بعد جهد عليه، وألكنهم عند الجدال له، فصار ما كان مقدراً مفروضاً حاصلاً وموجوداً، وكلمة {لو} هنا يحتمل أن تكون هي التي يعلق بها أمر على آخر هو بضده أولى فيكون المراد أن المعلق.
وهو الثاني - موجود دائماً مثل قول عمر رضي الله عنه: نعم العبد صهيب رضي الله عنه! لو لم يخف الله لم يعصه، فالمراد هنا على هذا أنهم إذا كانوا يتولون مع الإسماع والإجابة، فتوليهم مع عدمهما أولى - نبه على ذلك الرازي، ويحتمل أن يكون على بابها من أن الجزءين بعدها منفيان، وانتفاء التولي إنما يكون خيراً إذا نشأ عن الإسماع المترتب على علم الخير فيهم، وأما عدمه لعدم إسماعهم الإسماع الموصوف لأنه لا خير فيهم فليس من الخير في شيء بل هو شر مخص، التولي المنفي عنهم ليس هو الموجود منهم، بل هو الناشىء عن الإسماع الموصوف فلا يناقض ادعاؤه تحقق عنادهم وعدم انقيادهم، وتحقيقه أن المنفي إنما هو زيادة التولي الناشئة عن الإسماع، فالمعنى: ولو أسمعهم لزادوا إعراضاً، فالمنفي في هذا السياق تلك الزيادة - والله الموفق.(8/250)
ولما كان ما مضى من نكال الكافرين مسبباً عن عدم الاستجابة، أمر المؤمنين بها تحذيراً من الكون الكفرة في مثل حالهم فيحشروا معهم في مآلهم فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان بألسنتهم {استجيبوا} أي صدقوا دعواكم ذلك بإيجاد الإجابة إيجاد من هو في غاية الرغبة فيها {لله} أي واجعلوا إجابتكم هذه خاصة للذي له جميع صفات الكمال {وللرسول} الذي أرسله إلى جميع الخلق.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوهم لا محالة لأن الله تعالى أمره بدعائهم، وكان لا يدعوهم إلا إلى ما أمره الله به، وكان سبحانه لا يدعو إلا إلى صلاح ورشد؛ عبر بأداة التحقيق ووحد الضمير وشوق بإثمار الحياة فقال: {إذا دعاكم} أي الرسول بالندب والتحريض.
ولما كان اجتناء ثمرة الطاعة في غاية القرب، نبه على ذلك باللام دون «إلى» فقال: {لما يحييكم} أي ينقلكم بعز الإيمان والعلم عن حال الكفرة من الصمم والبكم وعدم العقل الذي هو الموت المعنوي إلى الحياة المعنوية، ولا يعوقكم عن الاستجابة في أمر من الأمور أن تقولوا: إنا استجبنا إلى الإيمان وكثير من شرائعه، فلولا أن ربنا علم فينا الخير ما أسمعنا، فنحن ناجون؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي سعيد ابن المعلي رضي الله عنه قال: «كنت أصلي فمر بي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتي؟ فقلت كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا} -(8/251)
الآية، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد، فذهب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليخرج فذكرت له فقال: هي {الحمد لله رب العلمين} [الفاتحة: 1] » هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته «»
وللترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على أبي بن كعب رضي الله عنه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبيّ! وهو يصلي، فالتفت أبيّ فلم يجبه وصلى أبيّ فخفف، ثم انصرف إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: السلام عليك يارسول الله! فقال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبيّ! وهو يصلي، فالتفت أبيّ فلم يجبه وصلى أبيّ فخفف، ثم انصرف إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: السلام عليك يا رسول الله! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعليك السلام، ما منعك يا أبيّ أن تجيبني إذ دعوتك، فقال: يا رسول الله! إني كنت في الصلاة، قال: فلم تجد فيما أوحي الله إليّ أن {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال: 24] قال: بلى! ولا أعود إن شاء الله! قال: تجب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قال: نعم، يا رسول الله! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف تقرأ في الصلاة؟ قال: فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي نفسي بيده! ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته» - هذا حديث حسن صحيح.
ولما كان الإنسان إذا كان على حالة يستعبد جداً أن يصبر على(8/252)
غيرها، قال تعالى مرغباً مرهباً: {واعلموا أن الله} أي الذي له جميع العظمة {يحول} أي بشمول علمه وكمال قدرته {بين المرء وقلبه} فيرده إلى ما علم منه فيصير فيما كشفه الحال كافراً معانداً بعد أن كان في ظاهر الحال مؤمناً مستسلماً فيكون ممن علم الله أنه لا خير فيه وقسره على الإجابة فلم يستمر عليها، ويرد الكافر بعد عناده إلى الإيمان بغاية ما يرى من سهولة قيادة، فكنى سبحانه بشدة القرب اللازم للحيلولة عن شدة الاقتدار على تبديل العزائم والمرادات، وهو تحريض على المبادرة إلى اتباع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما دامت القلوب مقبلة على ذلك خوفاً من تغييرها.
ولما خوفهم عاقبة الحال، حذرهم شأن المآل فقال: {وأنه} أي واعلموا أنه تعالى {إليه تحشرون*} لا إلى غيره، فيحشر المستجيبين في زمرة المؤمنين، والمعرضين في عداد الكافرين وإن أبوا حكماً واحداً، لأن الدين لا يتجزأ، وقدم علم أن «إذا» ليست قيداً وإنما هي تنبيه على وجوب اتباعه في كل ما يدعو إليه لعصمته، وحكمة الإتيان بها الإعلام بأنه ما ترك خيراً إلا دعا إليه؛ قال الحرالي في أواخر كتاب له في أصوال الفقه: ولها - أي العصمة - معنيان: أحدهما عصمة الحفظ، وهو معنى ينشأ من التزام الحكم عليه بماضي شرعته، وهي العصمة العامة للأنبياء، وفي هذه الرتبة يقع الكلام في الحفظ من الصغائر بعد(8/253)
الاتفاق على الحفظ عما يخل بالتبليغ ويحط الرتبة والكبائر، وحقيقة الصغائر مقدمات الذنوب التي لم تتم، فيكون تمامها كبيرتها، وعلى ذلك بنى قوم احتمال وقوع الفعل محظوراً من نبي، وكل ذلك - وإن كان من أحوال أنبياء - فإن المتحقق من أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو علو عن هذا المحل؛ المعنى الثاني من العصمة رفع الحكم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما حفظه الحافظ من ماضي ظاهر شرعته وبما بلغ إليه فهمه من مبادىء التنشؤ من سننه، واتخاذ فعله مبدأ للأحكام في كل آن من غير التفات لما تقرر في ماضي الزمان، وهذه هي العصمة الخاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجامع، فلا يكون لفعله حكم إلا ما يفهمه إنباؤه عن حال وقوعه، ويكون الأحكام تبعاً لفعله، لا أن فعله يتبع حكماً، فهذا وجه عصمته الخاصة الممتنع عليها جواز الخروج عنها، فمن كان يسبق إليه من أكابر الصحابة نحو من هذا المعنى لا يتوقف في شيء من أمره كالصديق رضي الله عنه وكما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في اقتدائه حتى في إدارة راحلته وصبغه بالصفرة ولبسه النعال السبتية ونحو ذلك من أمره وأمر من حذا منهم هذا الحذو، ومن كان يتوهم الحكم عليه بمقتضى علمه وفهمه من أمر شرعته لا يكاد يسلم من وقوع في أمر يرد عليه انتحاله كما حكم أبيّ رضي الله عنه لما كان يصلي بإمضاء عمل الصلاة إذ دعاه حتى بين له قصور فهمه عن الله(8/254)
في حقه أي بقوله: ألم تسمع الله يقول {استجيبوا لله وللرسول} وكالذي قال: انزل فاجدع لنا، فقال: إن عليك نهاراً، فقال له في الثالثة أو الرابعة: انزل فاجدع لنا ويلك أو ويحك! فإذا وضح أن فعله مبدأ الحكم ومعلم الإنباء لزم صحة التأسي به في جميع أحواله، إما على بيان من تعين رتبة الحكم من وجوب أو ندب أو أباحة، أو على مطلق التأسي مع إبهام رتبة الحكم والاتكال على ما عنده هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العلم، فنية التأسي به على إبهام في الحكم ربما كان أتم من العمل بما تبين حكمه، أحرم علي رضي الله عنه وهو باليمن، توجه إلى مكه بإحرام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يتطرق لشيء من أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما وقع من كونه يفتي بأمر ثم يوافق في غيره، لأن الآخذ في ذلك عن قصور في العلم بمكانته من علم رحمانية الله وكلمته وتنزيله إلى موافقة أمر سنة الله وحكمته نحو الذي أفتاه بتكفير الجهاد كل ذنب بناء على علمه برحمانية الله وإمضاء كلمته، ثم ذكر له ما قال جبرائيل عليه السلام من استثناء الدين الدين مما أنزل على حكم أمر الله في محكم شرعته وسنته، يعني - والله أعلم - أن من صح جهاده تكفر كل ذنوبه، وأن توقف الدين على إرضاء الله لخصمه، فالإخبار بالكفارة ناظر إلى المآل، والإخبار بنفيها ناظر إلى الابتداء، وكذلك أفتى بترك التلقيح بناء على إنفاذ كلمة الله، وردهم غلى عادة دنياهم حين لم يتجشموا الصبر(8/255)
إلى ظهور كلمة الله على مستمر عادته، فقد عمل بأول فتياه غير واحد ممن لم يسترب في نفاذ حكمه وصحته فأخفق ثمرات ثلاث سنين ثم عاد - في غنى عن التلقيح - إلى أحسن من حاله في متقدم عادته، ولا يتقاصر عن إدراك ذلك من أمره في كل نازلة من نحوه إلا من لم يسم به التأييد إلى معرفة حظ من مكانته، فإذا وضح ذلك فكل فعل فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن كان بياناً لواجب فهو منج من عقاب الله، وإن كان تعليماً لقربي من الله فهو وصلة إلى محبة الله كما قال تعالى
{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31] وإن لم يتضح له مجمل منهما تأسى بها على إبهام يغنيه عمله وتعلو به نيته، وما كان مختصاً به فلا بد من إظهار أمر اختصاصه بخطاب من الله سبحانه أو منه عليه السلام كما قال تعالى {خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب: 50]-انتهى.(8/256)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
ولما كان لمجيب ربما قال: ليس عليّ إلا الإجابة في خاصة نفسي، وليس عليّ تعريض نفسي للأذى بالأخذ على يد غيري، نبَّه سبحانه على أن ذلك منابذة للدين واجتثاث له من أصله، لأن ترك العاصي على عصيانه كترك الكافر على كفرانه، وذلك موجب لعموم البلاء، ومزيد القضاء فقال تعالى: {واتقوا فتنة} أي بلاء مميلاً محيلاً إن لا تتقوه يعمكم، هكذا كان الأصل، لكن لما كان نهي الفتنة على إصابتهم(8/256)
أروع من سوق ذلك مساق الشرط ومن نهيهم عن التعريض لها لما فيه من تصوير حضورها وفهمها للنهي أتى به، ولما كان نهيها عن تخصيص الظالم أشد روعة لإفهامه، أمرها بأن تعم؛ قال مجيباً للأمر: {لا تصيبن} ولحقه نون التأكيد لأن فيه معنى النهي {الذين ظلموا} أي فعلوا بموافقة المعصية ما لا يفعله إلا من لا نور له {منكم} أيها المأمورن بالتقوى {خاصة} أي بل تعمكم، فهو نهي للفتنة والمراد نهي مباشرتها، أي لا يفعل أحد منكم الذنب يصبكم أثره عموماً أو لا يباشر أسباب العذاب بعضكم والبعض الآخر مقر له يعمكم الله به، وذلك مثل: لا أرينك هاهنا، والمعنى فكن هاهنا فأراك فالتقدير: واجعلوا بينكم وبين البلاء العام وقاية بإصلاح ذات بينكم واجتماع كلمتكم على أمر الله ورد من خالف إلى أمر الله ولا تختلفوا كما اختلفتم في أمر الغنيمة فتفشلوا فيسلط عليكم عذاب عام من أعدائكم أو غيرهم، فإن كان الطائع منكم أقوى من العاصي أو ليس أضعف منه فلم يرده فقد اشترك الكل في الظلم، ذلك بفعله وهذا برضاه، فيكون العذاب عذاب انتقام للجميع؛ روى أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترميذي عن أبي الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها: أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية وتأولونها على خلاف تأويلها {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَّ إذا اهتديتم} [المائدة: 105] إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من قوم(8/257)
عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده» ؛ وللترمذي وحسنه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «والذي نفسي بيد! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم» ؛ وللإمام أحمد عنه رضي الله عنه أنه قال: لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم الله جميعاً بعذاب أو ليؤمرن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم. وهو في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي، فإن كان الطائع أضعف من العاصي نزل على ما روى أبو داود والترمذي - وحسنه - وابن ماجه عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه قيل له:
«كيف تقول في هذه الآية {عليكم أنفسكم} [المائدة: 105] فقال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودينا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله، قال: يارسول الله! أجر خمسين رجلاً منهم؟ قال: أجر خمسين منكم» والأحاديث في مثله كثيرة،(8/258)
وحينئذ يكون العذاب للعاصي نقمة وللطائع رحمة ويبعثون على نياتهم.
ولما حذرهم سبحانه عموم البلاء، أتبعه الإعلام بأنه قادر مربوب ليلزموا سبيل الاستقامه فقال: {واعلموا أن الله} أي الذي له الإحاطة بصفات العظمة {شديد العقاب*} .
ولما كان من أشد العقاب الإذلال، حذرهموه بالتذكير بما كانوا فيه من الذل، لأنه أبعث على الشكر وأزجر عن الكفر فقال: {واذكروا} وذكر المفعول به فقال: {إذ أنتم} أي في أوائل الإسلام {قليل} أي عددكم.
ولما كان وجود مطلق الاستضعاف دالاً على غاية الضعف بنى للمفعول قوله: {مستضعفون} أي لا منفذ عندكم {في الأرض} أطلقها والمراد مكة، لأنها لعظمها كأنها هي الأرض كلها، ولأن حالهم كان في بقية البلاد كحالهم فيها أو قريباً من ذلك، ولذلك عبر الناس في قوله: {تخافون} أي في حال اجتماعكم فكيف عند الانفراد {أن يتخطفكم} أي على سبيل التدريج {الناس} أي كما تتخطف الجوارح الصيود، فحذرهم سبحانه - بالتنبيه على قادر على أن يعيدهم إلى ما كانوا عليه - من هذه الأحوال بالمخالفة بين كلمتهم وترك التسبب إلى اجتماعها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ذلك(8/259)
أيضاً إشارة إلى أنهم لما كانوا في تلك الحالة التي هي في غاية الضعف، وكانت كلمتهم مجتمعه على أمر الله الذي هو توحيده وطاعة رسوله، أعقبهم الإيواء في دار منيعة، قد أيدهم بالنصر وأحسن رزقهم، وذلك معنى قوله تعالى مسبباً عما قبله: {فآواكم} أي في دار الهجرة رحمة لكم {وأيدكم بنصره} أي بأهلها مع الملائكة {ورزقكم من الطيبات} أي الغنائم الكاملة الطيبة بالإحلال وعدم المنازع التي لم تحل لأحد قبلكم وغيرها {لعلكم تشكرون*} أي ليكون حالكم حال من يرجى شكره، فيكون بعيداً عن المنازعه في الأنفال، وذلك إشارة إلى أنهم مهما استمروا على تلك الحالة، كان - بإقبالهم على مثل ما أتاهم به وزادهم من فضله - أن جعلهم سادة في الدارين بما يهب لهم من الفرقان الآتي في الآية بعدها والتوفيق عند إتيانه، فالآية منصبة إلى الصحابه بالقصد الأول وهي صالحة للعرب كافة فتنصرف إليهم بالقصد الثاني؛ قال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذل الناس وأشقاهم عيشاً وأجوعهم بطناً وأعراهم جلداً وأبينهم ضلالاً، من عاش شقياً ومن مات منهم تردى في النار معكوفين على رأس الحجرين الشديدين: فارس والروم، يؤكلون ولا يأكلون، وما في بلادهم شيء عليه يحسدون حتى جاء الله بالإسلام، فمكن لهم من البلاد ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكاً على قارب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على(8/260)
نعمه، فإن ربكم يحب شكره والشاكر في مزيد من الله تعالى.
ولما ختم الآية هو في غاية النصيحة منه تعالى لهم من الإيواء والنصر والرزق الطيب المشار به إلى الامتنان بإحلال المنعم، وختم ذلك بالحث على الشكر؛ نهانا عن تضييع الشكر في ذلك بالخيانة في أوامره بالغلول أو غيره فقال: {يا أيها الذين آمنوا} تذكيراً بما ألزموا به أنفسهم من الوفاء {لا تخونوا الله} أي تنقصوا من حقوق الملك الأعظم، فإن أصل الخون النقص ثم استعمل في ضد الأمانه والوفاء فصارت نقصاً خاصاً {والرسول} بغلول ولا غيره، بل أدوا الأمانه في جميع ذلك، ولعله كرر العامل في قوله: {وتخونوا آماناتكم} من الفرائض والحدود والنوافل وغيرها إشارة إلى أن الخيانتين مختلفتان، فخيانتهم لله حقيقة، وخيانتهم للأمانه استعارة، لأن حاملها لما أخلَّ بها كان كأنه خانها؛ وخفف عنهم بقوله: {وأنتم تعلمون*} حال الغفلة ونحوها، ويجوز أن يكون المفعول غير مراد فيكون المعنى: وأنتم علماء، ويكون ذلك مبالغة في النهي عنها بأنهم جديرون بأن لا يقبل منهم عذر بجهل ولا نسيان لأنهم علماء، والعالم هو العارف بالله، والعارف لا ينبغي أن ينفك عن المراقبة.(8/261)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
ولما كان سبب الخيانة غالباً محبة المال أو الولد، وكان سبب التقاول المسبب عنه إنزال هذه السورة - كما سلف بيانه أولها - الأموال من(8/261)
الأنفال، وكان من أعظم الخيانة في الأنفال الغلول، وكان الحامل على الغلول المحنة بحب جمع المال إما استلذاذاً به أو لإنفاقه على محبوب، وكان الولد أعز محبوب؛ حسن كل الحسن إيلاء ذلك قوله: {واعلموا} وهي كلمة ينبه بها السامع على أن ما بعدها مهم جداً {أنما أموالكم} قلّت أو جلّت هانت أو عزّت {وأولادكم} كذلك {فتنة} أي سببها، يفعل الله بها فعل المختبر لينكشف للعباد من يغتر بالعاجل الفاني ممن تسمو نفسه عن ذلك، فلا يحملنكم ذلك على مخالفة أمر الله فتهلكوا {وأن الله} أي المحيط بكل كمال {عنده أجر عظيم*} عاجلاً وآجلاً لمن وقف عند حدوده، فيحفظ له ماله ويثمر أولاده ويبارك له فيهم مع ما يدخر له في دار السعادة، وعنده عذاب أليم لمن ضيعها، فأقبلوا بجميع هممكم إليه تسعدوا، وزاد وضعها هنا حسناً سبب نزول التي قبلها من قصة أبي لبابة رضي الله عنه الحامل عليها ماله وولده، وكانت قصته في قريظة سنة خمس وغزوة بدر في السنة الثانية.
ولما ذكرهم ما كانوا عليه قبل الهجرة من الضعف، وامتنَّ عليهم بما أعزهم به، وختم هذه بالتحذير من الأموال والأولاد الموقعة في الردى، وبتعظيم ما عنده الحامل على الرجاء، تلاها بالأمر بالتقوى الناهية عن الهوى بالإشارة إلى الخوف من سطواته إشارة إلى أنه يجب الجمع(8/262)
بينهما، وبين تعالى أنه يتسبب عنه الأمن من غيره في الأولى والنجاة من عذابه في الأخرى فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} تكريراً لهذا الوصف تذكيراً بما يلزم بادعائه {إن تتقوا الله} بإصلاح ذات بينكم، وذلك جامع لأمر الدين كله {يجعل لكم فرقاناً} أي نصراً، لأن مادة «فرق» ترجع إلى الفصل، فكأن الشيء إذا كان متصلاً كان كل جزء منه مقهوراً على ملازمة صاحبه، فإذا جعل له قوة الفرق قدر على الاتصال والانفصال، فحقيقته: يجعل لكم عزاً تصيرون به بحيث تفترقون ممن أردتم متى أردتم وتتصلون بمن أردتم متى أردتم لما عندكم من عزة الممانعة، وتفرقون بين من أردتم متى أردتم لما لديكم من قوة المدافعة، أي يجعل لكم ما يصير لكم به قوة التصرف فيما تريدون من الفصل والوصل الذي هو وظيفة السادة المرجوع إلى قولهم عند التنازع، لا كما كنتم في مكة، لا تأمنون في المقام ولا تقدرون على الكلام - فضلاً عن الخصام - إلا على تهيب شديد، ومع ذلك فلا يؤثر كلامكم أثراً يسمى به فارقاً، والفاروق من الناس الذي يفرق بين الأمور ويفصلها، وبه سمي عمر رضي الله عنه لأنه أظهر الإسلام بمكة إظهاراً فيه عز وقوة، جعل فيه الإيمان مفارقاً للكفر لا يخافه، وفرق - بالكسر بمعنى خاف - يرجع إلى ما دارت عليه المادة، فإن المراد به: تفرقت همومه من اتساع الخوف، والفرق الذي هو المكيال الكبير كأنه هو الفارق بين الغني والفقير، قال الهروي: هو اثنا عشر مداً: وأفرق من علته -(8/263)
إذا برىء، أي صارت له حالة فرقت بين صحته ومرضه الذي كان به، ومنه الفريقة وهي تمر وحلبة يطبخ للنفساء؛ وقرفت الشيء - بتقديم القاف: قشرته، والقرف: الخلط، كأنه من الإزالة، لأنهم قالوا: إن «فعل» يدخل في كل باب، ومنه: قرف الشيء واقترافه: اكتسبه، والاقتراف بمعنى الجماع، ويمكن أن يرجع إلى الوعاء لأن القرف الوعاء، لأنه يفصل مظروفه عن غيره، وفلان قرفتي، أي موضع ظني منه كأنه صار وعاء لذلك، وفرس مقرف، أي بيّن القرفة، أي هجين لأنه واضح التميز من العربي، وقرف بسوء: رمى به، أي جعل وعاء له أو فرق همومه؛ والقفر - بتقديم القاف: المكان الخالي لانفصاله من الناس، وأقفر المكان: خلا، وأقفر الرجل من أهله: انفرد عنهم، وقفر الطعام: خلا من الأدم، ورجل قفر الرأس: لا شعر عليه لانفصاله عنه، وقفر الجسد: لا لحم عليه، والقفار: الطعام لا أدم له، واقتفرت الأثر: اتبعته لتفصله من غيره؛ والفقرة - بتقديم الفاء - والفقار: ما تنضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب لتميز كل واحدة عن أختها، وفقرت الأرض فقراً: حفرتها حفراً،(8/264)
فصارت كل واحدة منفصلة من الأخرى، والفاقرة: الداهية الكاسرة للفقار، ومنه الفقر والافتقار للحاجة، وأفقرني دابته: أعارني ظهرها، وراميته من أدنى فقرة: من أدنى معلم لأن المعالم منفصل بعضها عن بعض، والتقفر في رجل الدابة بياض لانفصاله عن بقية لونها، ورفقت بالأمر: لطفت به، ولا يكون ذلك إلا بفصله عما يضره، ومنه الرفيق للصاحب من الرفقة، والمرفق من ذلك لما يحصل به من اللطف.
ولما كان الإنسان محل النقصان فلا يخلو من زلة أو هفوة، أشار إلى ذلك بقوله: {ويكفِّر عنكم سيئاتكم} أي يسترها ما دمتم على التقوى {ويغفر لكم} أي يمحو ما كان منكم غير صالح عيناً وأثراً، وفيه تنبيه لهم على أن السادات على خطر عظيم لأنهم مأمورون بالمساواة بين الناس، والنفس مجبولة على ترجيح من لاءمها على من نافرها، وإشارة إلى أن الحكم بالعدل في أعلى الدرجات لا يتسنمه إلا الفرد النادر، وقوله: {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {ذو الفضل العظيم*} مرّج للزيادة على الكفارة والمغفرة من فضله، ومعلم بأنه لا يمتنع عليه شيء، فمن الممكن أن يلزم كلاً منهم طريق العدل وإن كانت من خرق العادة في أعلى محل، وفي الآية أعظم مناسبة لقصة أبي لبابة رضي الله عنه لأنه لما كان الحامل له على ما فعل بنفسه من العقوبة التقوى، فكفرت عنه خطيئته وغفر له،(8/265)
عقبت بها ترغيباً لغيره في الإسراع بالتوبة عند مواقعة الهفوة، وختم هذه الآية بالفضل على ما كان من نقص، إشارة إلى تفضله سبحانه بما رزق أهل الإسلام من علو المنزلة وانتشار الهيبة وفخامة الأمر في قلوب المخالفين كما هو مشاهد، وختم الآية المحذرة من المداهنة بشديد العقاب، إشارة إلى ما ألبسهم من الأحوال المذكورة في التي تليها من قلة منعتهم واستضعافهم وخوفهم من تخطف المخالفين لهم، ولكنه تعالى رحمهم بأن جعل ذلك من بعضهم ممن يشمله اسم الإسلام لبعض، لا من غيرهم فلبسهم شيعاً وأذاق بعضهم بأس بعض، فكل خائف من الآخر، وصار المتقي من كثرة المخالف لا يزال من المعاطب والمتالف خائفاً يترقب، ومباعداً لا يقرب، على أنهم لا يعدمون أنصاراً يؤيدهم الله بهم، ولا يزال أهل الظلم يختلفون فيما بينهم فيرجع الفريقان إليهم ويعولون عليهم، فمن نصروه فهو المنصور، فكلامهم عند المضايق هو الفرقان، ولهم في قلوب الظالمين هيبة وإن نزلت بهم الحال أكثر مما للظلمة في قلوبهم من الهيبة ليتيقن الكل أنهم على الحق الذي الله ناصره، وأن أهل الشر على الباطل الذي الله خاذله، قال الحسن البصري رحمه الله في حق العالين في الأرض: أما والله! إن للمعصية في قلوبهم لذلاً وإن طفطف(8/266)
بهم اللحم، فقد انقسم الخوف بينهم نصفين وشتان ما بين الحزبين، فخوفهم يزيدهم الله به أجراً ويجعله لهم ذخراً، وخوف أهل الباطل يزيدهم به وزوراً ويجعله لدينه أزراً، فهذه حقيقة الحال في وصف أهل الحق والمحال.
ولما وعد سبحانه بهذا الفضل العظيم والنبأ الجسيم، ذكرهم من أحوال داعيهم وقائدهم وهاديهم عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام بما يدعوهم إلى ملازمة أسبابه في سياق المخاطبة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تذكيراً بنعمته وإشارة إلى دوام نصرته فقال تعالى عاطفاً على {إذ أنتم} {وإذ يمكر بك} أي يدبر في أذاك على وجه الستر {الذين كفروا} أي أوجدوا هذا الوصف، وفيهم من لم يكن راسخ القدم فيه؛ ثم بيَّن غاية مكرهم فقال: {ليثبتوك} أي ليمنعوك من التصرف بالحبس في بيت يسدون عليك بابه - كما هو واضح من قصة مشاورتهم في دار الندوة في أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السير، ومن قرأها بالموحدة ثم التحتانية من البيات الذي معناه إهلاك العدو ليلاً، فعطفُ {أو يقتلوك} عنده بمعنى القتل نهاراً جهاراً، وكأنه عد البيات للاستخفاء به عدماً بالنسبة غلى المجاهرة {أو يخرجوك} أي من مكة {ويمكرون} أي والحال أنهم يمكرون بإخفاء ما يريدون بك من ذلك وغيره من الكيد {ويمكر الله} أي يفعل المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في أمرهم فعل من يمكر بإخفاء(8/267)
ما يقابلهم به {والله خير الماكرين*} لأنه لا يمكن أحداً علم ما يريد إخفاءه لأنه الملك الأعلى المحيط بالجلال والجمال، فالنافذ إنما هو مكرُه، والعالي إنما هو نصره، فكأنه تعالى يقول: انظروا إلى مصداق ما وعدتكم به في أحوال نبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كان وحده وجميع الناس يخالفونه فثبت على أداء الرسالة إليهم وإبلاغ النصيحة لهم على ما يصله منهم من الأذى ولا يزيده أذاهم له إلا اجتهاداً في أداء ما ينفعهم إليهم.(8/268)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
ولما ذكر مكرهم بالرسول، ذكر مكرهم بما أرسل به، فقال عاطفاً على «إذ أنتم» : {وإذا تتلى} أي من أي تال فرض {عليهم آياتنا} أي التي هي الفرقان جلالة وعظماً لم يدعوها تؤثر في تلك الحالة، بل {قالوا} إظهاراً لعنادهم لها وتشيعاً بما لم يعطوا وادعاء لما لمن ينالوا {قد سمعنا} ولما لم يتأثر عن سماعهم الإذعان، تشوف السامع إلى علة إعراضهم فقال معللاً أو مستأنفاً: {لو نشاء} أي في أيّ وقت أردنا {لقلنا مثل هذا} أي لأنه ليس قول الله كما يزعم محمد {إن} أي ما {هذا} الذي يتلى عليكم {إلا أساطير} جمع سطور وأسطار جمع سطر {الأولين*} أي من بني آدم، سطروا فيها علومهم وأخبارهم فهو من جنس كلامنا وقائله من جنسنا، وهذا غاية المكابرة لأنه قد تحداهم بقطعة من مثله إن كان له - كما يزعمون - مثل، وبالغ في تقريعهم فما منعهم - من إبراز شيء مما يدعون وليس بينهم وبينه بزعمهم إلا أن يشاؤوا،(8/268)
مع انتقالهم إلى أشد الأمور: السيف الماحق على تهالكهم على قهره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى ما لهم من فرط الأنفة من العار والبعد مما يقضي عليهم بالغلب أو أن يوصفوا بالكذب - إلا علمهم بأن ذلك فاضحهم، ومخزيهم مدى الدهر وقائحهم، والمعنى أني أثبت هذا النبي الكريم على صبره على ذلك ومثابرته على أداء الأمانة بالاجتهاد في النصيحة على ما يلقى إن نجيته منهم ومنعته من جميع ما كادوه به، وكنت لا أزل أؤيده باتباع من أعلم فيه الخير إلى أن هيأت له داراً وخبأت له أنصاراً، وجعلت داره بالأصحاب منيعة، وبنيت لها أعمدة بصوارم الأحباب ثابتة رفيعة، نقلته إلى ذلك مع اجتهاد أهل العناد وهم جميع أهل الأرض في المنع، فلم يؤثر كيدهم، ولا أفادهم مع أيدي أيدهم، وجعلت نفس نقلته له فرقاناً يفرق بها بين الحق والباطل، وصار إلى ما ترون من قبول الأمر وجلالة القدر ونفاذ الفصل بين الأمور وظهر دينه أيّ ظهور، فلازموا التقوى ملازمته وداوموا على الطاعة مدوامته أهب لكم من سيادته وأحملكم بملابس إمامته.
ولما كان ذلك موضع عجب من عدم إعجال الضُلال بالعذاب وإمهالهم إلى أن أوقع بهم في غزوة بدر لا سيما مع قوله {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} بيّن السر في ذلك وإن بالغوا في استعجاله(8/269)
فقال: {وإذ قالوا} أي إرادة المكابرة بالتخييل إلى الناس أنهم على القطع من أنه باطل وإلا لما دعوا بهذا الدعاء {اللهم} أي يا من له تمام المُلك وعموم الملك {إن كان هذا} أي الأمر الذي أتانا به محمد {هو} أي لا ما نحن عليه {الحق} حال كونه منزلاً {من عندك} وقال الزجاج: إنه لا يعلم أحداً قرأ {الحق} بالرفع - أفاده أبو حيان {فأمطر علينا حجارة} ولعل تقييده بقوله: {من السماء} مع أن الأمطار لايكون إلا منها - لإزالة وهم من يتوهم أن الإمطار مجاز عن مطلق الرجم وأنه إنما ذكر لبيان أن الحجارة المرجوم بها في الكثرة مثل المطر {أو ائتنا بعذاب أليم*} أي غير الحجارة، ولعل مرادهم بقولهم ذلك الإشارة إلى أن مجيء الوحي إليك من السماء خارق كما أن إتيان الحجارة منها كذلك، فإن كنت صادقاً في إتيان الوحي إليك منها فأتنا بحجارة منها كما أتت الحجارة منها أصحاب الفيل صوناً من الله لبيته الذي أراد الجيش انتهاك حرمته وإعظاماً له - أشار إلى ذلك أبو حيان، وهذه الآية والتي قبلها في
«النضر بن الحارث أسره المقداد يوم بدر فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله فقال المقداد: أسيري يا رسول الله! فقال: إنه كان يقول في كتاب الله تعالى ما يقول، فعاد المقداد رضي الله عنه لقوله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم أغن(8/270)
المقداد من فضلك، فقال: ذاك الذي أردت يا رسول الله! فقتله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنشدت أخته قتيلة أبياتاً منها:»
ما كان ضرك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المخنق
«فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه» وعن معاوية رضي الله عنه أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك قالوا {إن كان هذا هو الحق من عندك} [الأنفال: 32] وما قالوا: فاهدنا به، والسر الذي بينه في هذه الآية في إمهالهم هو أنه ما منعه من الإسراع في إجابة دعائهم كما فعل في وقعة بدر إلا إجلال مقامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرهم فقال: {وما كان الله} أي مع ما له من صفات الكمال والعظمة والجلال، وأكد النفي بقوله: {ليعذبهم} أي ليجدد لهم ذلك في وقت من الأوقات {وأنت} أي يا أكرم الخلق {فيهم} فإنه لعين
تجازي ألف عين وتكرم ... ولما بين بركة وجوده، أتبعه ما يخلفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا غاب في العباد من العذاب فقال: {وما كان الله} أي الذي له الكمال كله {معذبهم} أي مثبتاً وصف تعذيبهم بحيث يدوم {وهم يستغفرون*} أي يطلبون الغفران بالدعاء أو يوجدون هذا اللفظ فيقولون: أستغفر الله،(8/271)
فإن لفظه وإن كان خبراً فهو دعاء وطلب، فوجوده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوم أبلغ من نفي العذاب عنهم، وهذا الكلام ندب لهم إلى الاستغفار وتعليم لما يدفع العذاب عنهم كما تقول: ما كنت لأضربك وأنت تطيعني، أي فأطعني - نبه عليه الإمام أبو جعفر النحاس، وفي ذلك حث عظيم لمن صار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرهم من المسلمين صادقهم ومنافقهم على الرغبة في مواصلته والرهبة من مفارقته، وتعريف لهم بما لهم في حلول ذاته المشرقة في ساحتهم من جليل النعمة ترغيباً في المحبة لطول عمره والاستمساك بعزره في نهيه وأمره إذ المراد - والله أعلم - بالاستغفار طلب المغفرة بشرطه من الإيمان والطاعة، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان في هذه الأمة أمانان، أما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد مضى، وأما الاستغفار فهو كائن فيكم إلى يوم القيامة.
ولما كان هذا ليس نصاً في استحقاقهم العذاب، قال تعالى عاطفاً على ما تقديره: وليعذبهم الله إذ هاجرت عنهم ولم يؤمنوا فيستغفروا: {وما لهم} قال أبو حيان: الظاهر أن «ما» استفهامية، أي أي شيء لهم في انتفاء العذاب، وهو استفهام معناه التقرير، أي كيف لا يعذبون وهم متصفون بهذه الصفة المتقضية للعذاب وهي صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وليسوا بولاة البيت - انتهى. وتقدير الكلام: وأيّ حظ لهم في {ألا يعذبهم الله} أي الذي له كمال العز والعظمة على(8/272)
الظالم والإكرام والرفق بالطائع عاجلاً {وهم} أي والحال أنهم مستحقون للعذاب فهو واقع بهم لا محالة وإن تأخر مدة إبانه وأبطأ عنهم أوانه وقوعاً ينسيهم ما نالوه من اللذات وإن عظم عندهم شأنها وامتد طويلاً زمانها لأنهم {يصدون} أي يوجدون الصد {عن المسجد} أي من أراد تعظيمه بالصلاة التي وضع المسجد لها وغيرها {الحرام} أي العظيم حرمته عند كل أحد فلا اختصاص به لشخص دون آخر، أي شأنهم فعل حقيقة الصد في الماضي والحال والمآل، لا ينفكون عن ذلك، كما كانوا يمنعون من شاؤوا من دخول البيت ويقولون: نحن ولاته، نفعل ما نشاء، ويصدون المؤمنين عن الطواف به التعذيب والفتنة وصدوا رسول الله عليه وسلم ومن معه بالإخراج ثم صدوهم عام الحديبية عن الوصول إلى البيت وعام عمرة القضية عن الإقامة بعد الثلاثة الأيام {وما} أي والحال أنه لم يكن لهم ذلك لأنهم ما {كانوا أولياءه} أي أهلاً لولايته بحيث إن صدهم ربما يقع موقعه؛ روى البخاري في التفسير عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] فنزلت {وما كان الله ليعذبهم} [الأنفال: 33] إلى {عن المسجد الحرام} [الأنفال: 33] .
ولما نفى عنهم الولاية. ذكر أهلها فقال؛ {إن} أي ما {أولياؤه} أي بالاستحقاق {إلا المتقون} أي العريقون في هذا الوصف بما يجعلون(8/273)
بينهم وبين سخط الله من وقايات الطاعات، لا كل من آمن بل خاصة المؤمنين، وهم ليسوا كذلك لتلبسهم الآن بالكفر {ولكن أكثرهم لا يعلمون*} أي ليس لهم علم بالأمور ليميزوا بين الحق والباطل والمتقي والفاسق وحسن العواقب وسيئها، ولعله عبر بالأكثر إعلاماً بأن فيهم المعاند، ولأنه كان منهم من آمن بعد ذلك فصار من أولي العلم.
ولما كانوا يفعلون عند البيت ما ينزه البيت عنه مما هو غاية في الجهل، قال مبيناً لجهلهم واستحقاقهم للنكال وبعدهم عن استحقاق ولايته: {وما كان صلاتهم} أي التي ينبغي أن تكون مبنية على الخشوع، وزاد في التبشيع عليهم بقوله: {عند البيت} أي فعلهم الذي يعدونه صلاة أو يبدلونها به {إلا مكاء} أي صفيراً يشبه صفير الطير والدبر بريح الحدث - من مكا يمكو مكواً ومكاء - إذا صفر بفيه أو شبك أصابعه ونفخ فيها، ومكت الشجرة بريحها: صوتت، والدبر بريح الحدث: صوت - قال أبو حيان: وجاء على فعال أي بالضم ويكثر فعال في الأصوات كالصراخ - انتهى. {وتصدية} أي وتصفيقاً، كان أهل الجاهلية يطوفون عراة ويصفرون بأفواههم ويصفقون بأيديهم مقصورة، فيكون تصويتهم ذلك يشبه الذي(8/274)
رجّع الصوت في المكان الخالي، فهو كناية عن أن صلاتهم لا معنى لها، وأصله صدد - مضاعف - إذا أعرض ومال مثل التظني من ظنن -، فهذا لهو لا عبادة وهزء لا جد مع أن الأمر جد وأيّ جد كما قال تعالى: {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون} [النجم: 59- 61] أي ولا تبكون في حال جدكم بدأبكم في العمل الصالح، فهذا الذي يعملونه مناف لحال البيت فهو تخريب لا تعمير، قال مقاتل: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى في المسجد قام رجلان من المشركين عن يمينه يصفران ويصفقان، ورجلان كذلك عن يساره ليخلطوا عليه صلاته، وتقدير الكلام على قراءة الأعمش: صلاتهم - بالنصب: وما كان شيء إلا مكاء وتصدية صلاتهم، فنفى عما يجعلونه صلاة كل شيء إلا المكاء والتصدية، فالصلاة مقصورة عليهما بهذا الاعتبار، فقد صارت بهذا الطريق بمعنى القراءة المشهورة سواء فتأمله فإنه نفيس جداً، وخرج عليه الخلاف في آية الأنعام {ثم لم تكن فتنتهم} [الأنعام: 23] وغيره، وقد مضى هناك ما ينفع هنا، ومما يجب أن يعلم أن هؤلاء لم يذمهم الله لأنه أعلى الذم، بل ذمهم لكونهم اتخذوا العبادة لعباً لينبه بذلك على ذم من أشبههم في ذلك فعمد إلى ما هو مباح في أصله فاتخذه ديناً فكيف إذا كان مكروهاً أم كيف إذا كان حراماً، فقبح الله قوماً ادعوا أنهم أعرضوا عن الدنيا ثم اتخذوا الطبول والغنى والتصدية شعارهم ثم ضربوا به حتى فعلوه في(8/275)
المساجد وزادوا على فعل الجاهلية الرقص الذي ابتدعه قوم السامري لما عبدوا العجل، فأخذوا أنواعاً من أفعال أنواع من الكفرة وجعلوها عادتهم وشعارهم وديانتهم، فلقد انتهكوا حرمات الشريعة وبدلوها واستهانوا بها واسترذلوها.
ولما كان مساق الكلام لبيان استحقاقهم العذاب، وأنه لا مانع لهم منه وكان قد أوقع بهم في هذه الغزوة مباديه، وكانت المواجهة بالتعنيف وقت إيقاع ما لا يطاق بالعدو إنكاء، قال مسبباً عن قبيح كا كانوا يرتكبونه: {فذوقوا العذاب} أي الذي توعدكم الله والذي رأيتموه ببدر وطلبتموه في استفتائكم حكم الاستهانة به {بما كنتم تكفرون*} اي إنكم قد صرتم بهذا الفعل أهلاً لذوقه بما تسترون مما دلتكم عليه عقولكم من هذا الحق الواضح.(8/276)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
ولما أخبر سبحانه عن أحوال الكفار في الأعمال البدنية، وكان غلبهم مع كثرتهم وقوتهم مستبعداً، أخبر بما يقربه مبيناً لأعمالهم المالية فقال: {إن الذين كفروا} أي مع كثرتهم لأنهم ستروا مرائي عقولهم التي هي الإنسان بالحقيقة فنقصوا بذلك نقصاً لا يدرك كنهه {ينفقون أموالهم} أي يعزمون على إنفاقها فيما يأتي {ليصدوا} أي بزعمهم أنفسهم وغيرهم {عن سبيل الله} أي عن سلوك طريق - الذي لا يدني عظمته عظمة مع اتساعه ووضوحه وسهولته {فسينفقونها}(8/276)
أي بحكم قاهر لهم لا يقدرون على الانفكاك عنه {ثم تكون} أي بعد إنفاقها بمدة، وعبر بعبارة ظاهرة في مضرتها فقال: {عليهم} وأبلغ في ذلك بأن أوقع عليها المصدر فقال: {حسرة} أي لضياعها وعدم تأثيرها {ثم يغلبون*} أي كما اتفق لهم في بدر سواء، فإنهم أنفقوا مع الكثرة والقوة ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئاً مما أراد الله بهم، بل كان وبالاً عليهم، فإنه كان سبباً لجرأتهم حتى أقدموا نظراً إلى الحاضر وقصوراً عن الغائب كالبهائم فهلكوا، وكان ذلك قوة للمؤمنين فما كان في الحقيقة إلا لهم، وهذا الكلام منطبق على ما كان سبب نزوله الآية وعلى كل ما شاكله، وذلك أنهم لما قهروا في بدر قال لهم أبو سفيان: إنه ينبغي أن تنفقوا مال تلك العير - يعني التي كانت معه - ونحث على حرب محمد، فأجابوا وأنفقوه على غزوة أحد فحصل لهم فيها بعض ظفر ثم تعقبه الحسرة والمغلوبية في بدر الموعد وكل ما بعدها؛ ثم أظهر وصفهم الذي استحقوا به ذلك تعليقاً للحكم به وتعميماً منذراً لهم بما هو أشد من ذلك فقال: {والذين كفروا} أي حكم بدوام كفرهم عامة سواء زادوا على الكفر فعل ما تقدم أم لا {إلى جهنم} أي لا إلى غيرها.
ولما كان المنكى هو الحشر، لا كونه من معين، بني للمفعول قوله: {يحشرون*} أي بعد الموت فهم في خزي دائم دنيا وأخرى، ويجوز أن يتجوز بجهنم عن أسبابها فيكون المعنى أنهم يستدرجون بمباشرة أسبابها(8/277)
إليها ويحملون في الدنيا عليها، وهذه الآيات - مع كونها معلمة بما لهم في الدنيا وما لهم في الآخرة من أن آخر أمرهم في الدنيا الغلب كما كشف عنه الزمان علماً من أعلام النبوة وفي الآخرة جهنم - هي مبينة لكذبهم في قولهم {لو نشاء لقلنا مثل هذا} [الأنفال: 31] فإنهم لو كانوا صادقين في دعواهم لقالوا مثله ثم قالوا: لو كان هذا هو الحق لا غيره لما قلنا مثله، موضع قولهم {إن كان هذا هو الحق} [الأنفال: 32] إلى آخره، وأما آية المكاء والتصدية فكأنها تقول: هذا القرآن في أعلى درج البلاغة ولم تؤهلوا أنتم - مع ادعائكم السبق في البلاغة - لأن تعارضوا بشيء له أهلية لشيء من البلاغة، بل نزلتم إلى أصوات الحيوانات العجم حقيقة، فلا أجلى من هذا البيان على ما ادعيتم من الزور والبهتان، وأما آية الإنفاق فقائلة: لو قدرتم في معارضته على إنفاق الأقوال لما عدلتم عنه إلى إنفاق الأموال المفضي إلى مقاساة الأهوال وفساد الأشباح ونفوق ما حوت من الأرواح المؤدي إلى الذل السرمد بالعذاب المؤبد.
ولما ذكر حشر الكافرين ذكر علته فقال معلقاً بيحشرون: {ليميز الله} أي الذي له صفات الكمال بذلك الحشر {الخبيث من الطيب} أي إنما جعل للكفار داراً تخصهم ويخصونها لإظهار العدل والفضل بأن يميز الكافر من المؤمن فجعل لكل دار يتميز بها عدلاً في الكافرين وفضلاً على المؤمنين، فيجعل الطيب في مكان واسع حسن {ويجعل الخبيث} أي الفريق المتصف بهذا الوصف {بعضه على بعض} والركم: جمع الشيء(8/278)
بعضه فوق بعض، فكأن قوله: {فيركمه جميعاً} عطف تفسير يؤكد الذي قبله في إرادة الحقيقة مع إفهام شدة الاتصال حتى يصير الكل كالشيء الواحد كالسحاب المركوم، والنتيجة قوله: {فيجعله في جهنم} أي دار الضيق والغم والتهجم والهم.
ولما كان هذا أمراً لا فلاح معه، استأنف قوله جامعاً تصريحاً بالعموم: {أولئك} أي البعداء البغضاء الذين أفهمهم اسم الجنس في الخبيث {هم الخاسرون*} أي خاصة لتناهي خسرانهم، لأنهم اشتروا بأموالهم إهلاك أنفسهم بذلك الحشر.
ولما بين ضلالهم في عبادتهم البدنية والمالية، وكان في كثير من العبارات السالفة القطع للذين كفروا بلفظ الماضي بالشقاء، كان ذلك موهماً لأن يراد من أوقع الكفر في الزمن الماضي وإن تاب، فيكون مؤيساً من التوبة فيكون موجباً للثبات على الكفر، قال تعالى متلطفاً بعباده مرشداً لهم إلى طريق الصواب مبيناً المخلص مما هم فيه من الوبال في جواب من كأنه قال: أما لهم من جبلة يتخلصون بها من الخسارة {قل للذين} أي لأجل الذين {كفروا} أني أقبل توبة من تاب منهم بمجرد انتهائه عن حاله {إن ينتهوا} أي يتجدد لهم وقتاً ما الانتهاء عن مغالبتهم بالانتهاء عن كفرهم فيذلوا لله ويخضعوا لأوامره {يغفر لهم} بناه للمفعول لأن النافع نفس الغفران وهو(8/279)
محو الذنب {ما قد سلف} أي مما اجترحوه كائناً ما كان فيمحي عيناً وأثراً فلا عقاب عليه ولا عتاب {وإن} أي وإن يثبتوا على كفرهم و {يعودوا} أي إلى المغالبة {فقد مضت سنت} أي طريقة {الأولين*} أي وجدت وانقضت ونفذت فلا مرد لها بدليل ما سمع من أخبار الماضين وشوهد من حال أهل بدر مما أوجب القطع بأن الله مع المؤمنين وعلى الكافرين، ومن كان معه نصر، ومن كان عليه خذل وأخذ وقسر {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21]
{ولينصرن الله من ينصره} [الحج: 40] {والعاقبة للمتقين} [القصص: 128] وإن كانت الحرب سجالاً.
ولما أشار ختم الآية قتالهم إن أصروا، وكان التقدير: فأقدموا عليهم حيثما عادوكم إقدام الليوث الجريئة غير هائبين كثرتهم ولا قوتهم فإن الله خاذلهم، عطف عليه قوله مصرحاً بالمقصود: {وقاتلوهم} أي دائماً {حتى لا تكون فتنة} أي سبب يوجب ميلاً عن الدين أصلاً {ويكون الدين} .
ولما كانت هذه الوقعة قد سرت كتائب هيبتها في القلوب فوجبت أيما وجبت، فضاقت وضعفت صدور الكافرين، وانشرحت وقويت قلوب المؤمنين؛ اقتضى هذا السياق التأكيد فقال: {كله لله} أي الملك الأعظم خالصاً غير مشوب بنوع خوف أو إغضاء على قذى، وأصل الفتن: الخلطة المحيلة، ويلزم ذلك أن يكون السبب(8/280)
عظيماً لأن الشيء لا يحول عن حاله إلا لأمرعظيم لأن مخالفة المألوف عسرة، ومنه النتف، وكذا نفت القدر، وهو أن يغلي المرق فيلزق بجوانبها، والتنوفة: القفر، لأنه موضع ذلك، ويلزمه الإخلاص، من فتنت الذهب - إذا أذبته فتميز جيده من رديئه، وتارة يكون الميل إلى جهة الرديء وهو الأغلب، وتارة إلى الجيد، ومنه {وفتناك فتوناً} [طه: 40] .
ولما كان لهم حال اللقاء حالان: إسلام وإقبال، وكفر وإعراض وإخلال، قال مبيناً لحكم القسمين: {فإن انتهوا} أي عن قتالكم بالمواجهة بالإسلام فاقبلوا منهم وانتهوا عن مسهم بسوء ولا تقولوا: أنتم متعوذون بذلك غير مخلصين، تمسكاً بالتأكيد بكله، فأنه ليس عليكم إلا ردهم عن المخالفة الظاهرة، وأما الباطن فإلى الله {فإن الله} أي المحيط علماً وقدرة، وقدم المجرور اهتماماً به إفهاماً لأن العلم به كالمختص به فقال: {بما يعملون} أي وإن دقَّ {بصير*} فيجاريهم عليه، وأما أنتم فلستم عالمين بالظاهر والباطن معاً فعليكم قبول الظاهر، والله بما تعملون أنتم أيضاً - من كف عنهم وقتل لله أو لحظّ(8/281)
نفس - بصير، فيجازيكم على حقائق الأمور وبواطنها وإن أظهرتم للناس ما يقيم عذركم، ويكمل لكل منكم أجر ما كان عزم على مباشرته من قتالهم لو لم ينتهوا، وإن لم ينتهوا بل أقدموا على قتالكم، هكذا كان الأصل، ولكنه سبحانه عبر بقوله: {وإن تولوا} أي عن الإجابة تبشيراً لهم بهزيمتهم وقلة ثباتهم لما ألقى في قلوبهم من الرعب، ويؤيد ذلك قوله: {فاعلموا أن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء {مولاكم} أي متولي أموركم فهو يعمل معكم ما يعمل من يتولى امر من يحبه من الاجتهاد في تحصيل ما ينفعه ودفع ما يضره فهو لا محالة ناصركم؛ ثم استأنف مدحه بما هو أهله تعريفاً بقدره وترغيباً في تولية فقال: {نعم المولى} ولم يدخل فاء السبب هنا لأن المأمور به العلم، واعتقاد كونه مولى واجب لذاته لا لشيء آخر، بخلاف ما في آخر الحج، فإن المأمور هناك الاعتصام {ونعم النصير*} أي فلا تخافوهم أصلاً وإن زادت كثرتهم وقويت شوكتهم فلا تبارحوهم حتى لا يكون إلا كلمة الله.(8/282)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
ولما كان التقدير: فإذا أعانكم مولاكم عليهم وغلبتموهم وغنمتم فيه فلا تنسبوا إلى أنفسكم فعلاً، بل اعلموا أنه هو الفاعل وحده لأن جميع الأفعال متلاشية بالنسبة إلى فعله فلا تتنازعوا في المغنم تنازع من أخذه بقوته وحازه بقدرته، عطف عليه قوله:(8/282)
{واعلموا} ابتداء بهذا الأمر إشارة إلى أن ما بعدها من المهمات ليبذلوا الجهد في تفريغ أذهانهم لوعيه وتنزيله منازله ورعيه {أنَّما} أي الذي {غنمتم} الغنيمة لغة: الفوز بالشيء، وشرعاً ما دخل في أيدي الملسمين من مال الكفار قهراً بالخيل والركاب، وزاد في التعميم حتى لأقل ما يمكن بقوله: {من شيء} أي حتى الخيط والمخيط فإنه كله له، لأنه الناصر وحده وإنما أنتم آلة لا قدرة لكم على مقاومة الأعداء لأنهم جميع أهل الأرض ولا نسبة لكم منهم في عدد ولا قوة أصلاً، فالجاري على منهاج العدل المتعارف عندكم أن يأخذه كله ولا يمكنكم من شيء منه كما كان فيمن قبلكم، يعزل فتنزل نار من السماء فتأكله، ولكنه سبحانه - علم ضعفكم فمنّ عليكم به ورضي منكم منه بالخمس فسماه لنفسه ورده عليكم، وهو معنى قوله: {فأن لله} أي الذي له كل شيء {خمسه} .
ولما كان من المعلوم أن الله تعالى أجلّ من أن يناله نفع أو ضر، كان من المعلوم أن ذكر اسمه سبحانه إنما هو للإعلام بأن إسلام هذا الخمس والتخلي عنه لا حظ للنفس فيه، وإنما هو لمحض الدين تقرباً إليه سبحانه، فذكر مصرفه بقوله: {وللرسول} أي يصرف إليه خمس هذا الخمس ما دام حياً ليصرفه في مصالح المسلمين، ويصرف بعده إلى القائم مقامه، يفعل فيه ما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله {ولذي القربى} أي من الرسول، وهم الآل الذين تحرم عليهم الزكاة: بنو هاشم وبنو المطلب {واليتامى} أي لضعفهم {والمساكين} لعجزهم {وابن السبيل} أي المسافر لأن الأسفار مظنات الافتقار، فالحاصل أنه سبحانه لم يرزأكم من(8/283)
المغنم شيئاً، فاعرفوا فضله عليكم أولاً بالإنعام بالنصر، وثانياً بحل المغنم، وثالثاً بالإمكان من الأربعة الأخماس، ورابعاً برد الخمس الخامس فيكم، فاشتعلوا بشكره فضلاً عن أن تغفلوا عن ذلك فضلاً عن أن تتوهموا أن بكم فعلاً تستحقون به شيئاً فضلاً عن أن تفعلوا من المنازعة في المغنم فعل القاطع بالاستحقاق، اعلموا ذلك كله علم المصدق المؤمن المذعن لما علم لتنشأ عنه ثمرة العمل {إن كنتم} صادقين في أنكم {آمنتم بالله} أي الذي لا أمر لأحد معه {وما} أي وبالذي {أنزلنا} أي إنزالاً واحداً سريعاً لأجل التفريج عنكم من القرآن والجنود والسكينة في قلوبكم وغير ذلك مما تقدم وصفه {على عبدنا} أي الذي يرى دائماً أن الأفعال كلها لنا فلا ينسب لنفسه شيئاً إلا بنا {يوم الفرقان} أي يوم بدر الذي جعلنا لكم فيه عزاً ينفذ به أقوالكم وأفعالكم في فصل الأمور.
ولما وصفه سبحانه بالفرقان تذكيراً لهم بالنعمة، بينه بما صور حالهم إتماماً لذلك - أو أبدل منه - فقال: {يوم التقى} أي عن غير قصد من الفريقين بل بمحض تدبير الله {الجمعان} أي اللذان أحدهما أنتم وكنتم حين الترائي - لولا فضلنا - قاطعين بالموت، وثانيهما أعداؤكم وكانوا على اليقين بأنكم في قبضتهم، وذلك هو الجاري على مناهج العوائد، ولو قيل: يوم بدر، لم يفد هذه الفوائد.
ولما كان انعكاس الأمر في النصر محل عجب، ختم الآية بقوله:(8/284)
{والله على كل شيء} أي من نصر القليل على الكثير وعكسه وغير ذلك من جميع الأمور {قدير*} فكان ختمها بذلك كاشفاً للسر ومزيلاً للعجب ومبيناً أن ما فعل هو الجاري على سنن سنته المطرد في قديم عادته عند من يعلم أيامه الماضية في جميع الأعصر الخالية.
ولما ذكر لهم يوم ملتقاهم، صور لهم حالتهم الموضحة للأمر المبينة لما كانوا فيه من اعترافهم بالعجز تذكيراً لهم بذلك ردعاً عن المنازعة ورداً إلى المطاوعة فقال مبدلاً من {يوم الفرقان} {إذ أنتم} نزول {بالعدوة الدنيا} أي القربى إلى المدينة {وهم} أي المشركون نزول {بالعدوة القصوى} أي البعدى منها القريبة إلى البحر، والقياس قلب واوه ياء، وقد جاء كذلك إلا أن هذا أكثر كما كثر استصوب وقلّ استصاب، والعدوة - بالكسر في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب، وبالضم في قراءة غيرهم: جانب الوادي وشطه، ومادتها - بأي ترتيب كان - تدور على الاضطراب ويلزمه المجاورة والسكون والإقبال والرجوع والاستباق والمحل القابل لذلك، فكأنها الموضع الذي علا عن محل فكان السيل موضعاً للعدو {والركب} أي العير الذي فيه المتجر الذي خرجتم لاقتطاعه ورئيس جماعته أبو سفيان، ونصب(8/285)
على الظرف قوله: {أسفل منكم} أي أيها الجمعان إلى جانب البحر على مدى من قرية تكادون تقعون عليه وتمدون أيديكم إليه مسافة ثلاثة أميال - كما قال البغوي، وهو كان قصدهم وسؤلكم، فلو كانت لكم قوة على طرقه لبادرتم إلى الطرف وغالبتم عليه الحتف، ولكن منعكم من إدراك مأمولكم منه من كان جاثماً بتلك العدوة جثوم الأسد واثقاً بما هو فيه من القوى والعدد كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسلمة بن سلامة بن وقش رضي الله عنه - لما قال في تحقيرهم بعد قتلهم وتدميرهم: إن وجدنا إلا عجائز صلعاً، ما هو إلا أن لقيناهم فمنحونا أكتافهم - جواباً له «أولئك يا ابن أخي الملأ لو رأيتهم لهبتهم ولو أمروك لأطعتهم» مع استضعافكم لأنفسكم عن مقاومتهم لولا رسولنا يبشركم وجنودنا تثبتكم، وإلى مثل هذه المعاني أشار تصوير مكانهم ومكان الركب أيماء إلى ما كان فيه العدو من قوة الشوكة وتكامل العدة وتمهد أسباب الغلبة وضعف حال المسلمين وأن ظفرهم في مثل هذا الحال ليس إلا صنعاً من الله، وما في البيضاوي تبعاً للكشاف من أن العدوة الدنيا كانت تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها تقدم رده أول السورة بأن المشهور في صحيح مسلم والسير وغيرها أن المؤمنين هم السابقون إلى الماء، وأن جميع أرض ذلك المكان كانت رملاً تسوخ فيه الأقدام، فأتى المسلمين به من المطر ما لبد لهم الأرض،(8/286)
وأتى المشركين منه ما لم يقدروا معه على الحركة {ولو تواعدتم} أي أنتم وهم على الموافاة إلى تلك المواضع في آن واحد {لاختلفتم في الميعاد} أي لأن العادة قاضية بذلك لأمرين: أحدهما بعد المسافة التي كنتم بها منها وتعذر توقيت سير كل فريق بسير صاحبه، والثاني كراهتكم للقائهم لما وقر في أنفسهم من قوتهم وضعفكم، وقد كان الذي كرّه إليكم لقاءكم قادر على أن يكره إليهم لقاءكم، فيقع الاختلاف من جهتهم كما كان في بدر الموعد، وأما في هذه الغزوة فدعاهم من حماية غيرهم داع لم يستطيعوا التخلف معه، وطمس الله بصائرهم وقسى قلوبهم مع قول أبي جهل الذي كان السبب الأعظم في اللقاء لمن عرض عليه المدد بالسلاح والرجال: إن كنا نقاتل الناس فما بنا ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل - كما يزعم محمد - الله فما لأحد بالله من طاقة، وقوله أيضاً في هذه الغزوة للأخنس بن شريق: إن محمداً صادق وما كذب قط، فعل الله ذلك لما علم في ملاقاتهم لكم من إعلاء كلمته وإظهار دينه {ولكن} أي دبر ذلك سبحانه حتى توافيتم إلى موطن اللقاء كلكم في يوم واحد من غير ميعاد ولم تختلفوا في موافاة ذلك الموضع مع خروج ذلك عن العادة لكونه أتقن أسبابه، فأطمعكم في العير أولاً مع ما أنتم فيه من الحاجة ثم وعدكم إحدى الطائفتين مبهماً وأخرج قريشاً لحماية عيرهم إخراجاً لم يجدوا منه بداً، ولما نجت عيرهم أوردهم الرياء والسمعة(8/287)
والبطر بما هم فيه من الكثرة والقوة كما قال أبو جهل: لا نرجع حتى نرد بدراً فننحر بها الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم من حضرنا من العرب فلا يزالون يهابوننا مدى الزمان - {ليقضي الله} أي الذي له جميع الأمر من إعزاز دينه بإعرازكم زإذلالهم {أمراً كان} كما تكون الجبلات والطبائع في التمكن والتمام {مفعولاً} أي مقدراً في الأزل من لقائهم وما وقع فيه من قتلهم وأسرهم على ذلك الوجه العظيم فهو مفعول لا محالة ليتبين به أيمان من آمن باعتماده على الله وتصديقه بموعده وكفر من كفر.
ولما علل ذلك التدبير في اللقاء بقوله: {ليقضي الله} علل تلك العلة بقوله: {ليهلك} أي لعد رؤية ذلك القضاء الخارق للعادة {من هلك} أي من الفريقين: الكفار في حالة القتال وبعدها، والمسلمين هلاكاً متجاوزاً وناشئاً {عن} حالة {بينة} لما بان من صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الوقعة في كل ما وعد به وكذب الكفار في كل ما كانوا يقولونه قاطعين به مع أن ظاهر الحال يقضي لهم، فكان ذلك من أعظم المعجزات {ويحيى من حيّ} أي بالإسلام حياة هي في أعلى الكمال بما تشير إليه قراءة نافع والبزي عن ابن كثير وأبي بكر عن عاصم بإظهار الياءين، أو في أدنى الكمال بما يشير(8/288)
إليه إدغام الباقين تخفيفاً حياة متجاوزة وناشئة {عن} حالة {بينة} أي كائنة بعد البيان في كون الكافرين على باطل والمؤمنين على حق لما سيأتي من أنهم كانوا يقولون {غر هؤلاء دينهم} [الأنفال: 49] فحينئذ تبين المغرور وكشفت عجائب المقدور عن أعين القلوب المستور.
ولما كان التقدير: فإن الله في فعل ذلك لعزير حكيم، عطف عليه قوله: {وإن الله لسميع} أي لما كنتم تقولونه وغيره {عليم*} بما كنتم تضمرونه وغيره فاستكينوا لعظمته وارجعوا عن منازعتكم لخشيته، ثم أتم سبحانه تصوير حالتهم بقوله مبيناً ما أشار إليه من لطف تدبره: {إذ} أي اذكر إذ أردت علم ذلك حين {يريكهم الله} أي الذي له صفات الكمال فهو يفعل ما يشاء {في منامك قليلاً} تأكيداً لما تقدم إعلامه به من أن المصادمة - فضلاً عما نشأ عنها - ما كان إلا منه وأنهم كانوا كالآلة التي لا اختيار لها، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رآهم في منامه قليلاً فحدث أصحاب رضي الله عنهم بذلك فاطمأنت قلوبهم وشجعهم ذلك؛ وعين ما كان يحصل من الفساد لولا ذلك فقال: {ولو أراكهم} أي في منامك أو غيره {كثيراً} .
ولما كان الإخبار بعد الوقعة بضد ما وقع فيها مما يقتضي طبع البشر التوقف فيه، أكد قوله: {لفشلتم} أي جبنتم {ولتنازعتم} أي اختلفتم فنزع كل واحد منزعاً خلاف منزع صاحبه {في الأمر} أي فوهنتم فزادكم ذلك ضعفاً وكراهة للقائهم {ولكن الله} أي الذي(8/289)
أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {سلم} أي ولكن لم يركهم كذلك فحصلت السلامة عما كان يتسبب عنها من النكوص، ثم بين العلة في ترتيبه ذلك وإخباره بهذا الأمر المفروض بقوله: {إنه عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور*} أي ضمائرها من الجراءة والجبن وغيرهما قبل خطورها في القلوب.
ولما بين ما نشأ عن رؤيته صلى الله عليه والسلم من قلتهم وما كان ينشأ عن رؤيته الكثرة لو وقعت، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما هو عليه من النصيحة والشفقة - كان يخبرهم بما رأى كما أخبرهم في غزوة أحد بالبقر المذبحة؛ أتبعه ما فعل من اللطف في رؤيتهم بأنفسهم يقظة فقال: {وإذ} أي واذكروا أيضاً إذ {يريكموهم} أي يبصركم أياهم {إذ} أي حين {التقيتم} ونبه على أن الرؤية ليست على حقيقة ما هم عليه بقوله: {في أعينكم} أي لا في نفس الأمر حال كونهم {قليلاً} أي عددهم يسيراً أمرهم مصدقاً لما أخبركم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رؤياه لتجترئوا عليهم؛ روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً، قال الحرالي في آل عمران: فجعل القليل وصفاً لهم لازماً ثابتاً دائماً عليهم بما أوجب فيهم من نقص ذواتهم بخفاء فطرتهم وما وراء خلق الفطرة(8/290)
من الذوات، قال تعالى: {ويقللكم} صيغة فعل واقع وقت لا وصفاً لهم من حيث إنه لو أراهم أياهم على الإراءة الحقيقية لزادهم مضاعفين بالعشر، فكانوا يرونهم ثلاثة آلاف ومائتين وثلاثين - انتهى.
{في أعينهم} قبل اللقاء ليجترئوا على مصادمتكم حتى قال أبو جهل: إنما هم أكلة جزور، ثم كثركم في أعينهم حين المصادفة حتى انهزموا حين فاجأتهم الكثرة فظنوا الظنون؛ قال الحرالي: قللهم حين لم يرهم أياهم على الإراءة - الحقيقية العشرية، ولا أراهم أياهم على الصورة الحسية؛ فكان ذلك أية للمؤمنين على قراءة ياء الغائب - أي في آل عمران - وكانت آية للكفار على قراءة {ترونهم} - بتاء الخطاب، فكان في ذلك في إظهار الإراءة في اعين الفئتين نحو مما كان من الإراءتين الواقعة بين موسى عليه السلام والسحرة في أن موسى عليه السلام ومن معه خيل إليهم من سحرهم أنها تسعى وأن فرعون ومن معه رأوا ثعباناً مبيناً يلقف ما يأفكون رؤية حقيقة، فتناسب ما بين الأيات الماضية القائمة لهذه الآية بوجه ما، وكان هذه الآية أشرف وألطف بما هي في مدافعة بغير آلة من عصى ولا حبل في ذوات الفئتين وإحساسهم - انتهى.
ولما ذكر ما أحاله سبحانه من إحساس الفئتين، علله بقوله: {ليقضي الله} أي الذي له العزة البالغة والحكمة الباهرة من نصركم وخذلانهم بأن تفاجئهم كثرتكم بعد رؤيتكم قليلاً فيشجعهم ذلك، ويهزمهم(8/291)
{أمراً كان مفعولاً} أي من إعجالهم - بما فجعهم من الكثرة بعد القلة - عن الحذر والاستعداد لذلك وبما فعل بأيديكم في هذه الغزوة من القتل والأسر والهزيمة المثمر لذل جميع أهل الكفر، كان مقدراً في الأزل فلا بد من وقوعه على ما حده لأنه لا راد لأمره ولا يبدل القول لديه، فعل ذلك كله وحده.
ولما كان التقدير: فبيده سبحانه ابتداء الأمور بتقديره أياها في الأزل لا بيد أحد غيره، عطف عليه قوله: {وإلى الله} أي الملك الأعلى الذي بيده وحده كل أمر {ترجع الأمور*} أي كلها فلا ينفذ إلا ما يريد إنفاذه، فلا تجري الأمور على ما يظنه العباد، وهو من قولك: هذا الأمر راجع إليك، أي مهما أردته فيه مضى، ولو فرض أن غيرك عالجه لم يؤثر فيه؛ ولا يزال كذلك حتى يرجع إليك فيمضي، فالحاصل أن فيه قوة الرجوع بهذا الاعتبار وإن لم يكن هناك رجوع بالفعل، وفي هذا تنبيه على أن أمور الدنيا غير مقصودة لذواتها، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد، ولما تقرر ذلك وتم على هذا السبيل الأحكم والمنهاج الأقوم، كان علة لمضمون قوله: {يا أيها الذين آمنوا} الآيتين، فكانتا نتيجته، لأنه إذا علم أن الأمر كله له ولا أثر لقلة ولا كثرة أثمر لمن هو في أدنى درجات الإيمان فضلاً عن غيره قلة المبالاة بالظالمين وإن تجاوزت قواهم الحد، وزادوا كثرة على(8/292)
العد، والآيتان تذكّرانهم بحالتهم التي أوجبت نصرهم ليلزموها في كل معترك ولا يتنازعوا كما تنازعوا في المغنم {إذا لقيتم} أي قاتلتم لأن اللقاء اسم للقتال غالب {فئة} أي طائفة مستحقة للقتال كما أغنى عن وصفها بذلك وصفهم بالإيمان {فاثبتوا} أي في لقائها بقتالها كما ثبتم في بدر ولا تحدثوا أنفسكم بفرار {واذكروا الله} أي الذي له كل كمال فكل شيء يطلب فهو عنده يوجد {كثيراً} أي كما صنعتم ثَمَّ، لأن ذلك أمارة الصدق في الاعتماد عليه وحده، وذلك موجب للنصر لا محالة كما في الحديث القدسي
«إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه»
ولما أمر بذلك، علله بأداة الترجي، ليكون أدل على أنه سبحانه لا يجب عليه شيء فيكون للإيمان فقال: {لعلكم تفلحون*} أي لتكونوا على رجاء من الفلاح وهو الظفر بالمراد من النصر والأجر وكما كنتم إذ ذاك {وأطيعوا الله} أي الذي له الغنى المطلق فلا يقبل إلا الخالص والكمال الأكمل فلا يفعل إلا ما يريد {ورسوله} أي في الإقدام والإحجام لجهلكم بالعواقب، وتلك الطاعة أمارة إخلاصكم في الذكر {ولا تنازعوا} بأن يريد كل واحد نزع مال صاحبه من رأي وغيره وإثبات ما له، وأشار إلى عظيم ضرر التنازع ببيان ثمرته المرة فقال؛ {فتفشلوا} أي تضعفوا؛ قال في القاموس: فشل كفرح،(8/293)
فهو فشل، كسل وضعف وتراخي وجبن - انتهى. والمادة راجعة إلى الفيشلة وهي الحشفة، ومن لازمها الرخاوة وينشأ عن الرخاوة الجبن مع الصلف والخفة والطيش.
ولما كان الفشل ربما كان معه الظفر لفشل في العدو أكثر منه أو غير ذلك، عطف ما يلزمه غالباً بالواو دون الفاء فقال: {وتذهب ريحكم} أي غلبتكم وقوتكم، وأصله أن الريح إذا كانت في الحرب من جهة صف كانت في وجوه أعدائهم فمنعتهم بما يريدون فخذلوا فصارت كأنها قوة من أتت من عنده، فصارت يكنى بها عنها؛ ثم ختم هذه الأسباب بالجامع لشملها الناظم لمقاصد أهلها فقال؛ {واصبروا} أي على ما يكون من تلك المشاق فإنكم إن تكونوا تألمون فإن أعداءكم كذلك، وأنتم ترجون من الله ما لا يرجون؛ ثم علله بما يكون النصر في الحقيقة فقال: {إن الله} أي الميحط بصفات الكمال {مع الصابرين*} أي لأنهم لا يصبرون إلا اعتماداً عليه، ومن كان معه عز، وهذه الجملة فيها - كما قال الإمام شمس الدين محمد بن قيم الجوزية في آخر كتاب الفروسية المحمدية - تدبير الحروب أحسن جمع على أتم وجه، فأمر فيها بخمسة أشياء ما اجتمعت قط في فئة إلا انتصرت وإن قلت في جنب عدوها، وخامسها ملاك ذلك وقوامه وأساسه وهو الصبر، فعلى هذه الدعائم الخمس تبنى قبة النصر، ومتى زالت(8/294)
أو بعضها زال من النصر بحسبه، وإذا اجمتعت قوى بعضها بعضاً وصار لها أثر عظيم، لما اجتمعت في الصحابة رضي الله عنهم لم تقم لهم أمة من الأمم، ففتحوا البلاد شرقاً وغرباً ودانت لهم العباد سلماً وحرباً، ولما تفرقت فيمن بعدهم وضعفت آل الأمر قليلاً قليلاً إلى ما ترى - فلا قوة إلا بالله، والجامع لذلك كله طاعة الله ورسوله فإنها موجبة لتأييد المطيع بقوة من هو في طاعته، وذلك سر قول أبي الدرداء رضي الله عنه الذي رواه البخاري في باب «عمل صالح قبل القتال» : إنما تقاتلون الناس بأعمالكم؛ وهو شرع قديم، قال في أثناء السفر الخامس من التوارة: وإن أنتم سمعتم قول الله ربكم وتحفظتم وعملتم بكل هذه الوصية التي آمركم بها اليوم يبارك عليكم الله ربكم كما قال لكم، وترزقون إن تقرضوا شعوباً كثيرة ولا تقرضون، وتسلطون على شعوب كثيرة ولا يتسلطون عليكم.(8/295)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
ولما ذكرهم سبحانه ما أوجب نصرهم آمراً لهم بالثبات عليه، ذكر لهم حال أعدائهم الذي أوجب قهرهم ناهياً عنه تعريضاً بحال المنازعة في الأنفال وأنها حال من يريد الدنيا، ويوشك - إن تمادت - أن تجر إلى مثل حال هؤلاء الذي محط نظرهم الدنيا فقال: {ولا تكونوا} أي يا معشر(8/295)
المؤمنين {كالذين} وصور قبح عملهم من أوله إلى آخره فقال: {خرجوا من ديارهم} أي كل واحد من داره وهم أهل مكة، وكل من عمل مثل عملهم كان مثلهم، ولذا عبر بالوصف ليعم {بطراً} أي طغياناً وتكبراً على الحق، ومادة بطر - بأيّ ترتيب اتفق - تدور على اللين القابل للعمل حتى ربط، فإنه لولا الضعف ما استوثق من المربوط، ومنه بطر الجرح - وهو شقه - والبيطار، وتارة يكون ذلك اللين عن دهش. ومنه أبطرت حلمه أي أدهشته عنه، وذهب دمه بطراً أي باطلاً للضعف عنه للحيرة في الأمر الموصل إليه، وتارة يكون عن مجاوزة الحد في الصلابة، ومنه بطر النعمة - إذا لم يشكرها فتجاوز الحد في المرح، فإن فاعل ذلك يمكنه الحكيم من مقاتله فيأخذه وهو يرجع إلى عدم احتمال القوى للشكر، ففاعل ذلك ضعيف وإن ظهر منه خلاف ذلك ما قال عمر رضي الله عنه: العدل وإن رئي ليناً أكف عن الظلم من الجور وإن رئي شديداً - أو كما قال رضي الله عنه. وأقرب من ذلك أن تكون المادة دائرة على الخلطة الناقلة من حال إلى حال.
ولما ذكر الحامل لهم على الخروج من أنفسهم، ذكر ما أوجبه لهم من غيرها فقال: {ورئاء الناس} أي خرجوا يرون الناس(8/296)
خروجهم وما يتأثر عنه ليروهم ما يقولون فيه، فإنهم لما قيل لهم؛ قد نجى الله عيركم فارجعوا، بطروا النعمة تبعاً لأبي جهل حيث قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنشرب الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان فتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبداً! فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا الحمر، وناحت عليهم نوائح الزمان مكان العزف والقيان.
ولما ذكر نفس الخروج وما فيه من الفساد وذكر ثمرته الخبيثة الناشئة عن ذينك الخلقين، وعبر عنهما بالاسم إشارة إلى الثبات كما هو شأن الأخلاق، وعن الثمرة بالمضارع تنبيهاً على أنهم لا يزالون يجددونها فقال: {ويصدون} أي يوجدون الصد وهو المنع لأنفسهم وغيرهم {عن سبيل الله} أي الملك الأعظم في ذلك الوجه وهم عازمون على تجديد ذلك في كل وقت، فلما كانت هذه مقاصدهم كان نسجهم هلهلاً وبنيانهم واهياً، فإنها من عمل الشيطان، وكل عمل لا يكون لله إذا صدم بما هو لله اضمحل، بذلك سبحانه أجرى سنته ولن تجد لسنته تحويلاً، فإن العاملين عبيد الله {والله} أي فعلوا ذلك والحال أن المحيط بكل شيء الذي عادوا أولياءه {بما} أو يكون ذلك معطوفاً على تقديره: فأبطل الله بجلاله وعظمته أعمالهم وهو بكل ما {يعملون محيط*} فهم في قبضته، فأوردهم - إذ خرجوا يحادونه - بدراً فنحر مكان الجزور رقابهم وسقاهم مكان الخمور كؤوس المنايا، وأصاح عليهم مكان القيان صوائح النوائح، ولعله قدم الجار إشارة إلى أنه لشدة إحاطته بأعمالهم كأنه(8/297)
لا نظر له إلى غيرها فلا شاغل له عنها.
ولما كان بين لهم فساد أعمالهم لفساد نياتهم تنفيراً منها، زاد في التنفير بالإشارة إلى الأمر بدوام تذكرها بعاطف على غير معطوف عليه مذكور فقال؛ {وإذ} فعلم أن التقدير قطعاً: اذكروا ذلك واذكروا إذ، وزاد في التنفير بذكر العدو المبين والتنبيه على أن كل ما يأمر به إنما هو خيال لا حقيقة له كما كان ما سول لهم في هذا الأمر فقال: {زين لهم الشيطان} أي العدو المحترق البعيد من الخير {أعمالهم} التي أتقنوها بزعمهم في معاداة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني حين خافوا من قومه بني كنانة أن يخلفوهم في أهليهم بسوء لما كان بينهم مما يوجب ذلك، فكاد ذلك أن يثبطهم عن الميسر {وقال} غارّاً لهم في أنفسهم {لا غالب لكم} والجار خبر {لا} وإلاّ لا انتصب اسمها لكونه يكون إذ ذاك شبيهاً بالمضاف {اليوم من الناس} وغارّاً لهم فيمن خلفوه بقوله: {وإني جار لكم} من أن تخلفكم كنانة بشيء تكرهونه، وسار معهم إلى بدر ينشطهم وينشدهم ويسلطهم بهذا القول الظاهر إلى ما يوسوس لهم به في الصدور {فلما تراءت الفئتان} أي رأت كل فئة الأخرى ورأى جبريل عليه السلام في جنود الله {نكص} أي رجع يمشي القهقرى وبطل كيده وآثار وسوسته {على عقبيه} أي إلى ورائه، فقالوا(8/298)
أين أي سراق؟ ولا يظنونه إلا سراقة، فمر ولم يجبهم ولا عرج عليهم {وقال} أي بلسان الحال أو القال وهو يسمعونه أو لا يسمعونه {إني بريء منكم} ثم علل براءته منهم بقوله: {إني أرى} أي بعين بصري {ما لا ترون} أي من الملائكة والغضب الذي هو نازل بكم، فقال له الحارث بن هشام وكانت يده في يده: والله ما نرى إلا جواسيس يثرب! فاستأنف قوله مؤكداً لإنكارهم لذلك: {إني أخاف الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً أن يهلكني معكم بالمعاجلة بالعقاب {والله} أي الملك الأعظم {شديد العقاب*} فكانوا يقولون: انهزم بنا سراقة، فقال؛ بلغني أنكم تقولون كذا! والله ما علمت بمسيركم هذا إلا عندما بلغني انهزامكم فكانوا يكذبونه حتى أسلموا فعلموا أن الذي غرهم الشيطان، وذلك مشهور في السير، وهو أولى من أن يحمل على مجرد الوسوسة، وفي الحديث «ما رئي إبليس يوماً أصغر ولا أحقر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رئي يوم بدر» .(8/299)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
ولما استوفى ما كان يقطع به في حق أولئك مما هو من أنفسهم ومما هو من تزيين الشيطان، أبدل منه ما كان يقطع به في حقهم من أهل الجهل بالله وبأيامه الماضية وآثاره عند أوليائه وأعدائه فقال: {إذ يقول المنافقون} أي من العرب وبني إسرائيل قولاً يجددونه كل وقت لما لهم فيه من الرغبة {والذين في قلوبهم مرض} أي ممن(8/299)
لم يرسخ الإيمان في قلبه ممن آمن ولم يهاجر أو من اليهود المصارحين بالكفر حين يرون الكفار وقوتهم وكثرتهم والمؤمنين وضعفهم وقلتهم {غرَّ هؤلاء} مشيرين إليكم {دينهم} أي في إقدامهم على ما يقطع فيه بهلاكهم ظناً منهم أن الله ناصرهم وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف ملوك العرب، فيغيظكم ذلك، فكذبهم الله وصدق أمركم بتوكلكم عليه وصبركم على دينكم {ومن} أي قالوا ذلك عالمين بأنكم متوكلون عليه وصبركم على دينكم {ومن} أي قالو ذلك عالمين بأنكم متوكلون على من تدينون له والحال أنه من {يتوكل على الله} أي الذي له الإحاطة الشاملة، فهو يفعل ما يشاء منكم ومن غيركم بشرطه من الإيمان والسعي في الطاعة كما فعلتم فإنه معز ومكرم.
ولما كان سبحانه محيطاً بكل صفة كمال على الإطلاق من غير قيد توكل ولا غيره، أظهر تعالى فقال عاطفاً على تقديره: فإن الله قادر على نصره: {فإن الله} أي الذي له الكمال المطلق {عزيز} أي غالب لكل من يغالبه فهو جدير بنصره {حكيم*} أي متقن لأفعاله فهو حقيق بأن يأخذ عدو المتوكل عليه من الموضع الذي لا ينفعه فيه حيلة.
ولما ذكر ما سرّهم من حال أعدائهم المجاهرين والمساترين في الدنيا مرصعاً ذلك بجواهر الحكم وبدائع الكلم التي بملازمتها تكون السعادة وبالإخلال بها تحل الشقاوة، أتبعه ما يسرهم من حال أعدائهم عند الموت وبعده، فقال مخاطباً لمن لو كشف الغطاء لم يزدد يقيناً، حادياً بتخصيصه بالخطاب كل سامع على قوة اليقين ليؤهل لمثل هذا الخطاب(8/300)
حكاية لحالهم في ذاك الوقت {ولو} أي يقولون ذلك والحال أنك {لو ترى} يا أعلى الخلق {إذ يتوفى} أي يستوفي إخراج نفوس {الذين كفروا} أي من هؤلاء القائلين ومن غيرهم ممن قتلتموهم ببدر ومن غيرهم بعد ذلك وقبله {الملائكة} أي جنودها الذي وكلناهم بهم حال كونهم {يضربون} .
ولما كان ضرب الوجه والدبر أدل ما يكون على الذل والخزي، قال: {وجوههم وأدبارهم} أي أعلى أجسامهم وأدناها فغيره أولى {و} حال كونهم يقولون لهم: ذوقوا ما كنتم به تكذبون {ذوقوا عذاب الحريق*} أي لرأيتم منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً. فسركم ذلك غاية السرور، وما أثر كلامهم في غيظهم، فإنهم يعلمون حينئذ من الذي غره دينه و «لو» وإن كانت تقلب المضارع ماضياً فلا يخلو التعبير بالمضارع في حيزها من فائدة، وهي ما ذكر من الإشارة إلى أن هذا لا يخص ميتاً منهم دون ميت، بل لا فرق بين متقدمهم ومتأخرهم، من مات ببدر أو غيرها وليس في الكلام ما يقتضي أن يكون القائلون {غر هؤلاء دينهم} حضروا بدراً، بل الظاهر أن قائليه كانوا بالمدينة وتعبيرهم ب {هؤلاء} التي هي أداة القرب للتحقير واستسهال أخذهم كما أن أداة البعد تستعمل للتعظيم ببعد الرتبة، وعلى مثل هذا يتنزل قول فرعون بعد أن سار(8/301)
بنو إسرائيل زماناً أقله ليلة وبعض يوم كما حكاه الله عنهم
{إن هؤلاء لشرذمة قليلون} [الشعراء: 54] على أن البغوي قد نقل في تفسير قوله تعالى {يرونهم مثليهم رأي العين} [آل عمران: 13] أن جماعة من اليهود حضروا قتال بدر لينظروا على من تكون الدائرة. وإذا تأملت هذا مع قوله تعالى {كدأب آل فرعون} علمت أن جلَّ المقصود من هذه الآيات إلى قوله {ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} اليهود، وفي تعبيره ب {لا يفقهون} تبكيت شديد لهم كما قال تعالى في آية الحشر {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} [الحشر: 13] .
ولما عذبوهم قولاً وفعلاً، عللوا لهم ذلك بقولهم زيادة في تأسيفهم: {ذلك} أي هذا الفعل العظيم الذي يفعله بكم من العذاب الأليم {بما قدمت أيديكم} أي من الجراءة على الله {وأن} أي وبسبب أن له أن يفعل ذلك وإن لم تقدموا شيئاً فإن {الله} أي الذي له صفات الكمال {ليس بظلام} أي بذي ظلم {للعبيد*} فإن ملكه لهم تام. والمالك التام المُلك على ما يملكه المِلك الذي لا شيء يخرج عن دائرة ملكه، وهو الذي جبلكم هذه الجبلة الشريرة التي تأثرت عنها هذه الأفعال القبيحة، وهو لا يُسأل عما يفعل، من الذي يسأله! ويجوز أن يكون المعنى: وليس بذي ظلم لأنه لا يترك الظالم يبغي على المظلوم من(8/302)
غير جزاء لكم على ظلمكم لأهل طاعته، وسيأتي في «فصلت» حكمة التعبير بصيغة تحتمل المبالغة.
ولما بين بما مضى ما يوجب الاجتماع عليه والرجوع في كل أمر إليه، وبين أن من خالف ذلك هلك كائناً من كان؛ أتبعه بما يبين أن هذا من العموم والاطراد بحيث لا يخص زماناً دون زمان ولا مكاناً سوى مكان فقال تعالى: {كدأب} أي عادة هؤلاء الكفار وشأنهم الذي دأبوا فيه وداموا وواظبوا فمونوا عليه كعادة {آل فرعون} أي الذين هؤلاء اليهود من أعلم الناس بأحوالهم {والذين} ولما كان المهلكون لأجل تكذيب الرسل بعض أهل الزمان الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبلهم} وهو مع ذلك من أدلة {فلم تقتلوهم} لأن هؤلاء الذين أشار إليهم كان هلاكهم بغير قتال، بل بعضهم بالريح وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالغرق وبعضهم بالخسف الذي هو غرق في الجامد، فكأنه يقول: لا ينسب أحد لنفسه فعلاً، فإنه لا فرق عندي في إهلاك أعدائي بين أن يكون إهلاكهم بتسليط من قتال أو غيره، الكل بفعلي، لولا أنا ما وقع، وذلك زاجر عظيم لمن افتخر بقتل من قتله الله على يده، أو نازع في النفل، وهو راجع إلى قوله تعالى
{لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [الحديد: 23] وفي ذلك حث على التمرن على عدم(8/303)
الاكتراث بشيء يكون للنفس فيه أدنى حظ ليصير ذلك خلقاً كما هو دأب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يضيف شيئاً من محاسنه إلا إلى خالقه إلا إن كان مأموراً فيه بالتشريع، بل يقول: قتلهم الله، صرفهم الله، نصرنا الله، كفى الله، فإذا صار ذلك للمستمسكين به خلقاً أفضى بهم إلى مدح الخالق والمخلوق لهم كما قال كعب بن زهير رضي الله عنه في مدحهم:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا
ثم بين تعالى الحال الذي شابهوا فيه من قبلهم بقوله: {كفروا بآيات الله} أي ستروا ما دلتهم عليه أنوار عقولهم من دلالات الملك الأعلى وغطوها لأنهم لم يعملوا بها وصدوا عن ذلك من تبعهم، فكان جزاؤهم ما تسبب عن ذلك من قوله: {فأخذهم الله} اي الذي له مجامع الكبر ومقاعد العظمة والعز أخذ غلبة وقهر وعقوبة {بذنوبهم} كما أخذهم فإنهم تجرؤوا على رتبة الألوهية التي تخسأ دون شوامخها نوافذ الأبصار، وتظلم عند بوارق أشعتها سواطع الأنوار، وتضمحل بالبعد عن أول مراقبها القوى، وتنقطع بتوهم الدنو من فيافيها الأعناق، فنزلت بهم صواعق هيبتها، وأناخت عليهم صروف عظمتها، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ولا تحس إلا ملاعبهم وأمكاكنهم.
ولما أخبر بأخذهم، علله بقوله: {إن الله} أي الذي له الإحاطة الشامله {قوي} أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {شديد العقاب*} .(8/304)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
ولما كان كأنه قيل: فما له يمهلهم ولا يعالجهم بالأخذ قبل النكاية(8/304)
في أوليائه وأهل وده وأصفيائه؟ قال: {ذلك} أي الأخذ على هذه الحالة {بأن الله} أي بسبب أنهم غيروا ما في أنفسهم، وقد كان له سبحانه أن يأخذهم قبل أن يغيروا لعلمه بما في ضمائرهم، ولكنه تعالى أجرى سنته الإلهية لتمام علمه وكمال قدرته وإحاطته بجميع صفات الكمال بأنه {لم يك} هكذا كان الأصل، ولكن حذف اختصاراً تقريباً لبيان تعميم العلة وإبعاد للسامع من مثل ذلك، وحذف نون «يكن» إرشاداً إلى أن هذه الموعظة خليقة بأن يوجز بها غاية الإيجاز فيبادر إلى إلقائها لما في حسن تلقيها من عظيم المنفعة، لأن من خالفها جدير بتعجيل الانتقام {مغيراً نعمة} أي قلت أو جلت، وبين أنه لا نعمة على أحد إلا منه فقال: {أنعمها على قوم} أي من أيّ طائفة كانوا {حتى يغيروا} أي يبدلوا {ما} يعتقدونه {بأنفسهم} بغيره مما هو غريزة لهم وهو حفي عنهم، يظنون اتصافهم بضده مما هو ظاهر لهم اتصافاً غريزياً {وأنّ} أي وبسبب أن {الله} أي الذي له الكمال كله {سميع} أي لما يكذبون به الرسل ولأقوالهم: إن ما يظهرونه وصفهم الحقيقي {عليم*} أي بما تكّن ضمائرهم من غيره وإن جهلوه هم فيبتليهم ببلاء يظهر به ذلك المكنون ويبرز به كل سر مصون، فإذا تعلق به العلم ظاهراً علق به الحكم قاهراً لتمام قيام الحجة، ولتمام علمه بحالهم أمهلهم، وإنما يستعجل من يخاف أن تخيب فراسته أو يتغير علمه، وأما الذي علمه(8/305)
بالظواهر والضمائر على حد سواء فالحالتان عنده سيان، فهو يمهل لإتمام الحكمة ولا يهمل من استحق النقمة، وذلك التغيير الذي أظهره البلاء هو التكذيب بالحق عناداً والبعد عما كانوا يدعونه من العدل والمشي على مناهيج العقل والاستحياء من العناد، والتنزه من طرق الفساد، هكذا كانت كل أمة أرسلت إليها الرسل تدعي وما عندها من خلاف ذلك مستور في ضمائرها مكنون في سرائرها، لا تعلمه كما تشاهد أكثر من تعاشره، يظن في نفسه ما ليس فيها، وعند الامتحان يكذبه العيان، فلما جاءتهم الرسل وأوضحوا لهم الأمر إيضاحاً ليس معه، لبس فكذبوهم، غيروا ما كان في نفوسهم مما كانوا يزعمون؛ ثم كرر قوله: {كدأب آل فرعون} أي فرعون وقومه فإنهم أتباعه فلا يخيل انهم يفعلون شيئاً إلا وهو قائدهم فيه {والذين من قبلهم} - لدقيقة، وهي أنه قد تقدم أنه ما من أمة إلا ابتليت بالضراء والسراء، فالأولى ينظر إليها مقام الإلهية الناظر إلى العظمة والكبرياء والقهر والانتقام، والثانية ثمرة مقام الربوبية الناشىء عنه التودد والرحمة والرأفه والإكرام، لذا عبر في الأولى باسم الذات الجامع لجميع الصفات الذي لفظه - عند من يقول باشتقاقه - موضوع لمعنى الإلهية إشارة إلى أنهم أعرضوا في حال الضراء عن التصديق وعاملوا بالتجلد والإصرار، ولذا عبر في هذه الثانية باسم الرب فقال: {كذبوا} أي(8/306)
عناداً زيادة على تغطية ما دل عليه العقل بالتكذيب بالنقل {بآيات ربهم} فأشار بذلك إلى بطرهم بالنعم وتكذيبهم أنها بسبب دعاء الرسل.
ولما أشار بالتعبير به إلى أنه غرهم معاملته بالعطف والإحسان، قال: {فأهلكناهم} أي جميعاً {بذنوبهم وأغرقنا} فأتى بنون العظمه إشارة إلى أنه أتاهم بما أنساهم ذلك البر {آل فرعون} وإشارة إلى أنهم نسوا أن الرب كما أنه يتصف بالرحمة فلا بد أن يتصف بالعظمة والنقمة وإلا لم تتم ربوبيته، وهذا واضح مما تقدم في الأعراف عن التوراة في شرح {فأرسلنا عليهم الطوفان} [الأعراف: 133]- إلى آخرها، من أن فرعون كان يسأل موسى عليه السلام عند كل نازلة الدعاء برفعها معتلاً بأن الرب ذو حلم وأناة ورحمة، وقدم الأولى إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في الجرأة، والتعبير فيها ب {كفروا} يؤيد لذلك، أي أن مجرد الستر للآيات بالإعراض عنها كافٍ في إيجاب الانتقام ولو لم يصرح بتكذيب لعظم المقام، ومادة كفر - بأيّ ترتيبة كان - تدور على الخلطة المميلة المحيلة، وبخصوص هذا الترتيب تدور على الستر، أي غطوا التصديق بآيات ربهم، ويجوز - وهوالأحسن - أن يكون دورانها - مطلقاً لا بقيد ترتيب - على الفكر، وهو إرسال عين البصيرة في طلب أمر ويلزمه(8/307)
الكشف والستر لأنه تارة يرفع أذيال الشبه عن ذلك الأمر فينجلي ويتحقق، وتارة يسلط قواطع الأدلة عليه فينعدم ويتمحق، وربما أرخى أذيال الشبه عليه فأخفى بعد أن كان جلياً كما كان شمرها عنه فألقى وقد كان خفياً.
ولما أخبر سبحانه بهلاكهم، أخبر بالوصف الجامع لهم بالهلاك فقال: {وكل} أي من هؤلاء ومن تقدمهم من آل فرعون ومن قبلهم {كانوا} أي جبلة وطبعاً {ظالمين *} أي لأنفسهم وغيرهم واضعين الآيات في غير مواضعها وهم يظنون بأنفسهم العدل؛ ثم علل اتصافهم بالظلم أو استأنف بياناً له بقوله: {إن شر الدواب} أي ظلموا لأنهم كفروا بآيات ربهم الذي تفرد بالإحسان إليهم وشر الدواب {عند الله} أي في حكم الحكم العدل الذي له الأمر كله وفي علمه {الذين كفروا} أي منهم ومن غيرهم، أي حكم عليهم بلزوم الكفر لما ركب فيهم من فساد الأمزجة لعدم الملاءمة للخير، فكانوا بذلك قد نزلوا عن رتبة الإنسان إلى رتبة مطلق الحيوان، ثم إلى دركة الحشرات والديدان بل العجلان، لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الناكثون للعهود {فهم} أي بسبب ذلك {لا يؤمنون*} أي لا يتجدد منهم إيمان يستمرون عليه لما سبق من علم الله فيهم، فلم ينتفعوا بما أتاهم من صفة الربوبية فمحقتهم صفة الإلهية،(8/308)
ولعله إنما خص آل فرعون تذكيراً - لأكثر من كان يقول {غرَّ هؤلاء دينهم} وهم - اليهود - بأنهم كانوا بالنسبة إلى فرعون وآله أضعف من الصحابة رضوان الله عليهم بالنسبة إلى قريش وأتباعهم، فإن اليهود مع قلتهم عندهم كانوا قد دانوا لهم بذل العبيد لمواليهم بل أعظم، ومع ذلك فإنهم نصروا عليهم لما كان الله معهم، وإعلاماً لهم بأنهم الآن كآل فرعون في العناد مع ما هم فيه من القلة والذلة، فقد جمعوا من كل قوم أخس صفاتهم وأردأ حالاتهم، ولذلك أبدل من عموم {الذين كفروا} {الذين عاهدت منهم} وهم اليهود بلا شك، إما بنو قينقاع أو النضير أو قريظة أو الجميع بحسب التوزيع، فكل منهم نقض ما كان أخذ عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العهود، وأخلف ما كان أكده من الوعود.
ولما كان العهد جديراً بالوفاء ولا سيما من العلماء، عبر بقوله: {ثم ينقضون عهدهم} أي يجددون نقضه كلما لاح لهم خلب برق أو زَور بطل يغير في وجه الحق؛ ثم عظم الشناعة عليهم بقوله: {في كل مرة} ثم نبه على رضاهم من رتبة الشرف العلية القدر وهدةَ السفه والسرف بعدم الخوف من عاقبة الغدر بقوله: {وهم لا يتقون*} أي الناس في الذم لهم على ذلك ولا الله في الدنيا بأن يمكن منهم، ولا في الآخرة بأن يخزيهم ثم يركسهم بعد المناداة بالعار في النار.(8/309)
ولما أيأسه من تقواهم بما اشتملوا عليه من تكرير النقض الناشىء عن غاية الحسد وصلابة الرقاب وقساوة القلوب والقساوة على الكفر، أمره بما يوهن قواهم ويحل عراهم من إلباس اليأس بإنزال البأس كما جرت عادته سبحانه أنه يوصيه بالرفق ببعض الناس لعلمه أن عمله يزكو لبنيانه على أحسن أساس، فقال مؤكداً لأجل ما جبل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من محبة الرفق: {فإما تثقفنهم} أي تصادفنهم وتظفرن بهم {في الحرب} أي التي من شأنها أن يحرب فيها المبطل، ويربح المحق المجمل {فشرد بهم من خلفهم} أي فنكل بهم تنكيلاً يصدع ويفرق عن محاربتك من وراءهم ممن هو على مثل رأيهم في المنافرة لك ولا تتركنهم أصلاً لأن أتباعك أمهر منهم وأحذق، فهم لذلك أثبت وأمكن، فإذا أوقعت بهم ذلك لم يجسر عليك أحد بعده اتعاظاً بهم واعتباراً بحالهم؛ ومادة شرد بكل ترتيب تدور على النفوذ، فإن كان على قصد وسنن فهو رشد ويلزمه الاجتماع، وإن كان على غير سنن وجامع استقامة فهو شرود، ودرشة، أي لجاجة ويلزمه التفرق؛ قال ابن فارس: شرد البعير شروداً وشردت به تشريداً، فأما قوله لجاجة ويلزمه التفرق؛ قال ابن فارس: شرد البعير شروداً وشردت به تشريداً، فأما قوله {فشرد بهم} فالمراد نكل بهم(8/310)
وسمّع، قال القزاز: شردت الرجل تشريداً - إذا طردته، وشردت به - إذا سمّعت به وذكرت عيوبه للناس، وقوله تعالى {فشرد بهم} أي اجعلهم مطردين - انتهى.
فالمراد المبالغة في الإيقاع بهم لأنهم إذا ضربوا ضربة تفرقوا فيها على غير وجه ولا انتظام علم من شردوا إليه ممن وراءهم أنه قد تناهى بهم الذعر فذعر هو فوقع في الشرود قوة أو فعلاً، فعلى قراءة من جعل «من» حرف جر يكون المفعول محذوفاً، والتقدير: أوقع - بما تفعل بهؤلاء من الأمور الهائلة - التشريدَ في المكان الذي خلفهم بشرود من فيه قوة أو فعلاً بما سمعوا أو رأوا من حال هؤلاء حين واجهوك للقتال، وعلى قراءة من جعلها اسماً موصولاً تكون هي المفعول، فالمعنى: شرد الذين خلفهم من أماكنهم إما بالفعل أو بالقوة بأن تفترق قلوبهم بما تفعل بهولاء فتصير - بما ترى من قبيح حالهم - قابلة للشرود، ويكون اختلاف المعنى بالتبعيض في جعل «من» حرف جر والتعميم في جعلها موصولاً بالنظر إلى القوة أو الفعل.
ولما ذكر الحكم، ذكر ثمرته بأداة الترجي إدارة له على الرجاء فقال: {لعلهم} أي المشردين والمشرد بهم {يذكرون*} ما سبق من أيام الله فيعلموا أن هذه أفعاله، وهؤلاء رجاله، فينفعهم ذلك فلا ينقضوا عهداً بعده ولقد فعل بهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك فإنهم إن كانوا بني قريظة فقد ضربهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضربة لم يفلت منهم مخبر، بل(8/311)
ضرب أعناقهم في حفائر في سوق المدينة وكانوا نحو سبعمائة على دم واحد. إلا من أسلم منهم وهم يسير، وسبى ذراريهم ونساءهم وغنم أموالهم، وإن كانوا قينقاع فقد نزل بساحتهم بعد نقضهم وإظهارهم غاية الاستخفاف والعناد فلم يكبتهم الله أن جعلهم في قبضته وما بقي إلا ضرب أعناقهم كما وقع لبني قريظة فسأله فيهم عبد الله بن أبي المنافق وألح عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمرهم وكان يألفه ويتألف به فتركهم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجلاهم من المدينة، وكانت واقعتهم أول وقائع اليهود بالمدينة، وإن كانوا بني النضير فقد نقضوا أيضاً فأحاط بهم، ومنّاهم المنافقون الغرور فقذف الله الرعب في قلوبهم فسألوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجليهم ويكف عن دمائهم ففعل، ثم أتم الله له الأمر فيهم في خيبر ووادي القرى وغيرهما إلى أن لم يدع منهم في جزيرة العرب فريقاً إلا ضربه بالذل وأجرى عليه الهوان والصغار، ووقائعه فيهم مشهورة الخبر معروفه في السير.(8/312)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
ولما أمره بما يفعل تحقق نقضه، أرشده إلى ما يفعل بمن خاف غدره فقال: {وإما تخافن} وأكده إشارة ظهور القرائن ووضوح الأمارت {من قوم} أي ذوي قوة، بينك وبينهم عهد {خيانة} أي في ذلك العهد {فانبذ} أي اطرح طرح مستهين محتقر {إليهم} أي ذلك العهد نبذاً كائناً {على سواء} أي أمر مستوٍ في العلم بزواله بينكم وبينهم وعدل ونصفه ولا تناجزوهم وهم على توهم من بقاء(8/312)
العهد، وهذا إشارة إلى أن يكونوا على غاية الحذر والفحص عن أخبار العدو بحيث لا يتركونه إلى أن ينقض ثم يعلمون ميله إلى النقض فينبذون إليه عهده لأن ذلك أردع له، فهو أدعى إلى السلم؛ ثم علل جواز النبذ ووجوب النصفة بقوله: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {لا يحب الخائنين*} أي لا يفعل بهم فعل المحب لا منكم ولا من غيركم.
ولما كان نبذ العهد مظنة الخوف من تكثير العدو وإيقاظه، وكان الإيقاع أولى بالخوف، أتبع سبحانه ذلك ما يجري عليه ويسلي عن فوت من هرب من الكفار في غزوة بدر فلم يقتل ولم يؤسر فقال: {ولا يحسبن} بالياء غيباً على قراءة ابن عامر وحمزة وحفص، أي أحد من أتباعك في وقت من الأوقات، ووجه قراءة الباقين بالخطاب أن أمر الرئيس ونهيه أوقع في نفوس الأتباع وأدعى لهم إلى السماع {الذين كفروا} أي عامة من نبذ ومن لم ينبذ {سبقوا} أي وقع لهم السبق، وهو الظفر في وقت ما، فإنهم لم يفوتوا شيئاً من أوامرنا؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنهم لا يعجزون*} أي لا يفوتون شيئاً مما يزيد تسليطه عليهم، أي لا يغرنك علوهم وكثرتهم وجرى كثير من الأمور على مرادهم فكل ذلك بتدبيرنا، ولا يخرج(8/313)
شيء عن مرادنا، ولا بد أن نهلكهم فإنهم في قبضتنا، لم يخرجوا منها ولا يخرجون فضلاً عن أن يفوتوها فاصبر.
ولما كان هذا ربما أدى إلى ترك المناصبة والمحاربة والمغالبة اعتماداً على الوعد الصادق المؤيد بما وقع لهم في بدر من عظيم النصر مع نقص دعوى العِدة والعُدة، أتبعه ما يبين أن اللازم ربط الأسباب بمسبباتها، وليتبين الصادق في دعوى الإيمان من غيره فقال: {وأعدوا لهم} أي للأعداء {ما استطعتم} أي دخل في طاعتكم وكان بقوة جهدكم تحت مقدروكم وطاقتكم {من قوة} أيّ قوة كانت، وفسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرمي إشارة إلى أنه أعظم عدده على نحو «الحج عرفة» وفي أمرهم بقوله {ومن رباط الخيل} إيماء إلى باب من الامتنان بالنصر في بدر لأنهم لم يكن معهم فيه غير فرسين، والرباط هو الخيل التي تربط في سبيل الله الخمس منها فما فوقها، وخصها مع دخولها فيما قبل إشارة إلى عظيم غنائها، والرباط أيضاً ملازمة تغر العدو وربط الخيل به إعداداً للعدو؛ ثم أجاب من كأنه قال: لم نفعل ذلك وما النصر إلا بيدك؟ بقوله: {ترهبون} أي تخافون تخويفاً عظيماً باهراً يؤدي إلى الهرب على ما أجريت من العوائد {به} أي بذلك الذي أمرتكم به من المستطاع أو من الرباط {عدو الله} أي الذي له العظمة كلها لأنه الملك الأعلى {وعدوكم} أي المجاهدين، والأليق بقوله -: {وآخرين} أي وترهبون بذلك آخرين {من دونهم} - أي يحمل على المنافقين(8/314)
لوصفهم بقوله: {لا تعلمونهم} كما قال تعالى
{وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم} [التوبة: 101] ولأنهم لا يكونون دونهم إلا إذا لم يكونوا في العدواة مثلهم، وكل من فرض غير المنافقين مظهرون للعدواة، وأما المنافقون فإنهم مدعون بإظهار الإسلام أنهم أولياء لا أعداء {الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يعلمهم} أي فهو يكفيكم ما يظن من أمرهم، وليس عليكم إلا الجهد بحسب ما تعلمون، والآية بالنسبة إلى ما تقدمها من باب «اعقلها وتوكل» والمعنى لا تظنوا أن الكفار فاتونا وأفلتوا من عذابنا بامتناعهم منكم فإنهم في قبضتنا أينما توجهوا وحيثما حلوا فسوف نهلكهم ولا يعجزوننا، ومع ذلك فلا يحملنكم الاتكال على قوتنا على ترك أسباب مغالبتهم بما أعطيناكم من القوى بل ابذلوا جهدكم وطاقتكم في إعداد مكايد الحرب وما يتعلق بالرمي من القوة وبالخيل من الطعن والضرب والفروسية لنلقي بذلك رعبكم في قلوب عدوكم القريب والبعيد من تعلمونه منهم ومن لا تعلمونه.
ولما كان أغلب معاني هذه الأية الإنفاق، لأن مبنى إعداد القوة(8/315)
عليه، رغب فيه بقوله: {وما تنفقوا من شيء} أي من الأشاء وإن قلَّ {في سبيل الله} أي طريق من له صفات الكمال من الجهاد وغيره {يوف إليكم} أي أجره كاملاً في الدنيا والآخرة أوفى ما يكون مضاعفاً أحوج ما تكونون إليه {وأنتم لا} .
ولما كان المخوف مطلق النقص، بنى للمفعول قوله: {تظلمون*} أي لا تنقصون شيئاً منه، وأما الزيادة فلا بد منها وهي على قدر النية.
ولما كان ضمان النصر والحلف في النفقة موجباً لدوام المصادمة والبعد من المسالمة، أتبعه قوله أمراً بالاقتصاد: {وإن جنحوا} اي مالوا وأقبلوا في نشاط وطلب حازم {للسلم} أي المصالحة، والتعبير باللام دون «إلى» لا يخلو عن إيماء إلى التهالك على ذلك ليتحقق صدق الميل {فاجنح} ولما كان السلم مذكراً يجوز تأنيثه، قال: {لها} أي المصالحة، أو يكون تأنيثه بتأنيث ضده الحرب، وكأنه اختير التأنيث إشارة إلى أنه يقتصر فيه على أقل ما يمكن من المدة بحسب الحاجة، هذا إذا كان الصلاح للمسلمين في ذلك بأن يكون بهم ضعف، وأقصى مدة الجواز عشر سنين اقتداء برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا تجوز الزيادة.(8/316)
ولما كان ذلك مظنة أن يقال: إنه قد عهد منهم من الخداع ما أعلم انهم مطبوعون منه على ما لا يؤمنون معه فمسالمتهم خطر بغير نفع، لوح إلى ما ينافي ذلك بقوله: {وتوكل على الله} أي الذي له مجامع العظمة فيما تعهده من خداعهم فإنه يكفيك أمره ويجعله سبباً لدمارهم كما وقع في صلح الحديبية فإن غدرهم فيه كان سبب الفتح، وحرف الاستعلاء في هذا وأمثاله معلم بأنه يفعل مع المتوكل فعل الحامل لما وكل إليه المطيق لحمله؛ ثم علل الأمر بالتوكل الذي معناه عدم الخوف من عاقبة أمرهم في ذلك بقوله: {إنه هو} أي وحده {السميع} أي البالغ السمع، فهو يسمع كل ما أبرموه في ذلك وغيره سراً كما يسمعه علانية {العليم*} أي البالغ العلم وحده فهو يعلم كل ما أخفوه كما أنه يعلم ما أعلنوه؛ ثم صرح بالاستهانة بكيدهم فقال: {وإن يريدوا} أي الكفار {أن يخدعوك} أي بما يوقعون من الصلح أو بغيره {فإن حسبك} أي كافيك {الله} أي الذي له صفات العز كلها، ثم علل كفايته أو استأنف بيانها بقوله: {هو} أي وحده {الذي أيدك بنصره} أي إذ كنت وحدك {وبالمؤمنين*} أي بعد ذلك في هذه الغزوة التي كانت العادة قاضية فيها بأن من معك لا يقومون للكفار فواق ناقة، ولعل هذا تذكير بما كان من الحال في أول الإسلام، أي إن الذي(8/317)
أرسلك مع وحدتك في مكة بين جميع الكفار وغربتك فيهم - وإن كانوا بني عمك - بسبب دعوتك إلى هذا الدين وعلوك عن أحوالهم البهيمية إلى الأخلاق الملكية، هو الذي قواك وحده بالنصر عليهم حتى لم يقدروا على أذى يردك عن الدعاء إلى الله مع نصب جميعهم لك ولمتبعيك شباك الغدر ومدهم إليكم أيدي الكيد ثم سلّكم من بين أظهرهم كما تسل الشعرة من العجين مع اجتهادهم في منعكم من ذلك، وأيدكم بالأنصار وجمع بين كلمتهم بعد شديد العدواة {وألف بين قلوبهم} بعد غاية التباغض، فصار البعيد منهم قريباً والبغيض حبيباً والعدو صديقاً، وكانوا على قلب واحد؛ ثم استأنف الإخبار بما دل على تعذر ألفتهم لولا هو فقال: {لو أنفقت} أي وأنت أتقن الخلق لما تصنعه {ما في الأرض جميعاً} أي في إرادة ذلك {ما ألفت بين قلوبهم} ثم أكد ذلك بقوله: {ولكن الله} أي وهو الذي له جميع صفات الكمال {ألف بينهم} ثم علل نفوذ فعله وأمره فيه بقوله: {إنه عزيز حكيم*} أي لأنه لولا عزته التي تغلب كل شيء ولا يغلبها شيء وحكمته التي يتقن بها ما أراد بحيث لا يمكن لأحد أن يغير شيئاً منه لما تألفوا بعد أن كان قبل كل أحد من فريقيهم للآخر أشهى من لذيذ الحياة وصافي العيش لما بينهم من الإحن التي لا تزال تثور فتغلي لها الصدور حتى تفور بقتل الأحباب من الوالدين والأولاد والقهر بأنواع الأذى مع(8/318)
المجاورة المقتضية لدوام التحاسد وإثارة الضغائن، وكذا فعل سبحانه بجميع العرب بعدما كان بينهم من القتل المنتشر مع ما لهم من الحمية والأنفة الحاملة على الانتقام.
والذي أمدك بهذه الألطاف حي لا يموت باق على ما كان عليه من القدرة والقوة، فهو الكفيل بحراستك ممن يريد خداعك، فإذا أمركم بأمر فامتثلوه غير مفكرين في عاقبته، فإنه قد بينه بعزته وأتقنه بحكمته وستعلمون.(8/319)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
ولما صرح بأن الله كافيه، وكانت كفاية الله للعبد أعظم المقاصد، التفتت الأنفس إلى أنه هل يكفيه مطلقاً أو هو فعل مع المؤمنين أيضاً مثل ذلك، فأتبعها بقوله معبراً بوصف النبوة الذي معناه الرفعة والاطلاع من جهة الله على ما لا يعلمه العباد، لأنه في سياق الإخبار ببعض المغيبات والتصرف في الملكوت: {يا أيها النبي} أي العالي القدر الذي نعلمه بعواقب أموره {حسبك} أي كافيك {الله} أي الذي بيده كل شيء {ومن} أي مع من {اتبعك من المؤمنين*} يجوز أن يكون المعية من ضميره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون المؤمنون مكفيين، وأن يكون من الجلالة فيكونوا كافين، حتى يكون المعنى: فهو كافيهم أيضاً وهم كافوك لأنه معهم، وساق سبحانه هذا هكذا تطييباً لقلوبهم وجبراً لخواطرهم وبالمعنى الثاني - لتضمنه الأول وزيادته عليه - قال ابن زيد والشعبي:(8/319)
حسبك الله وحسبك من اتبعك، وساقها سبحانه على وجه مكرر لكفاية نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محتمل لأن فيمن كان على اتباعه في ذلك الوقت لئلا يستقلوا بالنسبة إلى كثرة أعدائهم.
ولما بين أنهم كافون مكفيون، وكان ذلك مشروطاً بفعل الكيس والحزم وهو الاجتهاد بحسب الطاقة، أمره بأن يأمرهم بما يكونون به كافين من الجد في القتال وعدم الهيبة للأبطال في حال من الأحوال، فقال معبراً بالوصف الناظر إلى جهة التلقي عن الله ليشتد وثوق السامع لما يسمعه: {يا أيها النبي} أي الرفيع المنزلة عندنا الممنوح من إخبارنا بكل ما يقر عينه وعين أتباعه {حرض المؤمنين} أي الغريقين في الإيمان {على القتال} أي بالغ في حثهم عليه وندبهم بكل سبيل إليه، ومادة حرض - بأيّ ترتيب كان - حرض، حضر، رحض، رضح، ضرح؛ ترجع إلى الحضور ويلزمه الخفض والدعة، ويلزم الكسل فيلزمه الضعف فيلزمه الفساد، ومنه الحرض الذي أشفى على الهلاك، أي حضر هلاكه وحضر هو موضعه الذي هو فيه فصار لما به لا يزايله ما دام حياً، ورخص الثوب، أي غسله، من الدعه التي هي شأن الحضور غير المسافرين، والرحضاء عرق الحمى تشبيه بالمغسول، والمرضاح الحجر الذي لا يزال حاضراً لرضح النوى، والضريح شق مستطيل يوضع فيه الميت فيكون حاضره لازماً له دائماً إلى الوقت المعلوم، ويلزمه الرمي(8/320)
والطول، ومنه المضرحي للطويل الجناحين من الصقور لأن كل صيد عنده حاضر لقوة طيرانه، والرجل الكريم لعلو همته، وأحضرت الدابة: عدت فجعلت الغائب حاضراً، والتحريض الحث على حضور الشيء، فحرض على القتال: حث على الطيران إليه بتعاطي أسبابه والاستعداد لحضوره حتى يصير المحثوث كأنه حاضر، متى قيل: يا صباحاه! طار إلى المنادي، وكان أول حاضر إلى النادي، لأنه لا مانع له من شيء من الأشياء بل استعداده استعداد الحاضر في الصف؛ وقال الإمام أبو الحسن علي ابن عيسى الرماني في تفسيره: والتحريض: الدعاء الوكيد لتحريك النفس على أمر من الأمور، والحث والتحريض والتحضيض نظائر، ونقيضه التفسير، والتحريض ترغيب في الفعل بما يبعث على المبادرة إليه مع الصبر عليه - انتهى.
فهذه حقيقته، لا ما قال في الكشاف وتبعه عليه البيضاوي.
ولما ندبهم إلى القتال، أعلمهم بأنهم منصورون فيه إن لازموا آلة النصر، فقال اسئنافاً جواباً لمن قال: ما عاقبتهم إذا رغبوا فبادروا إلى ذلك؟ : {إن يكن} ولما كانت لذة الخطاب تثير الهمم وتبعث العزائم وتوجب غاية الوثوق بالوعد، عدل عن الغيبة فقال: {منكم عشرون} أي رجلاً: {صابرون} أي الصبر المتقدم {يغلبوا مائتين} أي من(8/321)
الكفار، والآية من الوعد الصادق الذي حققه وقائع الصحابة رضي الله عنهم {وإن يكن منكم مائة} أي صابرة {يغلبوا ألفاً} أي كائنين {من الذين كفروا} فالآية من الاحتباك: أثبت في الأول وصف الصبر دليلاً على حذفه ثانياً، وفي الثاني الكفر دليلاً على حذفه أولاً؛ ولعل ما أوجبه عليهم من هذه المصابرة علة للأمر بالتحريض، أي حرضهم لأني أعنت كلاً منهم على عشرة، فلا عذر لهم في التواني؛ وعلل علوهم عليهم وغلبتهم لعن على هذا الوجه بقوله: {بأنهم} أي هذا الذي أوجبته ووعدت بالنصر عنده بسبب أنهم، أي الكفار {قوم لايفقهون*} أي ليس لهم فقه يعلمون به علم الحرب الذي دربه أهل الإيمان وإن كنتم ترونهم أقوياء الأبدان فيهم كفاية للقيام بما ينوبهم من أمر الدنيا لأنهم أبدان بغير معان، كما أن الدنيا كذلك صورة بلا روح، لأنهم لم يبنوا مصادمتهم على تلك الدعائم الخمس التي قدمتها لكم وألهمتكم إياها في بدر، فمن لم يجمعها لم يفقه الحرب، لأن الجيش إن لم يكن له رئيس يرجع إليه لم يفلح، وذلك الرئيس إن لم يكن أمره مستنداً إلى ملك الملوك كان قلبه ضعيفاً، وعزمه - وإن كثرت جموعه - مضطرباً، فإنهم يكونون صوراً لا معاني لها، والصور منفعله لا فعالة، والمعاني هي الفعالة، والمعتمد على الله صورته مقترنة بالمعنى، فأقل ما يكون في مقابلة اثنين من أعدائه كما حط عليه الأمر(8/322)
في الجهاد، ولعل هذا هو السر في انتصار الخوارج - من أتباع شبيب وأنظاره على قلتهم - على الجيوش التي كانوا يلقونها عن ملوك زمانهم على كثرتهم، فإن الخوارج معتقدون أن قتالهم لله مستندين في هذا الاعتقاد إلى ظلم أولئك الملوك وخروجهم عن أمر الله، والذين يلقونهم عن أولئك الملوك وإن اعتقدوا أنهم أهل طاعة لطاعتهم الإمام الواجب طاعته، لكنهم يعلمون أن استناد إمامهم إلى الله ضعيف لمخالفته لمنهاج الاستقامه، وذلك الرئيس نفسه معتقد ذلك وأن ولايته مفسدة، وأن تحريم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقتاله إنما هو درء لأعظم المفسدتين، فصار استناد الخوارج إلى الملك الملوك اعظم من استناد أولئك، ولهذا نشأ عن استناد الخوارج الزهد الذي هو أعظم أسباب النصر، ونشأ عن استناد أولئك الملوك الإخلاد إلى الدنيا الذي هو أعظم الموجبات للخذلان، مصداق ذلك أنهم لما خرجوا على علي رضي الله عنه فسار فيهم بسنة الله من اللطف بهم وتقديم وعظهم والإعذار إليهم وردهم إلى الله فلما لم يقبلوا قصدهم في ساعة، قال له بعض من كان يعتني بالنجوم: إنها ساعة نحس، أن سار فيها حذل، فقال: سيروا فيها فإنه ما كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منجمون، فلما لقي الخوارج لم يواقفوه حلب ناقه ولا أفلت منهم أحد ولا قتل من جماعته إنسان؛ وفهم الإيجاب في قوله تعالى {إن يكن منكم عشرون} - الآية وأن الخبر فيه بمعنى الأمر من قوله: {الآن خفف الله} أي الملك الذي له الغنى المطلق صفات الكمال {عنكم} أي(8/323)
رحمة لكم ورفقاً بكم {وعلم} أي قبل التخفيف وعده {أن فيكم ضعفاً} أي في العَدد والعُدد، ولكنه أوجب عليكم ذلك ابتلاء، فبعد التخفيف علم ضعفهم واقعاً وقبله علم أنه سيقع، وتصديره هذه الجملة ب {الآن} يشير إلى أن النسخ كان قبل أن تمضي مدة يمكن فيها غزو، وفائدة الأمر المعقب بالنسخ حيازة الأجر بقبوله والعزم على امتثاله، وقيل: ما كان النسخ إلا بعد مدة بعد أن سألوا في التخفيف؛ وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: {الآن خفف الله عنكم} - الآية؛ فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
والمعنى أنه كان كتب مقدراً من الصبر لكل مؤمن، فلما خفف أزال ذلك بالنسبة إلى المجموع، وهذا لا يمنع استمرار البعض على ما كان كما فعل سبحانه بالصحابة رضوان الله عليهم في غير موضع منها غزوة مؤته، فقد كانوا فيها ثلاثة آلاف، وكان من لقوا من جموع هرقل مائتي ألف: مائة من الروم ومائة من العرب المستنصرة، فصبروا لهم ونصروا عليهم كما في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال مخبراً عنهم في هذه الغزوة «ثم أخذ الراية عن غير إمرة سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه» ولما توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتد عامة الناس(8/324)
حتى لم يثبت على الإسلام عشر العشر فصبر الصحابة رضوان الله عليهم لهم ونصروا عليهم، بل الذي صبر في الحقيقة أبو بكر رضي الله عنه وحده، ثم أفاض الله من صبره ونوره على جميع الصحابة رضي الله عنهم فصبروا، ثم جهز الجيش وأميرهم الذي سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيف الله، فأخمد الله به نار الشرك وقطع بصبره وحسن نيته جاذرة الكفر فلم تمض سنة وفي بلاد العرب مشرك.
فلما جمع الله العرب بهذا الدين على قلب رجل واحد قصدوا الأعاجم من الفرس والروم والقبط، فقاتلوا أهل فارس في عدة وقائع منها القادسية، وكان الصحابة رضي الله عنهم فيها دون أربعين ألفاً، وكان المجوس أكثر من أربعمائة ألف، وقاتلوا الروم كذلك فكانوا في اليرموك دون أربعين ألفاً وكان الروم نحو أربعمائة ألف - إلى غير ذلك من الوقائع وقد صبروا في أكثرها ونصروا، ثم كانت لهم العاقبة فطردوا الشرك وأهله، وأظهر الله لهم دينه كما وعد به سبحانه، وما اجتمع أهل الإسلام وأهل الضلال قط في معرك إلا كانت قتلى الكفار أضعاف قتلى المسلمين غير أن الله تعالى جده وتبارك اسمه وتمت كلمته ألطف بالعرب علماً منه بأنهم خلاصة الناس بما طبعهم سبحانه عليه من الخصال الحميدة والأخلاق السديدة فأسلم كل من اشتملت عليه جزيرتهم بعد وقائع في زمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزمان الردة، ولم تبلغ قتلاهم فيما أظن عشرة الآف إنسان، ثم لما(8/325)
جاهدوا الأعاجم من فارس والروم وغيرهم كانت قتلى الكفار تبلغ في المعركة الواحدة مائة ألف ومائتي ألف - كما هو مشهور في كتب الفتوح للمدائني وسيف وابن عبد الحكم والبلاذري وغيرهم، وقد جمع أشتات ذلك الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي وشيخه ابن حبيش، ولعله حذف في الثانية التقييد بالكفار ليشمل كل ما استحق القتال من البغاة وغيرهم، فقال تعالى مسبباً عن التخفيف المذكور راداً الأمر من إيجاب مصابرة عشرة إلى الأمر بمصابرة الضعف، فإن زاد العدد على الضعف جاز الفرار والصبر أحسن: {فإن يكن منكم مائة صابرة} أي الصبر الذي تقدم التنبيه عليه {يغلبوا مائتين} أي من غيركم بإذن الله {وإن يكن منكم ألف} أي على النعت المذكور وهو الصبر {يغلبوا ألفين} ثم أرشد إلى أن المراد بالصبر هو كل المأمور به في آية {إذا لقيتم فئة فاثبتوا} [الأنفال: 45] فقال: {بإذن الله} أي بإرادة الذي له جميع الأمر، ذلك وإباحته لكم وتمكينه، فإن لم يقع الإذن لم يقع الظفر، فالآية من الاحتباك: ذكر في الأول صابرة دلالة على حذفه ثانياً، وذكر ثانياً الإذن دليلاً على حذفه أولاً؛ ثم نبه على عموم الحكم بقوله: {والله} أي المحيط بصفات الكمال {مع الصابرين*} أي بنصره ومعونته، ومن ثم قال ابن شبرمة: وأنا أرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك. ومادة «إذن» - مهموزة وغير مهموزة وواوية ويائية بتقاليبها الأربعة: إذن ذان ذون ذين -(8/326)
ترجع إلى العلم الناشىء عن حاسة السمع المتعلق بجارحة الأذن، وتارة يثمر الإباحة وتارة المنع، فأذن بالشيء - كسمع: علم به «فأذنوا بحرب» أي كونوا على علم من أن حربكم أبيح.
وأذن له بالشيء - كسمع أيضاً: أباحه له، وآذنه الأمر وبه: أعلمه - وزناً ومعنى، فجعله مباحاً له أو ممنوعاً منه، وأذّن فلاناً تأذيناً: عرك أذنه، وأذّنه: رده عن الشرب فلم يسقه، كأن التفعيل فيه للإزالة، وآذن النعل وغيرها: جعل لها أذناً، وفعله بإذني: بعلمي وتمكيني، وأذن إليه وله - كفرح: استمع بأذنه، أي أباح ذلك سمعه وقلبه، وأذن لراتحة الطعام: اشتهاه كأنه أباحه لنفسه، وآذنه إيذاناً: أعجبه، مثل ذلك سواء، وآذنه أيضاً: منعه، كأنه الهمزة للإزالة، والأذن: الجارحة المعروفة - بضمة وبضمتين - والمقبض والعروة من كل شيء وجبل، لأن كلاً من ذلك سبب للتمكن من حمل ما هو فيه، والأذن: الرجل المستمع القابل كل ما يقال له كأنه لما قبله أباحه قلبه ومكنه منه، والأذان: النداء إلى الصلاة لأنه إعلام بإباحتها والمكنة منها، وتأذن: أقسم وأعلم، وتارة يتأثر عنه إباحة ومكنة من الشيء وتارة منع وحرمة، فيكون من الإزالة، وآذن العشب: بدأ يجف فبعضه رطب وبعضه يابس كأنه أمكن من جره وجمعه ببدو صلاحه، والآذن: الحاجب، لأنه للتمكين والمنع، والأذنة محركة: صغار الإبل والغنم كأنها تبيح كل أحد ما يريد منها، وطعام لا أذنة له: لا شهوة لريحه، فكأنه(8/327)
ممنوع منه لعدم اشتهائه، وتأذن الأمير في الناس: نادى فيهم بتهدد، فهو يرجع إلى المنع والزجر عن شيء تعزيراً، والذين - بالكسر والياء: العنب، وكذا الذان - بالألف منقلبة عن واو: العنب، كأنه لسهولة تناوله ولذة مطعمه أمكن من نفسه، والتذوّن - بالواو مشددة: الغنى والنعمة، كأنهما سبب للإمكان مما يشتهي، والذؤنون - مهموزاً كزنبور: نبت من نبات الأرض؛ والمعنى أنه إنما أذن لكم في ذلك إذا فعلتم الشرط المذكور لأنكم فقهتم على الحرب وبنيتم أمركم فيه على دعائمها الخمس التي ملاكها والداخل في كل منها الصبر، فكان الله معكم، وهو مع كل صابر هذا الصبر المثبت في الدعائم الخمس في كل أوان، ومما يسأل عنه في الآية أنه ابتدىء في العشرات بثاني عقودها، وفي المئات والآلاف بأولها. سألت شيخنا الإمام الراسخ محقق زمانه شمس الدين محمد بن علي القاياتي قاضي الشافعية بالديار المصرية: ما حكمته؟ فقال: الأصل الابتداء بأول العقود، لكن لو قيل: إن يكن منكم عشرة صابرة يغلبوا مائة، لربما توهم انه لا تجب مصابرة الواحد للعشرة إلا عند بلوغ المؤمنين هذا العقد، فعدل إلى الابتداء بثاني عقود هذه المرتبة لينتفي هذا المحذور، فلما انتفى وعلم أنه يجب مصابرة كل واحد لعشرة، ذكر باقي المراتب في الباقي(8/328)
على الأصل المعتاد، وأما تكرير المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين: قبل التخفيف وبعده فللدلالة - كما قال في الكشاف - على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت وإن كان قد يظن تفاوته، وكأنه لم يذك الآحاد بشارة بكثرة هذه الأمة واجتماعها وبدأ بالعشرات وختم بالألوف ليستوفي مراتب الأعداد الأصلية - والله أعلم.
ولما تقدم الأمر بالإثخان في {فشرد بهم} ثم بإعداد القوة، ثم التحريض على القتال بعد الإعلام بالكفاية ثم إيجاب ثبات الواحد لعشرة ثم إنزال التخفيف إلى اثنين؛ كذن ذلك مقتضياً للإمعان في الإثخان، فحسن عتاب الأحباب في اختيار غير ما أفهمه هذا الخطاب، لكون ذلك أقعد في الامتنان عليهم بالعفو والغفران بسبب أن أكثرهم مال إلى فداء الأسارى فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استشارهم فيهم فأشار أبو بكر رضي الله عنه بالمفاداة ومال معه الأكثر، وأشار عمر رضي الله عنه بضرب أعناقهم، وروي أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو نزل من السماء عذاب - أي في هذا - ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ رضي الله عنهما» فقال تعالى استئنافاً واستنتاجاً: {ما كان} أي ما صح وما استقام {لنبي} أي في شرع نبي الأنبياء مستقل ولا مقر، ولعله عبر(8/329)
بوصف النبوة ليفيد مع العموم أن كلاً من رفعه القدر والإخبار من الله يمنع من الإقدام على فعل بدون إذن خاص {أن يكون له أسرى} أي أن يباح له أسر العدو {حتى يثخن في الأرض} أي يبالغ في قتل أعدائه، فهو عتاب لمن أسر من الصحابة غير من نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتله من المشركين أو رضي بذلك، وإنما أسند إلى نبي - وقرىء شاذاً بالتعريف - ولم يقل: ما كان في شرع نبي، تهويلاً للأسر تعظيماً للعفو للمبالغة في القيام بالشكر، وهذا كان يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله سبحانه وتعالى {فإما منّاً بعد وإما فداء} [محمد: 4] قاله ابن عباس رضي الله عنهما، ومادة ثخن تدور على الضخامة، وتارة يلزمها اللين والضعف، وتارة الصلابة والقوة، فحقيقته: يبالغ في القتل فيغلط أمره فيقوى، ويلين له أعداؤه ويضعفوا؛ ثم بين لهم أن الميل عن ذلك إنما هو لإرادة الأعراض الدنيوية المبكت به اليهود في آخر التي قبلها بقوله تعالى {يأخذون عرض هذا الأدنى} [الأعراف: 196] كما أن النزاع في الأنفال ميل إلى الدنيا، وكل ذلك بمعزل عن معالي الأخلاق وكرائم السجايا، معللاً لعدم الكون المذكور بما تقديره: لأن الأسر إنما يراد به الدنيا، هكذا الأصل ولكنه أبرز في أسلوب الخطاب لأنه أوقع في النفس فقال: {تريدون} أي أنها المؤمنون المرغبون في(8/330)
الإنفاق لا في الجمع، باستبقائهم {عرض الدنيا} قال الراغب: العرض ما لا ثبات له، ومنه استعاره المتكلمون لما لا ثبات له إلا بالجوهر كاللون، وقال ابن هشام في تهذيب السيرة، أي المتاع الفداء بأخذ الرجال {والله} أي الذي له الكمال كله {يريد} أي لكم {الآخرة} اي جوهرها لأنه يأمر بذلك أمراً هو في تأكيده ليمتثل كالإرادة التي لا يتخلف مرادها، وذلك بالإثخان في قتلهم لظهور الدين الذي تريدون إظهاره والذي به تدرك الآخرة، ولا ينبغي للمحب أن يريد إلا ما يريد حبيبه {والله} أي الملك الأعظم {عزيز} أي منزه جنابه العلي عن لحاق شيء مما فيه أدنى سفول {حكيم*} أي لا يصدر عنه فعل إلا وهو في غاية الإتقان فهو يأمر بالإثخان عند ظهور قوة المشركين، فإذا ضعفت وقوي المسلمون فأنتم بالخيار، ولا يصح ادعاء ولايته إلا لمن ترقى في معارج صفاته، فيكون عزيزاً في نفسه فلا يدنسها بالأطماع الفانية، وفعله فلا يحطه عن أوج المعالي إلى حضيض المهاوي، وحكيماً فلا ينشأ عنه فعل إلا وهو في غاية الإتقان.(8/331)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
ولما علم من الآية ما أشرت إليه، فكان كأنهم قالوا رضي الله عنهم: تقتضي عزته وحكمته سبحانه من تطهيرنا عما تدنسنا به؟ استأنف تعالى الجواب عن ذلك ممتناً غاية لامتنان ومحذراً من التعرض لمواقع الخسران فقال: {لولا كتاب} أي قضاء حتم ثابت مبرم {من الله}(8/331)
أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء قدرة وعلماً {سبق} أي في أم الكتاب من الحكم بإسعادكم، ومن أنه لا يعذب أحداً إلا بعد التقدم إليه بالنهي، ومن أنه سيحل لكم الفداء والغنائم التي كانت حراماً على من قبلكم تشريفاً لكم - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما {لمسكم فيما أخذتم} أي من الأسرى المراد بهم الفداء {عذاب عظيم*} ولكن سبق حكمي بأن المغنم - ولو بالفداء - لكم حل وإن تعجلتم فيه أمري.
ولما ساق سبحانه هذه البشارة في النذارة، سبب عنها قوله: {فكلوا مما غنمتم} أي من الفدية وغيرها حال كونه {حلالاً} أي لا درك ولا تبعة فيه من جهتي {طيباً} أي شهياً لكم ملائماً لطباعكم، وهذا إذا كان مع الشروط التي أقمتها لكم من عدم الغلول والخيانة بوجه من الوجوه والاستثار وشديد الرغبة السائقة إلى ما لا يليق من التنازع وغيره، ذلك فيما تقدمت فيه إليكم {واتقوا الله} أي الذي له جميع صفات الكمال في جميع ذلك فلا تغلوا ولا تنازعوا ولا تقدموا إلا على ما يبيحه لكم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إن الله} أي المتصف بالجلال والإكرام {غفور} أي لمن يعلم من قبله أنه من أهل التقوى {رحيم*} أي له، فلأجل ما علم في قلوبكم من الخير غفر لكم فلم يعذبكم بتسرعكم إلى إسار من لم يأمركم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمفاداة دون توقف على إذنه، ورحمكم فأحسن إليكم فأحل لكم الغنائم،(8/332)
انظر إلى قوله تعالى {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم} تعرف حسن تعليل الأمر بالتقوى بالمغفرة والرحمة، ويجوز أن يكون علة للأكل، أي كلوا فإن الله قد غفر لكم ما عاتبكم عليه، وفائدة الأمر بالتقوى التحذير من العود اعتماداً على سعة الحلم، وايضاً فقد تقدم تهديد ومغفرة فناسب أن يدلهم على أن علة المغفرة التقوى، فكان ترجمة ذلك انه لما رهبهم بمس العذاب عند أخذ الفداء لولا سبق الكتاب، رغبهم بأنه كلما صدهم عن جنابه صارف ذنب فردهم إليه عاطف تقوى، أسبل عليهم ذيل المغفرة والرحمة، ولما علم من هذا إباحة ما يؤخذ من الأسر من الفداء، وكان ما يؤخذ منهم تعظم مشقته عليهم، أقبل عليهم مستعطفاً لهم ترغيباً في الإسلام، فأقبل على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأمر بمخاطبتهم تنبيهاً على أنهم ليسوا بأهل لخطابه سبحانه بما أبعدوا أنفسهم عنه من اختيارهم الكون في زمرة الأعداء على الكون في عداد الأولياء، فقال معبراً بالوصف الناظر إلى تلقي العلم ترغيباً في التلقي منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا أيها النبي} أي الذي أنبئه بكل معنى جليل، يظهر دينه ويزكي أمته مع رفع مقداره وإتمام أنواره {قل لمن في أيديكم} أي في أيدي أصحابك وأهل دينك، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب {من الأسرى} ترغيباً لهم فيما عند الله {إن يعلم الله} بما له من(8/333)
صفات الجلال والجمال {في قلوبكم خيراً} أي شيئاً من تقواه الحاملة على الإيمان الذي هو رأس الخير وعلى كل خير {يؤتكم خيراً مما أخذ منكم} أي مما يفتح به عليكم من المغانم في الدنيا ويدخره لكم من الثواب في الأخرى {ويغفر لكم} أي ما سلف من ذنوبكم {والله} أي الذي بيده كل شيء {غفور رحيم} أي من شأنه ذلك، والمعنى على ما علم من قصة العباس الآتيه رضي الله عنه أنه سبحانه يعاملكم وأمثالكم في غير ما يأخذه منكم جنده بالكرم، وأما إنه يحكم بإسقاط الفداء عنكم ويأمرهم بتركه وإطلاقكم مجاناً بما يعلم في قلوبكم من خير وإيمان كنتم تكتمونه فلا تطمعوا فيه لأن ذلك يفتح باب الدعاوى الباطلة المانعة من الغنائم الموهنة للدين؛ قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في سيرته: قال ابن عباس وسعيد بن المسيب:
«كان
العباس
رضي
الله
عنه
في الأسرى فقال له رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افد نفسك وابني أخيك عقيلاً ونوفلاً وخليتك فإنك ذو مال، فقال: يارسول الله! إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الله أعلم بإسلامك، إن كان حقاً ما تقول فالله يجزيك به، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، قال: ليس لي مال، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأين المال الذي وضعت عند أم الفضل حين خرجت وليس معك أحد؟(8/334)
ثم قلت: إن أصبت في سفري هذا فأعطي الفضل كذا وعبد الله كذا! فقال: والذي بعثك بالحق! ما علم بهذا أحد غيري وغيرها، ففدى نفسه بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية وقال: تركتني أسأل الناس، وأسلم وأمر عقيلاً فأسلم، ولم يسلم من الأساري غيرهما» .
ولما كان التقدير: فإن صدقوك وقبلوا - بشرى الله، وفي لهم، عطف عليه قوله: {وإن يريدوا} أي الأسرى والكفار كلهم أو واحد منهم كأبي عزة {خيانتك} أي وأنت أعلى الخلق في عهد من إسلام أو غيره يوثقونه لك ترضى به في المن على أحد منهم، بغير فداء، يرد الله أن يكون وبال ذلك راجعاً إليهم فيمكن منهم، فلا تخش من أمرهم {فقد خانوا الله} أي الملك الأعظم؛ ولما كانت خيانتهم غير مستغرقة للزمن، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي من قبل هذا الوقت بالكفر وغيره من أنواع الفسق {فأمكن} أي فأوجد الإمكان منهم، وقصره ليدل على أنهم صاروا سلماً لكل أحد {منهم} أي يوم بدر بسبب خيانتهم، فمثل ما أمكن منهم عند وقوع الخيانة سيمكنك منهم إذا أرادوا الخيانة، فإن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون {والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {عليم} أي بالغ العلم مطلقاً فهو يعلم الأشياء كلها(8/335)
التي منها أحوالهم {حكيم*} أي بالغ الحكمة فهو يتيقن كل ما يريده فهو يوهن كيدهم ويتقن ما يقابلهم به فيلحقهم لا محالة، وكذا فعل سبحانه في أبي عزة الجمحي فإنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المن عليه بغير شيء لفقره وعياله وعاهده على أن لا يظاهر عليه أحداً ومدحه ثم خان فظهر به في غزوة حمراء الأسد عقب يوم أحد أسيراً، فاعتذر له وسأله في العفو عنه فقال: ألا تمسح عارضيك بمكة وتقول: سخرت بمحمد مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين، وأمر به فضربت عنقه، وقال أبو حيان في الخيانه: هي كونهم اظهر بعضهم الإسلام ثم رجعوا إلى دينهم.(8/336)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
ولما بين للأسرى أن الخير الذي لم يطلع عليه من قلوبهم غير الله لا ينفعهم في إسقاط الفداء عنهم لأنه لا دليل عليه، وكل ما لا دليل عليه فحكمه حكم العدم، لأن مبنى الشرع على ما يمكن المكلف معرفته وهو الظواهر، وختم بصفتي العلم والحكمة، شرع يبين الخبر الذي يفيد القرب الذي تنبني عليه المناصرة وكل خير، فقال مقسماً أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة أقسام: قسم جمع الإيمان والهجرة أولاً والجهاد، وقسم آوى، وقسم آمن ولم يهاجر، وقسم هاجر من بعد: {إن الذين آمنوا} أي بالله ورسوله {وهاجروا} أي واقعوا الهجرة(8/336)
من بلاد الشرك، وهم المهاجرون الأولون، هجروا أوطانهم وعشائرهم وأحبابهم حباً لله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وجاهدوا} أي واقعوا الجهاد، وهو بذل الجهد في توهين الكفر وأهله.
ولما كانت الآيات المتقدمه في آلات الجهاد من النفس والمال تارة بالحث على إنفاقه وأخرى بالنهي عن حبه وتارة بالتسلية للأسرى عند فقده، كان الأنسب تقديم قوله: {بأموالهم} أي بإنفاقهم لها في الجهاد وتضييع بعضها بالهجرة من الديار والنخيل وغيرها {وأنفسهم} بإقدامهم على القتال مع شدة الأعداء وكثرتهم؛ وقدم المال لأنه سبب قيام النفس، وكان في غاية العزة في أول الأمر، وأخر قوله: {في سبيل الله} أي الملك الأعظم لذلك، «وفي» سببية أي جاهدوا بسببه حتى لا يصد عنه صاد فتظهر محاسنه ويسهل المرور فيه من غير قاطع، ولعله عبر ب «في» إعلاماً بأنه ينبغي أن يكون متمكناً من السبيل تمكن المظروف من ظرفه حتى يكون الدين غالباً عليه لا يخرج عنه بوجه من الوجوه، وأما في سورة براءة فلما كان السياق في بعض الأماكن بها للسبيل قدم - كما سيأتي، وأيضاً فإن هذه السورة نزلت في أوائل الأمر بعد وقعه بدر في السنة الثانية من الهجرة، وكان الحال إذ ذاك شديداً جداً، والأموال في غاية القلة، والأعداء لا يحصون، فناسب الاهتمام بشأن المال والنفس(8/337)
فقدما ترغيباً في بذلهما، وأما براءة فنزلت في غزوة تبوك في أواخر سنة تسع، فكان المال قد اتسع، والدين قد عز وضخم وقوي وعظم، وأسلم غالب الناس، فبعدت مواضع الجهاد فعظمت المشقة، وتواكل الناس بعضهم على بعض ورغبوا في الإقبال على إصلاح الأموال، فناسب البداءة هناك بالسبيل.
ولما ذكر أهل الهجرة الأولى، أتبعهم أهل النصرة، وهم القسم الثاني من المؤمنين الذين كانوا على زمنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {والذين آووا} أي من هاجر إليهم من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم فأسكنوهم في ديارهم، وقسموا لهم من أموالهم، وعرضوا عليهم أن ينزلوا لهم عن بعض نسائهم ليتزوجوهن، وأنما قصر الفعل إشارة إلى تعظيم فعلهم بحيث كأنه لا إيواء في الوجود غير ما فعلوا، وكذا قوله: {ونصروا} أي الله ورسوله والمؤمنين، وهم الأنصار رضي الله عنهم، حازوا هذين الوصفين الشريفين فكانوا في الذروة من كلتي الحسنيين، ولولا إيواؤهم ونصرهم لما تم المقصود، والمهاجرون الأولون أعلى منهم لسبقهم في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل ولحملهم الأذى من الكفار زماناً طويلاً وصبرهم على فرقة الأوطان والعشائر.
وأشار إلى القسمين بأداة البعد لعلو مقامهم وعز مرامهم فقال: {أولئك} أي العالو الرتبة {بعضهم أولياء بعض} أي في الميراث دون القرب العاري عن ذلك، فبين أن الإيمان(8/338)
إن لم يقترن بشهيدين هما الهجرة والجهاد من الغرب عن المدينة وشهيدين هما الإيواء والنصرة من أهل المدينة، كان عائقاً عن مطلق القرب بل مانعاً من نفوذ لحمه النسب كل النفوذ، فكأن من آمن ولم يهاجر لم يرث ممن هاجر قاله ابن عباس رضي الله عنهما، ومادة ولي بجميع تصاريفها ترجع إلى الميل، ويلزم منه القرب والبعد، وربما نشأ عن كل منهما الشدة، وترتيب ولي بخصوصه يدور على القرب، ومن لوازمه النصرة، فالمعنى بعضهم أقرباء بعض، يلزم كلاً منهم في حق الآخر من المناصرة وغيره ما يلزم القريب لقريبه، فمتى جمعهم وصف جعلهم شركاء فيما يثمره، فوصف الحضور في غزوة يشرك بينهم في الغنائم، لأن أنواع الجهاد كثيرة، وكل واحد منهم باشر بعضها، فعن حضور الكل نشأت النصرة، والمهاجر في الأصل من فارق الكفار بقلبه ولاواهم، ورافق المؤمنين بحبه ولبه ووالاهم، لكن لما كان هذا قد يخفى، نيط الأمر بالمظنة وهي الدار، لأنها أمر ظاهر، فصار المهاجر من باعد دار المشركين فراراً بدينه، ثم صار شرط ذلك بعد هجرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تكون النقلة إلى دار هجرته: المدينة الشريفة هذا حكم كل مهاجر إلا ما كان من خزاعة فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قد علم من مؤمنهم وكافرهم حبه ونصحه وبغض عدوه فلم يلزم مؤمنهم النقلة؛ قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر في كتاب المدخل إلى(8/339)
الاستيعاب؛ ويقال لخزاعة حلفاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنهم حلفاء بني هاشم وقد أدخلهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتاب القضية عام الحديبية - إلى أن قال: وأعطاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزلة لم يعطها أحداً من الناس أن جعلهم مهاجرين بأرضهم وكتب لهم بذلك كتاباً - انتهى. وقال شاعرهم نجيد بن عمران الخزاعي يفخر بذلك وغيره مما خصهم الله به على يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وقد أنشأ الله السحاب بنصرنا ... ركام سحاب الهيدب المتراكب
وهجرتنا في أرضنا عندنا بها ... كتاب أتى من خير ممل وكاتب
ومن أجلنا حلت بمكة حرمة ... لندرك ثأراً بالسيوف القواضب
ذكر ذلك الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي في غزوة الفتح من سيرته، والذي تولى حلفهم أولاً هو عبد المطلب جد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الواقدي في أول غزوة الفتح: وكانت خزاعة حلفاء لعبد المطلب، وكان رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك عارفاً، لقد جاءته يومئذ - يعني يوم الحديبية - خزاعة بكتاب عبد المطلب فقرأه وهو «باسمك اللهم هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة إذ قدم عليه وسراتهم(8/340)
وأهل الرأي، غائبهم مقر بما قضى عليه شاهدهم، إن بيننا وبينكم عهد الله وعقوده، ما لا ينسى أبداً، اليد واحدة والنصر واحد، ما أشرف ثبير وثبت حراء، وما بل بحر صوفة، لا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجدداً أبداً أبداً، الدهر سرمداً» فقرأة عليه أبيّ بن كعب رضي الله عنه فقال: «ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف، وكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام» ؛ قال الواقدي: «وجاءته أسلم هو بغدير الأشطاط» جاء بهم بريده بن الحصيب فقال: يارسول الله هذه أسلم وهذه محالّها وقد هاجر إليك من هاجر منها وبقي قوم منهم في مواشيهم ومعاشهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتم مهاجرون حيث كنتم، ودعاء العلاء بن الحضرمي فأمره أن يكتب لهم كتاباً فكتب «هذا كتاب من محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأسلم لمن آمن منهم بالله وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإنه آمن بأمان الله، وله ذمة الله وذمة رسوله، وإن أمرنا وأمركم واحد على من دهمنا من الناس بظلم، اليد واحدة والنصر واحد، ولأهل باديتهم مثل ما لأهل قرارهم(8/341)
وهم مهاجرون حيث كانوا» وكتب العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله! نعم الرجل بريدة بن الحصيب لقومه عظيم البركة عليهم، مررنا به ليلة مررنا ونحن مهاجرون إلى المدينة، فأسلم وأسلم معه من قومه من أسلم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم الرجل بريدة لقومه وغير قومه يا أبا بكر إن خير القوم من كان مدافعاً عن قومه ما لم يأثم، فإنة الإثم لا خير فيه «انتهى. وأسلم شعب من أربعة شعوب من خزاعة. ولما فتحت مكة، انقطعت الهجرة لظهور الدين وضعف المشركين، وقام مقام الهجرة النية الخالصة المدلول عليها بالجهاد كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية «وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» فإن كان المؤمن لا يتمكن من إظهار دينه وجبت عليه النقلة.
ولما بين سبحانه تعالى أمر من جمع الشروط، شرع يبين حكم من قعد عن بعضها وهو القسم الثالث فقال؛ {والذين آمنوا} أي اشتهر إيمانهم {ولم يهاجروا} أي قبل الفتح بل استمروا في بلادهم {ما لكم من ولايتهم} وأغرق في النفي فقال: {من شيء} أي في التوارث ولا في غيره؛ ورغبهم في الهجرة بقوله: {حتى يهاجروا} أي يواقعوا الهجرة لدار الشرك ومن فيها {وإن استنصروكم} أي طلبوا نصركم {في الدين} أي(8/342)
بسبب أمر من أموره وهم متمكنون من الدين تمكن المظروف من الظرف {فعليكم النصر} أي واجب عليكم أن تنصروهم على المشركين، فالمعنى أنه ليس لهم عليكم حق القريب إلا في الاستنصار في الدين، فإن ترك نصرهم يجر إلى مفسدة كما أن موالاتهم تجر إلى مفاسد؛ ثم استثنى من الوجوب فقال: {إلا على قوم} وقع وكان {بينكم وبينهم ميثاق} أي لأن استنصارهم يوقع بين مفسدتين: ترك نصرة المؤمن ونقض العهد وهو أعظمهما فقدمت مراعاته وتركت نصرتهم، فإن نصرهم الله على الكفار فهو المراد من غير أن تدنسوا بنقض، وإن نصر الكفار حصل لمن قتل من إخوانكم الشهادة ولمن بقي الضمان بالكفاية، وكان ذلك داعياً لهم إلى الهجرة، ومن ارتد منهم أبعده الله ولن يضر إلا نفسه والله غنى حميد، فقد وقع - كما ترى - تقسيم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام: أعلاها المهاجر، ويليه الناصر، وأدناها القاعد القاصر، وبقي قسم رابع ياتي؛ قال أبو حيان: فبدأ بالمهاجرين - أي الأولين - لأنهم أصل الإسلام وأول من استجاب لله تعالى، فهاجر قوم إلى المدنية، وقوم إلى الحبشة، وقوم إلى ابن ذي يزن، ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسبب تقوية الدين «من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامه» وثنى بالأنصار لأنهم ساووهم(8/343)
في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال، لكنه عادل بالهجرة الإيواء والنصرة، وانفرد المهاجرون بالسبق، وذكر ثالثاً من آمن ولم ينصر، ففاتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية حتى يهاجروا، ثم قال: آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري، قال ابن زيد: واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة - انتهى. لكن ما ذكر ابن عبد البر - كما سيأتي - من أن حكم ذلك زال بوقعه بدر أولى للآية الآتية آخر السورة مع ما يؤيد ذلك من آية الأحزاب.
ولما كان التقدير: فالله بمصالحكم خبير، وكان للنفوس دواع إلى مناصرة الأقارب والأحباب ومعاداة غيرهم خفية، ولها دسائس تدرك، حذر من ذلك بقوله عاطفاً على هذا المقدر: {والله} أي المحيط علماً وقدرة، ولما كان السياق لبيان المصالح التي تنظم الدين وتهدم ما عداه، وكان للنفوس - كما تقدم - أحوال، اقتضى تأكيد العلم بالخفايا فقدم الجار الدال على الاختصاص الذي هو هنا كناية عن إحاطة العلم فقط مرهباً: {بما تعملون بصير*} وفي ذلك أيضاً ترغيب في العمل بما حث عليه من الإيمان والهجرة والنصرة والإنفاق والتحري(8/344)
في جميع من ذلك وترهيب من العمل بأضدادها، وفي «البصير» إشارة إلى العلم بما يكون من ذلك خالصاً أو مشوباً، ففيه مزيد حث على الإخلاص.
ولما بين شرط موالاة المسلم، بين مولاة الكافر وما يجب من مناظرتهم ومباراتهم فيها، وأنه لا شرط لها غير مطلق الكفر فإنه وإن اختلفت أنواعه وتباعدت أنحاؤه - يجمعه عداوة الله وولاية الشيطان فقال: {والذين كفروا} أي أوجدوا هذا الوصف على أي حال كانوا فيه {بعضهم أولياء بعض} أي في الميراث والنصرة وغيرهما، وهو خبر محض مشير إلى نهي المسلم عن موالاتهم، وأما الذي مضى في حق المؤمنين فهو أمر في صورة الخبر وصيغته، يعني أن في كل من الكفار قوة الموالاة للآخر عليكم والميل العظيم الحاث لهم على المسارعة في ذلك وإن اشتدت عداوة بعضهم لبعض لأنكم حزب وهم حزب، يجمعهم داعي الشيطان بوصف الكفران كما يجمعكم داعي الرحمن بوصف الإيمان، قال أبو حيان: كانوا قبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعادي أهل الكتاب منهم قريشاً ويتربصون بهم الدوائر، فصاروا بعد بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوالي بعضاً وإلباً واحداً على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى. وما ذكره مذكور في السير مشهور عند أهل الأثر {إلا تفعلوه} أي مثله من تولي المؤمنين ومعاداة الكافرين(8/345)
كما يفعل الكفار بالتعاضد والتعاون بالنفس والمال كما أرصدوا مال العير الذي فاتكم حتى استعانوا به على قتالكم في أحد، فاللائق بكم أن تكونوا أعظم منهم في ذلك، لأنهم يريدون بذلك رم واهي دنياهم الفانية وأنتم تبنون آخرتكم الباقية، وداعيكم ولي غنى وداعيهم عدو دنى فضلاً عن أن تنزلوا إلى حضيض التنازع في الغنائم {تكن فتنة} أي عظيمة {في الأرض} اي خلطة مميلة للمقاصد عن وجوهها {وفساد كبير*} أي ينشأ عن تلك الفتنة، والكبير ناظر إلى العظم، وقرىء شاذاً بالمثلثة فيكون عظمة حينئذ مخصوصاً بالأنواع، وبيان الفساد أنه إذا قارب المؤمن الكافر والكافر المؤمن وتناصروا أو ترك المؤمنون التناصر فيما بينهم انخّل النظام فاختل كل من النقض والإبرام، فاختلف الكلام فتباعدت القلوب، فتزايدت الكروب، فالواجب عليكم أن تكونوا إلباً واحداً ويداً واحدة في الموالاة وتقاطعوا الكفار بكل اعتبار ليقوم أمركم وتطيب حياتكم، وتصلح غاية الصلاح دنياكم وآخرتكم، والآية شاملة لكل ما يسمى تولياً حتى في الإرث وقتال الكفار ومدافعة المسلمين بالأمر والإنكار، ولما ترك بعض العلماء إعانة بعض فئة حصل ما خوف الله تعالى منه من الفتنة والفساد حتى صار الأمر إلى ما ترى من علو المفسدين وضعف أهل الدين، فالأمر بالمعروف فيهم في غاية الذل والغربة، يرد عليه أدنى الناس فلا يجد له ناصراً، ويجد ذلك الآخر له على(8/346)
الرد أعواناً كثيرة، وصار أحسن الناس حالاً مع الأمراء وأعظمهم له محبة من يقنع بلومه على فعله ظناً منه أن ذلك شفقة عليه - والله المستعان.(8/347)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
ولما تقدمت أنواع المؤمنين: المهاجر والناصر والقاعد، وذكر أحكام موالاتهم، أخذ يبين تفاوتهم في الفضل فقال: {والذين آمنوا} أي بالله وما أتى منه {وهاجروا} أي فيه من يعاديه سابقين مع نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وجاهدوا} أي بما تقدم من المال والنفس أو بأحدهما {في سبيل الله} أي الذي له صفات الكمال فبذلوا الجهد في إذلالهم كما بذل الأعداء الجهد في إذلالهم، ولم يذكر آلة الجهاد لأنها - مع تقدم ذكرها لازمة {والذين آووا} أي من هاجر إليهم {ونصروا} أي حزب الله، وأعلم بقوله: {أولئك} أي الصنفين الأولين خاصة {هم المؤمنون حقاً} أي حق الإيمان، لأنهم حققوا أيمانهم: المهاجر بالانسلاخ من كل ما يحبه من الأمور الدنيوية، والناصر من جميع أهل الكفر بإيواء أهل الله ونصرتهم.
ولما بين وصفهم، بين ما حباهم به بقوله دالاً على أن الإنسان محل النقصان، فهو - وإن اجتهد حتى كان من القسم الأعلى - لا ينفك عن مواقعة ما يحتاج فيه إلى الغفران: {لهم مغفرة} أي لزلاتهم وهفواتهم، لأن مبنى الآدمي على العجز اللازم عنه التقصير وإن اجتهد، والدين متين فلن يشاده أحد إلا غلبه؛ ولما ذكر تطهيرهم بالمغفرة، ذكر(8/347)
تزكيتهم بالرحمة فقال: {ورزق} أي من الغنائم وغيرها في الدنيا والآخرة {كريم*} أي لا كدر فيه بوجه، لا في قطعه ولا في نقصانه ولا في شيء من شأنه.
ولما حصر المؤمنين حقاً في الموصوفين، بين أن من ترك ما هو عليه من لزوم دار الكفر والقعود عن الجهاد، لحق بمطلق درجتهم وإن كانوا فيها أعلى منه فقال ذاكراً القسم الرابع: {والذين آمنوا} ولما كانوا قد تأخروا عن دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدة، أدخل الجار فقال: {من بعد} أي من بعد تأخر إيمانهم عن السابقين {وهاجروا} أي لاحقين للسابقين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم من هاجر بعد الحديبية، قال: وهي الهجرة الثانية {وجاهدوا معكم} أي من تجاهدونه من حزب الشيطان {فأولئك منكم} أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم من المواريث والمغانم وغيرها، لأن الوصف الجامع هو المدار للأحكام وإن تأخرت رتبتهم عنكم كما أفهمته أداة البعد.
ولما بين أنهم منهم، بين أنه متى جمعهم الوصف المحصل للولاية، كان القرب في الرحم أولى من غيره فقال: {وأولو الأرحام} أي من المؤمنين الموصوفين {بعضهم أولى ببعض} أي في الإرث وغيره من المتصفين بولاية الدين الخالية عن الرحم {في كتاب الله}(8/348)
أي القرآن أو في حكمه وقسمه الذي أنزله إليكم الملك الأعظم في آيات الإرث، وهي مقيدة بالعصبات فنسخت الولاية فلا دلالة على توريث غيرهم، وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة المنذر بن عمرو أن بدراً قطعت المواخاة بين الصحابة رضي الله عنهم، يعني فتكون هذه الآية ناسخة آية {بعضهم أولياء بعض} وتكون تلك حينئذ مبينة أمر ما كان قبل غزوة بدر - وهو حسن، والآية التي في سورة الأحزاب مؤيدة له، ثم علل سبحانه ما ذكر بما يرغب فيه فقال: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال كلها {بكل شيء عليم*} فهو يعلم أن هذا هو الذي تدور عليه المصلحة وتدوم به الألفة كما علم في أول الأمر أن نوط الإرث وغيره من لوازم القرب بالأخوة الإسلامية أولى لما في ذلك من تكثير قلتكم ونصر ذلتكم وجمع شتاتكم وجعل ما بينكم من الأخوة كلحمة النسب، فأما الآن فقد ضرب الدين بجرانه، وثبت بقواعده وأركانه، وولى الكفر بسلطانه، ونكص مدبراً بأعوانه، فتوارثوا بالإسلام والقرابة وتقاطعوا الكفار، وقربوا وبعدوا، وانحازوا عنهم كما انحازو عنكم، وتبرؤوا منهم كما تبرؤوا منكم، فقد انطبق آخر السورة بالإعراض عن الدنيا وإصلاح ذات البين وبيان المؤمنين حقاً وتقليد العليم في جميع الأعمال من غير اعتراض - على أولها، وببيان من يوالي ومن يعادي على أول براءة - والله الموفق.(8/349)
(سورة التوبة)
مقصودها معاداة من أعرض عما دعت إليه السورة الماضية من اتباع الداعي إلى
الله في توحيده وأتباع ما يرضيه، وموالاة من أقبل عليه، وأدل ما فيها على الإبلاغ في هذا المقصد فصة المحلفين فإنهم - لاعترافهم بالتخلف عن الداعي بغير عذر في غزوة تبوك المحتمل على وجه بعيد منهم رضي الله عنهم للاعراض بالقلب - هجروا، وأعرض عنهم بكل اعتبار حتى بالكلام، فذلك معنى تسميتها بالتوبة، وهو يدل على البراءة لأن البراءة منهم 0 بهجرانهم حتى رد السلام، كان سبب التوبة، فهو من إطلاق المسبب على السبب وتسميتها براءة واضح أيضا فيما ذكر من مقصودها، وكذا الفاضحة لأن من افتضح كان أهلا للبراءة منه، والبحوث لأنه لا يبحث إلا عن حال البغيض، والمبعثرة هو المنفرة والمثبرة والحفارة والمخزية والمهلكة والمشردةة والمدمدمة والمنكلة لأنه لا يبعثر إلا حال وكذا بعده، والمشردة عظيمة المناسبة مع ذلك عظيمة المناسبة مع ذلك لما أشارت إليه الأنفال في) فشرد بهم من خلفهم ْ [الأنفال: 57] وسورة العذاب أيضا واضحة في مقصودها، وكذا المقشقشة لأنهم قالوا: إن معناه(8/350)
المبرئة من النفاق، من تقشقشت قروحه، إذا تقشرت للبرء، وتوجيهه أن من عرف أن الله برئ منه ورسوله والمؤمنون لأمر فهو جدير بأن يرجع عن ذلك الأمر
، وعندي أيضا أنه مضاعف القش الذي معناه الجمع، لأنها جمعت أصناف المنافقين وأحوالهم وعليه خرج ما في وصف أبي جهم بن حذيفة لمن أراد نكاحها: أخاف عليك قشقاشته، أي تتبعه لمذاق الأمور، أخذا من القش الذي هو تطلب المأكول من هنا هنا وها هنا، أو عصاه التي هي غاية ذلك، ومادة قش ومقلوبها شق ةمضاعفهما قشقش وشقشق تدور على الجمع وتلازمه الفرقة فإنه لا يجتمع إلا ما كان مفرقا ولا يفرق إلا ما كان مجتمعا، وقد اقتسم هذان المثالان المعنيين إلا قليلا، فقش القوم: صلحوا وأحبوا بعد الهزال يجمع اللحم، والرجل: أكل من ها هنا ولف ما قدر عليه مما على الخوان، واضح في ذلك،
وأفشوا وانفشوا - إذا انطلقوا فجفلوا ومروا ذاهبين - وقد انقشوا إذا مروا وذهبوا مسرعين لاجتماعهم في ذلك وجمعهم ما قدروا عليه من متاعهم، والقش والإقشاش: طلب المأكول من ها هنا وها هنا لجمعه، والقشة - بالكسر: القردة كأنها لجمعها ما رأت مما يؤكل في فيها، والصبية الصغيرة الجثة التي لا تكاد تثبت كأنها(8/351)
لاجتماعها في نفسها، وكذا القشيش: الصغير من الصبيان، ودويبة كالجعل إما لاجتماعها في نفسها أو لجمعها القاذورات، والقشيش كأمير: الفقاطة لأنها بجمعها اللقاطون، وصوت جلد الحية يحك بعضها ببعض، لأنه لا يكون إلا عند التثني والتجمع، وقش من الجدري: برئ منه كتقشقش يصلح أن يكون من الفرقة لآنه فارقه، ومن الجمع لأن البرء جمعه كله فأزاله، ويمكن أن تكون همزته للإزالة، وتقششت القروح وتقشقشت - إذا تقشرت للبرء، إما من الجمع لاجتماع القوى للصحة، وإما من الفرقة والزوال، وكذا تقشقش البعير - إذا برئ من الجرب، ويقال: قششهم بكلامه - إذا تكلم بقبيح الكلام وآذاهم، أي لجمعه همومهم على بغضه أو معايبهم، وكذا قش الشيء: جمعه بيده حتى يتحات، أي قشره جميعه، فهو يصلح للفرقة والجمع، وقش: مشى مشى المهزول أي اضطرب، وهو يوجب الإسراع والتثني فيصلح للجمع ةالفرقة، وقش: أكل مما يلقيه الناس على المزابل أو أكل كسر الصدقة، لأن ذلك غاية في الجمع، وقش النبات: يبس، فاستحق أن يمجع، والقش: ردئ التمر كالدقل ونحوه لأنه، يجمع في نفسه، والدلو(8/352)
الضخم لكثرة ما يجمع، وفي الحديث) قل يا أيها الكافرون (و) قل هو الله أحد (المقشقشان، أي المبرئتان من الشرك لما في الحديث: اقرأ) قل يا أيها الكافرون (عند منامك فإنها براءة من الشرك، فالمعنى أنهما تجمعان كل شركط ونفاق دقيق أو جليل فتنزيلاته، والقشقشة يحكى بها الصوت قبل الهدير في محض الشقشقة قبل أن نرعد بالهدير، لأن مبادئ صوت الهدير زائد الضخامة، فكأنه جامع، فكذا ما يحكيه، والقشقاشة: العصا، لجمعها ما يراد بها أو لأنها يقشر عنها لحاؤها كما يقشر جلد الحية وأما مقلوبة فيقال فيه: شقة: صدعة أي فرقة، وقال الخليل: الصدع ربما كان في أحد الوجهين غير نافذ، والشق لا يكون إلا نافذا، وشق ناب البعير: طلع، لأنه فرق اللحم،
وشق العصا: فرق باثنيتين وفرق بين الجماعة، وشق عليه الأمر: صعب ففرق نفسه، وشق عليه: أوقعه في مشقة، وشق بصر المحتضر: نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه، لأنه لتصويبه إلى جهة واحدة مفترق من بقية الجهات، والشق واحد الشقوق، والصبح لأنه يفرق جيش الظلام، وجوبة ما بين الشفرين من جهاز المرأة، والتفريق ومنه شق عصا المسلمين، واستكالة البرق إلى وسط السماء من غير أن يأخذ يمينا وشمالا لأنه يشق السحاب مستقيما كما يشق اللوح والعصا، - بالكسر: الجانب لأنه مفارق للجانب الآخر،(8/353)
واسم لما نظرت إليه لأنه في جانب واحد، وجنس من أجناس الجن لأنه فرقة منهم، ومن كل شيء نصفه - ويفتح - ويفتح، والمال بيني وبينك شق الشعرة - ويفتح: نصفان سواء، والشقة - بالكسر: شظية من لوح، ومن العصا والثوب وغيره ما شق مستطيلا، والشقية: ضرب من الجماع كأنه على شق واحد، والشقة بالضم والكسر: البعد والناحية يقصدها المسافرؤ، والسفر البعيد، وكله واضح في الفرقة، والمشقة أيضا لأنها تأخذ أحد شقى النفش، والفرس البعيد ما بين الفروج والطويل، كأن أجزاءه تفرقت فطال ضد ما تقدم في الصبية الصغيرة، والأشق أيضا: العجل إذا استحكم كأنه لما تأهل من شق الأرض بالحراثة، وكل ما اشتق نصفين، والشقيقة كسفينة: الفرجة بين الجبلين تنبت العشب، لأنها فرقت بين الجبلين وفرقت عشبها بين ملتم أرضها، والمطر، الوابل المتسع لأن الغيم نشقق عنه، ومن البرق ما نتشر من الأفق لأنه يشق السحاب، ووجع يأخذ نصف الرأس والوجه، وشقائق النعمان معروف سميت لحمرتها تشبيها بشقيقة البرق، كذا قالوا، وعندي أنها سميت لتفرق أوراقها وتصفقها فكأنها مشققة مع التجمع، والشقاق كغراب: تشقق يصيب أرساغ الدواب - والشقشقة بالكسر: شيء كالرثة يخرجه البعير من فيه إذا هاج، كأنه بشق حلقه فيخرج ويوجب هديره الذي يشق(8/354)
انطباق تجويفه ليصوت، ومنه شقشق الفحل: هذر، والعصفور: صوت، وشقق الكلام: أخرجه أحسن مخرج، وشقق الحطب: فرق كل واحدة باثنتين أو أكثر، وانشقت العصا: تفرق الأمر، والاشتقاق: أخذ شق الشيء والأخذ في الكلام وفي الخصومة يمينا وشمالا مع ترك القصد، لأنه يشق جهات المعاني، وه أيضا أخذ الكلمة من الكلمة، فكأنه فرق بين أجزائها، وهذا أخي وشق نفسي وشقيقي كأنه يشق نسبه من نسبه أو كأنه شقه منه، وهذه السورة آخر سورة نزلت روى البخاري في التفسير وغيره من صحيحه عن البراء رضي الله عنه قال: آخر آية نزلت) يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة (وآخر سورة نزلت براءة.
ولما كانت مناسبة أولها - الداعي إلى البراءة مم ن يخشى نقضه - لآخر الأنفال المبين لمن يصلح للولاية المختتم بشمول العلم في حد عظيم من الظهور مع ما تقدم من بيان مناسبة آخر الأعراف لأول الأنفال، قدمت الأنفال مع قصرها على براءة مع طولها واشتباه أمرها على الصحابة في كونها سورة مستقلة أو بعض سورة كما قدمت آل عمران(8/355)
مع قصرها على النساء لمثل ذلك من المناسبة، فكان ما ذكر في براءة من البراءة والتولي شرحا لآخر الأنفال، روى الإمام أحمد يفي المسند وأبو داود في السنن والترمذي في الجامع وحسنه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى والبزار والبيهق يوالإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستس القاضي في تفسيره - بسند الترمذي والبيهقي - والإمام أبو جعفر النحاس بغير سند عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما حملكم على أن عندتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطرا بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطول؟ ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مما - وقال الستي: ربما - يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت فصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ولم يبين لنا أنها منها، قال النحاس: وذهب عني أ، أسأله عنعا، فمن أجل ذلك قرنت بينهما(8/356)
ولم أكتب بينهما سطر) بسم الله الرحمن الرحيم (فوضعتها في السبع الطول - زاد ابن راهويه: وكانتا تدعيان القرينتين - انتهى. فبين أنهما اشتبها عليه وأنه وضعهما في الطول لمناسبتهما لها على تقدير كونها سورة واحدجة، قال في القاموس: والسبع الطول - كصرد - من البقرة إلى الأعراف، والسابعة سورة يونس أو الأنفال وبراءة جميعا لأنهما سورة واحدة - انتهى. وقال في الكشاف: وقيل: سورة الأنفال والتوية سورة واحدة كلتاهما نزلت في القتال تعدان اتلسابعة من الطول ةبعدها المئون، وهذا قول ظاهر لأنهما معا مائتان وست فهما بمنزلة سورة واحدة، وقال بعضهم: هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من يقول: هما سورتان، وتركت " بسم "
لقول من يقول: هما سورة واحدة. انتهى. وعن أبي كعب رضي الله عنه أنه قال: إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود، ووضعت إحداهما بجنب الأخرى، والمراد بالمثاني هنا ما دون المئين وفوق المفصل، قال أبو عبيد الهروي: قيل لها مثاني لأن المئين جعلت مبادئ والتي تليها مثاني - انتهى. والأحسن كون ذلك بالنسبة إلى اغلمفصل من وجهين: الأول أن المفصل أول لقب جامع للسور باعتبار القصر وفوقه المثاني ثم المئون ثم الطول، فالمثاني ثانية له حقيقة، وما هي ثانية للمئين إلا أن ألفينا البداءة بالطول(8/357)
من الطرف الآخر، الثاني أنها لما زادت على المفصل كانت قسمة السورة منها في ركعتين من الصلاة كقراءة سورتين من المفصل فكانت مثاني لتثنيتها في مجموع الصلاة باعتبار قراءة بعضها في كل من الركعتين، قال أبو جعفر النحاس: قال أبو إسحاق: جدثني بعض أصحابنا عن صاحبنا محمد بن يزيد أنه قال: لم تكتب في أولها بسم الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت عليا رضي الله عنه: لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " ها هنا؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم " أمان - انتهى. وبهذا أخذ الإمام أبو القاسم الشاطبي في قصيدته حيث قال:
ومهما تصلها أو بدأت براءة
تنزيلها بالسيف لست مبسملا
وقال في الكشاف: وسئل ابن عيينة فقال: اسن الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة، قال الله تعالى) ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) [النساء: 94] قيل: فإن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قد كتب إلى أهل الحرب " بسم الله الرحمن الرحيم " قال: إنما ذلك ابتداء، يدعوهم(8/358)
ولم ينبذ إليهم، ألا تراه يقول " سلام على من اتبع الهدى " فمن دعى إلى الله فأجاب ودعى إلى الجزية فأجاب فقد اتبع الهدى، وأما النبذ فإنما هو البراءة واللعنة - انتى. ولا يعارض هذا خبر ابن عباس عن عثمان رضي الله عنهما، بل هو شبيه لما نزلت من غير بسملة للمعنى المذكور، اشتبه أمرها على الصحابة رضوان الهل عليهم، ولم يقع سؤال عنها حتى توفي رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، فكانت موافقتهم للسور في تسميتها باسم يخصها دليلا على أنها سورة برأسها، ومخلفتهعم في ترك إنزال البسملة في أولها مع احتمال أنها تركت للمعنى المذكور أو لغيره دليلا على أنها بعض سورة، فقد روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لا يعرف فصل السورة - وفي رواية: لا يعلم انقضاء السورة
حتى ينزل عليه) بسم الله الرحمن الرحيم (قال الحافظ أبو شامة: هذا حديث حسن وللحاكم في المستدرك أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهعما قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاؤء السورة حتى ينزل ": بسم الله الرحمن الرحيم " فلما نزل علم أن السورة قد انقضت فلما اشتبه أمرها تركوا كتابة البسملة في أولها وفصلوها عن الأنفال قليلا - والله الموفق. هذا وقد مضى بيان تشابه فصتيهما في أول الأنفال وأثناء الأعراف إجمالا، وأما تفصيلا فلما(8/359)
في كل منهما من نبذ العهد إلى من خيف نقضه، وأن المسجد الحرام لا يصلح لولايته إلا المتقون، وأن المشركين نجس لا صلاحية فيهم لقربانه، وأن قلة حزب الله لا تضرهم إذا لزموا دعائم النصر الخمس وكثرتهم لا تغنيهم إذا حصل في ثباتهم لبس، والحث على الجهاد في غيبر موضع، وضمان الغنى كما أشار إليه في الأنفال بقوله) لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) [الأنفال: 4] وذك أحكام الصدقات التي هي من وادي الغنائم، وعد أصناف كل، والأمر بالإنفاق المشار إليه في الإنفاق وغيره كما فعلوا في مال التجارة الذي أرصدوه حتى به على غزوة أحد المشار إليهفي الأنفال بقوله)) والذين كفروا ينفقون أموالهم) [الأتفال: 73] أي بالتناصر في الأنفال وغيره كما فعلوا في مال التجارة الذي أرصدوه حتى استعانوا به على غزوة أحد المشار إليه بآية) إن الذين كفروا ينفقون أموالهم) [الأنفال: 36] مع آية) إلا تفعلوه) [الأنفال: 49] والأمر الجامع للكل أنهما معا في بيان حال النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في أول أمره وأثنائه ومنتهاه، وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في كتابه: اتصالها بالأنفال أوضح من أن يتكلف بتوجيهه حتى أن شدة المشابهة والالتئام - مع أن الشارع عليه السلام لم يكن بين انفصالهما - أوجب أن لا يفصل بينهما [) بسم الله الرحمن الرحيم (، وذلك أن الأنفال قد تضمنت الأمر بالقتال) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) [الأنفال: 39] وبين أحكام الفرار من الزحف وحكم النسبة المطلوب فيها بالثبوت ولحوق التأثيم للفار(8/360)
وأنها على حكم الضعف وحكم الأسرى وحكم ولاية المؤمنين وما يدخل تحت هذه الولاية ومن يخرج عنها، ثم ذكر يفي السورة الأخرى حكم من عهد إليه من المشركين والبراءة منهم إذا لم يوفوا، وحكم من استجار منهم إلى ما يتعلق بهذا، وكله باب واحد، وأحكام متواردة على قصة واحدة، وهو تحرير حكم المخالف، فالتحمت السورتان
أعظم التحام، ثم عاد الكلام إلى حكم المنافقين وهتك أستارهم، انتهى. وأما تطابق آخر الأنفال مع أولها فقد ظهر مما مضى، وأيضا فلما ذكر في آخر التي قبلها أمر العهد تارة بنبذه إلى من خيفت خيانته كائنا من كان يفي قوله) فانبذ إليهم على سواء) [الأنفال: 58] وتارة بالتمسك به عند الأمن من ذلك في وقه) إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) [الأنفال: 72] وبين من يصلح للموالاة ومن لا يصلح، وختمت بالإخبار بشمول علمه، ابت
ئت هذه السورة بالأمر بالنبذ إى ناس بأعيانهم نقضوا أو خيف منهم ذلك وذلك تصريح بما أفهمته آيات الموالاة في التي قبلها من أن إحدى الفرقتين لا تصلح لموالاة الأخرى فقال تعالى:(8/361)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{براءة} أي عظيمة، ثم وصفها بقوله: {من} أي حاصلة واصلة من {الله} أي المحيط بصفات الكمال، فهو العالم بمن يستحق الولاية ومن يستحق البراءة {ورسوله} أي المتابع لأمره لعلمه به.
ولما كانوا قد توقفوا في الحديبية كلهم أو كثير منهم تارة في(8/361)
نفس العهد وتارة في التأخر عن الأمر بالحلق، ثم تابعوا في كل منهما، وكان الكفار بمحل البعد عن كل خير، أشار إلى ذلك بأداة الغاية، وجعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الله إشارة إلى أنه لا يخالفه أصلاً، وأسندت المعاهدة إليهم إشارة إلى ذلك التوقف تحذيراً من أن يقع مثله، فقال مخبراً عن النبذ الموصوف: {إلى الذين عاهدتم} أي أوقعتم العهد بينكم وبينهم {من المشركين*} أي وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعاً لهما، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع الانتظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين، وأما الله ورسوله فغنيان عن ذلك، أما الله فبالغنى المطلق، وأما الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبالذي اختاره للرسالة لأنه ما فعل ذلك به إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب، وعلم أن ذلك فيمن نقض أو قارب من قوله بعد {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً} - الآية؛ قال البغوي: لما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر الله بنقض عهودهم وذلك قوله تعالى {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم} [الأنفال: 58] انتهى. وذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، ولعله أطلق هنا ولم يقيد ممن خيف(8/362)
نقضه ليكون ذلك أول السورة مؤذناً بأن الخيانة وهم بالنقض شأن أكثرهم ولا سيما مشركو قريش، وهم - لكون قريش رؤوس الناس والناس تبع لهم في الخير والشر - يستحقون أن يعبر عنهم بما يفهم الكل ومبنى هذه السورة على البراءة من المشركين والموالاة للمؤمنين الدال على إيمانهم طاعة الله بالصلاة والزكاة والجهاد لمن أمر بالبراءة منه قل أو كثر قرب أو بعد في المنشط والمكره والعسر واليسر.
ولما كان ظاهر الحال وقت تكامل نزولها - وهو شوال أو ذو العقدة أو ذو الحجة سنة تسع بعد مرجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك - أن الحرب قد وضعت أوزارها وأطفئت نارهم ببسط الإسلام في الخاص والعام، وما بين اليمن والشام، وانتشار ألويته وأعلامه، وتأيد رئيسه وإمامه بقهر جيوش الكفار، وقصد الناس له بالاتباع من جميع الأمصار، أكد أمر الجهاد ومصادمة الأنداد في هذه السورة تأكيداً لم يؤكد في غيرها؛ ذكر الواقدي في أواخر غزوة تبوك كلاماً ثم قال: قالو: وقدم رسول الله صلى لله عليه وسلم المدينة - يعني من غزوة تبوك - في رمضان سنة تسع ثم قال: وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون: قد انقطع الجهاد، فجعل القوي منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنهاهم عن ذلك وقال:
«لا تزال عصابة(8/363)
من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال» وإنما قلت: إن تكامل نزولها كان في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة لأن البغوي نقل عن الزهري أن أولها نزل في شوال، وقال ابن إسحاق - ونقله عنه البيهقي في دلائل النبوة -: ثم أقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد منصرفه من تبوك بقية شهر رمضان وشوالاً وذا القعدة ثم بعث أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الحج في سنة تسع ليقيم للمؤمنين حجهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم - وأسند البيهقي في دلائله إلى عروة قال: فلما أنشأ الناس الحج تمام سنة تسع بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر أميراً على الناس وكتب له سنن الحج - انتهى. فخرج أبو بكر والمؤمنون رضي الله عنهم ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينهم وبينه أن لا يصد عن البيت أحد جاءه ولا يخاف أحد في الشهر الحرام؛ وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك؛ ونقل أبو محمد البستي عنه أنه قال: فكانت هذه المدة والعهد الذي كان بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين العرب أنه لا يصد أحد عن البيت ولا يتعرض لحاج ولا معتمر، ولا يقاتل في الشهر الحرام؛ وكان أماناً مستفيضاً من بعضهم لبعض على غير مدة معلومة؛ رجُع إلى ما رأيته أنا في سيرته: وكانت بين ذلك عهود بين رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين(8/364)
قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون؛ ثم قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: «لما نزلت براءة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج قيل له: يارسول الله! لو بعثت بها إلى أبي بكر! فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يجح بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد فهو له إلى مدته»
فهذا فيه أنها نزلت بعد سفر أبي بكر رضي الله عنه، وإنما قيدت أنا بتكامل نزولها لأنه ورد أن الذي في النقض فبعث به علياً رضي الله عنه إنما هو عشر آيات أو سبع، وفي بعض الروايات التصريح بنزولها قبل سفر أبي بكر رضي الله عنه، ففي زيادات مسند الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال: «لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا أبا بكر رضي الله عنه فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أدرك أبا بكر، فحيث ما لحقته(8/365)
فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم - فذكره، وفيه أن أبا بكر رضي الله عنه قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدما رجع: أنزل فيّ شيء؟ قال: لا، ولكن جبريل عليه السلام جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» ونقل البغوي عن ابن إسحاق أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث مع أبي بكر بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده علياً على ناقته الغضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة. وفيه أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! أنزل في شأني شيء؟ قال: «لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا الأمر إلا رجل من أهلي» فتبين أن الأول من إطلاق الكل على الجزء لا سيما وهو الذي فيه البراءة، وما سميت السورة براءة إلا به؛ وأن المعنى: لا يؤدي عني في العهود، لا مطلقاً، فقد أرسل رسلاً للأداء عنه من غير أهل بيته؛ وقال المهدوي في تفسير {فسيحوا في الأرض} : وروي أن هذه الآية نزلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد خروج أبي بكر بالناس ليحج بهم سنة تسع، فبعث بها النبي صلى الله صلى عليه وسلم علياً رضي الله عنه ليتلوها على الناس بالموضع الذي يجتمع فيه الفريقان وهو منى، وأمره أن ينادي: أن لا يحج بعد(8/366)
العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فنادى عليّ وأعانه أبو هريرة وغيره رضي الله عنهم، وكان على مكة حينئذ عتاب بن أسيد رضي الله عنه، استخلفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح وهو عام ثمان، وكان حج عتاب وأبي بكر سنة تسع في ذي العقدة - كذا قال وسيأتي بيان بطلانه، وتقدم خلافه عن ابن إسحاق في دلائل النبوة؛ وقال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره: حدثنا قتيبة عن الحجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: أقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين فرغ من تبوك فأراد الحج فقال: إنه يحضر البيت المشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما، فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها كلها وبالموسم كله، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر - يعني اشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، فآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا، فآمن الناس أجمعون.
وفي سيرة ابن إسحاق: حدثنا يونس - يعني ابن بكير - عن أسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي {فسيحوا في الأرض(8/367)
أربعة أشهر} قال: عشرين من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر ثم لا أمان لأحد ولا عهد إلى السيف أو الإسلام؛ وقال ابن هشام: حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجل الناس أربعة اشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم؛ وللترمذي عن زيد بن أثيع قال: سألت علياً رضي الله عنه: بأيّ شيء بعثت؟ قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر. ونقل ابن سيد الناس عن ابن عائذ انه لما ضرب للمشركين هذا الأجل قالوا: بل الآن لا نبتغي تلك المدة، نبرأ منك ومن ابن عمك إلا بالضرب والطعن؛ فحج الناس عامهم ذلك، فلما رجعوا رغب الله المشركين فدخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً. وصدق الله ورسوله فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان. وقد وردت نصوص وظواهر في كثير من سورة براءة أنه نزل قبل الرجوع عن تبوك أو قبل الاعتذار، فمن النصوص قوله تعالى {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك(8/368)
ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم} وقوله {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً} - الآيات، {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم} إلى أن قال:
{سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} [التوبة: 94] وأما الظواهر فإن الواقدي قال في سيرته فأنزل من القرآن في غزوة تيوك، ثم ذكر اكثر سورة براءة وقال هو وغيره من أصحاب السير: «وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تبوك منهم وديعة بن ثابت - فذكر القصة التي فيها أن بعضهم قال ترهيباً للمؤمنين: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، وقال كل منهم شيئاً إلى أن قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا - إلى أن قال: إن بعضهم قال: إنما كنا نخوض ونلعب! فأنزل الله فيه {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب - إلى قوله - بأنهم كانوا مجرمين} ثم قال: وجاء الجلاس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحلف ما قال من ذلك شيئاً، وكان قد قال: إن كان محمد صادقاً فنحن شر من الحمير، فأنزل الله عز وجل فيه {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر} - إلى آخرها، فاعترف الجلاس حينئذ(8/369)
وتاب وحسنت توبته» ، وذكر مسجد الضرار وأن أهله كانوا سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متجهز إلى تبوك أن يصلي لهم فيه فاعتذر إليهم بشغله بالسفر ووعدهم أن يصلي فيه إذا رجع، فلما نزل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذي أوان - قال ابن هشام: بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار - أتاه خبره وخبر أهله من السماء، فدعا اثنين من أصحابه فأمرهما به فأحرقاه، وتفرق أهله ونزل فيه من القرآن ما نزل {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً} - إلى آخر القصة؛ قال الواقدي: وكان عاصم ابن عدي يقول: كنا نتجهز إلى تبوك مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيت عبد الله بن نبتل وثعلبة بن حاطب قائمين على المسجد الضرار - إلى أن قال: فوالله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه وذم أهله {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً} [التوبة: 107]- إلى آخرها، ومن ذلك تسميتها بالفاضحة، فلولا نزولها قبل معرفة أخبارهم لم تكن فاضحة، وهي في الظاهر للمعاهدين وفي الباطن مشيرة إلى أهل الردة وأن لا يقبل منهم إيمان ما لم يجمعوا بين الصلاة والزكاة كما فهم أبو بكر رضي الله عنه، وأقيمت على ذلك قرائن منها تكرير الجمع بين الصلاة والزكاة في سياق الإيمان تكريراً لم يكن في غيرها من السور، فهي من أعلام النبوة؛(8/370)
وروى أبو محمد إسحاق بن إبراهيم القاضي البستي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهماً: عشر منها في براءة، وعشر في الأحزاب، وعشر في المؤمنين وسأل سائل.
ولما أعلمهم سبحانه بأنه رد إليهم عهدهم، وكانوا مختلطين مع أهل الإسلام، جعل لهم مخلصاً إن آثروا البقاء على الشرك مع إعلامهم بأنه لا خلاص لهم لأنهم في قبضته، فقال مخاطباً لهم ولكل مشرك مسبباً عن البراءة: {فسيحوا} والسياحة: الاتساع في السير والبعد عن المدن والعمارة مع الإقلال من الطعام، والشراب، ولذلك يقال للصائم: سائح: والمراد هنا مطلق السير.
ولما كانت السياحة تطلق على غيره، حقق المعنى بقوله: {في الأرض} أي في أيّ جهة شئتم {أربعة أشهر} أي من أيام الحج، فيكون آخرها عاشر شهر ربيع الآخر، تأمنون فيها أمناً لا نعرض لكم بسوء، بل تذهبون فيها حيث شئتم، أو ترمون حصونكم وتهيئون سلاحكم وتلمون شعثكم لا نغدركم، لأن ديننا مبني على المحاسن، ولولا أن الأمر يتعلق بنفوسنا ما نبذنا عهدكم ولا نقضنا عقدكم، ولكن الخطر في النفس وقد ظهرت منكم أمارات الغدر ولوائح الشر «وعن أيّ نفس بعد نفسي أقاتل» فإذا نقضت الأربعة الشهر فتهيؤوا لقتالنا وتدرعوا لنزالنا.
ولما كان الإسلام قد ظهر بعد أن كان خفياً، وقوي بعد أن كان(8/371)
ضعيفاً، افتتح وعظهم بالكلمة التي تقال أولاً لمن يراد تقريع سمعه وإيقاظ قلبه وتنبيهه على أن ما بعدها أمر مهم ينبغي مزيد الاعتناء به فقال: {واعلموا أنكم} أي أيها الكفرة وإن كثرتم {غير معجزي الله} لأن علمه محيط بكل شيء فهو قادر على كل ممكن {وأن الله} أي لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام {مخزي الكافرين*} أي كلهم منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة لأن قوله قد سبق بذلك، ولا يبدل القول لديه، والإخزاء: الإذلال مع إظهار الفضيحة والعار -. وأظهر الوصف موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم به؛ ولعل الالتفات إلى الخطاب إشارة إلى أن من ترك أمر الله حدباً على قريب أو عشير فهو منهم، وقد برئت منه الذمة، فلينج بنفسه ولا نجاء له، أو يكون لا ستعطاف الكفار تلذيذ الخطاب وترهيبهم بزواجر العقاب.(8/372)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
ولما أنزل البراءة، أمر بالإعلام بها في المجمع الأعظم ليقطع الحجج، فقال عاطفاً ظهرة الجملة إلى مضمونها: الإخبار بوجوب الإعلام بما ثبت بالجملة الأولى المعطوفة عليها من البراءة: {وأذان} أي وهذا إعلام وإعلان واقع وواصل {من الله} أي المحيط بجميع صفات العظمة {ورسوله} أي الذي عظمته من عظمته، فلا يوجهه إلى شيء إلا أعلاه عليه؛ ولما كان المقصود الإبلاغ الذي هو وظيفة الرسول، عداه بحرف الانتهاء فقال: {إلى الناس} أي كلهم من أهل البراءة(8/372)
وغيرهم {يوم الحج الأكبر} قيده لأن العمرة تسمى الحج الأصغر.
ولما كان كأنه قيل: ماهذا الإعلام؟ قال مفسراً له مصرحاً بما هو المقصود لئلا يقع فيه نوع لبس حاذفاً الصلة إعلاماً بأن هذا مستأنف على تقدير سؤال سائل، لا معمول لأذان: {أن الله} أي الذي له الغنى المطلق والقوة الباهرة {بريء من المشركين*} أي الذين لا عهد لهم خاص فلا مانع من قتالهم، قيل: والذين وقعت البراءة منهم صنفان: أحدهما كانت مدته دون أربعة أشهر فرفع إليها، والآخر مدته بغير حد فقصر عليها، ومن لم يكن له عهد فهو أولى، ومن كان عهده محدوداً بأكثر من أربعة أشهر ولم يحدث شراً أمر بإتمام عهده إلى مدته {ورسوله} أي بريء منهم، فهو موفوع عطفاً على المنوي في «بريء» أو على محل {أن} المكسورة واسمها عند من كسرها، وقرىء بالنصب عطفاً على اسم {أن} أو لأن الواو بمعنى مع، وبالجر على الجوار، وقيل: على القسم - قال في الكشاف، قال: ويحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال: إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى عمر رضي الله عنه فحكى الأعرابي قراءته فعندما أمر عمر رضي الله عنه بتعلم العربية، وروى الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في مقدمة كتاب الوقف والابتداء بسنده عن ابن أبي ملكية قال: قدم أعرابي في زمان عمر رضي الله عنه فقال: من يقرئني(8/373)
مما أنزل الله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فأقرأه رجل براءة فقال: {أن الله بريء من المشركين ورسوله} بالجر، فقال: أوقد بريء الله من رسوله؟ إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابي فدعاه - يعني فسأله فأخبره - فقال عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي! قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال {أن الله بريء من المشركين ورسولُه} فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يقرىء القرآن إلا عالم باللغة.
وأمر أبا الأسود فوضع النحو، ونحو ذلك في الاهتمام بشأن العربية ما حكاه الشريف محمد بن أسعد الجواني النسابة في كتابه في الأنساب في ترجمة أبي الأسود الدؤلي بسنده إليه أنه قال: دخلت على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فرأيته مطرقاً مفكراً فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني سمعت ببلدكم هذا لحناً، فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية، فقلت له: إن فعلت هذا بقيت فينا هذه اللغة، ثم أتيته بعد أيام فألقى إليّ صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، الفعل ما أنبأ عن حركة(8/374)
المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل: ثم قال: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر، قال أبو الأسود الدؤلي: فجمعت أشياء فعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت منها إن وأن وليت ولعل وكأن، ولم أذكر لكن، فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها فيها، فقال بل هي منها فزدها فيها، وقال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي في طبقات النحويين: وقال أبو العباس محمد بن يزيد: سئل أبو الأسود الدؤلي عمن فتح له الطريق إلى الوضع في النحو وأرشده إليه، فقال: تلقنته من علي بن أبي طالب، وفي حديث آخر: ألقى إليّ أصولاً احتذيت عليها؛ وفي مختصر طباتهم للحافظ محمد بن عمران المرزباني: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد رسم لأبي الأسود الدؤلي حروفاً يعلمها الناس لما فسدت ألسنتهم فكان لا يحب أن يظهر ذلك ضناً به بعد علي رضي الله عنه، فلما كان زياد وجه إليه أن عمل شيئاً تكون فيه إماماً وينتفع به الناس فقد كنت شرعت فيه لتصلح ألسنة الناس، فدافع بذلك حتى مر يوماً بكلإ البصرة وإذا قارئ يقرأ {أن الله بريء من المشركين ورسوله} وحتى سمع رجلاً قال: سقطت عصاتي، فقال: لا يحل لي بعد هذا أن أترك الناس! فجاء إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به الأمير(8/375)
فليبتغ لي كاتباً حصيفاً ذكياً يعقل ما أقول، فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه، فأتي بآخر من ثقيف؛ وقال ابن الأنباري في كتاب الوقف: حدثني أبي قال: حدثنا أبو عكرمه قال: قال العتبي: كتب معاوية إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه، فلما قدم عليه كلمه فوجده يلحن، فرده إلى زياد وكتب إليه كتاباً يلومه فيه ويقول: أمثل عبيد الله يضيع؟ فبعث زياد إلى أبي الأسود فقال: يا أبا الأسود! إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم ويعربون به كتاب الله، فأبى ذلك أبو الأسود وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً فقال له: اقعد في طريق أبي الأسود، فإذا مر بك فاقرأ شيئاً من القرآن وتعمد اللحن فيه، ففعل ذلك.
فلما مر به أبو الأسود رفع الرجل صوته يقرأ {أن الله بريء من المشركين ورسولِه} فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم رجع من فوره إلى زياد فقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليّ ثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغاً يخالف(8/376)
لون المداد، فإذا فتحت شفتيّ فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك - انتهى. ويوم الحج المذكور هنا للجنس، أي في جميع أيام الحج - قاله سفيان الثوري - كيوم صفين والجمل وبعاث يراد به الحين والزمان الذي كان فيه ذلك، ولذلك نادى علي رضى الله عنه بنفسه ومن ندبه لذلك في جميع تلك الأيام، وقال أبو حيان: الظاهر أنه يوم واحد فقال عمر رضي الله عنه وجماعة: هو يوم عرفة، وروي مرفوعاً الى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال أبو موسى رضي الله عنه وجماعة: هو يوم النحر، وقيل: أيام الحج كلها - قاله سفيان بن عيينة قال ابن عطية: والذي تظاهرت به الأحاديث أن علياً رضي الله عنه أذن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر رضي الله عنه، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع(8/377)
فتتبعهم بالأذان بها أيضاً يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره رضي الله عنهم ويتبعوا ايضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره؛ وبهذا يترجح قول سفيان - انتهى. وروى عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه أن يوم النحر، وقال في تفسيره أيضاً: أخبرنا معمر عن الحسن قال: إنما سمي الحج الأكبر لأنه حج أبو بكر رضي الله عنه الحجة التي حجها، واجتمع فيها المسلمون والمشركون، ووافق أيضاً ذلك عيد اليهود والنصارى -.
ولما أعلم سبحانه بالبراءة عنها، سبب عنها مرغباً مرهباً قوله التفاتاً إلى الخطاب: {فإن تبتم} أي عن الكفر والغدر {فهو} أي ذلك الأمر العظيم وهو المتاب {خير لكم} أي لأنكم تفوزون في الوفاء بالأمان في الدنيا، وفي الإسلام بالسلامة في الدارين.
ولما كانت التوبة محبوبة بالطبع لما لها من النفع قال: {وإن توليتم} أي كلفتم أنفسكم خلاف ما يشتهي من التوبة موافقة للفطرة الأولى، وأصررتهم على الكفر والغدر اتباعاً للهوى المكتسب من خباثة الجبلة ورداءة الأخلاط التي قعدت بالروح عن أوجها الأول إلى الحضيض الأسفل {فاعلموا} أي علماً لا شبهة فيه {أنكم غير معجزي الله}(8/378)
أي لأن له صفات الكمال من الجلال والجمال، والالتفات هنا مثله في {فسيحوا} والإشارة به إلى ما ذكر في ذلك.
ولما واجههم بالتهديد، أعرض عنهم وجه الخطاب تحقيراً لهم مخاطباً لأعلى خلقه مبشراً له في أسلوب التهكم بهم، فقال عاطفاً على ما تقديره: فبشر الغادرين بالخدلان، أو فبشر التائبين بنعيم مقيم: {وبشر الذين كفروا} أي أوقعوا هذا الوصف {بعذاب أليم*} أي في الدنيا والآخرة أو فيهما.
ولما أعلمهم بالبراءة وبالوقت الذي يؤذن بها فيه، وكان معنى البراءة منهم أنه لا عهد لهم، استثنى بعض المعاهدين فقال: {إلا الذين عاهدتم} أي أوقعتم بينكم وبينهم عهداً {من المشركين ثم} أي بعد طول المدة اتصفوا بأنهم {لم ينقصوكم شيئاً} أي من الأمارات الدالة على الوفاء في أنفسهم كما نقض بنو الديل من بني بكر في قتالهم لخزاعة حلفاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ولم يظاهروا} أي يعاونوا معاونة تظهر {عليكم أحداً} أي من أعدائكم كما ظاهرت قريش حلفاءهم من بني الدليل على حلفائكم من خزاعة {فأتموا} واشار إلى بعدهم عن الخير بحرف الغاية فقال: {إليهم عهدهم إلى مدتهم} أي وإن طالت؛ قال البغوي: وهم بنو ضمرة(8/379)
حي من كنانة، وكان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر، وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا؛ وقال النحاس: ويقال: إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة؛ وقال أبو محمد البستي: حدثنا قتيبة قال: ثنا الحجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: كان بين بني مدلج وخزاعة عهد، وهم الذين قال الله {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} .
ولما كانت محافظتهم على عهدهم من أفراد التقوى، وكان الأمر بالإحسان إلى شخص من أفعال المحب، قال تعالى معللاً: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {يحب المتقين*} أي يفعل بهم وبكم افعال المحب، فهو قول حاث للكل على التقوى، وكل ينزله على ما يفهم، فهو من الإعجاز الباهر.
ولما قرر أمر البراءة إثباتاً ونفياً، أمر بما يصنع بعد ما ضربه لهم من الأجل فقال: {فإذا} أي فتسبب عن ذلك أنه إذا {انسلخ} أي انقضى وانجرد وخرج ومضى {الأشهر الحرم} أي التي حرمت عليكم فيها قتالهم وضربتها أجلاً لسياحتهم، والتعريف فيها مثله {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} [المزمل: 15-16] {فاقتلوا المشركين} أي الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحساناً وكرماً؛ قال البغوي: قال الحسن بن الفضل: هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على(8/380)
أذى الأعداء - انتهى.
ومعنى {حيث وجدتموهم} أي في حل أو حرم في شهر حرام أو غيره {وخذوهم} أي بالأسر {واحصروهم} أي بالحبس عن إتيان المسجد والتصرف في بلاد الإسلام وكل مقصد {واقعدوا لهم} أي لأجلهم خاصة فإن ذلك من أفضل العبادات {كل مرصد} أي ارصدوهم وخذوهم بكل طريق يمكن ولو على غرة أو اغتيالاً من غير دعوة، وانتصابه على الظرف لأن معنى اقعدوا لهم: ارصدوهم، ومتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه جاز أن يصل إليه بغير واسطة «في» فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه فكذلك إلى الظرف - ذكره أبو حيان، والتعبير بالقعود للارشاد إلى التأني، وفي الترصد والاستقرار والتمكن وإيصال الفعل إلى الظرف إشارة إلى أن يشغلوا في الترصد كل جزء من أجزاء كل مرصد إن قدروا على ذلك بخلاف ما لو عبر ب «في» فإنه إنما يدل على شغل كل مرصد الصادق بالكون في موضع واحد منه أيّ موضع كان.
ولما أمر تعالى بالتضييق عليهم، بين ما يوجب الكف عنهم فقال: {فإن تابوا} أي عن الكفر {وأقاموا} أي وصدقوا دعواهم التوبة بالبينه العادلة بأن أقاموا {الصلاة وآتوا الزكاة} أي فوصلوا(8/381)
ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق خضوعاً لله تعالى وتركاً للفساد ومباشرة للصلاح على الوجه الذي أمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا وجد هذان الشاهدان العدلان {فخلوا} أي بسبب ذلك {سبيلهم} أي بأن لا تعرضوا لشيء مما تقدم لأن الله يقبل ذلك منهم ويغفر لهم ما سلف {إن} أي لأن {الله} أي الذي له الجلال والإكرام {غفور رحيم*} أي بليغ المحو للذنوب التي تاب صاحبها عنها والاتباع له بالإكرام.(8/382)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
ولما سد عليهم طريق مخالطتهم ما لم يتصفوا بالتوبة المدلول عليها بالشهيدين المذكورين سداً مطلقاً، وفتحه عند الاتصاف بها فتحاً مطلقاً، عطف على ذلك طريقاً آخر وسطاً مقيداً فقال: {وإن أحد من المشركين} أي الذين أمرناكم بقتالهم {استجارك} أي طلب أن تعامله في الإكرام معاملة الجار بعد انقضاء مدة السياحة {فأجره} أي فآمنه ودافع عنه من يقصده بسوء {حتى يسمع كلام الله} أي الملك الأعظم بسماع التلاوة الدالة عليه، فيعلم بذلك ما يدعو إليه من المحاسن ويتحقق أنه ليس كلام الخلق. ولما ذكر إجارته، وكان له بعدها توبة وإصرار. وكان حال التائب قد ذكر، بين ما يفعل به إن أصر فقال: {ثم أبلغه} أي إن أراد الانصراف ولم يسلم {مأمنه} أي الموضع الذي يأمن فيه ثم قاتله بعد بلوغه المأمن إن شئت من غير(8/382)
غدر ولا خيانه؛ قال الحسن: هي محكمة إلى يوم القيامة؛ ثم علل ذلك بما يبين غدرهم بقوله: {ذلك بأنهم} أي الأمر بالإجارة للغرض المذكور بسبب أنهم {قوم لا يعلمون*} أي لا علم لهم لأنه لا عهد لهم بنبوة ولا رسالة ولا كتاب، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم.
ولما كان الأمر بالنبذ مظنة لأن يعجب منه، عجب فقال: فمن يتعجب منه؟ وأنكر عليه فقال: {كيف يكون للمشركين} أي أهل العراقة في الشرك الذين توجب عراقتهم فيه ومحبتهم لظهوره نكثَ العهد الذي لا أقبح منه عند العرب ولا أشنع {عهد عند الله} أي المستجمع لصفات الكمال، فهو لا يحب النقض من أوليائه فكيف به من أعدائه {وعند رسوله} أي الذي هو أكمل الخلق وأوفاهم وأحفظهم للعهود وأرعاهم فهم أضداده فأعمالهم أضداد أعماله، وقد بدا منهم الغدر.
ولما كان استفهام الإنكار في معنى النفي، صح الاستثناء منه، فكأنه قيل: لا يكون للمشركين عهد {إلا الذين عاهدتم} أي منهم كما تقدم {عند المسجد الحرام} أي الحرم يوم الحديبية، وهذا مما يدل على أن الاستثناء المتقدم من {الذين} في قوله {براءة من الله(8/383)
ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} ؛ قال البغوي؛ قال السدي والكلبي وابن اسحاق: هم من قبائل بكر: بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية، فلم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض، ولما استثنى، بين حكم المستثني فقال: {فما استقاموا لكم} أي ركبوا الطريق الأقوم في الوفاء بعهدهم {فاستقيموا لهم} والقول في {إن الله} أي المحيط بالجلال والجمال {يحب المتقين*} كما سبق.
ولما أنكر سبحانه ان يكون للمشركين غير المستثنين عهد، بين السبب الموجب للانكار مكرراً أداة الإنكار تأكيداً للمعنى فقال: {كيف} أي يكون لهم عهد ثابت {وإن} أي والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة فهم إن {يظهروا عليكم} أي إن يعل أمر لهم على أمركم بأن يظفروا بكم بعد العهد والميثاق {لا يرقبوا} أي لا ينظروا ويرعوا {فيكم} أي في أذاكم بكل جليل وحقير {إلاًّ} أي قرابة محققة {ولا ذمة} أي عهداً، يعني أن الأمر المبيح للنبذ خوف الخيانة، وعلام الغيوب يخبركم أنهم في غاية الخيانة لكم، والإل هذا: القرابة - وهو قول ابن عباس، والمادة تدور على الألة وهي حربة في نصلها(8/384)
عرض، ويلزمها الصفاء والرقة والبريق، ويشبه به الإسراع في العدو، والثبات في نفسها، ومنه القرابة والعهد والتغير في وصفها، ومنه تغير رائحة الإناء وفساد الأسنان والصوت، ومنه الأنين والجؤار في الدعاء مع البكاء وخرير الماء والطعن والقهر-، ومنه: إن هذا - أي كلام مسيلمة - ما يخرخ من إل، أي من ربوبية، وفي إل الله، أي قدرته وإلهيته.
ولما كان ذلك مظنة لأن يقال: قد أكدوا لنا الأيمان وأوثقوا العهود، ولم يدعوا باباً من أبواب الاستعطاف، قال معللاً لما مضى مجيباً لمن استبعده: {يرضونكم} وعبر بأقصى ما يمكن الكلام به من القلوب تحقيقاً لأنهم ليس في قلوبهم شيء منه فقال: {بأفواههم} أي بذلك التأكيد، وصرح بالمقصود بقوله: {وتأبى قلوبهم} أي العمل بما أبدته ألسنتهم، وقليل منهم من يحمله الخوف ونحوه على الثبات أو يرجع عن الفسق ويؤمن {وأكثرهم فاسقون*} أي راسخو الأقدام في الفسق خارجون - لمخالفة الفعل للقول - عما تريدونه، وإذا نقض الأكثر اضطر الأقل إلى موافقتهم.
ولما دام ما ترى من كشف سرائرهم، شرع سبحانه يقيم لهم الدليل على فسقهم وخيانتهم بتذكيرهم ما بدا من بعضهم من النقض بعد أن أثبت فيما مضى أنهم شرع واحد بعضهم أولياء بعض، وفيما يأتي أنهم بعضهم من بعض، فقال معبراً بما يفيد أنهم تمكنوا من ضد(8/385)
الإيمان تمكناً صار به كأنه في حوزتهم: {اشتروا} أي لجوا في أهويتهم بعد قيام الدليل الذي لا يشكون فيه فأخذوا {بآيات الله} أي الذي لا شيء مثله في جلال ولا جمال على ما لها من العظم في أنفسها وبإضافتها إليه {ثمناً قليلاً} من أعراض الدنيا فرضوا بها مع مصاحبة الكفر، وذلك أن أبا سفيان أطعمهم أكلة فنقضوا بها عهودهم {فصدوا} أي فسبب لهم ذلك وأداهم إلى أن صدوا {عن سبيله} أي من يريد السير عليه ومنعوا من الدخول في الدين أنفسهم ومن قدروا على منعه.
ولما دل على ما أخبر به من فساد قلوبهم، استأنف بيان ما استحقوه من عظيم الذم بقوله معجباً منهم: {إنهم ساء ما} وبين عراقتهم في القبائح وأنها في جبلتهم بذكر الكون فقال: {كانوا يعملون*} أي يجددون عمله في كل وقت، وكأنه سبحانه يشير بهذا إلى ما فعلت عضل والقارة بعاصم بن ثابت وخبيب بن عدي، ذكر ابن إسحاق في السيرة عن عاصم بن عمر رضي الله عنه - والبخاري في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه -، كل يزيد على صاحبه وقد جمعت بين حديثيهما أنه قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرؤوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام(8/386)
فبعث معهم نفراً ستة - وقال البخاري: عشرة - وأمر عليهم عاصم بن ثابت فخرج معهم، حتى إذا كانوا بالرجيع ماء لهذيل غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلاً، فلما أتوهم أخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكن عهد الله وميثاقه أن لا نقتل منكم أحداً، فأما عاصم فلم يقبل وقاتل حتى قتل هو ناس من أصحابه، ونزل منهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال رجل منهم: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء أسوة - يريد القتلى، فجرروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فقتلوه؛ فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة فقتلوهما.
وقصة العرنيين الذين قدموا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأظهروا الإسلام ثم خرجوا إلى لقاح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقتلوا الراعي واستاقوا اللقاح بعد ما رأوا من الآيات، فبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آثارهم فقتلهم؛ وفي تاريخ ابن الفرات عن القتبي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث عبد الله بن عوسجة البجلي إلى بني حارثة بن عمرو بن قرط بكتاب فرقعوا دلوهم بالكتاب فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما لهم! أذهب الله عقولهم، فهم أهل رعدة وكلام مختلط؛ ولما خرج أهل مكة بعد أن عاملهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغاية(8/387)
الإحسان أعتقهم وعفا عنهم بعد تلك الحروب والأذى في المبالغة في النكايات التي لا يعفو عن مثلها إلا الأنبياء، خرجوا معه إلى حنين غير مريدين لنصره ولا محبين لعلو أمره، بل هم الذين انهزموا بالناس - كما نقله البغوي عن قتادة؛ وقال أبو حيان ويقال: إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين وبلغ فلهم مكة -انتهى. وقال الواقدي: وخرج رجال مكة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يتغادر منهم أحد على غير دين ركباناً ومشاة، ينظرون لمن تكون الدائرة فيصيبون من الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة بمحمد وأصحابه، وقال هو وغيره: فلما كانت الهزيمة حيث كانت والدائرة على المسلمين تكلم قوم بما في أنفسهم من الكفر والضغن والغش، وذكروا أنه عزم ناس منهم على قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن الله منعه منهم.
هذا بعض ما غدر فيه كفار العرب، وأما اليهود فكلهم نقض: بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة ثم أهل خيبر، حتى كان ذلك سبب إخراجهم منها وإجلائهم إلى بلاد الشام، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أنهم قد تبين لهم مثل الصبح جميعاً ما أخبرهم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما لم يرجعوا لمجرد أهوائهم كانوا قد اشتروا بذلك ثمناً قليلاً، وهو(8/388)
التمتع بما هم فيه مدة حياتهم على ما صاروا إليه من سفول الكلمة وإدبار الأمر، فمن قاده هواه إلى ترك السعادة العظمى لهذا العرض الزائل اليسير كان غير مأمون على شيء لأنه رهينة داعي الهوى وأمر الشيطان، لأنه أول ما بدأ بنفسه فغدر بها وغشها غير ناظر في مصلحة ولا مفكر في عاقبة.(8/389)
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
ولما أخبر تعالى بعراقتهم في الفسق، دل عليه بأن خيانتهم ليست خاصة بالمخاطبين، بل عامة لكل من اتصف بصفتهم من الإيمان، فمدار خيانتهم على الوصف، فقال: {لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ} أي قرابة وأصلاً جيداً ثابتاً {ولا ذمة} أي عهداً أكيداً {وأولئك} أي البعداء من كل خير {هم} أي خاصة لتناهي عدوانهم {المعتدون*} أي عادتهم المبالغة في حمل أنفسهم على أن يعدوا الحدود لعدم ما يردهم عن ذلك من وازع إلهي ورادع شرعي كما فعل عامر بن الطفيل بأهل بئر معونة مع أنهم في جوار عمه وكان من خبرهم أن عمه أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار. فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في سبعين رجلاً من أصحابه(8/389)
من خيار المسلمين، فما نزلوا بئر معونه بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عامر بن الطفيل فلم ينظر في كتابه وعدا عليه فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا وقالوا: لن نخفر أبا براء، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم: عصية ورعلاً وذكوان فقتلوهم فلم يفلت منهم إلا ثلاثة نفر عمرو بن أمية الضمري أحدهم، فعظم ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا على قتلتهم شهراً؛ قال البغوي: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أهل الطائف أمدوهم - يعني قريشاً - بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا الذي أحكمه تعالى من نبذ العهد نظر للدين، لأنه نظر لجميع أهله الذين لا يوجد إلا بهم.
ولما بين ما أوجب بعدهم منهم ومعاداتهم لهم، بين ما يصيرون به أهلاً فقال {فإن تابوا} أي بالإيمان بسبب ما أبديتم لهم من الغلظة {وأقاموا} أي أيدوا ذلك بأن أقاموا {الصلاة} أي بجميع حدودها {وآتوا الزكاة} أي كما حده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فإخوانكم} أي هم، وبين أنها ليست أخوة النسب فقال: {في الدين} لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فلا تعرضوا لهم بما يكرهونه.
ولما كان كأنه قيل بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصل: قد فصلنا لكم(8/390)
أمرهم في هذه الآيات تفصيلاً، عطف عليه قوله: {ونفصل} أي في كل أمر يحتاجون جميع {الآيات} وعظم هذه الآيات وحثم على تدبرها بقوله: {لقوم يعلمون*} أي صار العلم لهم صفة فلهم ملكة يتصرفون بها في أصوله وفروعه، لا يغترون بمجرد كلام من شأنه الرداءة والمخالفة بين القول والعمل، والاعتراض بهذا بين هذه الجمل المتلاحمة إشارة إلى عظم الأمر الذي نبه عليه وتحريض على إنعام النظر فيه ليعلم أن مدخوله جليل الأمر عظيم القدر لئلا يظن أنه تكرار.
ولما بين السبب الموجب لمجازاتهم بجنس عملهم، وهو البراءة منهم وما يتبع ذلك إلى أن ختم بتقدير توبتهم، رجع إلى قسيم قوله {فما استقاموا لكم} فقال: {وإن نكثوا أيمانهم} أي التي حلفوها لكم؛ ولما كان النقض ضاراً وإن قصر زمنه، أتى بالجار فقال: {من بعد عهدهم} أي الذي عقدوه {وطعنوا} أي أوقعوا الطعن {في دينكم} أي بقول أو فعل.
ولما كان هذا الفعل لا يستقل به في الأغلب إلا الرؤساء، أشار إلى ذلك بقوله: {فقاتلوا} ووضع موضع ضميرهم تحريضاً على قتالهم وإشارة إلى أنهم ما نكثوا وأقدموا على هجنة الكذب ولم يستهجنوا الخروج عن عادات الكرام إلا وقد رسخوا في الكفر فقال: {أئمة الكفر} ثم أشار - بقوله معللاً لجواز المقاتله: {إنهم لا أيمان لهم} إلى أن(8/391)
ذلك ولو فعله الأتباع ولم يكفهم الرؤساء فهو عن تمال منهم فابدؤوا بالرؤوس فاقطعوها تنقطع الأذناب، وقراءة ابن عامر بالكسر معناها: لا أمان لهم لأنهم قد نقضوا العهد الموجب له بما وقع منهم، ومن طعن من أهل الذمة في الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله، فإن العهد مأخوذ عليه أن لا يطعن، ثم علل المقاتله بقوله: {لعلهم ينتهون*} أي اجعلوا قصدكم لقتالهم أن يكون حالهم حال من ينتهي عن غيه بما يرى منكم من صادق الجد بماضي الحد، روى البخاري في التفسير عن حذيفة رضي الله عنه قال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة ولا من المنافقين إلا أربعة احدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده.
ولما نفى أيمانهم بنفي إيمانهم، شرع يقيم الدليل على ذلك بأمور ارتكبوها، كل منها بسبب باعث على الإقدام عليهم، ويحث على قتالهم في صورة تعجيب ممن يتواني فيه فقال: {ألا} وهو حرف عرض، ومعناه هنا الحض لدخول همزة الإنكار على النافي فنفته فصار مدخولها مثبتاً على سبيل الحث عليه فهو ابلغ مما لو أثبت بغير هذا الأسلوب {تقاتلون قوماً} أي وإن كانوا ذوي منعة عظيمة {نكثوا أيمانهم} أي في قصة عاصم وأصحابه والمنذر وأصحابه والإعانة على خزاعة وغير ذلك،(8/392)
فكان النكث لهم عادة وخلقاً، وهذا يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم ليكون ذلك زاجراً عن النقض، وكانت قصة خزاعة أنه كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة قتل في الجاهلية، وكانت خزاعة قد دخلت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية لما كان لهم فيه من المحبة من مسلمهم وكافرهم لما بينهم من الحلف - كما تقدم آخر الأنفال، ودخلت بنو بكر في عهد قريش فمرت على ذلك مدة، ثم إن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعه غلام من خزاعة فوقع به فشجه فخرج إلى قومه فأراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم، وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها، فكلمت بنو نفاثة من بني بكر أشراف قريش فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً فأعانوهم بالسلاح والكراع والرجال، فخرج نوفل بن معاوية الديلي وهو يومئذ قائدهم؛ قال ابن إسحاق: وليس كل بني بكر بايعه - وقال الواقدي: واعتزلت بنو مدلج فلم ينقضوا العهد - حتى بيت خزاعة وهم على الوتير ماء لهم، فأصابوا منهم رجلاً وتجاوزوا واقتتلوا وقاتل معهم(8/393)
من قريش من قاتل بالليل مستخفياً متنكرين منتقبين: صفوان بن أمية ومكرز بن حفص بن الأخيف وحويطب بن عبد العزى وعكرمة بن أبي جهل وأجلبوا معهم أرقاءهم، وكانت خزاعة آمنة لمكان العهد والموادعة.
ولما ذكرهم بمطلق نكثهم في حقهم عامة، وذكرهم بما خصوا به سيدهم بل سيد الخلق كلهم فقال: {وهموا بإخراج الرسول} أي من مكة في عمرة القضاء، بل أمروه بالخروج عند انقضاء الثلاثة الأيام وألحو في ذلك وهو وإن كان قاضاهم على ذلك، لكن قد نقل ابن إسحاق وغيره في قصة النداء بسورة براءة أنه كان في القضية والعهد الذي كان بينه وبينهم أن لا يمنع من البيت أحد جاءه زائراً، ولعلهم هموا بإخراجه قبل الثلاثة الأيام لما داخلهم من الحسد عند ما عاينوا من نشاط أصحابه وكثرتهم وحسن حالهم، وذلك غير بعيد من أفعالهم، وإظهارهم التبرؤ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اجترؤوا - وهو أعلى الخلق مقداراً، وأظهرهم هيئة وأنواراً وأطهرهم رسوماً وآثاراً - على الإلحاح عليه في الخروج من بلد آبائه وأجداده الذين هم أحقهم بها ومسقط رأسه وموضع مرباه، ولكن لم أراه مصرحاً به، وهوعندي على ما فيه أولى مما ذكروه من الهم بإخراجه عند الهجرة على ما لا يخفى، أو يكون(8/394)
المراد ما همّ به ابن أبي المنافق ومن تابعه من أصحابه من إخراج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة حيث قال في غزوة المريسيع: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الذل بعد إعطائهم العهود على الإيواء والنصرة والإسلام، وذلك لتذكير المؤمنين بمسارعتهم إلى النقض بعد أن أثبت أنهم في الالتحام في كيد الإسلام كالجسد الواحد، فكأنه يقول: إذا ترك هؤلاء إيمانهم فاولئك أحرى أن ينقضوا أيمانهم، وهو بعث للمؤمنين على التبرؤ من الكافرين منافقين كانوا أو مجاهرين مقاربين أو مباعدين.
ولما ذكرهم بالخيانة عامة وخاصة، أتبعها ما حققها بالقتال فقال: {وهم بدءوكم} أي بتطابق من ضمائرهم وظواهرهم {أول مرة} أي بالقتال والصد في الحديبية بعد إخباركم إياهم بأنكم لم تجيئوا للقتال وأنكم ما جئتم إلا زواراً للبيت الحرام الذي الناس فيه سواء وأنتم أحق به منهم، وذلك أول بالنسبة إلى هذا الثاني مثل قوله {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة} وقال بعض المفسرين: المراد بأول مرة قتالهم خزاعة، وهو واضح لأنه بعد عقد الصلح، وقيل: في بدر بعد ما سلمت عيرهم وقالوا: لا نرجع حتى نستأصل محمداً وأصحابه، وقيل: المراد به مطلق القتال لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءهم بالكتاب المنير ودعاهم بغاية اللين، وتحداهم به عند التكذيب، فعدلوا عن ذلك إلى القتال فهم(8/395)
البادئون البادىء أظلم.
ولما أمرهم بالقتال وكان مكرهاً إلى النفوس على كل حال. شرع يبين الأسباب الحاملة على التواني عن قتالهم، وحصرها في في الخشية والعاطفة، وقسم العاطفة إلى ما سببه القرب في محاسن الأفعال وإلى ما سببه القرب في النسب والصهر، ونقض الكل وبين أنه لا شيء منها يصلح للسببية، فقال بادئاً بالخشية لأنها السبب الأعظم في ترك المصادمة منكراً عليهم موبخاً لهم ليكون أبلغ في الحث على قتالهم منبهاً على أن التواني عنهم مصحح للوصف بالجبن ورقة الدين: {أتخشونهم} أي أتخافون أن يظفرون بكم في القتال بأن يكونوا على باطلهم أشد منكم على حقكم {فالله} أي الذي له مجامع العظمة {أحق} أي منهم {أن تخشوة} أي بأن يكون مخشياً لكم لما تعلمون من قدرته في أخذه لمن خالفه ولو بعد طول الأناة {إن كنتم مؤمنين*} أي فإن من صدق بانه الواحد الذي تفرد بصفات العظمة لم ينظر إلى غير هيبته.
ولما بكت في التواني عنهم، وعدهم بما يزيل خشيتهم منهم، بل يوجب إقدامهم عليهم ورغبتهم فيهم، فقال مصرحاً فيهم، فقال مصرحاً بما تضمنه الاستفهام الإنكاري في {ألا تقاتلون} من الأمر: {قاتلوهم} أي لله لا لغرض غيره {يعذبهم الله} أي الذي أنتم مؤمنون بأنه المتفرد بصفات الجلال(8/396)
والجمال {بأيديكم} أي بأن تقتلوهم وتأسروهم وتهزموهم {ويخزهم} أي بالذل في الدنيا والفضيحة والعذاب في الأخرى.
ولما كان ذلك قولاً لا يقتضي النصر الذي هو علو العاقبة قال: {وينصركم عليهم} أي فترضوا ربكم بذلك لإذلالة من يعاديه بكم؛ ولما كان نكالهم بما ذكر يثمر لبعض المؤمنين سروراً لهم فيه حظ، بين تعالى أنه لا يؤثر في العمل بعد ثباته على أساس الإخلاص فقال: {ويشف} أي بذلك {صدور قوم مؤمنين*} أي راسخين في الإيمان، أسلفوا إليهم مساوىء أوجبت ضغائن وإحناً كخزاعة وغيرهم ممن أعانوا عليه أو أساؤوا إليه.(8/397)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
ولما كان الشفاء قد لا يراد به الكمال، أتبعه تحقيقاً لكماله قوله: {ويذهب غيظ قلوبهم} أي يثبت بها من اللذة ضد ما لقوة منهم من المكروه، وينفي عنها من الألم بفعل من يريد سبحانه من أعدائهم وذل الباقين ما كان قد برح بها، ولقد وفى سبحانه بما وعد به، فكانت الآية ظواهر الدلائل.
ولما كان التقدير: قاتلوهم فإنكم إن قاتلتموهم كان كذا، عطف سبحانه على أصل هذه الجملة قوله: {ويتوب الله} أي الملك الذي له صفات الكمال {على من يشاء} أي منهم فيصيروا إخواناً لكم أولياء، والمعنى قاتلوهم يكن القتال سبباً لهذه الخمسة الأشياء، وأما التوبة فتارة(8/397)
تسبب عنه وتارة عن غيره، ولأجل احتمال تسببها عنه قرىء شاذاً بالنصب على أن الواو للصرف؛ ولما كان ما تضمنه هذا الوعد الصادق يدور على القدرة والعلم، وكان - العلم يستلزم القدرة، فكان التقدير: فالله على كل شيء قدير، عطف عليه قوله {والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة {عليم} أي بكل شيء وبمن يصلح للتوبة ومن لا يصلح وما في قلوبكم من الإقدام والإحجام لو برز إلى الخارج كيف كان يكون {حكيم*} أي أحكم جميع أموره، ولم يعلق الأحكام الشرعية من أفعالكم الكسبية إلا بما تعلق العلم به في حال ظهوره.
ولما كان التقدير - لما أرشد إليه تقاعدهم عن القتال وإدخال «أم» المرشد إلى أن مدخوله وسط الكلام فإن الابتداء له الألف وحدها: وهل حسبتم أنه تعالى لا يعلم ذلك أو لا يقدر على نصركم؟ بنى عليه قوله موبخاً لمن تثاقل عن ذلك بنوع تثاقل: {أم حسبتم} أي لنقص في العقل انه يبني الأمر فيه على غير الحكمة، وذلك هو المراد بقوله: {أن تتركوا} أي قارين على ما أنتم عليه من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن من المنافق {ولما} عبر بها لدلالتها - مع استغراق الزمان الماضي - على أن يتبين ما بعدها متوقع كائن {يعلم الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {الذين جاهدوا منكم} أي علماً ظاهراً تقوم به الحجة عليكم في(8/398)
مجاري عاداتكم على مقتضى عقولكم بأن يقع الجهاد في الواقع بالفعل.
ولما كان المعنى: جاهدوا مخلصين، ترجمه وبسطه بقوله {ولم} أي ولما يعلم الذين لم {يتخذوا} ويجوز أن يكون حالاً، ودل على تراخي الرتب عن مكانته سبحانه بقوله: {من دون الله} أي الذي لا يعدل عنه ويرغب في غيره من له أدنى بصيرة - كما دل عليه الافتعال - لأنه المنفرد بالكمال، وأكد النفي بتكرير {لا} فقال: {ولا رسوله} أي الذي هو خلاصة خلقه {ولا المؤمنين} أي الذين اصطفاهم من عباده {وليجة} أي بطانة تباطنونها وتسكنون إليها فتلج أسراركم إليها وأسرارها إليكم، فإن الوليجة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه، والرجل يكون في قوم وليس منهم وليجة، فوليجة الرجل من يختصه بدخيلة أمره دون الناس، يقال: هو وليجتي وهم وليجتي - للواحد والجمع - نقل ذلك البغوي عن أبي عبيدة، قال ابن هشام وليجة: دخيلاً وجمعها ولائج، يقول: لم يتخذوا دخيلاً من دونه يسرون إليه غير ما يظهرون نحو ما يصنع المنافقون، يظهرون الإيمان للذين(8/399)
آمنوا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم.
والحاصل أنه لا يكون الترك بدون علم الأمرين حاصلين، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، فالمعنى: ولما يكن مجاهدون مخلصون.
ولما كان ظاهر ذلك مظنه أن يتمسك به من لم يرسخ قدمه في المعارف، ختم بقوله: {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {خبير بما تعملون*} أي سواء برز إلى الخارج أو لا.
ولما حذرهم من اتخاذ وليجة من دونه، شرع يبين أن الوليجة التي يتخذها بعضهم لا تصلح للعاطفة بما اتصفت به من محاسن الأعمال مالم توضع تلك المحاسن على الأساس الذي هو الإيمان المبين بدلائلة، فقال سائقاً له مساق جواب قائل قال: إن فيهم من أفعال الخير ما يدعو إلى الكف عنهم من عمارة المسجد الحرام وخدمته فيهم من أفعال الخير ما يدعو إلى الكف عنهم من عمارة المسجد الحرام وخدمته وتعظيمه! {ما كان للمشركين} عبر بالوصف دون الفعل لأن جماعة ممن أشرك أسلم بعد ذلك فصار أهلاً لما نفى عنهم {أن يعمروا مساجد الله} أي وهو المنزه بإحاطته بصفات الكمال؛ قال البغوي: قال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام، ثم قال في توجيه قراءة الجمع: قال الحسن: إنما قال: مساجد الله، لأنه قبلة المساجد كلها - يعني فعامره عامر جميع المساجد، ويجوز أن يراد الجنس، وإذا(8/400)
لم يصلحوا لعمارة الجنس دخل المسجد الحرام لأنه صدر الجنس، وذلك آكد لأنه بطريق الكناية - قال الفراء: وربما ذهب العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول: أخذت في ركوب البراذين، ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار - انتهى.
فتحرر أن المعنى: منعهم من إقامة شعائره بطواف أو زيارة أو غير ذلك لأنهم نجس - كما يأتي {شاهدين على أنفسهم} أي التي هي معدن الأرجاس والأهوية {بالكفر} أي بإقرارهم، لأنه بيت الله وهم يعبدون غير الله وقد نصبوا فيه الأصنام بغير إذنه وادعوا أنها شركاؤه، فإذن عمارتهم تخريب لتنافي عقدهم وفعلهم، قال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: شهادتهم سجودهم للأصنام، وذلك أنهم كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة، كلما طافوا شوطاً سجدوا لأصنامهم.
ولما نفي قبيحُ ما يفعلون حسن ما يعتقدون، أشار إلى بعدهم عن الخير بقوله: {أولئك حبطت أعمالهم} أي من العمارة والحجابة والسقاية وغير ذلك، فسدت ببطلان معانيها لبنائها على غير أساس {وفي النار هم} أي خاصة ومن فعل كفعلهم فهو منهم {خالدون*}(8/401)
أي بجعلهم الكفر مكان الإيمان.
ولما نفى عنهم أهلية العمارة، بين من يصلح لها فقال {إنما يعمر مساجد الله} أي إنما يؤهل لذلك القرب ممن له الأسماء الحسنى والصفات العلى حساً بإصلاح الذات ومعنى بالتعظيم بالقربات من قمها وتنظيفها ورمّ ما تهدم وتنويرها بالمصابيح الحسية وبالمعنوية من الذكر والقراءة - ودرس العلم أجلّ ذلك - وصيانتها مما لم تبن له من أحاديث الدنيا {من آمن بالله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله {واليوم الآخر} أي فكان من أهل المعرفة الذين تصح عبادتهم وتفيدهم، فإنها إنما تفيد في ذلك اليوم، ولم يذكر الإيمان بالرسول لأن هذه البراءة عن لسانه أخذت، فالإيمان بها إيمان به لا محالة، فعدم ذكره أقعد في إيجاب الإيمان به {وأقام الصلاة وآتى الزكاة} أي وأيد دعواه الإيمان بهذين الشاهدين، وذلك أن عمارة المساجد ليست مقصودة لذاتها، بل الدلالة على رسوخ الإيمان، والصلاة أعظم عمارتها، والزكاة هي المعين لعمدتها على عمارتها.
ولما كان ربما فهم من قوله: {آمن} أنه يكفي في الإيمان مجرد الإقرار باللسان، أعلم أنه لابد في ذلك من إيجاد التصديق حقيقة المثمر لخشية الله فلذلك قال: {ولم يخش} أي في الأعمال الدينية {إلا الله}(8/402)
أي ولم يعمل بمقتضى خشية غير الملك الأعظم من كف عما يرضي الله بما فيه سخطه، بل تقدم على ما انحصر رضى الله فيه ولو أن فيه تلفه، وحاصله أنه يقدم خشيته من الله على خشيته من غيره، فهو يرجع إلى قوله {فالله أحق أن تخشوه} ولكن هذا أبلغ لكونه نفى نفس الخشية وإن كان المراد نفي لازمها عادة، وفيه تعرض لهم بأنهم لا يصلحون لخدمته لأنهم يخافون الأصنام ويفعلون معها بعبادتها فعل من يخافها؛ ولما سبب عما مضى نفياً وإثباتاً أن المتصف بهذه الأصاف يكون جديراً بالهداية وحقيقاً بها، قال تعالى: {فعسى أولئك} أي العالو الهمم {أن يكونوا} أي جبلة ورسوخاً {من المهتدين*} فأقامهم - مع ما قدم لهم من الكمال بالمعارف والأفعال - بين الرجاء والخوف مع الإشارة بإفراد الخشية إلى ترجيح الخوف على الرجاء إيذاناً بعلو أمره وعظيم كبره إشارة إلى أنه لا حق لأحد عليه وأنه إن شاء أثاب، وإن أراد حكم - وهو الحكم العدل - بالعقاب، لا يسأل عما يفعل، وكرر الاسم الأعظم لمزيد الترغيب لخطر المقام وعزة المرام، ومادة عسى بجميع تصاريفها تدور على الحركة، وهذه بخصوصها للأطماع، والحاصل أن من اتصف بالأوصاف الأربعة كان صالحاً وخليقاً وجديراً وحقيقاً بان يتحرك طمعه ويمتد أمله إلى أن يكون من جملة أهل الهدى، فكيف توجبون أنتم لمن لم يتصف بواحد منها ما يختص به المهتدون من الموالاة،(8/403)
هكذا كان ظهر لي أولاً في مدار المادة، ثم ظهر لي أن ذلك في أكثر تقاليبها، مع إمكان أن يكون غيره للإزالة، وأن الشامل لها - يائية وواوية بتقاليبها العشر: عسى، عيس، سعى يسع، عسو، عوس، سعو، سوع، وسع، وعس - أنها لما يمكن أن يكون، وهو جدير وخليق بأن يكون، من قولهم: أعس به - أي أخلق.
وبالعسى أن يفعل - أي بالحري، وإنه لمعساة بكذا - أي مخلقه، وبهذا فسرها سيبويه: قال ابن هشام الخضراوي في شرح الإيضاح لأبي علي: وقال سيبويه: إن عسى بمنزلة اخلولق، والمعساء كمكسال: الجارية المراهقة لأنها جديرة بقبول النكاح، ومن ثمَّ اتت للطمع والإشفاق، وقد يزيد الرجاء فيطلق على القرب فيكون مثل كاد، وقد يشتد فيصل إلى اليقين فنستعمله حينئذ في معنى كان، ومنه: عسى الغوير ابؤساً لكن قال الرضى: وأنا لا أعرف عسى في غير كلامه تعالى لليقين. وقد يضعف الرجاء فيصير شكاً، ومنه المعسية كمحسنة للناقة، قد شك أبها لبن أم لا، وعسى النبات - كفرح ودعا:(8/404)
غلظ ويبس، أي صار خليقاً لأن يرعى وأن يقطع، واليد من العمل مثله، أي فصارت جديرة بالصبر على المشاق، والعاسي، والنخل: لأنه جدير بكمال ما يطلب منه من المنافع، وعسي الشيخ كرضي عساء وعسا كدعا يعسو: كبر، أي صار خليقاً بالموت وبأن لا يتعلم ما لم يكن في غريزته، وكذا عسى وعسا الإنسان عن الأدب، أي كبر عنه، والعود يبس وصلب واشتد أي فصار خليقاً لما يراد منه، والليل: اشتدت ظلمته، فصار جديراً بمطابقة اسمه لمسماه وبتغطية الأمور، والعسو: الشمع، كأنه لإزالته ظلمة الليل بنوره إذا أحرق، وعسي بالشيء كفرح: لزمه، أي فصار جديراً بإضافته إليه؛ والعيس - بالفتح: ضراب الفحل ويقال: ماؤه لأنه جدير بالإنتاج، والعيس - بالكسر؛ الإبل البيض يخالط بياضها شقرة، وجمل وظبي أعيس وناقة عيساء، لأنها خليقة بكل محمدة لحسن لونها، وتعيست الإبل صارت بياضاً في سواد كذلك أيضاً وعيساء: امرأة والأنثى من الجراد، لشبهها بلون العيس، وأعيس الزرع إذا لم يكن فيه رطب، لأنه صار حقيقاً بالحصاد، والعوس - بالفتح - والعوسان: الطوفان بالليل، لأنه جدير ببلوغ المقاصد،(8/405)
وبالضم: ضرب من الغنم وهو كبش عوسي، إلحاقاً لها بالعيس لكنها لصغرها اختير لها الضم جبراً لها وتقوية وتفاؤلاً بالكبر، واختير للإبل الكسر تفاؤلاً بسهولة القياد، وبالتحريك: دخول الشدقين عند الضحك وغيره: تشبيهاً بالغنم، فكأنه جدير بأن يترك ما يحدث منه ذلك من الضحك وغيره، والنعت أعوس وعوساء، وعاس على عياله: كد عليهم وكدح، وعياله: قاتهم، وماله عوساً وعياسة: أحسن القيام عليه فعمل بما هو الأليق به في كل ذلك والعواسة - بالضم: الشربة من اللبن وغيره، لأنها جديرة بالري، والأعوس: الصقيل والوصّاف للشيء، لأنه جدير بإظهار الخبء، والعوساء كبراكاء: الحامل من الخنافس، لأنها في تلك الحالة أجدر بما تفهمه مادتها من الكراهة فإنه يقال: خنفس عن القوم: كرههم وعدل عنهم، والخنافس - بالضم: الأسد، لأنه جدير بأن يكره ويعدل عنه؛ والسعي: عدو دون الشد وكل عمل سعي؛ قال في القاموس: سعى كرعى: قصد وعلم ومشى وعدا ونمّ وكسب، وكل ذلك يكون جديراً بدرك حاجته، والسعاية: مباشرة عمل الصدقات التي بها يدرك الإمام أخذ الحقوق، فيكون خليقاً بإغناء الفقراء، وسعت الأمة: بغت، فكانت خليقة بعمل الإماء عند العرب، وساعاها: طلبها للبغاء، وأسعاه: جعله يسعى، والمسعاة: المكرمة(8/406)
والمعلاة في أنواع المجد، لأنها جديرة بأن يسعى لها، واستسعى العبد: كلفه من العمل ما يؤدي به عن نفسه إذا عتق بعضه ليعتق به ما بقي لأنه جدير بذلك، والسعاية - بالكسر: ما كلف من ذلك؛ والسيع: الماء الجاري على وجه الأرض، وقد انساع - إذا جرى، لأن الماء خليق بالجري والحركة، وساع الماء والشراب: اضطرب على وجه الأرض، وسيعاء من الليل وكسيراء: قطع منه، كأنه ينظر إلى الساعة وهي جزء، هو لنفاسته خليق بأن يحفظ ولا يضيع وأن يتدارك إن ضيع، والسياع - بالفتح: ما يطين به، والشحم تطلى به المزادة، كأنه يمنع ما هو خليق بالجري، وقد سيعت الجب - إذا طينته بطين أو جص؛ وكذلك الزق والسفن إذا طليت بالقار، والمسيعة: خشبة مملسة يطين بها تكون مع حذاق الطيانين، والتسييع، التطيين بها تكون مع حذاق التدهين، وقال القزاز: والسياع: تطيينك بالجص أو الطين أو القير، تسيع به السفن، والسياع: شجر العضاه له ثمر كهيئة الفستق وشجر اللبان، وكل منها خليق بالرغبة فيه، والمسياع؛ الناقة تذهب في المرعى، كأنها شبهت بالماء الجاري، وهي أيضاً خليقة بالسمن، والتي تحمل الضيعة، وسوء القيام عليها، والتي يسافر عليها ويعاد، لأنها خليقة بأن يرغب فيها فيها وأساعة: أهمله، أي أزال ما هو خليق به من الحفظ فصار خليقاً(8/407)
بالهلاك، والسعوة - بالكسر: الساعة كالسعواء بالكسر والضم - وقد تقدم تخريجها - والمرأة البذية الخالعة، كأنها جديرة بسرعة الفراق كالساعة، والساعي: الوالي على أي أمر وقوم كان، ولليهود والنصارى: رئيسهم، لأنه خليق بأن يسعى عليهم ويذب عنهم، والسعاة: التصرف، لأن الإنسان جدير به، وسعيه علم للعنز، لأنها خليقة بالسعي، والسعاوي - بالضم: الصبور على السهر والسفر، نسبة إلى السعي على وجه بليغ وهو خليق بأن يرغب فبه، وأسعوا به، أي طلبوه بقطع همزتها، والساعة: جزء من أجزاء الجديدين والوقت الحاضر والقيامة، لأن كل ذلك جدير وحقيق بالاحتفاظ من إضاعته، والهالكون كالجاعة للجياع، كأنهم أضاعوا ساعتهم فكانوا جديرين بما حصل لهم، وساعة سوعاء: شديدة، وساعت الإبل تسوع: بقيت بلا راع، فصارت جديرة بالهلاك والضياع، وأساعه: أهمله وضيعه، فصار كذلك، ومنه ناقة مسياع: تدع ولدها حتى يأكله السباع، وبعد سوع من الليل وسواع، أي هدوئه، وأسوع: انتقل من ساعة إلى ساعة فصار جديراً بأن يتحفظ فيتدارك في الثانية ما فاته في الأولى، وأسوع الحمار: أرسل غرموله، فصار جديراً بالنزوان، وسواع: اسم صنم عبد في عهد نوح عليه السلام، غرقه الطوفان فاستثاره(8/408)
إبليس حتى عبد أيضاً، لأنه كان خليقاً - عندهم وفي زعمهم - بما أهّلوه له - تعالى الله عن ذلك! والوسع مثلثة: الجدة والطاقة كالسعة، ومعناها الخلاقة بالاحتمال، وسعه الشيء - بالكسر - يسعه كيضعه سعة كدعة وزنة: كان جديراً باحتماله، واللهم سع علينا، أي وسع، وليسعك بيتك، أمراً بالقرار فيه، وهذا الإناء يسع عشرين كيلاً، أي يتسع لها، والواسع: ضد الضيق - كالوسيع، وفي الأسماء الحسنى: الكثير العطاء الذي يسع لما يسأل، أو المحيط بكل شيء أو الذي وسع رزقه جميع خلقه ورحمته كل شيء، والوساع كسحاب: الندب، وهو الخفيف في الحاجة الظريف النجيب، لأنه جدير بما يندب له، ومن الخيل: الجواد أو الواسع الخطو والدرع - كالوسيع، وقد وسع ككرم وساعة وسعة وأوسع: صار ذا سعة، والله عليه: أغناه، وتوسعوا في المجلس: تفسحوا، فصاروا جديرين باحتمال الداخل بينهم، ووسعه توسيعاً ضد ضيقه، ورحمة والله وسعت كل شيء، اي أحاطت به، ووسع كل شيء علماً، أي أحاط به وأحصاه؛ والوعس كالوعد: شجر تعمل منه البرابط والعيدان، لأنه أحق الأشجار بذلك، والرمل السهل يصعب فيه المشي، لأنه يرى لسهولته خليقاً بأن يمشى فيه، وإذا حقق النظر كان خليقاً بصعوبة المشي لكونه رملاً،(8/409)
وأوعس ركبه، والوعساء: رابية من رمل لينة تنبت أحرار البقول، لأنها للينها حقيقة من بين روابي الرمل بالنبت، ومكان أوعس وأمكنه وعس، والميعاس: ما تنكب عن الغلظ، فهو جدير بالمشي فيه، والأرض؛ لم توطأ، فهي جديرة بالكف عن سلوكها، والطريق، لأنه جدير بأن يسلك، قال في القاموس: كأنه ضد، والمواعسة: ضرب من سير الإبل، كأنه وسط فهو جدير بالخير والمباراة في السير، أو لا تكون إلا ليلاً؛ وقال القزاز: توعست في وجهه حمرة أو صفرة، أي كانت خليقة بالظهور، قال: وإذا ذكروا الرملة قالوا: وعساء، وإذا ذكروا الرمل قالوا: أوعس - هذا ما في تنزيل الجزيئات من اللغة على مدار هذه المادة، وأما كلام أهل العربية في قواعد «عسى» الكلية فقال أبو عبد الله القزاز: هو فعل لا ينصرف فلا تقول؛ يعسى، ولا هو عاسٍ، وقال عبد الحق الإشبيلي: ولا يأتي منه مستقبل ولا فاعل ولا مفعول ولا مصدر قال القزاز: ويصحبه «أن» ويجوز حذفها، و «أن» وما بعدها بمعنى المصدر وهي في موضع نصب، ولا يقع بعدها المصدر ولا اسم الفاعل، وإنما جاء هذا في مثل العرب: عسى الغوير أبؤساً، وأبؤس جمع بأس، وهذا يدل على أن خبر عسى في موضع نصب، وقال في القاموس: والأبؤس: الداهية، ومنه عسى الغوير أبؤساً، أي داهية، قال أبو عبيد في الغريب: كأنه أراد: عسى الغوير أن يحدث أبؤساً وأن يأتي(8/410)
بأبؤس، فهذا طريق النصب، ومما يبينه قول الكميت:
قالوا أساء بنو كرز فقلت لهم ... عسى الغوير بإبآس وإغوار
وقال شارح الجزولية أبو محمد بن الموفق: لما كانت للرجاء دخلها معنى الإنشاء فلم تتصرف، لأن تصرفها ينافي الإنشاء لأنها إذا تصرفت دلت على الخبر فيما مضى والحال والاستقبال، وذلك ينافي معنى الإنشاء الذي لا يصلح لماض ولا مستقبل، وقال بعض المتأخرين: عسى موضوعة لفعل يتوهم كونه في الاستقبال وهو على لفظ الماضي فاحتيج إلى «أن» بعده إذ لا مستقبل له، وذهب بعضهم إلىأن عسى حرف لعدم تصرفها ولا معناها في غيرها، والصحيح أنها فعل لفظاً ومعنى، أما لفظاً فظاهر، أي للحاق الضمائر وتاء التأنيث الساكنة، وأما معنى فلأنه إخبار عن طمع وقع للمتكلم، وجعل لفظها بلفظ الماضي لأن الطمع قد وقع، وإنما المطموع هو الذي يتوقع وينتظر، وأدخل «أن» على المطموع فيه لأنه لم يقع بعد، وجردت أخواتها عن «أن» لأن خبرها محقق في الحال إذ قد شرع فيه إلا «كاد» فإنها للمقاربة في الجملة؛ وقال ابن هشام المصري في توضيحه: ويجب كون(8/411)
خبرها جملة، وشذ كونه مفرداً نحو عسى الغوير أبؤساً، ويكون الاسم مرفوعاً بعسى وأن، والفعل في موضع نصب على الخبر، وقال الرضى: إنما لم يتصرف في عسى لتضمنها معنى الحرف، أي إنشاء الطمع والرجاء، وقوله: أبؤساً وصائماً، لتضمن عسى معنى كان فأجري مجراه ومذهب المتأخرين أن عسى ترفع الاسم وتنصب الخبر ككان، وقال أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح للفارسي: الأفعال موضوعة للتصرف من حيث كانت مقسمة بأقسام الزمان، ولولا ذلك لأغنيت المصادر عنها، ولهذا قال سيبوبة فأما الأفعال فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء فبنيت لما مضى ولما يكون ولما هو كائن لم ينقطع، ولما خالفت هذه الأفعال - يعني عسى ونعم وبئس وفعل التعجب - سائر الأفعال في الدلالة ترك تصرفها أبداً بما أريدت له من المبالغة فيما جعلت دالة عليه، فمعنى عسى الطمع والإشقاق - كذا قال سيبوية، ولما اختصت بهذا المعنى ترك تصرفها، قال الرماني: منعت ذلك حملاً على «لعل» كما حملت «ما» على «ليس» والأول أولى لأنه ليس ينبغي أن يحمل باب الأفعال على الحروف، ولأن الأفعال في بابها بمنزلة الحروف في بابها في لزوم البناء، وإنما الأسماء تحمل عليها كما تقول في قطام وحزام: إنه بني لوقوعه موقع الفعل، وأن أسماء الاستفهام بنيت لوقوعها موقع الحرف ولا تقول(8/412)
في الأفعال إنها بنيت حملاً على الحروف ولا الحروف بنيت حملاً على الأفعال، بل كل منهما أصل فكذلك التصرف، ليس امتناعه لحمله على الحرف وجريه مجراه، وعسى من أخوات «كان» وإنما لم تذكر معها للمخالفة بترك التصرف وبلزوم «أن» الخبر وبكون فعلاً، ويدل على أنها من أخوات «كان» عسى الغوير أبؤساً، فقد انكشف الأصل كما انكشف أصل أقام وأطال ونحوه بقوله:
صددت وأطولت الصدود وقلما ... وصل على طول الصدود يدوم
ولزوم الفعل بخبرها لجعله عوضاً من التصرف الذي كان ينبغي أن يكون لها، وأما لزوم «أن» فلما أريد من صرف الكلام إلى تأويل الاستقبال لأن «أن» تخلص إليه، والبيت الممثل به فيه شيء طريف، وهو مصدر مجموع واقع موقع مصدر واقع موقع فعل، والمصادر في أصلها لا تجمع ولكنه ضرورة ومثل، فالأصل أن «بأس» ثم أبؤساً - انتهى كلام العبدي، وعندي أنه عند ما يقوى المعنى الذي سقيت له من طمع أو إشفاق يجعل خبرها اسماً تنبيهاً على أنها الآن بمنزلة كان لما اشتد من شبهها لها بذلك؛ قال أبو طالب: وإذا وليها «أن» والفعل كان في موضع رفع، وسد طول الكلام مسد الخبر، ومعناها الذي هو الإشفاق والطمع قريب من المقاربة في كاد، فلذلك حذف «أن» من خبرها حملاً لها على كاد كما جوزوا دخول «أن» في خبر كاد(8/413)
حملاً لها على عسى؛ وقال شارح الجزولية: وحذف «أن» من خبر عسى أكثر من إلحاق «أن» في خبر «كاد» لمقاربة كاد ذات الفعل، و «أن» تنافي ذلك، قال: ومن الفرق بينهما أن عسى لا يضمر فيها ضمير الشأن والقصة لشبهها بالحرف لعدم تصرفها، وتضمر في كاد لتصرفها، ثم رجح أنه يضمر فيها وإن لن تتصرف كما أضمر في نعم وبئس وقال ابن هشام الخضراوي في شرح الإيضاح أيضاً: إن سيبويه قدر عسى بقارب، أي فترفع وتنصب لأن قارب متعد، وقدرها بقرب، أي فلا تنصب لعدم تعديه، قال: ولا تدخل عسى على الماضي؛ قال أبو علي: لأنها للاستقبال المحض ولذلك وقع بعدها «أن» فلا تصلح للماضي بوجه؛ وقال شارح الجزولية: عسى لها مع الظاهر مذهبان: أحدهما أن تكون ناقصة بمعنى كان الناقصة، تحتاج إلى اسم وخبر إلا أنه يشترط في خبرها أن يكون فعلاً، وأصله أن يكون اسماً مثل خبر كان إلا أنه عدل عنه إلى الفعل تنبيهاً على الدلالة على ما هو المقصود من الرجاء وتقوية لما يفيده الرجاء من الاستقبال، وشبهت في هذا الوجه ب «قارب زيد الخروج» تحقيقاً لبيان الإعراب، لا في المعنى، لأن «قارب زيد الخروج» ليس فيه إنشاء رجاء ولا غيره، وإنما هو تمثيل لتقدير الإعراب اللفظي لأنه أصلها أن تكون كذلك، وإنما طرأ عليها إنشاء الرجاء كما كان ذلك في التعجب ونعم وبئس وغيرهما؛ والمذهب الثاني أن تأتي تامة فتستعمل استعمال «قرب» فتدخل على «أن» مع الفعل(8/414)
فتقول: عسى أن يقوم زيد، واستغنى فيها - بأن والفعل - عن الخبرين كما استغنى في «ظننت أن يقوم زيد» عن المفعولين، وذلك لاشتماله على مسند ومسند إليه، وهو المقصود بهذه الأفعال، فإذا قلت: زيد عسى أن يقوم، احتمل أن تكون الناقصة فيكون فيها ضمير يعود على زيد هو اسمها و «أن» مع الفعل خبرها، ويحتمل أن تكون التامة فلا يكون فيها ضمير وكون «أن» مع الفعل فاعلها؛ وقال ابن الخباز الموصلي في كتابه النهاية في شرح كفاية الكفاية: عسى للطمع للمبالغة في الطمع، فلا يكون خبرها ماضياً لأن معناها الرجاء والطمع، والماضي لا يطمع فيه ولا يرجى لحصوله، واستدل على أنها لا تستعمل إلا في المستقبل بقول بعض شعراء الحماسة:
عسى طيىء من طيىء بعد هذه ... ستطفىء غلات الكلى والجوانح
فأتى بالسين لأنه لم يمكنه الإتيان ب «أن» في الشعر؛ وقال شارح الجزولية ما معناه: إنه التزم في خبرها الفعل للدلالة على الاستقبال وألزم «أن» تقوية لذلك، ولهذا لم يكن خبرها اسماً وإن كان أصله أن يكون اسماً إذ لا دلالة للاسم على الزمان، ولم يوضع مكانها السين وسوف لأنهما يدلان على تنفيس في الزمان والغرض هنا تقريبه، وقد يجيء في الشعر قليلاً - وأنشد البيت المذكور؛ وقال ابن الخباز:(8/415)
ودخول الاستفهام عليها يؤذن بأنها ليست للطمع لأن الاستفهام لا يدخل على الطمع ولا على ما ليس بخبر، فدخول هل عليها مما يؤذن بأنها خبر - انتهى. فتفسيرها بما ذكرته - من أنها لما يمكن أن يكون وهو خليق بأن يكون - أول، ويكون الطمع لازماً لمضمون الكلام لا أنه مدلولها بالمطابقة - والله الموفق.(8/416)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
ولما بين سبحانه الصالح لذلك من غيره، أنكر على من لم يفرق بين الصنفين فقال: {أجعلتم سقاية الحاج} أي مجردة عن الإيمان {وعمارة المسجد الحرام} أي كذلك كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد، وأهل السقاية والعمارة من غير إيمان في موالاتهم والكف عن معاداتهم {كمن آمن بالله} أي الحامل اعتقاد كماله على كل كمال {واليوم الآخر} أي الحاث خوفه على كل خير {وجاهد في سبيل الله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء، فالآية على قراءة الجماعة من الاحتباك: حذف أولاً المشبه به لدلالة المشبه عليه وثانياً المشبه لدلالة المشبه به عليه، وأما على رواية نسي بن وردان عن أبي جعفر شاذاً: سقاة وعمرة - بالجمع فلا يحتاج إلى تقدير.
ولما كان كأنه قيل: كنا نظن ذلك فما حالهم؟ قال: {لا يستوون عند الله} أي الذي له الكمال كله لأن المشركين ظلموا بترك الإيمان {والله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {لا يهدي القوم الظالمين*}(8/416)
أي الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها، والكفر أعظم الظلم، فلا توجبوا لهم الهداية ولا المساواة بالمهتدين وإن باشروا جميع أفعال المهتدين ما عدا الإيمان، ومن فعل ذلك منكم كان ظالماً وخيف عليه سلب موجب الهداية.
ولما نفى عنهم المساواة من غير تصريح بأهل الترجيح ليشتد التشوف إلى التصريح فيكون اثبت في النفس وأوقر في القلب، كان كأنه قيل: فمن الراجح؟ فقال: {الذين آمنوا} أي أوقعوا هذا الفعل، وهو إيمان المخاطب من أن يكذبوه بشيء مما يخبر به عن الله، وقصر الفعل وهو في الأصل متعد ليفيد أنه لا إيمان غير هذا، وإن وجد غيره فهو عدم بالنسبة إليه، وكذا كل فعل قصر فهو على هذا المنوال ليشار به إلى أنه لعظيم نفعه لا فعل من جنسه غيره {وهاجروا وجاهدوا} .
ولما كان المحدث عنه فيما قبل المجاهد في سبيل الله، اقتضى المقام تقديمه على الآلة بخلاف ما في آخر الأنفال فإن المقام اقتضى هناك تقديم المال والنفس لما تقدم من موجبه في غير آية - كما سلف بيانه، وأيضاً ففي هذا الوقت كان المال قد كثر، ومواضع الجهاد قد بعدت، فناسب الاهتمام بالسبيل فلذا قدم {في سبيل الله} أي مخلصين له لأنه الملك الذي لا كفؤ له، ثم أتبعه قوله: {بأموالهم وأنفسهم} فصرح بالنفس ترغيباً في المباشرة بها {أعظم درجة} أي من جهة ارتفاع الدرجة، وهي الفضيلة المقربة إلى الله.(8/417)
ولما لم يكن العبرة إلا بما عنده سبحانه، لا بما عند الناس، قال تعالى: {عند الله} أي الملك الأعظم من أهل السقاية وما معها من غير إيمان مدلول عليه بشواهده، وإنما لم يذكر المفضل عليه ليفيد أن فضيلتهم على الإطلاق، فيكون المفضل عليه من جملة المدلول عليه، وكرر الاسم الأعظم لمزيد الترغيب لخطر المقام وصعوبة المرام؛ وأفهم هذا أن تلك الأفعال شريفة في نفسها، فمن باشرها كان على درجة عظيمة بالنسبة إلى من لم يباشرها، ومن بناها على الأساس كان أعظم؛ ثم بين ما يخص أهل حزبه فقال: {وأولئك} أي العالو التربة {هم} أي خاصة لا أنتم أيها المفاخرون مع الشرك {الفائزون*} أي بالخير الباقي في الدارين دون من عداهم وإن فعل من الخيرات ما فعل، لأنهم ترقوا من العبدية إلى العندية.
ولما بين أن جزاء أولئك الخلود في النار، بين ما لهؤلاء، فقال مفسراً لفوزهم: {يبشرهم ربهم} أي المحسن إليم بهدايتهم واجتبائهم. وناهيك بهذه البشارة الدالة على علو مقامهم لأنها بلا واسطة، وكون البشارة على قدر المبشر دال أن هذه البشارة بشارة عظيمة لا نهاية لها ولا يحاط بمعرفة مقدارها {برحمة} أي عظيمة، وزادها عظماً(8/418)
بقوله: {منه} وذلك إشارة إلى أنه لا نجاة بدون العفو؛ ثم أخبر بأن الرحمة كما أثمرت العفو الذي هو أدنى المنازل أسعدت بأعلاها فقال: {ورضوان} أي بأن يكون راضياً عن الله للرضى بقضاء الله وذلك يكون إذا قصر نظره على الله فإنه لا يتغير أبداً بقضاء من أقضيته كما أن الله - الذي هو راحمه - لا يتغير، ومن كان نظره لطلب حظ له كان أبداً في تغير من الفرح إلى الحزن ومن السرور إلى الغم ومن الراحة إلى الجراحة ومن اللذة إلى الألم، فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا للراضي بقضاء الله ويكون الله راضياً عنه فتكون نفسه راضية مرضية، ولهذا لم يقيده ب «منه» وهذان في الدنيا والآخرة.
ولما ذكر هذه الجنة الروحانية المنعم بها في الدنيا، أتبعه بيان الجنة الروحانية البدنية الخاصة بالدار التي فيها القرار فقال: {وجنّات} أي بساتين كثيرة الأشجار والثمار {لهم فيها نعيم} أي عظيم جداً خالص عن كدر ما، ودل على الخلود بقوله: {مقيم*} ثم صرح بخلودهم فيها بلفظ الخلود ليكون أقر للنفس فقال: {خالدين فيها} وحقق أمره بقوله: {أبداً} ثم استأنف المدح لذلك مؤذناً بالمزيد بقوله: {إن الله} أي الذي له الغنى المطلق والقدرة الكاملة {عنده أجر عظيم*} وناهيك بما يصفه العظيم دالاًّ بالعظم، وخص هؤلاء المؤمنين بهذا الثواب المعبر عن دوامه بهذه العبارات الثلاث المقرونه بالتعظيم والاسم الأعظم، فكان أعظم الثواب، لأن(8/419)
إيمانهم أعظم الإيمان.
ولما فرغ من العاطفة بمحاسن الأعمال، شرع في العاطفة بالأنساب والأموال، وقدم الأول إشارة إلى أن المجانسة في الأفعال مقدمة على جميع الأحوال، ولما كان محط الموالاة المناصرة، وكانت النصرة بالآباء والإخوان أعظم من النصرة بغيرهم، لأن مرجعها إلى كثرة الأعوان والأخدان، اقتصر عليها فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بألسنتهم بالإيمان بربهم معرضين عما سواه من الأنداد الظاهرة! صدقوا ادعاءكم ذلك بأن {لا تتخذوا} أي تتعمدوا وتتكلفوا أن تأخذوا {آباءكم وإخوانكم أولياء} أي على ما يدعو إليه الطباع وتقوية الأطماع فتلقوا إليهم أسراركم وتؤثروا رضاهم والمقام عندهم {إن استحبوا} أي طلبوا وأوجدوا أن أحبوا {الكفر} وهو تغطية الحق والتكذيب {على الإيمان} نبه بصيغة الاستفعال على أن الإيمان لكثرة محاسنه وظهور دلائله معشوق بالطبع، فلا يتركه أحد إلا بنوع معالجة ومكابرة لعقله ومجاهدة.
ولما كان أعز الأشياء الدين، وكان لا ينال إلا بالهداية، وكان قد تقدم سلبها عن الظالم، ورهبهم من انتزاعه بقوله: {ومن يتولهم} أي يتكلف أن يفعل في أمرهم ما يفعل القريب مع قريبه {منكم} أي بعد ما أعلمكم الله في أمرهم مما أعلم {فأولئك} أي المبعدون عن الحضرات الربانية {هم الظالمون*} أي لوضعهم الموالاة في غير موضعها(8/420)
بعد أن تقدم إليهم سبحانه بمثل هذه الزواجر، وهذا رجوع بالاحتراس إلى {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} [الأنفال: 75]- الآية الوالية لبيان المؤمنين حقاً وإشارة إلى أنه يضلهم ولا يهديهم لما تقدم من الخبر بأنه لا يهدي الظالمين.
ولما كانت الأنفس مختلفة الهمم متباينة السجايا والشيم، كان هذا غير كافٍ في التهديد لكلها، فأتبعه تهديداً أشد منه بالنسبة إلى تلك النفوس فقال منتقلاً من أسلوب الإقبال إلى مقام الإعراض المؤذن بزواجر الغضب: {قل} أي يا أعظم الخلق شفقة ورفقاً ونصيحة لمن لم يُزعمه ما تقدم من الزواجر أنه يجب تحمل جميع هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سالماً ولا ينثلم {إن كان آباؤكم} أي الذين أنتم أشد شيء توقيراً لهم {وأبناؤكم} أي الذين هم أعز الناس لديكم وأحبهم إليكم {وإخوانكم} أي الذين هم من أصولكم فهم كأنفسكم {وأزواجكم} أي اللاتي هن سكن لكم {وعشيرتكم} أي التي بها تمام الراحة وقيام العز والمنعة وهم أهل الإنسان الأدنون الذين يعاشرونه.
ولما قدم سبحانه ما هو مقدم على المال عند أولي الهمم العوال قال: {وأموال اقترفتموها} أي اكتسبتموها بالمعالجة من الأسفار(8/421)
وغيرها لمعاشكم {وتجارة تخشون كسادها} أي لفوات أوقات نفاقها بسبب اشتغالكم بما ندب الله سبحانه إليه فيفوت - على ما تتوهمون - ما به قوامكم {ومساكن ترضونها} أي لأنها مجمع لذلك كله، ولقد رتبها سبحانه أحسن ترتيب، فإن الأب أحب المذكورين لما هنا من شائبة النصرة، وبعده الابن ثم الأخ ثم الزوج ثم العشير الجامع للذكور والإناث ثم المال الموجود في اليد ثم المتوقع ربحه بالمتجر، وختم بالمسكن لأنه الغاية التي كل ما تقدم أسباب للاسترواح فيه والتجمل به {أحب إليكم من الله} أي الجامع لصفات الكمال الذي أنعم عليكم بجميع ما ذكر، ومتى شاء سلبكموه {ورسوله} أي الذي أتاكم بما به حفظ هذه النعم في الدارين {وجهاد في سبيله} أي الرد الشارد من عباده إليه وجمعهم عليه، وفي قوله -: {فتربصوا} أي انتظروا متربصين - تهديد بليغ {حتى يأتي الله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {بأمره} أي الذي لا تبلغه أوصافكم ولا تحتمله قواكم.
ولما كان من آثر حب شيء من ذلك على حبه تعالى، كان مارقاً من دينه راجعاً إلى دين من آثره، وكان التقدير: فيصيبكم بقارعة لا تطيقونها ولا تهتدون إلى دفعها بنوع حلية، لأنكم اخترتم لأنفسكم منابذة الهداية ومعلوم أن من كان كذلك فهو مطبوع في الفسق، عطف عليه قوله: {والله} أي الجامع لصفات الكمال {لا يهدي القوم} أي لا يخلق الهداية في قلوب(8/422)
{الفاسقين*} أي الذين استعملوا ما عندهم من قوة القيام فيما يريدون من الفساد حتى صار الفسق - وهو الخروج مما حقه المكث فيه والتقيد به وهو هنا الطاعة - خلقاً من أخلاقهم ولازماً من لوازمهم، بل يكلهم إلى نفوسهم فيخسروا الدنيا والآخرة.(8/423)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
ولما كان في بعض النفوس من الغرور بالكثرة ما يكسبها سكرة تغفلها عن بعض مواقع القدرة، ساق قصة حنين دليلاً على ذلك الذي أبهمه من التهديد جواباً لسائل كان كأنه قال: ما ذاك الأمر الذي يتربص لإتيانه ويخشى من عظيم شأنه؟ فقيل: الذل والهوان والافتقار والانكسار، فكأنه قيل: وكيف يكون ذلك؟ فقيل: بأن يسلط القدير عليكم - وإن كنتم كثيراً - أقوياء غيركم وإن كانوا قليلاً ضعفاء كما سلطكم - وقد كنتم كذلك - حتى صرتم إلى ما صرتم إليه: {لقد نصركم الله} أي الملك الأعلى مع شدة ضعفكم {في مواطن} أي مقامات ومواقف وأماكن توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم {كثيرة} أي من الغزوات التي تقدمت لكم كبدر وقريظة والنضير وقينقاع والحديبية وخيبر وغيرها من مخاصمات الكفار، وكنتم من الذلة والقلة والانكسار بحال لا يتخيل معها نصركم وظهوركم على جميع الكفار وأنتم فيهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وما وكلكم(8/423)
إلى مناصرة من تقدم أمره لكم بمقاطعتهم، فدل ذلك على أن من أطاع الله ورجع الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه وإن عاداه الناس أجمعون، ودل بما بعدها من قصة حنين على أن من اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا إلا أن يتداركه الله برحمته منه فيرجع به. فقال تعالى: {ويوم} أي ونصركم بعد أن قواكم وكثركم هو وحده، لا كثرتكم وقوتكم يوم {حنين} وهو واد بين مكة والطائف إلى جانب ذي المجاز، وهو إلى مكة أقرب، وراء عرفات إلى الشمال.
ولما كان سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري رضي الله عنه قد قال حين التقى الجمعان وأعجبته كثرة الناس: لن نغلب اليوم من قلة! فساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلامه وأن يعتمد إلا على الله، وكان الإعجاب سمّاً قاتلاً للأسباب، أدبنا الله سبحانه في هذه الغزوة بذكر سوء أثره لنحذره، ثم عاد سبحانه بالإنعام لكون الذي قاله شخصاً واحداً كره غيره مقاتله. فقال: {إذ} أي حين {أعجبتكم كثرتكم} أي فقطعتم لذلك أنه لا يغلبها غالب، وأسند سبحانه الفعل للجمع إشارة إلى أنهم لعلو مقامهم ينبغي أن لا يكون منهم من يقول مثل ذلك {فلم تغن عنكم شيئاً} أي من الإغناء {وضاقت عليكم الأرض} أي الواسعة {بما رحبت} أي مع اتساعها فصرتم لا ترون أن فيها مكاناً يحصنكم مما أنتم فيه لفرط الرعب، فما ضاق في الحقيقة إلا ما كان(8/424)
من الآمال التي سكنت إلى الأموال والرجال، ولعل عطفه - لتوليهم بأداة التراخي في قوله: {ثم وليتم} أي تولية كثيرة ظهوركم الكفار، وحقق ذلك بقوله: {مدبرين*} أي انهزاماً مع أن الفرار كان حين اللقاء لم يتأخر - إشارة إلى ما كان عندهم من استعباده اعتماداً على القوة والكثرة {ثم أنزل الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال {سكينته} أي رحمته، وهي الأمر الذي يسكن القلوب عن أن تتأثر يدهمها من البلاء من الوثوق به سبحانه ومشاهدة جنابة الأقدس والغناء عن غيره.
ولما كان المقام للرسالة، وكان تأييد مدعيها من أمارات صدقه في دعوى أنه رسول، وأن مرسله قادر على ما يريد لا سيما إن كان تأييده على وجه خارق للعادة، عبر به دون وصف النبوة فقال: {على رسوله} أي زيادة على ما كان به من السكينة التي لم يحز مثلها أحد، ثبت بها الثلاثين ألفاً أو عشرين ألفاً أو أربعة آلاف على اختلاف الروايات في عشرة أنفس أو مائة أو ثلاثمائة - على الاختلاف أيضاً، لم يكن ثباتهم إلا به، ثم لم يزده ذلك إلا تقدماً حتى أن كان العباس عمه وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه رضي الله عنهما ليكفان بغلته عن بعض التقدم، ولعل العطف ب «ثم» إشارة إلى علو رتبة ذلك الثبات واستبعاد أن يقع مثله في مجاري العادات {وعلى المؤمنين} أي أما من كان منهم ثابتاً فزيادة على ما كان له من ذلك، وأما غيره فأعطي ما(8/425)
لم يكن في ذلك الوقت له، وذلك أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعمه العباس رضي الله بعدما فر الناس: ناد فيهم يا عباس! فنادى وكان صيتاً: ياعباد الله! يا أصحاب الشجرة! يا أصحاب سورة البقرة! فكروا عنقاً واحداً يقولون: لبيك لبيك! ويحتمل أن يكون ذكر الرسول عليه السلام لمجرد التبرك كما في ذكر الله في قوله: {فإن لله خمسه} [الأنفال: 41] وزيادة في تعظيم الامتنان به لأن النفوس إلى ما أعطى منه الرسول أميل والقلوب له أقبل لاعتقاد جلاله وعظمته وكماله {وأنزل} أي من السماء {جنوداً لم تروها} أي من الملائكة عليهم السلام {وعذب} أي بالقتل والأسر والهزيمة والسبي والنهب {الذين كفروا} عبر بالفعل لأن فيهم من آمن بعد ذلك.
ولما كان ما عذب به من أوجد مطلق هذا الوصف عظيماً، أتبعه بيان جزاء العريق في ذلك ترهيباً لمن آثر حب شيء مما مضى على حب الله فقال: {وذلك} أي العذاب الذي منه ما عذب به هؤلاء وغيره {جزاء الكافرين*} أي الراسخين في وصف الكفر الذين آثروا حب من تقدم من الآباء وغيرهم على الله فثبتوا على تقليد الآباء في الباطل بعدما رأوا من الدلائل ما بهر الشمس ولم يدع شيئاً من لبس، وأما الذين لم يكن كفرهم راسخاً فكان ذلك صلاحاً لهم لأنه قادهم إلى الإسلام، فقد تبين أن المنصور من نصره الله قليلاً كان أو كثيراً، وأن القلة(8/426)
والكثرة والقوة والضعف بالنسبة إلى قدرته سواء، فلا تغتروا بما ألزمكم من النعم فإنه قادر على نزعها، لا يستحق أحد عليه شيئاً، ولا يقدر أحد على رد قضائه، وفي ذلك إعلام بأنه لا يرتد بعد إيمانه إلا من كان عريقاً في الكفر، وفيه أبلغ تهديد لأنه إذا عذب من أوجد الكفر وقتاً ما فكيف بمن رسخ فيه!
ولما بين أن العذاب جزاء الكافرين، بين أنه يتوب على من يريد منهم، وهم كل من علم منه قابلية للإيمان وإن كان شديداً وصف الكفران، فقال عاطفاً على {وعذب} : {ثم يتوب الله} أي الذي له الإحاطة علماً وقدرة، ولما لم يكن احد تستغرق توبته زمان البعد أدخل الجار فقال: {من بعد ذلك} أي العذاب العظيم {على من يشاء} أي فيهديه إلى الإسلام ويغفر له جميع ما سلف من الآثام {والله} أي الذي له صفات الكمال {غفور رحيم *} أي محاء للخطايا عظيم الإكرام لمن تاب، وفي ذلك إشارة إلى أنه جعل هذه الوقعة.
لحكمته التي اقتضت ربط المسببات بأسبابها - سبباً لإسلام من حضرها من كفار قريش وغيرهم من المؤلفة بما قسم فيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنائم هوزان وبما رأوا من عز الإسلام وعلوه، فكان في ذلك ترغيب لهم بالمال، وترهيب بسطوات القتال، ولإسلام وفد هوزان بما حصل لهم من القهر وما شاهدوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عظيم النصر، ولإسلام(8/427)
غيرهم من العرب بسبب علم كل منهم بهذه الوقعة أنهم أضعف ناصراً وأقل عدداً، كل ذلك رحمة منه سبحانه لهم ورفقاً لهم، وقد كان جميع ذلك كما أشار إليه سبحانه، فأسلم الطلقاء وحسن إسلامهم، وقدم وفد هوزان وسألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبرهم برد ما أخذ لهم فقال لهم: إني استأنيت بكم، فلما أبطأتم قسمت بين الناس فيئهم، فاختاروا المال أو السبي! فاختاروا السبي فشفع لهم عند الناس فأجابوه فرد إليهم أبناءهم ونساءهم رحمة منه لهم، وذل العرب لذلك فدخلوا في الدين أفواجاً. وختم هذه الآية بالمغفرة والرحمة على ما هو الأنسب لسياق التوبة بذلك على انه ما عدل إلى ختم الأولى ب «عليم حكيم» إلا لما قررته من جعل أم في {أم حسبتم} معادلة للهمزة. والله أعلم.(8/428)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
ولما تقدم في الأمر والنواهي وبيان الحكم المرغبة والمرهبة ما لم يبق لمن عنده أدنى تمسك بالدين شيئاً من الالتفات إلى المفسدين، بين أن العلة في مدافعتهم وشديد مقاطعتهم أنهم نجس وأن المواضع - التي ظهرت فيها أنوار عظمته وجلالته وأشرقت عليها شموس نبوته ورسالته، ولمعت فيها بروق كبره وجالت صوارم نهية وأمره - مواضع القدس ومواطن الأنس، من دنا إليها من غير أهلها احترق(8/428)
بنارها، وبهرت بصره أشعة أنوارها، فقال مستخلصاً مما تقدم ومستنتجاً: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بألسنتهم بالإيمان وهم ممن يستقبح الكذب {إنما المشركون} أي العريقون في الشرك بدليل استمرارهم عليه.
ولما كانوا متصفين به، وكانوا لا يغتسلون - ولا يغسلون - ثيابهم من النجاسة، بولغ في وصفهم بها بأن جعلوا عينها فقال: {نجس} أي وأنتم تدعون أنكم أبعد الناس عن النجس حساً ومعنى، فيجب أن يقذروا وأن يبعدوا ويحذروا كما يفعل بالشيء النجس لما اشتملوا عليه من خلال الشر واتصفوا به من خصال السوء، وأما أبدانهم فاتفق الفقهاء على طهارتها لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب من أوانيهم ولم ينه عن مؤاكلتهم ولا أمر بالغسل منها ولو كانت نجسة ما طهرها الإسلام. ولما تسبب عن ذلك إبعادهم، قال: {فلا يقربوا} أي المشركون، وهذا نهي للمسلمين عن تمكينهم من ذلك، عبر عنه بنهيهم مبالغة فيه {المسجد الحرام} أي الذي أخرجوكم منه وأنتم أطهر الناس، واستغرق الزمان فأسقط الجار ونبههم على حسن الزمان واتساع الخير فيه بالتعبير بالعام فقال: {بعد عامهم} وحقق الأمر وأزال اللبس بقوله: {هذا} وهو آخر سنة تسع سنة الوفود مرجعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزوة تبوك، فعبر بقربانه لا بإتيانه بعد التقديم إليهم بأن لا يقبل من مشرك إلا الإسلام أو القتل إشارة إلى إخراج المشركين من جزيرة العرب وانها لا يجتمع بها دينان لأنها كلها محل النبوة العربية(8/429)
وموطن الأسرار الإلهية، فمن كان فيها - ولو في أقصاها - فقد قارب جميع ما فيها، وتكون حينئذ بالنسبة إلى الحرم كأفنية الدور ورحاب المساجد؛ وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الحج بعد رجوعه من تبوك ثم أردفه بعلي رضي الله عنه فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ يوم النحر في أهل منى ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. وهذه سنة قديمة فقد أمر الله تعالى بني إسرائيل في غير موضع من التوارة بأن لا يبقوا في جميع بلاد بيت المقدس أحداً من المشركين بخلاف غيرها من البلاد التي يفتحها الله عليهم، منها ما قال المترجم في أواخر السفر الخامس: وإذا تقدمتم إلى قرية أو مدينة لتقاتلوا أهلها ادعوهم إلى الصلح، فإن قبلوه وفتحوا لكم من كان فيها من الرجال يكونوا عبيداً لكم يؤدوا إليكم الخراج، وإن لم يقبلوا الصلح وحاربوكم فحاربوهم وضيقوا عليهم فإن الله ربكم يدفعها إليكم وتظفرون بمن فيها، فإذا ظفرتم بمن فيها فاقتلوا الذكور كلهم بالسيف، كذلك اصنعوا بجميع القرى البعيدة النائية التي ليست من قرى هذه الشعوب فأما قرى هذه الشعوب التي يعطيكم الله ميراثاً فلا تبقوا من أهلها احداً ولكن اقتلوهم قتلاً كالذي أمركم الله ربكم لئلا يعلموكم النجاسة(8/430)
التي يعلمونها لآلهتهم، ومثل ذلك كثير فيها، وقد مضى بعده فيما ذكرته عن التوارة.
والله الموفق، وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام: أحدها الحرم، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال لظاهر هذه الآية، الثاني الحجاز وما في حكمه وهو جزيرة العرب، فيدخله الكافر بالإذن ولا يقيم أكثر من مقام السفر ثلاثة أيام لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وهي من أقصى عدن أبين، وهي في الجنوب إلى أطراف الشام وهي في الشمال طولاً، ومن جدة وهي أقصى الجزيرة غرباً على شاطئ بحر الهند إلى ريف العراق وهو في المشرق عرضاً، والثالث سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر الإقامة فيها بذمة وأمان ما شاء، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم. ذكر ذلك البغوي، قال ابن الفرات في تاريخه عند غزو بخت نصر لبني إسرائيل ولأرض العرب: إنما سميت بلاع العرب جزيرة لإحاطة البحار والأنهار بها، فصارت مثل الجزيرة من جزائر البحر، وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم وظهر من ناحية قنسرين ثم انحط على الجزيرة وسواد العراق حتى وقع في البحر من ناحية البصرة والأبلة وامتد البحر من ذلك الموضع مطيفاً ببلاد العرب، فأتى منه عنق على كاظمة وتعدى(8/431)
إلى القطيف وهجر وعمان والشجر، ومال منه عنق إلى حضرموت وناحية أبهر وعدن، واستطال ذلك العنق فطعن في تهامة اليمن ومضى إلى ساحل جدة، وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلاً معارضاً للبحر معه حتى وقع في بحر مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين فمر بعسقلان وسواحلها، واتى على بيروت ونفذ إلى سواحل حمص وقنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطاًعلى أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق، وأقبل جبل السراة من قعرة اليمن حتى بلغ أطراف الشام فمسته العرب حجازاً لأنه حجز بين الغور ونجد فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه الغور وهو تهامة، وما دونه في شرقيه نجداً.
انتهى.
ولما كان ما والاها من أرض الشام ونحوها كله انهاراً أو جداول، جعل كأنه بحر لأنه في حكم شاطئه، ولما كان قوامهم بالمتاجر، وكان قوام المتاجر باجتماعهم في أسواقهم، وكان نفيهم من تلك الأراضي مظنة لخوف انقطاع المتاجر وانعدام الأرباح المفضي إلى الحاجة وكان قد أمر بنفيهم رعاية لأمر الدين، وكان سبحانه عالماً بأن(8/432)
ذلك يشق على النفوس لما ذكر من العلة ولا سيما وقد قال بعضهم لما قرأ علي رضي الله عنه آيات البراءة على اهل الموسم: يا أهل مكة! ستعلمون ما تلقونه من الشدة بانقطاع السبيل وبُعد الحمولات، وعد سبحانه - وهو الواسع العليم - بما يغني عن ذلك، لأن من ترك الدنيا لأجل الدين أوصله سبحانه إلى مطلوبه من الدنيا مع ما سعد به من أمر الدين «من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه» فقال: {وإن خفتم} أي بسبب منعهم من قربان المواطن الإلهية {عيلة} أي فقراً وحاجة {فسوف يغنيكم الله} أي هو ذو الجلال والإكرام {من فضله} وهو ذو الفضل والطول والقوة والحول.
ولما كان سبحانه الملك الغني القادر القوي الذي لا يجب لأحد عليه شيء وتجب طاعته على كل شيء، نبه على ذلك بقوله: {إن شاء} ولما كان ذلك عندهم مستبعداً، علل تقريباً بقوله: {إن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {عليم} أي بوجوه المصالح {حكيم*} أي في تدبير استجلابها وتقدير إدرارها ولقد صدق سبحانه ومن أصدق منه قيلاً فإنه أغناهم - بالمغانم التي انتثلها بأيديهم بعد نحو ثلاث سنين من إنزالها من كنوز كسرى وقيصر - غنى لم يطرق أوهامهم قط، ثم جعل ذلك سبباً لاختلاط بعض الطوائف من جميع الناس ببعض لصيرورتهم إخواناً في الدين الذي كان سبباً لأن يجتمع(8/433)
في سوق منى وغيره في أيام الحج كل عام من المتاجر مع الغرب والعجم ما لا يكون مثله في بقعة من الأرض، والعيلة: الفاقة والافتقار، ومادتها بهذا الترتيب تدور على الحاجة وانسداد وجوه الحلية وقد تقدم أول النساء انها - لا بقيد ترتيب - تدور تقاليبها الثمانية على الارتفاع ويلزمه الزيادة والميل، ومنه تأتي الحاجة، وبرهن على ذلك في جميع الجزئيات.
ولما كان ذلك موضع تعجب يكون سبباً لأن يقال: من أين يكون ذلك الغنى؟ أجاب بقوله: {قاتلوا} أي أهل الأموال والغنى {الذين لا يؤمنون بالله} أي الذي له جميع صفات الكمال إيماناً هو على ما أخبرت به عنه رسله، ولو آمنوا هذا الإيمان ما كذبوا رسولاً من الرسل، وأيضاً فالنصارى مثلثة وبعض اليهود مثنية {ولا باليوم الآخر} أي كذلك، وأقل ذلك أنهم لا يقولون بحشر الأجساد {ولا يحرمون ما حرم الله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله {ورسوله} أي من الشرك وأكل الأموال بالباطل وغير ذلك وتبديل التوراة والإنجيل {ولا يدينون} أي يفعلون ويقيمون، اشتق من الدين فعلاً ثم أضافه إلى صفته إغراقاً في اتخاذه بذلك الوصف فقال: {دين الحق} أي الذي أخذت عليهم رسلهم العهود والمواثيق باتباعه، ثم بين الموصول مع صلته فقال: {من الذين} ودل على استهانته سبحانه بهم وبراءته(8/434)
منهم بأن بني للمفعول قوله: {أوتوا الكتاب} أي من اليهود والنصاري ومن ألحق بهم {حتى يعطوا الجزية} أي وهي ما قرر عليهم في نظر سكناهم في بلاد الإسلام آمنين، فعله من جزى يجزي.
إذا قضى ما عليه {عن يد} أي قاهرة إن كانت يد الآخذ او مقهورة إن كانت يد المعطي، من قولهم: فلان أعطى بيده {وهم صاغرون*} ففي ذلك غنى لا يشبه ما كنتم فيه من قتال بعضكم لبعض لتغنم ما في يده من ذلك المال الحقير ولا ما كنتم تعدونه غنى من المتاجر التي لا يبلغ أكبرها واصغرها ما أرشدناكم إليه مع ما في ذلك العز الممكن من الإصلاح والطاعة وسترون، وعبر باليد عن السطوة التي ينشأ عنها الذل والقهر لأنها الآلة الباطشة، فالمعنى عن يد قاهرة لهم، أي عن قهر منكم لهم وسطوة بأفعالهم التي أصغرتهم عظمتها وأذلتهم شدتها، قال أبو عبيدة: يقال لكل من أعطى شيئاً كرهاً عن غير طيب نفس، أعطاه عن يد. انتهى. وعبر ب «عن» التي هي للمجاوزة لأن الإعطاء لا يكون إلا بعد البطش المذل، هذا إذا أريد باليد يد الآخد، ويمكن أن يراد بها يد المعطي، وتكون كناية عن النفس لأن مقصود الجزية المال، واليد أعظم أسبابه، فالمعنى حتى يعطي كل واحد منهم الجزية عن نفسه.(8/435)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
ولما كان المراد التعميمم أتى بها نكرة لتفيد ذلك، ويؤيد هذا ما نقل العلماء عن الرواة لفتوح البلاد منهم الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي، قال في كتابه الاكتفاء في وقعة جلولاء من بلاد فارس:(8/435)
قالوا: قال بعضهم: فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث والدلالة مع الجزي عن أيديهم على قدر طاقتهم، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة، وإنما أخذوا الجزية من المجوس لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذها من مجوس هجر وأخذها منهم لأنهم أهل كتاب في الأصل، قال الشافعي في باب المجمل والمفسر من كتاب اختلاف الحديث: والمجوس أهل كتاب غير التوراة والإنجيل وقد نسوا كتابهم وبدلوه، فأذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أخذ الجزية منهم؛ أخبرنا سفيان عن أبي سعد سعيد بن مرزبان عن نصر بن عاصم قال: قال فروة بن نوفل الأشجعي: علام تؤخذ الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب؟ فقام إليه المستورد فأخذ بلببه فقال: ياعدو الله! تطعن على أبي بكر وعلى عمر وعلي أمير المؤمنين - يعني علياً - وقد أخذوا منهم الجزية، فذهب به إلى القصر فخرج علي رضي الله عنه عليهما فقال: البدا! البدا! فجلسا في ظل القصر فقال علي: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد فامتنع عليهم فدعا أهل مملكته فقال: تعلمون ديناً(8/436)
خيراً من دين آدم وقد كان آدم ينكح بنيه من بناته، فأنا على دين آدم، فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم، وهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما منهم الجزية. ولما أمر بقتالهم ووصفهم بما هو السبب الباعث على ذلك، عطف عليه بعض أقوالهم المبيحة لقتالهم الموجبة لنكالهم فقال: {وقالت} أي قاتلوا أهل الكتاب لأنهم كفروا بما وصفناهم به وقالت {اليهود} منهم كذباً وبهتاناً {عزير} تنوينُ عاصم والكسائي له موضحٌ لكونه مبتدأ، والباقون منعوه نظراً إلى عجمته مع العلمية وليس فيه تصغير، والخبر في القراءة قولهم: {ابن الله} أي الذي له العلو المطلق فليس كمثله شيء، وعزير هذا هو المسمى عندهم في سفر الأنبياء ملاخيا، ويسمى أيضاً العازر وهو الأصل والعزير تعريبه، وأما الذي جمع لهم هذه التوراة التي بين أيديهم فقال السمؤال بن يحيى المغربي الذي كان يهودياً فأسلم: إنه شخص آخر اسمه عزرا، وإنه ليس بنبي. ذكر ذلك في كتابه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود، وهو كتاب حسن جداً، وكان السموأل هذا مع تمكنه من المعرفة بشريعة اليهود وأخبارهم متمكناً من علوم الهندسة وغيرها، وكان فصيحاً بليغاً(8/437)
وكان حسن الإسلام يضرب المثل بعقله، ورأيت اليهود في غاية النكاية منه، وأراني بعضهم رسالة إليه لبعض أحبارهم يسفه فيها رأيه في إسلامه ويشبه عليه بأشياء خطابيه وشعرية، فأجابه بجواب بديع افتتحه بقوله تعالى:
{سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142] ثم رد كلامه أحسن رد ثم قال له ما حاصله: دع عنك مثل هذه الخرافات، وأجب عن الأمور التي ألزمتكم بها في كتاب غاية المقصود، فما أحار جواباً، ثم القائل لهذا القول منهم روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم أربعة، وقيل: قائله واحد وأسند إلى الكل كما يقال: فلان يركب الخيول وقد لا يكون له إلا فرس واحد، وهو كقوله تعالى {الذين قال لهم الناس} [آل عمران: 173] وقيل: كان فاشياً فيهم فلما عابهم الله به تركوه وهم الآن ينكرونه، والله تعالى أصدق حديثاً {وقالت النصارى} أي منهم إفكاً وعدواناً {المسيح} وأخبروا عنه بقولهم: {ابن الله} أي مع أن له الغنى المطلق والكمال الأعظم، والمسيح هذا هو ابن الله مريم بنت عمران؛ ثم استأنف قوله مترجماً قولي فريقيهم: {ذلك} أي القول البعيد من العقول المكذب للنقول {قولهم بأفواههم} أي حقيقة لم يحتشموا من قوله مع(8/438)
سخافته، وهو مع ذلك قول لا تجاوز حقيقته الأفواه إلى العقول لأنه لا يتصوره عاقل، بل هو قول مهمل كأصوات الحيوانات العجم لا يتحقق له المعنى؛ قال: ومعناه الحال أن قائله لا عقل له، ليس له معنى وراء ذلك، ولبعده عن أن يكون مقصوداً لعاقل عبر فيه بالأفواه التي هي أبعد من الألسنة إلى القلوب.
ولما كان كأنه قيل: فما لهم إذا كان هذا حالهم قالوه؟ قال ما حاصلة: إنهم قوم مطبوعون على التشبه بمن يفعل المفاسد كما أنهم تشبهوا بعبدة الأوثان، فعبدوها غير مرة والأنبياء بين أظهرهم يدعونهم إلى الله وكتابهم ينادي بمثل ذلك وينذرهم أشد الإنذار {يضاهئون} أي حال كونهم يشابهون بقولهم هذا {قول الذين كفروا} أي بمثله وهو العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله، كما أنهم لما رأوا الذين يعكفون على أصنام لهم قالوا: {يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} .
ولما كان لا يمتنع أن يكون الذين شابهوهم إنما كانوا بعدهم أو في زمانهم من قبل أن يبين فساد قولهم، نفى ذلك بقوله مشيراً بحرف الجر إلى أن كفرهم لم يستغرق زمن القبل: {من قبل} أي من قبل أن يحدث منهم هذا القول، وهذا دليل على أن العرب غيروا دين إسماعيل عليه السلام، اجترؤوا على مثل هذا القول قبل إيقاع بخت نصر باليهود(8/439)
أو في حدوده، وليس ذلك ببعيد مع طول الزمان وإغواء الشيطان، فقد كان بين زمان إبراهيم وعزير عليهما السلام نحو ألف وخمسمائة سنة - هذا على ما ذكره بعض علماء أهل الكتاب عن كتبهم وأيده ما ذكره المسعودي من مروج الذهب في تاريخ ملوك بابل من نمرود إلى بخت نصر: وذكر بعض المؤرخين أن بين الزمنين زيادة على ألفي سنة على أنهم قد نقلوا ما هو صريح في كفر العرب في ذلك الزمان فرووا عن هشام بن الكلبي أنه قال: كان بدء نزول العرب إلى أرض العراق أن الله عز وجل اوحى إلى برخيا من ولد يهودا أن ائت بخت نصر فمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ويطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم وأعلمه بكفرهم بي واتخاذهم الآلهة دوني وتكذيبهم أنبيائي ورسلي، وعن غير ابن الكلبي أنه نظم ما بين أبلة والايلة خيلاً ورجالاً ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح قدروا عليه، وأوصى الله برخيا وإرميا بمعد بن عدنان الذي من ولده محمد المختوم به النبوة، وكان ذكر مشابهتهم لأهل الشرك تحقيراً لشأنهم تجرئة على الإقدام عليهم إذ جعلهم مشابهين لمن دربوا قتالهم وضربوا عليهم فأذلوهم بعد أن كانوا في عزة لا يخشون زوالها، وعزائم شديدة لا يخافون(8/440)
انحلالها، كل ذلك بطاعة الله في قتالهم وطلب مرضاته بنزالهم لأنه عليهم، ومن كان عليه لم يفلح، وإلى مثل ذلك إشارة بقوله في حق هؤلاء: {قاتلهم الله} أي أهلكهم الملك الأعظم، لأن من قاتله لم ينج منه، وقيل: لعنهم؛ روي عن ابن عباس قال: وكل شيء في القرآن مثله فهو لعن {أنى يؤفكون*} أي كيف ومن أين يصرفون عن الحق مع قيام الأدلة القاطعة عليه، ثم زادهم جرأة عليهم بالإشارة إلى ضعف مستندهم حيث كان مخلوقاً مثلهم بقوله: {اتخذوا} أي كلفوا أنفسهم العدول عن الله القادر على كل شيء وأخذوا {أحبارهم} أي من علماء اليهود، والحبر في الأصل العالم من أيّ طائفة كان {ورهبانهم} أي من زهاد النصارى، والراهب في الأصل من تمكنت الرهبة في قلبه فظهرت آثارها على وجهه ولباسه، فاختص في العرف بعلماء النصارى أصحاب الصوامع {أرباباً} أي آلهة لكونهم يفعلون ما يختص به الرب من تحريم ما حرموا وتحليل ما حللوا؛ وأشار إلى سفول أمرهم بقوله: {من دون الله} أي الحائز لجميع صفات الجلال، فكانوا يعولون عليهم ويسندون أمرهم إليهم حتى أن كانوا ليتبعونهم في الحلال والحرام و {المسيح} أي المبارك الذي هو أهل لأن المسيح بدهن القدس وأن يمسح غيره {ابن مريم} أي(8/441)
اتخذوه كذلك لكونهم جعلوه ابناً فأهلوه للعبادة بذلك مع كونه ابن امرأة، فهو لا يصلح للإلهية بوجه لمشاركته للآدميين في الحمل والولادة والتربية والأكل والشرب وغير ذلك من أحوال البشر الموجبة للحاجة المنافية للإلهية، ومع تصريحه لهم بأنه عبد الله ورسوله، فتطابق العقل والنقل على أنه ليس بإله.
ولما قبح عليهم ما اختاروه لأنفسهم، قبحه عليهم من جهة مخالفته لأمره تعالى فقال: {وما} أي فعلوا ذلك والحال أنهم ما {أمروا} أي من كل من له الأمر من أدلة العقل والنقل {إلا ليعبدوا} أي ليطيعوا على وجه التعبد {إلهاً واحداً} أي لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة، وذلك معنى وصفه بأنه {لا إله إلا هو} أي لا يصلح أن يكون معه إله آخر، فلما تعين ذلك في الله وكانت رتبته زائدة أبعد عما أشركوا به، نزهه بقوله: {سبحانه} أي بعدت رتبته وعلت {عما يشركون*} في كونه معبوداً أو مشروعاً؛ ذكر أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره وغيره عن عدي ابن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي عنقي صليب من ذهب فقال: اقطعه، فقطعته ثم أتيته وهو يقرأ سورة براءة {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قلت: يا رسول!(8/442)
إنا لم نكن نعبدهم! قال: أجل. أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله فتستحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟ قلت: بلى، قال: تلك عبادتهم.
ولما وهى سبحانه أمرهم من جهة استنادهم، زاد توهية من جهة مرادهم بالإعلام بأنهم بقتالهم لأهل الطاعة إنما يقاتلون الله وأنه لا ينفذ غرضهم بل يريد غير ما يريدون، ومن المقرر أنه لا يكون إلا ما يريد، فقال مستأنفاً أو معللاً لما مضى من أقوالهم وأفعالهم: {يريدون أن يطفئوا} أي بما مضى ذكره من أحوالهم {نور الله} أي دين الملك الأعلى الذي له الإحاطة العظمى، وشرعه الذي شرعه لعباده على ألسنة الأنبياء والرسل، كل ذلك ليتمكنوا من العمل بالأغراض والأهوية، فإن اتباع الرسل حاسم للشهوات، وهم أبعد الناس عن ذلك.
ولما حقر شأنهم، هدمه بالكلية بقوله: {بأفواههم} أي بقول خال عن شيء يثبته أو يمضيه وينفذه، وفي تسمية دينه نوراً ومعاندتهم إطفاء بالأفواه تمثيل لحالهم بحال من يريد إطفاء نور الشمس بنفخه {ويأبى} أي والحال أنه يفعل فعل الأبيّ وهو أنه لا يرضي {الله} أي الذي له جميع العظمة والعز ونفوذ الكلمة {إلا أن يتم نوره} أي لا يقتصر على مجرد إشراقه، بل وعد - وقوله الحق - بأنه لا بد من إكماله(8/443)
وإطفائه لكل ما عداه وإحراقه. ولما في «يأبى» من معنى الجحد دخل عليه الاستثناء، أي إنه يأبى كل حالة إلا حالة إتمامه نوره على التجدد والاستمرار {ولو كره الكافرون*} أي العريقون في الكفر فكيف بغيرهم.
ولما أخبر أنه معل لقوله ومكمل، ومبطل لقولهم مسفل، علل ذلك بما حاصله أنه شأن الملوك، وهو أنهم إذا برز لهم أمر شيء لم يرضوا أن يرده أحد فإن ذلك روح الملك الذي لا يجازي الطاعن فيه إلا بالهلك فقال: {هو} أي وحده {الذي أرسل رسوله} أي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بالهدى} أي لبيان الشافي بالمعجزات القولية والفعلية {ودين الحق} أي الكامل في بيانه وثباته كمالاً ظاهراً لكل عاقل؛ ثم زادهم جرأة على العدو بقوله معللاً لإرساله: {ليظهره} أي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدين - أدام الله ظهوره {على الدين كله} وساق ذلك كله مساق الجواب لمن كأنه قال: كيف نقاتلهم وهم في الكثرة والقوة على ما لا يخفي؟ فقال: لم لا تقاتلونهم وأنتم لا تعتمدون على أحد غير من كل شيء تحت قهره، وهم إنما يعتمدون على مخاليق مثلكم، كيف لا تجسرون عليهم وهم في قتالكم إنما يقاتلون(8/444)
ربهم الذي أنتم في طاعته؟ أم كيف لا تصادمونهم وهو الذي أمركم بقتالهم لينصركم ويظهر آياته؟ ولعل الختم بقوله: {ولو كره المشركون*} أبلغ لأن الكفر قد لا يكون فيه عناد، والشرك مبناه على العناد باتخاذ الأنداد، أي لا بد من نصركم خالف من خالف مجرد مخالفة أو ضم إلى ذلك العناد بالاستعانة بمن أراد.(8/445)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
ولما حقر أمرهم بتقسيم اعتمادهم على رؤسائهم، وحالهم معروف في أنه لا نفع عندهم ولا ضر، وأعلى أمر أهل الله باجتماعهم عليه وهو القادر على كل شيء، وكان الإقبال على الدنيا أعظم أمارة على الخذلان ولو أنه بحق فكيف إذا بالباطل! أقبل سبحانه وعز شأنه على أهل وده مستعطفاً متلطفاً منادياً باسم الإيمان الذي بنى أمره في أول هذا الكتاب على الإنفاق لا على التحصيل ولو كان بحق، فكيف إذا كان بباطل، ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون، منبهاً على سفه من ترك من لا يسأله على بذل الهدى والدعوة إلى دين الحق أجراً وهو سفير محض لا ينطق عن الهوى، ولم يعتقده رسولاً واتخذ مربوباً مثله وهو يأخذ ماله بالباطل ربواً، وذلك مقتض لتحقيرهم لا لمطلق تعظيمهم فضلاً عن الرتبة التي أنزلوهم بها وأهلوهم لها مع الترفع عليهم لقصد أكل أموالهم بالباطل فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بإيمان داعيهم من التكذيب ومما يؤول إليه {إن كثيراً من الأحبار}(8/445)
أي من علماء اليهود {والرهبان} أي من زهاد النصارى {ليأكلون} أي يتناولون، ولكنه عبر به لأنه معظم المراد من المال، وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأنهم يفعلون ما ينافي مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه {أموال الناس بالباطل} أي بأخذها بالرشى وأنواع التصيد بإظهار الزهد والمبالغة في التدين المستجلب لها بالنذور ونحوها فيكنزونها ولا ينفقونها في سبيل الله من أتاهم بها بالإقبال بقلوب عباده إليهم.
ولما أخبر عن إقبالهم على الدنيا، أتبعه الإخبار عن إعراضهم عن الآخرة فقال: {ويصدون} أي يحتالون في صرف من يأتيهم بتلك الأموال وغيرهم {عن سبيل الله} أي دين الملك الذي له الأمر كله بإبعادهم عنه بإخفاء الآيات الدالة عليه عنهم خوفاً على انقطاع دنياهم بزوال رئاستهم لو أقبل أولئك على الحق.
ولما كان أكثرهم يكنزون تلك الأموال، شرع سبحانه على مطلق الكنز، ففهم من باب الأولى الصد الذي هو سبب الجمع الذي هو سبب الكنز فقال: {والذين} أي يفعلون ذلك والحال أنهم يعلمون أن الذين {يكنزون} أي يجمعون تحت الأرض أو فوقها من قولهم للمجتمع اللحم: مكتنز {الذهب والفضة} أي منهم ومن غيرهم من غير تزكية.
ولما كان من المعلوم أنهما أجل ما الناس، وكان الكنز دالاً(8/446)
على المكاثرة فيهما، أعاد الضمير عليهما بما يدل على الأنواع الكثيرة فقال: {ولا ينفقونها} أي ينفقون ما وجب عليهم من هذه الأموال التي جمعوها من هذين النوعين مجتمعين أو منفردين، ولو ثنى لأوهم أن اجتماعها شرط للترهيب، وإنما أعاد الضمير عليها من غير ذكر «من» - وهي مرادة - لمزيد الترغيب في الإنفاق والترهيب من تركه، ويجوز أن يعود الضمير إلى الفضة لأن الذم على كنزها، والحاجة إليها لكثرتها أقل، فالذم على كنز الذهب من باب الأولى لأنه أعلى منها وأعز بخلاف الذم على كنز الذهب؛ وقال الحرالي في آل عمران: فأوقع الإنفاق عليهما ولم يخصه من حيث لم يكن، ولا ينفقون منها كما قال في المواشي [خذ من أموالهم] لأن هذين الجوهرين خواتم ينال بها أهل الدنيا منافعهم وقد صرف عنهم الانتفاع بهما فلم يكن لوجودهما فائدة إلا بإنفاقهما لأنهما صنما هذه الأمة، فكان كسرهما بإذهابهما -انتهى.
{في سبيل الله} أي الوجه الذي أمر الملك الأعلى بإنفاقها فيه {فبشرهم} أي نقول فيهم بسبب ذلك تهكماً بهم: بشرهم {بعذاب أليم*} عوضاً عما أرادوا من السرور بإنجاح المقاصد.
ولما كان السياق دالاًّ دلالة واضحة على أن هذا العذاب يحصل لهم ويقع بهم، فنصب بذلك قوله: {يوم يحمى} أي يحصل الإحماء وهو الإيقاد الشديد {عليها} أي الأموال التي جمعوها {في نار جهنم}(8/447)
أي التي لا يقاربها ناركم، وتلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى بذلك الفقراء وغيرهم من أهل الله لا سيما من منعه ما يجب له من النفقة {فتكوى بها} أي بهذه الأموال {جباههم} التي هي أشرف أعضائهم لأنها مجمع الوجوه والرؤوس وموضع الجاه الذي يجمع المال لأجله لتعبيسهم بها في وجوه الفقراء {وجنوبهم} التي يحوونه لملئها بالمآكل المشتهاة والمشارب المستلذة ولازورارهم بها عن الفقراء {وظهورهم} التي يحوونه لتقويتها وتحميلها بالملابس وتجليتها ولتوليتهم إياها إذا اجتمعوا مع الفقراء في مكان. ثم يقال لهم: {هذا ما كنزتم} وأشار إلى الحامل على الجمع المنافي للعقل بقوله: {لأنفسكم} أي لتنافسوا به وتلتذوا فلم تنفقوه فيما أمر الله {فذوقوا ما} أي وبال وعذاب ما {كنتم تكنزون*} أي تجددون جمعه على سبيل الاستمرار حريصين عليه، وأشار بفعل الكون إلى أنهم مجبولون على ذلك؛ روى البخاري في التفسير عن زيد بن وهب قال: مررت على أبي ذر رضي الله عنه بالربذة قلت: ما أنزلك بهذه الأرض قال: كنا بالشام فقرأت {والذين يكنزون الذهب والفضة} - الآية، قال(8/448)
معاوية: ماهذه فينا، ما هذه إلا في أهل الكتاب! قلت: إنها لفينا وفيهم؛ وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال، يعني فما أعطى صاحبه ما وجب عليه فيه فليس بكنز.
ولما تقدم كثير مما ينبني على التاريخ: الحج في غير موضع والأشهر وإتمام عهد من له مدة إلى مدته والزكاة والجزية، وختم ذلك بالكنز الذي لا يطلق شرعاً إلا على ما لم تؤد زكاته، وكان مشركو العرب - الذين تقدم الأمر بالبراءة منهم والتأذين بهذه الآيات يوم الحج الأكبر فيهم - قد أحدثوا في الأشهر - بالنسيء الذي أمروا أن ينادوا في الحج بإبطاله - ما غير السنين عن موضوعها الذي وضعها الله عليه، فضاهوا به فعل أهل الكتاب بالتدين بتحليل أكابرهم وتحريمهم كما ضاهى أولئك قول أهل الشرك في النبوة والأبوة، قال تعالى: {إن عدة الشهور} أي منتهى عدد شهور السنة {عند الله} أي في حكم وعلم الذي خلق الزمان وحده وهو الإله وحده فلا أمر لأحد معه {اثنا عشر شهراً} أي لا زيادة عليها ولا تغيير لها كما تفعلونه في النسيء {في كتاب الله} أي كلام الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، وحكمه الذي هو مجمع الهدى، فهو الحقيق بأن يكتب،(8/449)
وليست الشهور ثلاثة عشر ولا أكثر كما كان يفعل من أمرتكم بالبراءة منهم كائنين منة كانوا في النسيء {يوم} أي كان ذلك وثبت يوم {خلق السماوات والأرض} أي اللذين نشأ عنهما الزمان.
والمعنى أن الحكم بذلك كان قبل أن يخلق الزمان {منها} أي الشهور {أربعة حرم} أي بأعيانها لا بمجرد العدد {ذلك} أي الأمر العظيم والحكم العالي الرتبة في الإتقان خاصة {الدين القيم*} أي الذي لا عوج فيه ولا مدخل للعباد، وإنما هو بتقدير الله تعالى للقمر؛ روى البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال - يعني في حجة الوادع: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان» ولما بين الأمر سبب عنه قوله: {فلا تظلموا فيهن} أي الأشهر الحرم {أنفسكم} أي بسبب إنساء بعضها وتحريم غيره مكانة لتوافقوا العدد - لا العين - اللازم عنه إخلال كل منها بإيقاع الظلم فيه وتحريم كل من غيرها، قال قتادة: العمل الصالح والفاسد فيها أعظم منه في غيرها وإن كان ذلك في نفسه عظيماً فإن الله تعالى لعظم من أمره ما شاء؛ وقال أبو حيان ما حاصله: إن العرب تعيد الضمير على جمع الكثرة كالواحدة المؤنثة فلذا قال: «منها(8/450)
أربعة» أي من الشهور، وعلى جمع القلة لما لا يعقل بنون جمع المؤنث فلذا قال {فلا تظلموا فيهن} أي في الأربعة.
ولما كان إنساؤهم هو لتحل لهم المقاتلة على زعمهم قال: {وقاتلوا المشركين كافة} أي كلكم في ذلك سواء، في الائتلاف واجتماع الكلمة {كما يقاتلونكم كافة} أي كلهم في ذلك سواء وذلك الحكم في جميع السنة، لا أنهاكم عن قتالهم في شهر منها، فأنتم لا تحتاجون إلى تغيير حكمي فيها لقتال ولا غيره إن اتقيتم الله، فلا تخافوهم وإن زادت جموعهم وتضاعفت قواهم لأن الله يكون معكم {واعلموا أن الله} أي الذي له جميع العظمة معكم، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف تعليقاً للحكم به وتعميماً فقال: {مع المتقين*} جميعهم، وهم الذين يثبتون تقواهم على ما شرعه لهم، لا على النسيء ونحوه، ومن كان الله معه نصر لا محالة.(8/451)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
ولما فهم من هذا إبطال النسيء لأنه فعل أهل الجاهلية فلا تقوى فيه، كان كأنه قيل: أفما في النسيء تقوى فإن سببه إنما هو الخوف من انتهاك حرمة الله بالقتال في الشهر الذي حرمه؟ وذلك أنهم كانوا أصحاب غارات وحروب، وكانوا يحترمون الأشهر الحرم عن القتال حتى لو رأى الإنسان قاتل أبيه لا مانع منه لم يعرض له، فكان إذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم تركه، وكان يشق عليهم ترك(8/451)
ذلك ثلاثة أشهر متوالية، فجعلوا النسيء لذلك، فقيل تصريحاً بما أفهمه ما مضى: ليس فيه شيء من ذلك: {إنما النسيء} أي تأخير الشهر إلى شهر آخر على أنه مصدر نسأ نسيئاً - إذا أخره، أو هو اسم مفعول، أي الشهر الذي تؤخر العرب حرمته من الأشهر الحرم عن وقتها {زيادة في الكفر} أي لأنه على خلاف ما شرعه الله، ستر تحريم ما أظهر الله تحريمه.
ولما بين ما في النسيء من القباحة، تحرر أنهم وقعوا على ضد مرادهم فإنهم كانوا لو قاتلوا في الشهر الحرام قاتلوا وهم معتقدون الحرمة خائفون عاقبتها فكانوا غير خارجين عن دائرة التقوى بالكلية، فإذا هم بتحليله قد صاروا خارجين عن دائرتها بمراحل لارتكابهم فيه كل عظيمة مع الأمن لاعتقاد الحل بتحليل ذلك الذي اعتقدوه رباُ، فكان يقول: إني لا أجاب ولا أعاب، وإنه لا مراد لقضائي، وإني حللت المحرم وحرمت صفراً - إلى غير ذلك من الكلام الذي لايليق إلا بالإله؛ وذلك الذي معنى قوله تعالى بياناً لما قبله: {يضل به} أي بهذا التأخير الذي هو النسيء {الذين كفروا} أي يحصل لهم بذلك ضلال عما شرعه الله -(8/452)
هذا على قراءة الجماعة والمعنى على قراءة حمزة والكسائي وحفص - بالبناء للمفعول: يضلهم مضل من قبل الله، وعلى قراءة يعقوب - بالضم: يضلهم الله؛ ثم بين ضلالهم بقوله: {يحلونه} أي ذلك الشهر، وعبر عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة إشارة إلى أنهم يفعلونه ولو لم يضطرهم إلى ذلك جدب سنة ولا عض زمان، بل بمجرد التشهي فقال: {عاماً ويحرمونه عاماً} هكذا دائماً كلما أرادوا. وليس المراد أنهم كل سنة يفعلون ذلك من غير إجلال لسنة من السنين، وهذا الفعل نسخ منهم مع أنهم يجعلون النسخ من معايب الدين {ليواطئوا} أي يوافقوا {عدة ما حرم الله} أي المحيط بالجلال والإكرام في كون الأشهر الحرم أربعة {فيحلوا} أي فيتسبب عن هذا الفعل أن يحلوا {ما حرم الله} أي الملك الأعظم منها كلها، فلا يدع لهم هذا الفعل شهراً إلا انتهكوا حرمته فأرادوا بذلك عدم انتهاك الحرمة فإذا هم لم يدعوا حرمة إلا انتهكوها، فما أبعده من ضلال!
ولما انهتكت بهذا البيان قباحة فعلهم، كان كأنه قيل: إن هذا لعجب! ما حملهم على ذلك؟ فقيل: {زين} أي زين مزين، وقرىء شاذاً بإسناد الفعل إلى الله {لهم سوء أعمالهم} أي حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن فضلوا ولم يهتدوا، فعل الله بهم ذلك لما علم من طبعهم على الكفر فلم يهدهم {والله} أي الذي له صفات الكمال {لا يهدي} أي يخلق الهداية في القلوب {القوم الكافرين*} أي(8/453)
الذي طبعهم على الكفر فهم عريقون فيه لا ينفكون عنه؛ والنسيء - قال في القاموس -: الاسم من نسأ الشيء بمعنى زجره وساقه وأخره، قال: وشهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية فنهى الله عز وجل عنه؛ وقال ابن الأثير في النهاية؛ والنسيء فعول بمعنى مفعول، وقال ابن فارس في المجمل: والنسيء في كتاب الله التأخير، وكانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء! فيقولون: أنسئنا شهراً، اي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر - انتهى.
ومادة نسأ تدور على التغريب، وسبب فعلهم هذا أنهم كانوا ربما أرادوا قتالاً في شهر حرام فيحلونه، ويحرمون مكانه شهراً من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر؛ قال ابن فارس: وذلك أنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها، لأن معاشهم في الغارة فيحل لهم الكناني المحرم - انتهى. وكان النسأة من بني فقيم من كنانة، وكان أول من فعل ذلك منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد ابن فقيم، وآخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة. نسأ أربعين سنة، كانت(8/454)
العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فحرم الأشهر الحرم الأربعة، فإذا أرادوا أن يحل منها شيئاً أحل المحرم فأحلوه، وحرم مكانه صفراً فحرموه، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم، فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال: اللهم إني قد أحللت لهم أحد الصفرين الصفر الأول، ونسأت الآخر للعام المقبل - ذكر ذلك أهل السير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول من نسأ عمرو بن لحي.
وتحقيق معنى ما كانت العرب تفعله واختلاف أسماء الشهور به حتى يوجب دوران السنين فلا تصادف أسماء الشهور مسمياتها إلا الحين بعد الحين عسر قل من اتى فيه بما يتضح به قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع كما مضى «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» وها أنا أذكر فيه ما لا يبقى بعده لبس إن شاء الله تعالى، فمعنى قوله: ونسأت الآخر للعام المقبل، أنه إذا أحل المحرم وسماه صفراً ابتدأ السنة بعده بالمحرم ثم صفر إلى آخرها، فيصير بين صفر وذي الحجة الذي وقع النسيء فيه شهران، وقد كان ينبغي ان يكون بينهما شهر واحد، فأخر هذا الذي ينبغي إلى العام المقبل، فالمعنى: وأخرت الصفر الآخر عن محله إلى العام المقبل فإذا جاء العام المقبل انتهى تأخره، وإذا انتهى رجع إلى محله، ويمكن أن يتنزل على هذا قول أبي عبيد(8/455)
في غريب الحديث، قال بعد النصف من الجزء الثالث منه في شرح الاستدارة: إن بدء ذلك - والله أعلم - أن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم، فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير حربهم فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم، وهذا هو النسيء الذي قال الله {إنما النسيء} [براءة: 37] الآية، وكان ذلك في كنانة هم الذين كانوا ينسؤون الشهور على العرب، والنسيء هو التأخير، فكانوا يمكثون بذلك زماناً يحرمون صفراً وهم يريدون بذلك المحرم ويقولون: هو أحد الصفرين، وقد تأول بعض الناس قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا صفر» على هذا، ثم يحتاجون أيضاً إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله ثم يحتاجون إلى مثله ثم كذلك، فكذلك يتدافع شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به، وذلك بعد دهر طويل، فذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» يقول: رجعت الأشهر الحرم إلى موضعها وبطل النسيء، وقد زعم بعض الناس أنهم كانوا(8/456)
يستحلون المحرم عاماً، فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه، قال أبو عبيد: الأول أحب إليّ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن الزمان قد استدار» وليس في التفسير الأخير استدارة، وعلى هذا التفسير الذي فسرناه قد يكون قوله {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} مصدقاً له لأنهم إذا حرموا العام المحرم وفي قابل صفراً ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضاً أحلوه وحرموا الذي بعده، فهذا تأويل قوله في التفسير، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً. وقال أبو حيان في النهر ما حاصله: كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات، فيشق عليهم توالي الأشهر الحرم، وكان بنو فقيم أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم، فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ثم خلفه ابنه قلع ثم خلفه ابنه أمية ثم خلفه ابنه عوف ثم ابنه جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام، كانوا إذا فرغوا من حجهم جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهراً، فيحل المحرم، ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ويسمون ذلك الصفر المحرم ويسمون ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول - وهكذا سائر الشهور، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم الذي هو في الحقيقة صفر؛ وقال البغوي: قال مجاهد: كانوا يحجون في كل شهر عامين،(8/457)
فحجوا في ذي الحجة عامين وحجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذلك في الشهور، فوافقت حجة أبي بكر السنة الثانية من ذي القعدة، ثم حج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العام المقبل حجة الوادع، فوافق حجه أشهر الحج المشروع وهو ذو الحجة، وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله {إنما النسيء زيادة في الكفر} قال: فرض الله الحج في ذي الحجة، فكان المشركون يسمون الأشهر: ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذا القعدة وذا الحجة، ثم يحجون فيه مرة أخرى، ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه، فيسمونه - أحسبه قال - المحرم صفر، ثم يسمون رجب بجمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان رمضان، ورمضان شوالاً.
ثم يسمون ذا القعدة شوالاً. ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة، ثم عادوا كمثل هذه الصفة فكانوا يحجون عامين في كل شهر حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة، ثم حج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجته التي حج، فوافق(8/458)
ذلك ذا الحجة، فلذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» وقال ابن إسحاق في السيرة؛ سألت ابن أبي نجيح عن قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال؛ كانت قريش يدخلون في كل سنة شهراً، وإنما كانوا يوافقون ذا الحجة كل اثنتي عشرة سنة مرة، فوفق الله عز وجل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجته التي حج ذا الحجة، فحج فيها فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» ، فقلت لابن أبي نجيح: فكيف بحجة أبي بكر وعتاب بن أسيد؟ فقال: على ما كان الناس يحجون عليه، ثم قال ابن أبي نجيح: كانوا يحجون في الحجة ثم العام المقبل في المحرم ثم صفر حتى يبلغوا اثنى عشر شهراً - انتهى.
وقوله هذا يوهم أن في حج أبي بكر وعتاب رضي الله عنهما اختلالاً، وتقدم عن المهدوي وغيره التصريح بأنه كان في ذي القعدة - وفيه نظر، لأن السنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه نودي فيها بتحريم النسيء وغيره من أمور الجاهلية، فلا شك أنه لم يكن في ذلك العام إنساء، ولما مضى من الشهر الذي حج فيه عشرة أشهر، وكان الحادي عشر وهو ذو القعدة سار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أواخره إلى الحج موافياً لهلال(8/459)
ذي الحجة، فلما وقف بعرفة أخبر أن الزمان قد استدار، فعلم قطعاً أن استدارته كانت في حجة أبي بكر، وكذا في سنة ثمان وهي السنة التي حج فيها عتاب بالمسلمين، وذلك لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يعتبرون حساب أهل الجاهلية لا نسأتهم ولا غير نسأتهم، لأنه يلزم من القول بأنهم اعتبروا أمر النسأة أنهم اعتبروا ما هو زيادة من الكفر، وهذا ما لا يقوله ذو مسكة، وقد تقدم النقل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل أبا بكر رضي الله عنه إلى الحج في أواخر ذي القعدة أو بعد انقضائه من سنة تسع، ووافاه العرب في ذي الحجة: الكفار وغيرهم، فوقع إعلامهم ببراءة في أيام الحج وأماكنه، فلو كان حصل في سنة عتاب اختلال في ذي القعدة بنسيء لكان ذو الحجة بحساب الكفار وهو المحرم بحساب الإسلام، فكان يتأخر مجيء الكفار للحج عن مجيء المسلمين، فثبت بهذا أيضاً أن حجه رضي الله عنه كان في ذي الحجة، فحفظ الله أهل الإسلام من أن يقع في حجهم اختلال في سنة من السنين، وما هي بأول نعمة عليهم - والله الموفق؛ وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي احمد المشهور بابن القاص من أكابر متقدمي أصحاب الشافعي رحمه الله في كتابه دلائل القبلة في باب معرفة عدد أيام السنة: فالسنة اثنا عشر شهراً بالأهلة، وربما كان الشهر ثلاثين وربما كان تسعاً وعشرين، فمبلغ السنة الهلالية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثماني(8/460)
ساعات وأربعة أخماس ساعة، وقالت الهند: السنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وست ساعات وخمس ساعة وجزء من أربعمائة جزء من ساعة، وذلك من دخول الشمس برأس الحمل إلى أن تدخل فيه من قابل، ففضل ما بين السنة الهلالية والسنة الشمسية عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمسا ساعة، فإذا زيدت عليها هذه الساعات والأيام استقام حسابه مع دوران الشمس، وكانت العرب تزيده في الجاهليه، وكان الذي أبدع لهم ذلك رجل من كنانة يقال له القلمس، وذلك أنه يجمع هذه الزيادة فإذا تمت شهراً زاده في السنة وجعل تلك السنة ثلاثة عشر شهراً، وسماه نسيئاً، ويحج بهم تلك السنة في المحرم، فأنزل الله تعالى {إنما النسيء زيادة في الكفر} فلما كانت السنة التي حج فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع وافق الحج في تلك السنة ذا الحجة لما أراد الله تعالى بإثبات الحج في تلك السنة، فخطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
«أيها الناس! ألا إن السنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق الله السماوات والأرض {منها أربعة حرم ذلك الدين القيم} » يعنى به الحساب القيم، فالحرم رجب جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فسمي ذلك الحج الأقوم، وقال الشاعر:
وأبطل ذو العرش النسي وقلمسا ... وفاز رسول الله بالحج الأقوم - انتهى
والقلمس بفتح اللام وتشديد الميم، فالنسيء في البيت متروك الهمز(8/461)
ليصح الوزن، والأقوم منقول حركة الهمزة، وقوله: إن علة النسيء التطبيق بين السنة الشمسية والقمرية - فيه نظر، والظاهر أن علته ما ذكر في السير من اضطرارهم إلى القتال، وأمر الاستدارة في كل من هذه الأقوال واضح الاستنارة، وليس المراد بها مصادفة كل فصل من فصول السنة لموضعه من الحر والبر، ومصادفة اسم كل شهر لمسماه بحسب اشتقاقه حتى يكون رمضان في شدة الحر مثلاً وكذلك غيره وإن كان الواقع أن الأمر كان في هذه الحجة كذلك، لما تقدم من أن غزوة تبوك كان ابتداؤها في شهر رجب، وكان ذلك كما تقدم في شدة الحر وحين طابت الثمار، وإنما المراد الأعظم بالاستدارة مصادفة اسم كل شهر لمسماه لا لمسمى شهر آخر لأجل الدوران بالنسيء بدليل أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ذكر إلا لأجله، فقال في بعض طرق حديث جابر الطويل رضي الله عنه: «إن النسيء زيادة في الكفر، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً» فانظر إلى تعقيبه بحصر الأشهر في الاثنى عشر نفياً لجعلهم إياها سنة النسيء ثلاثة عشر شهراً، وقال: منها أربعة حرم، وعينها وقال: أيّ شهر هذا؟ فلما سكتوا قال: ذو الحجة شهر حرام، كل هذا لبيان أن المراد بالاستدارة رجوع كل شهر عما غيره أهل الجاهلية إلى موضعه الذي وضعه الله به موافقاً اسمه لمسماه، وجعلت أشهرنا هلالية مع المنع من النسيء لتحصل الاستدارة فيحصل بسببها كل عبادة تعبدنا بها(8/462)
من صوم وعيد وحج وغيره في كل فصل من فصول السنة بخلاف من شهوره بالحساب، فإن عباداتهم خاصة بوقت من السنة لا تتعداه - والله الموافق له، وقال القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره، حثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس قال؛ الشهر الذي انتزعه الله من الشيطان المحرم.
والحاصل أنه لا شك في أن النسيء لم يكن قط إلا للمحرم لما تقدم، وان الحج لم يكن قط في جاهلية ولا إسلام إلا في شهر يسمى ذا الحجة لما قاله نقلة اللغة والحديث والأخبار، قال ابن الأثير في النهاية ونشوان اليمني في شمس العلوم والقزاز في ديوانه وابن مكتوم في ترتيب العباب والمحكم: ذو الحجة بالكسر: شهر الحج، زاد المحكم: سمي بذلك للحج، وقال القزاز؛ إن الفتح فيه أشهر، وفي النهاية: يوم التروية هو الثامن من ذي الحجة، سمى به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده، أي يستقون ويسقون؛ وقال المجد في القاموس: يوم عرفة التاسع(8/463)
من ذي الحجة، وفي كتاب أسواق العرب لأبي المنذر هشام بن محمد الكلبي رواية أبي سعيد السكري أن عكاظ كانت من أعظم أسواق العرب. فإذا أهل أهلها هلال ذي الحجة ساروا بأجمعهم إلى ذي المجاز وهي قريب من عكاظ، وعكاظ في أعلى نجد، فأقاموا بها حتى التروية، ووافاهم بمكة حجاج العرب ورؤوسهم ممن أراد الحج بمن لم يكن شهد تلك الأسواق. قال الأزرقي في تاريخ مكة: فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا بها ثماني ليال أسواقهم قائمة، ثم يخرجون يوم التروية في ذي المجاز إلى عرفة فيتروون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز، وإنما سمي يوم التروية لترويهم الماء بذي المجاز، ينادي بعضهم بعضاً: ترووا من الماء، إنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة يومئذ، ثم ذكر أنه لا يحضر ذلك إلا التجار، قال: ومن لم يكن له تجارة فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية. وروى البيهقي في دلائل النبوة بسندة عن عروة وموسى بن عقبة - فرقهما - قالا: وأهل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعمرة من الجعرانة في ذي القعدة، ثم أسند عن ابن إسحاق انه قال: فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمرته انصرف(8/464)
راجعاً إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم، فكانت عمرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذي القعدة أو في الحجة، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب يحج عليه، وحج تلك السنة عتاب بن أسيد سنة ثمان، وحديث اعتماره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذي العقدة رواه الشيخان ومضى على ما كانت العرب من الطواف عراة ونحوه؛ وذكره الواقدي عن مشايخ قالوا: وانتهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلاً فأحرم - فذكرعمرته ثم قال: واستعمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين، وأقام للناس الحج عتاب بن أسيد رضي الله عنه عن تلك السنة وهي سنة ثمان، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مدتهم، وقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة يوم الجمعه لثلاث بقين من ذي القعدة، قال الواقدي: فأقام بقية ذي القعدة وذا الحجة، فلما رأى هلال المحرم بعث المصدقين - انتهى.
إذا تقرر هذا علم أن الحج لم يكن قط إلا في شهر يسمونه ذا الحجة، وهو مما لا يدور(8/465)
في خَلَد ولا يقع في وهم فيه تردد، ولا يحتاج إلى تطويل بذكره ولا إطناب في أمره، وتارة يوافق اسمه مسماه وتارة لا يوافقه لأجل النسيء، وعلم أيضاً أن حج عتاب بن أسيد كان في ذي الحجة بعد رجوع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجعرانة إلى المدينة الشريفة، أنه ما تأخر عن ذي الحجة إلا لنقل، وأن حج أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع كان ذي الحجة لذلك ولما تقدم من أن سفره له من المدينة الشريفة كان آخر ذي القعدة أو أول ذي الحجة ولقولهم: إن الأربعة الأشهر التي ضربت للمشركين من يوم النحر ولقولهم: إن الأربعة الأشهر كان آخرها عاشر ربيع الآخر، وعلم أن ذا الحجة تلك السنة لو كان وافق مسمى ذي القعدة لم يقع ذو الحجة سنة عشر التي حج فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موضعه الذي وضعه الله به إلا بأن تكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً بنسيء أو غيره، وكل من الأمرين باطل، أما الأول فلأن الله تعالى أبطل النسيء في تلك السنة فيما أبطله من أمور الجاهلية في هذه السورة، وأرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمناداة بها كما مر، وأما الثاني فهو أمر خارق للعادة لم يكن مثله من حين خلق الله السماوات والأرض، والخارق مما تتوفر الدواعي [على] نقله، ولا ناقل لهذا أصلاً فبطل، وإذا بطل ثبت أن سنة عشر كانت اثني عشر(8/466)
شهراً ولا سيما بعد إنزال الله تعالى في ذلك ما أنزل في هذه السورة، وإذا كان الأمر كذلك كان الشهر الذي وقف فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موضع الشهر الذي وقف فيه الصديق رضي الله عنه سواء بسواء، وقد ثبت أن الزمان كان فيه قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فثبت من غير مرية أن شهر الصديق رضي الله عنه كذلك كان، وثبت أيضاً أن سنة عتاب ابن أسيد رضي الله عنه كذلك كانت بما قدمتُ من أنه لم يكن فيها نسيء لتوافق حج المسلمين والمشركين في سنة تسع.
فدل ذلك على أنها كانت اثنى عشر شهراً، فكان ذو الحجة فيها في موضعه الذي وضعه الله به كما كانت سنة تسع، بل ظاهر قوله أبي عبيد: فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه - كما مضى - أن الله حفظ زمن الإسلام كله عن نسيء، وهو الذي اعتقده، وقد لاح بذلك أن السبب في قول من قال: إن حج الصديق رضي الله عنه وافق ذا القعدة، أنه فهم من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن الزمان قد استدار» أن الاستدارة لم تكن إلا في تلك السنة وليس ذلك مدلول هذا التركيب ما لا يخفي والله الوفق: ثم وجدت النقل الصريح في زوائد معجمي الطبراني: الأوسط والأصغر للحافظ نور الدين الهيثمي بمثل ما فهمته، قال في تفسير براءة: حدثنا إبراهيم - يعني ابن هشام - البغوي ثنا الصلت بن مسعود الجحدري ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ثنا دواد بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يعني(8/467)
عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كانت العرب يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين ولا يصيبون الحج إلا في كل ست وعشرين سنة مرة، وهو النسيء الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، فلما كان عام حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس وافق ذلك العام الحج فسماه الله الحج الأكبر، ثم حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» لم يروه عن عمرو إلا داود تفرد به الصلت - انتهى. وهو حديث حسن إن شاء الله تعالى، ثم رأيت الهيثمي في مجمع الزوائد قال: رجاله ثقات، فأكد ذلك الجزم بما فهمت من أنه حسن، وإنما أطلت هذا بما قد لا يحتاج في إيضاحه إليه لكثرة جدال المجادلين المعاندين ومحال المماحلين الجامدين.(8/468)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
ولما أوعز سبحانه في أمر الجهاد، وأزاح جميع عللهم وبين أن حسنه لا يختص به شهر دون شهر وأن بعضهم كان يحل لهم ويحرم فيتبعونه بما يؤدي إلى تحريم الشهر الحلال وتحليل الشهر الحرام بالقتال فيه، عاتبهم الله سبحانه على تخلفهم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآمر لهم بالنفر في غزوة تبوك عن أمره سبحانه، وكان ابتداؤها في شهر رجب سنة تسع، فقال تعالى على سبيل الاستعطاف والتذكير بنعمة الإيمان(8/468)
بعد ختم التي قبلها بأنه لا يهدي الكافرين - الذي يعم الحرب وغيره الموجب للجرأة عليهم [لأن لا هداية له أعمى، والأعمى لا يخشى] : {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك {ما لكم} أي ما الذي يحصل لكم في أنكم {إذا قيل لكم} أي من أيّ قائل كان {انفروا} أي اخرجوا مسرعين بجد ونشاط جماعات ووحداناً إمداداً لحزب الله ونصراً لدينه تصديقاً لدعواكم الإيمان، والنفر: مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاج على ذلك {في سبيل الله} أي بسبب تسهيل الطريق إلى الملك الذي له جميع صفات الكمال، وقال ابو حيان: بني «قيل» للمفعول والقائل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يذكر إغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره إذ أخلد إلى الهوينا والدعة من أخلد وخالف أمره - انتهى. {اثاقلتم} أي تثاقلتم تثاقلاً عظيماً، وفيه ما لم يذكروا له سبباً ظاهراً بما أشار إليه الإدغام إخلاداً وميلاً {إلى الأرض} أي لبرد ظلالها وطيب هوائها ونضج ثمارها، فكنتم أرضيين في سفول الهمم، لا سمائيين بطهارة الشيم.
ولما لم يكن - في الأسباب التي تقدم أنها كانت تحمل على التباطؤ عن الجهاد - ما يحتمل القيام بهم في هذه الغزوة إلا الخوف من القتل والميل إلى الأموال الحاضرة وثوقاً بها والإعراض عن الغنى الموعود به(8/469)
الذي ربما يلزم من الإعراض عنه التكذيب، فيؤدي إلى خسارة الآخر، هذا مع ما يلزم على ذلك - ولا بد - من الزهد في الأجر المثمر لسعادة العقبى بهذا الشيء الخسيس؛ قال مبيناً خسة ما أخلدوا إليه تزهيداً فيه وشرف ما أعرضوا عنه ترغيباً منبهاً على أن ترك الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر عظيم منكراً على من تثاقل موبخاً لهم: {أرضيتم بالحياة الدنيا} أي بالخفض والدعة في الدار الدنية الغارة {من الآخرة} أي الفاخرة الباقية؛ قال أبو حيان: و «من» تظافرت أقوال المفسرين أنها بمعنى بدل، وأصحابنا لا يثبتون أن من تكون للبدل - انتهى. والذي يظهر لي أنهم لم يريدوا أنها موضوعة للبدل، بل إنه يطلق عليها لما قد يلزمها في مثل هذه العبارة من ترك ما بعدها لما قبلها فإنها لابتداء الغاية، فإذا قلت: رضيت بكذا من زيد، كان المعنى أنك أخذت ذلك أخذاً مبتدئاً منه غير ملتفت إلى ما عداه، فكأنك جعلت ذلك بدل كل شيء يقدر أنه ينالك منه من غير ذلك المأخوذ.
ولما كانوا قد أعطوا الآخرة على الأتباع فاستبدلوا به الامتناع، كان إقبالهم على الدنيا كأنه مبتدىء مما كانوا قد توطنوه من الآخرة مع الإعراض عنها، فكأنه قيل: أرضيتم بالميل إلى الدنيا من الآخرة؟ ويؤيد ما فهمته أن العلامة علم الدين أبا محمد القاسم بن الموفق الأندلسي ذكر في شرح الجزولية(8/470)
انهم عدوا ل {من} خمسة معان كلها ترجع إلى ابتداء الغاية عند المحققين، وبين كيفية ذلك حتى البيانية، فمعنى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30] الذي ابتداؤه من الأوثان، لأن الرجس جامع للأوثان وغيرها.
ولما كان الاستفهام إنكارياً كان معناه النهي، فكان تقدير: لا ترضوا بها فإن ذلك أسفه رأي وأفسده! فقال تعالى معللاً لهذا النهي: {فما} أي بسبب أنه ما {متاع الحياة الدنيا في} أي مغموراً في جنب {الآخرة إلا قليل*} والذي يندب هم المتجر ويدعي البصر به ويحاذر الخلل فيه يعد فاعل ذلك سفيهاً.
ولما كان طول الاستعطاف ربما كان مدعاة للخلاف وترك الإنصاف، توعدهم بقوله: {إلا تنفروا} أي في سبيله {يعذبكم} أي على ذلك {عذاباً أليماً*} أي في الدارين {ويستبدل} أي يوجد بدلاً منكم {قوماً غيركم} أي ذوي بأس ونجدة مخالفين لكم في الخلال التي كانت سبباً للاستبدال لولايته ونصر دينه.
ولما هددهم بما يضرهم، أخبرهم أنهم لا يضرون بفتورهم غير أنفسهم فقال: {ولا تضروه} أي الله ورسوله {شيئاً} لأنه متم أمره ومنجر وعده ومظهر دينه؛ ولما أثبت بذلك قدرته على ضره لهم وقصورهم عن الوصول إلى ضره، كان التقدير: لأنه قادر على نصر دينه(8/471)
ونبيه بغيركم، فعطف عليه تعميماً لقدرته ترهيباً من عظيم سطوته قوله: {والله} أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة {على كل شيء قدير*} .
ولما وصف سبحانه نفسه الأقدس بما هو له أهل من شمول القدرة وعظيم البأس والقوة، أتبع ذلك بدليل يتضمن أن المستنفر لهم - وهو نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير محتاج إليه ومتوقف نصره عليهم كما لم يحتج إليهم - بحياطة القادر له - فيما مضى من الهجر التي ذكرها، وأن نفع ذلك إنما هو لهم باستجلاب ما عدوه واستدفاع ما أوعدوه في الدارين المشار إلى ذلك كله بقوله {فما متاع الحياة الدنيا} الآية وقوله {إلا تنفروا} - الآية، فقال: {إلا تنصروه} أي أنتم طاعة لأمر الله، والضمير للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما على طريق الاستخدام من سبيل الله لأنه الموضح له الداعي إليه، أو لتقدم اسمه الشريف إضماراً في قوله {إذا قيل لكم} أي من رسول الله صلى عليه وسلم استنصاراً منه لكم، وإظهاراً في قوله تعالى
{هو الذي أرسل رسوله} [التوبة: 34] الاية وقوة ما في كل جملة من المناسبة المقتضية لأن تعانق التي بعدها ولا تنفك عنها قصر الفصل بين الظاهر وضميره، وذكر الغاز والصاحب أوضح الأمر. وذلك أنه سبحانه لما عابهم باتخاذ الرؤساء أرباباً اشتدت(8/472)
الحاجة إلى بيان أنهم في البعد عن ذلك على غاية لا تخفى على متأمل، فوصفهم بالأكل المستلزم للجسمية المستلزمة للحاجة، وبأن مأكولهم أموال غيرهم باطلاً، وبأنهم يغشونهم لصدهم إياهم عن السبيل التي لا يخفى حسنها على من له أدنى نظر؛ ولما كان ذلك شديد الإثارة لتشوف النفوس إلى السؤال عن العرب: هل فعلوا فعلهم واتبعوا سنتهم؟ أجاب بأن عملهم في تحليل النسأة لهم بعض الأشهر الحرم وتحريم بعض أشهر الحل والزيادة في عدة أشهر السنة كعملهم سواء.
ولما أمر بقتال المشركين كافة وحثهم على التقوى، وكان بعضهم قد توانى في ذلك، اشتد اقتضاء الحال لمعاتبة على التثاقل عن النفر، فلما تم ذلك في هذا الأسلوب البديع والطراز الرفيع حث على نصر الرسول الذي أرسله ليظهره على الدين كله فقال جواباً للشرط: {فقد} أي إن لم يتجدد منكم له نصر فإن الله قادر على نصره وسينصره ويغنيه عنكم ولا تضرون إلا أنفسكم فقد {نصره الله} أي الملك الأعظم وحده والأمر في غاية الشدة، ولا شك عند عاقل أن المستقبل عنده كالماضي {إذ} أي حين {أخرجه الذين} وعبر بالماضي لأن فيهم من أسلم بعد ذلك فقال: {كفروا} أي من مكة وهم في غاية التمالؤ عليه حين شاوروا في قتله أو إخراجه او إثباته، فكان ذلك سبباً لإذن الله له في الخروج من بينهم حال كونه {ثاني اثنين} أي أحدهما أبو بكر رضي الله عنه ولا ثالث لهما ينصرهما إلا الله {إذ هما في الغار}(8/473)
أي غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لمّا كمنا به ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب، وذلك قبل أن يصلا إليكم أو يعولا في النصر عليكم {إذ يقول} أي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لصاحبه} أي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء {لا تحزن} والحزن: هم غليظ بتوجع يرق له القلب، حزنه وأحزنه بمعنى؛ وقال في القاموس: أو أحزنه: جعله حزيناً، وحزّنه: جعل فيه حزناً؛ ثم علل نهيه لصاحبه بقوله معبراً بالاسم الأعظم مستحضراً لجميع ما جمعه من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تخضع دونها صلاب الرقاب وتندك بعظمتها شوامخ الجبال الصلاب {إن الله} أي الذي له الأمر كله {معنا} أي بالعون والنصرة، وهو كاف لكل مهم، قوي على دفع ملم، فالذي تولى نصره بالحراسة في ذلك الزمان كان قادراً على أن يأمر الجنود التي أيده بها أن تهلك الكفار في كل موطن من غير أن يكون لكم في ذلك أمر أو يحصل لكم به أخر، وكما أنه كان موجوداً في ذلك الزمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى هو على ذلك في هذا الزمان وكل زمان، فتبين كالشمس أن النفع في ذلك إنما هو خاص بكم، وأنه سبحانه ما رتب هذا كله على هذا المنوال إلا لفوزكم، وفي هذه الآية من التنويه بمقدار الصديق وتقدمه وسابقته في الإسلام وعلو(8/474)
منصبه وفخامة أمره ما لا يعلمه إلا الذي أعطاه إياه؛ قال أبو حيان وغيره: قال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه كفر لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة.
ولما
كان
رضي
الله
عنه
نافذ البصيرة في المعارف الإلهية، راسخ القدم في ذلك المقام لذلك لم يتلعثم من أول الأمر في عناد جميع العباد بخاع الأنداد، ثم تدرب فيه مترقياً لثلاث عشرة سنة، وكان الذي به من القلق إنما هو الخوف من أن يحصل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذى فيدركه من الحزن لذلك ما يهلكه قبل سروره بظهور الدين وقمع المعتدين، ولم يكن جنباً ولا سوء ظن، لما كان ذلك كذلك كان رضي الله عنه حقيقاً لحصول السكينة له عند سماع اسم الشريف الأعظم الدال على ذلك المقام المذكر بتلك العظمة التي يتلاشى عندها كل عظيم، ويتصاغر في جنبها كل كبير، ولذلك ذكر هذا الاسم الأعظم وقدم، وأشرك الصديق في المعية وبدأ بالنهي عن الحزن لأنه المقصود بالذات ومابعده علة له. وأما بنو إسرائيل فلم يكن عندهم من المعرفة إلا ما شاهدوا من إحسانه تعالى إلى موسى عليه السلام بإظهار تلك الآيات على يده حتى استنقذهم بها مما كانوا فيه، ومنع(8/475)
موسى عليه السلام مع وحدته من سطوات فرعون على عظمته وما كان يواجهه به من المكروه، فلما رأوا جموعه مقبلة كان حالهم مقتضياً للسؤال عن ذلك المحسن بإظهار تلك الآيات: هل هو مع موسى عليه السلام على ما كان عليه فيمنعهم ام لا؟ فلذلك قد إنكار الإدراك ثم إثبات المعية على سيبل الخصوص به، وعبر عن الإله باسم الرب الدال على ذلك الإحسان المذكر به فقال {كلا إن معي ربي} [الشعراء: 62] فكأن قيل: ماذا يفعل والبحر أمامنا والعدو وراءنا؟ فقال «سيهدين» أي إلى ما أفعل، يعرف ذلك من كان متضلعاً بالسير وقصص بني إسرائيل على ما ذكرتها في الأعراف عن التوارة، مستحضراً لأن الصديق رضي الله عنه كان في صعودهما إلى الغار يذكر الرصد فيتقدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليفتديه بنفسه ثم يذكر الطلب فيتأخر ثم يذكر ما عن اليمين والشمال فينتقل إليهما، ويقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن قتلت أنا فأنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، وأنه كان عارفاً بأن الله تعالى تكفل بإظفار الدين على يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتضمن لحراسة نفسه الشريفة قبل ذلك، ولذلك كان به في هذا اليوم من القلق ما ذكر، وكان عند وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثبت الناس، ولذلك أتى بالفاء المعقبة في قوله: {فأنزل الله} أي الملك الأعظم {سكينته}(8/476)
أي السكون المبالغ فيه المؤثر للنسك {عليه} أي الصديق - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما - لأن السكينة لم تفارق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم عطف على نصره الله قوله: {وأيده} أي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واختلاف الضمائر هنا لا يضر لأنه غير مشتبه {بجنود لم تروها} أي من الملائكة الكرام {وجعل كلمة} أي دعوة {الذين كفروا} أي أوقعوا الكفر من آمن منهم بعد ذلك وغيره {السفلى} فخيّب سعيهم ورد كيدهم، ثم ابتدأ الإخبار بما له سبحانه على الدوام من غير انقطاع أصلاً في وقت من الأوقات فقال: {وكلمة الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء، ونصبها يعقوب عطفاً على ما سبق {هي العليا} أي وحدها، لايكون إلا ما يشاءه دائماً أبداً، فالله قادر على ذلك {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {عزيز} أي مطلقاً يغلب كل شيء من ذلك وغيره {حكيم*} لا يمكن أن ينقض شيء من مراده لما ينصب من الأسباب التي لا مطمع لأحد في مقاومتها فلا محيص عن نفوذها.
ولما بلغت هذه الماعظ من القلوب الواعية مبالغاً هيأها به للقبول، أقبل عليها سبحانه بالأمر فقال: {انفروا خفافاً وثقالاً} والمراد بالخفة كل ما يكون سبباً لسهولة الجهاد والنشاط إليه، وبالثقل كل ما يحمل على الإبطاء عنه؛ وقال أبو حيان: والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالأعمى(8/477)
ونحوه فخارج عن هذا - انتهى. قال البغوي: قال الزهري: خرج سعيد بن المسيب رحمه الله الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع؛ وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده بسند صحيح عن أنس أن أبا طلحة رضي الله عنهما قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال: لا أرى ربي يستنفرني شاباً وشيخاً! جهزوني، فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فما تغير، {وجاهدوا} أي أوقعوا جهدكم ليقع جهد الكفار.
ولما كانت هذه الآية في سياق المعاتبة لمن تثاقل إلى الأرض عن الجهاد عند الاستنفار في غزوة تبوك، وكان سبب التثاقل ما كان في ذلك ما كان في ذلك الوقت من العسرة في المال والشدة بالحر وما كان من طيب الظلال في أراضي الجنان وقت الأخذ في استواء الثمار - كما هو مشهور في السير؛ اقتضى المقام هنا تقديم المال والنفس بخلاف ما مضى فإن الكلام كان في المفاضلة بين الجهاد في سبيل الله وخدمة البيت ومن يحجه في هذه السورة التي صادف وقت نزولها بعد مواطن الجهاد وطول المفارقة للأموال، والأولاد وقدم المال لأن النظر إليه من وجهين:(8/478)
قلته، ومحبة الإقامة في الحدائق أيثاراً للتمتع بها وخوفاً من ضياعها مع أن بها قوام الأنفس، فصار النظر إليها هو الحامل على الشح بالأنفس فقال تعالى: {بأموالكم وأنفسكم} أي بهما معاً على ما أمكنكم أو بأحدهما {في سبيل الله} أي الملك الأعلى أي حتى لا يبقى منه مانع {ذلكم} أي الأمر العظيم {خير} أي في نفسه حاصل {لكم} أي خاص بكم، ويجوز أن يكون أفعل تفضيل بمعنى أن عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كائناً ما كان، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن سأله: هل يمكن بلوغ درجة المجاهد؟ فقال: هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ وختم الآية بقوله: {إن كنتم تعلمون*} إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان عاماً فإنما ينتفع به ذوو الأذهان الصافية والمعالم الوافية، فإن العلم - ولا يعد علماً إلا النافع - يحث على العمل وعلى إحسانه باخلاص النية وتصحيح المقاصد وتقوية العزم وغير ذلك وضده يورث ضده.(8/479)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
ولما كان هذا العتاب مؤذناً بأن فيهم من تباطأ عن الجهاد اشتغالاً بنحو الأموال والأولاد، وكان ما اشتملت عليه هذه الآيات من الأوامر والزواجر والمواعظ جدير: بأن يخفف كل متثاقل وينشط كل متكاسل، تشوفت النفوس إلى ما اتفق بعد ذلك فأعلم سبحانه به في أساليب البلاغة المخبرة عن أحوال القاعدين وأقاصيص الجامدين المفهمة ان هناك من(8/479)
غلب عليه الشقاء فلم ينتفع بالمواعظ، فالتفت من لطف الإقبال إلى تبكيت المتثاقلين بأسلوب الإعراض المؤذن الغضب المحقق للسخط المبين لفضائحهم المبعثر لقبائحهم المخرج لهم ما دخلوا فيه من عموم الدعاء باسم الإيمان فقال: {لو كان} أي ما تدعوا إليه {عرضاً} أي متاعاً دنيوياً {قريباً} أي سهل التناول {وسفراً قاصداً} أي وسطاً عدلاً مقارباً {لا تبعوك} أي لأجل رجاء العرض مع سهولة السفر لأن هممهم قاصرة ومنوطة بالحاضر {ولكن} أي لم يتبعوك تثاقلاً إلى الأرض ورضى بالفاني الحاضر من الباقي الغائب لأنها {بعدت عليهم الشقة} أي المسافة التي تطوى بذرع الأرجل بالمسير فيحصل بها النكال والمشقة فلم يواز ما يحصل لهم بها من التعب ما يرجونه من العرض، فاستأذنوك، وفي هذا إشارة إلى ذمهم بسفول الهمم ودناءة الشيم بالعجز والكسل والنهم والثقل، وإلى أن هذا الدين متين لا يحمله إلا ماضي الهم صادق العزم كما قال الشاعر:
إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه ... وأعرض عن ذكر العواقب جانبا
فلله در أولي العزائم والصبر على الشدائد والمغارم! ولما ذمهم بالشح بالدنيا، أتبعه وصمهم بالسماح بالدين فقال مخبراً عما سيكون منهم علماً من أعلام النبوة: {وسيحلفون} أي المتخلفون باخبار محقق لا خلف فيه {بالله} أي الذي لا أعظم منه عند رجوعكم إليهم جمعاً إلى ما انتهكوا من حرمتك بالتخلف عنك لانتهاك حرمة الله(8/480)
بالكذب قائلين: والله {لو استطعنا} أي الخروج إلى ما دعوتمونا إليه {لخرجنا معكم} يحلفون حال كونهم {يهلكون أنفسهم} أي بهذا الحلف الذي يريدون به حياتها لأنهم كذبوا فيه فانتهكوا حرمة اسم الله {والله} أي والحال أن الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة سبحانه {يعلم إنهم لكاذبون*} فقد جمعوا بين إهلاك أنفسهم والفضيحة عند الله بعلمه بكذبهم في انهم غير مستطيعين، وجزاء الكاذب في مثل ذلك الغضب المؤيد الموجب للعذاب الدائم المخلد.
ولما بكتهم على وجه الإعراض لأجل التخلف والحلف عليه كاذباً، أقبل إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعتاب فبي لذيذ الخطاب على الاسترسال في اللين لهم والائتلاف وأخذ العفو وترك الخلاف إلى هذا الحد، فقال مؤذناً بأنهم ما تخلفوا إلا بإذنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأعذار ادعوها كاذبين فيها كما كذبوا في هذا الحلف، مقدماً للدعاء على العتاب لشدة الاعتناء بشأنه واللطف به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عفا الله} أي ذو الجلال والإكرام {عنك} وهذا كما كانت عادة العرب في مخاطبتهم لأكابرهم بأن يقولوا: أصلح الله الأمير، والملك - ونحو ذلك.
ولما كان من المعلوم أنه لا يأذن إلا لما يرى أنه يرضي الله من تألفهم ونحوه، بين أنه سبحانه يرضى منه ترك الإذن فقال كناية عن ذلك: {لم أذنت لهم} أي في التخلف عنك تمسكاً بما تقدم من الأمر باللين لهم والصفح عنهم موافقاً لما جبلت عليه من محبة الرفق، وهذا إنما(8/481)
كان في أول الأمر لخوف التنازع والفتنة، وأما الآن فقد علا الدين وتمكن أمر المؤمنين فالمأمور به الإغلاط على المنافقين فهلا تركت الإذن لهم {حتى يتبين لك} أي غاية البيان {الذين صدقوا} أي في التزام الأوامر بما أقروا به من كلمة التوحيد {وتعلم الكاذبين*} أي فيما أظهروا من الإيمان باللسان، فإنك إن لم تأذن لهم لقعدوا بلا إذن غير مراعين ميثاقهم الذي واثقوك عليه بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره؛ قال أبو حيان: و {حتى} غاية الاستفهام - انتهى. وذلك لأنه وإن كان داخلاً على فعل مثبت فمعناه النفي، أي ما لك لم تحملهم على الغزو معك ليتحقق بذلك الحمل من يطيع ومن يعصي، فالحاصل أن الذي فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسن موافق لما أمره الله به فإنه لا ينطبق عن الهوى بل عن أمر الله إما بإيحاء واصل جديد، أو استناد إلى وحي سابق حاصل عتيد، والذي أشار إليه سبحانه أحسن مثل {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك} [الفتح: 2] من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ومن باب الترقية من مقام عال إلى مقام اعلى تسييراً فيهم بالعدل لما انكشف أنهم ليسوا بأهل الفضل؛ قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في آخر كتاب العروة في تفاوت وجه الخطاب فيما بين(8/482)
ما أنزل على وفق الوصية أو أنزل على حكم الكتاب: اعلم أن الله سبحانه بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرحمة لجميع العالمين وخلقه بالعفو والمعروف، كما ورد في الكتب السابقة من قوله تعالى: «وأجعل العفو والمعروف خلقه» وبذلك وصاه كما ورد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أوصاني ربي من غير ترجمان ولا واسطة بسبع خصال: بخشية الله في السر والعلانية، وأن أصل من قطعني، وأصفح عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبرة» .
فكان فيما أوصاه به ربه تبارك وتعالى من غير ترجمان ولا واسطة أن يصل من قطعة ويصفح عمن ظلمه، ولا أقطع له ممن كفر به وصد عنه، فكان هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحكم ما بعث به وجبل عليه ووصى به - ملتزماً للعفو عمن ظلمه والوصل لمن قطعه إلا أن يعلن عليه بالإكراه على ترك ذلك والرجوع إلى حق العدل والاقتصاص والانتصاف المخالف لسعة وصيته الموافق لما نقل من أحكام سنن الأولين في مؤاخذتهم بالحق والعدل إلى جامع شرعته ليوجد فيها نحو مما تقدم من الحق والعدل وإن قل، ولتفضل شرعته بما اختص هو به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البعثة بسعة الرحمة والفضل
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 9] ، {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33] فمن القرآن(8/483)
ما أنزل على الوجه الذي بعث له وجبل عليه ووصى به نحو قوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} [المؤمنون: 96] وقوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199] وقوله تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159] وقوله تعالى: {فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85] وقوله تعالى {فاصفح عنهم وقل سلام} [الزخرف: 89] وأصل معناه في مضمون قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم} [التوبة: 128] فما كان من المنزل على هذا الوجه تعاضدت فيه الوصية والكتاب وقبله هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبلة وحالاً وعملاً ولم تكن له عنه وقفة لتظافر الأمرين وتوافق الخطابين: خطاب الوصية، وخطاب الكتاب؛ وهذا الوجه من المنزل خاص بالقرآن العظيم الذي هو خاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يؤته أحد قبله {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] ومن القرآن ما أنزل على حكم العدل والحق المتقدم فضله في سنن الأولين وكتب المتقدمين وإمضاء عدل الله سبحانه في المؤاخذين والاكتفاء بوصل الواصل وإبعاد المستغني والإقبال على القاصد والانتقام من الشارد، وذلك خلاف ما جبل الله عليه نبيه وما وصى به حبيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أنزل عليه - أي من الكتاب - على مقتضى الحق وإمضاء(8/484)
العدل ترقب تخفيفه وترجى تيسيره حتى يعلن عليه بالإكراه في أخذه والتزام حكمه فحينئذ يقوم لله به ويظهر عذره في إمضائه فيكون له في خطاب التشديدعليه في أخذه أعظم مدح وأبلغ ثناء من الله ضد ما يتوهمه الجاهلون، فمما أنزل إنباء عن مدحه بتوقفه على إمضاء حكم العدل والحق رجاء تدارك الخلق واستعطاف الحق ما هو نحو قوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} [الكهف: 6] ونحو قوله تعالى: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] نحو قوله تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} [الحجر: 97] ومما أنزل على وجه الإعلان عليه بما هو عليه من الرحمة وتوقفه على الأخذ بسنن الأولين حتى يكره عليه ليقوم عذره ليقوم عذره في الاقتصار على حكم الوصية وحال الجبلة ما هو نحو قوله تعالى:
{ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك} [هود: 17] ونحو قوله تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99] ونحو قوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} [يونس: 94] أي لا تتوقف لطلب الرحمة لهم كما - يتوقف الممتري في الشيء أو الشاك فيه لما قد علم أنه لا بد لأمته(8/485)
من حظ من مضاء كلمة العدل فيهم وحق كلمة العذاب عليهم وإجراء بعضهم دون كلهم على سنة من تقدمهم من أهل الكتب الماضية في المؤاخذة بذنوبهم وإنفاذ حكم السطوة فيهم فأخذهم الله بذنوبهم {فكلاً أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40] ولم ينفعهم الرجوع عند مشاهدة الآيات {الآن وقد عصيت قبل} [يونس: 91] {لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم} [الأنبياء: 13] وذلك أن كل مطالع بالعذاب راجع - ولا بد - عن باطله حين لا ينفعه {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95] {إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا} [يونس: 98] لما أبطن تعالى في قلب نبيهم عليه السلام عزماً على هلاكهم، أظهر تعالى رحمة عليهم، ولما ملأ نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة لأمته: كافرهم ومؤمنهم ومنافقهم، أشار بآي من إظهار مؤاخذتهم وأعلم بكف نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تألفهم وأحسبه بمؤمنهم دون كافرهم ومنافقهم {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64] وكل ذلك معلوم عنده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وقوعه بمضمون قوله تعالى: {سنة من قد أرسلنا قبلك من(8/486)
رسلنا} {سنة الله التي قد خلت من قبل} [الفتح: 23] ، {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل} [يونس: 94] ، {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين} [الحجر: 12-13] «ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أنزل عليه {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} [يونس: 94] :» أما أنا فلا أشك ولا أسأل «» ، لأنه قد علم جملة أمر الله أن منهم من يتداركه الرحمة ومن يحق عليه كلمة العذاب، ولكنه لا يزال ملتزماً لتألفهم واستجلابهم حتى يكره على ترك ذلك بعلن خطاب نحو قوله تعالى: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلاّ إنها تذكرة فمن شاء ذكره} [عبس: 1-12] ونحو قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم} [الأنفال: 67- 69] فهذه الآي ونحوها يسمعها العالم بموقعها على إكراه لنبي الرحمة حتى يرجع إلى عدل نبي الملحمة من جملة أمداح القرآن له والشهادة بوفائه بعهد ووصية حتى تحقق له تسميته بنبي الرحمة ثابتاً على الوصية ونبي الملحمة إمضاء في وقت(8/487)
لحكم الحق وإظهار العدل، فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكل القرآن ممدوح وموصوف بالخلق العظيم جامع لما تضمنته كتب الماضين وما اختصه الله به من سعة القرآن العظيم، فهذا وجه تفاوت ما بين الوصية والكتاب في محكم الخطاب؛ والله سميع عليم - انتهى.(8/488)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
ولما فاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معرفتهم بهذا الطريق، شرع العالم بما في الضمائر يصفهم له بما يعوض عن ذلك، فقال على طريق الجواب للسؤال: {لا يستئذنك} أي يطلب إذنك بغاية الرغبة فيه {الذين يؤمنون بالله} أي يجددون الإيمان كل وقت حقاً من أنفسهم بالملك الذي له صفات الكمال {واليوم الآخر} أي الذي يكون فيه الجزاء بالثواب والعقاب {أن} أي في أن {يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} بل يبادرون إلى الجهاد عند إشارتك إليه وبعثك عموماً عليه فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف عنه، فإن الخلص من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون: لا نستأذنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد مرة فأيّ فائدة في الاستئذان! ولنجاهدن معه بأموالنا وأنفسنا، وكانوا بحيث لو أمرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعقود شق عليهم كما وقع لعلي رضي الله عنه في غزوة تبوك حتى قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» ! ولما كان التقدير: فمن اتصف بذلك فاعلم أنه متق بأخبار الله، عطف عليه(8/488)
قوله: {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {عليم بالمتقين*} أي الذين يخافون الله كلهم.
ولما أخبر بالمتقين، عرف بغيرهم على وجه الحصر تأكيداً لتحقيق صفة العلم بما أخبر به سبحانه، فصار الاستئذان منفياً عن المؤمنين مرتين، فثبت للمنافقين على أبلغ وجه {إنما يستئذنك} أي في مثل ذلك فكيف بالاستئذان في التخلف! {الذين لا يؤمنون} أي يتجدد لهم إيمان {بالله} أي الملك الأعلى الذي له نهاية العظمة إيماناً مستجمعاً للشرائط {واليوم الآخر} لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً وإن ادعوا ولما كانت [هذه] صفة المصارحين بالكفر، بين أن المراد المنافقون بقوله: {وارتابت قلوبهم} أي تابعت الوساوس وتعمدت المشي معها حتى تخلقت بالشك؛ ولما كان الشاك لا يزال يتجاذبه حسن الفطرة وسوء الوسوسة، قال: {فهم} أي فتسبب عن ذلك أنهم {في ريبهم يترددون*} أي بين النفي والإثبات دأب المتحير لا يجزمون بشيء منهما وإن صدقوا أن الله موجود فإن المشركين يصدقون بذلك ولكنه لا ينفعهم للإخلال بشرطه، وليس استئذانهم في أن يجاهدوا لإرادة الجهاد بل توطئة لأن يقولوا إذا أمرتهم به: إنه لا عدة لنا في هذا الوقت فائذن لنا في التخلف حتى نستعد! وقد كذبوا، ما ذلك بهم،(8/489)
إنما بهم أنهم لا يريدون الخروج معك {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له} أي قبل حلوله {عدة} أي قوة واهبة من المتاع والسلاح والكراع بحيث يكونون متصفين بما قدمت إليهم من التحريض على نحو ما وقع الأمر به في الأنفال فيكونون كالحاضرين في صلب الحرب الواقفين في الصف قد استعدوا لها بجميع عدتها {ولكن} لم يريدوا ذلك قط فلم يعدوا له عدة، فملا أمرت به شرعوا يعتلون بعدم العدة وما ذاك بهم، إنما مانعم كراهتهم للخروج وذلك بسبب أن {كره الله} أي ذو الجلال والإكرام بأن فعل فعل الكاره فلم يرد {انبعاثهم} أي سيرهم معك مطاوعة لأمرهم بذلك لما علم من عدم صلاحيتهم له {فثبطهم} أي حبسهم عنه حبساً عظيماً بما شغلهم بما بما حبب إليهم من الشهوات وكره إليهم من ارتكاب المشقات بسبب أنهم لا يرجون ثواباً ولا يخشون غير السيف عقاباً، قصروا هممهم الدنية على الصفات البهيمية، فلما استولت عليهم الشهوات وملكتهم الأنفس الدنيات نودوا من قبلها: إلى أين تخرجون؟ {وقيل} أي لهم لما أسرعوا الإقبال إليها {اقعدوا} أي عن جندي لا تصحبوهم، وفي قوله -: {مع القاعدين*} أي الذين شانهم ذلك كالمرضى والزمنى والصبيان والنساء - من التبكيت(8/490)
ما لا يعلم مقداره إلا أولو الهمم العلية والأنفس الأبية، وعبر بالمجهول إشارة إلى أنهم يطيعون الأمر بالقعود حقيقة ومجازاً كائناً من كان كما انهم يعصون الأمر بالنفر كائناً من كان لأن أنفسهم قابلة للدنايا غير صالحة للمزايا بوجه.
ولما كان كأنه قيل: ما له ثبطهم وقد كنا قاصدين سفراً بعيداً وعدواً كثيراً شديداً فنحن محتاجون إلى الإسعاد ولو بتكثير السواد! قيل: و {لو} أي فعل ذلك بهم لأنهم لو {خرجوا فيكم} أي وإن كانوا قليلاً معمورين بجماعاتكم {ما زادوكم} أي بخروجهم شيئاً من الأشياء {إلا خبالاً} أي ما أتوكم بشيء زائد على ما عندكم من الأشياء غير الخبال، والاستثناء مفرغ والمستثنى منه - المقدر الثابت لهم الاتصاف به - هو الشيء، وذلك لا يقتضي اتصاف أحد منهم بالخبال قبل خروج المنافقين، والخبال: الفساد، وهو ينظر على الخداع والأخد على غرة {ولأوضعوا} أي أوقعوا الإيضاع، حذف المفعول إشارة إلى أن مرادهم الإيضاع نفسه لا بقيد دابة، وعبر بالإيضاع لأنه للراكب وهو أسرع من الماشي {خلالكم} أي لأسرعوا في السير ذهاباً وإياباً بينكم في تتبع عوراتكم وانتظار زلاتكم ليجدوا منها مدخلاً إلى الفساد بالنميمة وغيرها إن لم يجدوها، والإيضاع في السير يكون برفق ويكون بإسراع، والمراد به هنا الإسراع، ومادة وضع بجميع تراكيبها تدور على الحركة، وتارة تكون إلى علو وتارة إلى سفول، ويلزم ذلك السكونُ والمحلُ القابل لذلك، وعلى ذلك يتمشى العضو والعوض، وعَوض الذي هو بمعنى(8/491)
الدهر، وضوع الريح والتصويت بالبكاء، والضعة لشجرة في البادية، والوضع للطرح في مكان والسير اللين والسريع؛ والخلال جمع الخلل وهو الفرجة {يبغونكم} أي حال كونهم يريدون لكم {الفتنة} أي بتشتيت الشمل وتفريق الأصحاب وتقدم عند {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} [الأنفال: 39] أنها الخلطة المميلة المحلية، أي يريدون لكم الشيء الذي يصيبكم فغير حالتكم إلى ما يسوءكم فيسرهم {وفيكم} أي والحال أنه فيكم {سماعون لهم} أي في غاية القبول لكلامهم لضعف معارفهم وآرائهم.
وربما كان سماعهم منهم مؤدياً إلى مطلوبهم {والله} أي الذي أخبركم بهذا من حالهم وله الإحاطة بكل شيء {عليم} بهم، فثقوا بأخبارهم. هكذا كان الأصل وإنما قال: {بالظالمين*} إشارة إلى الوصف الذي أوجب لهم الشقاء بمنعهم عن موطن الخير، وتعميماً للحكم بالعلم بهم وبمن سمع لهم ظالم، والحاصل أنه شبه سعيهم فيهم بالفساد بمن يوضع بعيره في أرض فيها أجرام شاخصة متقاربة، فهو في غاية الالتفات إلى معرفة ما فيها من الفرج والتأمل لذلك حذراً من أن يصيبه شيء من تلك الأجرام فيسقيه كأس الحمام، فلا شغل لهم إلا بغية فسادكم بعدم وصولكم إلى شيء من مرادكم.(8/492)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
ولما أخبر سبحانه بذلك، وحث على قبول أخبارهم بما وصف(8/492)
به ذاته الأقدس من إحاطة العلم، شرع يقيم الدليل على ما قال بتذكيرهم بأشياء تقدمت مشاهدتها منهم، فقال معللاً لما أخبر به: {لقد ابتغوا} أي طلبوا طلباً عظيماً كلهم لكم {الفتنة} أي لتشتيتكم {من قبل} أي قبل هذه الغزوة في يوم أحد بكسر قلوب العسكر بالرجوع عنه حتى كاد بعضهم أن يفشل وفي المريسيع بما قال ابن أبيّ {ليخرجن الأعز منها الأذل} [المنافقون: 8] وفي غزوة الخندق بما وقع منهم من التكذيب في أخذ كنوز كسرى وقيصر والإرجاف بكم في نقض بني قريظة وغير ذلك كما صنعوا قبله في غزوة قينقاع والنضير في قصدهم تقوية كل منهم عليكم وفي غير ذلك من أيام الله التي عكس فيها قصودهم وأنعس جدودهم {وقلبوا} أي تقليباً كثيراً {لك الأمور} أي التي لك فيها أذى ظهراً لبطن بإحالة الآراء وتدبير المكايد والحيل لعلهم يجدون فرصة في نقض أمرك ينتهزونها أو ثغرة في حالة يوسعونها، وامتد بهم الحال في هذا المحال {حتى جاء الحق} أي الثابت الذي لا مراء في مزاولته مما تقدم به وعده سبحانه من إظهار الدين وقمع المفسدين {وظهر أمر الله} أي المتصف بجميع صفات الكمال من الجلال والجمال حتى لا مطمع لهم في ستره {وهم كارهون*} أي لجميع(8/493)
ذلك فلم يبق لهم مطمع في محاولة بمواجهة ولا مخاتلة فصار همهم الآن الاعتزال والمبالغة في إخفاء الأحوال وستر الأفعال والأقوال.
ولما أجملهم في هذا الحكم، وكان قد أشار إلى أن منهم من كان قد استأذن في الخروج توطئة للاعتذار عنه، شرع يفصلهم، وبدأ المفصلين بمن صرح بالاستئذان في القعود فقال عاطفاً على «لقد ابتغوا» : {ومنهم من يقول} أي في جبلته تجديد هذا القول من غير احتشام {ائذن لي} أي في التخلف عنك {ولا تفتني} أي تكن سبباً في فتنتى بالحزم بالأمر بالنفر فأفتتن إما بأن أتخلف فأكون مصارحاً بالمعصية أو أسافر فأميل إلى نساء بني الأصفر فأرتد عن الدين فأنه لا صبر لي عن النساء، وقائل ذلك هو الجد ابن قيس، كان من الأنصار منافقاً.
ولما أظهروا أنهم قصدوا البعد من شيء فإذا هم قد ارتكبوا فيه، انتهزت فرصة الإخبار بذلك على أبلغ وجه بإدخال ناف على ناف لتحصيل الثبوت الأكيد بإقرار المسؤول فقيل: {ألا في الفتنة سقطوا} أي بما قالوا وفعلوا، فصارت ظرفاً لهم فوضعوا أنفسهم بذلك في جهنم، وفي التعبير بالسقوط دلالة على انتشابهم في أشراك الفتنة انتشاباً سريعاً بقوة فصار يعسر خلاصهم معه {وإن جهنم لمحيطة} أي بسبب إحاطة الفتنة - التي أسقطوا أنفسهم فيها - بهم، وإنما قال: {بالكافرين*}(8/494)
تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي حملهم على ذلك.
ولما كان كأنه قيل: ما الفتنة التي سقطوا فيها فأحاطت بهم جهنم بسببها؟ قيل: {إن} أي هي كونهم أن، ويجوز أن يكون علة لإحاطة جهنم بهم، وكأنهم - لأجل أنهم من الأوس والخزرج فالأنصار أقاربهم - خصوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعدواة وشديد الحنق، وكذا ايضاً كان لا يسوءهم ويسرهم من الحسنة والسيئة إلا ما له وقع - بما أذن به التعبير بالإصابة دون المس - لا ما دونه، حفظاً لقلوب أقاربهم ورعياً لأسرار نسائهم، فقال إشارة إلى ذلك: {تصبك} أي بتقدير الله ذلك {حسنة} أي بنصر أو غيره {تسؤهم} أي لما في قلوبهم من الضغن والمرض {وإن تصبك مصيبة} أي نكبة وإن صغرت كما وقع يوم أحد {يقولوا} أي سروراً وتبجحاً بحسن آرائهم {قد أخذنا أمرنا} أي عصينا الذي أمرنا ولم نسلم قيادنا لأحد فنكون كالأعمه، لأن الأمر الحادثة وضد النهي، ومنه الأمير، رجل إمرّ وإمرة - بتشديد الميم المفتوحة مع كسر الهمزة وتفتح: ضعف الرأي، يوافق كل أحد على ما يريد من أمره كله، وهو الأعمه(8/495)
وزناً ومعنى {من قبل} أي قبل أن تكون هذه المصيبة، فلم نكن مؤتمرين بأمر فيصيبنا فلم يكن ما أصاب من تبعه، فكان أمرهم - لو كانوا مطيعين - كان شيئاً متحققاً بيد الآمر، فلما عصوه كانوا كأنهم قد أخذوه منه.
ولما كان قولهم هذه بعيداً عن الاستقامة، فكان جديراً بأن لا يقال، وإن قيل كان حقيقاً بأن يستقال بالمباراة إلى الرجوع عنه والاستغفار منه، أشار تعالى إلى تماديهم فيه فقال: {ويتولوا} أي عن مقامهم هذا الذي قالوا فيه ذلك وإن طال إلى أهاليهم {وهم فرحون*} أي لمصيبتكم لكفرهم ولخلاصهم منها.
ولما كان قولهم هذا متضمناً لتوهم القدرة على الاحتراس من القدر، قال تعالى معلماً بجوابهم مخاطباً للرأس لعلو المقام: {قل} أي إنا نحن لا نقول مقالتكم لمعرفتنا بأنا لا نملك ضراً ولا نفعاً، بل نقول: {لن يصيبنا} أي من الخير والشر {إلا ما كتب} أي قدر {الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، ولما كان قضاء الله كله خيراً للمؤمن إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر، عبر باللام فقال: {لنا} أي لا يقدر على رده عنا إلا هو سبحانه {هو} أي وحده {مولانا} أي القريب منا الذي يلي جميع أمورنا، لا قريب منا سواه، فلو أراد لدفع عنا كل مصيبة لأنه أقرب إلينا منها، لا تصل إلينا بدون علمه وهو قادر، فنحن نعلم أن له في ذلك لطيف سريرة تتضاءل دونها ثواقب الأفكار وتخسأ عن الإحاطة بتحقيقها نوافذ الأبصار فنحن لا نتهمه في قضائه لأنا قد توكلنا عليه وفوضنا أمورنا إليه، والموكل(8/496)
لا يتهم الوكيل {وعلى الله} أي الملك الأعلى لا غيره {فليتوكل المؤمنون*} أي كلهم توكلاً عظيماً جازماً لا معدل عنه، فالفيصل بين المؤمن والكافر هو إسلام النفس إليه وحده بلا اعتراض عليه يقلبها كيف يشاء ويحكم فيها بما يريد.(8/497)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
ولما تضمن ذلك أن سراءهم وضراءهم لهم خير من حيث إن الرضى بمر القضاء موجب لإقبال القاضي على المقضي عليه بالرأفة والرحمة، صرح بذلك في قوله: {قل هل تربصون} أي تنتظرون انتظاراً عظيماً {بنا إلا إحدى الحسنيين} أي وهي أن نصيب أعداءنا فنظفر ونغنم ونؤجر أو يصيبونا بقتل أو غيره فنؤجر، وكلا الأمرين حسن: أما السراء التي توافقوننا على حسنها فأمرها واضح، وأما الضراء فموجبة لرضى الله عنا ومثوبته لنا بالصبر عليها ورضانا بها إجلالاً له وتسليماً لأمره فهي حسنى كما نعلم لا سوأى كما تتوهمون {ونحن نتربص بكم} أي ننتظر إحدى السوأيين وهي {أن يصيبكم الله} أي الذي له جميع القدرة ونحن من حزبه {بعذاب من عنده} أي لا تسبب لنا فيه كما أهلك القرون الأولى بصائر للناس {أو بأيدينا} أي بسببنا من قتل أو نهب وأسر وضرب وغير ذلك لأن حذركم لا يمنعكم من الله، وكل ذلك مكروه عندكم.
ولما تسبب عن هذا البيان ان السوء خاصة بحزب الشيطان، حسن(8/497)
أن يؤمروا تهكماً بهم بما أداهم إلى ذلك تخسيساً لشأنهم فقال: {فتربصوا} أي أنتم {إنا} أي نحن {معكم متربصون*} أي بكم، نفعل كما تفعلون، والقصد مختلف، والآية من الاحتباك: حذف أولاً الإصابة للدلالة عليها بما أثبت ثانياً، وثانياً إحدى السوأيين للدلالة عليها بإثبات الحسنيين أولاً.
ولما كان جملة ما يصيبهم منهم من العذاب الإنفاق بتزكية ما طهر من أموالهم بالإعانة في سبيل الله خوفاً من اتهامهم بالنفاق في أقوالهم ليفتدوا أنفسهم به من السفر، قال: {قل أنفقوا} أي أوجدوا الإنفاق لكل ما يسمى إنفاقاً {طوعاً أو كرهاً} أي مظهرين الطواعية أو مظهرين الكراهية؛ ولما كان الإعراض عنهم إنما سببه كفرهم لا إنفاقهم، لم يربط الجواب بالفاء بل قال: {لن يتقبل منكم} أي يقع تقبل لشيء يأتي من قبلكم أصلاً من أحد له أن يتقبل كائناً من كان، ولذلك بناه للمفعول، لأن قلوبكم كارهة ليست لها نية صالحة في الإنفاق ولا في غيره، فانقسام إنفاقكم إلى طوع وكره إنما هو باعتبار الظاهر، وكأنه عبر بالتفعل إشارة إلى قبوله منهم ظاهراً؛ ولما كان غير مقبول باطناً على حال من الأحوال علل بقوله: {إنكم كنتم} أي جبلة وطبعاً {قوماً فاسقين*} أي عريقين في الفسق بالغين أنهى غاياته.(8/498)
ولما علل بالعراقة في الخروج عن الطاعة، بينه في قوله: {وما منعهم أن تقبل} أي باطناً، ولذا عبر بالمجرد، ولذا بناه للمفعول لأن النافع القبول في نفس الأمر لا كونه من معين {منهم نفقاتهم} أي وإن جلت {إلا أنهم كفروا بالله} أي الذي له جميع صفات الكمال من الجلال والجمال لفساد جبلاتهم وسوء غرائزهم.
ولما كان قبول النفقات مهيئاً للطهارة التي تؤثرها الصلاة، كان السياق لعدم قبولها - ليتسبب عنه النهي عن الصلاة عليهم - أبلغ لأنه أدل على الخبث، فأكد كفرهم بزيادة الجار إشعاراً بأن الكفر بكل منهما على حياله مانع فقال: {وبرسوله} أي فسقهم بأنهم غير مؤمنين وهو السبب المانع بمفرده من القبول: ثم قدح في شاهدي ما يظهرون من الإيمان وهما الصلاة والزكاة وغيرهما من الإنفاق في الخيرات بما هو لازم للكفر ودال عليه فقال: {ولا يأتون الصلاة} أي المفروضة وغيرها {إلا وهم كسالى} أي في حال كسلهم، لا يأتونها قط بنشاط {ولا ينفقون} أي نفقة من واجب أو غيره {إلا وهم كارهون*} أي في حال الكراهة وإن ظهر لكم خلاف ذلك، وذلك كله لعدم النية الصالحة واعتقاد الآخرة، وهذا لا ينافي طوعاً لأن ذلك بحسب الفرض أو الظاهر وهذا بحسب الواقع.(8/499)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
ولما انتفى عن أموالهم النفع الأخروي الذي هو النفع، تسبب عن ذلك الزهد فيها الموجب لعدم الالتفات إليها وعدم اعتقاد أن فيها بركة ودلالة على خير، فقال - مبيناً ما فيها من الفساد الذي يظن أنه صلاح: {فلا} - بفاء السبب، فالسياق ابلغ من سياق الآتية بعد النهي عن الصلاة عليهم {تعجبك أموالهم} أي وإن أنفقوها في سبيلي وجهزوا بها الغزاة. فإن ذلك عن غير إخلاص منهم ولا حسن نية ولا جميل طوية، وإنما هو لما أذلهم من عزة الإسلام وأخافهم من سطوة الانتقام فهو من جملة العذاب، وعطف عليها الأولاد لمشاركتها لها في الملاذ والقوة والاستعمال في الجهاد، فقال مؤكداً للنفي بإعادة النافي: {ولا أولادهم} فكأنه قيل: فماذا يراد بإعطائهم ذلك؟ ولو منعوها وأعطيها المخلصون لكان قوة للدين، فقال: {إنما يريد الله} أي يوقع الإرادة لهم بها الملك الذي له الإحاطة بجميع الحكمة كما أن له الإحاطة بتمام القدرة، وأبلغ في الحصر بإدخال اللام في قوله: {ليعذبهم} أي لأجل أن يعذبهم {بها في الحياة} أي وإن كان يتراءى أنها لذيذة، لأن ذلك من شأن الحياة فإنما هي لهم موت في الحقيقة {الدنيا} أي تارة بجمعها وتربيتها وتارة ببذلها كرهاً في سبيل الله أو في تزكيتها وتارة بغيرذلك {وتزهق} أي وإنما يريد بتمكينهم منا لأجل أن يخرج وقت الموت بغاية الصعوبة {أنفسهم}(8/500)
أي بسببها {وهم} أي والحال أنهم {كافرون*} أي عريقون في الكفر، وهكذا كل من أراد استدراجه سبحانه فإنه في الغالب يكثر أموالهم وأولادهم لنحو هذا لأنهم إذ رأوا زيادتهم بها على بعض المخلصين ظنوا أن ذلك إنما هو لكرامتهم وحسن حالتهم فيستمرون عليها حتى يموتوا فهو سبحانه لم يرد بها منحتهم بل فتنتهم ومحنتهم، وأما الدين فإن القادر يقويه بغير ذلك فيكون أظهر لدليله وأوضح لسبيله؛ فالحاصل أنه ظهر لهم أنهم أكرموا بها وخفي عنهم أنها سبب لعذابهم في الحياة باتكالهم عليها، وفي الممات بصعوبته عليهم المشار إليه بالزهوق، وفي الآخرة بسبب موتهم على حال الكفر باستدراجهم بها، وأما المؤمن فلا يموت حتى يرى من الثواب ما يسليه عن كل شيء فيشتاق إلى لقاء الله وتخرج نفسه وهو في غاية المحبة لخروجها لأن البدن عائق له عما يرى.
ولما وضح بهذه الأمور منابذتهم للمؤمنين وخروجهم من ربقة الدين المصحح لوصفهم بالفسق، أوضح لبساً آخر من أحوالهم يقيمونه بالأيمان الكاذبه فقال: {ويحلفون} أي طلبوا لكم الفتنة والحال انهم يجددون الأيمان {بالله} أي على ما له من تمام العظمة {إنهم} أي المنافقين {لمنكم} أي أيها المؤمنون على اعتقادكم باطناً كما هم ظاهراً {وما}(8/501)
أي والحال أنهم ما {هم} صادقين في حلفهم أنهم {منكم ولكنهم قوم} أي مع أن لهم قوة وقياماً فيما يحاولونه {يفرقون*} أي يخافون منكم على دمائهم خوفاً عظمياً يفرق همومهم فهو الملجىء لهم إلى الحلف كذباً على التظاهر بالإسلام، فكأنه قيل: فما لهم يقيمون بيننا والمبغض لا يعاشر من يبغضه؟ فقيل: لأنهم لا يجدون ما يحميهم منكم {لو يجدون ملجئاً} أي شيئاً يلجؤون إليه من حصن أو جبل أو قوم يمنعونهم منكم {أو مغارات} في الجبال تسعهم، جمع مغارة - مفعلة من غار في الشيء - إذا دخل فيه، والغور: ما انخفض من الأرض.
ولما كانت الغيران - وهي النقوب في الجبال - واسعة والوصول إليها سهلاً، قال: {أو مدخلاً} أي مكاناً يدخلونه يغاية العسر والصعوبة لضيقه أو لمانع في طريقه أو قوماً يداخلونهم وإن كانوا يكرهونهم - بما أرشد إليه التشديد: {لولوا إليه} أي لاشتدوا في التوجه إليه متولين مرتدين عنكم على أعقابهم {وهم يجمحون*} أي حالهم حال الدابة التي كانت مسرعة في طواعية راكبها فإذا هي قد نكصت على عقبها ثم أخذت في غير قصده بغاية الإسراع ونهاية الرغبة والداعية لا يردها بئر تقع فيه ولا مهلكة ولا شيء.
ولما قرر حال من يتخلف عن الجهاد، وربما بذل ماله فيه افتداء لسفره، شرع في ذكر من يشاركه في الإنفاق والنفاق ويخالفه(8/502)
فقال: {ومنهم من يلمزك} أي يعيبك عند مشاكليه على طريق الملازمة في ستر وخفاء أو تظاهر وقلة حياء {في الصدقات} أي اللاتي تؤتيها لأتباعك، ولما أخبر عن اللمز، أخبر أنه لحظ نفسه لا للدين فقال: {فإن أعطوا منها رضوا} أي عنك {وإن لم يعطوا منها} فاجؤوا السخط الذي يتجدد في كل لحظة ولم يتخلفوا عنه أصلاً، وعبر عن ذلك بقوله: {إذا هم يسخطون*} فوافقوا الأولين في جعل الدنيا همهم، وخالفوهم في أن أولئك أنفقوا ليتمتعوا بالتخلف وهؤلاء طلبوا ليتنعموا بنفس المال الذي يأخذونه؛ قيل: إنها نزلت في ذي الخويصرة لما قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقسم غنائم حنين: اعدل يامحمد! فإني لم أرك تعدل، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟» وسيأتي حديثة.
ولما أخبر تعالى عن حالهم السيىء الدنيء الذي لا يجديهم في الدنيا ويهلكهم في الأخرى، نبههم على ما هو الأصلح لهم من الحال الشريف السني فقال: {ولو أنهم} أي المنافقين {رضوا ما آتاهم الله} أي المنعم بجميع النعم لأن له جميع الكمال {ورسوله} الذي عظمته من عظمته قل ذلك المؤتي أو كثر طال زمنه أو قصر {وقالوا} أي مع الرضى {حسبنا الله} أي كافينا لأن له جميع العظمة فهو الغني المطلق.(8/503)
ولما كانت الكفاية تارة تكون بالتنجيز العاجل وتارة بالوثوق بالوعد الآجل، بين أن الثاني هو المراد لأنه أدل على الإيمان فقال: {سيؤتينا الله} أي الملك الأعظم بوعد لا خلف فيه واعتقدوا أن لا حق لأحد فقالوا: {من فضله ورسوله} أي الذي لا يخالف أمره، على ما قدر لنا في الأزل؛ ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنا إلى الله} أي المستجمع لصفات الكمال وحده {راغبون*} أي عريقون في الرغبة، فلذلك نكتفي بما يأتي من قبله كائناً ما كان، أي لكان ذلك خيراً لهم لأنه لا ينالهم إلا ما قسم سبحانه لهم شاؤوا أو أبوا.(8/504)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
ولما أخبر عن لمزهم في الصدقات وقرر ما هو خير لهم إرشاداً إلى النجاة، علل فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها وبين أنه لا يفعل غيره لأنه الحق الذي لا يجوز في شرعه الأكمل غيره لمزوا أو تركوا زهدوا أو رغبوا فقال معبراً بأداة القصر على ما ذكر: {إنما الصدقات} أي هذا الجنس بجميع ما صدق من أفراده، والظاهر أنه قدم الأهم فالأهم، فلذا قال الشافعي: إن الفقير أشدهم حاجة لكونه ابتدأ به، فقال: {للفقراء} أي الذين لا شيء لهم أو لهم شيء يقع موقعاً من كفايتهم {والمساكين} أي الذين لا كفاية لهم بدليل {أما السفينة} [الكهف: 79] وأما {مسكيناً(8/504)
ذا متربة} [البلد: 16] فتقييده دل على أن المطلق بخلافه {والعاملين عليها} أي المؤتمنين في السعاية والولاية على جمعها {والمؤلفة قلوبهم} أي ليسلموا أو يسلم بسببهم غيرهم أو يثبتوا على إسلامهم؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: «بعث إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء فقسمه بين أربعة وقال: أتألفهم، فقال رجل: ما عدلت! فقال: يخرج من ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين. وفي رواية: فاستأذنه رجل في ضرب عنقه فقال: لا، دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم - الحديث. ولئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» ولا يقال: إن العلة مقتضية لقتلهم لا للكف عنهم فإن عمله بالمقام الخضري - كما تقدم - أنه ما من كرامة لنبي إلا وله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلها أو أعلى منها بنفسه أو بأحد من أمته.
ولما فرغ من هذه الأصناف الأربعة الذين يعطون الصدقة في أيديهم يتصرفون فيها كيف شاؤوا، كما دل عليه التعبير باللام، ذكر الذين يعطون الصدقة لقضاء ما بهم كما دل عليه التعبير ب «في»(8/505)
فقال: {وفي الرقاب} أي والمكاتبين بسبب فك رقابهم من الرق {والغارمين} أي الذين استدانوا في غير معصية، يصرف ما يعطونه إلى قضاء ديونهم فقط {وفي} أي والمجاهدين في {سبيل الله} أي الذي له الأمر كله بالنفقة والحمل والإعانة بالسلاح وغير ذلك، ونقل القفال عن بعض الفقهاء أنه عمم السبيل فأجاز صرفه إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وعمارة المساجد ونحوها {وابن السبيل} وهو المسافر المنقطع عن بلده، يعطى ما يوصله إليه، ففيه إشارة إلى أن رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفعل ما أدى إلى لمزهم له بسببه إلا بأمر حقاً، فإنا قد عينّا له أهل الصدقات فهو لا يعدل عنهم لشيء من الأشياء لأنه واقف عند ما يرضينا، فإن كانوا منهم أعطاهم وإلا منعهم رضي من رضي وسخط من سخط، وقد فرض ذلك، أو ثابتة للفقراء حال كونها {فريضة} كائنة {من الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لعلمه بأن في ذلك أعظم صلاح، وهذا كالزجر عن مخالفة الظاهر {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال {عليم} أي بالغ العلم بما يصلح الدين والدنيا ويؤلف بين قلوب المؤمنين {حكيم*} أي فهو(8/506)
يجعل أفعاله من الإحكام بحيث لا يقدر غيره على نقضها؛ قال أبو حيان: «إنما» إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه.
وحكمة الزكاة من جهة المالك أن المال محبوب لأنه يحصل المحبوب والتمادي في حبه يوجب الإعراض عن الله المعطي له، فكان من الحكمة تذكير المالك له بالمالك الحقيقي في أنه أوجب عليه إخراج طائفة منه ليكف منه انصباب النفس بالكلية إليه ويطهر النفس عن محبتها له ويطهره عن محض الإنفاق في الشهوات، ومن جهة الآخذ أنه لما اجتمعت حاجته إليه وحاجة - المالك - ولو احتمالاً- كان هناك سببان للتسلط على المال: أحدهما اكتساب المالك له، والثاني احتياج الآخذ إليه، فروعي السببان بقدر الإمكان، ورجح المالك بإبقاء الكثير، وصرف إلى الآخذ اليسير. وأجرى الشافعي الآية على ظاهرها فقال: إن أخرجها ذو المال سقط سهم العامل مع سهم المؤلفة وصرف إلى الستة الأصناف، وإن قسم الإمام فعلى سبعة، ويجب أن يعطى من كل صنف ثلاثة أنفس، ومن لم يوجد من الأصناف رد نصيبه على الباقين ويستوي بين الأصناف لا بين آحاد الصنف. وقال أبو حنيفة: يجوز صرف الكل لواحد من الأصناف لأن الآية أوجبت أن لا تخرج(8/507)
الصدقة عنهم، لا أن تكون في جميع الأصناف - وهو قول عمر بن الخطاب وحذيفة وابن عباس رضي الله عنهم وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية وميمون بن مهران.
ولما بين الصنفين السالفين، وختم أمرهما بصفتي العلم والحكمة، أتبعهما بصنف آخر يؤذي بما يجعله نقصاً في صفات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليزم الطعن في علم مرسله وحكمته فقال: {ومنهم الذين يؤذون النبي} أي الذي أعلى الله مقداره، فهو ينبئه بما يريد سبحانه من خفايا الأسرار؛ ولما أخبر بمطلق الأذى الشامل للقول والفعل، عطف عليه قوله: {ويقولون هو} أي من فرط سماعه لما يقال له {أذن} ومرادهم أنه يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد - كما سمي الجاسوس عيناً؛ قال أبو حيان: كان خذام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بن سويد في آخرين يؤذون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا، فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا فإن محمداً أذن سامعة، ثم نأتيه فيصدقنا، فنزلت، وقيل غير ذلك.
رجل أذن - إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع - انتهى. ومرادهم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعرف مكر من يمكر به وخداع من يخادعه وكذبوا، هو أعرف الناس بذلك، ولكنه(8/508)
يعرض عند المصالح، لا يليق بمحاسن الدين غيرها، بينها تعالى بقوله: {قل أذن خير} ثم بين أن نفع ذلك عائد إليهم بقوله: {لكم} ثم فسر ذلك بقوله: {يؤمن} أي يوقع الإيمان للملائكة الذين يأتونه عن الله من التكذيب بأن يصدقهم معترفاً {بالله} أي بسبب ما يخبرونه عنه به حق الإيمان لما له من كمال العلم بما له سبحانه من صفات الجلال والإكرام؛ وحاصله أن فعل الإيمان ضمن فعل التصديق ثم حذف وانتزعت منه حال أقيمت مقامه ثم حذفت وأتى بصلة تدل عليها كما قالوا في قوله تعالى {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185] أن التقدير: حامدين على ما هداكم، فالتقدير هنا: يؤمن مصدقاً بالله، فهدذا حقيقته وهو يثمر محبة المؤمنين وولايتهم، ولذا أتبعه قوله: {ويؤمن للمؤمنين} أي الراسخين، يوقع الإيمان لهم من التكذيب بأن يصدقهم في كل ما يخبرونه به مما يحتمل التصديق، وذلك لأجل مصالحهم والتأليف بينهم مع ما ثبت من صدقهم، فإنه لو حملهم على عقله ومبلغ علمه يحبه الكاذب وعاقب الخائن بمجرد علمه وتفرسه، لقصرت عن ذلك غالب الأفهام وتاهت بسببه أكثر الأوهام، فنفرت القلوب ووقع من الأغلب الاتهام. ولما كان التصديق بوجود الإله على ما له من صفات الكمال المقتضي للأمر والنهي عدي بالباء، وهنا كان التصديق إنما هو للإخبار بأيّ شيء كان عدي باللام وأشير - بقصر الفعل وهو متعد - إلى مبالغة في التصديق بحيث كأنه لا تصديق غيره.(8/509)
ولما بين سبحانه أن تصديقه ظاهراً وباطناً إنما هو للراسخين في الإيمان، بين أن تصديقه لغيرهم إنما هو الظاهر فقال: {ورحمة} أي وهو رحمة {للذين آمنوا} أي أظهروا الإيمان بألسنتهم {منكم} فهو - والله أعلم - إشارة إلى المنافقين ومن في حكمهم ممن جزم لسانه وقلبه مزلزل، أي أن إظهار تصديقهم قبولاً لما ظهر منهم وستر قبائح أسرارهم سبب للكف عن دمائهم، وإظهار المؤمنين لمقتهم ربما كان ذلك سبباً لصدق إيمانهم بما يرون من محاسن الإيمان بتمادي الزمان، ولا يستبعد كون التعبير بالماضي إشارة إلى المنافقين لا سيما بعد التعبير باسم الفاعل، فقد قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه المفتاح ما نصه: الباب الرابع في رتب البيان عن تطور الإنسان بترقيه في درج الإيمان وترديه في درك الكفران: اعلم أن الله محيط بكل شيء خلقاً وأمراً أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً وهو حمده، وله علو في ظهور أمره وكبير خلقه، واحتجاب في مقابل ذلك من خلقه وأمره بما أبداه من حكمته وأسباب هداه وفتنته، وذلك العلو هو إلهيته، والاحتجاب هو ملكه، وبينهما إقامة كل خلق لما خلق له وتأييد كل أمر من الأمرين لما أقيم له، وذلك هو ربانيته ولكل فتق من خلفه وأمره رتق سابق.
ولكل تفاوت سواء، وذلك هو رحمانيته، ولكل أقرب في مدد الحجاب اختصاص وذلك هو رحيميته، ولكل أبعد في مدد(8/510)
الحجاب بطش منه شديد في رده إلى القرب وتلك هي نقمته، ولكل من تنزلاته العلية ظاهراً وباطناً أمر خاص، ولكل أمر خلق، يرد بيان القرآن لكل خلق بحسب كنه ذاته واختصاص رتبة قربه ومحل بعده، وأن الله سبحانه جعل آدم وذرأه خليفة له في جميع أمره وتفصيله، وأنزل القرآن بناء على جملة ذلك، فأردأ الأحوال لهذا المستخلف المحل الذي سمي فيه بالإنسان، وهو حيث أنس بنفسه وغيره ونسي عهد ربه، فيرد لذلك بناؤه بالذم في القرآن {قتل الإنسان ما أكفره} [عبس: 17] {إن الإنسان لربه لكنود} [العاديات: 6] ثم المحل الذي تداركه فيه تنبه لسماع الزجر من ربه، وهو له بمنزلة سن الميّز لابن سبع، ولا يقع إلا عن اجتماع وتراء، وذلك هو السن المسمون فيه بالناس لنوسهم، أي ترددهم بين سماع الزجر من ربهم وغلبة أهوائهم عليهم، فيرد لذلك بناؤهم بذم أكثرهم في القرآن {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الأعراف: 187]- {ولا يشكرون} ثم المحل الذي يتحقق لهم قبول وسماع وإيمان لغائب الأمر والخلق، لكنهم يتزلزلون عنه كثيراً عند كل عارضة نيل خادعة رفعة، وهو لهم بمنزلة سن المحتلم الذي قد ذاق طعم بدو النطفة من باطنه الناجم العقل للنظر في حقائق المحسوسات، وذلك هو السن الذي يسعون فيه {الذين آمنوا} وهو أول سن التلقي، فلذلك جميع آداب القرآن(8/511)
وتعليمه إنما مورده أهل هذا السن، كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إذا سمعت الله عز وجل يقول {يا أيها الذين آمنوا} فأعرها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهي عنه، وكما أن ما يخص البالغ العاقل من الخطاب لا يدخل فيه الصبي المميز، وما يخص المميز لا يدخل فيه البالغ، كذلك خطاب {الذين آمنوا} لم يصل إليه الناس بعد، وخطاب الناس قد جاوزه {الذين آمنوا} لأنهم قد انزجروا بما قبلت قلوبهم عما ينزجر عنه الناس، وقد ائتمروا بما يأتمر به الناس؛ وهذه الأسنان الخالية عند أولي البصائر، وخاص خطابها أشد ظهوراً من أسنان الأبدان عند أصحاب الأبصار، وعدم التبصرة بهذه المراتب في الأحوال والبيان هي أقفال القلوب المانعة من تدبر القرآن، وكذلك ما فوق سن «الذين آمنوا» من سن {الذين يؤمنون} وهم في أول حد القرب منزلة بلوغ الأشد، وسن {الذين آمنوا} و {الناس} في مدد حد البعد ولذلك يخاطبون بحرف «يا» المرسلة إلى حد البعد:
{يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله} [الصف: 10] وفوق ذلك سن المؤمنين وأدنى قرباً، ولذلك لم يرد في القرآن في خطابهم {يا} البعد، وهذا السن بمنزلة الاكتهال وسن الشيب، وتمام سنهم {المؤمنون حقاً} وكذلك إلى سن {المحسنين} إلى غيب سن {الموقنين} إلى ما وراء ذلك، فإن أسنان الجسم أرابيع،(8/512)
وأسنان القلب أسابيع، يعرفها من تطور فيها، ويجهلها من نبت سن قلبه على الجهل وتطور سن جسمه إلى الهرم «يهرم ابن آدم ويشيب منه اثنتان: الحرص والأمل» فالحرص فقره ولو ملك الدنيا، والأمل همه وتعبه، فمن لم يتحقق أسنان القلب وتفاوت خطابها لم ينفتح له الباب إلى فهم القرآن، ومن لم يتضح له تنزلات الخطاب لم يبن له خطاب الله من خطاب الرحمن من خطاب الملك الديان - انتهى.
ولما بين ما لمن صدقه باطناً أو ظاهراً من الرحمة، بين ما على من كذبه فآذاه من النقمة فقال: {والذين يؤذون} أي هؤلاء ومن غيرهم {رسول الله} أي الذي أظهر - وهو الملك الأعلى - شرفه وعظمته بالجمع بين الوصفين وأعلاه بإضافته إليه، وزاد في رفعته بالتبير باسمه الأعظم الجامع، وهو واسطة بين الحق والخلق في إصلاح أحوالهم فإنما يستحق منهم الشكر والإكرام لا الأذى والإيلام.
ولما كان أذاهم مؤلماً جعل جزاءهم من جنسه فقال: {لهم عذاب أليم *} ثم علل ذلك باستهانتهم بالله ورسوله، وأخبر أنهم يخشون على دمائهم فيصلحون ظواهرهم حفظاً لها بالأيمان الكاذبة فقال: {يحلفون بالله} أي الذي له تمام العظمة {لكم} أي أنهم ما آذوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصوصاً ولا أولادكم بالمخالفة عموماً؛ وبين غاية مرادهم بقوله: {ليرضوكم} .
ولما كان الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بأذن بالمعنى الذي(8/513)
أرادوه، بين أنه لم يكن راضياً بإيمانهم لعدم وقوع صدقتهم في قلبه ولكنه أظهر تصديقهم لما تقدم من الإصلاح فقال: {والله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {ورسوله} أي الذي هو أعلى خلقه، وبلغ النهاية في تعظيمه بتوحيد الضمير الدال على وحدة الراضي لأن كل ما يرضي أحدهما يرضي الآخر فقال: {أحق أن} أي بأن {يرضوه} ولما كان مناط الإرضاء الطاعة ومدار الطاعة الإيمان، قال معبراً بالوصف لأنه مجزأه: {إن كانوا مؤمنين*} أي فهم يعلمون أنه أحق بالإرضاء فيجتهدون فيه، وذلك إشارة إلى أنهم إن جددوا إرضاءه كل وقت كان دليلاً على إيمانهم، وإن خالفوه كان قاطعاً على كفرانهم.(8/514)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
ولما بين أن حلفهم هذا إنما هو لكراهة الخزي عند المؤمنين وبين من هو الأحق بأن يرضوه، أقام الدليل على ذلك في استفهام إنكار وتوبيخ مبيناً أنهم فرّوا من خزي منقض فسقطوا في خزي دائم، والخزي: استحياء في هوان، فقال: {ألم يعلموا} أي لدلالتهم على الأحق بالإرضاء. ولما كان ذكر الشيء مبهماً ثم مفسراً أضخم، أضمر للشأن فقال: {أنه} أي الشأن العظيم {من يحادد الله} وهو الملك الأعظم، ويظهر المحاددة - بما أشار إليه الفك {ورسوله} أي الذي عظمته من عظمته، بأن يفعل معهما فعل من يخاصم في(8/514)
حد أرض فيريد أن يغلب على حد خصمه، ويلزمه أن يكون في حد غير حده {فأن له نار جهنم} أي فكونها له جزاء له على ذلك حق لا ريب فيه {خالداً فيها} أي دائماً من غير انقضاء كما كانت نيته المحادة أبداً؛ ثم نبه على عظمة هذا الجزاء بقوله: {ذلك} أي الأمر البعيد الوصف العظيم الشأن {الخزي العظيم*} .
ولما علل فعل المستهينين، أتبعه تعليل أمر صنف آخر أخف منهم نفاقاً بما عندهم مما يقارب التصديق فقال: {يحذر المنافقون} وعبر بالوصف الدال على الرسوخ تحذيراً لهم من أدنى النفاق فإنه يجر إلى أعلاه {أن تنزل} ولما كانت السورة الفاضحة لهم داهية ونائبة من نوائب الدهر وشدائده، عدى الفعل بعلى فقال: {عليهم سورة} أي قطعة من القرآن شديدة الانتظام {تنبئهم} أي تخبرهم إخبار عظيماً مستقصي {بما في قلوبهم} لم يظهروا عليه أحداً من غيرهم او أحداً مطلقاً، لعل هذا الصنف كانوا يسلفون الأيمان لعلها تشكك بعض الناس أو تخفف عنهم إذا نزل ما يهتكهم، روي أنهم كانوا يقولون ما يؤدي ويدل على النفاق ويقولون: عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا، وقال بعضهم بعد كلام قالوه: والله إني لأرانا شر خلق الله ولوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة وأنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا.(8/515)
ولما كان حذرهم مع العمل ينافيه من كلام النفاق فعل المستهزىء، قال مهدداً: {قل استهزءوا} أي افعلوا فعل المستهزىء بغاية الرغبة {إن الله} أي المحيط بكمال العلم وتمام القدرة {مخرج} أي كانت له وصف إخراجه {ما تحذرون*} أي إخراجه من قبائحكم؛ وعن الحسن: كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة، حفرت ما في قلوب المنافقين وأظهرته.
ولما وصفهم بالنفاق، حققه بعدم مبادرتهم إلى التوبة التي هي فعل المؤمنين، وباجترائهم على الإنكار مع كون السائل لهم مَنْ بلغ الغاية في الجلال والوقار والكمال فقال: {ولئن سألتهم} أي وأنت من يجب أن يصدقه مسؤوله عما أخرجت السورة مما أظهروا بينهم من الكفر، وذلك حين قال بعضهم: انظروا إلى هذا الرجل يظن أنه يفتح قصور الشام وحصونها! هيهات هيهات! فأعلمه الله فقال: احبسوا عليّ الركب.
فسألهم {ليقولن إنما} أي ما قلنا شيئاً من ذلك، إنما {كنا نخوض} أي نتحدث على غير نظام {ونلعب} أي بما لا خرج علينا فيه ويحمل عنا ثقل الطريق، فكأنه قيل: فماذا يقال لهم إذا حلفوا على ذلك على العادة؟ فقال: {قل} أي لهم تقريراً على استهزائهم متوعداً لهم معرضاً عما اعتذروا إعلاماً بأنه غير أهل لأن يسمع جاعلاً لهم كأنهم معترفون بالاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته تكذيباً لهم(8/516)
في قولهم: إنك إذن، بالمعنى الذي أرادوه، وبياناً لما في إظهارك لتصديقهم من الرفق بهم {أبالله} أي هو المحيط بصفات بصفات الكمال {وآياته} أي التي لا يمكن تبديلها ولا تخفى على ذي بصر ولا بصيرة {ورسوله} أي الذي عظمته من عظمته وهو مجتهد في إصلاحكم وتشريفكم وإعلائكم {كنتم} أي دائماً {تستهزءون*} .
ولما حقق استهزاءهم، أنتج قوله: {لا تعتذروا} أي لا تبالغوا في إثبات العذر، وهو ما ينفي الملام، فإن ذلك لا يغنيكم وإن اجتهدتم لأن القطع حاصل بأنكم {قد كفرتم} أي بقولكم هذا، ودل - على أن كفرهم أحبط ما كان لهم من عمل - بنزع الخافض تشديداً على من نكث منهم تخويفاً له وتحقيقاً بحال من أصر فقال: {بعد إيمانكم} أي الذي ادعيتموه بألسنتكم صدقاً من بعضكم ونفاقاً من غيره.
ولما كان الحال مقتضياً لبيان ما صاروا إليه بعد إكفارهم من توبتهم أو إصرارهم، بين أنهم قسمان: أحدهما مطبوع على قلبه ومقضي توبته وحبه، وهذا الأشرف هو المراد بقوله بانياً للمفعول إعلاماً بأن المقصود الأعظم هو الفعل، لا بالنظر إلى فاعل معين: {إن نعف} لأن كلام الملك وإن جري في مضمار الشرط فهو مرشد إلى تحققه(8/517)
ليحصل الفرق بين كلام الأعلى والأدنى {عن طائفة منكم} أي لصلاحيتها للتوبة {نعذب طائفة} أي قوم ذوو عدد فيهم أهلية الاستدارة، وقرأ عاصم ببناء الفعلين للفاعل على العظمة {بأنهم} أي بسبب أنهم {كانوا مجرمين*} أي كسبهم للذنوب القاطعة عن الخير صفة لهم ثابتة لا تنفك، فهم غير متأهلين للعفو، وشرح هذه القصة أنه كان يسير بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك ثلاثة نفر من المنافقين: اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول، والآخر يضحك، قيل: كانوا يقولون: إن محمداً يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم، ما أبعده من ذلك! وقيل: كانوا يقولون: إن محمداً يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين في المدينة قرآن، وإنما هو قوله وكلامه، فأطلع الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك فقال: احسبوا الركب عليّ، فدعاهم وقال لهم: قلتم كذا وكذا؟ فقالوا: {إنما كنا نخوض ونلعب} أي كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لقطع الطريق بالحديث واللعب، قال ابن اسحاق: والذي عفى عنه رجل واحد وهو مخشي بن حمير الأشجعي، يقال: هو الذي كان يضحك، ولا يخوض وكان يمشي مجانباً لهم وينكر بعض مايسمع، فلما نزلت هذه الآية تاب.
قال: اللهم! لا أزال أسمع آية تقرأ، تقشعر منها(8/518)
الجلود، وتجب منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك! لا يقول أحد: أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا عرف مصرعه غيره رضي الله عنه. ولعل إطلاقاً الطائفة عليه تعظيماً له وستراً عليه وتبشيراً بتوبة غيره، ولعل مخشياً كان مؤمناً ولكن كان إيمانه مزلزلاً فلذا عبر هنا بقوله {أكفرتم بعد إيمانكم} والتعبير بذلك أشنع في الذم ولا سيما عند العرب لأنهم يتمادحون بالثبات على أيّ أمر اختاروه ويتذامون بالطيش، ولعل الجلاس المعنيّ بالقصة الآتية وحده أو مع غيره لم يكن آمن كغيره ممن عني بها، وما آمن إلا حين تاب، فلذا عبر هناك بقوله: {وكفروا بعد إسلامهم} ؛ قال أبو حيان: قال ابن عمر: «رأيت وديعة بن ثابت متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول {إنما كنا نخوض ونلعب} والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:» أبالله وآياته «- الآية.
ولما بين سبحانه أفعالاً وأقوالاً لطوائف من المنافقين - منهم من كان معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العسكر - هي في غاية الفساد، كان ذلك ربما اقتضى أن يسأل عن المتخلفين لو خرجوا ما كان يكون حالهم؟ فقال جواباًُ عن ذلك واستدلالاً على أن إجرام الذين لم يعف عنهم منهم خلق لازم: {المنافقون والمنافقات} أي الذين أظهروا الإيمان(8/519)
وأبطنوا الكفران {بعضهم} ولما كان مرجعهم الجمود على الهوى والطبع والعادة والتقليد من التابع منهم للمتبوع، قال: {من بعض} أي في صفة النفاق هم فيها كالجسد الواحد، أمورهم متشابهة في أقوالهم وأفعالهم وجميع أحوالهم، والقصد أن حالهم يضاد حال أهل الإيمان ولذلك بينه بقوله: {يأمرون بالمنكر} أي مما تقدم من الخبال والإيضاع في الخلال وغير ذلك من سيء الخصال {وينهون عن المعروف} أي من كل ما يكون فيه تعظيم الإسلام وأهله، يبغون بذلك الفتنة {ويقبضون أيديهم} أي يشحون فلا ينفقون إلا وهم كارهون.
ولما كان كأن قيل: أما خافوا بذلك من معاجلة العقاب؟ أجاب بقوله: {نسوا الله} أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه، ويصلح أن يكون علة لما تقدم عليه؛ ولما اقدموا على ذلك، سبب عنه قوله: {فنسيهم} أي فعل بهم فعل الناسي لما استهان به بأن تركهم من رحمته، فكان ذلك الترك سبباً لحلول نقمته؛ ولما تطبعوا بهذه النقائص كلها، اختصوا بكمال الفسق فشرح ذلك في أسلوب التعجيب من حالهم فقال مظهراً موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: {إن المنافقين هم} أي خاصة {الفاسقون *} أي الخارجون عن دائرة ما ينفعهم من الطاعة الراسخون في ذلك، فقد علم أنهم لو غزوا فعلوا فعل هؤلاء سواء لأن الكل من طينة واحدة.(8/520)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
ولما بين كثيراً من أحوالهم فاشتد التشوف إلى مآلهم وكان مقصودها بإظهار الإيمان والاعتذار عن النقائض بتأكيد الأيمان إنما هو التقرب إلى المؤمنين والتحبب طمعاً في العيش في أكنافهم وفرقاً من المعاجلة بما يستحقون من إتلافهم، بين أن لهم على هذا الخداع العذاب الدائم والطرد اللازم، وجمع معهم المصارحين بالكفر إعلاماً بأنهم إن لم يكونوا أعظم عناداً منهم فهم سواء، فقال: {وعد الله} وساقه بصيغة البشارة تهكماً بهم وإبلاغاً في مساءتهم {المنافقين والمنافقات} أي المساترين باعتقادهم {والكفار} أي المجاهرين في عنادهم.
ولما كانوا مجبولين على تجهم المؤمنين والانقباض عنهم، وإن أظهروا خلاف ذلك فهو تصنع، قال: {نار جهنم} أي النار التي من شأنها تجهم أهلها ولقاؤهم بالعبوسة الزائدة {خالدين فيها} أي لا براح لهم عنها {هي حسبهم} أي كافيتهم في العذاب، لكن لما كان الخلود قد يتجوز به عن الزمن الطويل فيكون بعده فرج، قال: {ولعنهم الله} أي طردهم وأبعدهم من رحمته وهو الملك العليم الحكيم الذي لا أمر لأحد معه فأفهم أنه لا فرج لهم، ثم نفي كل احتمال بقوله: {ولهم} أي بالأمرين {عذاب مقيم*} أي لا وصف له غير الإقامة في الدنيا بما هم مقهورون به من سطوة الإسلام وجنوده الكرام الأعلام، وفي الآخرة بما لا يعلمه حق علمه إلا الله(8/521)
الملك العلام.
ولما كان حالهم في الإقبال على العاجلة لكونها حاصلة والإعراض عن العاقبة لأنها غائبة متشابهاً لحال من كان قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية، بين لهم ذلك وختم ببيان سوء أحوالهم وقبح مآلهم بتلاشي أعمالهم فقال ملتفتاً إلى أسلوب الخطاب لأنه أوقع في باب العتاب وأقعد في استجلاب المصالح للمتاب: {كالذين} أي حاصل ما مضى من أمركم أيها المنافقون أنكم مثل الذين؛ ولما كان فاعل ما يذكر إنما هو بعض من مضى أثبت الجارّ فقال: {من قبلكم} أي من الأمم الخالية، ثم شرع في شرح حالهم وذكر وجه الشبه فقال: {كانوا أشد منكم قوة} لأن الزمان كان إذ ذاك أقرب إلى سن الشباب {وأكثر أموالاً وأولاداً} وهذا ناظر إلى قوله: «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم {فاستمتعوا} أي طلبوا المتاع والانتفاع في الدنيا بغاية الرغبة معرضين عن العقبى {بخلاقهم} أي نصيبهم الذي قدره الله وخلقه لهم، وكان الأليق بهم أن يتبلغوا به في السفر الذي لا بد منه إلى الآخره {فاستمتعتم بخلاقكم} أي كالمقتفين لآثارهم والقاصدين لنارهم {كما استمتع} وفي الإتيان بقوله: {الذين} ولما كانوا لم يستغرقوا الزمن الماضي، أثبت الجارّ فقال: {من قبلكم بخلاقهم} ظاهراً غير مضمر تنبيه على ذمهم بقلة النظر لنفسهم المستلزم لقلة عقولهم حيث كانوا دونهم في القوة أبداناً وأموالاً وأولاداً لم يكفوا عن الاستمتاع(8/522)
والخوض خوفاً مما محق أولئك الأحزاب على قوتهم من العذاب من غير أن ينفعهم سبب من الأسباب {وخضتم} أي ذهبتم في أقوالكم وأفعالكم خبطاً على غير سنن قويم {كالذي} أي كخوضهم الذي {خاضوا} وهو ناظر إلى قولهم {إنما كنا نخوض ونلعب} قال أبو حيان: وهو مستعار من الخوض في الماء ولا يستعمل إلا في الباطل لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة» .
ولما آذن هذا النظم لهم بالخسارة، حصل التشوف إلى عاقبة أمرهم فأخبر عن ذلك بقوله: {أولئك} أي البعداء من الخير، والظاهر أنه إشارة إلى الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والأولاد {حبطت} أي فسدت فبطلت {أعمالهم في الدنيا} أي بزوالها عنهم ونسان لذاتها {والآخرة} أي وفي الدار الباقية لأنهم لم يسعوا لها سعيها؛ وزاد في التنبيه على بعدهم مما قصدوا لأنفسهم من النفع فقال: {وأولئك هم} أي خاصة {الخاسرون*} أي لا خاسر في الحقيقة غيرهم لأنهم خسروا خلاقهم في الدارين فخسروا أنفسهم فلا أخسر ممن تشبه بهم، ولعل في الالتفات إلى مقام الخطاب أيضاً إشارة إلى تحذير كل سامع من مثل هذه الحال لصحة أن يكون مراداً بهذا المقال،(8/523)
فإن من أسرار القرآن في إعجازه أن تكون عبارته متوجهة إلى شيء وإشارته شاملة لغيره من حيث اتصافه بعلة ذلك الحال أو غير ذلك من الخلال؛ قال الإمام أبو الحسن الحرالي في آخر عروة المفتاح في بيان تناول كلية القرآن لكلية الآية ولكل قارىء يقرؤه من أهل الفهم والإيقان: اعلم أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن نبأ عن جميع الأكوان، وأن جميع ما أنبأ عنه من أمر آدم إلى زمان محمد عليهما السلام من أمر النبوات والرسالات والخلافات وأصناف الملوك والفراعنة والطغاة وأصناف الجناة وجميع ما أصابهم من المثوبات والمثلات في يوم آدم عليه السلام إلى زمان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو ستة آلاف سنة ونحوها كل ذلك يتكرر بجملته في يوم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو ألف سنة أو نحوها أعداداً بأعداد وأحوالاً بأحوال في خير أو شرف، لكل من الماضين مثل يتكرر في هذه الأمة الخاتمة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «» لكل نبي قبلي في أمتي نظير «ثم ذكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظراء» مثل إبراهيم كأبي بكر، ومثل موسى كعمر، ومثل هارون كعثمان، ومثل نوح كعلي، ومثل عيسى كأبي ذر «وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» إني لأعرف النظراء من أمتي بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم كافرهم ومؤمنهم ممن كان وممن هو كائن وممن سيكون بعد، ولو شئت أن أسميهم لفعلت «»
فما صد أكثر هذه الأمة عن فهم القرآن ظنهم أن الذي فيه من قصص الأولين وأخبار المثابين والمعاقبين من أهل(8/524)
الأديان أجمعين أن ذلك إنما مقصوده الأخبار والقصص فقط، كلاً وليس كذلك! إنما مقصوده الاعتبار والتنبيه لمشاهدة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد وتلك الأحوال والآثار حتى يسمع السامع جميع القرآن من أوله إلى خاتمته منطبقاً على هذه الأمة وأئمتها هداتها وضلالها، فحينئذ ينفتح له باب الفهم ويضيء له نور العلم ويتجه له حال الخشية ويرى في أصناف هذه الأمة ما سمع من أحوال القرون الماضية وإنه كما قيل في مثل السائر:
إياك أعني واسمعي ياجارة ... ثم إذا شهد انطباق القرآن على كلية الأمة فكان بذلك عالماً ينفتح له باب ترق، فيترقى سمعه إلى أن يجد جميع كلية القرآن المنطبق على كلية الأمة منطبقاً على ذاته في أحوال نفسه وتقلباته وتصرفات أفعاله وازدحام خواطره حتى يسمع القرآن منطبقاً عليه فينتفع بسماع جميعه ويعتبر بأي آية سمعها منه فيطلب موقعها في نفسه فيجدها بوجه ما رغبة كانت أو رهبة تقريباً كانت أو تبعيداً إلى أرفع الغايات أو إلى أنزل الدركات، فيكون بذلك عارفاً، هذا مقصود التنبيه في هذا الفصل جملة، ولنتخذ لذلك مثالاً يرشد لتفهم ذلك الانطباق على كلية الأمة علماً وعلى خصوص ذات القارىء السامع(8/525)
عرفاناً، فاعلم أن أصول الأديان المزدوجه التي لم تترق إلى ثبات حقائق المؤمنين فمن فوقهم من المحسنين والموقنين التي جملتها تحت حياطة الملك والجزاء والمداينة، الذين تروعهم رائعة الموت أولاً ثم رائعة القيامة ثانياً إلى ما يشتمل عليه يوم الدين من أهوال المواقف الخمسين التي كل موقف منها ألف من السنين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فعدد هذه الأديان سبعة، ما من دين منها إلا ويوجد في صنف من أصناف هذه الأمة، وتجده المعتبر في نفسه في وقت ما بقلة أو كثرة بدوام أو خطرة بضعف أو شدة على إثر دين غالب أو عن لمح عين زائل، وهذه الأديان السبعة هي دين {الذين آمنوا} من هذه الأمة ولم يتحققوا لحقيقة الإيمان فيكونوا من المؤمنين الذين صار الإيمان وصفاً ثابتاً في قلوبهم، الموحدين المتبرئين من الحول والقوة، المتحققين لمعناه، إقداراً لله عليهم بما شاء لا بما يشاؤون {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون - أولئك هم المؤمنون حقاً} [الأنفال: 2-4] ، وأما الذين آمنوا فهم الذين لا يثبتون على حال إيمانهم ولكن تارة وتارة، ولذلك هم المنادون والمنهيون والمأمورون في جميع القرآن الذين يتكرر عليهم النداء في السورة الواحدة مرات عديدة من نحو ما بين قوله تعالى
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119] إلى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم(8/526)
عن دينه} [المائدة: 54] إلى ما بين ذلك من نحو قوله تعالى {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا} [النساء: 137] فهؤلاء هم أهل دين ثابت ينتظمون به مع من ليس له ثبات من ماضي الأيان المنتظمين مع من له أصل في الصحة من الأديان الثلاثة في نحو قوله تعالى {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر} [البقرة: 62] المنتظمين أيضاً مع المغيرين لأديانهم والمفترين لدين لم ينزل الله به من سلطان في نحو قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17] فهذا هو الدين الأول؛ وأما الدين الثاني فهو دين الذين هادوا والذين منهم الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها والذين ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون: سيغفر لنا، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه والذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله، والذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، والذين يأكلون الربا وقد نهوا عنه، والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وأما الدين الثالث فدين الذين قالوا: إنا نصارى، الذين منهم الذين ضلوا عن سواء السبيل الذين غلوا في دينهم وقالوا على الله غير الحق واتخذوا رهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وأما الدين الرابع فدين الصابئة الذين منهم متألهو النجوم عباد الشمس والقمر والكواكب ومغيروهم، هم بالترتيب أول من عبد محسوساً(8/527)
سماوياً؛ وأما الدين الخامس فدين المجوس الثنوية الذين جعلوا إلهين اثنين: نوراً وظلمة، وعبدوا محسوساً آفاقياً، وأما الدين السادس فدين الذين أشركوا وهم الذين عبدوا محسوساً أرضياً غير مصور، وهم الوثنية أو مصوراً وهم الصنمية - فهذه الأديان الستة الموفية لعد الست لما جاء فيه؛ وأما الدين السابع فاعلم أن الله سبحانه حعل السابع أبداً جامعاً لستة خيراً كانت أو شراً، فالدين السابع هو دين المنافقين الذين ظاهرهم مع الذين آمنوا وباطنهم مع أحد سائر الأديان الخمسة المذكورة إلى أدنى دين مشركها الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا واذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم - فهذه الأديان السبعة متكررة بكليتها في هذه الأمة بنحو مما وقع قبل في الأمم الماضية، وهو مضمون الحديث الجامع لذكر ذلك في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لتأخذنَّ كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعاً بذراع وشبراً بشبر وباعاً بباع حتى لو أن أحداً من أولئك دخل في حجر ضب لدخلتموه، قالوا: يارسول الله! كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم» وما بينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث هو من مضمون قوله تعالى {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا} ، وأهل هذه الأديان السبعة - أو منهم - عمرة دركات جهنم السبع على ترتيبهم، والناجون(8/528)
بالكلية الفائزون هم المؤمنون فمن فوقهم من المحسنين والموقنين، ومزيد تفضيل في ذلك وتثنية قول بما ينبه عليه بحول الله تعالى من جهات تتبع طوائف من هذه الأمة سنن من تقدمهم في ذلك، أما وجه تكرار دين الذين أشركوا في هذه الأمة فباتخاذهم أصناماً وآلهة يعبدونها من دون الله محسوسة جمادية كما اتخذ المشركون الأصنام والأوثان من الحجارة والخشب واتخذت هذه الأمة بوجه ألطف وأخفى أصناماً وأوثاناً فإنها اتخذت الدينار والدرهم أصناماً والسبائك والنقر أوثاناً من حيث إن الصنم هو ما له صورة والوثن ما ليس له صورة، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«صنم أمتي الدينار والدرهم» وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لكل أمة عجل وعجل أمتي الدينار والدرهم» فلا فرق بين ظن المشرك أن الصنم الذي صنعه بيده ينفعه وظن المفتونين من هذه الأمة أن ما اكتسبوا من الدينار والدرهم ينفعهم حتى يشير مثلهم: ما ينفعك إلا درهمك {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74] فما من آية نزلت في المشركين في ذكر أحوالهم وتبيين ضلالهم وتفاصيل سرهم وإعلانهم إلا وهي منطبقة على كل مفتون بديناره ودرهمه، فموقع قول المشركين في أصنامهم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] مثله موقع نظيره من قول المفتون: ما أحب المال إلا لأعمل(8/529)
الخير وأستعين به على وجوه البر، ولو أراد البر لكان ترك التكسب والتمول له أبر: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنما أهلك من كان قبلكم الدينار والدرهم وهما مهلكاكم» فكل من أحبهما وأعجب بجمعهما فهو مشرك هذه الأمة وهما لاته وعزاه اللتان تبطلان عليه قول لا إله إلا الله لأنه تأله ماله؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا إله إلا الله نجاة لعباد الله من عذاب الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم» فمن وجد من هذا مسة فليسمع جميع ما أنزل في المشركين من القرآن منطبقاً عليه ومنزلاً إليه وحافاً به حتى يخلصه الله من شركه كما خلص من أخرجه من الظلمات إلى النور من الأولين، فتخلص هذا المشرك بما له من ظلمته التي غشيت ضعيف إيمانه إلى صفاء نور الإيمان في مضمون قوله تعالى {ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور} [الطلاق: 11] فهذا وجه تفضيل يبين نحواً من تكرر دين الشرك في هذه الأمة، وأما وجه وقوع المجوسية، ونظيرها في هذه الأمة فإطباق الناس على رؤية الأفعال من أنفسهم خيرها وشرها وإسنادهم أفعال الله إلى خلقه حيث استحكمت عقائدهم على أن فلاناً فاعل وفلاناً فاعل شر وفلاناً يعطي وفلاناً يمنع وفلاناً خير مني وفلاناً أعطاني، حتى ملؤوا الدواوين من الأشعار والخطب والرسائل أمداحاً لخلق الله على ما لم يفعلوا وذماً لهم(8/530)
على ما لم يمنعوا يحمدون الخلق على رزق الله ويذمونهم على ما لم يؤته الله ويلحدون في أسمائه حتى يكتب بعضهم لبعض «سيدي وسندي وأسنى عُددي عبدك ومملوكك» يبطلون بذلك أخوة الإيمان ويكفرون تسوية خلق الرحمن ويدعون لأنفسهم أفعال الله فيقولون: فعلنا وصنعنا وأحسنا وعاقبنا - كلمة نمرودية، آتاهم ما لم يشعروا باختصاص الله فيه بأمر كالذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك حين قال: أنا أحيي وأميت، وهذه هي المجوسية الصرف والقدرية المحضة التي لا يصح دين الإسلام معها، لأن المسلم من أسلم الخلق والأمر لربه
{أسلمت وجهي لله ومن اتبعن} [آل عمران: 20] ، {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] وما سوى ذلك قدرية وهي مجوسية هذه الأمة حيث جعلوا للعبد شركة في فعل الرب وجعلوا له معه تعالى قدرة وقوة ومشيئة واختياراً وتدبيراً ولم يعلموا أن التقدير منع التدبير، وأنه تعالى هو يدبر الأمر من السماء إلى الأرض؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «القدرية مجوس هذه الأمة» فكل ما أنزل الله عز وجل في القرآن الجامع لذكر جميع الملل والأديان مما عزاه لمن وزع الأفعال بين الحق والخلق من كلام ذي فرعنة أو نمرودية أو ذي سلطان فللمعتقد المدح والذم حظ منه على حسب توغلهم واستغراقهم في الذين زعموا أنهم فيهم شركاء فخافوهم ورجوهم، فكل خائف من الخلق أو راج منهم من عداد الذين آمنوا والذين أسلموا في هذه الأمة(8/531)
فهم من مجوس هذه الأمة، فليسمع السامع ما يقرؤه من ذلك حجة عليه ليسأل الله تعالى التخلص منها وليعلم أن ذلك لم يزل حجة عليه وإن كان لم يشعر به قبل. فهذا وجه من وقوع المجوسية في هذه الأمة، وأما وجه وقوع الصابئة ونظيرها في هذه الأمة - فما غلب على أكثرهم وخصوصاً ملوكها وسلاطينها وذوو الرئاسة منها من النظر في النجوم والعمل بحسب ما تظهره هيئتها عندهم من سعد ونحس والاستمطار بالنجوم والاعتماد على الأنواء وإقبال القلب على الآثار الفلكية قضاء بها وحكماً بحسب ما جرى عليه الخليون الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون - من العناية بها، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أربعة من أمتي هن بهم كفر وليسوا بتاركيهن» - فذكر منها الاستمطار بالنجوم فالمتعلق خوفهم ورجاؤهم بالآثار الفلكية هم صابئة هذه الأمة كما أن المتعلق خوفهم ورجاؤهم بأنفسهم وغيرهم من الخلق هم مجوس هذه الأمة، وكما أن المتعلق تشوفهم ورجاؤهم بدرهمهم ودينارهم هم مشركو هذه الأمة وما انطوى عليه سر كل طائفة منهم مما تعلق به خوفهم ورجاؤهم فهو ربهم ومعبودهم الذي إليه تصرف جميع أعمالهم، واسم كل امرىء مكتوب على وجه ما اطمأن به قلبه فكل ما أنزل في القرآن من تزييف أراء الصابئة فهو حجة عليه(8/532)
حيث يقرؤه أو يسمعه من حيث لا يشعر حتى يقرأ قوم القرآن وهو نذير لهم بين يدي عذاب شديد وهم لا يشعرون ويحسبون أنهم يرحمون به وهم الأخسرون
{ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} [الإسراء: 82] فمما يختص بهذه الطائفة المتصبئة ما هو نحو قوله تعالى {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} [الأنعام: 75]- الآيات في ذكر الكوكب والقمر والشمس إلى آيات ذكر التسخير لهن نحو قوله تعالى {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} [إبراهيم: 33] {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق} [يونس: 5] {وإنه هو رب الشعرى} [النجم: 49] كل ذلك ليصرف تعالى خوف الخلق ورجاءهم عن الأفلاك والنجوم المسخرة إلى المسخر القاهر فوق عبادة الذي استوى على جميعها، فهذا وجه من وقوع الصائبة في الذين آمنوا والذين أسلموا في هذه الأمة، وأما وجه وقوع ما غلب على هذه الأمة وكثر فيها وفشا في أعمالها وأحوالها من تمادي طوائف منهم على نظير ما كان عليه اليهود والنصارى في اختلافهم وغلبة أحوالهم - ملوكهم وسلاطينهم - على أحوال أنبيائهم وعلمائهم وأوليائهم فهو الذي حذرته هذه الأمة وأشعر أولو الفهم(8/533)
بوقوعه فيهم بنحو ما في مضمون قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران: 105] وما أنبأ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لاتبعتموهم» وفي بعض طرقه «حتى لو كان فيهم من أتى أمه جهاراً لكان فيكم ذلك، قلنا: يارسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» وإنما قوي وكثر في هذه الأمة حال هاتين الملتين لما آتاهما الله من الكتاب والعلم والحكمة فاختلفوا فيها بالأغراض والأهواء وإيثار عرض الدنيا، وسامحوا الملوك والولاة وحللوا لهم ما حرم الله وحرموا لهم ما حلل الله، وتوصلوا بهم إلى أغراضهم في الاعتداء على من حسدوه من أهل الصدق والتقوم، وكثر البغي بينهم فاستقر حالهم على مثل حالهم، وسلطت عليهم عقوبات مثل عقوباتهم، وتمادى ذلك فيهم منذ تبدلت الخلافة ملكاً إلى أن تضع الحرب أوزارها وتصير الملل كلها ملة واحدة ويرجع الافتراق إلى ألفة التوحيد، فكل من اقتطع واقتصر من هذه الشريعة المحمدية الجامعة للظاهر والباطن حظاً مختصاً من ظاهر أو باطن ولم يجمع بينهما في علمه وحاله وعرفانه فهو بما لزم الظاهر الشرعي دون حقيقة باطنه من يهود هذه الأمة كالمقيمين لظواهر الأحوال الظاهر التي بها تستمر الدنيا على حسب ما يرضى ملوك الوقت وسلاطينهم، المضيعين لأعمال السرائر، المنكرين لأحوال أهل الحقائق الشاهد عليهم تعلق خوفهم ورجائهم بأهل الدنيا، المؤثرين لعرض هذا الأدنى، فبهذا ظهرت أحوال اليهود في هذه الأمة، مر(8/534)
الأعراب مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسدرة خضراء نضرة، وكان لأهل الجاهلية سدره يعظمونها ويجتمعون عندها وينيطون بها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا هذه السدرة ذات أنواط كما لهم ذات أنواط! فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قلتموها ورب الكعبة كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة! إنها السنن» فحيث ظهرت أحداث اليهود من البغي والحسد وتعظيم ما ظهر تعظيمه من حيث الدنيا واستحقار ضعفاء المؤمنين فهنالك أعلام اليهودية ظاهرة، وكذلك ايضاً من اقتصر من هذه الشريعة الجامعة المحمدية على باطن من إصلاح حال أو قلب مع تضييع ظاهر الأمر ومجامع الخير وتعاضد الإسلام واكتفى بما استبطن وتهاون بما استظهر فهو من نصارى هذه الأمة، ليس بصاحب فرقان فكيف أن يكون صاحب قرآن، وذلك أن هذا الدين الجامع إنما يقوم بمعالم إسلام ظاهرة وشعار إيمان في القلوب وأحوال نفس باطنة وحقائق إحسان شهودية، لا يشهد المحسن مع الله سواه ولا يؤمن المؤمن مع الله بغيره، ولا يخضع المسلم إلى شيء دونه، فبذلك يتم، وقد التزم بمعالم الإسلام طوائف يسمون المتفقهة، والتزم بشعائر الإيمان طوائف يسمون الأصوليين والمتكلمين، وترامى إلى الإحسان طوائف يسمون المتصوفه، فمتى كان المتفقه منكراً لصدق(8/535)
أحوال الصوفية لما لعله يراه من خلل في أحوال المتصوفة فقد تسنن بسنن اليهودية، ومتى كان المتصوف غير مجل للفقهاء لما لعله يراه من خلل في أحوال المتفقه فقد تسنن بسنن النصارى، وكذلك حال المتكلم بين الفرقتين لأيهما مال، وإنما أئمة الدين الذين جمع الله لهم إقامة معالم الإسلام وإيمان أهل الإيمان وشهود أهل الإحسان، تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله فتأتم بهم الصوفية، وتظهر أنوار قلوبهم على ظلم المتشابهات فيأتم بهم أهل الإيمان، وتبدو في أعمالهم معالم الإسلام تامة فيأتم بهم أهل الإسلام {عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} [الفرقان: 63] «أفضل الناس مؤمن في خلق حسن وشر الناس كافر في خلق سيىء» فأولو الفرقان جامعون ومستبصرون فمن اقتصر على ظاهر وأنكر باطناً لزمته مذام اليهود فيما أنزل من القرآن فيهم بحسب توغله واقتصاره، ومن اقتصر على باطن دون ظاهر لزمته مذام النصارى فيما أنزل من القرآن فيهم؛ يذكر أن رجلاً من صلحاء المسلمين دخل كنيسة فقال لراهب فيها: دلني على موضع طاهر أصلي فيه، فقال الراهب: طهر قلبك مما سواه وقم حيث شئت، قال ذلك الصالح المسلم: فخجلت منه، فاعلم أن كل واحد من هذين الحالين ليس حال صاحب فرقان ولا حال صاحب قرآن لأن صاحب القرآن لا يخجل لهذا القول لأنه حاله، وقلبه مطهر مما سوى الله،(8/536)
ومع ذلك لابد أن ينظف ظاهره، لأن الله سبحانه كما أنه الباطن فيحب صفاء البواطن فإنه الظاهر يحب صلاح الظواهر، فصاحب القرآن إذا دعي إلى صفاء باطن أجاب ولم يتعلثم وإذا دعي إلى صلاح ظاهر أجاب ولم يتلكأ لقيامه بالفرقان وحق القرآن، يذكر أن ملكاً رحمه الله دخل المسجد بعد العصر وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع فقال له صبي: يا شيخ! قم فاركع، فقام وركع ولم يحاجه بما يراه مذهباً، فقيل له في ذلك فقال: خشيت أن أكون من
{الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} [المرسلات: 48] ووقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سقاية زمزم وقد صنع العباس رضي الله عنه أحواضاً من شراب فضيخ التمر والمسلمون يردون عليه وقد خاضوا فيه بأيديهم، فأهوى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرب من شرابهم، فقال له العباس رضي الله عنه: يا رسول الله! ألا نسقيك من شراب لنا في أسقية؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أشرب من هذه ألتمس بركة أيدي المسلمين» ، فشرب منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فصاحب القرآن يعبد الله تبارك وتعالى بقلبه وجسمه لا يقتصر على ظاهر دون باطن، ولا على باطن دون ظاهر، ولا على أول دون آخر ولا على آخر دون أول؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره» فمن حق القارىء أن يعتبر القرآن نفسه ويلحظ مواضع مذامه للفرق ويزن به أحوال نفسه من هذه الأديان(8/537)
الستة في هذه الأمة، وأما وجه وقوع النفاق وأحوال المنافقين فهي داهية القراء وآفة الخليفة؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أكثر منافقي أمتى قراؤها» وقال بعض كبار التابعين: أدركت سبعين ممن رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه. وأصل مداخله على الخلق من إيثار حرمة الخلق على حرمة الحق جهلاً بالله عز وجل واغتراراً بالناس، فليزم لذلك محاسنة أولى البر والصدق ظاهراً وتكرههم بقلبه باطناً، ويتبع ذلك من الذبذبة بين الحالين ما وصف الله تعالى من أحوالهم وما بينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من علاماتهم حتى قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما» وكما قال تبارك وتعالى {لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} ينظر المنافق إلى ما يستسقط به فضائل أهل الفضل ويتعامى عن محاسنهم، كما روي أن الله يبغض التارك لحسنة المؤمن الآخذ لسيئته، والمؤمن الصادق يتغافل عن مساوىء أهل المساوىء فكيف بمعايب أهل المحاسن! ومن أظهر علامات المنافق تبرمه بأعمال الصادق كما ذكر، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله، وعن ذلك المنافق غماز لماز بخيل جبان مرتاع، مستثقل في مجامع الخير أجنبي منها، مستخف في مواطن الشر متقدم فيها، طلق اللسان بالغيبة والبهتان، ثقيل اللسان عن مداومة ذكر الله تبارك وتعالى، عم عن ذكر(8/538)
الله عز وجل في كل حال، ناظر إلى الناس بكل وجه، وهو مع ذلك يصانعهم ولا يصادقهم، يأخذ من الدين ما ينفعه في الدنيا ولا يأخذ ما ينفع في العقبى، ويجتنب في الدين ما يضر في الدنيا ولا يجتنب ما يضر في في العقبى مما لا يضر في الدنيا، فهذا وجه من وقوع شياع النفاق في هذه الأمة، فلذلك من حق القارىء أن يستشعر مواقع آي القرآن من نفسه في ذات قلبه وفي أحوال نفسه وأعمال بدنه وفي سره مع ربه وفي علانيته مع خلقه، فإنه بذلك يجد القرآن كله منطبقاً عليه خاصاً به حتى كأن جميعه لم ينزل إلا إليه حتى إذا رغب في أمر رغب هو فيه من وجه ولا يقول: هذا إنما أنزل في كذا، وإذا رهب القرآن من أمر رهبه من وجه ما، وإذا أعلى فكذلك وإذا أسفل فكذلك، ولا يقول: هذا إنما أنزل في كذا حتى يجد لكل القرآن موقعاً في عمله أيّ عمل كان ومحلاً في نفسه أيّ حال كان ومشعراً لقلبه أيّ ملحظ كان، فيستمع القرآن بلاغاً من الله سبحانه وتعالى إليه بلا واسطة بينه وبينه، فعند ذلك يوشك أن يكون ممن يقشعر له جلده ابتداء ثم تلين له جلده وقلبه انتهاء، وربما يجد من الله سبحانه وتعالى نفح رحمة يفتح له باباً إلى التخلق بالقرآن أسوة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت، كان خُلقه القرآن وبذلك هو ذو الخلق العظيم - والله واسع عليم-انتهى.(8/539)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
ولما قرر سبحانه بهذه الآية تشابههم في التمتع بالعاجل، وختمها بهذا الختام المؤذن بالانتقام، اتبع ذلك بتخويفهم من متشابهتهم فيما حل بطوائف منهم ملتفتاً إلى مقام الغيبة لأنه أوقع في الهيبة، فقال مقرراً لخسارتهم: {ألم يأتهم} أي هؤلاء الأخابث من أهل النفاق {نبأ الذين من قبلهم} أي خبرهم العظيم الذي هو جدير بالبحث عنه ليعمل بما يقتضيه حين عصوا رسلنا؛ ثم أبدل من ذلك قوله: {قوم نوح} أي في طول أعمارهم وامتداد آثارهم وطيب قرارهم بحسن التمتع في أرضهم وديارهم، أهلكهم بالطوفان، لم يبق عن عصاتهم إنسان، وعطف على قوم القبيلة فقال؛ {وعاد} أي في قوة أبدانهم وعظيم شأنهم ومصانعهم وبنيانهم وتجبرهم في عظيم سلطانهم، أهلكهم بالريح الصرصر، لم يبق ممن كفر منهم بشر {وثمود*} أي في تمكنهم من بلاد الحجر عرضها وطولها، جبالها وسهولها، أهلكوا بالرجفة لم يبق من الكفار منهم ديار {وقوم إبراهيم} أي في ملك جميع الأرض بطولها والعرض، سلب الله منهم الملك بعد شديد الهلك {وأصحاب مدين} أي في جمع الأموال ومد الآمال إلى أخذها من حرام وحلال ونقص الميزان والمكيال فعمهم الله بالنكال {والمؤتفكات} أي في إعراضهم عن صيانة أعراضهم في اتباع لذائذ أغراضهم، فأثمر لهم فعلهم بعد الخسف عموم انقراضهم.(8/540)
ولما كان كأنه قيل: ما نبأهم؟ قال: {أتتهم رسلهم} أي أتى كل أمة منهم رسولها {بالبينات} أي بالمعجزات الواضحات جداً بسبب أنهم ارتكبوا من القبائح ما أوجب دمارهم {فما} أي فتسبب عن ذلك أنه {ما} {كان الله} أي مع ما له من صفات الكمال مريداً {ليظلمهم} أي لأن يفعل بهم في الإهلاك قبل الإنذار وإنارة البينات فعل من تعدونه فيما بينكم ظالماً، ولكنه أرسل إليهم الرسل فكذبوا ما أتوهم به من البينات، فصار العالم بحالهم إذا سمع بهلاكهم وبزوالهم يقول: ما ظلمهم الله {ولكن كانوا} أي دائماً في طول أعمارهم {أنفسهم} أي لاغيرها {يظلمون*} أي بفعل ما يسبب هلاكها، فإن لم ترجعوا أنتم فنحن نحذركم مثل عذابهم، ولعله خص هؤلاء بالذكر من بين بقية الأمم لما عند العرب من أخبارهم وقرب ديارهم من ديارهم مع أنهم كانوا أكثر الأمم عدداً، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء - نبه على ذلك أبو حيان. ولعله قدم أصحاب مدين على قوم لوط وهم بعدهم في الزمان لأن هذا في شأن من وصفوا بأنهم لم يجدوا ما يحميهم مما هم فيه من العذاب بمشاهدة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ملجأ أو مغارات أومدخل كما أن من قبل المؤتفكات جمعهم هذا الوصف، فقوم نوح عليه السلام لم يمنعهم لما أتاهم الماء معقل منيع ولا جبل رفيع مع أنه يقال؛ إنهم هم الذين بنوا الأهرامات، منها ما هو بالحجارة ليمنعهم من الحادث الذي(8/541)
هددوا به إن كان ماء، ومنها ما هو بالطوب التي لتحميهم منه إن كان ناراً، وعاد لما أتتهم الريح بادروا إلى البيوت فقلعت الأبواب وصرعتهم في أجواف بيوتهم، ولم يغنهم ما كانوا يبنون من المصانع المتقنة والقصور المشيدة والحصون الممنعة، وحال ثمود معروف في توسعهم في البيوت جبالاً وسهولاً فما منعتهم من الصيحة التي أعقبت الرجفة، وقوم إبراهيم عليه السلام بنوا الصرح، ارتفاعه خمسة آلاف ذراع أو فرسخان ليتوصل به نمرود كما زعم - إلى السماء فأتى الله بنيانهم من القواعد، ألقت الريح رأسه في البحر وخر عليهم الباقي وهم تحته، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، وأصحاب مدين لما أتاهم العذاب فأخذتهم الرجفة الرجفة لما تغن عنهم مدينتهم، وإن كانوا هم أصحاب الأيكة فإنهم لما اشتد عليهم الحر يوم الظلة قصدوا المغارات فوجدوها أحر من وجه الأرض فخرجوا منها هاربين، فجمعتهم الظلة بنسيم بارد خيلته إليهم ولبست به عليهم، فلما اجتمعوا تحتها أحرقتهم نارها وبقي عليهم عارها، وأما قوم لوط فأتاهم الأمر بغتة، لم يشعروا حتى قلبت مدائنهم بعد أن رفعت إلى عنان السماء، واتبعت حجارة الكبريت تضطرم ناراً، ولعله خص قوم لوط بالذكر من بين من ليس له هذا الوصف لأن العرب كانوا يمرون على مواضع مدائنهم ويشاهدونها، وعبر عنهم بالمؤتفكات لأن القصص للمنافقين الذين مبنى أمرهم على الكذب وصرف الأمور(8/542)
عن ظواهرها وتقليبها عن وجوهها، فالمعنى أن أولئك لما قلبوا فعل النكاح عن وجهه عوقبوا بقلب مدائنهم، فهؤلاء جديرون بمثل هذه العقوبة لقلب القول عن وجهه، ومادة «إفك» بكل ترتيب تدور على القلب، فإذا كافأت الرجل فكأنك قلبت فعله فرددته إليه وصرفته عنك، وأكاف الدابة شبه بالإناء المقلوب، والكذب صرف الكلام عن وجهه فهو إفك لذلك - والله أعلم.
ولما بين سبحانه أن المنافقين بعضهم من بعض وما توعدهم به وما استتبعه من تهديدهم بإهلاك من شابهوه، وختم بما سبب هلاكهم من إصرارهم وعدم اعتبارهم، عطف ببيان حال المؤمنين ترغيباً في التوبة طعماً في مثل حالهم فقال: {والمؤمنون} {والمؤمنات} أي بما جاءهم عن ربهم {بعضهم أولياء} ولم يقل: من، كما قال في المنافقين: من {بعض} دلالة على أن أحداً منهم لم يقلد أحداً في أصل الإيمان ولا وافقه بحكم الهوى، بل كلهم مصوبون بالذات وبالقصد الأول إلى اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدليل القطعي على حسب فهم كل أحد منهم، فذلك دليل على صحة إيمانهم ورسوخهم في تسليمهم وإذعانهم؛ ثم بين ولا يتهم بأنهم يد واحدة على من سواهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فقال: {يأمرون} أي كلهم على وجه التعاضد والتناصر {بالمعروف} وهو كل ما عرفه الشرع وأجازه {وينهون}(8/543)
أي كذلك {عن المنكر} لا يحابون أحداً.
ولما ذكر الدليل القطعي على صحة الإيمان، أتبعه أفضل العبادات فقال: {ويقيمون الصلاة} أي يوجدونها على صفة تقتضي قيامها بجميع أركانها وشروطها وحدودها مراقبة لربهم واستعانة بذلك على جميع ما ينوبهم {ويؤتون الزكاة} أي مواساة منهم لفقرائهم صلة للخلائق بعد خدمة الخالق، وذلك مواز لقوله في المنافقين {ويقبضون أيديهم} ولما خص أمهات الدين، عم بياناً لأنهم لا ينسون الله طرفة عين بل يذكرونه في كل حال بقوله: {ويطيعون الله} أي الملك الأعظم الذي لا ملك سواه {ورسوله} إشارة إلى حسن سيرتهم وجميل عشرتهم.
ولما ذكر مكارم أفعالهم، أتبعه حسن مآلهم فقال: {أولئك} أي العظماء الشأن {سيرحمهم الله} أي المستجمع لصفات الكمال بوعد لا خلف فيه، وهذا مع الجملة قبله مواز لقوله في المنافقين {نسوا الله فنسيهم} وهو إشارة إلى أن الطريق وعر والأمر شديد عسر، فالسائر مضطر إلى الرحمة، وهي المعاملة بعد الغفران بالإكرام، لا قدرة له على قطع مفاوز الطريق إلا بها، ولا وصول له أصلاً من غير سببها.
ولما بين أن حال المؤمنين مبني على الموالاة وكانت الموالاة فقيرة إلى الإعانة قال: {إن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة(8/544)
{عزيز} أي غالب غير مغلوب بوجه، فهو قادر على نصر من يوالي حزبه وأن ينيله من ثمرات الرحمة ما يريد من غير أن يقدر أحد على أن يحول بينه وبين شيء من ذلك {حكيم*} أي فلا يقدر أحد على نقض ما يحكمه وحل يبرمه، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين لا يزالون منصورين على كل مفسد ما داموا على هذه الخلال من الموالاة وما معها من حميد الخصال.(8/545)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
ولما ختم الآية بوصف العزة والحكمة المناسب لافتتاحها بالموالاة وتعقيبها بآية الجهاد، وذلك بعد الوعد بالرحمة إجمالاً، أتبعها بما هو أشد التئاماً بها بياناً للرحمة وتفصيلاً لها ترغيباً للمؤمنين بالإنعام عليهم بكل ما رامه المنافقون بنفاقهم في الحياة الدنيا، وزادهم بأنه دائم، وأخبر بأن ذلك هو الفوز لا غيره فقال: {وعد الله} أي الصادق الوعد الذي له الكمال كله {المؤمنين والمؤمنات} أي الراسخين في التصديق بكل ما أتاهم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {جنات تجري من تحتها الأنهار} أي فهى لا تزال خضرة ذات بهجة نضرة؛ ولما كان النعيم لا يكمل إلا بالدوام، قال: {خالدين فيها} كانت الجنان لا تروق إلا بالمنازل والدور الفسيحة والمعازل قال: {ومساكن طيبة} ولما كان بعض الجنان أعلى من بعض، وكان أعلاها ما شرف بوصف العندية المؤذن بالقرب من بنائه مما يؤكد معنى الدوام، قال: {في جنات عدن} أي إقامة دائمة وهناء وصحة جسم وطيب مقر وموطن ومنبت،(8/545)
وذلك كما قال في حق أضدادهم {عذاب مقيم} وما أنسب ذكر هذه الجنة في سياق التعبير بالوصف المؤذن بالرسوخ فإنه ورد في الحديث أنها خاصة بالنبيين والصديقين والشهداء. ولما كان ذلك لا يصفو عن الكدر مع تجويز نوع من الغضب قال مبتدئاً إشارة إلى أنهى التعظيم -: {ورضوان} أي رضى لا يبلغه وصف واصف بما تشير إليه صيغة المبالغة ولو كان على أدنى الوجوه بما أفاده التنوين - {من الله} أي الذي لا أعظم منه عندهم {أكبر} أي مطلقاً، فهو أكبر من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز، ولا يقع السرور الذي هو أعظم النعيم إلا برضى السيد، وإذا كان القليل منه أكبر فما ظنك بالكثير.
ولما تم ذلك على أحسن مقابلة بما وصف به أضدادهم، قال يصفه زيادة في الترغيب فيه: {ذلك} أي الأمر العالي الرتبة {هو} أي خاصة لا غيره {الفوز العظيم*} أي الذي يستصغر دونه كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وفي كون ذلك وعداً لمن اتصف لأجل ما اتصف به ترغيب في الجهاد المأمور به بعدها لكونه من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والداعي الأعظم إلى الموالاة.
ولما ثبتت موالاة المؤمنين ومقاطعتهم للمنافقين والكافرين، وكان ما مضى من الترغيب والترهيب كافياً في الإنانة، وكان من لم يرجع(8/546)
بذلك عظيم الطغيان غريقاً في الكفران، أتبع ذلك الأمر بجهادهم بما يليق بعنادهم فقال آمراً لأعظم المتصفين بالأوصاف المذكروة مفخماً لمقداره بأجل أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {يا أيها النبي} أي العالي المقدار بما لا يزال يتجدد له منا من الأنباء وفينا من المعارف؛ ولما كان الجهاد أعرف في المصارحين، وكانوا أولى به لشدة شكائمهم وقوة نفوسهم وعزائمهم بدأ بهم فقال؛ {جاهد الكفار} أي المجاهرين {والمنافقين} أي المسائرين كلاًّ بما يليق به من السيف واللسان.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطبوعاً على الرفق موصى به، قال تعالى: {واغلظ عليهم} أي في الجهادين ولا تعاملهم بمثل ملا عاملتهم به من اللين عند استئذانهم في العقود، وهذا بخلاف ما مضى في وعيد المنافقين حيث قدمهم فقال {المنافقين والمنافقات والكفار} فقدم في كل سياق الأليق به؛ ولما كان المعنى: فإنك ظاهر عليهم وقاهر لهم وهم طعام السيف وطوع العصا، عطف عليه قوله: {ومأواهم} أي في الآخرة {جهنم وبئس المصير*} .
ولما أتى بالدليل العام على إجرمهم، أتبعه الدليل الخاص عليه وهو أيضاً دليل على دليل فقال: {يحلفون بالله} أي الملك الأعلى الذي لا شيء أعظم منه قدراً {ما قالوا} أي ما وقع منهم قول، فقصر الفعل تعميماً للمفعول إعلاماً بأنهم مهما عنفوا على قول كائناً ما كان بادروا إلى الحلف على نفيه كذباً لأنهم مردوا على النفاق فتطبعوا بأعلى الكذب(8/547)
ومرنوا على سيىء الأخلاق، فصار حاصل هذا أنهم أطعموا في العفو وحذروا من عذاب الباقين بسبب إجرامهم لأنهم يأمرون بالمنكر وما يلائمه مقتفين آثار من قبلهم في الانهماك في الشهوات غير مقلعين خوفاً من الله أن يصيبهم بمثل ما أصابهم ولا رجاء له أن ينيلهم مما أعد للمؤمنين مجترئين على الأيمان الباطلة بأعظم الحلف على أيّ شيء فرض سواء كان يستحق اليمين أو لا غير خائفين من الله أن يهتكهم كما هتك غيرهم ممن فعل مثل أفعالهم؛ ثم دل على عظيم إجرامهم وما تضمنه قوله {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} - الآية، من كبائر آثامهم، ويجوز أن تكون هذه الاية واقعة موقع التعليل للآية التي قبلها بأنهم يقدمون على ما يستحقون به الجهاد والغلظة والنار من الحلف كذباً على نفي كل ما ينقل عنهم استخفافاً بالله وبأسمائه {اتخذوا أيمانهم جنة} [المجادلة: 6] فتكون جواباً لمن كأنه قال: أما جهاد الكفار فالأمر فيه واضح، وأما المنافقون فكيف يجاهدون وهم يتكلون بلفظ الإيمان ويظهرون أفعال أهل الإسلام فقال: لأنهم يحلفون {ولقد} أي والحال أنهم كاذبون لقد {قالوا كلمة الكفر} أي الذي لا أكبر في الكفر منه، وهي تكذيب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كان هذا السيافق لصنف يجددون الاستخفاف بالله تعالى -(8/548)
بما دل عليه المضارع كل وقت، دل على أن إقرارهم بالإيمان كذب وأفعالهم صور لا حقائق لها، فعبر بالإسلام فقال: {وكفروا} أي اظهروا الكفر {بعد إسلامهم} أي بما ظهر من أفعالهم وأقوالهم، وذلك غاية الفجور؛ ولما كان أعلى شغف الإنسان بشيء ان تحدثه نفسه فيه بما لا يصل إليه، فيكون ذلك ضرباً من الهوس قال: {وهموا بما لم ينالوا} أي من قتل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إخراجه من المدينة، فجمعوا بين أنواع الكفر القول والفعل والاعتقاد، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في {مأواهم} والتقدير على هذا: يدخلون جهنم حالفين بالله: ما قالوا كلمة الكفر، ولقد قالوها، فيكون كقوله
{ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] .
ولما بين من أحوالهم التي لا يحمل على فعلها إلا أمر عظيم، قال: {وما} أي قالوا وفعلوا والحال انهم ما {نقموا} أي كرهوا شيئاً من الأشياء التي أتتهم من الله {إلا أن أغناهم الله} أي الذي له جميع صفات الكمال وهو غني عن العالمين {ورسوله} أي الذي هو أحق الخلق بأن يجوز عظمة الإضافة إليه سبحانه، وكان أذاهم هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهمهم بقتله مع إعطائه لهم ما أغناهم بخلاف الآية السابقة، فكان الأقعد في ذمهم تأخير قوله: {من فضله} فهو(8/549)
من باب: ولا عيب فيهم.
ولما نبه على أن هذه المساوىء قابلوا بها المحسن إليهم، رغبهم بأنه قابل المتاب عليهم، ورهبهم بأنه لا مرد لما يريد من العذاب بقوله: {فإن يتوبوا} ولما كان المقام جديراً بأن يشتد تشوف السامع إلى معرفة حالهم فيه، حذف نون الكون اختصاراً تنبيهاً على ذلك فقال {يك} أي ذلك {خيراً لهم} من إصرارهم.
ولما كان للنفوس من أصل الفطرة الأولى داعية شديدة إلى المتاب، وكان القرآن في وعظه زاجراً مقبول العتاب عظيم الأخذ بالقلوب والعطف للألباب، أشار إلى ذلك بصيغة التفعيل فقال: {وإن يتولوا} أي يكلفوا أنفسهم الإعراض عن المتاب {يعذبهم الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بحوله وقوته {عذاباً أليماً} أي لا صبر لهم عليه {في الدنيا} أي بما هم فيه من الخوف والخزي والكلف وغيرها {والآخرة} أي بالعذاب الأكبر الذي لا خلاص لهم منه {وما لهم في الأرض} أي التي لا يعرفون غيرها لسفول هممهم {من وليّ} أي يتولى أمورهم فيصلح ما أفسد العذاب منهم أو يشفع لهم {ولا نصير*} أي ينقذهم؛ وأما السماء فهم أقل من أن(8/550)
يطمعوا منها بشيء ناصر أو غيره وأغلظ أكباداً من أن يرتقي فكرهم إلى ما لها من العجائب وما بها من الجنود؛ وسبب نزول الآية على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان جالساً في ظل شجرة فقال: سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله. ما قالوا، فأنزل الله الآية؛ وقال الكلبي: نزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين فسماهم رجساً وعابهم فقال الجلاس: لئن كان محمداً صادقاً لنحن شر من الحمير، فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل، إن محمداً لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قاله الجلاس، فقال الجلاس: كذب عليّ يا رسول الله! فأمرهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب علي عامر، وقام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع عامر(8/551)
رضي الله عنه يديه إلى السماء فقال: اللهم! أنزل على نبيك تصديق الصادق منا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون: آمين! فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ {فإن يتوبوا يك} أي التوب {خيراً لهم} فقام الجلاس فقال: يا رسول الله! أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قاله، لقد قلته، وانا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك منه ثم تاب وحسنت توبته.
ولا مانع من أن يكون كل ذلك سبباً لها كما تقدم ويأتي، والأوفق لها في السببية الخبر الأول للتعبير في الكفر ب «أل» المؤذنة بالكمال، ومن شتم نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد ارتكب كل كفر، وفي الاية دليل على قبول توبة الزنديق المسر للكفر المظهر للايمان - كما قال أبو حيان وقال: وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: لا تقبل، فإن جاء تائباً من قبل نفسه من قبل أن يعثر عليه قبلت توبته.(8/552)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
ولما أقام سبحانه الدليل على ما ذكر بهذه الآية التي ختمها بأنه أغناهم من فضله، أتبها بإقامة الدليل عليها وعلى أنهم يقبضون أيديهم وعلى اجترائهم على اقبح الكذب فقال: {ومنهم من عاهد الله} أي الذي لا أعظم منه {لئن آتانا} أي من خير ما عنده، واعتراف بأنه(8/552)
لا حق لأحد عليه بقوله: {من فضله} أي بأي طريق كان من تجارة أو غنيمة أو زراعة أو غيرها، وأكد لأنه كاذب يظن أن الناس يكذبونه، وهكذا كل كاذب فقال: {لنصدقن} أي مما آتانا من غير رياء - بما يشير إليه الإدغام {ولنكونن} أي كوناً هو الدال على أنا مجبولون على الخير {من الصالحين*} أي لكل خير نندب إليه {فلما آتاهم} وكرر قوله: {من فضله} تقريراً لما قاله المعاهد تأكيداً للإعلام بأنه لا حق عليه لأحد ولا صنع فيما ينعم به ولا قدرة عليه بوجه {بخلوا به} أي كذبوا فيما عاهدوا عليه وأكدوه غاية التأكيد، فلم يتصدقوا بل منعوا الحق الواجب إظهاره فضلاً عن صدقة السر {وتولوا} أي كلفوا أنفسهم الإعراض عن الطاعة لمن تفضل عليهم مع معرفتهم بقبح نقض العهد؛ ولما كان التولي قد يحمل على ما بالجسد فقط قال: {وهم معرضون*} أي بقلوبهم، والإعراض وصف لهم لازم لم يتجدد لهم، بل كان غريزة فيهم ونحن عالمون بها من حين أوقعوا العهد؛ قال أبو حيان: قال الضحاك: هم نبتل ابن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير وثعلبة بن حاطب وفيهم نزلت الآية - انتهى. وحسن تعقيبها بها أيضاً أن في الأولى كفران نعمة الغني من غير عهد، وفي هذه كفرانها مع العهد فهو ترق من الأدنى إلى الأعلى، ودل(8/553)
عظيم شأن العهد بتعظيم الجزاء على خيانته بقوله: {فأعقبهم} أي الله أو التمادي على البخل جزاء على ذلك {نفاقاً} متمكناً {في قلوبهم} أي بأن لا يزالوا يقولون ما لا يفعلون {إلى يوم يلقونه} أي بالموت عند فوت الفوت {بما أخلفوا الله} أي وهو الملك الأعظم {ما وعدوه} لأن الجزاء من جنس العمل؛ ولما كان إخلاف الوعد شديد القباحة، وكان مرتكبه غير متحاش من مطلق الكذب، قال: {وبما كانوا يكذبون*} أي يجددون الكذب دائماً مع الوعدد ومنفكاً عنه، فقد استكملوا النفاق: عاهدوا فغدروا ووعدوا فأخلفوا وحدثوا فكذبوا.
ولما كانت المعاهدة سبباً للإغناء في الظاهر، وكان ذلك ربما كان مظنة لأن يتوهم من لا علم له أن ذلك لخفاء أمر البواطن عليه سبحانه، وكان الحكم هنا وارداً على القلب بالنفاق الذي هو أقبح الأخلاق مع عدم القدرة لصاحبه على التخلص منه، كان ذلك أدل دليل على أنه تعالى أعلم بما في كل قلب من صاحب ذلك القلب، فعقب ذلك بالإنكار على من لا يعلم ذلك والتوبيخ له والتقريع فقال: {ألم يعلموا أن الله} أي الذي له صفات الكمال {يعلم سرهم} وهو ما أخفته صدورهم {ونجواهم} أي ما فاوض فيه بعضهم بعضاً، لا يخفى عليه شيء منه {وأن الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {علام الغيوب*}(8/554)
أي كلها، أي ألم يعلموا أنه تعالى لا يخادع لعلمه بالعواقب فيخشوا عاقبته فيوفوا بعهده، وفائدة الإعطاء مع علمه بالخيانة إقامة الحجة؛ قال أبو حيان: وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن {ألم تعلموا} بالتاء، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير - انتهى.
وفائدة الالتفات الإشارة إلى أن هذا العلم إنما ينفع من هيىء للإيمان.
ولما أخبر تعالى أنه لم يكفهم كفران نعمة الغنى من غير معاهدة حتى ارتكبوا الكفران بمنع الواجب مع المعاهدة، أخبر أنه لم يكفهم أيضاً ذلك حتى تعدوه إلى عيب الكرماء الباذلين بصفة حبهم لربهم ما لم يوجبه عليهم، فقال تعالى معبراً بصيغة تصليح لجميع ما مضى من أقسامهم إفهاماً لأنهم كلهم كانوا متخلقين بذلك وإن لم يقله إلا بعضهم: {الذين يلمزون} أي يعيبون في خفاء {المطوعين} أي الذين ليس عليهم واجب في أموالهم فهم يتصدقون ويحبون إخفاء صدقاتهم - بما يشير إليه الإدغام {من المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان {في الصدقات} ولما كان ما مضى شاملاً للموسر والمعسر، نص على المعسر لزيادة فضله وإشارة إلى أن الحث على قليل الخير كالحث على كثيره فقال عاطفاً على {المطوعين} : {والذين لا يجدون} أي من المال {إلا جهدهم} أي طاقتهم التي أجهدوا أنفسهم فيها حتى بلغوها.(8/555)
ولما كان اللمز هو العيب، وهو ينظر إلى الخفاء كالغمز، ومادته بكل ترتيب تدور على اللزوم، والمعنى: يلزمون المطوعين عيباً ولا يظهرون ذلك لكل أحد وإنما يتخافتون به فيما بينهم، وهو يرجع إلى الهزء والسخرية، سبب عنه قوله: {فيسخرون منهم} ولما كان لا شيء أعظم للشخص من أن يتولى العظيم الانتقام له من ظالمه، قال: {سخر الله} أي وهو الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره {منهم} أي جازاهم على فعلهم بأهل حزبه، وزادهم قوله: {ولهم عذاب أليم*} أي بما كانوا يؤلمون القلوب من ذلك وإذا حوققوا عليه دفعوا عن أنفسهم ما يردعهم عنه بالأيمان الكاذبة، روى البخاري في التفسير عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت {الذين يلمزون} - الآية.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معروفاً بكثرة الاحتمال وشدة اللين المشير إليه {عفا الله عنك لم أذنت لهم} للمبالغة في استجلابهم والحرص على نجاة جميع الخلق فكان معروفاً بالاستغفار لهم تارة على وجه الخصوص بسؤالهم عند اعتذارهم وحلفهم وتارة على وجه العموم عند استغفاره لجميع المسلمين، أخبره تعالى من عاقبة أمره بما يزهده(8/556)
فيهم ليعرض عنهم أصلاً ورأساً، لأنهم تجاوزوا حق الله في ترك الجهاد ومنع الصدقة وحقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في لمزه في الصدقات ووصفه بما يجل عنه إلى حقوق المجاهدين الذين هو سبحانه خليفتهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم مع ما سبق في علمه للمنافقين من أنه لا يغفر لهم فقال: {استغفر} أي اطلب الغفران {لهم أو لا تستغفر لهم} أي استوى في أمرهم استغفارك لهم وتركه {إن تستغفر} أي تسأل الغفران {لهم سبعين مرة} أي على سبيل الحقيقة أو المبالغة؛ ولما كان الإخبار باستواء الأمرين: الاستغفار وتركه ربما كان مسبباً عن الغفران وربما كان مسبباً عن الخسران، عينه في هذا الثاني فقال: {فلن يغفر الله} أي الذي قضى بشقائهم وهو الذي لا يرد أمره {لهم} وهو يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وجواب الشرط محذوف لدلالته عليه، والمراد بالسبعين على ما ظهر في المآل المبالغة في أنه لا يغفر لهم لشيء من الأشياء ولو غفر لهم لشيء لكان لقبول شفاعة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعرب تبالغ بما فيه لفظ السبعة لأنها غاية مستقصاة جامعه لأكثر أقسام العدد، وهي تتمة عدد الخلق كالسماوات والأرض والبحار والأقاليم والأعضاء.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد الحرص على رشدهم ونفعهم،(8/557)
وكان حقيقة نظم الآية التخيير في الاستغفار وتركه ونفي المغفرة بالاستغفار بالعدد المحصور في سبعين، جعل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآية مقيدة لما في سورة المنافقين فاستغفر لابن أبيّ وصلى عليه وقام على قبره وصرح بأنه لو يعلم انه لو زاد على السبعين قبل لزاد، واستعظم عمر رضي الله عنه ذلك منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرع يمسكه بثوبه ويقول: أتصلي عليه وقد نهاك الله عن ذلك! لأنه لم يفهم من الآية غير المجاز لما عنده من بغض المنافقين، وأما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى التمسك بالحقيقة لما في الرفق بالخليفة من جميل الطريقة بتحصيل الائتلاف الواقع للخلاف وغيره من الفوائد وجليل العوائد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول لما نزل النهي الصريح: فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أي تفطنت بعد هذا الصريح أن ذلك الأول كان محتملاً وإلا لأنكر الله الصلاة عليه، وفي موافقة الله تعالى لعمر رضي الله عنه منقبة شريفة له، وقد وافقه الله تعالى مع هذا في أشياء كثيرة، روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفى عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله رضي الله عنه - إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله ان يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه؛ وفي رواية في اللباس، فأعطاه قميصه وقال: إذا فرغت فآذنا، فلما فرغ آذنه فجاء، وفي رواية: فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(8/558)
ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما خيرني الله فقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة} وسأزيده على السبعين؛ وفي رواية؛ لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فأنزل الله عز وجل {ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} إلى {وهم فاسقون} فترك الصلاة عليهم، قال: فعجيب بعد من جراءتي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله ورسوله أعلم: وله في أواخر الجهاد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر أتي بالأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قميصاً فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه، فلذلك نزع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قميصه الذي ألبسه، قال ابن عيينة: كانت له عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يد فأحب أن يكافئه، وفي رواية عنه في اللباس أنه قال: أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أبيّ بعد ما أدخل قبره فأمر به فأخرج ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه - انتهى.
فكأن
ابنه
رضي
الله
عنه
استحى من أن يؤذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به لما كان يعلم من نفاقه، أو آذنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به فصادف منه شغلاً فدفنه فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(8/559)
بعد إدخاله القبر وقبل تمام الدفن فأخرجه تطييباً لخاطر ابنه الرجل الصالح ودفعاً لما قد يتوهمه من إحنة عليه وتأليفاً لغيره، فقد روي أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب، فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي بعض الروايات أنه هو الذي طلب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكفنه في قميصه، وتعطفه عليه، أدعى إلى تراحم المسلمين وتعاطف بعضهم على بعض، وقوله: وألبسه قميصه - بالواو لا ينافي الرواية الأولى، وتحمل الرواية الأولى على أنه وعده إعطاء القميص لمانع كان من التنجيز وقت السؤال، فحمل الجزم بالإعطاء على الوعد الصادق ثم أنجزه بعد إخراجه من القبر - والله أعلم؛ ووردت هذه الآية على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما تقدم من أحوال المنافقين كان انتهاكاً لحرمة الله أو لحق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرد فيه أنه يهينهم بالإماتة على النفاق، فكان يكفي فيه استغفار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم، وأما هذان القسمان فأحدهما أخبر بأنه يميتهم منافقين، والثاني انتهك حرمة المخلصين من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فهل ينفعهم الاستغفار لهم؟ فكأنه قيل: استوى الاستغفار وعدمه في أنه لا ينفعهم، وختمها بعلة عدم المغفرة في قوله:(8/560)
{ذلك} أي الأمر الذي يبعد فعله من الحكيم الكريم {بأنهم كفروا بالله} أي وهو الملك الأعظم {ورسوله} أي فهم لا يستأهلون الغفران لأنهم لم يهتدوا لإصرارهم على الفسق وهو معنى قائم بهم في الزيادة على السبعين كما هو قائم بهم في الاقتصار على السبعين {والله} أي المحيط علماً وقدرة {لا يهدي القوم الفاسقين} أي أنه لا يهديهم لأنه جبلهم على الفسق، وكل من لا يهديه لأنه جلبه على الفسق لا يغفر له، فهو لا يغفر لهم لما علم منهم مما لا يعلمه غيره، فهو تمهيد لعذر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في استغفاره قبل العلم بالطبع الذي لا يمكن معه رجوع.(8/561)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
ولما علل سبحانه عدم المغفرة بفسقهم، وأتى بالظاهر موضع المضمر إشارة إلى اتصافهم به وتعليقاً للحكم بالوصف، علل رسوخهم في الفسق بعد أن قدم أن المنافقين بعضهم من بعض فهم كالجسد الواحد بقوله: {فرح المخلفون} أي الذين وقع تخليفهم بإذنك لهم وكراهة الله لانبعاثهم {بمقعدهم} أي قعودهم عن غزوة تبوك، ولعله عبر بهذا المصدر لصلاحيته لموضع القعود ليكون بدلالته على الفرح أعظم دلالة على الفرح بالموضوع، وهو مروي عن ابن عباس رضى الله عنهما، وأظهر الوصف بالتخلف موضع الضمير زيادة في تهجين ما رضوا به لأنفسهم، وزاده تهجيناً أيضاً بقوله: {خلاف} أي بعد وخلف أو لأجل خلاف {رسول الله} أي الملك الأعظم الذي من(8/561)
تخلف عن حزبه هلك {وكرهوا أن يجاهدوا} .
ولما كان هذا في سياق الأموال تارة بالرضى بنيلها والسخط بحرمانها، وتارة بقبض اليد عن بذلها، وتارة بالاستمتاع بالخلاف الذي هو النصيب أعم من أن يكون بالمال أو النفس، وتارة بعيب الباذلين وغير ذلك من شأنها قدم قوله: {بأموالهم وأنفسهم} على قوله: {في سبيل الله} أي طريق الملك الذي له صفات الكمال، لأنه ليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإيقان الذي بعث المؤمنين، ودل ذلك على عراقتهم في الفسق بأن الإنسان قد يفعل المعصية ويحزن على فعلها وهؤلاء سروا بها مع ما فيها من الدناءة، وقد يسر الإنسان بالمعصية ولا يكره أن يكون بدلها أو معها طاعة وهؤلاء ضموا إلى سرورهم بها كراهية الطاعة، وقد يكره ولا ينهى غيره وهؤلاء جمعوا إلى ذلك كله نهي غيرهم، ففعلوا ذلك كله {وقالوا} أي لغيرهم {لا تنفروا في الحر} بعداً من الإسلام وعمّى عن سيد الأحكام، لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر.
ولما كان هذا قول من لم تخطر الآخرة على باله، أمره تعالى أن يحذر من يصغي إليهم أو يقبل عليهم بقوله: {قل} أي يا أعلم بخلقنا استجهالاً لهم {نار جهنم} أي التي أعدها الله لمن خالف أمره {أشد حرّاً} ولفت الكلام إلى الغيبة يدل على أن(8/562)
أعظم المراد بهذا الوعظ ضغفاء المؤمنين لئلا يتشبهوا بهم طعماً في الحلم فقال تعالى: {لو كانوا} أي المنافقون {يفقهون*} أي لو كان بهم فهم يعلمون به صدق الرسول وقدرة مرسله على ما توعد به لعلموا ذلك فما كانوا يفرون من الحر إلى أشد حراً منه، لأن من فر من حر ساعة إلى حر الأبد كان أجهل الجهال، وقال أبو حيان: لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه، يعني في قوله {فرح المخلفون} - انتهى.
فتكون الآية حيئنذ جواباً لمن كأنه قال: هذه أحوال من خرج فما حال من قعد؟ وقد خرج بما في هذه الآية من الأوصاف كعب بن مالك ورفيقاه رضي الله عنهم ونحوهم ممن لم يفرح بالقعود ولا اتصف بما ذكر معه من أوصافهم.
ولما كان غاية السرور الضحك، وكان اللازم لهم في الآخرة البكاء في دار الشقاء الذي هو غاية الحزن لهم، فيها زفير وشهيق وهم يصطرخون فيها، قال تعالى مهدداً لهم مسبباً عن قبيح ما ذكر من فعلهم مخبراً في صورة الأمر إيذاناً بأنه أمر لا بد من وقوعه: {فليضحكوا قليلاً} أي فليتمتعوا في هذه الدار بفرحتهم بمقعدهم التمتع الذي غاية السرور به الضحك - يسيراً، فإنها دار قلعة وزوال وانزعاج وارتحال {وليبكوا كثيراً} أي في نار جهنم التي أغفلوا ذكر حرورها وأهملوا الاتقاء من شديد سعيرها(8/563)
بدل ذلك الضحك القليل كما استبدلوا حرها العظيم بحر الشمس الحقير {جزاء بما كانوا يكسبون*} أي من الفرح بالمعاصي والسرور بالشهوات والانهماك في اللذات.
ولما كان المسرور بشيء الكاره لضده الناهي عنه لا يفعل الضد إلا تكلفاً ولا قلب له، إليه وكان هذا الدين مبنياً على العزة والغنى، أتبع ذلك بقوله مسبباً عن فرحهم بالتخلف: {فإن رجعك الله} أي الملك الذي له العظمة كلها فله الغنى المطلق عن سفرك هذا {إلى طائفة منهم} أي وهم الذين يمد الله في أعمارهم إلى أن ترجع إليهم، وهذا يدل على أنه أهلك سبحانه في غيبته بعضهم، فأردت الخروج إلى سفر آخر {فاستأذنوك} أي طلبوا أن تأذن لهم {للخروج} أي معك في سفرك ذلك {فقل} عقوبة لهم وغنى عنهم وعزة عليهم ناهياً لهم بصيغة الخبر ليكون صدقك فيه علماً من أعلام النبوة وبرهاناً من براهين الرسالة {لن تخرجوا معي أبداً} أي في سفر من الأسفار لأن الله قد أغناني عنكم وأحوجكم إليّ {ولن تقاتلوا معي عدواً} لأنكم جعلتم أنفسكم في عداد ربات الحجال ولا تصلحون لقتال؛ والتقييد بالمعية كما يؤذن باستثقالهم يخرج ما كان بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصحابه رضي الله عهنم من سفرهم وقتالهم.(8/564)
ولما أخزاهم سبحانه بما أخزوا به أنفسهم، علله بقوله: {إنكم رضيتم بالقعود} أي عن التشرف بمصاحبتي، ولما كانت الأوليات أدل على تمكن الغرائز من الإيمان والكفران وغيرها قال: {أول مرة} أي في غزوة تبوك، ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته؛ قال أبو حيان: فعلل بالمسبب وهو الرضى الناشىء عن السبب وهو النفاق - انتهى.
ولما أنهى الحكم والعلة، سبب عنه قوله: {فاقعدوا مع الخالفين*} أي الذين رضوا لأنفسهم بهذا الوصف الذي من جملة معانيه: الفاسد فهم لا يصلحون لجهاد ولا يلفون أبداً في مواطن الامجاد، وقال بعضهم: المراد بهم الذين تخلفوا بغير عذر في غزوة تبوك، أو النساء والصبيان أو أدنياء الناس أو المخالفون أو المرضى والزمنى أو أهل الفساد، والأولى الحمل على جميع، أي لأن المراد تبكيتهم وتوبيخهم، ولما أتم سبحانه الكلام في الاستغفار وتعليله إلى أن ختم بإهانة المتخلفين، وكان القتل المسبب عن الجهاد سبباً لترك الصلاة على الشهيد تشريفاً له، جعل الموت الواقع في القعود المرضي به عن الجهاد سبباً لترك الصلاة إهانة لذلك القاعد، فقال عاطفاً على ما أفهمت جملة: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} الآية، من نحو: فلا تستغفر لهم أصلاً: {ولا تصلِّ} أي الصلاة التي شرعت لتشريف المصلى عليه والشفاعه فيه {على أحد منهم} ثم وصف(8/565)
الأحد بقوله: {مات} وقوله {أبداً} متعلق بالنهي لا بالموت {ولا تقم على قبره} أي لأن قيامك رحمة وهم غير أهل لها، ثم علل ذلك بقوله: {إنهم كفروا بالله} أي الذي له العظمة كلها ولما كان الموت على الكفر مانعاً من الصلاة على الميت بجميع معانيها لم يحتج إلى التأكيد باعادة الجار فقيل -: {ورسوله} أي الذي هو أعظم الناس نعمة عليهم بما له من نصائحهم بالرسالة، والمعنى أنهم لعظم ما ارتكبوا من ذلك لم يهدهم الله فاستمروا على الضلالة حتى ماتوا على صفة من وقع النهي على الاستغفار لهم المشار إليها بقوله {والله لا يهدي القوم الفاسقين} وذلك المراد من قوله معبراً بالماضي والمعنى على المضارع تحقيقاً للخبر وأنه واقع لا محالة: {وماتوا وهم} أي والحال أنهم بضمائرهم وظواهرهم {فاسقون*} أي غريقون في الفسق.
ولما كان ابن ابيّ سبب النهي عن الاستغفار لهم، وكان ابنه عبد الله بن عبد الله من خيار المؤمنين وخلص المحسنين وكان لبعض المنافقين أبناء مثله، وكان من طبع البشر أن يذكر في كثير من مقاله غلطاً ما يندم عليه، وكان شديد الوقوف لما حف به من العلائق البدنية وشمله من العوائق بالأوهام النفسانية مع أوهامه وعوائقه قاصراً على قيوده وعلائقه، فكان لإعادة الكلام وتكريره وترديده ومزيد تقريره تأكيد في النفوس وتعزية وتثبيت في القلوب، كرر آية الإعجاب(8/566)
لهذه الأسباب لأن يكون حكمها على بال من المخاطب لا ينساه لاعتقاد أن العمل به مهم جداً يفتقر إلى فضل عناية، وأن ذلك شبيه بما أوهم صاحبه فهو يتكلم فيه ثم ينتقل إلى غيره لغرض صحيح ثم يرجع إليه في أثناء حديثة لشدة اهتمامه به تنبيهاً على ذلك، ولا يرجع إليه إلا على غاية ما يكون من حسن الربط وبراعة التناسب، وعطفها بالواو دون الفاء لأن ذلك ليس مسبباً عما قبله كما سبق في الآية الأولى، أي لا تستغفر لهم ولا تصل عليهم ولا تعجبك قولهم: مستعطفين لك في طلب محبتك وإن زخرفوه وأكدوه بالأيمان التي اتخذوها جنة {ولا تعجبك أموالهم} وأسند النهي إليها إبلاغاً فيه.
ولما لم يكن هنا ما اقتضى تأكيد النفي مما مضى في الآية الأولى، لم يعد النافي ولا أثبت اللام ولا الحياة فقال: {وأولادهم} أي وإن أظهروا أنهم يجاهدون بها معك ويتقربون بها إلى الله فإن الله لا يريد بهم ذلك فلا ييسره لهم لما علم من مباعدتهم للخير وعدم قابليتهم له فلا يحملك الإعجاب بشيء من ذلك على فعل شيء مما تقدم النهي عنه تأليفاً لأمثالهم للمساعدة بأولادهم وأموالهم(8/567)
وتطييباً لقلوب المؤمنين من أولادهم، فإنهم إن كانوا مؤمنين لم يضرهم ترك ذلك وإلا فبعداً لهم وسحقاً {إنما يريد الله} أي بعزه وعظمته وعلمه وإحاطته {أن يعذبهم} أي تعذيبهم {بها} فالفعل واقع بخلافة في الآية السابقة {في الدنيا} أي بجمعها ومحبة الإخلاد إليها وإلى الأولاد إن كانوا مثلهم في الاعتقاد وإلا كانوا زيادة عذاب لهم في الدارين {وتزهق} أي تخرج بغاية العسر {أنفسهم وهم} لاغترارهم بها {كافرون*} ولا شك أن خطاب الرأس بغاية العسر {أنفسهم وهم} لاغترارهم بها {كافرون*} ولا شك أن خطاب الرأس بشيء أوقع في قلوب أصحابه فلذلك وقع الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد غيره من أتباعه وجماعته وأشياعه ممن قد يجنح إلى الأسباب ويقف عنده كما هو طبع النفوس في تأمل ما شهد ونسيان ما غاب وعهد تدريباً لهم على الحب في الله والبغض فيه لأنه من أدق أبواب الدين فهماً وأجلها قدراً، وعليه تبتنى غالب أبوابه، ومنه تجتنى أكثر ثمراته وآدابه، وذلك أنه ربما ظن الناظر فيمن بسطت عليه الدنيا أنه من الناجين فيوادّه لحسن قوله غافلاً عن سوء فعله، أو يظن أن أهل الدين فقراء إلى مساعدته لهم في جهاد أو غيره بما له وذويه روية فيداريه، فأعلمهم تعالى أن ما هذا سبيله مقطوع البركة نهياً عن النظر إلى الصور وتنبيهاً على قصر الأنظار على المعاني {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} [المائدة: 100]- الآية {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا(8/568)
تسمع لقولهم} [المنافقون: 41] .(8/569)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
ولما افتتحت قصتهم بأن المتقين لا يتوقفون في الانتداب إلى الجهاد على أمر جديد ولا استئذان، بل يكتفون بما سبق من عموم الحث عليه والندب إليه فيبادرون إليه الطرف ولا يحاذرون الحتف، وأن من المنافقين من يستأذن في الجهاد جاعلاً استئذانه فيه باباً للاستئذان في التخلف عنه، ومنهم من يصرح بالاستئذان في العقود ابتداء من غير تستر، وعقب ذلك بالنهي عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم ثم مر في ذكر أقسامهم وما لزمهم من فضائحهم وآثامهم، إلى أن ختم القصة بأن أموالهم إنما هي لفتنتهم لا لرحمتهم، ولمحنتهم لا لمنحتهم، أتبع ذلك بدليله من أنهم لا يتوصلون بها إلى جهاد، ولا يتوسلون إلى دار المعاد، فقال عاطفاً على ما أفهمه السياق من نحو أن يقال لأنهم لا يفعلون بها خيراً ولا يكسبون أجراً، أو بانياً حالاً من الكاف في «تعجبك» : {وإذا أنزلت سورة} أي وقع إنزال قطعة من القرآن.
ولما كان الإنزال يدل على المنزل حتماً، فسره بقوله: {أن آمنوا بالله} أي الذي له الكمال كله {وجاهدوا} أي أوقعوا الجهاد {مع رسوله استأذنك} أي في التخلف من لا عذر له وهم {أولوا الطول} أي أهل الفضل(8/569)
من الأموال والسعة والثروة في غالب الأحوال {منهم} وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم ولا سيما بعد سماع القرآن، ويجوز أن يكون معطوفاً على خبر {أن} في قوله {ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله} هذا مع ما تضمن استئذانهم من رذائل الأخلاق ودنايا الهمم المحكي بقوله: {وقالوا ذرنا} أي اتركنا ولو على حالة سيئة {نكن} أي بما يوافق جبلاتنا {مع القاعدين*} أي بالعذر المتضمن - لاسيما مع التعبير بذرنا الذي مادته تدور على ما يكره دون «دعنا» - لما استأنف به أو بين من قوله: {رضوا بأن يكونوا} أي كوناً كأنه جبلة لهم {مع الخوالف} أي النساء {وطبع} أي وقع الطبع المانع {على قلوبهم} أي حتى رضوا لأنفسهم بالتخلف عن سبب السعادة مع الكون في عداد المخدرات بما هو عار في الدنيا ونار في العقبى.
ولما أبهم فاعل الطبع، نفى دقيق العلم فقال: {فهم} أي بسبب هذا الطبع {لا يفقهون*} أي لا فقه لهم يعرفون به ما في الجهاد من العز والسعادة في الدارين، وما في التخلف من الشقاء والعار فلذلك لا يجاهدون، فلا شيء أضر من هذه الأموال والأولاد التي أبعدت عن الممادح وألزمت المذام والقوادح، فقد اكتنفت آية الأموال في أول قصة وآخرها ما يدل على مضمونها.
ولما افتتح القصة بمدح المتقين لمسابقتهم إلى الجهاد من دون استئذان ختمها بذلك وذكر ما أعد لهم فقال معلماً بالغنى عنهم(8/570)
بمن هو الخير المحض تبكيتاً لهم وتقريعاً: {لكن الرسول} أي والذي بعثه لرد العباد عن الفساد إلى السداد {والذين آمنوا} أي إيماناً عظيماً كائناً أو كائنين {معه} أي مصاحبين له ذاتاً وحالاً في جميع ما أرسلناه إليهم به {جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} أي بذلوا كلاًّ من ذلك في حبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتحققوا بشرط الإيمان و «لكن» واقعة موقعها بين متنافسين لأن ما مضى من حالهم كله ناطق بأنهم لم يجاهدوا.
ولما كان السياق لبخلهم بالنفس والمال، ولسلب النفع من أموالهم وأولادهم، اقتصر في مدح أوليائه على الجهاد بالنفس والمال ولم يذكر السبيل وقال: {أولئك} دالاً على أنه معطوف على ما تقديره: فأولئك الذين نورت قلوبهم فهم يفقهون، وقوله: {لهم} أي لا لغيرهم {الخيرات} تعرض بذوي الأموال من المنافقين لأن الخير يطلق على المال وتحليته ب «ال» على استغراقه لجميع منافع الدارين، والتعبير بأداة البعد إشارة إلى علو مقام أوليائه وبعد مناله إلا بفضل منه تعالى، وكذا التعريض بهم بقوله: {وأولئك هم} أي خاصة {المفلحون*} أي الفائزون بجميع مرادهم، لا غيرهم؛ ثم بين الإفلاح الأعظم بقوله: {أعد الله} أي الذي له صفات الكمال {لهم} أي الآن لينعمهم بها بعد موتهم وانتقالهم من هذه الدار التي هي معدن الأكدار {جنات تجري} أي دائماً {من تحتها} أي مع قربها {الأنهار} ثم عرض بهذه الدنيا السريعة الزوال فقال: {خالدين فيها} ثم رغب فيها بقوله: {ذلك} أي الأمر العالي الرتبة {الفوز العظيم*} أي لا غيره.(8/571)
ولما ختم قصص أهل المدر بذم أولي الطول منهم بتخلفهم، وكان ذمهم إنما هو لكونهم قادرين على الخروج في ذلك الوجه، وقدمهم لكثرة سماعهم للحكمة، وكان أهل الوبر أقدر الناس على السفر لأن مبنى أمرهم على الحل والارتحال، فهم أجدر بالذم لأنهم في غاية الاستعداد لذلك، تلاهم بهم فقال: {وجاء المعذرون} أي المبالغون في إثبات الخفايا من الأعذار المانعة لهم من الجهاد - بما أشار إليه الإدغام، وحقيقة المعذر أن يتوهم أن له عذراً ولا عذر له، والعذر: إيساع الحيلة في وجه يدفع ما ظهر من التقصير {من الأعراب} قيل: هم رهط عامر بن الطفيل من بني عامر، وقيل: اسد وغطفان، قيل: رهط من غفار {ليؤذن} أي ليقع الإذن من أي آذن كان في تخلفهم عن الغزو {لهم} أي فاعتذروا بما كذبوا فيه وقعدوا عن الغزو معك، هكذا كان الأصل فوضع موضعة: {وقعد الذين كذبوا الله} أي وهو المحيط علماً وقدرة {ورسوله} تنبيهاً على وصفهم وليكون أظهر في شمول الأعراب وغيرهم.
ولما كان منهم المحتوم بكفره وغيره قال: {سيصيب} أي بوعد لا خلف فيه {الذين كفروا} أي حتم بكفرهم {منهم عذاب أليم*} أي في الدارين.
ولما كان من القاعدين من أهل المدر والوبر من له عذر، استثناهم سبحانه وساق ذلك مساق النتيحة من المقدمات الظاهرة فقال:(8/572)
{ليس على الضعفاء} أي بنحو الهرم {ولا على المرضى} أي بنحو الحمى والرمد {ولا على الذين لا يجدون} ولو بدين يؤدونه في المستقبل {ما ينفقون} أي لحاجتهم وفقرهم {حرج} أي إثم يميل بهم عن الصراط المستقيم ويخرج دينهم.
ولما كان ربما كان أحد من المنافقين بهذ الصفة احترز عنه بقوله: {إذا نصحوا} أي في تخلفهم وجميع أحوالهم {لله} أي الذي له الجلال والإكرام {ورسوله} أي سراً وعلانية، فإنهم حيئنذ محسنون في نصحهم الذي منه تحسرهم على القعود على هذا الوجه وعزمهم على الخروج متى قدروا، وقوله: {ما على المحسنين} في موضع «ما عليهم» لبيان إحسانهم بنصحهم مع عذرهم {من سبيل} أي طريق إلى ذمهم أو لومهم، والجملة كلها بيان ل {نصحوا لله ورسوله} وقوله: {والله} أي الذي له صفات الكمال {غفور} أي محاء للذنوب {رحيم*} أي محسن مجمل إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير والعجز وإن اجتهد، لا يسعه إلا العفو؛ ثم عطف على ذلك قوله: {ولا على الذين إذا} وأكد المعنى بقوله: {ما أتوك} أي ولم يأتوا بغير قصدك راغبين في الجهاد معك {لتحملهم} وهم لا يجدون محملاً {قلت} أي أتوك قائلاً أو حال قولك، «وقد» مضمرة كما قالوا في {حصرت صدورهم} [النساء: 90] {لا أجد ما} أي شيئاً {أحملكم عليه}(8/573)
وأجاب {إذا} بقوله ويجوز أن يكون استئنافاً و «قلت» هو الجواب {تولوا} أي عن سماع هذا القول منك {وأعينهم تفيض} أي تمتلىء فتسيل، وإسناد الفيض إليها أبلغ من حيث أنها جعلت كلها دمعاً: ثم بين الفائض بقوله: {من الدمع} أي دمعاً والأصل: يفيض دمعها، ثم علل فيضها بقوله؛ {حزناً} ثم علل حزنهم بقوله: {ألا يجدوا} أي لعدم وجدانهم {ما ينفقون} فحزنهم في الحقيقة على فوات مرافقتك والكون في حزبك، وهذه قصة الكبائين صرح بها وإن كانوا داخلين في {الذين لا يجدون} إظهاراً لشرفهم وتقريراً لأن الناصح - وإن اجتهد - لا غنى له عن العفو حيث بين أنهم - مع اجتهادهم في تحصيل الأسباب وتحسرهم عند فواتها بما أفاض أعينهم - ممن لا سبيل عليه أو ممن لا حرج عليه المغفور له.
ولما نفى السبيل عمن وصفه كر على ذم من انتفى عنه هذا الوصف فقال تعالى: {إنما السبيل} أي باللوم وغيره {على الذين يستأذنونك} أي يطلبون إذنك في التخلف عنك راغبين فيه {وهم أغنياء} أي فلا عذر لهم في التخلف عنك وعدم مواساتك، وتضمن قوله تعالى مستأنفاً: {رضوا بأن يكونوا} أي كوناً كأنه جبلة لهم {مع الخوالف} انتفاء(8/574)
الضعف والمرض عنهم من حيث إنه علل فعلهم برضاهم بالتخلف فأفهم ذلك أنه لا علة لهم سواه، وأفهم أيضاً أن كل من كان كذلك كان مثلهم ولو أنه ضعيف أو مريض، وكرر ذكر الخوالف تكريراً لعيبهم برضاهم بالكون في عداد النساء إذ كان ذلك من أعظم المعايب عند العرب، وسمى الفاعل للطبع حيث حذفه من الأولى: ولما ذكره، عظم الأمر فاقتضى ذلك عظم الطبع فنفى مطلق العلم فقال عاطفاً على «رضوا» : {وطبع الله} أي له القدرة الكاملة والعلم المحيط {على قلوبهم} ثم سبب عن ذلك الرضى والطبع قوله: {فهم لا يعلمون*} أي لا علم له فلذلك جهلوا ما في الجهاد من منافع الدارين لهم فلذلك رضوا بما لا يرضى به عاقل، وهو أبلغ من نفي الفقه في الأولى، وزاد المناسبة حسناً ضم الأعراب في هذه الآيات إلى أهل الحاضرة وهم بعيدون من الفقه جديرون بعدم العلم.(8/575)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
ثم شرع يخبر عن أشياء تقع منهم عند الرجوع دلالة على أن هذا كلامه وأنه عالم بالمغيبات كليها وجزئيها، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فقال مبيناً لعدم علمهم: {يعتذرون} أي يثبتون الأعذار لأنفسهم: وأشار إلى بعدهم بالقلوب بقوله: {إليكم} أي عن التخلف {إذا رجعتم إليهم} أي من هذه الغزوة، كأنه قيل: فماذا يقال في جوابهم؟ فقال للرأس الذي لا تأخذه في الله لومة لائم: {قل لا تعتذروا} أي فإن أعذاركم كاذبة، ولذلك علل النهي بقوله: {لن نؤمن لكم} أي نصدقكم في شيء منها، ثم علل عدم تصديقهم بما أوجب لهم القطع بذلك فقال: {من نبأنا الله} أي أعلمنا الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء إعلاماً جليلاً {من أخباركم} أي التي ظننتم جهلاً بالله أنها تخفى فقد علمناها؛ ثم هددهم بقوله: {وسيرى الله} أي لأنه عالم بكل شيء وإن دق قادر على كل شيء {عملكم} أي بعد ذلك أتتبينون أم تثبتون على حالكم هذا الخبيث كما رأى الذي قبل {ورسوله} أي بما يعلمه به سبحانه(9/1)
وحياً أو تفرساً، ولما كان الكلام في المنافقين، فكانت الرؤية لنفاقهم الذي يجتهدون في إخفائه، وكان المؤمنون لا اطلاع لجميعهم عليهم، لم يذكرهم بخلاف من يأتي بعد فإنهم مؤمنون.
ولما كان هذا ربما أوهمهم أنه لا يعلم إلا ما أوقعوه بالفعل، نفى ذلك بإظهار وصفه في موضع الإضمار مهدداً بقوله مشيراً بأداة التراخي إلى استبعادهم لقيامهم إلى معادهم: {ثم تردون} أي براد قاهر لا تقدرون على دفاعه بعد استيفاء آجالكم بالموت وإن طالت ثم البعث {إلى عالم الغيب} وهو ما غاب عن الخلق {والشهادة} وهو ما اطلع عليه أحد منهم. فصار بحيث يطلعون عليه وهذا ترجمة عن الذي يعلم الشيء قبل كونه ما يعلم بعد كونه {فينبئكم} أي يخبركم إخباراً عظيماً جليلاً مستوعباً {بما كنتم} أي بجبلاتكم {تعملون*} أي مما أبرزتموه إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم، ولو تأخرتم لبرز، وهو تهديد عظيم، ووقع ترتيبهم للاعتذار على الأسهل فالأسهل على ثلاث مراتب: الأولى مطلق الاعتذار وقد مضى ما فيها؛ الثانية تأكيد ذلك بالحلف للإعراض عنهم فقال سبحانه: {سيحلفون بالله} أي الذي لا أعظم منه {لكم إذا انقلبتم إليهم} أي جهد إيمانهم أنهم كانوا معذورين في التخلف(9/2)
كذباً منهم إرادة أن يقلبوا قلوبكم عما اعتقدتم فيهم {لتعرضوا عنهم} أي إعراض الصفح عن معاتبتهم {فأعرضوا عنهم} إعراض المقت؛ روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» ثم علل وجوب الإعراض بقوله {إنهم رجس} أي لا يطهرهم العتاب فهو عبث.
ولما كان من المقرر أنه لا بد لهم من جزاء، وأن النفس تتشوف إلى معرفته، قال: {ومأواهم} أي في الآخرة {جهنم جزاء} أي لأجل جزائهم {بما كانوا يكسبون*} أي فلا تتكلفوا لهم جزاء غير ذلك بتوبيخ ولا غيره؛ المرتبة؛ الثالثة الحلف للرضى عنهم فقال: {يحلفون لكم} أي مجتهدين في الحلف بمن تقدم أنهم يحلفون به وهو الله {لترضوا عنهم} خوفاً من غائلة غضبكم {فإن ترضوا عنهم} أي لمجرد أيمانهم المبني على عدم إيمانهم {فإن الله} أي الذي له الغنى المطلق {لا يرضى} عنهم، هكذا كان الأصل ولكنه قال: {عن القوم الفاسقين*} إشارة إلى تعليق الحكم بالوصف وتعميماً لكل من اتصف بذلك، والمعنى أنه لا ينفعهم رضاكم وتكونون به مخالفين الله، فهو في الحقيقة نهي للمؤمنين عن الرضى عنهم، أبرز في هذا الأسلوب العجيب المرقص، وفي ذلك رد على من يتوهم أن رضى المؤمنين لو رضوا عنهم يقتضي رضى الله، فإن ذلك رد نزعة مما يفعل الأحبار والرهبان في رضاهم وغضبهم وتحليلهم وتحريمهم الذي يعتقد أتباعهم أنه عن الله تعالى.(9/3)
ولما ترتب سبحانه الاستئذان في العقود والرضى بما فيه من الدناءة على عدم الفقه تارة والعلم أخرى وختم بصنف الأعراب، بين أن الأعراب أولى بذلك لكونهم أعرق في هذا الوصف وأجرأ على الفسق لبعدهم عن معدن العلم وصرفهم أفكارهم في غير ذلك من أنواع المخازي لتحصيل المال الذي كلما داروا عليه طار عنهم فأبعد. فهم لا يزالون في همه قد شغلهم ذلك عن كل هم وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً فقال تعالى: {الأعراب} أي أهل البدو {أشد} أي من أهل المدر {كفراً ونفاقاً} لبعدهم عن دار الهجرة ومعدن العلم وجفائهم بأن مرائي قلوبهم لم تصقل بأنوار الكتاب والسنة {وأجدر أن} أي وأحق بأن {لا يعلموا} ولما كان الإحجام أصعب من الإقدام، وأطراف الأشياء المختلطة في غاية الإلباس، قال: {حدود ما أنزل الله} أي المحيط علماً وحكمة بكل شيء {على رسوله} أي الذي أعلم الخلق من القرآن والشرائع والأحكام لعدم إقبالهم عليه شغلاً بغيره فإن الله يعلم ذلك منهم {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال {عليم} أي بالغ العلم بكل شيء {حكيم*} أي بالغ الحكمة فهو يضع الأشياء في أتم محالها.
ولما أثبت هذا الوصف لهذا الصنف بين أن أفراده انقسموا إلى من(9/4)
ثبت على ما هو الأليق بحالهم، وقسم نزع إلى ما هو الأليق بأهل المدر، كما انقسم أهل المدر إلى مثل ذلك، وبدأ بالخبيث لأنه الأصل فيهم فقال: {ومن الأعراب} أي المذكورين {من يتخذ} أي يتكلف غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الأريحية والهمم العلية بأن يعد {ما ينفق مغرماً} أي فلا يبذله إلا كرهاً ولا يرى له فائدة أخروية بل يراه مثل الصنائع بالنهب ونحوه {ويتربص} أي يكلف نفسه الربص، وهو أن يسكن ويصبر وينتظر {بكم الدوائر} أي الدواهي التي تدور بصاحبها فلا يتخلص منها، وذلك ليستريح من الإنفاق وغيره مما ألزمه به الدين.
ولما تربصوا هذا التربص، دعا عليهم بمثل ما تربصوا فقال: {عليهم دائرة السوء} أي دائماً لا تنفك إما بإذلال الإسلام وإما بعذاب الاصطلام، فهم فيما أرادوه بكم على الدوام، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم السين على أن معناه الشر والضر، وقراءة الباقين بالفتح على أنه مصدر، فهو ذم للدائرة.
ولما كان الانتقام من الأعداء وإيقاع البأس بهم لا يتوقف من القادر غالباً إلا على سماع أخبارهم والعلم بها، جرت سنته تعالى في ختم مثل بقوله: {والله} أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الكاملة {سميع} يسمع ما يقولون {عليم*} أي فهو يعلم ما يضمرون عطفاً على نحو أن يقال: فالله على كل شيء قدير، ونحوه قوله {إنني(9/5)
معكما أسمع وأرى} .(9/6)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
ولما افتتح الآية الثانية بقوله: {ومن الأعراب من يؤمن} أي لا يزال يجدد إيمانه آثار الدين {بالله واليوم الآخر} علم أن القسم الأول غير مؤمن بذلك، وإنما وقع منهم الإقرار باللسان من غير إذعان، والإيمان هو الأصل الذي يترتب عليه الإنفاق عن طيب نفس لما يرجى من ثوابه في اليوم الآخر الذي لولا هو انتفت الحكمة من هذا الخلق على هذا الترتيب: ثم عطف عليه ما يثمره الإيمان فقال: {ويتخذ} أي يحث نفسه ويجاهدها إن عرضت له الوساوس الشيطانية على أن يعد {ما ينفق} أي فيما أمر الله به {قربات} جمع قربة لما تقرب إليه سبحانه {عند الله} أي الذي لا أشرف من القرب منه لأنه الملك الأعظم {وصلوات} أي دعوات {الرسول} أي الذي وظيفته التبليغ فهو لا يقول لهم شيئاً إلا عن الله، وأطلق القربة والصلاة على سببها.
ولما أخبر عن أفعالهم، أخبر عن عاقبتهم ومآلهم؛ قال مستأنفاً محققاً لرجائهم ترغيباً في الصدقة بأبلغ تأكيد لما لأعدائهم من التكذيب: {ألا إنها} أي نفقاتهم {قربة لهم} أي كما أرادوا؛ ثم بين ثمرة كونها قربة بقوله: {سيدخلهم الله} أي الذي له صفات الكمال بوعد لا خلف فيه {في رحمته} أي إكرامه فتكون محيطة بهم ثم علل ذلك بقوله(9/6)
معبراً بالاسم الأعظم تنبيهاً على أنه لا يسع الإنسان إلا العفو وإن أعظم الاجتهاد: {إن الله} أي الذي الذي لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره {غفور} أي بليغ الستر لقبائح من تاب {رحيم*} أي بليغ الإكرام، ذلك وصف له ثابت، يجلله كل من يستأهله.
ولما ذكر القسم الصالح منهم وكانوا متفاوتين فمنهم السابق وأكثرهم التابع اللاحق، أتبعه السابقين على وجه شامل حاصر لصنفي البادي والحاضر إشارة إلى أنه - وإن أجره - أصله فقد قدمه وصفه بحيث ساوى أهل الكمال في مطلق الانخراط في ملكهم والفوز بدرجتهم لإحسانه في اتباعهم ترغيباً لأهل القدرة والرحمة في اتباع أهل الرضوان والنعمة فقال: {والسابقون} ولما دل على سبقهم بالعلو في مراتبه دل على قديم دخولهم فيه فقال: {الأولون} أي إلى هذا الدين القيم {من المهاجرين} أي لدار الكفر فضلاً عن أهلها {والأنصار} أي الذين آووا ونصروا {والذين اتبعوهم} أي الفريقين {بإحسان} أي في اتباعهم فلم يحولوا عن شيء من طريقهم {رضي الله} أي الذي له الكمال كله {عنهم} أي بأفعالهم هذه التي هي وفق ما أمر به {ورضوا عنه} أي بما أتاهم عنه من البشرى وقذف في قلوبهم من النور بلطيف الوعظ والذكرى {وأعد لهم} أي جزاء على فعلهم {جنات تجري} ونبه على عموم ريّها وكثرة مائها بنزع الجار على قراءة(9/7)
الجماعة فقال: {تحتها الأنهار} أي هي كثيرة المياه. فكل موضع أردته نبع منه ماء فجرى منه نهر؛ ولما كان المقصود من الماء إنما هو السهولة في إنباطه بقربه ويسر جريه وانبساطه أثبته ابن كثير دلالة على ذلك كسائر المواضع، ولعل تخصيص هذا الموضع بالخلاف لأنه يخص هذه الأمة، فلعلها تخص بجنة هي أعظم الجنان رياً وحسناً وزياً.
ولما كان أعظم العيوب الانقطاع، نفاه بقوله: {خالدين فيها} وأكد المراد من الخلود بقوله: {أبداً} ثم استأنف مدح هذا الذي أعده لهم بقوله: {ذلك} أي الأمر العالي المكانة خاصة {الفوز العظيم*} .(9/8)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
ولما استوفى الأقسام الأربعة: قسمي الحضر وقسمي البدو ثم خلط بين قسمين منهم تشريفاً للسابق وترغيباً للاحق، خلط بين الجميع على وجه آخر ثم ذكر منهم فرقاً منهم من نجز الحكم بجزائه بإصرار أو متاب. ومنهم من أخر أمره إلى يوم الحساب، وابتدأ الأقسام بالمستور عن غير علمه ليعلم أهل ذلك القسم أنه سبحانه عالم بالخفايا فلا يزالوا أذلاء خوفاً مما هددهم به فقال مصرحاً بما لم يتقدم التصريح به من نفاقهم: {وممن حولكم} أي حول بلدكم المدينة {من الأعراب} أي الذين قدمنا أنهم أشد كفراً لما لهم من الجفاء {منافقون} أي راسخون في النفاق، وكأنه قدمهم لجلافتهم وعتوهم، وأتبعهم من هو أصنع منهم(9/8)
في النفاق فقال: {ومن أهل المدينة} أي منافقون أيضاً؛ ثم بين أنهم لا يتوبون بوصفهم بقوله: {مردوا} أي صُلبوا وداموا وعتوا وعسوا وعصوا وصار لهم به دربة عظيمة وضراوة حتى ذلت لهم فيه جميع أعضائهم الظاهرة والباطنة وصار لهم خلقاً {على النفاق} أي استعلوا على هذا الوصف بحيث صاروا في غاية المكنة منه؛ ثم بين مهارتهم فيه بقوله: {لا تعلمهم} أي بأعيانهم مع ما لك من عظيم الفطنة وصدق الفراسة لفرط توقيهم وتحامي ما يشكل من أمره؛ ثم هددهم وبين خسارتهم بقوله: {نحن} أي خاصة {نعلمهم} ثم استأنف جزاءهم بقوله: {سنعذبهم} أي بوعد لا خلف فيه {مرتين} أي إحداهما برجوعك سالماً وشفوف أمرك وعلو شأنه وضخامة أركانه وعز سلطانه وظهور برهانه، فإنهم قطعوا لغباوتهم وجلافتهم وقساوتهم كما أشرت إليه بقولي {ويتربص بكم الدوائر} - أنك لا ترجع هذه المرة من هذه السفرة لما يعرفونه من ثباتك للأقران، وإقدامك على الليوث الشجعان، واقتحامك للأهوال، إذا ضاق المجال، ونكص الضراغمة الأبطال، ومن عظمة الروم وقوتهم وتمكنهم وكثرتهم، وغاب عن الأغبياء وخفي عن الأشقياء الأغنياء أن الله الذي خلقهم أعظم منهم وأكبر، وجنوده أقوى من جنودهم وأكثر؛ والثانية بعد وفاتك بقهر أهل لردة ومحقهم ورجوع ما أصلته بخليفتك الصديق رضي الله عنه إلى(9/9)
ما كان عليه في أيامك من الظهور وانتشار الضياء والنور والحكم على من خالفه بالويل والثبور، وسيأتي أنه يمكن أن تكون المرة الثانية إخراب مسجد الضرار والإخبار بما أضمروا في شأنه من خفي الأسرار {ثم يردون} أي بعد الموت {إلى عذاب عظيم*} أي لا يعلم عظمة حق علمه إلا الله تعالى، وهو العذاب الأكبر الدائم الذي لا ينفك أصلاً.
ولما ذكر هذا القسم المارد الجافي، ثنى بمقابلة اللين الصافي، وهي الفرقة التي نجز المتاب عليها والنظر بعين الرحمة إليها فقال: {وآخرون} أي ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة آخرون {اعترفوا بذنوبهم} أي كلفوا أنفسهم ذكرها توبة منهم ندماً وإقلاعاً وعزماً ولم يفزعوا إلى المعاذير الكاذبة وهو المقتصدون.
ولما كان الخلط جمعاً في امتزاج، كان بمجرد ذكره يفهم أن المخلوط امتزج بغيره، فالإتيان بالواو في {آخر} يفهم أن المعنى: {خلطوا عملاً صالحاً} بسيىء {وآخر سيئاً} بصالح، فهو من ألطف شاهد لنوع الاحتباك، ولعل التعبير بما أفهم ذلك إشارة إلى تساوي العملين وأنه ليس أحدهما بأولى أحدهما بأولى من الآخر أن يكون أصلاً، وقد فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك في أناس رآهم في المنام شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح كما رواه البخاري في التفسير عن سمرة رضي الله عنه ثم أوجب تحقيق توبتهم الملزومة للاعتراف بقبولها بقوله: {عسى الله} أي بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال(9/10)
{أن يتوب عليهم} فإن {عسى} منه سبحانه وتعالى واجبه لأن هذا دأب الملوك ولعل التعبير بها يفيد - مع الإيذان بأنه لا يجب عليه لأحد شيء وأن كل إحسان يفعله فإنما هو على سبيل الفضل إشارة إلى أنهم صاروا كغيرهم من خلص المؤمنين غير المعصومين في مواقعة التقصير وتوقع الرحمة من الله بالرجوع بهم إلى المراقبة، فكما أن أولئك معدودون في حزب الله مع هذا التقصير المرجو له العفو فكذلك هؤلاء؛ ثم علل فعله بهم مرجياً للمزيد بقولع: {إن الله} أي ذا الجلال والإكرام {غفور رحيم*} أي لم يزل موصوفاً بقبول المعرض إذا أقبل وإبدال سئيه بحسن فضلاً منه وإكراماً؛ روى البخاري في صحيحه في التفسير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا: «أتاني الللية آتيان فابتعثاني فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عفا الله عنهم» .(9/11)
ولما كان من شأن الرضوان قبول القربان، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تطهيراً لهم وتطييباً لقلوبهم بقوله: {خذ} ورحمهم بالتبعيض فقال: {من أموالهم صدقة} أي تطيب أنفسهم بإخراجها {تطهرهم} أي هي من ذنوبهم وتجري بهم مجرى الكفارة {وتزكيهم} أي أنت تزيدهم وتنميهم {بها} بتكثير حسناتهم {وصل} أي اعطف {عليهم} وأظهر شرفهم بدعائك لهم؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن صلواتك} أي دعواتك التي تصلهم بها فتكون موصلة لهم إلى الله {سكن لهم} أي تطمئن بها قلوبهم بعد قلق الخوف من عاقبة الذنب لما يعلمون من أن القبول لا يكون إلا ممن حصل له الرضى عنهم ومن أن الله سمع قولك إجابة لك ويعلم صدقك في صلاحهم {والله} أي المحيط بكل شيء {سميع عليم*} أي لكل ما يمكن أن يسمع وما يمكن أن يعلم منك ومنهم ومن غيركم، فهو جدير بالإجابة والإثابة، وذلك أن هذا الصنف لما اشتد ندمهم على التخلف أوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فسأل عنهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم فقيل: ندموا على التخلف عنك فحلفوا: لا يطلقهم إلا أنت، فقال: وأنا أطلقهم حتى أومر بذلك، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات فقالوا: يارسول الله! هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها! فقال: ما أمرت بذلك، فلما أنزل الله هذه الآية أخذ الثلث فتصدق به.(9/12)
ولما ساق توبتهم سبحانه في حيز {عسى} ، وكان الأصل فيها الترجية في المحبوب والإشفاق في المكروه، وأمر سبحانه بالأخذ من أموالهم لذلك، وكان إخراج المال شديداً على النفوس لا سيما في ذلك الزمان، كان ربما استوقف الشيطان من لم يرسخ قدمه في الإيمان عن التوبة وما يترتب عليها من الصدقة لعدم الجزم بأنها تقبل، فأتبع ذلك سبحانه بقوله: {ألم يعلموا} أي المعترفون بالذنوب حتى تسمح أنفسهم بالصدقة أو غيرهم حتى يرغبوا في التوبة والصدقة {أن الله} أي الذي له الكمال كله {هو} أي وحده {يقبل} أي من شأنه أن يقبل {التوبة} تجاوزاً {عن عباده} أي التائبين المخلصين {ويأخذ} أي يقبل قبول الآخذ لنفسه {الصدقات} أي ممن يتقرب بها إليه بنية خالصة {وأن الله} أي المحيط بصفتي الجلال والإكرام {هو} أي وحده {التواب الرحيم*} أي لم يزل التجاوز والإكرام من شأنه وصفته، وفي ذلك إنكار على غيرهم من المختلفين في كونهم لم يفعلوا مثل فعلهم من الندم الحامل على أن يعذبوا أنفسهم بالإيثاق في السواري ويقربوا بعض أموالهم كما فعل هؤلاء أو نحو ذلك مما يدل على الاعتراف والندم.(9/13)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
ولما أمره من تطهيرهم بما يعيدهم إلى ما كانوا عليه قبل الذنب، عطف على قوله {خذ} قوله تحذيراً لهم من مثل ما وقعوا فيه: {وقل اعملوا} أي بعد طهارتكم {فسيرى الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {عملكم} أي بما له من إحاطة العلم والقدرة فاعملوا عمل من(9/13)
يعلم أنه بعين الله {ورسوله} أي بإعلام الله له. ولما كان هذا القسم من المؤمنين فكانت أعمالهم لاخفاء فيها، قال {والمؤمنون} فزينوا أعمالكم جهدكم وأخلصوا، وفي الأحاديث «لو أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها لأظهر الله علمه للناس كائناً ما كان» .
ولما كان هذا السياق للمؤمنين حذف منه «ثم» لكنه لما كان للمذنبين، أكد بالسين فقال: {وستردون} أي بوعد لا خلف فيه {إلى عالم الغيب والشهادة} أي بعد الموت والبعث {فينبئكم} أي بعلمه بكل شيء {بما كنتم تعملون*} أي ما أظهرتم عمله وما كان في غرائزكم، فلو تأخرتم تظهرتم، يجاريكم على حسنة ويزيد من فضله، وعلى سيئة عدلاً إن شاء ولا يظلم مثقال ذرة.
ولما ذكر القسمين المنجز عذابهم ومثابهم، ذكر المؤخر أمرهم وهو القسم الظالم لنفسه في الذي بدأ به في سورة فاطر سورة الحشر الآخر، ولا يبعد أن تكون هذه سورة الحشر الأول لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساق الناس إلى أرض المحشر فقال: {وآخرون} أي ومنهم آخرون {مرجون} أي مؤخرون بين الرجاء والخوف {لأمر الله} أي لما يأمر به فيهم الملك الأعظم الذي له الأمر كله لا يدرون أيعذبون أم يرحمون؛ وقدم قوله -: {إما يعذبهم} إن أصروا - تخويفاً لهم حملاً على المبادرة إلى التوبة وتصفيتها والإخلاص فيها وحثاً على أن يكون الخوف ما دام الإنسان صحيحاً(9/14)
أغلب وثنى بقوله: {وإما يتوب عليهم} أي إن تابوا ترجية لهم وترقيقاً لقلوبهم بالتذكير بمنزل الأُنس الذي أخرجوا أنفسهم منه ومنعوها من حلوله وطيب مستقره ومقيله وحليّ أوقاته وعليّ مقاماته وشهيّ أقواته.
ولما كان ربما قال قائل: ما فائدة التأخير وما المانع من التنجيز؟ قال: {والله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {عليم حكيم*} ترهيباً وترغيباً وتبعيداً وتقريباً واحتراساً مما قد يوهمه الترديد من الشك وتدريباً، وقراءة غفور رحيم للزيادة في الترجية.
ولما ذكر الذين أقامهم في مقام الخطر أتبعه تعيين طائفة من القسم الأول المستور الموصوف بالمرود، فألحق بهم الضرر فقال: {والذين} وهو معطوف في قراءة من أثبت الواو على قوله {وآخرون} وخبره على ما يليق بالقصة: منافقون ماردون، وأما على قراءة المدنيين وابن عامر بحذفها فيكون على تقدير سؤال سائل، وذلك أنه لما قال تعالى {لا تعلمهم نحن نعلمهم} تشوفت النفس إلى الإعلام بهم، فلما قال {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} اشتغل السامع بتفهمه، وربما ظن أنه يأتي في آخر الكلام من تسميتهم ما يغنيه عن السؤال، فلما إنتقل بقوله {وآخرون مرجون} إلى قسم آخر، وختم الآية بصفتي العلم والحكمة ليعلم أن الترديد للتقسيم وأنه إن كان شك فهو بالنسبة إلى العباد وأما الله تعالى فمنزه عنه فذكر السامع بالصفتين ما كان دار(9/15)
في خلده ومال إليه قلبه من الإعلام بالماردين على النفاق، فاشتد تشوفه إليه فكان كأنه قال: منْ منَ الماردين منهم؟ فقال تعالى الذين {اتخذوا مسجداً} أي من الماردين وهم من أعظمهم مهارة في النفاق وإخفاء الكيد والشقاق لأنهم توصلوا إلى ذلك بأن كلفوا أنفسهم الأخذ لأعظم عرى الدين مع المنازعة للفطرة الأولى والحذر من أن يفضحوا، فكان ختام هذه الآية من بديع الختام فإن احتراس عما يتوهم فيما قلبه ودليل على ما بعده، ولذلك ختم قصتهم أيضاً بصفتي العلم والحكمة، ولاح من هذا أن قوله {سنعذبهم مرتين} يمكن أن يراد به: مرة برجوعك، ومرة بإخرابك مسجدهم وتفريقك لشملهم بعد هتك سرائرهم بكشف ضمائرهم، وبَيَّنَ سبحانه علة اتخاذهم بقوله: {ضراراً} أي لأهل مسجد قباء أو لحزب الله عامة {وكفراً} أي بالله لاتخاذ دينه هزؤاً {وتفريقاً} أي مما يبيتونه من المكايد باستجلابهم لبعض من يخدعونه من المؤمنين ويطمعون فيه ليأتي مسجدهم ويترك المسجد المؤسس على التقوى {بين المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان بما جاء من عند الله، لأنهم كانوا يجتمعون في مسجد قباء فيغتص بهم {وإرصاداً} أي إعداداً وانتظاراً {لمن حارب الله} أي الملك الأعظم {ورسوله} ولما لم تكن محاربتهم مستغرقة للزمن الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل}(9/16)
أي قبل اتخاذهم لهذا المسجد بزمن قريب وهو أبو عامر الفاسق ليأتي إليهم فيزيدهم قوة على نفاقهم بأن يصير كهفاً يأوون إليه ورأساً لهم يتجمعون عليه
«وذلك أنه كان من بني غنم بن عوف، وهو والد حنظلة الغسيل الذي كان من خيار الصحابة، وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، فلما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة قال له: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال: الحنيفية دين إبراهيم، قال: أبو عامر: أنا عليها، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لست عليها، قال: بلى ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها، قال: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريداً شريداً وحيداً غريباً! فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمين! وسماه الفاسق، ثم تحيز إلى قريش وقاتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم يوم أحد وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلما قاتل يوم حنين مع هوازن وانهزموا أيس وهرب إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجنود ومخرج محمداً! وكانوا قد حسدوا إخوانهم بني عمرو بن عوف على مسجد قباء لما بنوه، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيه ويصلي فيه، فبنوا مسجد الضرار(9/17)
وأرسلوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليأتيهم فيصلي فيه، وكان يتجهز لتبوك فقال: أنا على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا صلينا فيه إن شاء الله! فلما قدم فكان قريباً من المدينة نزلت الآية، فدعا مالك بن الدخشم وجماعة وقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه، ففعلوا، وأمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتخذ مكانه كناسه يلقي فيها الجيف والقمامه؛ ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً طريداً»
وقيل: كل مسجد بني مباهاة أو لغرض ليس به إخلاص أو بمال مشتبه فهو لاحق بمسجد الضرار.
ولما أخبر عن سرائرهم، أخبر عن نفاقهم في ظواهرهم بقوله: {وليحلفن} أي جهد أيمانهم {إن} أي ما {أردنا} أي باتخاذ له {إلا الحسنى} أي من الخصال؛ ثم كذبهم بقوله: {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {يشهد} أي يخبر إخبار الشاهد {إنهم لكاذبون*} وقد بان بهذا كله أن سبب فضيحتهم ما تضمنه فعلهم من عظيم الضرر للإسلام وأهله؛ ثم قال ناهياً عن إجابتهم إلى ما أرادوا به من التلبيس إنتاجاًعن هذا الكلام الذي هو أمضى من السهام: {لا تقم فيه} أي مسجد الضرار {أبداً} أي سواء تابوا أو لا، وأراد بعض المخلصين أن يأخذه أولاً، اي لا بد من إخرابه ومحو أثره عن وجه الأرض.
ولما ذمه وذم أهله، مدح مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إما الذي(9/18)
بالمدينة الشريفة وإما الذي ببني عمرو بن عوف بقباء على الخلاف في ذلك. وهو الذي اتخذ في أول الإسلام مسجداً إحساناً وإيماناً وجمعاً بين المؤمنين وإعداداً لمن صادق الله ورسوله، ومدح أهله إرشاداً لكل من كان مال إليه من المؤمنين لقرب أو غيره إلى العوض عنه، ولعله أبهم تعيينه وذكر وصفه ليكون صالحاً لكل من المسجدين.
لما اتصف بهذا الوصف من غيرهما فقال مؤكداً تعريفاً بما له من الحق ولما للمنافقين من التكذيب: {لمسجد أُسس} أي وقع تأسيسه {على التقوى} أي فأحاطت التقوى به لأنها إذا أحاطت بأوله أحاطت بآخره؛ ولما كان التأسيس قد تطول مدة أيامه فيكون أوله مخالفاً لآخره، قال: {من أول يوم} أي من أيام تأسيسه، وفيه إشارة إلى ما تقدم من احتمال أن يريد أحد من أهل الإخلاص أن يتخذه مصلى، فبين أنه لايصلح لذلك لأن تأسيسه كان لما هو مباعد له {أحق أن تقوم فيه} أي بالصلاة والوعظ وغيره من مسجد لم يقصد به التقوى على التقدير فرض محال إلا في ثاني الحال.
ولما مدحه مدح أهله بقوله: {فيه رجال} أي لهم كمال الرجولية {يحبون أن يتطهروا} أي في أبدانهم وقلوبهم كمال الطهارة - بما أشار إليه الإظهار، فهم دائماً في جهاد أنفسهم في ذلك فأحبهم الله(9/19)
{والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب} أي يفعل ما يفعل المحب من الإكرام بالفضل والإحسان، ولإثبات ما أفهم الاجتهاد حصل الغنى عن إظهار تاء التفعل أو للندب إلى الطهارة ولو على أدنى الوجوه المجزئة فقال: {المطهرين*} أي قاطبة منهم ومن غيرهم.(9/20)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
ولما علم من هذا بطريق الإشارة والتلويح أن التأسيس مثل ابتداء خلق الحيوان، فمن جبل من أول مرة جبلة شر لا يصلح للخير أبداً ولا يقبله كما قال تعالى {ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23] ذكره على سبيل التصريح فسبب عما مضى قوله ممثلاً الباطل ببناء على حرف واد واه جداً على شفير جهنم: {أفمن أسس بنيانه} أي كما أشرت إليه في المسجد المحثوث بالإقبال عليه {على تقوى من الله} أي الملك الأعلى {ورضوان} فكان كمن بنى بنيانه على جبل لا تهدمه الأمطار ولا تؤثر فيه السيول {خير أم من أسس بنيانه} على فسق وفجور وعدم اكتراث بالأمور فكان كمن بنى بنيانه {على شفا} أي حرف، ومنه الشفه {جرف} أي مكان جفرة السيل وجرفه فصار مشرفاً على السقوط، ولذلك قال: {هار} أي هائر، من هار الجرف - إذا أشرف لتخريق السيول على السقوط {فانهار} أي فكان بناؤه لذلك سبباً لأنه سقط سقوطاً لا تماسك معه {به} أي وهو فيه آمناً من سقوطه بقلة عقله وسفاهة رأيه {في نار جهنم}(9/20)
فالجواب: لا شك الأول خير بل، لا خير في الثاني أصلاً، والعجب كل العجب من كونه بنى هذا البناء هكذا، فأجيب بأنه لا عجب لأن الأمر بيد الله، لا مفر من قضائه، وهو قد هدى الأول إلى ما فيه صلاحه، ولم يهد الثاني لما علم فيه من عدم قابلية الخير {والله} الذي له صفات الكمال {لا يهدي القوم} أي الذين لهم قوة المحاولة لما يريدون {الظالمين*} أي المطبوعين على ظلام البصائر، فهم لا يكفرون في شيء إلا جاء في غير موضعه وعلى غير نظام كخطوات الماشي في الظلام، وقد علم أن الآية من قبيل الاحتباك: أثبت أولاً التقوى لأن أهل الإسلام أحق بها، فدلت على حذف ضدها ثانياً، وأثبت ثانياً ضعف البناء حساً لأن مسجد الضرار أولى به، فدل على حذف ضده أولاً، فذكر النهاية المعقولة لأهلها والبداية المحسوسة للناظرين لها؛ وروي عن جابر رضي الله عنه قال: رأيت الدخان من مسجد الضرار؛ وحكي عن خلف بن يسار أنه رأى فيه حجراً يخرج منه الدخان في أول دولة بني العباس.
ولما كان ما تقدم غير قاطع في إخرابه لما ثبت للمساجد من الحرمة، استأنف الإخبار عن أنه لا يعد في عداد المساجد بوجه، وإنما هو في عداد بيوت الأصنام فهو واجب الإعدام فقال: {لا يزال بنيانهم}(9/21)
أي نفس المبنى وهو المسجد {الذي بنوا ريبة} أي شكاً ونفاقاً {في قلوبهم} كما أن بيوت الأصنام كذلك لأهلها، فكان ذلك حثاً على إخرابه ومحوه وقطع أثره. والمعنى أنه جامع لهم على الريبة في كل زمان يمكن أن يكون {إلا أن} ولما كان القطع محصلاً للمقصود من غير نظر إلى قاطع معين، قال بانياً للمفعول: {تقطع قلوبهم} أي إلا زمان يوجد فيه القطع البليغ الكثير لقلوبهم وعزائمهم ويباعد بينهم ويفرق شملهم بإخراجه، وقراءة يعقوب ب «إلى» الجارة واضحة في المراد، أو يكون المراد أنه لايزال حاملاً لهم على التصميم على النفاق إلى أن يموتوا، فهو كناية عن عدم توبتهم.
ولما كان التقدير: فالله عليم بما أخبركم به فلا تشكوا فيه، عطف عليه تعميماً للحكم وتعظيماً للأمر قوله: {والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {عليم} أي بالغ العلم بكل معلوم {حكيم*} فهو يتقن ما يأمر به.
ولما تقدم الإنكار على المتثاقلين عن النفر في سبيل الله في قوله تعالى {ما لكم إذا قيل لكم انفروا} [التوبة: 38] ثم الجزم بالأمر بالجهاد بالنفس والمال في قوله {انفروا خفافاً وثقالاً} [التوبة: 41] وكان أمره تعالى كافياً للمؤمن الذي صدق إيمانه بالإسلام في امتثاله لذلك في منشطه ومكرهه، وكان كثير منهم قد فعلوا بتثاقلهم ما يقدح في(9/22)
إيمانهم طعماً في ستره بمعاذيرهم وإيمانهم، اقتضى المقام تبكيت المتثاقلين وتأنيب المنافقين على وجه مهتك لأستارهم مكشف لأسرارهم، فلما استوفى تعالى في ذلك أقسامهم، ونكس ألويتهم وأعلامهم، وختمهم بهذه الطائفة التي ظهر فيها امتثاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله تعالى {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} بأن هدّ مسجدهم وحرقة بالنار وأزال بنيانه وفرقة، وقدّ أديمه عن جديد الأرض ومزقه، أتبع ذلك سبحانه بتذكير المؤمنين ما أمرهم به في قوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} وقوله {انفروا خفافاً وثقالاًً} ليفعلوا فيه ما فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أمر به، فساق مساق الجواب لسؤال من كأنه قال: لقد طال المدى وعظم الخطب في هذه السورة في إبانة الفضائح وهتك السرائر وإظهار القبائح، فلم فعل ذلك وقد جرت عادته بالأمر بالستر وأخذ العفو؟ قوله: {إن الله} أي الملك الذي لا ملك في الحقيقة غيره ولا يخشى إلا عذابه ولا يرجى إلا خيره {اشترى} أي بعهود أكيدة ومواثيق غليظة شديدة، ولذلك عبر بما يدل على اللجاج فيها فقال: {من المؤمنين} أي بالله وما جاء من عنده، وقدم النفس إشارة إلى المبايعة سابقة على اكتساب المال فقال مقدماً للأعز: {أنفسهم} أي التي تفرد بخلقها {وأموالهم} أي التي تفرد برزقها وهو يملكها دونهم.(9/23)
ولما ذكر المبيع أتبعه الثمن فقال: {بأن لهم الجنة} أي خاصة بهم مقصورة عليهم، لا يكون لغير مؤمن، فميزهم حتى يقابل كل بما يستحقه، فكأنه قيل: اشترى منهم ذلك بماذا؟ فقيل: {يقاتلون في سبيل الله} أي الملك الأعلى بسبب دينه الذي لا يرضي غيره، قتالاً يكون الدين محيطاً به وظرفاً، فلا يكون فيه شائبة لغيره؛ ثم سبب عن ذلك ما هو حقيق به، فقال: {فيقتلون ويقتلون} أعم من يكون ذلك بالقوة أو بالفعل، فيخصهم بالجنة كما وعدهم، وقراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول أمدح، لأن من طلب الموت - لا يقف له خصمه فيكون المعنى: فطلبوا أن يكونوا مقتولين فقتلوا أقرانهم، ويجوز أن يكون النظر إلى المجموع فيكون المعنى أنهم يقاتلون بعد رؤية مصارع أصحابهم من غير أن يوهنهم ذلك، وعن بعض الأعراب أنه لما سمع هذه الاية قال: بيع والله مربح! لا نقيل ولا نستقيل، فخرج إلى الغزو فاستشهد.
ولما كان القتل لكونه سبباً للجنة بشارة ووعداً، أكد ذلك بقوله: {وعداً} وزاده بحرف الإيجاب فقال: {عليه} وأتم التأكيد بقوله: {حقاً} ولما أكد هذه المبايعة الكريمة هذه التأكيدات العظيمة، زاد ذلك بذكره في جميع الكتب القديمة فقال: {في التوراة}(9/24)
كتاب موسى عليه السلام {والإنجيل} كتاب عيسى عليه السلام {والقرآن} أي الكتاب الجامع لكل ما قبله ولكل خير، وهؤلاء المذكورون في هذه السورة كلهم ممن ادعى الإيمان وارتدى به حلل الأمان، ثم إنهم فعلوا بتخلفهم عن الإقباض وتوقفهم عن الإسراع والإيقاض وغير ذلك من أقوالهم ومساوىء أفعالهم فعل الكاذب في دعواه أو الشاك أعم من أن يكون كذب بالآخرة المشتملة على الجنة أو يكون شك في وعد الله بإيراثهم إياها أو بتخصيصهم بها، وجوز أن يدخلها غيرهم وطمع أن يكون هو ممن يدخلها مع التكذيب، والله تعالى منزه عن جميع ذلك وهو وفي بعهده {ومن} أي وعد بذلك والحال أنه أوفى المعاهدين فهو مقول فيه على طريق الاستفهام الإنكاري: من {أوفى بعهده من الله} أي الذي له جميع صفات الكمال لأن الإخلاف لا يقدم عليه الكرام من الناس فكيف بخالقهم الذي له الغنى المطلق.
ولما كان ذلك سبباً للتبشير، لأنه لا ترغيب في الجهاد أحسن منه، قال مهنئاً لهم: {فاستبشروا} أي فأوجدوا في نفوسكم غاية البشر يا معاشر المجاهدين ولما ذكره في ابتداء العقد يدل على التأكيد، ذكره في آخر بلفظ يدل على السعة إشارة إلى سعة الجزاء فقال: {ببيعكم الذي بايعتم}(9/25)
أي أوقعتم المبايعة لله {به} فإنه موفيكم لا محالة فذلك هو الأجر الكريم {وذلك} أي إيراثكم الجنة وتخصيصكم بها {هو} أي خاصة لا غيره {الفوز العظيم*} فالحاصل أن هذه الآية واقعة موقع التعليل للأمر بالنفر بالنفس والمال.(9/26)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
ولما ثبتت المعاقدة وأحكامها، وصف المعاقدين على طريق المدح للحث على أوصافهم فقال: {التآئبون} مبتدئاً أوصافهم بالتوبة التي هي أساس العمل الصالح، ثم ابتدأ المؤسس بمطلق العبادة الشاملة لجميع أنواع الدين من العلم وغيره فقال: {العابدون} أي الذين أقبلوا على العبادة فأخلصوها لله؛ ولما كان التزام الدين لا يعرف إلا بالإقرار باللسان، أتبع ذلك الحمد الذي تدور مادته على بلوغ الغاية الذي من جملته الثناء اللساني بالجميل الشامل للتوحيد وغيره فقال: {الحامدون} أي المثنون عليه سبحانه ثناء عظيماً، تطابقت عليه ألسنتهم وقلوبهم فتبعته آثاره؛ ولما كان الإقرار باللسان لا يقبل إلا عند مطابقة القلب، تلاه بالسياحة التي تدور بكل ترتيب على الاتساع الذي منه إصلاح القلب ليتسع للتجرد عن ضيق المألوفات إلى فضاء الحضرات الإلهيات فقال: {السائحون} ولما كانت الصلاة نتيجة ذلك لكونها جامعة لعمل القلب واللسان وغيرهما من الأركان، وهي أعظم موصل إلى بساط الأنس في حضرات القدس وأعلى مجرد عن الوقوف مع المألوف. وكان أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود، وكان جميع(9/26)
أشكال الصلاة موافقاً للعادة إلا الركوع والسجود، أشار إليها بقوله مخصصاً لها بالذكر تنبيهاً على أن المراد من الصلاة نهاية الخضوع: {الراكعون} فبين أن تمام هذه البشرى لهذه الأمة أن صلاة غيرهم لا ركوع فيها، وأتمها بقوله: {الساجدون} ولما كان الناصح لنفسه بتهذيب لسانه وقلبه وجميع جوارحه لا يقبل إلا إذا بذل الجهد في نصيحة غيره كما صرح به مثال السفر في السفينة ليحصل المقصود من الدين وهو جمع الكل على الله المقتضي للتعاضد والتناصر الموجب لدوام العبادة والنصرة وبذلك يتحقق التجرد عن كل مألوف مجانس وغير مجانس، أتبع ذلك قوله: {الآمرون بالمعروف} أي السنة.
ولما كان الدين متيناً فلن يشاده أحد إلا غلبه، كان المراد من المأمورات مسماها دون تمامها ومنتهاها «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» والمراد من المنهيات تركها كلها، ومن الحدود الوقوف عندها من غير مجاوزة «وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» رواه البخاري في الاعتصام من صحيحه ومسلم ايضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكانت العرب - كما تقدم في البقرة عند قوله تعالى {والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] وفي آل عمران عند قوله {الصابرين والصادقين} [آل عمران: 17] عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي - إذا أتبعت بعض الصفات بعضاً من غير عطف علم أنها غير تامة، فإذا عطفتها أردت التمكن فيها والعراقة والتمام، فأعلم سبحانه أن المراد(9/27)
فيما تقدم من الأوصاف الإتيان بما أمكن منها، فأتى بها اتباعاً دون عطف لذلك، وأشار إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف عند الحدود لا يقنع منه إلا بالتمام لأن المقصر في شيء من ذلك إما راض بهدم الدين وإما هادم بنفسه، فيجب التجرد التام فيه لأن النهي أصعب أقسام العبادة لأنه متعلق بالغير وهو مثير للغضب موجب للحمية وظهور الخصومة، فربما كان عنه ضرب وقتل، فلذلك عطفها ولم يتبعها فقال: {والناهون} أي بغاية الجد {عن المنكر} أي البدعة.
ولما كان فاعل الخير لا ينفعه فعله إلا باستمراره عليه إلى الموت أتبعه قوله: {والحافظون} أي بغاية العزم والقوة {لحدود الله} أي الملك الأعظم التي حدها في هذا الشرع القيم فلم يتجاوزوا شيئاً منها، فختم بما به بدأ مع قيد الدوام بالرعي والقوة، والحاصل أن الوصف الأول للتجرد عن ربقة مألوف خاص وهو شرك المعصية بشركه أو غيره، والثاني للتجرد عن قيود العادات إلى قضاء العبادات، والثالث لبلوغ الغاية في تهذيب الظاهر. والرابع للتوسع إلى التجرد عن قيود الباطن، والخامس والسادس للجمع بين كمال الباطن والظاهر، والسابع للسير إلى إفاضة ذلك على الغير، والثامن للدوام على تلك الحدود بترك جميع القيود. فمقصود الآية العروج من الحضيض الجسماني إلى الشرف الروحاني؛ ثم أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبشير المتخلق بهذه الأوصاف عاطفاً لأمره به(9/28)
على محذوف تقديره - والله أعلم: فأنذر من تخلى منها بكل ما يسوءه بعد سجنه في دار الشقاوة فإنه كافر وبشرهم، أي هؤلاء الموصوفين، هكذا كان الأصل الإضمار، ولكنه أظهر ختاماً بما به بدأ وتعليقاً يالوصف وتعميماً فقال: {وبشر المؤمنين*} أي المتخلقين بها بكل ما يسرهم بعد تخصيصهم بدار السعادة، وفي ختم الآيتين بالبشارة تارة من الخالق وتارة من أكمل الخلائق أعظم مزية للمؤمنين، وفي جعل الأولى من الله أعظم ترغيب في الجهاد وأعلى حث على خوض غمرات الجلاد، وفي ابتداء الأيتين بالوصف المعشر بالرسوخ في الإيمان الذي هو الوصف المتمم للعشر وختمهما بمثله إشارة إلى أن هذه مائدة لا يخلس عليها طفيلي، وأن من عدا الراسخين في درجة الإهمال لا كلام معهم ولا التفات بوجه إليهم.
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر بالبراءة من أحياء المشركين وجاء الأمر أيضاً بالبراءة من أموات المنافقين بالنهي عن الدعاء لهم، جاءت هذه الآية مشيرة إلى البراءة من كل مشرك فوقع التصريح بعدها بما أشارت إليه، وذلك أنه لما ثبت بهذه الآية في تقديم الجار أن المبايعة وقعت على تخصيص الجنة بالمؤمنين وأنه تعالى أوفى من عاهد، ثبت أنه لا يجوز أن يدخل غيرهم الجنة وأن غيرهم أصحاب النار، لأنه قد علم أن الآخرة داران: جنة ونار، ولما ثبت هذا كله علم قطعاً علم النتيجة من المقدمات الصحيحة أنه {ما كان} أي في نفس الأمر(9/29)
{للنبي} أي الذي لا ينطق إلا بما عنده فيه بيان من الله {والذين آمنوا} أي أقروا بأنهم صدقوا بدعوته فلا يفعلون إلا ما عندهم منه علم {أن يستغفروا} أي يطلبوا المغفرة ويدعوا بها {للمشركين} أي الراسخين في الإشراك في عبادة ربهم {ولو كانوا} أي المشركين {أولي قربى} أي للذين آمنوا {من بعد ما تبين لهم} أي بموتهم على الشرك وإنزال هذه الآية للختم بالتخصيص بالجنة {أنهم أصحاب الجحيم*} أي لا أهلية لهم للجنة.
فإن الاستغفار معناه محو الذنوب حتى ينجو صاحبها من النار ويدخل الجنة وما ينبغي لهم أن يكون لهم إليهم التفات فإن ذلك ربما جر إلى ملاينة تفتر عن القتال الواقع عليه المبايعة، فما ينبغي إلا محض المقاطعة والمخاشنة والمنازعة. وتقييد النهي بالتبيين يدل على جواز الدعاء للحي فإن القصد بالاستغفار الإقبال به إلى الإيمان الموجب للغفران. ولما أنكر أن يكون لهم ذلك. وكان الخليل عليه السلام المأمور بالاقتداء به واللزوم بملته قد استغفر لأبيه، بين أنه كان أيضاً قبل العلم بما في نفس الأمر من استحقاقه للتأبيد في النار، فقال دالاً بواو العطف على أن التقدير: فما استغفر لهم بعد العلم أحد من المؤمنين: {وما كان استغفار إبراهيم} أي خليل الله {لأبيه} أي بعد أن خالفه في الدين {إلا عن موعدة} أي وهي قوله {لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء} [الممتحنة: 4] وأكد صدور(9/30)
الوعد بقوله: {وَعَدَها إياه} أي الخليل لأبيه قبل أن يعلم أنه أبدى الشقاوة، وقيل: الضمير لأبيه، كان وعده أنه يسلم فاستغفر له ظناً منه أنه صدق في وعده فأسلم، والذي يدل على أنه كان قبل علمه بذلك قوله: {فلما تبين له} أي بياناً شافياً قاطعاً {أنه عدو لله} أي الملك الأعلى مؤبد العداوة له بموته على الكفر أو بالوحي بأنه يموت عليه {تبرأ} أي أكره نفسه على البراءة {منه} ثم علل ما أفهمته صيغة التفعل من المعالجة بقوله: {إن إبراهيم لأواه} أي شديد الرقة الموجبة للتأوه من خوف الله ومن الشفقة على العباد؛ قال الزجاج: والتأوه أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء {حليم*} أي شديد التحمل والإغضاء عن المؤذى له، هكذا خلقه في حد ذاته فكيف في حق أبيه ولو قال له {لأرجمنك واهجرني} [مريم: 46] وأضعاف ذلك؛ قال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل البستي القاضي في تفسيره: حدثنا حرملة حدثنا ابن وهب أخبرني ابن جريح عن أيوب بن هانىء عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوماً وخرجنا معه حتى انتهى إلى المقابر فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فجلس إليه فناجاه طويلاً ثم ارتفع نحيب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باكياً فبكينا لبكاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أن(9/31)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما الذي أبكاك يا نبي الله فقد فقد أبكانا وأفزعنا، فأخذ بيد عمر رضي الله عنه ثم أقبل إلينا فأتيناه فقال: أفزعكم بكائي؟ قلنا: نعم يا رسول الله! قال: إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب وإني استأذنت ربي في الاستغفار لها فلم ياذن لي ونزل عليّ {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى} حتى ختم الآية {وما كان استغفار إبراهيم لأبية إلا عن موعدة وعدها إياه} فأخذني ما يأخذ الولد من الرقة فذلك الذي أبكاني»
وهذا سند حسن، ولمسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه في الجنائز عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» وللبخاري في التفسير وغيره ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي عم! قل: لا إله إلا الله، أُحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب!(9/32)
أترغب عن ملة عبد المطلب؟ - وفي رواية: فكان آخر ما كلمهم أن قال: هو على ملة عبد المطلب - فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} وأنزل الله في أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56] » ولعله استمر يستغفر له ما بين موته وغزوة تبوك حتى نزلت، ورُوي في سبب نزولها غير هذا أيضاً، وقد تقدم أنه يجوز أن تتعدد الأسباب.(9/33)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
ولما كان الاستغفار للمشركين أمراً عظيماً، وكان فيه نوع ولاية لهم، أظهر سبحانه للمؤمنين ما منّ عليهم به من عدم المؤاخذة بالإقدام عليه تهويلاً لذلك وقطعاً لما بين أوج الإيمان وحضيض الكفران بكل اعتبار فقال تعالى: {وما كان الله} أي الذي له صفات الكمال؛ ولما كان الضلال سبب الهلاك، وكان من شرع شريعة ثم عاقب ملتزمها من غير بيان كمن دل على طريق غير موصل فهلك صاحبه فكان الدال بذلك مضلاً، قال: {ليضل قوماً} أي يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم لما ينهي عنه بناسخ نسخه {بعد إذ هداهم} أي بشريعة نصبها لهم {حتى يبين لهم} أي بياناً شافياً لداء العي {ما يتقون} أي مما هو جدير بأن يحذروه ويتجنبوه خوفاً من غائلته بناسخ ينسخ حال الإباحة التي كانوا عليها.(9/33)
ولما كان الذي يأمر بسلوك طريق ثم يترك فيها ما يحتاج إلى البيان إنما يؤتى عليه من الجهل أو النسيان. نفي ذلك سبحانه عن نفسه فقال معللاً لعدم الإضلال: {إن الله} أي المحيط بصفات الكمال {بكل شيء عليم*} أي بالغ العلم فلا يتطرق إليه خفاء بوجه من الوجوه في حين من الأحيان فهو يبين لكم جميع ما تأتون وتذرون وما يتوقف عليه الهدى، وما تركه فهو إنما يتركه رحمة لكم {لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52] فلا تبحثوا عنه؛ ثم علل علمه بكل شيء بأن قدرته شاملة فهو قادر على نصرة من يريد والانتقام ممن يريد، فلا ينبغي لأحد أن يحب إلا فيه ولا يبغض إلا فيه ولا يهتم بعداوة أحد ممن عاداه فقال: {إن الله} أي الملك الأعظم {له} أي بكل اعتبار تعدونه من اعتبارات الكمال {ملك السماوات والأرض} فلا يخفى عليه شيء فهو خبير بكل ما ينفعكم ويضركم وهو وليكم، يبينه لكم، ومن كان له جميع الملك كان بحيث لا يستعصي على أمره شيء: علم ولا غيره، لأن العلم من أعظم القوى والقدر، ولا يكون الملك إلا عالماً قادراً؛ ثم علل قدرته وعلمه بما يشاهد متكرراً من فعله في الحيوان والنبات وغير ذلك فقال: {يحيي ويميت} أي بكل معنى فهو الذي أحياكم وغيركم الحياة الجسمانية وخصم أنتم بالحياة الإيمانية، وكما جعل غيركم بعضهم أولياء بعض وجمعهم كلهم على ولاية عدوهم الشيطان جعلكم(9/34)
أنتم أولياء ربكم الرحمن فهو وليكم وناصركم {وما} أي والحال أنه ما {لكم} ولما كان ليس لأحد أن يجوز كل ما دون رتبته سبحانه، أثبت الجار فقال. {من دون الله} أي الملك الذي له الأمر كله، وأغرق في النفي بقوله: {من ولي} أي قريب يفعل معكم من الحياطة والنصح ما يفعل القريب من النصرة وغيره.
ولما كان الإنسان قد ينصره غير قريبه قال. {ولا نصير*} أي فلا توالوا إلا من كان من حزبه وأهل حبه وقربه، وفيه تهديد لمن أقدم على ما ينبغي أن يتقي لا سيما الملاينة لأعداء الله من المساترين والمصارحين، فإن غاية ذلك موالاتهم وهي لا تغني من الله شيئاً.
ولما أشار إلى أنه هو وليهم أحياهم بروح منه مبين لهم ما يصلحهم وأنه لا ولي لهم غيره، أقام الدليل على ذلك بقوله: {لقد تاب الله} أي الذي له الجلال والإكرام {على النبي} أي الذي لا يزال عنده من الله خبر عظيم يرشده إلى ما يؤذن بتقوية حياته برفع درجاته، فما من مقام يرقيه إليه إلا رأى أنه لمزيد علوه وتقربه للمقام الذي كان دونه، فهو في كل لمحة في ارتقاء من كامل إلى أكمل إلى ما لا نهاية له.
ولما أخبر تعالى بعلو رتبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بترقيته في رتب الكمالات والأكمليات إلى ما لا نهاية له على وجه هو في غاية البعث لكل(9/35)
مؤمن على المبادرة إلى التوبة، أكد ذلك بقوله: {والمهاجرين والأنصار} بمحو هفواتهم ورفع درجاتهم {الذين اتبعوه} أي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {في ساعة العسرة} أي أزمنة عزوة تبوك، كانوا في عسرة من الزمان بالجدب والضيقة الشديدة والحر الشديد، وعسرة من الظهر «يعتقب العشرة» على بعير واحد. وعسرة من الزاد «تزودوا التمر المدوّد والشعير المسوّس والإهالة الزنخة» وبلغت بهم الشدة أن اقتسم التمر اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها؛ وسماها ساعة تهويناً لأوقات الكروب وتشجيعاً على مواقعة المكاره فإن أمدها يسير وأجرها عظيم خطير، فكانت حالهم باتباعه في هذه الغزوة أكمل من حالهم قبلها، وأشار سبحانه إلى تفاوتهم في الثبات على مقامات عالية، ترقوا بالتوبة إلى أعلى منها، وفي قبول وساوس أبعدتهم التوبة عن قبولها بقوله: {من بعد ما كاد} أي قرب قرباً عظيماً {يزيغ} أي تزول عن أماكنها الموجبة لصلاحها، وأشار ب «من» إلى تقارب ما بين كيدودة الزيغ والتدارك بالتوبة. ولما كان المقام للزلازل،(9/36)
ناسب التعبير بما منه الانقلاب والفرقة فقال: {قلوب فريق} أي هم بحيث تحصل منهم الفرقة لما هناك من الزلازل المميلة {منهم} أي من عظيم ما نالهم من الشدائد فتميل لذلك عن الحق كأبي خيثمة ومن أحب الراحة وهاب السفر في ذلك الحر الشديد إلى بني الأصفر الملوك الصيد الأبطال الصناديد، وهم ملء الأرض كثرة وقدر الحصى عدة ومثل الجبال شدة، ثم عزم الله له فلحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجع سبحانه بالجميع إلى ما كانوا عليه قبيل مقاربة الزيغ من مباعدته، ولما صاروا كمن لم يقارب الزيغ.
أعلاهم إلى مقام آخر عبرعن عظمته بأداة التراخي فقال: {ثم تاب عليهم} أي كلهم تكريراً للرفعة، أو على من كاد يزيغ بالثبات على مباعدة الزلات وبالترقي في أعالي الدرجات إلى الممات؛ ونقل أبو حيان عن الحسن أن زيغها همها بالانصراف لما لقيت من المشقة، قال وقيل: ساء ظنها بما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد الشقة وقوة العدو المقصود -انتهى. ويجوز أن يكون عبر ب {ثم} لوصولهم إلى حالة يبعد معها الثبات فضلاً عن مباعدة مواقع الزلات فثبتها حتى عادت كالحديد من غير سبب ظاهر من «جيش أو غيره» فثبت بذلك أنه مالك الملك متمكن(9/37)
من فعل كل ما يريده وأنه لا ولي لهم سواه: ثم علل لطفه بهم بقوله: {إنه بهم رؤوف رحيم*} والرأفة: شدة الرحمة، فقدم الأبلغ فيقال فيه ما قيل في {الرحمن الرحيم} فالمعنى أنه يرحمهم أعلى الرحمة بإسباغ جلائل النعم ودفع جلائل النقم، ويرحمهم أيضاً بإسباغ دقائق النعم ودفع دقائق النقم، وقيل: الرأفة: إزالة الضر، والرحمة: إيصال النفع، ومادة رأف تدور مع السعة على ما أُشير إليه في سورة سبحان على شدة الوصلة. فالرأفة - كما قال الحرالي في البقرة - عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم، والرحمة تعم من لا صلة له بالراحم - انتهى. فتكون الرأفة حينئذ للثابتين والرحمة لمن قارب الزيغ. فيصير الثابت مرحوماً مرتين لأنه منظور إليه بالصفتين، وتقدم عند الحزبين من البقرة ما ينفع هنا.(9/38)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
ولما صرح بالتوبة على من قارب الزيغ وخلط معهم أهل الثبات إشارة إلى أن كل أحد فقير إلى الغني الكبير وليكون اقترانهم بأهل المعالي، وجعلهم في حيزهم تشريفاً لهم وتأنيساً لئلا يشتد إنكارهم، أتبعه التوبة على من وقع منه الزيغ فقال غير مصرح بالزيغ تعليماً للأدب وجبراً للخواطر المنكسرة: {وعلى} أي ولقد(9/38)
تاب الله على {الثلاثة الذين} .
ولما كان الخلع للقلوب مطلق التخليف، بني للمفعول قوله: {خلفوا} أي خلفهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهجران ونهى الناس عن كلامهم، وأخر الحكم فيهم ليأتي أمر الله في بيان أمرهم واستمر تخليفهم {حتى إذا ضاقت} أشار إلى عظيم الأمر بأداة الاستعلاء فقال: {عليهم الأرض} أي كلها {بما رحبت} أي مع شدة اتساعها، أي ضاق عليهم فسيحها ووسعها.
ولما كان هذا قد يراد به الحقيقة، وكان ضيق المحل قد لا يستلزم ضيق الصدر، أتبعه الدلالة على أن المراد المجاز فقال: {وضاقت عليهم} بالهم المزعج والغم المقلق {أنفسهم} أي من شدة ما لاقوا من الهجران حتى بالكلام حتى برد السلام؛ ولما كان ذلك لا يقتضي التوبة إلا بالمراقبة، أتبعه ذلك للتخلف بها قوله: {وظنوا} أي أيقنوا، ولعله عبر بالظن إيذان بأنهم لشدة الحيرة كانت قلوبهم لا تستقر على حال، فكان يقينهم لشدة الخواطر كأنه ظن، أو يقال - وهو حسن -: إن التعبير به عن يقين المخلصين إشارة إلى أن أعلى اليقين في التوحيد لا يبلغ الحقيقة على ما هي عليه أن لا يقدر أحد أن يُقدر لله حق قدره - كما قال صدق الخلق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» وهذا من النفائس فاستعمله في أمثاله {أن لا ملجأ} أي مهرب ومفزع {من الله}(9/39)
أي الذي له الإحاطة الكاملة {إلا إليه} أي بما يرضيه، وهو مثل لتحيرهم في أمرهم، وجواب {إذا} محذوف دل عليه صدر الكلام تقديره: تداركهم بالتوبة فردهم إلى ما كانوا عليه قبل مواقعة الذنب.
ولما كان ما عملوه من التخلف عن أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظيماً بمجرد المخالفة ثم يترك المواساة ثم بالرغبة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بأمور عظيمة شديدة القبح وخيمة فكان يبعد معه الزيادة عن رتبة التوبة، أعلم سبحانه أنه رقاهم في رتب الكمال بأن جعل ذلك سبباً لتطهيرهم من جميع الأدناس وتنقيتهم من سائر الأردان المقتضي لمزيد القرب بالعروج في مصاعد المعارف - كما أشار إليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكعب رضي الله عنه «أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك» ، أتبع ذلك سبحانه الإعلام به بقوله - مشيراً إلى ما بعده لولا فضل الله - بأداة الاستبعاد: {ثم تاب عليهم} أي رجع بهم بعد التوبة إلى مقام من مقامات سلامة الفطرة الذي هو أحسن تقويم يعلو لعلوه بالنسبة إلى ما دونه، توبة {ليتوبوا} أي ليرجعوا إلى ما تقتضيه الفطرة الأولى من الثبات على ما كانوا عليه من الإحسان في الدين والتخلق بإخلاق السابقين، ولعله عبر بالظن موضع العلم إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من جلاله للانقطاع إليه مجرد الظن بأنه لا سبب إليه إلا منه لأنه محيط بكل شيء لا يعجزه شيء، ويمكن أن يكون التعبير - {ثم} إشارة إلى عظيم ما قاسوا من الأهوال وما ترقوا إليه من مراتب الخوف، وامتنان عليهم بالتوبة(9/40)
من عظيم ما ارتكبوا، وإنما خصوا عن رفقائهم بأن أرجئوا لأمر الله لعلو مقامهم بما لهم من السابقة ورسوخ القدم في الإسلام، فالمخالفة اليسيرة منهم أعظم من الكثير من غيرهم لأنهم أئمة الهدى ومصابيح الظلم، ومن هذا البارق - حسنات الأبرار سيئات المقربين - ثم علل التوبة بأمر يعم غيرهم ترغيباً فقال معبراً بما يشير مع أعلى مقامهم إلى نزوله عن مقام من قبلهم: {إن الله} أي الذي له الكمال كله {هو} أي وحده {التواب} أي البليغ التوبة على من تاب وإن عظم جرمه وتكررت توبته لتكرر ذنوبه {الرحيم*} أي المكرم لمن أراد من عباده بأن يحفظه على ما يرتضيه فلا يزيغ، ويبالغ في الإنعام عليه.
ولما كان الذي نالوا به الإقبال من مولاهم عليهم - مما وصفهم به من الضيق وما معه - هو التقوى والصدق في الإيمان كما كان ما يجده الإنسان في نفسه مما الموت عنده والقذف في النار أحب إليه من التلفظ به صريح الإيمان بشهادة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رغب سبحانه في الصدق فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك {اتقوا الله} أي خافوا سطوة من له العظمة الكاملة تصديقاً لدعواكم فلا تفعلوا إلا ما يرضيه {وكونوا} أي كوناً صادقاً بجميع الطبع والجبلة {مع الصادقين*} أي في كل أمر يطلب منهم، ولعله أخرج الأمر مخرج العموم ليشمل(9/41)
كل مؤمن، فمن كان مقصراً كانت آمره له باللحاق، ومن كان مسابقاً كانت حاثة له على حفظ مقام الاستباق، ولعله عبر ب {مع} ليشمل أدنى الدرجات، وهو الكون بالجثت، وقد روى البخاري توبة كعب أحد هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم في مواضع من صحيحه منها التفسير، وكذا رواه غيره عن كعب نفسه رضي الله عنه «أنه لم يتخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة غزاها قط غير غزوتين: غزوة العسرة - يعني هذه - وغزوة بدر، وأن تخلفه ببدر إنما كان لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يندب الناس إليها ولا حثهم عليها لأنه ما خرج أولاً إلا لأجل العير، قال: فأجمعت صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان قل ما يقدم من سفر سافره إلا ضحى، وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين ونهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كلامي وكلام صاحبي - يعني مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي - ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال عليَّ الأمر، وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي عليّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو يموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي عليّ، فأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند أم سلمة رضي الله عنها، وكانت أم سلمة(9/42)
محسنة في شأني معنية في أمري فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ياأم سلمة! تيب على كعب، قالت: أفلا أرسل إليه فأشره؟ قال: إذن يحطمكم الناس فيمنعوكم النوم سائر الللية حتى إذا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا، وكان إذا استبشر استنار وجهه حتى كأنه قطعة من القمر، وكنا - أيها الثلاثة الذين خلفوا - خلفنا عن الأمر الذي قبل من هؤلاء الذين اعتذروا حين أنزل الله لنا التوبة، فلما ذكر الذين كذبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المتخلفين واعتذروا بالباطل ذكروا بشر ما ذكر به أحد، قال الله عز وجل {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} » .
ولما كان ما نالهم من الأهوال إنما نالهم بتخلفهم عن أشرف الخلق، والذي التفت بهم إلى مرابع الإقبال إنما هو الصدق، قال تعالى ناهياً بصيغة الخبر ليكون أبلغ، جامعاً إليهم من كان على مثل حالهم في مطلق التخلف: {ما كان} أي ما صح وما انبغى بوجه من الوجوه {لأهل المدينة} أي التي هي سكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي دار الهجرة ومعدن النصرة {ومن حولهم} أي في جميع نواحي المدينة الشريفة {من الأعراب} أي من سكان البوادي الذين أقسموا بالإسلام {أن يتخلفوا} أي في أمر من الأمور {عن رسول الله}(9/43)
أي الملك الأعلى، ومن شأن المرسل إليه أن لا يبرح عن جنان الرسول لا سيما وهو رأس الصادقين الذين وقع الأمر بالكون معهم {ولا يرغبوا} أي وما كان لهم أن يرغبوا، ولعله قللهم بصيغة القلة بالنسبة إلى من أيده به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جنوده فقال تعالى: {بأنفسهم عن نفسه} أي التي هي أشرف النفوس مطلقاً بأن يصونوا نفوسهم عما باشره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل يلقونها في المتالف دونه وصيانة لنفسه الشريفة عن أدنى الأذى، فهى كالتعليل للأمر بالتقوى أي خافوا الله وأصدقوه كما صدق هؤلاء ليتوب عليكم كما تاب عليهم فإنه لم يكن لكم التخلف فهو نهي بليغ مع تقبيح وتوبيخ وإلهاب وتهييج.
ولما علل الأمر بالتقوى، علل النهي عن التخلف بما يدل على صدق الإيمان فيصير نقيضه دالاً على نقيضه فقال: {ذلك} أي النهي العظيم عن التخلف في هذا الأسلوب النافي للكون {بأنهم لا يصيبهم ظمأ} أي عطش شديد {ولا نصب} أي تعب بالغ {ولا مخمصة} أي شدة مجاعة {في سبيل الله} أي طرق دين الملك الأعظم المتوصلة به إلى جهاد أعدائه، ورتبت هذه الأشياء ترتيبها في الوجود فإن مطلق الحركة يهيج الحرارة فينشأ العطش وتماديها يورث التعب، والأغلب(9/44)
أن يكون قبل الجوع.
ولما كان المقصود من إجهاد النفس بما ذكر إرغام الكفار باقتحام أرضهم المتوصل به إلى إيمانهم بالنيل منهم، أتبع ذلك قوله: {ولا يطؤون موطئاً} أي وطأً أو مكاناً وطؤه {يغيظ الكفار} أي وطؤهم له بأرجلهم أو دوابهم {ولا ينالون من عدو نيلاً} أي كائناً ما كان صغيراً او كبيراً {إلا كتب لهم به} أي في صحائف الأعمال، بني للمفعول لأن القصد إثباته لا من معين {عمل صالح} أي ترتب لهم عليه أجر جزيل.
ولما كان فاعل هذه الأشياء مقدماً على المعاطب في نفسه ومحصلاً لعرض الجهاد، أشير على وجه التأكيد في جملة اسمية إلى أنه محسن، أما في حق نفسه فبإقامة الدليل بطاعته على صدق إيمانه. وأما في غيره من المؤمنين فبحمايتهم عن طمع الكافرين. وأما في حق الكفار فبحملهم على الإيمان بغاية الإمكان، فقال تعالى معللاً للمجازاة: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {لا يضيع} أي لا يترك تركه ما من شأنه الإهمال {أجر المحسنين*} وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف.(9/45)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
ولما كانت المشقة بالإنفاق العائد ضرره إلى المال، ووطئ مطلق الأرض(9/45)
الذي قد لا يلزم منه وصول إلى ما يغيظ العدو دون المشقة الحاصلة في النفس بالظمأ وما معه من فعل ما يغيظ العدو وينقصه، قدم ذلك على قوله: {ولا ينفقون} ولما كان القليل قد يحتقر، ابتدأ به ترغيباً في قوله: {نفقة صغيرة} ولما كان ربما تعنت متعنت فجعل ذكرها قيداً، قال: {ولا كبيرة} إعلاماً بأنه معتد به لئلا يترك، وفيه إشارة إلى آية اللمز للمطوعين في الصدقات {ولا يقطعون وادياً} أي من الأدوية بالسير في الجهاد، والوادي: كل منفرج بين جبال وآكام ينفذ فيه السيل، وهو في الأصل فاعل من ودى - إذا سال {إلا كتب لهم} أي ذلك الإنفاق والقطع، بناه للمفعول لأن القصد الحفظ بالكتابة مطلقاً {ليجزيهم الله} أي ذو الجلال والإكرام، أي بذلك من فضله {أحسن ما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يعملون*} مضاعفاً على قدر الثبات، وأكدت فاصلة الأولى دون هذه لزيادة تلك في المشقة والنفع، ولذا صرح فيها الأجر والعمل الصالح - نبه على ذلك الإمام أبو حيان. ومن هنا بل من عند {إن الله اشترى} شرع في عطف الآخر على الأول الذي مضمونه البراءة من المشركين والاجتهاد في قتالهم بعد انقضاء مدتهم حيث وجدوا - إلى أن قال {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} - إلى أن قال {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} ثم قال(9/46)
{انفروا خفافاً وثقالاً} ثم أتبع ذلك قصص المنافقين كما أنه فعل هنا كذلك أن ختم بقوله {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} الآية ثم أتبعها ذكر المنافقين.
ولما تواترت النواهي للمتخلفين وتواصلت الزواجر وتعاظم التبكيت والتهديد، طارت القلوب وأشفقت النفوس، فكان ذلك مظنة أن لا يتخلف بعدها أحد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمن يقوم مقامه فيتمكن حينئذ الأعداء من الأموال والذراري والعيال، فأتبع ذلك قوله تعالى: {وما كان المؤمنون} أي الذين حثهم على النَّفر الرسوخ في الإيمان {لينفروا كآفة} أي جميعاً فإن ذلك بخل بكثير من الأغراض الصالحة، وهو تعليم لما هو الأنسب بالدين والدنيا من انقسام الناس قسمين: قسماً للجهاد، وقسماً للنفقة وحفظ الأموال والأولاد، كل ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام والعمل بما يرضاه، ولا يخفى ذلك على المخلص، ولعل التعبير بالفعل الماضي في قوله مسبباً عما قبله: {فلولا نفر} ليفهم تبكيت من قصد تبكيته من المتخلفين في جميع هذه السورة بأنه كان عليهم أن ينفر مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {من كل فرقة} أي ناس كثير يسهل افتراقهم، قالوا: وهو اسم يقع على ثلاثة {منهم طائفة} أي ناس لا ينفكون حافين بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلزمونه، قيل: والطائفة واحد واثنان، فالآية حجة على قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وكأنه عبر به للإشارة(9/47)
إلى الحث على كثرة النافرين كما هو أصل مدلولها الأغلب فيه {ليتفقهوا} أي ليكلف النافرون أنفسهم الفهم منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً فشيئاً {في الدين} أي بما يسمعونه من أقواله ويرونه من جميل أفعاله ويصل إلى قلوبهم من مستنير أحواله، وهذا غاية الشرف للعلم حيث جعل غاية الملازمة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للجهاد، هذا إن كان هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النافر في تلك الغزاة، وإن كان غيره كان ضمير {يتفقهوا} للباقين معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كان من العلم بشارة ومنه نذارة، وكان الإنسان - لما فيه من النقصان - أحوج شيء إلى النذارة، خصها بالذكر فقال عطفاً على نحو: ليخافوا في أنفسهم فيعملوا في خلاصها: {ولينذروا قومهم} أي يحذروهم ما أمامهم من المخاوف إن فرطوا في جانب التقوى {إذا رجعوا إليهم} أي ما أنذرهموه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويبشروهم بما بشرهم به؛ ثم بين غاية العلم مشيراً إلى أن من جعل له غاية غيرها من ترفع أو افتخار فقد ضل ضلالاً كبيراً، فقال موجباً لقبول خبر من بلغهم: {لعلهم} أي كلهم {يحذرون*} أي ليكون حالهم حال أهل الخوف من الله بما حصلوا من الفقه لأنه أصل كل خير، به تنجلي القلوب فَتقبل على الخير وتعرض عن الشر، فإن الحذر تجنب الشيء لما فيه من الضرر، والمراد بالفقه هنا حفظ الكتاب والسنة وفهم معانيهما(9/48)
من الأصول والفروع والآداب والفضائل، وقال الرماني: الفقه فهم موجبات المعاني المضمنة بها من غير تصريح بالدلالة عليها.(9/49)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
ولما علمت المقاصد وتهيأت القلوب لقبول الفوائد، وأمر بالإنذار بالفقه، وكان من الناس من لا يرجع إلا بشديد البأس، أقبل على الكل مخاطباً لهم بأدنى أسنان القلوب ليتوجه إلى الأدنى ويتناول الأعلى منه من باب الأولى فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ادَّعوا بألسنتهم الإيمان {قاتلوا} أي تصديقاً لدعواكم ذلك {الذين يلونكم} أي يقربون منكم {من الكفار} فالذين يلونهم إن لم تروا غيره أصلح لمعنى يعرض لما في ذلك من حسن الترتيب ومقتضى الحكمة ولأن الجهاد معروف وإحسان، والأقربون أولى بالمعروف، ولتبعدوا العدو عن بلادكم فيكثر صلاحهم ويقل فسادكم وتكونوا قد جمعتم بالتفقه والقتال بين الجهادين: جهاد الحجة وجهاد السيف مع الاحتراس بهذا الترتيب من أن يبقى وراءكم إذا قاتلتم من تخشون كيده.
ولما كانت الملاينة أولى بالمسالمة، والمخاشنة أولى بالمصارمة، قال: {وليجدوا} من الوجدان {فيكم غلظة} أي شدة وحمية لأن ذلك أهيب في صدورهم.(9/49)
وأكف عن فجورهم، وحقيقة الغلطة في الأجسام، استعيرت هنا للشدة في الحرب، وهي تجمع الجراءة والصبر على القتال وشدة العدواة، فإذا فعلوا ذلك كانوا جامعين بين جهاد الحجة والسيف كما قيل:
من لا يعدله القرآن كان له ... من الصغار وبيض الهند تعديل
نبه على ذلك أبو حيان.
ولما كان التقدير: وليكن كل ذلك مع التقوى لا بسبب مال ولا جاه فإنها ملاك الأمر كله، قال منبهاً على ذلك بقوله: {واعلموا أن الله} أي الذي له الكمال كله {مع المتقين*} فلا تخافوا أن يؤدي شيء من مصاحبتها إلى وهن فإن العبرة بمن كان الله معه.
ولما ذكر هذه السورة أي الطائفة الحاضة بصيغة «لولا» على النفر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآمرة بجهاد الكفار والغلظة عليهم، وكان لا يحمل على ذلك إلا ما أشار إليه ختم الآية السالفة من التقوى بتجديد الإيمان كلما نزل شيء من القرآن، وكان قد ذكر سبحانه المخالفين لأمر الجهاد بالتخلف دون أمر الإيمان حين قال {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} التفت إلى ذلك ليذكر القسم الآخر وهو القاعد عن الإيمان فقال: {وإذا} وأكد بزيادة النافي تنبيهاً على فضل الإيمان(9/50)
فقال: {ما} .
ولما كان المنكي لهم مطلق النزول، بني للمفعول قوله: {أنزلت سورة} أي قطعة من القرآن، أي في معنى من المعاني {فمنهم} أي من المنزل إليهم {من يقول} أي إنكاراً واستهزاء، وهم المنافقون {أيكم} أي أيها العصابة المنافقة {زادته هذه إيماناً} إيهاماً لأنهم متصفون بأصل الإيمان، لأن الزيادة ضم الشيء إلى غيره مما يشاركه في صفته، هذا ما يظهرون تستراً، وأما حقيقة حالهم عند أمثالهم فالاستهزاء استبعاداً لكونها تزيد أحداً في حاله شيئاً، وسبب شكهم واستفهامهم أن سامعيها انقسموا إلى قسمين: مؤمنين ومنافقين، ولذلك أجاب تعالى بقوله مسبباً عن إنزالها: {فأما الذين آمنوا} أي أوقعوا الإيمان حقيقة لصحة أمزجة قلوبهم {فزادتهم} أي تلك السورة {إيماناً} أي بإيمانهم بها إلى ما كان لهم من الإيمان بغيرها وبتدبرها ورقة القلوب بها وفهم ما فيها من المعارف الموجبة لطمأنينة القلوب وثلج الصدور.
ولما كان المراد بالإيمان الحقيقة وكانت الزيادة مفهمة لمزيد عليه، استغنى عن أن يقول: إلى إيمانهم، لذلك ولدلالة {الذين آمنوا} عليه {وهم يستبشرون*} أي يحصل لهم البشر بما زادتهم من الخير الباقي الذي لا يعدله شيء {وأما الذين} وبين أن أشرف ما فيهم مسكن الآفة فقال: {في قلوبهم مرض} فمنعهم الإيمان وأثبت لهم الكفران فلم يؤمنوا.(9/51)
ولما كان المراد بالمرض الفساد المعنوي المؤدي إلى خبث العقيدة، عبر عنه بالرجس فقال: {فزادتهم رجساً} أي اضطراباً موجباً للشك، وزاد الأمر بياناً بأن المراد المجاز بقوله: {إلى رجسهم} أي شكهم الذي كان في غيرها {وماتوا} أي واستمر بهم ذلك لتمكنه عندهم إلى أن ماتوا {وهم كافرون*} أي عريقون في الكفر، وسمي الشك في الدين مرضاً لأنه فساد في الروح يحتاج إلى علاج كفساد البدن في الاحتياج، ومرض القلب أعضل، وعلاجه أعسر وأشكل، ودواءه أعز وأطباؤه أقل. ولما زاد الكفار بالسورة رجساً من أجل كفرهم بها، كانت كأنها هي التي زادتهم، وحسن وصفها بذلك كما حسن: كفى بالسلامة داء، وكما قال الشاعر:
أرى بصري قد رابني بعد نصحه ... وحسبك داء أن تصح وتسلما
قاله الرماني، فالمؤمنون يخبرون عن زيادة إيمانهم وهؤلاء يخبرون عن عدمه في وجدانهم، فهذا موجب شكهم وتماديهم في غيهم وإفكهم، ولو أنهم رجعوا إلى حاكم العقل لأزال شكهم وعرفهم صدق المؤمنين بالفرق بين حالتيهم، فإن ظهور الثمرات مزيل للشبهات، والآية من الاحتباك: إثبات الإيمان أولاً دليل على حذف ضده ثانياً، وإثبات المرض ثانياً دليل على حذف الصحة أولاً.(9/52)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
ولما كان التقدير تسبيباً عما جزم به من الحكم بعراقتهم في الرجس(9/52)
وازديادهم منه: أفلا يرون إلى تماديهم في النفاق وثباتهم عليه؟ عطف عليه تقريرهم بعذاب الدنيا والإنكار عليهم في قوله: {أولا يرون} أي المنافقون، قال الرماني: والرؤية هنا قلبية لأن رؤية العين لا تدخل على الجملة لأن الشيء لا يرى من وجوه مختلفة {أنهم} أي المنافقين؛ ولما كان مطلق وقوع الفتنة من العذاب، بنى للمفعول قوله: {يفتنون} أي يخالطون من حوادث الزمان ونوازل الحدثان بما يضطرهم إلى بيان أخلاقهم بإظهار سرائرهم في نفاقهم {في كل عام} أي وإن كان الناس أخصب ما يكونون وأرفعه عيشاً {مرة أو مرتين} فيفضحون بذلك، وذلك موجب للتوبة للعلم بأن من علم سرائرهم - التي هم مجتهدون في إخفائها - عالم بكل شيء قادر على كل مقدور، فهو جدير بأن تمتثل أوامره وتخشى زواجره.
ولما كان عدم توبتهم مع فتنتهم على هذا الوجه مستبعداً، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم لا يتوبون} أي لا يجددون توبة {ولا هم} أي بضمائرهم {يذكرون*} أي أدنى تذكر بما أشار إليه الإدغام، فلولا أنه حصلت لهم زيادة في الرجس لأوشك تكرار الفتنة أن يوهي رجسهم إلى أن يزيله ولكن كلما أوهى شيئاً خلقه مثله أو أكثر بسبب الزيادات المترتبة على وجود نجوم القرآن، والتذكر طلب الذكر للمعنى بالكفر فيه، فالآية ذامة لهم على عدم التوبة بإصابة المصائب لعدم تذكر(9/53)
أنه سبحانه ما أصابهم بها إلا بذنوبهم {ويعفو عن كثير} [الشورى: 34] كما أن أحدهم لا يعاقب فتاة إلا بذنب وما لم يتب فهو يوالي عقابه.
ولما ذكر ما يحدث منهم من القول استهزاء، أتبعه تأكيداً لزيادة كفرهم وتوضيحاً لتصويره ما يحدث من فعلهم استهزاء من الإيمان والتغامز بالعيون فقال {وإذا} وأكد بالنافي فقال: {ما} ولما كان الغرض نفس الإنزال لا تعيين المنزل، بني للمفعول قوله {أُنزلت سورة} أي طائفة من القران {نظر بعضهم} أي المنافقين {إلى بعض} أي متغامزين سخرية واستهزاء قائلين: {هل يراكم} وأكدوا العموم فقالوا: {من أحد} أي من المؤمنين إن انصرفتم، فإن يشق علينا سماع مثل هذا، ويشق علينا أن يطلع المؤمنون على هذا السر منا.
ولما كان انصرافهم عن مثل هذا المقام مستهجناً، أشار إلى شدة قبحه بأداة التراخي فقال: {ثم انصرفوا} أي إن لم يكن أحد يراهم، وإن رآهم أحد من المؤمنين تجشموا المشقة وثبتوا؛ ولما كانوا مستحقين لكل سوء، أخبر عنهم في أسلوب الدعاء بقوله: {صرف الله} أي الذي له الغنى المطلق والكمال كله {قلوبهم} أي عن الإيمان؛ ثم علل ذلك بقوله: {بأنهم قوم} وإن كانوا ذوي قوة على ما يحاولونه فإنهم {لا يفقهون*} أي قلوبهم مجبولة على عدم الفهم لما بها من الغلظة،(9/54)
وهذا دليل على ختام الآية قبلها، وهاتان الآيتان المختتمتان - ب {لا يفقهون} التاليتان للأمر بالجهاد في قوله {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} الموازي - {انفروا خفافاً وثقالاً} الآية - قد احتوتا مع وجازتهما على حاصل أوصاف المنافقين التالية لآية {انفروا} المختتم ما هو العام منها في أهل الحاضرة في قوله {استأذنك أولوا الطول منهم} ب {يفقهون} ثم عند إعادة ذكرهم ب {لا يعلمون} وتصويب هاتين الآيتين إلى أهل الحاضرة ظاهر لكونهم ممن يحضر نزول الذكر كثيراً مع احتمالهما للعموم، والختم هنا ب {لا يفقهون} أنسب لأن المقام - وهو النظر في زيادة الإيمان بالنسبة إليهم - يقتضي فكراً وتأملاً وإن كان بالنظر إلى المؤمنين في غاية الوضوح.
ولما أمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبلغ هذه الأشياء الشاقة جداً من أمر هذه السورة، وكان من المعلوم أنه لا يحمل ذلك إلا من وفقه الله تعالى، وأما المنافقون فيكرهون ذلك وكان انصرافهم دالاً على الكراهة، عرفهم أن الأمر كان يقتضي توفر دواعيهم على محبة هذا الداعي لهم المقتضي لملازمته والبعد عما يفعلونه به من الانصراف عنه، وأن أحواله الداعية لهم إلى محبته أعظم من أحوال آبائهم التي أوجبت لهم منهم من المحبة وعليهم من الحقوق ما هم مفتخرون بالتلبس به والمغالاة فيه، وأن كل ما يحصل بهذا القرآن من العز(9/55)
والشرف في الدنيا فهو لكل من آمن به فقال: {لقد جاءكم رسول} .
ولما كان الرسول يجب إكرامه والوقوف في خدمته لأجل مرسله ولو تجرد عن غير ذلك الوصف، شرع يذكر لهم من أوصافه ما يقتضي لهم مزيد إكرامه فقال: {من أنفسكم} أي ترجعون معه إلى نفس واحدة بأنكم لأب قريب، وذلك أقرب إلى الألفة وأسرع إلى فهم الحجة وأبعد من المحل واللجاجة {عزيز} أي شديد جداً {عليه ما عنتم} والعزة: امتناع الشيء بما يتعذر معه ما يحاول منه بالقدرة أو بالقلة أو بالصعوبة، والعنت: لحاق الأذى الذي يضيق الصدر به ولا يهتدي للمخرج منه {حريص} أي بليغ الحرص {عليكم} أي على نفعكم، والحرص: شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه، وقدم الجار لإفادة الاختصاص فقال: {بالمؤمنين} أي العريقين في هذا الوصف كافة خاصة، ولما ذكر الوصف المقتضي للرسوخ، قدم ما يقتضي العطف على من يتسبب له بما يقتضي الوصلة فقال: {رءوف} أي شديد الرحمة لمن له منه عاطفة وصلة لما تقدم من معنى الرأفة قريباً.
ولما كان المؤمن يطلق مجازاً على من يمكن منه الإيمان فوصلته الآن ليست بالفعل بل الإمكان، قال تعميماً لرحمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هو اللائق بشريف منصبه وعظيم خلقه: {رحيم*} ولأجل مثل هذه الأغراض النفسية رتب سبحانه هذين الوصفين هكذا، ولكن(9/56)
المعاني المراده تارة يظهرها الله تعالى لعبده منحة له وإكراماً، وتارة يخفيها إظهاراً لعجزه ونقصانه ثم يظهرها له في وقت آخر إن صدق في التضرع وإظهار الافتقار والتذلل وأدام الطلب، أو لغيره ممن هو أقل منه علماً وأضعف نظراً وفهماً، وإذا تأملت كتابي هذا ظهر لك أن كثيراً من الآيات فسرها على غير المراد منها قطعاً أكابر العلماء، فعلى الأنسان - إذا خفي عليه أمر - أن يقول: لا أعلم، ولا يظن أنه رتب شيء من هذا الكتاب العزيز لأجل الفواصل، فلذلك أمر لا يليق بكلام الله تعالى، وقد عاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السجع، لأن الساجع يكونُ محطَ نظره الألفاظ، فيدير المعاني عليها ويتبعها إياها، فربما عجز اللفظ عن توفية المعنى؛ روى البخاري في الطب وغيره من صحيحه ومسلم في الديات وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه
«أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة، فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم من لاشرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك بطل؛ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما هذا من إخوان الكهان» من أجل سجعه الذي سجع، وفي رواية: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سجع كسجع الأعراب» وذلك - والله أعلم - أنه لو كان نظره إلى المعنى وتصحيحه لأغنى عن هذا السجع أن يقال: كيف أغرم من لاحياة له، ولوقصد السجع وتهذيب المعنى لأتى مما يدل على نفي الحياة التي جعلها محط أمره فإن(9/57)
ما أتى به لا يستلزم نفيها، ولو تقيد بالصحة لاغتنى بنفي النطق عن نفي الاستهلال، فصح بهذا أنه دائر مع تحسين اللفظ صح المعنى أم لا، وينطبع في عقل عاقل أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذم السجع وهو يأتي به ويقصده في القرآن أو في السنة، ولو كان ذلك لأسرعوا الرد عليه، وذكر أصحاب فتوح البلاد في فتح مكران من بلاد فارس أن الحكم بن عمرو لما فتحها أرسل بالأخماس مع صحار العبدي، فلما قدم على عمر رضي الله عنه سأله عن مكران وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه فقال: يا أمير المؤمنين! أرض سهلها جبل، وماءها وشل وثمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر منها؛ فقال، أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال: لا بل مخبر، قال: لاوالله! لا يغزوها جيش لي ما أطعت.
فقد جعل الفاروق السجع قسيماً للخير فدل على أن التقيد به عيب لإخلاله بالفائدة أو بتمام الفائدة، ولعله إنما جوز أن يكون مخبراً لنه انفك عن السجع في آخر كلامه وكرر لفظ «قليل» فكان ما ظنه، لأنه لو أراد السجع لأمكنه أن يقول والكثير بها ذليل،(9/58)
والقليل بها ضائع كليل، وما وراءها شر منها بأقوم قيل؛ وقد نفى سبحانه عن هذا القرآن المجيد تصويب النظر إلى السجع كما نفى عنه الشعر فإنه تعالى قال {وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون} [الحاقة: 41، 42] فكما أن قول الشاعر إتيانه بالكلام موزوناً، فكذلك قول الكاهن إتيانه بالكلام مسجوعاً والقرآن ليس من هذا ولا من هذا. وإن وقع فيه كل من الأمرين فغير مقصود إليه ولا معول عليه، بل لكون المعنى انتظم به على اتم الوجوه فيؤتي به لذلك، ثم تبين أنه غير مقصود بالانفكاك عنه في كثير من الأماكن بقرينة ليس لها مجانس في اللفظ لتمام المعاني المرادة عندها فيعلم قطعاً أن ذلك غير مقصود أصلاً لأن مثل ذلك لا يرضى به أقل الساجعين، بل يراه عجزاً وضيقاً عن تكميل المشاكلة ونقصاً - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومما يوجب لك القطع بأن ترتيب هذين الاسمين الشريفين هكذا لغير مراعاة الفواصل قوله تعالى في سورة الحديد {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة} [الحديد: 27] وسيأتي إن شاء الله في سورة طه عن الفخر الرازي والقاضي أبي بكر الباقلاني مَنَع النظر إلى السجع في الكتاب العزيز نقلاً عن جميع الأشاعرة، وإذا تأملت الفواصل في الإتيان بها تارة بكثرة وتارة بقلة، وتارة تترك(9/59)
بالكلية ويؤتى في كل آية بفاصلة لا توافق الأخرى، علمت أن هذا المذهب هو الصواب ولا سيما آخر سورة {اقرأ} وإذا تأملت كتب أهل العدد أتقنت علم هذا المستند، وإذا تأملت ما قلته في هذا النحو من كتابي مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور لم يبق عندك شك في شيء من هذا، فإياك ان تجنح لهذا القول فتكون قد وقعت في أمر عظيم وأنت لا تشعر، وأورد سبحانه هذه الآية إيراد المخاطب المتلطف المزيل لما عندهم من الريب بالقسم، فكأنه قال: ما لكم تنصرفون عن حضرته الشماء وشمائله العلى! والله لقد جاءكم - إلى آخره، ثم أقبل عليه مسلياً له مقابلاً لإعراضهم إن أعراضوا بالإعراض عنهم والبراءة منهم ملتفتاً إلى السورة الآمر بالبراءة من كل مخالف، قائلاً مسبباً عن النصيحة بهذه الآية التي لا شك عاقل في مضمونها: {فإن تولوا} أي اجتهدوا في تكليف فطرهم الأولى أو ولوا مدبرين عنك بالانصراف المذكور أو غيره بعد النصيحة لهم بهذه الآية {فقل} اي استعانة بالله تفويضاً إليه {حسبي} أي كافي؛ قال الرماني: وهو من الحساب لأنه جل ثناه يعطى بحسب الكفاية التي تعني عن غيره، ويزيد من نعمته مالا يبلغ إلى حد ونهاية إذ نعمه دائمة ومننه متظاهر {الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له، وإنما كان كافياً لأنه {لا إله إلا هو} فلا مكافىء له فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه.
ولما قام الدليل على أنه لا كفؤ له، وجب قصر الرغائب عليه(9/60)
فقال: {عليه} أي وحده {توكلت} لأن أمره نافذ في كل شيء {وهو رب} اي مالك ومخترع ومدبر؛ ولما كان في سياق القهر والكبرياء بالبراءة من الكفار والكفاية للأبرار، كان المقام بالعظمة أنسب كآية النمل فقال: {العرش العظيم*} أي المحيط بجميع الأجسام الحاوي لسائر الأجرام الذي ثبت بآية الكرسي وغيرها أن ربه أعظم منه لأن عظمته على الأطلاق فلا شيء إلا هو في قبضته وداخل في دائرة مملكته، وإذا كان كافي فأنا بريء ممن تولى عني وبعد مني كائناً من كان في كل زمان ومكان فقد عانق آخر السورة أولها وصافح منتهاها مبتدأها وتأكد ما فهمته من سر الالتفات في {فسيحوا} وفي {فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله} والله تعالى أعلم.
سورة يونس
وهي أولى المئين إن جعلها براءة مع الأنفال من الطول، وإلا فبراءة أولاهن، مقصودها وصف الكتاب بأنه من عند الله من عند الله لما اشتمل عليه من الحكمة وأنه ليس إلا من عنده سبحانه لأن غيره لا يقدر على شيء منه، وذلك دال ريب على أنه واحد في ملكه لا شريك له في شيء من أمره، وتمام الدليل على هذا قصة قوم يونس عليه السلام بأنهم لما آمنوا(9/61)
عند المخايل كشف عنهم، فدل قطعاً على ان الآتي به هو الله الذي آمنوا به غذ لو كان غيره لكان إيمانهم به موجباً للإيقاع بهم، ولو عذبوا كغيرهم ليقل: هذه عادة الدهر، كما قالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء ودل ذلك على أن عذاب غيرهم من الأمم إنما هو من عند الله لكفرهم لما اتسق من ذلك طرداً بأحوال سائر الأمم من أنه كلما وجد الإصرار على التكذيب وجد العذاب، وعكساً منه كلما انتفى في وقت يقبل قبول التوبة انتفى - والله الموفق) بسم الله (اي الذي لا أمر لأحد سواه فلا كلام يشبه كلامه فلا كفوء له) الرحمن (الذي عم بكلامه جميع خلقه فأوضح البيان) الرحيم (الذي أتم لمطيعهم نعمة الامتنان)(9/62)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
{الر} فخم الراء ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم، وأمالها ورش عن نافع بين بين، والباقون بالإمالة المحضة، والأصل في ذلك الفتح، وكذا ما كان من أمثالها مما ألفاتها ليست منقلبة عن ياء نحو ما ولا، وإمالتها للتنبيه على أنها أسماء للحروف وليست حروفاً - نقل ذلك عن الواحدي.
لما قدم في أول الأعراف الحث على إبلاغ النصيحة بهذا الكتاب وفرغ مما اقتضاه السياق من التحذير من مثل وقائع الأولين ومصارع الماضين ومما استتبع ذلك من توصيل القول قي ترجمة هذا النبي الكريم مع قومه في أول أمره وأثنائه وآخر في سورتي الأنفال وبراءة، وختم ذلك بأن سور الكتاب تزيد كل أحد مما هو ملائم له متهيىء(9/62)
لقبوله وتبعده عما هو منافر له بعيد من قبول ملاءمته. وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك قد حوى من الأوصاف والحلي والأخلاق العلى ما يوجب الإقبال عليه والإسراع إليه. والإخبار بأن توليهم عنه لا يضره شيئاً لأن ربه كافيه لأنه لامثل له وأنه ذو العرش العظيم؛ لما كان ذلك كذلك، أعاد سبحانه القول في شأن الكتاب الذي افتتح به الأعراف وختم سورة التوبة، وزاده وصف الحكمه وأشار بأداة البعد إلى أن رتبته فيها بعيدة المنال بديعة المثال فقال: {تلك} أي الآيات العظيمة جداً التي اشتملت عليها هذه السورة، أو السور التي تقدمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أن القرآن كلام الله وإلا لما أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف {آيات الكتاب} أي الذكر الجامع لكل خير، وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كل ما في التوارة والإنجيل من ذلك، فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً لأنه لم يكن يعرف شيئاً مما في الكاتبين ولا جالس أحداً يعلمه {الحكيم*} فكان فيما مضى - أن كونه من عند الله كاف في وجوب اتباعه - وفيما هنا تأكيد الوجوب بكونه مع ذلك حكيماً والآية: العلامة التي تنبىء عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة، والحكيم: الناطق بالحكمة. وهي المعروف بما يجتمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد(9/63)
والنقص، استعير له ذلك لأنه دليل كالناطق بالحكمة لأنه يؤدي إلى المعرفة التي يميز بها طريق النجاة من طريق الهلاك، وهو حاكم يبين الحق من الباطل في الأصول والفروع ويحكم بالعدل الذي لا جور فيه بوجه في كل نازلة، ومحكم لما أتى به، مانع له من الفساد، لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور، وهذا ما ظهر لي في التحامها بما قبلها؛ وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة براءة قوله تعالى
{إلا تنصروه فقد نصره الله} [براءة: 40] وقوله {عفا الله عنك لما أذنت لهم} [براءة: 43] وقوله {ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} [براءة: 61] وقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} [براءة: 128] إلى آخر السورة إلى ما تخلل أثناء آي هذه السورة الكريمة مما شهد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتخصيصه بمزايا السبق والقرب والاختصاص والملاطفة في الخطاب ووصفه بالرأفة والرحمة، هذا ما انطوت هي والأنفال عليه من قهره أعداءه وتأييده ونصره عليهم وظهوره دينه وعلو دعوته وإعلاء كلمته إلى غير هذا من نعم الله سبحانه عليه، وكان ذلك كله مظنة لتعجب المرتاب وتوقف الشاك ومثيراً لتحرك ساكن الحسد من العدو العظيم ما منحه عيه السلام، قال تعالى {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} إلى قوله:(9/64)
{لسحر مبين} ثم قال {إن ربكم الله} الآيات، فبين انفراده تعالى بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير، فكيف تعترض أفعاله أو يطلع البشر على وجه الحكمة في كل ما يفعله ويبديه، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد {ذلكم الله ربكم فاعبدوه} {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} ثم توعد سبحانه الغافلين عن التفكر في عظيم آياته حتى أدتهم الغفلة إلى مرتكب سلفهم في العجب والإنكار حتى قالوا {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} [الفرقان: 7] وقالوا {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} [الفرقان: 21] وهذه مقالات الأمم المتقدمة {قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا} [يس: 15] {قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا} [المؤمنون: 47] {ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم} [سبأ: 43] فقال تعالى متوعداً للغافلين {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا} ، ثم وعد المعتبرين فقال {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} ، وكل هذا بيّن الالتحام جليل الالتئام، تناسجت آي السور - انتهى.
ولما كان كونه من عند الله مع كونه حكيماً - موجباً لقبوله بادىء بدء والسرور به لما تقرر في العقول وجبلت عليه الفطر من أنه تعالى(9/65)
الخالق الرازق كاشف الضر ومدبر الأمر، كان ذلك موضع أن يقال: ما كان حال من تلي عليهم؟ فقيل: لم يؤمنوا، فقيل: ماشبهتهم؟ هل قدروا على معارضته والطعن في حكمته؟ فقيل: لا! بل تعجبوا من إنزاله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس بأكثرهم مالاً ولا بأقدمهم سناً، فرجع حاصل تعجبهم إلى ما قاله تعالى إنكاراً عليهم. فإنه لو أرسل ذا سن قالوا مثل ذلك، وهل مثل ذلك محل العجب! {أكان} أي بوجه من الوجوه {للناس عجباً} أي الذين فيهم أهلية التحرك إلى المعالي، والعجب: تغير النفس بما لا يعرف سببه مما خرج عن العادة؛ ثم ذكر الحامل على العجب وهو اسم «كان» فقال بعد ما حصل لهم شوق إليه: {أن أوحينا} أي ألقينا أوامرنا بما لنا من العظمة بواسطة رسلنا في خفاء منهين {إلى رجل} أي هو في غاية الرجولية، وهو مع ذلك {منهم} بحيث إنهم يعرفون جميع أمره كما فعلنا بمن قبلهم والملك العظيم المُلك المالك التام الملك لا اعتراض عليه فيما به تظهر خصوصيته من إعلاء من شاء.
ولما كان في الإيحاء معنى القول، فسره بقوله {أن أنذر الناس} أي عامة، وهم الذين تقدم نداءهم أول البقرة، ما أمامهم من البعث وغيره إن لم يؤمنوا أصلاً أو إيماناً خالصاً ينفي كل معصية صغيرة أو كبيرة وكل هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات {وبشر} أي خص {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا(9/66)
الوصف وعملوا تصديقاً لدعواهم له الصالحات، أي من الأعمال اللسانية وغيرها، بالبشارة بقبول حسناتهم وتكفير سيئاتهم والتجاوز عن هفواتهم وترفع درجاتهم كما كان إرسال الرسل قبله وكما هو مقتضى العدل في إثابة الطائع الطائع وعتاب العاصي، والإنذار: الإعلام بما ينبغي أن يحذر منه، والتبشير: التعريف بما فيه السرور، واضاف القدم - الذي هو السابقة بالطاعة - إلى الصدق في قوله تعالى موصلاً لفعل البشارة إلى المبشر به دون حرف جر: {أن لهم} أي خاصة {قدم صدق} أي أعمالاً حقة ثابته قدموها لأنفسهم صدقوا فيها وأخلصوا فيما يسّروا له لأنهم خلقوا له وكان مما يسعى إليه بالأقدام، وزاد في البشارة بقوله: {عند ربهم} ففي إضافة القدم تنبيه على أنه يجب أن يخلص له الطاعة كإخلاص الصدق من شوائب الكذب، وفي التعبير بصفة الإحسان إشارة إلى المضاعفة.
ولما ثبت أن الرسول وما أرسل به على وفق العادة، انتفى أن يكون عجباً من هذه الجهة، فصار المحل قابلاً لأن يتعجب منهم فيقال: ما قالوا حين أظهروا العجب؟ ومن أيّ وجه رأوه عجباً؟ فقيل: {قال الكافرون} أي الراسخون في هذا الوصف منهم وتبعهم غيرهم مؤكدين ما يحق لقولهم من الإنكار {إن هذا} أي القول وما تضمنه من الإخبار بما لا يعرف من البعث وغيره(9/67)
{لسحر} أي محمد لساحر - كما في قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي {مبين*} أي ظاهر في نفسه، وهو من شدة ظهوره مظهر لكل شيء أنه كذلك، فجاؤوا بما هو في غاية البعد عن وصفه، فإن السحر قد تقرر لكل ذي لب أنه - مع كونه تمويهاً لا حقيقة له - شر محض ليس فيه شيء من الحكمة فضلاَ عن أن يمتطي الذروة منه مع أن في ذلك ادعاءهم أمراً متناقضاً، وهو أنه من قول البشر كما هي العادة في السحر، وأنهم عاجزون عنه، لأن السحر فعل تخفى الحيلة فيه حتى يتوهم الإعجاز به، فقد اعترفوا بالعجز عنه وكذبوا في ادعاء أنه لسحر لأن الآتي به منهم لم يفارقهم قط وما خالط عالماً لا بسحر ولا غيره حتى يخالطهم فيه شبهة، فهم يعلمون أن قولهم في غاية الفساد، فشرع سبحانه يقيم الدليل على بطلان قولهم من أنه - مع ما تضمنه من البعث - سحر، وعلى حقيقة أنه من عنده من غير شبهة، وعلى أن الرسالة لا عجب فيها، لأنه سبحانه خلق الوجود كله وهو نافذ الأمر فيه وقد ابتلى من فيه من العقلاء ليردهم إليه ويحاسبهم فإنه لم يخلقهم سدى لأنه حكيم، فلا بد من رسول يخبرهم بما يرضيه وما يغضبه لتقوم بذلك الحجة فقال: {إن ربكم} أي الموجد لكم والمربي والمحسن {الله} أي من ربى شيئاً ينبغي أن يكون حكيماً وقادراً على أسباب(9/68)
صلاحه، فأيقظوا أنفسكم من سنة غفلتها تعلموا أن هذا الكتاب من عند الذي له العظمة كلها قطعاً، وأنه قادر على بعثكم لأنه ربكم {الذي} بدأ الخلق بأن {خلق} أي قدر وأوجد {السماوات والأرض} على اتساعهما وكثرة ما فيهما من المنافع {في ستة أيام} لحكمة أرادها على أن ذلك وقت يسير لا يفعل مثل ذلك في مثله إلا من لا يعجزه شيء.
ولما أوجد سبحانه هذا الخلق الكثير المتباعد الأقطار الواسع الانتشار المفتقر إلى عظيم التدبير ولطيف التصريف والتقدير، عبر سبحانه عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي: {ثم استوى} أي عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك {على العرش} المتقدم وصفه بالعظمة، وليست «ثم» للترتيب بل كناية عن علو الرتبة وبعد منالها؛ ثم بين ذلك الاستواء بقوله: {يدبر} لأن التدبير أعدل أحوال الملك فالاستواء كناية عنه {الأمر} كله فلا يخفي عليه عاقبة أمر من الأمور، فحصل الأمن بهذا من أن يفعل شيء بغير علمه، لأن التدبير تنزيل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها، وهو مع ذلك منزه عما تعرفونه من أحوال الملوك من أنه يكون في ممالكهم من يقضي بعض الأمور بغير إذن منهم وإن علموا به لعجزهم عن المجاهرة بإدامة دفعه،(9/69)
بل هو متصف بأنه {ما من شفيع} أي وإن كان بليغ الاتصاف بذلك.
ولما كان تمام قهره وعظيم سلطانه لا يفيد أحداً عند إذنه له إذناً عاماً لجميع الأزمان والأماكن، أتى بالجار فقال: {إلا من بعد إذنه} فإذا لم يقدر شفيع على الكلام في الشفاعة إلا بإذنه فكيف يقدر أحد أن يأتي بشيء من الأشياء بغير إذنه فكيف يأتي بكتاب حكيم ليس من عنده يعجز الخلق عن معارضته، فحصل الأمن أن يكون غيره قاله أو شفع فيمن أبلغه فأبلغه من غير إرادة منه سبحانه، فتحرر أنه ليس إلا من عنده وأنه أمر بإبلاغه، وقد عرف من هذا أن {ما من شفيع} في موضع الدلالة على أنه لا يخرج عن تدبيره أمر من الأمور ولا يغلبه شيء اصلاً فبطل ما كانوا يقولون في الأصنام من الشفاعة وغيرها والشفيع: السائل في غيره بتبليغ منزلته من عفو أو زيادة منزلة، وقد وقع ذكر الكتاب والرسول والعرش مرتباً في أول هذه على ما رتب آخر تلك؛ فلما تقرر ما وصف به من العظمة التي لا يشاركه فيها أحد، وجب أن يعبد عبادة لا يشاركه فيها شيء، فنبه على ذلك بقوله: {ذلكم} أي العظيم الشأن العالي المراتب {الله} أي(9/70)
الملك الأعلى {ربكم} الذي تقرر له من العظمة والإحسان بالإيجاد والتربية ما لا يبلغه وصف {فاعبدوه} أي فخصُّوه بالعبادة فإن عبادتكم مع الإشراك ليست عبادة، ولولا فضله لم يكن لمن زل أدنى زلة طاعة.
ولما سبب سبحانه عن أوصافه العلى ما وجب له من الأمر بالعبادة، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في التوقف عنها والاحتياج فيها إلى بروز الأمر بها قام على استحقاقه للأفراد بها من الأدلة التي فيهم شواهدها فقال: {أفلا تذكرون*} أي ولو بأدنى أنواع التذكر بما أشار إليه الإدغام، ما أخبركم سبحانه به ونبهكم عليه بما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه لا يقدر أحد أن يعمل كل ما يريد، ويعمل كثيراً مما لا غرض له فيه ويعلم أنه يضره إلى غير ذلك من الأمور ليعلم قطعاً أن الفاعل الحقيقي غيره وأنه لا بد لهذا الوجود من مؤثر فيه هو في غاية العظمة لا يصح بوجه أن يشاركه شيء ولو كان أعظم ما يعرف من الأشياء فكيف بجماد لا يضر ولا ينفع! .(9/71)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
فلما تقرر أنه هو الذي بدأ الخلق، تقرر بذلك أنه قادر على إعادته فقال: {إليه} أي خاصة {مرجعكم} أي رجوعكم وموضع رجوعكم ووقته حال كونكم {جميعاً} لا يتخلف منكم أحد، تقدم وعده لكم بذلك {وعد الله} أي الذي له الكمال كله {حقاً}(9/71)
فهو تعليل لعبادته لوحدانيته، فيحيون بعد الموت ويحشرون إلى موضع جزاء الله تعالى لهم زمانه الذي قدره له، ويرفع ما كان لهم من المكنة في الدنيا، فعلم قطعاً أنه لا بد من الرسول، فاستعدوا للقاء هذا الملك الأعظم بكل ما أمركم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ثم أوضح التنبيه على قدرته مضمناً له بيان حكمته فقال معللاً لوجوب المرجع إليه مؤكداً عداً لهم في عداد المنكر للابتداء لأجل إنكارهم ما يلزم عنه من تمام القدرة على البعث وغيره: {إنه يبدأ الخلق} أي ينشئه النشأة الأولى، له هذه الصفة متجددة التعلق على سبيل الاستمرار {ثم يعيده} ليقيم العدل في خلقه بأن ينجز لمن عبده، وعده بأن يعزه ويذل عدوه وذلك معنى قوله: {ليجزي} .
ولما كان في سياق البعث، قدم أهل الجزاء وبدأ بأشرافهم فقال: {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف الذي هو الأساس المتقن لكل عمل صالح {وعملوا} أي وصدقوا إيمانهم بأن عملوا {الصالحات} جزاء كائناً {بالقسط} ، واقتصر على العدل دون الفضل ليفهم أن ترك الحشو مخل بالعمل الذي هو محط الحكمة التي هي أعظم مصالح السورة، والجزاء: الإعطاء بالعمل ما يقتضيه من خير أو شر، فلو كان الإعطاء ابتداء لم يكن جزاء، ولو كان(9/72)
ما لا يقتضيه العمل لم يكن جزاء مطلقاً والقسط: العدل {والذين كفروا} أي أوجدوا هذا الوصف {لهم} أي في الجزاء على جهة الاستحقاق {شراب من حميم} أي مسخن بالنار أشد الإسخان {وعذاب أليم} أي بالغ الإيلام {بما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يكفرون*} فإن عذابهم من أعظم نعيم المؤمنين الذين عادوهم فيه سبحانه {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون} [سورة المطففين: 34-36] وكأنه قال: {يبدأ} مضارعاً لا كما قال في آية أخرى {كما بدأكم تعودون} [الأنفال: 29] حكاية للحال وتصويراً لها تنبيهاً على تأمل ما يتجدد إنشاءه ليكون أدعى لهم إلى تصور القدرة على الإعادة؛ قال الرماني: وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التمكين في الدنيا من تجديد النشأة للجزاء لأنه لا بد - مع التمكين من الحسن والقبيح - من ترغيب وترهيب لا يؤمن معه العذاب على الخلود ليخرج المكلف بالزجر عن القبيح عن حال الإباحة له يرفع التبعة عليه - انتهى. فقد لاح بما ذكر ما تعين في أثناء السورة بتكريره لتوضيحه وتقريره - أن مقصودها وصف الكتاب بما يدل قطعاً على أنه من عنده سبحانه وبإذنه، لأنه لا غائب عن علمه ولا مداني لقدرته ولا مجترىء على عظمته، وأنه تام القدرة متفرد بالخلق والأمر فهو قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء،(9/73)
وأن المراد بالكتاب البشارة والنذارة للفوز عند البعث والنجاة من غوائل يوم الحشر مع أنه سبحانه نافذ القضاء، فلا تغني الآيات والدلالات البينات عمن حكم بشقاوته وقضى بغوايته، وأن ذلك من حكمته وعدله فيجب التسليم لأمره وقطع الهمم عن سواه؛ ثم شرع سبحانه يقرر أمر بدئه للخلق وإعادته في سياق مذكر بالنعم التي يجب شكرها، ويسمى المعرض عن شكره كافراً فقال: {هو} أي غيره {الذي جعل} أي بما هيأ من الأسباب {الشمس} .
ولما كان النور كيفية قابلة للشدة والضعف، خالف سبحانه في الأسماء مما يدل على ذلك فقال نور الشمس: {ضياء} أي ذات نور قوي ساطع وقدرها منازل، هكذا التقدير، لكن لما كانت في تقلبها بطيئة بالنسبة إلى القمر ذكره دونها فقال: {والقمر} أي وجعل القمر {نوراً} أي ذا نور من نورها {وقدره} أي وزاده عليها بأن قدره مسيرة {منازل} سريعاً يقلبه فيها، وباختلاف حاله في زيادة نوره ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات والحرارات التي دبر الله بها هذا الوجود - إلى غير ذلك من الأسرار التي هي فرع وجود الليل والنهار {لتعلموا} بذلك علماً سهلاً {عدد السنين} أي المنقسمة إلى الفصول الأربعة وما يتصل بذلك من الشهور وغيرها(9/74)
ليمكن لكم تدبير المعاش في أحوال الفصول وغيرها {والحساب} أي غير ذلك مما يدل على بعض تدبيره سبحانه.
ولما كان ذلك مشاهداً لا مرية فيه، وصل به قوله: {ما خلق الله} أي الذي له الكمال كله {ذلك} أي الأمر العظيم جداً {إلا بالحق} أي خلقاً ملتبساً بالحق الكامل في الحقية لا مرية فيه، فعلم أنه قادر على إيجاد الساعة كذلك إذ لا فرق، وإذا كان خلقه كذلك فكيف يكون أمره الناشىء عنه الخلق غير الخلق بأن يكون من السحر الذي مبناه على التمويه والتخييل الذي هو عين الباطل، أو ما خلقه إلا بسبب إظهار الحق من العدل بين العباد بإعزاز الطائع وإذلال العاصي، فإنه لا نعيم كالانتصار على المعادي والانتقام من المشانىء، والجعل: وجود ما به يكون الشيء على صفة لم يكن عليها، والشمس: جسم عظيم النور فإنه يكون ضياء النهار؛ والقمر: جسم نير يبسط نوره على جميع الظاهر من الأرض ويكسفه نور الشمس؛ والنور: شعاع فيه ما ينافي الظلام؛ والحساب: عدد يحصل به مقدار الشيء من غيره.
ولما كان النظر في هذه الآيات من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كثير من الاتصاف بقابلية العلم، ختم الآية بقوله: {يفصل} أي الله(9/75)
في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالياء التحتية، وبالالتفات إلى أسلوب العظمة تعظيماً للبيان في قراءة الباقين بالنون {الآيات} أي يبين الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة متفاصلة بياناً شافياً. ولما كان البيان لمن لا علم له كالعدم، قال: {لقوم} أي لهم قوة المحاولة لما يريدون {يعلمون} أي لهم هذا الوصف على سبيل التجدد والاستمرار؛ ولما كانت لهم المعرفة التامة والنظر الثاقب في منازل القمر عدت من الجلي.(9/76)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
ولما أشار سبحانه إلى الاستدلال على فناء العالم بتغيره وإلى القدرة على البعث بإيجاد كل من الملوين بعد إعدامه في قوله - مؤكداً له لإنكارهم أن يكون في ذلك دلالة: {إن في اختلاف الليل} أي على تباين أوصافه {والنهار} أي كذلك {وما} أي وفيما {خلق الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {في السماوات والأرض} من أحوال السحاب والأمطار وما يحدث من ذلك الخسف والزلازل والمعادن والنبات والحيونات وغير ذلك من أحوال الكل التي لا يحيط البشر بإحصائها؛ لما أشار إلى ذلك ختمها بقوله: {لآيات} أي دلالات بينة جداً {لقوم يتقون*} أي أن من نظر في هذا الاختلاف وتأمل تغير الأجرام الكبار كان جديراً بأن يخاف من أن تغير أحواله وتضطرب أموره فيتقي الله لعلمه قطعاً بأن أهل هذه الدار غير مهملين،(9/76)
فلا بد لهم من أمر ونهي وثواب وعقاب؛ والاختلاف: ذهاب كل من الشيئين في غير جهة الآخر، فاختلاف الملوين: ذهاب هذا في جهة الضياء وذاك في جهة الظلام؛ والليل: ظلام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، هو جمع ليلة كتمر وتمرة؛ والنهار: اتساع الضياء من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ والخلق: فعل الشيء على ما تقتضيه الحكمة، وأصله التقدير؛ ونبه بما خلق في السماوات والأرض على وجوه الدلالات. لأن الدلالة في الشيء قد تكون من جهة خلقه أو اختلاف صورته أو حسن منظره أو كثرة نفعه أو عظم أمره أو غير ذلك.
ولما أُشير بالآية إلى أنقراض الدنيا بأن الحادث لا ثبات له، وقام الدليل القطعي على المعاد، ناسب تعقيبها بعيب من اطمأن إليها في سياق مبين أن سبب الطمأنينة إنكار الطمأنينة اعتقاداً أو حالاً؛ ولما كانت ختم تلك ب {يتقون} لاح أن ثمّ من يتقي ومن لا يتقي؛ ولما كان الغرور أكثر، بدأ به تنفيراً عن حاله، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم: {إن الذين} ولما كان الخوف والرجاء معدن السعادة، وكان الرجاء أقرب إلى الحث على الإقبال، قال مصرحاً بالرجاء ملوحاً إلى الخوف: {لا يرجون لقاءنا} بالبعث بعد الموت ولا يخافون ما لنا من العظمة {ورضوا} أي عوضاً(9/77)
عن الاخرة {بالحياة الدنيا} أي فعملوا لها عمل المقيم فيها مع ما إشتملت عليه مما يدل على حقارتها {واطمأنوا} إليها مع الرضى {بها} طمأنينة من لا يزعج عنها مع ما يشاهدونه مع سرعة زوالها {والذين هم} أي خاصة {عن آياتنا} أي على ما لها من العظمة لا عن غيرها من الأحوال الدنيّة الفانية {غافلون} أي غريقون في الغفلة، وتضمن قوله تعالى استئنافاً: {أولئك} أي البعداء البغضاء {مأواهم النار بما} أي بسبب ما {كانوا} أي جبلة وطبعاً {يكسبون*} فإن كسبهم كله ضلال - أنه لا يعاجلهم بالعقاب على تأخير المتاب، وجعلت ملاقاة ما لا يقدر إلا الله ملاقاة الله تفخيماً لشأنها كما جعل إتيان جلائل آيات الله في قوله:
{إلا أن يأتيهم الله في ظِلل من الغمام} [البقرة: 210] ونحوه، والاطمئنان: الركون إلى الشيء على تمكن فيه، فهؤلاء مكنوا الأحوال للدنيا فصار فرحهم وسخطهم لها؛ والغفلة: ذهاب المعنى عن القلب بما يضاد حضوره إياه، واليقظة نقيضها.
ولما أنقضى هذا القسم حالاً ومآلاً، أتبعه سبحانه القسم الآخر بقوله مؤكداً لإنكار الكفار هدايتهم: {إن الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف بما لهم من القوة النظرية التي كمالها معرفة الأشياء وسلطانها معرفة الله تعالى {وعملوا} أي وصدقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا {الصالحات} بالقوة العملية التي سلطانها عبودية الله تعالى، والصالح: ما جاء بالحث عليه الأنبياء عليهم السلام {يهديهم} أي على(9/78)
سبيل التجدد والاستمرار {ربهم} أي المحسن إليهم {بإيمانهم} أي بسبب تصديقهم وإذعانهم لمعرفة الآيات التي غفل عنها الذين يأملون البقاء ولا يرجون اللقاء، فقادتهم إلى دار السلام، وهذا كما كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم بعد إسلامهم يشتد تعجبهم مما كان من تباطئهم عن الإسلام، وكما ترى أنك تخنق على بعض الكملة فلا يدعك حظ النفس ترى له حسنة، ثم أنك قد ترضى عنه فتراه كله محاسن.
ولما ذكر أم مآل القسم الأول النار، ذكر مآل هذا القسم في معرض سؤال من يقول: ماذا تورثهم هدايتهم؟ فقيل له: {تجري} وأشار إلى قرب منال المياه وانكشافها عن كل ما ينتفع به في غير ذلك بإثبات الجار فقال: {من تحتهم} أي تحت غرفهم وأسرّتهم وغير ذلك من مشتهياتهم كقوله تعالى {قد جعل ربك تحتك سرياً} [مريم: 14] وكذا قول فرعون {وهذه الأنهار تجري من تحتي} [الزخرف: 51] {الأنهار} كائنين {في جنّات النعيم} أي التي ليس فيها من غيره.(9/79)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
ولما كان الواجب على العباد أولاً تنزيهه تعالى عن النقائض التي أعظمها الإشراك. وكان من فعل ذلك سلم من غوائل الضلال فربح نفسه فعرف ربه وفاز في شهود حضرته بمشاهدة أوصاف الكمال، أشار التسليك في ذلك بقوله: {دعواهم} أي دعاؤهم العظيم الثابت(9/79)
الكثير الذي يقولونه فيها لا على وجه التكليف، بل يلهمونه إلهام النفس في الدنيا {فيها} وأشار إلى مجامع التنزيه عن كل شائبة نقص فقال: {سبحانك اللهم} إشارة إلى الأمر الأول هو الأساس وهو المعراج في الآخرة {وتحيتهم} أي لله وفيما بينهم {فيها سلام} إشارة إلى أول نتائج الأساس بأنه لا عطب معه بوجه وهو نزول عن المعراج بالنظر في أحوال الخلق {وآخر دعواهم} أي دعائهم العظيم وهو المعراج الكمالي {أن الحمد} أي الكمال {لله} أي المحيط بجميع أوصاف الجلال والجمال يعني أن التنزيه عن النقص أوجب لهم السلامة؛ ولما سلموا من كل نقص وصلوا إلى الحضرة فغرقوا في بحار الجلال وانكشفت لهم سمات الكمال؛ والدعوى: قول يدعى به إلى أمر؛ والتحية: التكرمة بالحال الجليلة، وأصله من قولهم: أحياك الله حياة طيبة، وأشار بقوله: {رب العالمين} إلى نعمة الإيجاد إرشاداً بذلك إلى القدرة على المعاد، وفيه هبوط عن المعراج الكمالي إلى الخلق، وذلك إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن الحاجة والنقصان.
ولما أشير في هذه الآية إلى تنزهه تعالى وعلوه وتفرده بنعوت الكمال، ودل بختمها بالحمدِ على إحاطته وبرب العالمين على تمام قدرته وحسن تدبيره في ابتدائه وإعادته، اتبعت بما يدل على ذلك من لطفه(9/80)
في معاملته من أنه لا يفعل شيئاً قبل أوانه لأن الاستعجال من سمات الاحتياج. بل وروى أبو يعلى وأحمد بن منيع عن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «التأني من الله والعجلة من الشيطان» قال شيخنا ابن حجر: وفي الباب عن سهل وسعد رضي الله عنهما فقال تعالى عاطفاً على قوله {يدبر الأمر} ما معناه أنه تعالى يفعل فعل من ينظر في ادبار الأمور فلا يفعل إلاّ ما هو في غاية الإحكام، فهو لا يعاجل العصاة بل يمهلهم ويسبغ عليهم النعم وهم في حال عصيانهم له أضل من النِّعم يطلبون خيراته ويستعجلونه بها: {ولو يعجل الله} أي المحيط بصفات الكمال {للناس} أي الذين اتخذوا القرآن عجباً لما لهم من صفة الاضطراب {الشر استعجالهم} أي عاملاً في إرادته لإيقاع الشر بهم مثل عملهم في إرادتهم وطلبهم العجلة {بالخير لقضي} أي حُتم وبت وأدى، بناه للمفعول في قراءة الجماعة دلالة على هوانه عنده، ولأن المحذور مجرد فراغه لا كونه من معين.
وبناه ابن عامر للفاعل ونصب الأجل {إليهم} أي الناس خاصة {أجلهم} أي عمرهم أو آخر لحظة تكون منه، فأهلك من في الأرض فاختل النظام الذي دبره، ولكنه لا يفعل إلاّ ما تقدم من إمهاله لهم إلى ما سمي من الآجال المتفاوتة. وذلك سبب إضلال من يريد ضلاله. ولعل التعبير بنون العظمة في {فنذر} إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور؛ فكان القياس هداهم لكثرة ما عليه من الدلائل الظاهرة ولكنه تعالى أراد ضلالهم(9/81)
وهو من العظمة بحيث لا يعجزه شيء. ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله {أولئك مأواهم النار} لأن معناه: أولئك يمهلهم الله إلى انقضاء ما ضرب لهم من الآجال مع مبالغتهم في الإعراض. ثم يكون مأواهم النار ولا يعجل لهم ما يستحقونه من الشر {ولو يعجل الله للناس الشر} أي ولو يريد عجلة الشر للناس إذا خالفوه أو إذا استعجلوه به في نحو قولهم {فأمطر علينا حجارة من السماء} [الأنفال: 32] ودعاء الإنسان على ولده وعبده، مثل استعجالهم أي مثل إرادتهم تعجيل الخير. وعدل عن أن يقال: ولو يستعجل الله للناس الشر {استعجالهم بالخير} أي يعجل، دفعاً لإيهام النقص بأن من يستعجل الشيء ربما يكون طالباً عجلته من غير لعدم قدرته، وتنبيهاً على أن الأمر ليس إلاّ بيده {لقضي إليهم أجلهم} فإنه إذا أراد شيئاً كان ولم يتخلف أصلاً.
ولما كان التقدير لأن «لو» امتناعية: ولكنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه لا يفوته شيء بل يمهل الظالمين ويدر لهم النعم ويضربهم بشيء من النقم حتى يقولوا: هذه عادة الدهر، قد مس آباءنا الضراء والسراء، سبب عن قوله: {فنذر} أي على أيّ حالة كانت، ووضع موضع الضمير تخصيصاً وتنبيهاً على ما أوجب لهم الإعراض والجرأة قوله: {الذين} وأشار بنفي الرجاء إلى نفي الخوف على الوجه الأبلغ فقال: {لا يرجون لقآءنا} أي بعد الموت بهذا الاستدراج على ما لنا(9/82)
من العظمة التي من أمنها كان أضل من الأنعام {في طغيانهم} أي تجاوزهم للحدود تجاوزاً لا يفعله من له أدنى روية {يعمهون} أي يحكم مشيئتنا السابقة في الأزل عمياً عن رؤية الآيات صماً عن سماع البينات؛ والتعجيل: تقديم الشيء على وقته الذي هو أولى به؛ والشر: ظهور ما فيه الضر، وأصله الإظهار من قولهم: شررت الثوب - إذا أظهرته للشمس، ومنه شرر النار -لظهوره بانتشاره؛ والطغيان: الغلو في ظلم العباد؛ والعمه، شدةُ الحيرة.(9/83)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
ولما بين تعالى أن دأبهم استعجالهم بالخير، وكان منه استكشاف الضر، بينَ أن حالهم عنده الاعتراف، وشكرهم على النجاة منه الإنكار فدأبهم الطغيان والعمه، وذلك في غاية المنافاة لما يدعونه من رجاحة العقول وإصالة الآراء وسلامة الطباع، فالحاصل أن الانسان عند البلاء غير صابر، وعند الرجاء غير شاكر، فكأنه قيل: فإذا مس الإنسان منهم الخير كان في غفلة بالفرح والأشر والمرح {وإذا مسَّ الإنسان} منهم {الضر} وإن كان من جهة يتوقعها لطغيان هو فيه ولا ينزع عنه خوفاً مما يتوقعه من حلول الضر لشدة طغيانه وجهله {دعانا} مخلصاً معترفاً بحقنا عالماً بما لنا من كمال العظمة عاملاً بذلك معرضاً عما ادعاه شريكاً لنا كائناً {لجنبه} أي مضطجعاً حال إرادته للراحة، وكأنه عبر باللام إشارة إلى أن ذلك أسر أحواله إليه {أو قاعداً} أي متوسطاً في أحواله {أو قآئماً} أي في غاية السعي في(9/83)
مهماته، لا يشغله عن ذلك شيء في حال من الأحوال، بل يكون ظرف المس بالضر ظرف الدعاء بالكشف، ويجوز أن يكون عبر بالأحوال الثلاثة عن مراتب الضر، وقال: لجنبه، إشارة إلى استحكام الضر وغلبته بحيث لا يستطيع جلوساً كما يقال: فلان لما به، وأشار بالفاء إلى قرب زمن الكشف فقال: {فلما كشفنا} أي بما لنا من العظمة {عنه ضره} أي الذي دعانا لأجله {مرّ} أي في كل ما يريده لاهياً عنا بكل اعتبار {كأن} أي كأنه {لم يدعنآ} أي على ما كان يعترف به وقت الدعاء من عظمتنا؛ ولما كان المدعو يأتي إلى الداعي فيعمل ما دعاه لأجله قال: {إلى} أي كشف {ضر مسه} أي كأن لم يكن له بنا معرفة أصلاً فضلاً عن أن يعترف بأنا نحن كشفنا عنه ضره، فهذه الآية في بيان ضعف الإنسان وسوء عبوديته، والتي قبلها في بيان قدرة الله وحسن ربوبيته؛ والمسُ: لقاء من غير فصل؛ والدعاء: طلب الفعل من القادر عليه؛ والضر: إيجاب الألم بفعله أو السبب المؤدي إليه.
ولما كان هذا من فعل الإنسان من أعجب العجب. كان كأنه قيل: لم يفعل ذلك؟ فقيل: لما يزين له من الأمور التي يقع بها الاستدراج لإسرافه. وهذا دأبنا أبداً {كذلك} أي مثل هذا التزيين العظيم الرتبة؛ ولما كان الضار مطلق التزيين، بنى للمفعول قوله: {زين للمسرفين}(9/84)
أي كلهم العريقين في هذا الوصف {ما كانوا} أي بجبلاتهم {يعملون} أي يقبلون عليه على سبيل التجديد والاستمرار من المعصية بالكفر وغيره مع ظهور فساده ووضوح ضرره؛ والإسراف: الإكثار من الخروج عن العدل.
ولما كان محط نظرهم الدنيا، وكان هذا صريحاً في الإمهال للظالمين والإحسان إلى المجرمين، أتبعه بقوله تعالى مهدداً لهم رادعاً عما هم فيه من اتباع الزينة مؤكداً لأنهم ينكرون أن هلاكهم لأجل ظلمهم: {ولقد أهلكنا} أي بما لنا من العظمة {القرون} أي على ما لهم من الشدة والقوة؛ ولما كان المهلكون هلاك العذاب المستأصل بعض من تقدم، أثبت الجار فقال: {من قبلكم لما ظلموا} أي تكامل ظلمهم إهلاكاً عم آخرهم وأولهم كنفس واحدة دفعاً لتوهم أنه سبحانه لا يعم بالهلاك، وقال تعالى عطفاً على {أهلكنا} : {وجآءتهم رسلهم} أي إلى كل أمة رسولها {بالبينات} أي التي بينت بمثلها الرسالة {وما} أي والحال أنهم ما {كانوا} أي بجبلاتهم، وأكد النفي بمن ينكر أن يتأخر إيمانهم عن البيان فقال: {ليؤمنوا} ولو جاءتهم كل آية، تنبيهاً لمن قد يطلب أنه سبحانه يريهم بوادر العذاب أو ما اقترحوه من الآيات ليؤمنوا، فبين سبحانه أن ذلك لا يكون سبباً لإيمان من قضى بكفره، بل يستوي في التكذيب حاله قبل مجيء الآيات وبعدها ليكون سبباً لهلاكه.
فكأنه قيل: هل يختص ذلك بالأمم(9/85)
الماضية؟ فقيل: بل {كذلك} أي مثل ذلك الجزاء العظيم {نجزي القوم} أي الذين لهم قوة على محاولة ما يريدونه {المجرمين} لأن السبب هو العراقة الإجرام وهو قطع ما ينبغي وصله، فحيث ما وجد جزاؤه؛ والإهلاك: الإيقاع فيما لا يتخلص منه من العذاب؛ والقرن: أهل العصر لمقارنة بعضهم لبعض.
ولما صرح بأن ذلك عام لكل مجرم، أتبعه قوله: {ثم جعلناكم} أي أيها المرسل إليهم أشرف رسلنا {خلائف في الأرض} أي لا في خصوص ما كانوا فيه: ولما كان زماننا لم يستغرق ما بعد زمان المهلكين أدخل الجار فقال: {من بعدهم} أي القرون المهلكة إهلاك الاستئصال {لننظر} ونحن - بما لنا من العظمة - أعلم بكم من أنفسكم، وإنما ذلك لنراه في عالم الشهادة لإقامة الحجة {كيف تعملون} فيتعلق نظرنا بأعمالكم موجودة تخويفاً للمخاطبين من أن يجرموا فيصيبهم ما أصاب من قبلهم.(9/86)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
ولما تقدم أن من قضى بشقاوته لا يتأتى إيمانه بآية من الآيات حتى تنزل به سطوته وتذيقه بأسه ونقمته. وكان القرآن أعظم آية أنزلت إلى الناس لما لا يخفى. أتبع ذلك عطفاً على قوله {قال الكافرون إن هذا لسحر مبين} بقوله بياناً لذلك: {وإذا تتلى} بناه للمفعول إيذاناً بتكذيبهم عند تلاوة أي تالٍ كان. وأبداه مضارعاً(9/86)
إشارة إلى أنهم يقولون ذلك ولو تكررت التلاوة {عليهم} أي على هؤلاء الناس {آياتنا} أي على ما لها من العظمة بإسنادها إلينا {بينات} فإنه مع ما اشتمل عليه مما لزمهم به الإقرار بحقيقته قالوا فيه ما لا معنى له إلا التلاعب والعناد، ويجوز عطفه على {ثم جعلناكم خلائف} - الآية - والالتفات إلى مقام الغيبة للإيذان بأنهم للإعراض لإساءتهم الخلافة، والموصول بصلته في قوله: {قال الذين لا يرجون لقآءنا} في موضع الضمير تنبيهاً على أن هذا الوصف علة قولهم، ولعله عبر بالرجاء ترغيباً لهم لأن الرجاء محط أمرهم في طلب تعجيله للخير ودفعه للضمير. فكان من حقهم أن يرجوا لقاءه تعالى رغبة في مثل ما أعده لمن أجابه، ولوح إلى الخوف بنون العظمة ليكون ذلك أدعى لهم إلى الإقبال {ائت} أي من عندك {بقرآن} أي كلام مجموع جامع لما تريد {غير هذا} في نظمه ومعناه {أو بدله} أي بألفاظ أخرى والمعاني باقية وقد كانوا عالمين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلهم في العجز عن ذلك ولكنهم قصدوا أنه يأخذ في التعبير حرصاً على إجابة مطلوبهم فيبطل مدعاه أو يهلك.
ولما كان كأنه قيل: فماذا أقول لهم؟ قال: {قل ما يكون} أي يصح ويتصور بوجه من الوجوه {لي} ولما كان التبديل يعم القسمين الماضيين قال: {أن أبدله} وقال: {من تلقاء} أي عند وقِبَل(9/87)
{نفسي} إشارة إلى الرد عليهم في إنكار تبديل الذي أنزله بالنسخ بحسب المصالح كما أنزل أصله لمصلحة العباد مع نسخ الشرائع الماضية به، فأنتج ذلك قطعاً قوله: {إن أتبع} أي بغاية جهدي {إلاّ ما} ولما كان قد علم أن الموحي إليه الله قال {يوحى إلي} أي سواء كان بدلاً أو أصلاً؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم مضمونه: {إني أخاف} أي على سبيل التجدد والاستمرار {إن عصيت ربي} أي المحسن إليّ والموجد لي والمربي والمدبر بفعل غير ما شرع لي {عذاب يوم عظيم} فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم من الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم، وإذا خفته - مع استحضار صفة الإحسان - هذا الخوف فكيف يكون خوفي مع استحضار صفة الجلال. ولما تم ما دفع به مكرهم في طعنهم، اتبعه بعذره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإبلاغ على وجه يدل قطعاً على أنه كلام الله وما تلاه إلاّ بإذنه فيجتث طعنهم من أصله ويزيله بحذافيره فقال: {قل} أي لهم معلماً أنه سبحانه إما أن يشاء الفعل وإما أن يشاء عدمه وليست ثَمّ حالة سكوت أصلاً {لو شآء الله} أي الذي له العظمة كلها أن لا أتلوه عليكم {ما تلوته} أي تابعت قراءته {عليكم ولآ أدراكم} أي أعلمكم على وجه المعالجة هو سبحانه {به} على لساني؛ ولما كان ذكر ذلك أتبعه السبب المعرف به فقال: {فقد لبثت فيكم عمراً}(9/88)
ولما كان عمره لم يستغرق زمان القبل قال: {من قبله} مقدار أربعين سنة بغير واحد من الأمرين لكون الله لم يشأ واحداً منهما إذ ذاك، ثم أتيتكم بهذا الكتاب الأحكم المشتمل على حقائق علم الأصول ودقائق علم الفروع ولطائف علم الأخلاق وأسرار قصص الأولين في عبارة قد عجزتم - وأنتم أفصح الناس وأبلغهم - عن معارضة آية منها، فوقع بذلك العلم القطعي الظاهر جداً أنه من عند الله فلذلك سبب عنه إنكار العقل فقال: {أفلا تعقلون} إشارة إلى أنه يكفي - في معرفة أن القرآن من عند الله وأن غيره عاجز عنه - كون الناظر في أمره وأمري من أهل العقل، أي أفلا يكون لكم عقل فتعرفوا به حقيقة القرآن بما أرشدكم إليه في هذه الآية من هذا البرهان الظاهر والسلطان القاهر القائم على أنه ما يصح لي بوجه أن أبدله من قبل نفسي لأني مثلكم وقد عرفتم أنكم عاجزون عن ذلك مع التظاهر، فأنا وحدي - مع كوني أمياً - أعجز، ومن أنه تعالى لو شاء ما بلغكم، ومن أني مكثت فيكم إتياني به زمناً طويلاً لا أتلو عليكم شيئاً ولا أدعي فيكم علماً ولا أتردد إلى عالم؛ وتعرفوا أن قائل ما قلتم مكذب بآيات الله، وفاعل ما طلبتم كاذب على الله، وكل من ذلك أظلم الظلم {فمن} أي فهو سبب لأن يقال: من {أظلم ممن افترى} أي تعمد {على الله} أي الذي حاز جميع العظمة {كذباً} أي أيّ كذب كان، وكان الأصل: مني، على تقدير أن لا يكون هذا القرآن(9/89)
من عند الله كما زعمتم، ولكنه وضع هذا الظاهر مكانه تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف {أو كذب بآياته} كما فعلتم أنتم، وذلك من أعظم الكذب.
ولما كان التقدير: لا أحد أظلم منه فهو لا يفلح لأنه مجرم، علله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم: {إنه لا يفلح} أي بوجه من الوجوه {المجرمون} فد وضح أن المقصود نفي الكذب عن نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلحاق الوعيد حيث كذبوا بالآيات بعد ثبوت أنها من عند الله والإعلام بأنه لا أحد أظلم منهم لأنهم كذبوا على الله في كل ما ينسبونه إليه مما نهى عنه وكذبوا بآياته، والإتيان بالغير قد يكون مع وجود الأول والتبديل لا يكون إلاّ برفع الأول ووضع غيره مكانه؛ والتلقاء: جهة مقابلة الشيء، أتبعه بمجيئه بعده؛ والمشيئة خاصة تكون سبباً مؤدياً إلى وقوع الشيء، ومرتباً له على وجه قد يمكن أن يقع خلافه، والإرادة نظيرها؛ والعقل: العلم الغريزي الذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب، ويجوز أن يكون {ويعبدون} حالاً من {الذين لا يرجون لقاءنا} أي قالوا ذلك عابدين {من دون الله} أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال الذي ثبت عندهم أن هذا القرآن كلامه لعجزهم عن معارضة شيء منه وهو ينهاهم عن عبادة غيره وهم يعلمون قدرته على الضر والنفع.(9/90)
ولما كان السياق للتهديد والتخويف، قدم الضر لذلك وتنبيهاً لهم على أنهم مغمورون في نعمه التي لا قدرة لغيره على منع شيء منها، فعليهم أن يقيدوها بالشكر فقال: {ما لا يضرهم} أي أصلاً من الأصنام وغيرها {ولا ينفعهم} في معارضة القرآن بتبديل أو غيره ولا في شيء من الأشياء، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية وإلا كانت عبادته عبثاً، معرضين عما جاءهم من الآيات البينات من عند من يعلمون أنه يضرهم وينفعهم ولا يملك شيئاً من ذلك أحد سواه، وقد أقام الأدلة على ذلك غير مرة، وفي هذا غاية التبكيت لهم بمنابذة العقل مع ادعائهم رسوخ الأقدام فيه وتمكن المجال منه؛ والعبادة: خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع؛ ثم عجب منهم تعجيباً آخر فقال: {ويقولون} أي لم يكفهم قوله ذلك مرة من الدهر حتى يجددوا قوله مستمرين عليه: {هؤلاء} أي الأصنام أو غيرهم {شفعاؤنا} أي ثابته شفاعتهم لنا {عند الله} أي الملك الأعظم الذي لا يمكن الدنو من شيء من حضرته إلا بإذنه، وقد مضى إبطال ما تضمنته هذه المقالة في قوله تعالى {ما من شفيع إلا من بعد إذنه} وفيه تخجيلهم في العجز عن تبديل القرآن أو الإتيان بشيء من مثله حيث لم تنفعهم في ذلك فصاحتهم ولا أغنت عنهم شيئاً بلاغتهم، وأعوزهم في شأنه فصحاءهم، وضل عنهم شفعاءهم، فدل ذلك قطعاً على أنه ما من شفيع إلا بإذنه(9/91)
من بعد، فكأنه قال: بماذا أجيبهم؟ فقال: {قل} منكراً عليهم هذا العلم {أتنبئون} أي تخبرون إخباراً عظيماً {الله} وهو العالم بكل شيء المحيط بكل كمال {بما لا يعلم} أي لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات {في السماوات} ولما كان الحال مقتضياً لغاية الإيضاح، كرر النافي تصريحاً فقال: {ولا في الأرض} وفي ذلك من الاستخفاف بعقولهم مما لا يقدرون على الطعن فيه بوجه ما يخجل الجماد، فإن ما لا يكون معلوماً لله لا يكون له وجود أصلاً، فلا نفي أبلغ من هذا كما أنك إذا بالغت في نفي شيء عن نفسك تقول: هذا شيء ما عمله الله مني.
ولما بين تعالى هنا ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ختم ذلك بتنزيه نفسه بقوله: {سبحانه} أي تنزه عن كل شائبة نقص تنزهاً لا يحاط به {وتعالى} أي وفعل بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال فعل المبالغ في التنزه {عما يشركون*} أي يوجدون الإشراك به.(9/92)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
ولما بين شرارتهم بعبادة غير الله وختم بتنزيهه وكماله، بين أن هذا الدين الباطل حادث، وين نزاهته وكماله ببيان أن الناس كانوا أولاً مجتمعين على طاعته ثم خالفوا أمره فلم يقطع إحسانه إليهم بل استمر(9/92)
في إمهالهم مع تماديهم في سوء أعمالهم ما سبق في عمله ومضى به قضاءه فقال تعالى: {وما كان الناس} أي كلهم مع ما لهم من الاضطراب {إلا أُمة} ولما أفهم ذلك وحدتهم في القصد حققه وأكده فقال: {واحدة} أي حنفاء متفقين على طاعة الله {فاختلفوا} في ذلك على عهد نوح عليه السلام - كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما - عقب وحدتهم بسبب ما لهم من النوس فاستحق كافرهم تنجيز العقاب {ولولا كلمة} أي عظيمة {سبقت} أي في الأزل {من ربك} أي المحسن إليك برحمة أمتك بإمهالهم، وبين التأكيد بما دل على القسم لأجل إنكارهم أن يكون تأخيرهم لأجل ذلك فقال: {لقضي بينهم} أي عاجلاً بأيسر أمر {فيما} ولما لم يبين الكلام على الاتخاذ الذي محط أمره معالجة بالباطن، لم يذكر الضمير بخلاف الزمر فقال: {فيه} أي لا في غيره بأن يعجل جزاءهم عليه: {يختلفون*} وأشار ذلك إلى أن هذا الأمر الذي دعوا إليه ليس أمراً طارئاً حادثاً فيكون بحيث يتوقف فيه للنظر في عواقبه والتأمل في مصادره وموارده، بل هو - مع ظهور دلائله واستقامة مناهجه وصحة مذاهبه وإلقاء الفطر أزمة الانقياد إليه - أصل ما كان العباد عليه، وما هم فيه الآن هو الطارىء الحادث مع ظهور فساده ووضوح سقمه، وهو ناظر إلى قوله تعالى {أكان للناس عجباً} لأن قوله {قال(9/93)
الكافرون إن هذا لسحر مبين} دال على أنهم قسمان: كافر ومؤمن؛ والأمة: الجماعة على معنى واحد في خلق واحد كأنها تؤم - أي تقصد - شيئاً واحداً؛ ثم قال تعالى عطفاً على قوله {ويعبدون} : {ويقولون} أي أنهم لما أتتهم البينات قالوا: ائت بقرآن غير هذا، كافرين بمنزلها عابدين من دونه ما لا يرضى عاقل بتسويته بنفسه فكيف بعبادته قائلين بفرط عنادهم وتماديهم في التمرد {لولا} أي هلا ولم لا {أنزل} أي بأيّ وجه كان {عليه آية} أي واحدة كائنة وآتية {من ربه} أي المحسن إليه غير ماجاء به وذلك إما لطلبهم آية ملجئة لهم إلى الإيمان أو لكونهم لم يعدوا ما أنزل عليه عداد الآيات فضلاً عن كونها بينات، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة في الآيات دقيقة المسلك بين المعجزات مع عجزهم عن معارضته بتبديل أو غيره، فأيّ عناد أعظم من هذا.
ولما كان في ذلك شوب من الاستفهام، قال مسبباً عن قولهم: {فقل} قاصراً قصراً حقيقياً {إنما الغيب} أي الذي عناه عيسى عليه السلام بقوله
{ولا أعلم ما في نفسك} [المائدة: 116] وهو ما لم يطلع عليه مخلوق أصلاً {لله} أي الذي له الإحاطة الكاملة وحده، لا علم لي بعلة عدم إنزال ما تريدون، وهل تجابون إليه أو لا.(9/94)
ولما خصه سبحانه بالعلم. وكان إنزال الآيات من الممكنات. سبب عنه قوله: {فانتظروا} ثم أجاب من كأنه يقول له: فما تعمل أنت؟ بقوله: {إني معكم} أي في هذا الأمر غير مخالف لكم في التشوف إلى آية تحصل بها هدايتكم، ثم حقق المعنى وأكده فقال: {من المنتظرين*} أي لما يرد علي من آية وغيرها.(9/95)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
ولما كان طلبهم محركاً لنفوس الخيّرين إلى ترجى إجابة سؤالهم، أتبعه سبحانه بما يبين أن ذلك غير نافع لهم لأنه محض تعنت. فقال تعالى عاطفاً على قوله {قال الكافرون إن هذا لسحر مبين} أو {وإذا مسَّ الإنسان الضر} مبيناً أن رحمته محققة الوجود كثيرة الورود إليهم مبيناً أن لهم آية عظمى من أنفسهم لا يحتاجون معها إلى التعنت بطلب آية وهي دالة على نتيجة مقصود السورة الذي هو الوحدانية وأن إشراكهم إنما هو بما لهم من نقص الغرائز الموجب لكفران الإحسان، وذلك أنهم عامة إذا أكرموا بنعمة قابلوها بكفر جعلوا ظرفه على مقدار ظرف تلك النعمة بما أشار إليه التعبير ب «إذا» ثم إذا مسهم الضر ألجأهم إلى الحق فأخلصوا، لم يختلف حالهم في هذا قط، وهذا الإجماع من الجانبين دليل واضح على كلا الأمرين؛ الكفر ظلماً بما جر إليه من البطر. والتوحيد حقاً بما دعا إليه من الفطرة القويمة الكائنة في أحسن تقويم بما زال عنها إلحاق الضرر من الحظوظ والشهوات والفتور، وهذا كما وقع في سورة الروم المافقة لهذه في الدلالة على(9/95)
الوحدانية فلذا عبر في كل منهما بالناس ليكون إجماعهم دليلاً كافياً عليها وسلطاناً جليلاً مضطراً إليها - والله الهادي: {وإذا أذقنا} أي على ما لنا من العظمة {الناس} أي الذين لهم وصف الاضطراب {رحمة} أي نعمة رحمناهم بها من غير استحقاق.
ولما كان كان وجود النعمة لا يستغرق الزمان الذي يتعقب النقمة، أدخل الجار فقال: {من بعد ضراء} أي قحط وغيره {مستهم} فاجأوا المكر وهو معنى {إذا لهم مكر} أي عظيم بالمعاصي التي يفعلون في الاستخفاء بأغلبها فعل الماكر {في آياتنا} إشارة إلى أنهم لا ينفكون عن آياته العظام، فلو كانوا منتفعين بالآيات اهتدوا بها، فإذا أتتهم رحمة من بعد نقمة لم يعدوها آية دالة على من أرسلها لهم لخرقها لما كانوا فيه من عادة النقمة مع أنهم يعترفون بأنه لا يقدر على إرسالها وصرف الشدة إلا هو سبحانه، بل يعملون فيها عمل الماكرين بأن يصرفوها عن ذلك بأنواع الصوارف كأن ينسبوها إلى الأسباب كنسبة المطر للأنواء ونحو ذلك غير خائفين من إعادة مثل تلك الضراء أو ما هو أشد منها.
ولما كانت هذه الجملة دالة على إسراعهم بالمكر من ثلاثة أوجه: التعبير بالذوق الذي هو أول المخالطة ولفظ «من» التي هي للابتداء و «إذا» الفجائية، كان كأنه قيل: أسرعوا جهدهم في المكر، فقيل: {قل الله} أي الذي له له الإحاطة الكاملة بكل شيء {أسرع مكراً}(9/96)
ومعنى اوصف بالأسرعية أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم - نبه عليه أبو حيان ولما كان المكر إخفاء الكيد، بين لهم سبحانه أنهم غير قادرين على مطلق المكر في جهته عز شأنه وتعالى كبرياءه وسلطانه، لأنه عالم بالسر وأخفى، بل لا يمكرون مكراً إلا ورسله سبحانه مطلعون عليه فكيف به سبحانه! فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم: {إن رسلنا} أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا {يكتبون} أي كتابة متجددة على سبيل الاستمرار باستمرار المكتوب {ما تمكرون*} لأنهم قد وكلوا بكم قبل كونكم نطفاً ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما يفعلونه ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه، وأما هو سبحانه فإذا قضى لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا باطلاعه فكيف بغيرهم! وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره، علمَ أنه لا يدعهم يدبرون كيداً إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم؛ والمكر: فتل الشيء إلى غير وجهه على طريق الحيلة فيه؛ والسرعة؛ الشيء في وقته الذي هو أحق به، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه حال الجاهل من تضييع حق النعمة والمكر فيها وإن جلت منزلتها وأتت على فاقة إليها وشدة حاجة إلى نزولها مع الوعيد بعائد(9/97)
الوبال على الماكر فيها، ثم أخذ سبحانه يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الاية قبلها من نقله سبحانه لعباده من الضر إلى النعمة ومن سرعة تقلبهم فقال: {هو} أي لا غيره {الذي يسيركم} أي في كل وقت تسيرون فيه سيراً عظيماً لا تقدرون على الانفكاك عنه {في البر والبحر} أي يسبب لكم أسباباً توجب سيركم فيهما ويقدركم على ذلك ويهديكم من بين سائر الحيونات إلى ما فيه من أصناف المنافع مع قدرته على إصابتكم في البر بالخسف وما بالخسف وما دونه وفي البحر بالغرق وما أشبهه.
ولما كان العطب بأحوال البحر أظهر مع أن السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات، بينه معرضاً عن ذكر البر فقال: {حتى إذا كنتم} أي كوناً لا براح لكم منه {في الفلك} أي السفن، يكون واحداً وجمعاً؛ وأعرض عنهم بعد الإقبال لما سيأتي فقال: {وجرين} أي الفلك؛ {بهم} ولما ذكر جريها وهم فيها، ذكر سببه فقال: {بريح طيبة} ثم أوضح لهم عدم علمهم بالعواقب بقوله: {وفرحوا بها} أي بتلك الريح وبالفلك الجارية بها {جاءتها ريح عاصف} فأزعجت سفنهم وساءتهم {وجاءهم الموج} أي المعروف لكل أحد بالرؤية أو الوصف {من كل مكان} أي يعتاد الإتيان منه فأرجف قلوبهم {وظنوا أنهم} ولما كان المخوف الهلاك، لا كونه من معين، بني للمفعول ما هو كناية عنه لأن العدو إذا أحاط بعدوه أيقن بالهلاك فقال: {أحيط بهم} .(9/98)
ولما كان ما تقدم من حالهم الغريبة التي تجب لها القلوب وتضعف عندها القوى - مقتضياً لأن يسأل عما يكون منهم عند ذلك، أتى المقال على مقتضى هذا السؤال مخبراً عن تركهم العناد وإخلاصهم الدال على جزعهم عند سطواته وانحلال عزائمهم في مشاهدة ضرباته، وعبارة لرماني: اتصال دعوى الأجوبة، كأنه قيل: لما ظنوا أنهم أحيط بهم {دعوا الله} أي الذي له صفات الكمال بالرغبة إليه في الخلاص والعبادة له بالإخلاص {مخلصين} أي عن كل شرك {له الدين *} أي التوحيد والتصديق بالظاهر والباطن، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه بديهة العقل من الفزع عند الشدة إلى واهب السلامة ومسبغ النعمة في كشف تلك البلية؛ ثم أتبع سبحانه ذلك حكاية حالهم في وعدهم الشكر على النجاة ثم كذبهم في ذلك مع ادعائهم أنهم أطهر الناس ذيولاً عن الكذب وأشدهم استقباحاً له وأبعد الناس من كفران الإحسان، فقال تعالى حاكياً قولهم الذي دلُّوا بتأكيدهم له أنهم قالوه بغاية الرغبة نافين ما يظن بهم من الرجوع إلى ما كانوا فيه قبل تلك الحال من الكفر: {لئن أنجيتنا} أي أيها الملك الذي لا سلطان لغيره {من هذه} أي الفادحه {لنكونن} أي كوناً لا ننفك عنه {من الشاكرين*} أي المديمين لشكرك العريقين في الاتصاف به.(9/99)
ولما أعلم سبحانه أنهم اكدوا هذا الوعد هذا التأكيد، أتبعه بيان أنهم أسرعوا في نقضه غاية الإسراع فقال: {فلما أنجاهم} ولما أبانت الفاء عن الإسراع في النقض، أكد مناجاتهم لذلك بقوله: {إذا هم يبغون} أي يتجاوزون الحدود {في الأرض} أي جنسها {بغير الحق} أي الكامل، فلا يزال الباغي مذموماً حتى يكون على الحق الكامل الذي لا باطل فيه بوجه، وجاء الخطاب أولاً في {يسيركم} ليعم المؤمنين لأن التسيير يصلح للامتنان، ثم التفت إلى الغيبة عند صدور ما لا يليق بهم - نبه على ذلك أبو حيان، وأحسن منه أن يقال: إنه سبحانه أقبل عليهم تنبيهاً على أنه جعلهم - بما هيأ فيهم من القوى - أهلاً لخطابه ثم أعرض عنهم إشارة إلى أنهم استحقوا الإعراض لإعراضهم اغتراراً بما أتاحهم من الريح الطيبة في محل يجب فيه الإقبال عليه والغنى عن كل ما سواه لعظم الخطر وشدة الأمر، وكأنه يذكر لغيرهم من حالهم ما يعجبه منه لينكر عليهم ويقبح حالهم؛ والتسيير: التحريك في جهة تمتد كالسير؛ والبر: الأرض الواسعة التي تقطع من بلد، ومنه البر لاتساع الخير به؛ والبحر: مستقر الماء الواسع حتى لا يرى من وسطه حافتاه؛ والفلك: السفن التي تدور في الماء، وأصله الدور، فمنه فلكة المغزل، والفلك الذي يدور فيه النجوم؛ والنجاة: التخليص من الهلاك؛ والبغي: قصد الاستعلاء بالظلم، وأصله الطلب؛ والحق: وضع الشيء في موضعه على ما يدعو إليه العقل؛(9/100)
ثم بين أن ما هم فيه من الإمهال إنما هو متاع الدنيا وأنها دار زوال فقال تعالى: {يا أيها الناس} أي الذي غلب عليهم وصف الاضطراب {إنما بغيكم} أي كل بغي يكون منكم {على أنفسكم} لعود الوبال عليها خاصة وهو على تقدير انتفاعكم به عرض زائل {متاع الحياة الدنيا} ثم يبقى عاره وخزيه بعد الموت {ثم إلينا} أي خاصة {مرجعكم} بعد البعث {فننبئكم} على ما لنا من العظمة إنباء عظيماً {بما كنتم} أي كوناً هو كالجبلة {تعملون*} ونجازيكم عليه.(9/101)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
ولما كان السياق لإثبات البعث وتخويفهم به وكانوا ينكرونه ويعتقدون بقاء الدنيا وأنها إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلغ دائماً بلا انقضاء فهي دار يرضى بها فيطمئن إليها، وللتنفير من البغي والتعزز بغير الحق، وكانت الأمثال أجلى لمحال الأشكال، قال تعالى ممثلاً لمتاعها قاصراً أمرها على الفناء رداً عليهم في اعتقاد دوامها من غير بعث: {إنما} فهو قصر قلب {مثل الحياة الدنيا} التي تتنافسون فيها في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله {كماء أنزلناه} أي بما لنا من العظمة وحقق أمره وبينه بقوله: {من السماء} فشبهه بأمر النبات وأنه قليل يبلغ منتهاه فتصبح الأرض منه بلاقع بعد ذلك الاخضرار والينوع، وفي ذلك إشارة إلى البعث وإلى أنه تعالى قادر على ضربة قبل نهايته أو بعدها(9/101)
ببعض الآفات كما يوجد في بعض السنين، فيقفرون منه ويفتقرون إليه، وفي ذلك تحذيرعظيم {فاختلط} أي بسبب إنزالنا له {به} أي بسبب تليينه ولطافته {نبات الأرض} عموماً في بطنها {مما يأكل الناس} أي كافة {والأنعام} من الحبوب والثمار والبقول فظهر على وجهها {حتى} ولم يزل كذلك ينمو ويزيد في الحسن والجرم؛ ولما كان الخصب هو الأصل، عبر عنه بأداة التحقيق فقال: {إذا} ولما كانت بهجة النبات تابعة للخصب، فكان الماء كأنه يعطيها إياها فتأخذه، قال: {أخذت الأرض} أي التي لها أهلية النبات {زخرفها وازينت} بأنواع ذلك النبات زينة منها الجلي ومنها الخفي - بما يفهمه الإدغام {وظن أهلها} أي ظناً مؤكداً جداً بما أفاده العدول عن «قدرتهم» إلى {أنهم قادرون} أي ثابته قدرتهم {عليها} باجتناء الثمرة من ذلك النبات وغاب عنهم لجهلهم علم العاقبة، فلما كان ذلك {أتاها أمرنا} أي الذي لا يرد من البرد أو الحر المفرطين {ليلاً أو نهاراً فجعلناها} أي زرعها وزينتها بعظمتها بسبب ذلك الأمر وتعقيبه بالإهلاك {حصيداً} وعبر بما فهمه فعيل من المبالغة والثبات بقوله: {كأن} أي كأنها {لم تغن} أي لم تكن غانية أي ساكنة حسنة غنية ذات وفر مطلوبة مرغوباً فيها أي زرعها وزينتها {بالأمس} فكان(9/102)
حال الدنيا في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله كحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وزين الأرض بخضرته وألوانه وبهجته.
ولما كان هذا المثل في غاية المطابقة للساعة، هز السامع له فازداد عجبه من حسن تفصيله بعد تأصيله فقيل جواباً له: {كذلك} أي مثل هذا التفصيل الباهر {نفصل} أي تفصيلاً عظيماً {الآيات لقوم} أي ناس أقوياء فيهم قوة المحاولة لما يريدون {يتفكرون*} أي يجددون الفكر على وجه الاستمرار والمبالغة؛ والمثل: قول سائر يشبه فيه الحال الثاني بالأول؛ والاختلاط: تداخل الأشياء بعضها في بعض؛ والزخرف: حسن الألوان.(9/103)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
ولما قرر سبحانه هذه الآيات التي حذر فيها من أنواع الآفات، بين أن الدار التي رضوا بها وأطمأنوا إليها دار المصائب ومعدن الهلكات والمعاطب وأنها ظل زائل تحذيراً منها وتنفيراً عنها، بين تعالى أن الدار التي دعا إليها سالمة من كل نصب وهم ووصب، ثابته بلا زوال، فقال تعالى عاطفاً على قوله {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض} ترغيباً في الآخرة وحثاً عيها: {والله} أي الذي له الجلال والإكرام {يدعوا} أي يعلق دعاءه على سبيل التجدد والاستمرار بالمدعوين {إلى دار السلام} عن قتادة أنه سبحانه أضافها إلى اسمه تعظيماً لها وترغيباً فيها، يعني بأناه لا عطب فيها أصلاً، والسلامة فيها دائمة،(9/103)
والسلام فيها فاش من بعضهم على بعض ومن الملائكة وغيرهم؛ والدعاء: طلب الفعل بما يقع لأجله، والدواعي إلى الفعل خلاف الصوارف عنه.
ولما أعلم - بالدعوة بالهداية بالبيان وأفهم ختم الآية بقوله: {ويهدي من يشاء} أي بما يخلق في قلبه من الهداية {إلى صراط مستقيم*} أن من الناس من يهديه ومنهم من يضله. وأن الكل فاعلون لما يشاء - كان موضع أن يقال: هل هم واحد في جزائه كما هم واحد في الانقياد لمراده؟ فقيل: لا، بل هم فريقان: {للذين أحسنوا} أي الأعمال في الدنيا منهم وهم من هداه {الحسنى} أي الخصلة التي هي في غاية الحسن من الجزاء {وزيادة} أي عظيمة من فضل الله فالناس: مزيد خرجت هدايته من الجهاد {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69] ، ومراد خرجت هدايته من المشيئة، فالدعوة إلى الجنة بالبيان عامة، والهداية إلى الصراط خاصة لأنها الطريق إلى المنعم.
ولما كان النعيم لا يتم إلاّ بالدوام بالأمن من المضار قال: {ولا يرهق} أي يغشي ويلحق {وجوههم قتر} أي غبرة كغبره الموت وكربة، وهو تغير في الوجه معه سواد وعبوسة تركبهما غلبة {ولا ذلة} أي كآبة وكسوف يظهر منه الانكسار والهوان.
ولما كان هذا واضحاً في أنهم أهل السعادة، وصل به قوله:(9/104)
{أولئك} أي العالو الرتبة {أصحاب الجنة} ولما كانت الصحبة جديرة بالملازمة، صرح بها في قوله: {هم} أي لا غيرهم {فيها} أي خاصة {خالدون} أي مقيمون لا يبرحون، لأنهم لا يريدون ذلك لطيبها ولا يراد بهم.
ولما بين حال الفضل فيمن أحسن، بين حال العدل فيمن أساء فقال: {والذين كسبوا} أي منهم {السيئات} أي المحيطة بهم {جزآء سيئة} أي منهم {بمثلها} بعدل الله من غير زيادة {وترهقهم ذلة} أي من جملة جزائهم، فكأنه قيل: أما لهم انفكاك عن ذلك؟ فقيل جواباً: {ما لهم من الله} أي الملك الأعظم؛ وأغرق في النفي فقال: {من عاصم} أي يمنعهم من شيء يريده بهم.
ولما كان من المعلوم أن ذلك مغير لأحوالهم، وصل به قوله: {كأنما} ولما كان المكروه مطلق كونها بالمنظر السيىء، بني للمفعول قوله: {أغشيت وجوههم} أي أغشاها مغش لشدة سوادها لما هي فيه من السوء {قطعاً} ولما كان القطع بوزن عنب مشتركاً بين ظلمة آخر الليل وجمع القطعة من الشيء. بين وأكد فقال: {من الليل} أي هذا الجنس حال كونه {مظلماً} ولما كان ذلك ظاهراً في أنهم أهل الشقاوة، وصل به قوله: {أولئك} أي البعداء(9/105)
البغضاء {أصحاب النار} ولما كانت الصحبة الملازمة، بينها بقوله: {هم فيها} أي خاصة {خالدون} أي لا يمكنون من مفارقتها؛ والرهق: لحق الأمر، ومنه: راهق الغلام - إذا لحق حال الرجال؛ والقتر: الغبار، ومنه الإقتار في الإنفاق لقتله؛ والذلة: صغر النفس بالإهانة؛ والكسب: الفعل لاجتلاب النفع إلى النفس أو النفس أو استدفاع الضر.
ولما بين سبحانه مآل الفريقين، نبه على بعض مقدمات ذلك المانعة أن يشفع أحد من غير إذنه بقوله: {ويوم} أي وفرقنا بينهم لأنه لا أنساب هناك ولا أسباب فلا تناصر يوم {نحشرهم} أي الفريقين: الناجين والهالكين العابدين منهم والمعبودين حال كونهم {جميعاً} ثم يقطع ما بين المشركين وشركائهم فلا يشفع فيهم شيء مما يعتقدون شفاعته ولا ينفعهم بنافعة، بل يظهرون الخصومة ويبارزون بالعداوة وهو ناظر إلى قوله تعالى {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده} [يونس: 4] وإلى قوله {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} [يونس: 18] والحشر: الجمع بكره من كل جانب إلى موقف واحد؛ وأشار سبحانه إلى طول وقوفهم بقوله: {ثم نقول للذين أشركوا} أي بنا من لم يشارك في خلقهم؛ وقوله: {مكانكم} نقل أبو حيان عن النحوين أنهم جعلوه اسماً لأثبتوا، ورد(9/106)
على الزمخشري تقديره بألزموا لأنه متعد ويجب أن يساوي بين الاسم والمسمى في التعدي واللزوم، أي نقول لهم: قفوا وقوف الذل {أنتم وشركآؤكم} حتى ينفذ فيكم أمرنا إظهار لضعف معبوداتهم التي كانوا يترجونها وتحسيراً لهم، فلا يمكنهم مخالفة ذلك.
ولما كان التقدير: فوقفوا موافقة للأمر على حسب الإرادة، عطف عليه مسبباً عنه قوله: {فزيلنا} أي أزلنا إزالة كثيرة مفرقة ما كان {بينهم} في الدنيا من الوصلة والألفة حتى صارت عداوة ونفرة فقال الكفار: ربنا هؤلاء الذين أضلونا، وكنا ندعو من دونك {وقال شركاؤهم} لهم متبرئين منهم بما خلق لهم سبحانه من النطق {ما كنتم} أي أيها المشركون، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين نصبوهم بغير أمر ولا دليل ولأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم {إيانا تعبدون} أي تخصوننا بالعبادة لأنا لا نستحق ذلك إشارة لى أنه لا يعبد إلاّ من يستحق الإخلاص في ذلك بأن يعبد وحده من غير شريك، ومن لا يستحق ذلك لا يستحق مطلق العبادة ولا يصلح لها، وكل عبادة فيها شرك لا تعد أصلاً ولا يرضى بها جماد لو نطق، فمتى نفي المقيد بالخلوص نفي المطلق لأنه لا اعتداد به أصلاً، ومن المعلوم أن ما كان بهذه الصفة لا يقدم عليه أحد، فنحن نظن أنه لم يعبدنا عابد فضلاً عن أن يخصنا بذلك، والشخص يجوز له أن ينفي ما(9/107)
يظن نفيه ونحن لم نعلم شيئاً من ذلك.
ولما نفوا ذلك عطفوا عليه مسببين عنه قولهم: {فكفى بالله} أي المحيط علماً وقدرة {شهيداً} أي هو يكفينا كفاية عظيمة جداً من جهة الشهادة التي لا غيبة فيه بوجه ولا ميل أصلاً {بيننا وبينكم} في ذلك يشهد لنا وعلينا؛ ثم استأنفوا خبراً يصحح نفيهم فقالوا مؤكدين لأنهم كانوا يعتقدون علمهم: {إن} أي إنا {كنا} أي كوناً هو جبلة لنا {عن عبادتكم} لنا أو لغيرنا مخلصة أو مشوبة؛ ولما كانت «إن» هي المخففة من الثقيلة تلقيت باللام الفارقة بينها وبين النافية فقيل: {لغافلين} لأنه لا أرواح فينا، فلم تكن بحيث نأمر بالعبادة ولانرضاها فاللوم عليكم دوننا، وذلك افتداء من موقف الذل أو أنهم لما تخيلوا في الشركاء صفات عبدوها لأجلها وكانت خالية عنها صح النفي لأنهم عبدوا ذوات موصوفة بصفات لا وجود لها في الأعيان، وأيضاً فإنهم ما عبدوا إلاّ الشياطين التي كانت تزين لهم ذلك وتغويهم، ويكون التقدير على ما دل عليه السياق: {فزيلنا بينهم} أي منعناهم مما كانونا فيه من التواصل والتواد المقتضي للتناصر بعبادة الأوثان، فقال المشركون لشركائهم لما أبطأ عنهم نصرهم: إنا كنا نعبدكم من دون الله فأغنوا عنا كما كنا نذب عنكم وننصر دينكم {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون}(9/108)
أي كُشِف لنا اليوم بتفهيم الله أنه ليس الأمر كما زعمتم وأنكم لم تخصونا بالعبادة حتى يلزمنا منعكم على أنكم لو خصصتمونا ما قدرنا على ذلك قال الشيطان {ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي} [إبراهيم: 22] {فكفى} أي فتسبب عن نفينا لذلك على ما كشف لنا من العلم أن نقول: كفى {بالله شهيداً بيننا وبينكم} في ذلك، يشهد أنكم لم تخصوا أحداً منه ومنا بعبادة بل كنتم مذبذبين، وهذا كله إشارة إلى أن العبادة المشوبة لا اعتداد بها ولا يرضاها جماد لو نطق، وإن من استحق العبادة استحق الإخلاص فيها وأن لا يشرك به أحد وأنه لا يستحق ذلك إلاّ القادر على كشف الكرب والمنع من أن يقطع بينه وبين متوليه وعابده قاطع؛ ولما كانت فائدة الشاهد ضبط ما قد ينساه المتشاهدان، عللوا اكتفاءهم بشهادة الله بقوله: {إن كنا عن عبادتكم} في تلك الأزمان {لغافلين} فأقروا لهم بما هو الحق مما كان يعلمه كل من له تأمل صحيح أنهم لم يشعروا بعبادتهم ساعة من الدهر قبل ساعتهم هذه، فهم أجدر الخلق بالاكتفاء بشهادة الشهيد لأنهم أسوأ حالاً ممن يعلم المشهود به ويخشى النسيان، أو يقال: فقال المشركون لشركائهم: إنا كنا نعبدكم فهل أنتم ناصرونا أو شافعون لنا فنجونا مما وقعنا فيه {وقال شركاؤهم(9/109)
ما كنتم إيانا} وحدنا {تعبدون} أي ما كنتم تخلصون لنا العبادة حتى يلزمنا أن نخلصكم كما أعلمنا بذلك الله ربنا وربكم المحيط بكل شيء علماً {فكفى} أي فتسبب عن ذلك أنه كفى {بالله شهيداً بيننا وبينكم} في ذلك، فكأن المشركين قالوا: قد تضمن كلامكم أن عبدناكم على غير منهج الإخلاص، أفليس قد عبدناكم؟ أفلا تغنون عنا شيئاً؟ فأجاب الشركاء بقولهم: {إن كنا عن عبادتكم} خالصة كانت أو مشوبة {لغافلين} فلا نقر لكم بعبادة أصلاً وإن تيقنا الإخلاص لسلب العلم عنا بما كنا فيه من الجمادية فضلاً عن أن نأمركم أو نرضى بعبادتكم على أنه لا غناء عندنا على تقدير من التقادير؛ أو يقال - وهو أحسن مما مضى -: {وقال شركاؤهم} لما تحققوا العذاب طلباً لأن يخفف عنهم منه بتوزيعه عليهم وعلى كل من عبدوه من غيرهم {ما كنتم} أيها العابدون لنا {إيانا} أي خاصة {تعبدون} بل كنتم تعبدون أيضاً غيرنا، وهذا يعم والله كل من يرائيه غيره بعمل وهو يعلم أنه يرائيه فيقره ولا ينكره عليه؛ ولما أفهموا بنفي العبادة بقيد الخصوص أنهم كانوا يعبدون معهم غيرهم، وكان المخلوق قاصر العلم غير محيطه بوجه بأحوال نفسه فكيف يعبدون بأحوال غيره، سببوا عن ذلك قولهم: {فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن} أي في أنا {كنا عن عبادتكم} أي في الجملة {لغافلين} والحاصل أن هذا ترجمة كلام الكفار وهو ناشىء منهم عن محض غلبة ودهش وفرط غم وندم وقلق،(9/110)
فلا يشترط أن يكون معناه على الوجه الأسدّ والطريق الأبلغ، فالإعجاز في نظمه، ومرادهم به أن يخفف عنهم من العذاب ولو بمشاركة من كانوا يعبدونهم معهم، فهو من وادي قوله تعالى
{فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء} [إبراهيم: 21] ، {فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار} [غافر: 47] {فآتاهم عذاباً ضعفاً من النار} [الأعراف: 38] ونحوه {فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب} [الأعراف: 39]- والله أعلم.(9/111)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
ولما أخبر عن حال المشركين، تشوفت النفس إلى الاطلاع على حال غيرهم فقال مستأنفاً مخبراً عن كِلا الفريقين: {هنالك} أي في ذلك الموقف من المكان والزمان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال {تبلوا} أي تخبر وتخالط مخالطة مميلة محلية {كل نفس} طائعة وعاصية {مآ أسلفت} أي قدمت من العمل فيعرف هل كان خيراً أو شراً وهل كان يؤدي إلى سعادة أو شقاوة.
ولما كان مطلق الرد - وهو صرف الشيء إلى الموضع الذي ابتدأ منه - كافياً في الرهبة لمن له اب، بُني للمفعول قوله: {وردوآ} أي بالبعث بالإحياء كما كانوا أولاً {إلى الله} أي الملك الأعظم {مولاهم الحق} فلم يكن لهم قدرة على قصدِ غيره ولا الالتفات إلى سواه من تلك الأباطيل، بل انقطع رجاءهم من كل ما كانوا يدعونه(9/111)
في الدنيا، وهو المراد بقوله: {وضَلَّ عنهم} أي بطل وذهب وضاع {ما كانوا} أي كوناً هو جبلة لهم {يفترون} أي يتعمدون كذبه من أن معبوداتهم شركاء، وتيقنوا في ذلك المقام أن توليهم لغير الله كان باطلاً غير حق؛ والتزييل: تفريق يزول به كل واحد عن مكانه، وهو من تفريق الجثث، وليس من الواوي، بل من اليائي، يقال: زلته عن الشيء أزيله - إذا فرقت بينه وبينه؛ والكفاية: بلوغ مقدار الحاجة في دفع الأذية أو حصول المنفعة؛ والإسلاف: تقديم أمر لما بعده؛ والرد: الذهاب إلى الشيء بعد الذهاب عنه كالرجع؛ والمولى: من يملك تولى أمر مولاه.
ولما قدم سبحانه أن شركاءهم مربوبون مقهورون، لا قدرة لهم إلاّ على ما يقدرهم الله عليه، وأنه وحده المولى الحق، وبانت بذلك فضائحهم، أتبعه ذكر الدلائل على فساد مذهبهم، فوبخهم بأن وجه السؤال إليهم عما هم معترفون بأنه مختص به ويدل قطعاً على تفرده بجميع الأمر الموجب من غير وقفة لاعتقاد تفرده بالإلهية فقال: {قل} أي يا أكرم خلقنا وأرفقهم بالعباد {من يرزقكم} أي يجلب لكم الخيرات أيها المنكرون للبعث المدعون للشركة {من السمآء} أي بالمطر وغيره من المنافع {والأرض} بالنبات وغيره لتعيشوا {أمّن يملك السمع} أي الذي تسمعون به الآيات، ووحده للتساوي فيه في الغالب(9/112)
{والأبصار} التي تبصرون بها ما أنعم عليكم به في خلقها ثم حفظها في المدد الطوال على كثرة الآفات فيفيضها عليكم لتكمل حياتكم الحسية ببقاء الروح، والمعنوية بوجود العلم؛ روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم.
فلما سألهم عن أوضح ما هم فيه وأقربه، نبههم على ما قبله من بدء الخلق فقال: {ومن يخرج الحي} من الحيوان والنبات {من الميت} أي من النطفة ونحوها {ويخرج الميت} أي من النطفة ونحوها مما لا ينمو {من الحي} أي فينقل من النقص إلى الكمال؛ ثم عم فقال: {ومن يدبر الأمر} أي كله التدبير العام.
ولما كانوا مقرين بالرزق وما معه من الخلق والتدبير، أخبر عن جوابهم إذا سئلوا عنه بقوله: {فسيقولون الله} أي مسمى هذا الاسم الذي له الكمال كله بالحياة والقيومية بخلاف ما سيأتي من الإعادة والهداية {فقل} أي فتسبب عن ذلك أنا نقول لك: قل لهم مسبباً عن جوابهم هذا الإنكار عليهم في عدم التقوى: {أفلا تتقون} أي تجعلون وقاية بينكم وبين عقابه على اعترافكم بتوحده في ربوبيته وإشراككم غيره في إلهيته؛ ثم علل إنكار عدم تقواهم بقوله: {فذلكم} أي العظيم الشأن {الله} أي الذي له الجلال والإكرام، فكانت هذه قدرته وأفعاله {ربكم} أي الموجد لكم المدبر لأموركم الذي لا إحسان(9/113)
عندكم لغيره {الحق} أي الثابته ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لاجتماع الصفات الماضية له لا لغيره لأنه لا تكون الربوبية حقيقة لمن لم تجتمع له تلك الصفات {فما} أي فتسبب عن ذلك أن يقال لكم: ما {ذا بعد الحق} أي الذي له أكمل الثبات {إلاّ الضلال} فإنه لا واسطة بينهما - بما أنبأ عنه إسقاط الجار، ولا يعدل عاقل عن الحق إلى الضلال فانّى تصرفون أنتم عن الحق إلى الضلال؛ ولذلك سبب عنه قوله: {فأنى} أي فكيف ومن أيّ جهة {تصرفون} أي أنتم من صارف ما كائناً ما كان، عن الحق إلى الضلال.
ولما كانوا جديرين عند تقريرهم بهذه الآية وإقرارهم بمضمونها بأن يقولوا: سلمنا فأسلمنا ولا نصرف عن الحق أبداً، فلم يقولوا، كانوا حقيقين بأن يقال لهم: حقت عليكم كلمة الله لفسقكم وزوغانكم عن الحق. فقيل: هل خصوا بذلك؟ فقيل: بل {كذلك} أي مثل ذلك الحقوق العظيم {حقت كلمت ربك} أي المحسن إليك بإهلاك أعدائك: الكلمة الواحدة النافذة التي لا تردد فيها، ومعنى الجمع في قراءة نافع وابن عامر أنه لا شيء من كلماته يناقض الكلمة التي أوجبت عذابهم، بل كلها توافقها فالمراد واحد، أو يكون ذلك كناية عن أن عذابهم دائم فإن كلماته لا تنفذ {على} كل {الذين} فعلوا فعلهم لأنهم {فسقوا} أي أوقعوا الترك لأمر الله وأوجدوا عصيانه وفعلوا الخروج عن طريق الحق والخروج عن دائرة الصلاح، وهو كونهم أمة واحدة إلى دين أبيهم آدم صَفيُ الله عليه السلام؛(9/114)
ثم علل ذلك الحقوق بقوله: {أنهم لا يؤمنون*} أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً، وعبر بالفسق المراد به الكفر لأن السياق للخروج عن دائرة الدين الحق في قوله {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} وهذا المعنى أحق بالتعبير للفسق الذي أصله الخروج عن محيط في قولهم: فسقت الرطبة عن قشرها - أي خرجت، أو يكون المعنى: حقت الربوبية له سبحانه بهذا الليل، وهو فعل هذه الأمور المختتمة بالتدبير المقتضي للوحدانية له سبحانه قطعاً لأنه لو كان قادر يساويه في مقدوره لأمكن أن يمانعه، وبطل أن يكون قادراً، وحق أن من زاغ عن الحق كان في الضلال كما حق هذا {كذلك حقت} أي ثبتت ثباتاً عظيماً {كلمت ربك على} كل {الذين} قضى بفسقهم منهم. و {أنهم لا يؤمنون} تفسير لكلمته التي حقت؛ والرزق: جعل العطاء الجاري.(9/115)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
ولما علم أنهم معترفون بأمر الهداية وما يتبعها من الرزق والتدبير أعاد سبحانه السؤال عنها مقرونة بالإعادة تنبيهاً لهم على ما يتعارفونه من أن الإعادة أهون، فإنكارها مع ذلك إما جمود أو عناد، وإنكار المسلمات كلها هكذا، وسوقه على الطريق الاستفهام أبلغ وأوقع في القلب فقال: {قل} أي على سبيل الإنكار عليهم(9/115)
والتوبيخ لهم {هل من شركائكم} أي الذين زعمتموهم شركاء لي وأشركتموهم في أموالكم من أنعامكم وزروعكم {من يبدأ الخلق} كما بدأته ليصح لهم ما ادعيتم من الشركة {ثم يعيده} .
ولما كان الجواب قطعاً من غير توقف. ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك، وكان لجاجهم في إنكار الإعادة وعنادهم لا يدعهم انة يجيبوا بالحق، أمره بجوابهم بقوله: {قل الله} أي الذي له الأمر كله {يبدأ الخلق} أي مهما أراد {ثم يعيده} وأتى هنا بجزئي الاستفهام وكذا ما يأتي في السؤال عن الهداية تأكيداً للأمر بخلاف ما اعترفوا به، فإنه اكتفى فيه بأحد الجزأين في قوله {فسيقولون الله} ولم يقل: يرزقنا - إلى آخره؛ ثم زاد في تبكيتهم على عدم الإذعان لذلك بالتعجيب منهم في قوله: {فأنى تؤفكون*} أي كيف ومن أي جهة تصرفون بأقبح الكذب عن وجه الصواب من صارف ما، وقد استنارت جميع الجهات، ورتب هذه الجمل أحسن ترتيب، وذلك أنه سألهم أولاً عن سبب دوام حياتهم وكمالها بالرزق والسمع والبصر وعن بدء الخلق في إخراج الحي من الميت وما بعده، وكل ذلك تنبيهاً على النظر في أحوال أنفسهم مرتباً على الأوضح فالأوضح، فلما اعترفوا به كله أعاد السؤال عن بدء الخلق ليقرن به الإعادة تنبيهاً على أنهما بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، فلما فرغ مما يتعلق بأحوال(9/116)
الجسد أمره أن يسألهم عن غاية ذلك، والمقصود منه من أحوال الروح في الهداية التي في سبب السعادة إمعاناً في الاستدلال بالمصنوع على الصانع على وجه مشير إلى التفضيل فقال: {قل} أي يا أفهم العباد وأعرفهم بالمعبود {هل من شركائكم} أي الذين زعمتم أنهم شركاء لله، فلم تكن شركتهم إلا لكم لأنكم جعلتم لهم حظاً من أموالكم وأولادكم {من يهدي} أي بالبيان أو التوفيق ولو بعد حين {إلى الحق} فضلاً عن أن يهدي للحق على أقرب ما يكون من الوجود إعلاماً.
ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين، أمره أن يجيبهم معرضاً عن انتظار جوابهم آتياً بجزئي الاستفهام أيضاً فقال: {قل الله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {يهدي} ولما كان قادراً على غاية الإسراع، عبر باللام فقال: {للحق} إن أراد، ويهدي إلى الحق من يشاء، لا أحد ممن زعموهم شركاء، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض واختلال في المزاج كبير، فالآية من الاحتباك: ذكر {إلى الحق} أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، و {للحق} ثانياً دليلاً على حذفه أولاً، فتسبب عن ذلك إنكار أتباعهم لهم فقال: {أفمن يهدي} أي منتهياً في هداه ولو على بعد {إلى الحق} أي الكامل الذي لا زيغ فيه بوجه ولو على أبعد الوجوه(9/117)
{أحق أن يتبع} أي بغاية الجهد {أم من لا يهدي} أي يهتدي فضلاً عن أن يهدي غيره إلى شيء من الأشياء أصلاً ورأساً؛ وإدغام تاء الافتعال للإيماء إلى انتفاء جميع أسباب الهداية حتى أدانيها، فإن التاء عند أرباب القلوب معناها انتهاء التسبب إلى أدناه {إلا أن يهدى} أي يهديه هاد غيره كائناً من كان، وهذا يعم كل ما عبد من دون الله من يعقل وممن لا يعقل؛ فلما أتم ذلك على هذا النهج القويم كان كأنه قيل: أتجيبون أم تسكتون؟ وإذا أجبتم أتؤثرون الحق فترجعوا عن الضلال أم تعاندون، تسبب عن ذلك سؤالهم عى وجه التوبيخ بقوله: {فما} اي أيّ شيء ثبت {لكم} في فعل غير الحق من كلام أو سكوت؛ ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال: {كيف تحكمون*} فيما سألناكم عنه مما لا ينبغي أن يخفى على عاقل، أبالباطل أم بالحق؟ فقد تبين الرشد من الغي؛ والبدء: العقل الأول؛ والإعادة: إيجاد الشيء ثانياً؛ والهداية: التعريف بطريق الرشد من الغي.
ولما أخبر بإقرارهم عن بعض ما يسألون عنه ثم عقبه بما لوح إلى إنكارهم أو سكوتهم عن بعضه مما يتعلق بشركائهم، عطف على ما صرح به من قولهم {فسيقولون} وما لوح إليه من «فسينكرون» أو «فسيسكتون» قوله: {وما يتبع} أي بغاية الجهد {أكثرهم} أي نطقه أو سكوته في عبادته للأصنام وقوله: إنها شفعاء، وغير ذلك(9/118)
{إلا ظناً} تنبيهاً على أنهم إنما هم مقلدون وتابعون للأهواء.
ولما كان الظن لا ينكر استعماله في الشرائع، نبه على أن محله إنما هو حيث لا يوجد نص على المقصود، فيقاس حينئذ على النصوص بطريقة، وأما إذا وجد القاطع في حكم فإنه لا يجوز العدول عنه بوجه من الوجوه فقال تعالى في جواب من يقول: أو ليس الظن مستعملاً في كثير من الأحكام؟ : {إن الظن لا يغني} أي أصلاً {من الحق} أي الكامل {شيئاً} أي بدله، ولايكون بدل الحق إلا إذا كان تابعه مخالفاً فيه لقاطع يعمله.
ولما صار ظهور الفرق ضرورياً، أوقع تهديد المتمادي في غيه في جواب من كأنه قال: إن ذلك غير خفي عنهم ولكنهم يستكبرون فلا يرجعون، فقال: {إن الله} أي المحيط بكل شيء {عليم} أي بالغ العلم {بما يفعلون*} فاصبر فلسوف يعملون.(9/119)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
ولما قدم في هذه السورة قولهم {لولا أنزل عليه آية من ربه} وأتى فيها رداً عليهم ووعظاً لهم من الآيات البالغة في الحكمة جداً يتجاوز قوى البشر ويضمحل دونه من الخلق القدر، وكان آخر ذلك التنبيه على أن شركاءهم لا يهتدون إلا أن هداهم الهادي فضلاً عن أن يهدوا، وإقامة الدليل على أن مذاهبهم ليست مستندة إلى علم بل هى تابعة للهوى، أتبع ذلك دليلاً قطعياً في أمر القرآن من أنه لا يصح أصلاً أن يؤتى به من دون أمره سبحانه رداً لقولهم: إنه مفترى، لأنه(9/119)
من وادي ما ختم به هذه الآيات من اتباعهم للظنون لأنه لا سند لهم في ذلك بل ولا شبهة أصلاً، وإنما هو مجرد هوى بل وأكثرهم عالم بالحق في أمره، فنفى ذلك بما يزيح الظنون ويدمغ الخصوم ولا يدع شبهة لمفتون، وأثبت أنه هو الآية الكبرى والحقيق بالاتباع لأنه هدى، فقال تعالى: {وما كان} عاطفاً له على قوله {ما يكون لي أن أبدله} إلى آخره، فهو حينئذ مقول القول، أي قل لهم ذاك الكلام وقل لهم {ما كان} أي قط بوجه من الوجوه، وعينه تعييناً لا يمكن معه لبس، فقال: {هذا القرآن} أي الجامع لكل خير مع التأدية بأساليب الحكمة المعجزة لجميع الخلق {أن يفترى} أي أن يقع في وقت من الأوقات تعمد نسبته كذباً إلى الله من أحد من الخلق كائناً من كان؛ وعرف بتضاؤل رتبتهم دون شامخ رتبته سبحانه بقوله: {من دون الله} أي الذي تقرر أنه يدبر الأمر كله، فما من شفيع إلا من بعد إذنه وما يعزب عنه شيء فسبحان المتفضل على عباده بإيضاح الحجج وإزالة الشكوك والدعاء إلى سبيل الرشاد مع غناه عنهم وقدرته عليهم؛ والافتراء: الإخبار على القطع بالكذب، لأنه من فرى الأديم وهو قطعه بعد تفزيره.
ولما كان إتيان الأمي - الذي لم يجالس عالماً - بالأخبار والقصص الماضية على التحرير دليلاً قطعاً على صدق الآتي في ادعائه أنه لا معلم(9/120)
له إلا الله، عبر بأداة العناد فقال: {ولكن} أي كان كوناً لا يجوز غيره {تصديق الذي} أي تقدم {بين يديه} أي قبله من الكتب، والدليل على تصادقه شاهد الوجود مع أن القوم كانوا في غاية العدواة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أهل الكتابين عندهم في جزيرة العرب على غاية القرب منهم مع أنهم كانوا يتجرون إلى بلاد الشام وهم متمكنون من السؤال عن كل ما يأتي به، فلو وجدوا مغمزاً ما لقدحوا به، فدل عدم قدحهم على التصادق قطعاً.
ولما كان ذلك سلطاناً قاهراً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زاده ظهوراً بما اشتمل الكتاب الآتي به عليه من التفصيل الذي هو نهاية العلم فقال: {وتفصيل الكتاب} أي الجامع المجموع فيه الحكم والأحكام وجوامع الكلام من جميع الكتب السماوية في بيان مجملاتها وإيضاح مشكلاتها، فهو ناظر إلى قوله {أفمن يهدي إلى الحق} ، فهو برهان على أنه هو الهادي وحده، فهو الحقيق بالاتباع والتفصيل بتبيين الفصل بين المعاني الملتبسة حتى تظهر كل معنى على حقه، ونظيره التقسيم، ونقضيه التخليط والتلبيس، وبيان تفصيله أنه أتى من العلوم العلمية الاعتقادية من معرفة الذات والصفات بأقسامها، والعملية التكليفية المتعلقة بالظاهر وهي علم الفقه وعلم الباطن ورياضة النفوس بما لا مزيد عليه ولا يدانيه فيه كتاب، وعلم الأخلاق كثير في القرآن مثل(9/121)
{خذ العفو} [الأعراف: 199] {إن الله يأمر بالعدل} [النحل: 90] وأمثالهما.
ولما كان - مع الشهادة بالصدق بتصديق ما ثبت حقيقة - معجزاً بالجمع والتفصيل لجميع العلوم الشريفة: عقليها ونقليها إعجازاً لم يثبت لغيره، ثبت أنه مناقض للافتراء حال كونه {لا ريب فيه} وأنه {من رب العالمين*} أي موجدهم ومدبر أمرهم والمحسن إليهم لأنه - مع الجمع لجميع ذلك - لا اختلاف فيه بوجه، وذلك خارج عن طوق البشر.
ولما كان هذا موضع أن يذعنوا لأن هذا القرآن ليس إلا من عند الله وبأمره قطعاً، كان كأنه قيل: ارجعوا عن غيهم فآمنوا واستقاموا {أم} استمروا على ضلالهم {يقولون} على سبيل التجديد والاستمرار عناداً {افتراه} أي تعمد نسبته كذباً إلى الله، فكأنه قيل، تمادوا على عتوهم فقالوا ذلك فكانوا كالباحث عن حتفه بظلفه، لأنهم أصلوا أصلاً فاسداً لزم عليه قطعاً إمكان أن يأتوا بمثله لأنهم عرب مثله، بل منهم من قرأ وكتب وخالط العلماء واشتد اعتناءه بأنواع البلاغة من النظم والنثر والخطب وتمرنه فيها بخلافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع ذلك، فلهذا أمره في جوابهم بقوله {قل} أي لهم يا أبلغ خلقنا وأعرفهم بمواقع الكلام لجميع أنواعه، أتى بالفاء(9/122)
السببية في قوله: {فأتوا} أي أنتم تصديقاً لقولكم هذا الذي تبين وأنكم فيه معاندون؛ ولما كانوا قد جزموا في هذه السورة بأنه افتراه، وكان مفصلاً إلى سور كل واحدة منها لها مقصد معين يستدل فيها عليه، وتكون خاتمتها مرتبطة بفاتحتها متحدة بها، اكتفى في تحديهم بالإتيان بقطعة واحدة غير مفصلة إلى مثل سورة لكن تكون مثل جميع القرآن في الطول والبيان وانتظام العبارة والتئام المعاني فلذلك قال: {بسورة} قال الرماني: والسورة منزلة محيطة بآيات من أجل الفاتحة والخاتمة كإحاطة سور البناء، وهذا نظراً إلى أن المتحدي به سورة اصطلاحية والصواب أنها لغوية، وهي كما قال الحرالي تمام جملة من المسموع تحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدنية؛ ووصفها بقوله: {مثله} أي قي البلاغة وحسن النظم وصحة المعاني ومصادقة الكتب وتفصيل العلوم لأنكم مثلي في العربية وتزيدون بالكتابة ومخالطة العلماء - من غير إتيان ب «من» لما تقدم من أن المراد كونها مثل القرآن كله، ولذلك وسع لهم في الاستعانة بجميع من قدروا عليه ووصلت طاقتهم إليه ولم يقصرهم على من بحضرتهم فقال: {وادعوا} أي لمعاونتكم {من استطعتم} أي قدرتم على طاعته ولو ببذل الجهد من الجن والإنس وغيرهم للمعاونة، وحقق أن هذا القرآن من عنده سبحانه(9/123)
باستثنائه في قوله: {من دون الله} أي الذي له الكمال كله، ونبه على أنهم متعمدون لما نسبوه إليه - وحاشاه من تعمد الكذب - وأنهم معاندون بقوله: {إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {صادقين*} أي في أنه أتى به من عنده، لأن العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج، وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر، وقد مضى في البقرة ويأتي في هود إن شاء الله تعالى ما يوضح هذا المعنى؛ والاستطاعة: حالة تتطاوع بها الجروح والقوى للفعل لأنه مأخوذ من الطوع؛ ثم كان كأنه قيل: فقال لهم ذلك فلم يأتوا لقومهم بشبهة توجب شكاً فضلاً عن مصدق، لأنه معجز لكونه كلاماً في أعلى طبقات البلاغة بحسن النظام والجزالة منزلاً من عند الله المحيط علماً وقدرة، فهو مشتمل من كل معنى على ما علا كل العلو عن مدان {بل} .
وأحسن من ذلك أنه لما أقام الدليل على أن القرآن كلامه، وكان الدليل إنما من شأنه أن يقام على من عرض له غلط أو شبهة، وكان قولهم {افتراه} لا عن شبهة وإنما هو مجرد عناد، نبه سبحانه على ذلك وعلى أنه إنما أقام الدليل لإظهار عنادهم لا لأن عندهم شبهة في كونه حقاً بالإضراب عن قولهم فقال: {بل} أي لم يقولوا {افتراه} عن اعتقاد منهم لذلك بل {كذبوا} أي أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك من غير أن يتفهموه مستهينين {بما لم يحيطوا بعلمه} اي في نظمه أو معناه من غير شبهة أصلاً بل(9/124)
عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم وشراداً، فهو من باب «من جهل شيئاً عاداه» والإحاطة: إرادة ما هو كالحائط حول الشيء، فإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه.
ولما كان لا بد من وقوع تأويله، وهو إتيان ما فيه من الإخبار بالمغيبات على ما هي عليه، قال: {ولما يأتهم} أي إلى زمن تكذيبهم {تأويله} أي ترجيعنا لأخباره إلى مراجعها وغاياتها حتى يعلموا أصدق هي أم كذب، فإنه معجز من جهة نظمه ومن جهة صدقه في أخباره؛ والتأويل: المعنى الذي يؤول إليه التفسير، وهو منتهى التصريح من التضمين.
ولما كان كأنه قيل: إن فعلهم هذا لعجب، فما حملهم على التمادي فيه؟ فقيل: تبعوا في ذلك من قبلهم لموافقتهم في سوء الطبع، قال مهدداً لهم ومسلياً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كذلك} أي مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبير المعجز {كذب الذين} ولما كان المكذبون بعض السالفين، أثبت الجار فقال: {من قبلهم} أي من كفار الأمم الخالية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم؛ ولما كان التكذيب خطراً لما يثير من السرور، سبب عنه - تحذيراً منه - النظر في عاقبة أمره فقال: {فانظر} أي بعينك ديارهم وبقلبك أخبارهم.
ولما كان من نظر هذا النظر وجد فيه أجل معتبر وأعلى مزدجر، وجه السؤال إليه بقوله: {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {الظالمين*}(9/125)
أي الذين رسخت أقدامهم في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى كذبوا من لا يجوز عليه الكذب بوجه، ومن المقطوع به أن هذا المسؤول يقول من غير تعلثم ولا تردد: عاقبة وخيمة قاصمة ذميمة؛ والعاقبة سبب تؤدي إليه البادئة، فالذي أدى إلى إلى هلاكهم بعذاب الاستئصال ما تقدم من ظلمهم لأنفسهم وعتوهم في كفرهم.
ولما ذكر سبحانه تكذيبهم، كان ذلك ربما أيأس من إذعانهم وتصديقهم، وآذن باستئصالهم لتكمل المشابهة للأولين، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد الشفقة عليهم والحرص على إيمانهم، فأتبعه تعالى بقوله بياناً لأن علمه بانقسامهم أوجب عدم استئصالهم عاطفاً على {كذبوا} : {ومنهم} أي قومك {من يؤمن به} أي في المستقبل {ومنهم من لا يؤمن به} أي القرآن أصلاً ولو رأى كل آية {وربك} أي المحسن إليك بالرفق بأمتك {أعلم بالمفسدين*} أي الذين هم عريقون في الإفساد فسيعاملهم بما يشفي صدرك.(9/126)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
ولما قسمتهم هذه الآية قسمين، وتليت بذكر القسم الثاني بالواو، عرف أنه معطوف على مطوى القسم الأول، فكان كأنه قيل: فإن صدقوك فقل: الله ولي هدايتكم ولي مثل أجوركم بنسبتي فيها فضلاً من ربي: {وإن كذبوك فقل} أي قول منصف معتمد على قادر عالم {لي علمي} بالإيمان والطاعة {ولكم عملكم}(9/126)
ما لأحد من ولا عليه من جزاء الآخر شيء؛ ثم صرح بالمقصود من ذلك بقوله محذراً لهم: {أنتم بريئون مما أعمل} أي فإن كان خيراً لم يكن لكم منه شيء وإن كان غيره لم يكن عليكم منه شيء {وأنا بريء مما تعملون*} لا جناح عليّ في شيء منه لأني لا أقدر على ردكم عنه؛ والبراءة: قطع العلقة الذي يوجب رفع المطالبة، ولا حاجة إلى ادعاء نسخ هذه الآية بآية السيف، فإنه لا منافاة بينهما، لأن هذه في رفع لحاق الإثم وهو لا ينافي الجهاد.
ولما قسمهم إلى هذين القسمين، قسم القسم الأخير إلى قسمين فقال: {ومنهم} أي المكذبين {من} ولما كان المستمع إليه أكثر لأنهم أشهى الناس إلى تعرف حاله، وكان طريق ذلك السمع والبصر، وكان تحديق العين إليه لا يخفى، فكان أكثرهم يتركه إظهاراً لبغضه وخوفاً من إنكار من يراه عليه، وكان إلقاء السمع بغاية الجهد يمكن إخفاءه بخلاف الإبصار، عبر هنا بالافتعال، وجمع دالاً على كثرتهم نظراً إلى معنى «من» وأفرد في النظر اعتباراً للفظها ودالاً على قلة الناظر بما ذكر فقال: {يستمعون} وضمن الاستماع الإصغاء ليؤدي مؤدي الفعلين، ودل على الإصغاء بصلته معلقة بحال انتزعت منه فكأنه: قال مصغين {إليك} أي عند قراءة القرآن وبيانه بالسنة، ولكنهم وإن كانوا قسمين بالنسبة إلى الاستماع والنظر فهم(9/127)
قسم واحد بالنسبة إلى الضلال، فكان تعقيب ذلك بحشرهم بعد قصر الهداية عليه سبحانه كذكر حشرهم فيما مضى تقسيمهم إلى قسمين بعد قوله {ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} .
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد - بإسماعه لهم ما أنزل الله - هدايتهم به، سبب عن استماعهم إنكار إسماعهم الإسماع المترتب عليه الهدى فقال: {أفأنت} أي وحدك {تسمع الصم} أي في آذان قلوبهم لأنهم يستمعون إليك وقد ختم على أسماعهم فهم لا ينتفعون باستماعهم لأنهم يطلبون السمع للرد لا للفهم؛ والسمع إدراك الشيء بما يكون به مسموعاً، فكانوا بعدم انتفاعهم كأنهم هم مجانين، لأن الأصم العاقل ربما فهم بالتفرس في تحريك الشفاه وغيرها فلذا قال: {ولو كانوا} أي جبلة وطبعاً {لا يعقلون*} أي لا يتجدد لهم عقل أصلاً فصاروا بحيث لا يمكن إسماعهم لأنه لا يمكن إلا بسماع الصوت الدال على المعنى وبفهم المعنى، والمانع من الأول الصمم، ومن الثاني عدم العقل، فصاروا شراً من البهائم لأنها وإن كانت لا تعقل فهي تسمع، والأصم: المنسد السمع بما يمنع من إدراك الصوت {ومنهم من ينظر} محدقاً أو رامياً ببصره من بعيد {إليك} فهو من التضمين كما سبق في {يستمعون} ؛ نقل عن التفتازاني أنه قال في حاشية الكشاف: وحقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه(9/128)
وهو كثير في كلام العرب، وذلك مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، ويتعين جعل الفعل المذكرو أصلاً والمذكور حاله تبعاً، لأن حذفه والدلالة عليه بصلته يدل على اعتباره في الجملة لا على زيادة القصد إليه، ومن أمثلته: أحمد إليك الله، أي منهياً إليك حمده، ويقلب كفيه على كذا، أي نادماً عليه،
{ولا تعد عيناك عنهم} [الكهف: 28] أي مجاوزتين عنهم إلى غيرهم، {ولا تأكلوا أموالهم} -ضاميها {إلى أموالكم} [النساء: 2] ، {الرفث - مفضين - إلى نسائكم} [البقرة: 187] ، {ولا تعزموا} [البقرة: 235] أي على النكاح وأنتم تنوون عقدته {ولا يسمعون} مصغين {إلى الملإ الأعلى} [الصافات: 8] ، سمع الله - أي مستجيباً - لمن حمده، {والله يعلم المفسد} [البقرة: 220] مميزاً له - {من المصلح} ، {والذين يؤلون} - ممتنعين {من} وطء {نسائهم} [البقرة: 226] .
ولما كان المعنى أنك يا أكرم الخلق تريد بنظر هذا الناظر إليك ان ينظر إلى ما تأتي به من باهر الآيات فيهتدي وهو غير منتفع بنظره لما جعل عليه من الغشاوة فكان كالأعمى الذي زاد على عدم بصره عدم العقل فلا بصر ولا بصيرة، قال منكراً لذلك: {أفأنت تهدي العمي}(9/129)
أي عيوناً وقلوباً {ولو كانوا} أي بما جبلوا عليه {لا يبصرون*} أي لا يتجدد لهم بصر ولا بصيرة، فلا تمكن هدايتهم، لأن هداية الطريق الحسي لا تمكن إلا بالبصر، وهداية الطريق المعنوي لا تمكن إلا بالبصيرة؛ والنظر: طلب الرؤية بتقليب البصر، ونظر القلب طلب العلم بالفكر؛ والعمى: آفة تمنع الرؤية عن العين والقلب؛ والإبصار: إدراك الشيء بما به يكون مبصراً، فكأنه قيل: ما له فعل بهم هذا والأمر بيده؟ فقيل: لأنه تام المُلك والمِلك وهو متفضل في جميع نعمة لا يجب عليه لأحد شيء فهو لا يسأل عما يفعل، وبنى عليه قوله: {إن الله} وأحسن منه أن يقال: ولما كان التقدير: إذا علمت ذلك فخفف عنك بعض ما أنت فيه، فإنك لا تقدر على إسماعهم ولا هدايتهم لأن الله تعالى أراد ما هم عليه منهم لاستحقاقهم ذلك لظلمهم أنفسهم، علله بقوله: {إن الله} أي المحيط بجميع الكمال {لا يظلم الناس شيئاً} وإن كان هو الذي جبلهم على الشر {ولكن الناس} أي لما عندهم من شدة الاضطراب والتقلب {أنفسهم} أي خاصة {يظلمون*} بحملهم لها على الشر وصرف قواهم فيه باختيارهم مع زجرهم عن ذلك وحجبهم عما جبلوا عليه وإن كان الكل بيده سبحانه ولا يكون إلا بخلقه.(9/130)
ولما كان في هذه الآيات ما ذكر من أفانين جدالهم في أباطيلهم وضلالهم، وكان فعل ذلك - ممن لا يرى حشراً ولا جزاء ولا نعيماً وراء نعيم هذه الدار - فعل فارغ السر مستطيل للزمان آمن من نوازل الحدثان، حسن تعقيبه بأنهم يرون يوم الحشر من الأهوال ما يستقصرون معه مدة لبثهم في الدنيا، فقد خسروا إذن دنياهم بالنزاع، وآخرتهم بالعذاب الذي لا يستطاع، وليس له انقطاع، فقال تعالى مهدداً لهؤلاء الكفار الذين يعاندون فلا يسمعون ولا يبصرون عاطفاً على {ويوم نحشرهم} الأولى: {ويوم يحشرهم} أي واستقصروا مدة لبثهم في الدنيا يوم الحشر لما يستقبلهم من الأهوال والزلازل الطوال، فكأنه قيل: إلى أي غاية؟ فقيل: {كأن} أي كأنهم {لم يلبثوا} في دنياهم، والجملة في موضع الحال من ضمير {يحشرهم} البارز أي مشبهين بمن لم يلبثوا {إلا ساعة} أي حقيرة {من النهار} وقوله: {يتعارفون بينهم} حال ثانية، أي لم يفدهم تلك الساعة أكثر من أن عرف فيها بعضهم بعضاً ليزدادوا بذلك حسرة في ذلك اليوم بعدم القدرة على التناصر والتعاون والتظافر كما كانوا يفعلون في الدنيا.
ولما كانت حالهم هذه هي الخسارة التي ليس معها تجارة، فكان السامع متوقعاً للخبر عنها، قال متعجباً منهم موضع: ما أخسرهم:(9/131)
{قد خسر} أي حقاً {الذين كذبوا} أظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف مستهينين {بلقاء الله} أي الملك الأعلى بما أخذوا من الدنيا من الخسيس الفاني وتركوا مما كشف لهم عنه البعث من النعيم الشريف الباقي؛ ولما كان الذي وقع منه تكذيب مرة في الدهر قد يفيق بعد ذلك فيهتدي، قال عاطفاً على الصلة: {وما كانوا} أي جبلة وطبعاً {مهتدين*} مشيراً إلى تسفيههم فيما يدعون البصر فيه من أمر المتجر والمعرفة بأنواع الهداية.(9/132)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
ولما كان إخبار الصادق بهلاك الأعداء مقراً لعين، وكانت مشاهدة هلاكهم أقر لها، عطف على قوله {قد خسر} : {وإما نرينك} أي إراءة عظيمة قبل وفاتك {بعض الذي نعدهم} أي في الدنيا بما لنا من العظمة فهو أقر لعينك {أو نتوفينك} قبل ذلك {فإلينا مرجعهم} فنريك فيما هنالك ما هو أقر لعينك وأسر لقلبك، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً الإراءة دليلاً على حذفها ثانياً، والوفاة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً؛ و «ثم» في قوله: {ثم الله} أي المحيط بكل شيء {شهيد} أي بالغ الشهادة {على ما يفعلون*} في الدارين - يمكن أن يكون على بابها، فتكون مشيرة إلى التراخي بين ابتداء رجوعهم بالموت وآخره بالقيامة، ليس المراد بقوله {شهيد} ظاهره، بل العذاب الناشىء عن الشهادة في الآخرة إلى أن الله يعاقبهم بعد مرجعهم، فيريك ما بعدهم لأنه عالم بما يفعلون.(9/132)
ولما كان في هذه الآية التهديد بالعذاب إما في الدنيا أو في الآخرة غير معين له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدةً منهما، أتبعها بما هو صالح للأمرين بالنسبة إلى كل رسول إشارة إلى أن أحوال الأمم على غير نظام فلذلك لم يجزم بتعيين واحدة من الدارين للجزاء، وجعل الأمر منوطاً بالقسط، ففي أي دار أحكم جعله فيها، فقال تعالى: دالاً على أنه نشر ذكر الإسلام وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر من عهد آدم عليه السلام إلى آخر الدهر على وجه لم يحصل له اندراس في دهر من الدهور، فمن تركه استحق العذاب سواء كان ممن بين عيسى ومحمد عليهما السلام أم لا، فلا تغتر بما يقال من غير هذا: {ولكل أمة} أي من الأمم التي خلت قبلك {رسول} يدعوهم إلى الله؛ ثم سبب عن إتيان رسولهم بيان القضاء فيهم فقال: {فإذا جاء} أي إليهم {رسولهم} في الدنيا بالبينات والهدى؛ وفي الآخرة في الموقف بالإخبار بما صنعوا به في الدنيا من تكذيب أو تصديق {قضي بينهم} أي في جميع الأمور بما أفاده نزع الخافض على أسهل وجه من غير شك بما أفاده البناء للمفعول؛ ولما كان السياق بالترهيب أجدر، قال {بالقسط} أي أظهر خفياً من استحقاقهم في القضاء بالعدل والقسمة المنصفة بينهم كلهم بالسوية فأعطى كل أحد منهم مقدار ما يخصه من تعجيل العذاب وتأخيره كما فعل معك؛ ولما كان ذلك لا يستلزم الدوام، قال: {وهم لا يظلمون*}(9/133)
أي لا يتجدد لهم ظلم منه سبحانه ولا من غيره.
ولما تقدم في هذه الآيات تهديدهم بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة، حكى سبحانه جوابهم عن ذلك عطفاً على قوله: {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه} فقال: {ويقولون} أي هؤلاء المشركون مجددين لهذا القول مستمرين على ذلك استهزاء: {متى هذا الوعد} أي بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة، وألهبوا وهيجوا بقولهم: {إن كنتم} أي أنت ومن قال بقولك {صادقين*} والقول كلام مضمن في ذكره بالحكاية وقد يكون كلام لا يعبر عنه فلا يكون له ذكر مضمن بالحكاية، فلا يكون قولاً لأنه إنما يكون قولاً من أجل تضمن ذكره بالحكاية - قاله الرماني، ولتضمين جعل الشيء في وعاء؛ والوعد: خبر بما يعطي من الخير، والوعيد: خبر بما يعطى من الشر، وقد يراد الإجمال كما هنا فيطلق الوعد على المعنيين: وعد المحسن بالثواب والمسيء بالعقاب؛ والصدق: الخبر عن الشيء على ما هو به؛ والكذب: الخبر عنه على خلاف ما هو به.
ولما تضمن قولهم هذا استعجاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يتوعدهم به، أمره بأن يتبرأ من القدرة على شيء لم يقدره الله عليه بقوله: {قل} أي لقومك المستهزئين {لا أملك لنفسي} فضلاً عن غيري؛ ولما كان السياق للنقمة، قدم الضر منبهاً على أن نعمه أكثر من نقمة؛(9/134)
وأنهم في نعمه، عليهم أن يقيدوها بالشكر خوفاً من زوالها فضلاً عن أن يتمنوه فقال: {ضراً ولا نفعاً} .
ولما كان من المشاهد أن كل حيوان يتصرف في نفسه وغيره ببعض ذلك قال: {إلا ما شاء الله} أي المحيط علماً وقدرة أن أملكه من ذلك، فكأنه قيل: فما لك لا تدعوه بأن يشاء ذلك ويقدرك عليه؟ فقيل: {لكل أمة أجل} فكأنه قيل: وماذا يكون فيه؟ فقيل: {إذا جاء أجلهم} هلكوا؛ ولما كان قطع رجائهم من الفسحة في الأجل من أشد عذابهم، قدم قوله: {فلا يستأخرون} أي عنه {ساعة} ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها {ولا يستقدمون*} فلا تستعجلوه فإن الوفاء بالوعد لا بد منه. والسين فيهما بمعنى الوجدان، أي لا يوجد لهم المعنى الذي صيغ منه الفعل مثل: استشكل الشيء واستثقله، ويجوز كون المعنى: لا يوجدون التأخر ولا التقدم وإن اجتهدوا في الطلب، فيكون في السين معنى الطلب والملك قوة يتمكن بها من تصريف الشيء أتم تصريف، والنفع: إيجاب اللذة بفعلها والتسبب المؤدي إليها؛ والضر: إيجاب الألم بفعله أو التسبب إليه؛ والأجل: الوقت المضروب لوقوع أمر.(9/135)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
ولما كان جل قصدهم بذلك الاستهزاء، وكان وقوعه أمراً ممكناً، وكان من شأن العاقل أن يبعد عن كل خطر ممكن، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(9/135)
بجواب آخر حذف منه واو العطف لئلا يظن أنه لا يكفي في كونه جواباً إلا بضمنه إلى ما عطف عليه فقال: {قل} أي لمن استبطأ وعيدنا بالعذاب في الدنيا أو في الأخرى، وهو لا يكون إلا بعد الأخذ في الدنيا إعلاماً بأن الذي يطلبونه ضرر لهم محض لا نفع فيه بوجه، فهو مما لا يتوجه إليه قصد عاقل {أرءيتم} وهي من رؤية القلب لأنها دخلت على الجملة من الاستفهام {إن أتاكم عذابه} في الدنيا.
ولما كان أخذ الليل أنكى وأسرع، قدمه فقال: {بياتاً} أي في الليل بغتة وأنتم نائمون كما يفعل العدو؛ ولما كان الظفر ليلاً لا يستلزم الظفر نهاراً مجاهرة قال: {أو نهاراً} أي مكاشفة وأنتم مستيقظون، أتستمرون على عنادكم فلا تؤمنوا؟ فكأنهم قالوا: لا، فليجعل به ليرى، فقيل: إنكم لا تدرون ما تطلبون! إنه لا لمخلوق بنوع منه، ولا يجترىء على مثل هذا الكلام إلا مجرم {ماذا} أي ما الذي؟ ويجوز أن يكون هذا جواب الشرط {يستعجل} أي يطلب العجله {منه} أي من عذابه، وعذابه كله مكروه لا يحتمل شيء منه {المجرمون*} إذ سنة الله قد استمرت بأن المكذب لا يثبت إلا عند مخايله، وأما إذا برك بكلكه وأناخ بثقله فإنه يؤمن حيث لا ينفعه الإيمان {ولن تجد لسنةِ الله تحويلاً} [فاطر: 43] وهذا معنى التراخي في قوله: {أثُمَّ إذا ما وقع}(9/136)
أي عذابه وانتفى كل ما يضاده {آمنتم به} وذلك أنه كانت عادتهم كمن قبلهم الاستعجال بالعذاب عند التوعد به، وكانت سنة الله قد جرت بأن المكذبين إذا أتاهم العذاب يتراخى إيمانهم بعد مجىء مقدماته وقبل اجتثاثهم بعظائم صدماته لشدة معاندتهم فيه وتوطنهم عليه كما وقع للأولين من الأمم بغياً وعتواً كقوم صالح لما تغيرت وجوههم بألوان مختلفة في اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث وأيقنوا بالهلكة وودع بعضهم بعضاً ولم يؤمنوا. وجرت بأنهم إذا ذاقوا مس العذاب وأخذتهم فواجئه الصعاب شغلتهم دواهيه عن العناد واضطرتهم أهواله إلى سهل الانقياد، فكان في غاية الحسن وضع تقريعهم على الاستعجال عقب الوعيد، ثم وضع التراخي عن الإيمان بالعناد بعد الإشراف على الهلاك ومعاينة التلف، فكان كأنه قيل: أخبروني على تقدير أان يأتيكم عذابه الذي لا عذاب أعظم منه - كما دل ذلك إضافته إليه - فبيتكم أو كاشفكم، ما تفعلون؟ ألا تؤمنون؟ فقالوا لا، فليعجل به ليرى، فناسب لما كان استعجالهم بعد هذا الإنذار تسفيههم على ذلك فقيل {ماذا} أي أي نوع منه يطلب عجلته {المجرمون} ، ولا نوع منه الإ وهو فوق الطاقة ووراء الوسع، إن هذا لمنكر من الآراء، أفبعد تراخي إيمانكم عن مخايل صدمته ومشاهدة مبادىء عظمته وشدته أوجدتم الإيمان به عند وقوعه؟ يقال لكم حين اضطرتكم فواجئه إلى الإيمان وحملتكم(9/137)
قوارعه على صيورة الإذعان: {آلآن} تؤمنون به - أي بسببه - بعد أن أزال بطشاً قواكم وحل عزائم هممكم وأوهاكم {وقد كنتم} أي كوناً كأنكم مجبولون عليه {به تستعجلون*} أي تطلبون تعجيله طلباً عظيماً حتى كأنكم لاتطلبون عجلة شيء غيره تكذيباً وعزماً على الثبات على العناد، لو وقع فلم نقبل إيمانكم هذا منكم ولا كف عذابنا عنكم، بل صيركم كأمس الدابر.
ولما كان ما ذكر هو العذاب الدنيوي، أتبعه ما بعده إعلاماً بأنه لا يقتصر عليه في جزائهم فقال: {ثم قيل} أي من أيّ قائل كان استهانة {للذين ظلموا} أي وبعد أزّكم في الدنيا والبرزخ بالعذاب وهزّكم بشديد العقاب قيل لكم يوم الدين بظلمكم بالآيات وبما أمرتم به فيها بوضعكم كلاًّ من ذلك في غير موضعه: {ذوقوا عذاب الخلد} فالإتيان ب «ثم» إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين {هل تجزون} بناه للمفعول لأن المخيف مطلق الجزاء؛ ولما كان الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، وكان المعنى: بشيء، استثنى منه فقال: {إلا بما كنتم} أي بجبلاتكم {تكسبون*} أي في الدنيا من العزم على الاستمرار على الكفر(9/138)
ولو طال المدى لاتنفكون عنه بشيء من الأشياء وإن عظم، فكان جزاءكم الخلود في العذاب طبق النعل بالنعل؛ والعذاب: الألم المستمر، وأصله الاستمرار، ومنه العذوبة لاستمرارها في الحلق؛ والبيات: إتيان الشيء ليلاً؛ والذوق: طلب الطعم بالفم في ابتداء الأخذ.
ولما انقضى ما اشتملت عليه الآية من التهديد وصادع الوعيد، أخبر تعالى أنهم صاروا إلى ما هو جدير بسامع ذلك من النزول عن ذلك العناد إلى مبادىء الانقياد بقوله تعالى: {ويستنبئونك} عطفاً على قوله «ويقولون متى هذا الوعد» أي ويطلبون منك الإنباء وهو الإخبار العظيم عن حقيقة هذا الوعد الجسيم، ويمكن أن يكون ذلك منهم على طريق الاستهزاء كالأول، فيكون التعجيب والتوبيخ فيه بعد ما مضى من الأدلة أشد {أحق هو} أي أثابت هذا الذي تتوعدنا به أم هو كالسحر لا حقيقية له كما تقدم أنهم قالوه {قل} أي في جوابهم {إي وربي} أي المحسن إليّ المدبر لي والمصدق لجميع ما آتي به؛ ولما كانوا منكرين، أكد قوله: {إنه لحق} أي كائن ثابت لا بد من نزوله بكم.
ولما كان الشيء قد يكون حقاً، ويكون الإنسان قادراً على دفعه فلا يهوله، قال نفياً ذلك: {وما أنتم} أي لمن توعدكم {بمعجزين*} فيما يراد بكم.(9/139)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
ولما أخبرهم بحقيقته، أخبرهم بما يكون منهم من الظلم أيضاً عند معياينته بالسماح ببذل جميع ما في الأرض حيث لا ينفع البذل بعد ترك المأمور به(9/139)
وهو من أيسر الأشياء وأحسنها فقال: {ولو أن لكل نفس ظلمت} أي عند المعاينة {ما في الأرض} أي كلها من خزائنها ونفائسها {لافتدت به} أي جعلت فدية لها من العذاب لكنه ليس لهم ذلك، ولو كان من قبل منهم، فإذا وقع ما يوعدون استسلموا {وأسروا الندامة} أي اشتد ندمهم ولم يقدروا على الكلام {لما رأوا العذاب} لأنهم بهتوا لعظم ما دهمهم فكان فعلهم فعل المسر، لأنهم لم يطيقوا بكاء ولا شكاية ولا شيئاً مما يفعله الجازع؛ والاستنباء: طلب النبأ كما أن الاستفهام طلب الفهم؛ والنبأ: خبر عن يقين في أمر كبير؛ والحق: عقد على المعنى على ماهو به تدعو لحكمة إليه، وكل ما بنى على هذا العقد فهو حق لأجله، والحق في الدين ما شهد به الدليل على الثقة فيما طريقه العلم، والقوة فيما طريقة غالب الأمر، وذلك فيما يحتمل أمرين أحدهما أشبه بألاصل الذي جاء به النص؛ والافتداء: إيقاع الشيء بدل غيره لرفع المكروه، فداه فدية وأفداه وافتداه افتداء وفاداه مفاداة وفداه تفدية وتفادى منه تفادياً؛ والإسرار: إخفاء الشيء في النفس؛ والندامة: الحسرة على ما كان يتمنى أنه لم يكن أوقعها، وهي حال معقولة يتأسف صاحبها على ما وقع منها ويود أنه لم يكن أوقعها.
ولما اشتملت الآيات الماضيات على تحتم إنجاز الوعد والعدل في الحكم، وختمت بقوه: {وقضي} أي وأوقع القضاء على أيسر وجه وأسهله؛(9/140)
ولما استغرق القضاء جميع وقائعهم. دل بنزع الجار فقال: {بينهم} أي الظالمين والمظلومين والظالمين والأظلمين {بالقسط} أي العدل؛ ولما كان وقوع ذلك لا ينفي وقوع الظلم في وقت آخر قال: {وهم} أي والحال أنهم {لا يظلمون*} أي لا يقع فيهم ظلم من أحد أصلاً كائناً من كان في وقت ما.
ولما كان السبب الحامل لملوك الدنيا على الكذب والجور والظلم العجز أو طلب التزيد في الملك، أشار إلى تنزهه عن ذلك بقوله مؤكداً سوقاً لهم مساق المنكر لأن فعلهم في عبادة الأصنام فعل من ينكر مضمون الكلام: {ألا إن لله} أي الملك الأعظم وحده {ما في السماوات} بدأ بها لعلوها معنى وحساً وعظمتها؛ ولما كان المقام للغنى عن الظلم لم يحوج الحال إلى تأكيد بإعادة النافي فقال: {والأرض} أي من جوهر وعرض صامت وناطق، فلا شيء خارج عن ملك يحوجه إلى ظلم أو إخلاف وعد لحيازته، والحاصل أنه لا يظلم إلا ناقص الملك وأما من له الملك كله فهو الحكم العدل: لأن جميع الأشياء بالنسبة إليه على حد سواء، ولا يخلف الوعد إلا ناقص القدرة وأما من له كل شيء ولا يخرج عن قبضته شيء فهو المحق في الوعد العدل في الحكم، وفي الآية زيادة تحسير وتنديم للنفس الظالمة حيث أخبرت بأن ما تود أن تفتدي به ليس لها منه شيء ولا تقدر على التوصل إليه، ولو قدرت ما قبل(9/141)
منها، وإنما هو لمن رضي منها بالقليل منه فضلاً منه عليها على ما أمر به على لسان رسله، وعلى هذا فيجوز أن يكون التقدير: لو أن لها ذلك لافتدت به، لكنه ليس لها بل لله؛ فلما ثبت بذلك حكمه بالعدل وتنزهه عن إخلاف الوعد.
صرح بمضمون ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم: {ألا إن وعد الله} أي الذي له الكمال كله {حق} لأنه تام القدرة والغنى، فلا حامل له على الإخلاف {ولكن أكثرهم} أي الذين تدعوهم وهم يدعون دقة الأفهام وسعة العقول {لا يعلمون*} أي لا علم لهم فهم لا يتدبرون ما نصبنا من الأدلة فلا ينقادون لما أمرنا به من الشريعة فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم؛ و {ألا} مركبة من همزة الاستفهام و «لا» وكانت تقريراً وتذكيراً فصارت تنبيهاً، وكسرت إن بعدها لأنها استئنافيه ينبه بها على معنى يبتدأ به ولذا يقع بعدها الأمر والدعاء بخلاف «لو» و «إلا» للاستقبال فلم يجز بعدها إلا كسر «إن» «أما» قد تكون بمعنى «حقاً» في قولهم: أما إنه منطلق، وهي للحال فجاز في «أن» بعدها الوجهان - ذكره الرماني؛ والسماوات طبقات مرفوعه أولها سقف مزين بالكواكب. وهي من سما بمعنى علا.
ولما تقرر أنه لا شيء خارج عن ملكه، وأنه تام القدرة لأنه لا منجي من عذابه، شامل العلم لقضائه بالعدل، صادق الوعد لأنه(9/142)
لا حامل له على غيره، وثبت تفرده بأنه يحي ويميت؛ ثبت أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، فثبت أنه لا يكون الرد إلا إليه فنبه على ذلك بقوله: {هو} أي وحده {يحيي} أي كما أنتم به مقرون {ويميت} كما أنتم له مشاهدون {وإليه} أي لا إلى غيره {ترجعون*} لأنه وعد بذلك في قوله: {إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً} [يونس: 4] وفي قوله: {فإلينا مرجعهم} [يونس: 46] وفي قوله {إي وربي إنه لحق} [يونس: 53] وغير ذلك ولا مانع له منه؛ والحياة معنى يوجب صحة العلم والقدرة ويضاد الموت، وهو يحل سائر أجزاء الحيوان فيكون بجميعه حياً واحداً، والحي هو الذي يصح أن يكون قادراً، والقادر هو الذي يصح أن يذم ويحمد بما فعل، والموت معنى يضاد الحياة على البنية الحيوانية، وليس كذلك الجمادية.
ولما ثبت أن ذلك كله حق مباين للسحر الذي مبناه على التخييل، أقبل على الذين تقدم الإخبار عنهم في أول السورة في قوله: أكان للناس عجباً أنهم قالوا إنه سحر، فقال: {يا أيها الناس} أي الذين قالوا: إن وعدنا والإخبار به سحر؛ ولما كان بين الأرواح والأبدان حب غريزي بالتعلق، والتذ الروح لذلك بمشتهيات هذه الحياة الدنيا بما انطبع فيه بمظاهر الحس فلم يأته نور العقل حتى تعود النقائص بقوة التعلق(9/143)
فحدثت له أخلاق ذميمة هي أمراض روحانية، فأرسل ربه الذي أوجده ودبره وأحسن إليه طبيباً حاذقاً هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلاج هذه الأمراض.
وأنزل كتابه العزيز لوصف الأدوية، فكان أحكم الطب منع المريض عن أسباب المرض، قال تعالى: {قد جاءتكم موعظة} أي زاجر عظيم عن التخلي عن كل ما يشغل القلب عن الله من المحظورات وغيرها من كل ما لا ينبغي، وذلك هو الشريعة.
ولما كان تناول المؤذي شديد الخطر، وهو لذيذ إلى النفس بينهما من ملاءمة النقص، وكان الانكفاف عنه أشق شيء عليها، رغبها في القبول بقوله: {من ربكم} أي المحسن إليكم المدبر لمصالحكم بهذا القرآن؛ ولما كان أليق ما يعمل بعد الحمية تعاطي الدواء المزيل للأخلاط الفاسدة من الباطن، قال: {وشفاء} أي عظيم جداً {لما في الصدور} من أدواء الجهل، وذلك الشفاء يحصل بتطهير الباطن بعد التخلي عن الأخلاق الذميمة بالتحلي بالصفات الحميدة ليصير الباطن سالماً عن العقائد الفاسدة والأخلاق الناقصة كما سلم البدن من الأفعال الدنية، وهذا هو الطريق.
ولما كانت الروح إذا انصقلت مرآتها فصارت قابلة لتجلي الأنوار عليها بفيض البروق الإلهية والنفخات القدسية والمواهب الملكوتية لأنها دائمة اللمعان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الطبراني عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه: «إن لربكم أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا له» الحديث.(9/144)
وليس المانع من نزولها في كل قلب إلا عدم القابلية من بعضها لتراكم الظلمات فيها من صداء المخالفة ودين الإعراض والغفلة، فيكون بذلك كالمرايا الصديئة لا تقبل انطباع الصور بها، قال تعالى: {وهدى} إلى الحق لأنه نور عظيم يقود صاحبه - ولابد - إلى الطريق الأقوم، وهذا للصديقين وهو الحقيقة.
ولما كان هذا النور إذا زاد عظمة وانتشر إشراقه يفيض - بعد الوصول إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية - على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام العالم فينير كل قابل له مقبل عليه، قال تعالى: {ورحمة} أي إكرام عظيم بالإمامية بالغ في الكمال والإشراق إلى حد لا مزيد عليه، وهذا للأنبياء عليهم السلام؛ ولما كان لا ينتفع بأنوارهم إلا من توجه إليهم، ثم إن الانتفاع بهم يتفاوت بتفاوت درجات التوجه إليهم والإقبال عليهم، قال: {للمؤمنين*} الذين اتبعوه وهم راسخون في التوجه إلى المرشدين والاستسلام لهم فكان ذلك سبباً لنجاتهم - أشار إلى هذا الإمام وقال: فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الكلمات الأربع القرآنية على وجه لا يمكن تأخير شيء منها عن موضعه ولا تقديمه، وهذا بخلاف ما نسبوه إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السحر فإنه داء كله وضلال يجر إلى الشقاء، والموعظة: إبانة تدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة،(9/145)
والوعظ ما دعا إلى الخشوع والنسك وصرف عن الفسوق والإثم؛ والشفاء: إزالة الداء، وداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر وأطباؤه أقل، والشفاء منه أجل؛ والصدر: موضع القلب، وهو أجل موضع في الحي لشرف القلب؛ والهدى: بيان عن معنى يؤدي إلى الحق، وهو دلالة تؤدي إلى المعرفة؛ والرحمة: نعمة على المحتاج.(9/146)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
ولما ثبت ذلك، حثهم عليه لبعده عن السحر بثباته وعدم القدرة على زلزلته فضلاً عن إزالته وبأن شفاء وموعظة وهدى ورحمة فهو جامع لمراتب القرب الإلهي كلها، وزهدهم فيما هم عليه مقبلون من الحطام: لمشاركته للسحر في سرعة التحول والتبدل بالفناء والاضمحلال فهو أهل للزهد فيه والإعراض عنه فقال تعالى: {قل بفضل الله} الآية، وحسن كل الحسن تعقيب ذلك لقوله: {هو يحيي ويميت} لما ذكر من سرعة الرحيل عنه، ولأن القرآن محيي لميت الجهل، من أقبل عليه أفاده العلم والحكمة، فكان للقلب كالحياة للجسد، ومن أعرض عنه صار في ضلال وخبط فوصل إلى الهلاك الدائم، فكان إعراضه عنه مميتاً له، وجعل أبو حيان متعلق الباء في بفضل محذوفاً تقديره: {قل} ليفرحوا {بفضل الله} أي الملك الأعلى {وبرحمته} ثم عطف قصر الفرح على ذلك {فبذلك} أي الأمر العظيم جداً وحده إن فرحوا يوماً ما بشيء {فليفرحوا} فهما جملتان وقال: إن ذلك أظهر، وفائدة الثانية قصر الفرح على ذلك دون ما يسرون به من الحطام(9/146)
فإن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية. ثم صرح بسبب الفرح فقال: {هو} أي المحدث عنه من الفضل والرحمة {خير مما يجمعون*} أي من حطام الدنيا وإن كان أشرف ما فيها من المتاع دائبين فيه على تعاقب الأوقات، والعاقل يختار لتعبه الأفضل؛ والفضل: الزيادة في النعمة؛ والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى.
ولما وصف القرآن العظيم بالشفاء وما معه المقتضي لاستقامة المناهج وسداد الشرائع ووضوح المذاهب، وأشار إلى أن العاقل ينبغي له أن يخصه بالفرح لبقاء آثاره وما يدعو إليه وزهده فيما يجمعون لفنائه ولأنه يدعو إلى رذائل الأخلاق فيحط من أوج المعالي، أشار إلى أنهم كما خبطوا في الفرح فخصوه بما يفني معرضين عما يبقى فكذلك خبطوا في طريق الجمع فوعدوها على أنفسهم بأن حرموا بعض ما أحله، فمنعوا أنفسهم ما هم به فرحون دون أمر من الله تعالى فنقصوا بذلك حظهم في الدنيا بهذا المنع وفي الآخرة بكذبهم على ربهم في تحريمه حيث جعلوه شرعاً مرضياً وهو في غاية الفساد والبعد عن الصواب والقصور عن مراقي السداد فقال تعالى: {قل} أي لهؤلاء الذين يستهزئون بك استهزاء قاضياً عليهم بأنهم لا عقول لهم مستهزئاً بهم وموبخاً لهم توبيخاً هو في أحكم مواضعه، وساقه على طريق السؤال بحيث إنهم(9/147)
لا يقدرون على الجواب أصلاً بغير الإقرار بالافتراء فقال: {أرءيتم} أي أخبروني، وعبر عن الخلق بالإنزال تنبيهاً على أنه شيء لا يمكن ادعاءه لأصنامهم لنزول أسبابه من موضع لا تعلق لهم به بوجه فقال: {ما أنزل الله} أي الذي له صفات الكمال التي منها الغنى المطلق {لكم} أي خاصاً بكم {من رزق} أي أيّ رزق كان {فجعلتم منه} أي ذلك الرزق الذي خصكم به {حراماً وحلالاً} على النحو الذي تقدم في الأنعام وغيرها قصته وبيان فساده على أنه جلي الفساد ظاهر العوج؛ ثم ابتدأ أمراً آخر تأكيداً للإنكار عليهم فقال: {قل} أي من أذن لكم في ذلك؟ {الله} أي الملك الأعلى {أذن لكم} فتوضحوا المستند به {أم} لم يأذن لكم فيه مع نسبتكم إياه إليه لأنكم فصلتموه إلى حرام وحلال ولا محلل ومحرم إلا الله، فأنتم {على الله} أي المحيط بكل شيء عظمة وعلماً {تفترون*} مع نسبتكم الافتراء إلي في هذا القرآن الذي أعجز الأفكار والشرع الذي بهر العقول وادعائكم أنكم أبعد الناس عن مطلق الكذب وأطهرهم ذيولاً منه، وتقديم الجار للإشارة إلى زيادة التشنيع عليهم من حيث إنهم أشد الناس تبرؤاً من الكذب وقد خصوا الله - على تقدير التسليم لهم - بأن تعمدوا الكذب عليه.
ولما كان قد مضى من أدلة المعاد ما صيره كالشمس، وكان افتراءهم قد ثبت بعدم قدرتهم على مستند بإذن الله لهم في ذلك، قال مشيراً(9/148)
إلى أن القيامة مما هو معلوم لا يسوغ إنكاره: {وما ظن الذين يفترون} أي يتعمدون {على الله} أي الملك الأعظم {الكذب} أي أنه نازل بهم {يوم القيامة} أي هب أنكم لم تستحيوا منه ولم تخافوا عواقبه في الدنيا فما تظنون أنه يكون ذلك اليوم؟ أتظنون أنه لا يحاسبكم فيكون حينئذ قد فعل ما لا يفعله رب مع مربوبه.
ولما كان تعالى يعاملهم بالحلم وهم يتمادون في هذا العقوق، قال: {إن الله} أي الذي له الكمال كله {لذو فضل} أي عظيم {على الناس} أي بنعم منها إنزال الكتب مفصلاً فيها ما يرضاه وما يسخطه وإرسال الرسل عليهم السلام لبيانها بما يحتمله عقول الخلق منها، ومنها طول إمهالهم على سوء أعمالهم فكان شكره واجباً عليهم {ولكن أكثرهم} أي الناس لاضطراب ضمائرهم {لا يشكرون} أي لا يتجدد منهم شكر فهم لا يتبعون رسله ولا كتبه، فهم يخبطون خبط عشواء فيفعلون ما يغضبه سبحانه؛ والتحريم: عقد معنى النهي عن الفعل؛ والتحليل: حل معنى النهي بالإذن؛ والشكر: حق يجب بالنعمة من الاعتراف به والقيام فيما تدعو إليه على قدرها؛ وافتراء الكذب: تزويره وتنميقه فهو أفحش من مطلق الكذب.(9/149)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
ولما وصف القرآن بما وصفه به من الشفاء وما معه بعد إقامة الدليل(9/149)
على إعجازه، وأشار إلى أن ما تدينوا به في غاية الخبط وأنه مع كونه كذباً يقدر كل واحد على تغييره بأحسن منه لكونه غير مبني على الحكمة، وختم ذلك بتهديدهم على افتراء الكذب في شرع ما لم يأذن به مع ادعائهم أن القرآن مفترى وهم عاجزون عن معارضته، وبأنهم لم يشكروه على نعمه التي أجلّها تخصيصهم بهذا الذكر الحكيم والشرع القويم، وكان قد أكثر في ذلك كله من الأمر له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمحاجتهم {قل لا أملك لنفسي} ، {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه} ، {قل إي وربي إنه لحق} ، {قل بفضل الله} - الآية، {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم} ، {قل الله أذن لكم} ، قال تعالى ناظراً إلى قوله: {وما كان هذا القرآن أن يفترى} الآية، تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقوية لهمته وزيادة في تهديدهم عطفاً على ما تقديره: فقد أنزلت إليهم على لسانك ما هو شرف لهم ونعمة عليهم وهو في غاية البعد عن مطلق الكذب فإن كل شيء منه في أحكم مواضعه وأحسنها لا يتطرق إليه الباطل بوجه وهم يقابلون نعمته بالكفر: {وما تكون} أنت {في شأن} أي أيّ شأن كان {وما تتلوا منه} أي من القرآن المحدث عنه في جميع هذه السورة، الذي تقدم أنهم كذبوا به من غير شبهة لهم {من قرآن} أي قليل أو كثير {ولا تعملون} أي كلكم طائعكم وعاصيكم، وأغرق في النفي فقال: {من عمل}(9/150)
صغير أو كبير {إلا كنا} أي بما لنا من العظمة {عليكم شهوداً} أي عاملين بإحاطة علمنا ووكالة جنودنا عمل الشاهد {إذ تفيضون فيه} الآية إيذاناً بأنك بعيني في جميع هذه المراجعات وغيرها من شؤونك وأنا العالم بتدبيرك والقادر على نصرتك، وهي كلها من كتابي الذي تتضاءل القوى دونه وتقف الأفكار عن مجاراته لأنه حكيم لكونه من عندي فجل عن مطلق المعارضة لفظاً أو معنى فضلاً عن التغيير فضلاً عن الإتيان بما هو مثله فكيف بما هو أحسن منه، لاستقامة أمره وتناسب أحكامه كونها شفاء وهدى ورحمة، وما كان كذلك فهو من عندي قطعاً وبإذني جزماً لأني عالم بالإفاضة فيه والانفصال عنه وجميع الأمور الواقعة منك ومنهم ومن غيرهم.
ولما كان ربما ظن ظان من إفهام {كنا} و {شهوداً} للجنود أنه سبحانه محتاج إليهم، نفى ذلك بقوله: {وما} أي والحال أنه ما {يعزب} أي يغيب ويخفى {عن ربك} أي المربي لكل مخلوق بعام أفضاله ولك بخاص نعمه وأشرف نواله، وأغرق في النفي فقال: {من مثقال ذرة} أي وزن نملة صغيرة جداً وموضع وزنها وزمانه؛ ولما كان «في» بمزون أهل الأرض كان تقديمها أولى فقال: {في الأرض} ولما لم يدع السياق إلى الجمع - كما سيأتي في سبأ - قال اكتفاء بالمفرد الدال على الجنس: {ولا في السماء}(9/151)
أي ما علا عن الأرض كائناً ما كان.
ولما كان ربما أدى الجمود بعض الأغبياء إلى أن يحمل المثقال على حقيقته ويجهل أن المراد به المبالغة، قال عاطفاً على الجملة من أولها وهو على الابتداء سواء رفعنا الراءين على قراءة حمزة ويعقوب أو نصبناهما عند الباقين: {ولا أصغر من ذلك} أي من مثقال الذرة {ولا أكبر} ولما أتى بهذا الابتداء الشامل الحاصر، أخبر عنه بقوله: {إلا} أي لا شيء من ذلك إلا موجود {في كتاب} أي جامع {مبين*} أي ظاهر في نفسه مظهر لكل ما فيه، وسيأتي في سبأ ما يتم به هذا المكان، وفي ذلك تهديداً لهم وتثبيت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولاح بهذا أن ما بعد {إلا} حال من الفاعل، أي ما يفعل شيئاً إلا وأنت بأعيننا فثبت أن القرآن بعلمه، فلو افتراه أحد عليه لأمكن منه؛ والإفاضة: الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل أخذاً من فيض الإناء إذا انصب ما فيه من جوانبه، وأفضتم: تفرقتم كتفرق الماء الذي يتصبب من الإناء؛ والعزوب: ذهاب المعنى عن العلم، وضده الحضور؛ والذر: صغار النمل وهو خفيف الوزن جداً، ومثقاله: وزنه.
ولما تقدم أنه سبحانه شامل العلم، وعلم - من وضع الأحوال(9/152)
ما لا يتسع ومن لا تسع مجرد أسمائهم الأرض في كتاب مبين أي مهما كشف منه وجد من غير خفاء ولا احتياج إلى تفتيش - أنه كامل القدرة بعد أن تقدم أنهم فريقان: صادق في أمره، ومفتر عليه، وأنه متفضل على الناس بعدم المعاجلة والتأخير إلى القيامة، وخوّف المفتري عواقب أمره عاجلاً وآجلاً، ورجىّ المطيع، كان موضع أن يقال: ليت شعري ماذا يكون تفصيل حال الفريقين في الدارين على الجزم؟ فأجيب بأن الأولياء فائزون والأعداء هالكون ليشمر كل مطيع عن ساعد جده ويبذل غاية جهده في لحاق المخلصين وتحامي جانب المفترين بقوله تعالى مؤكداً لاعتقادهم أنهم يهلكون حزب الله وإنكارهم غاية الإنكار أن يفوتوهم: {ألا إن أولياء الله} أي الذين يتولون بالطاعة من لا شيء أعز منه ولا أعظم ويتولاهم {لا خوف} أي ثابت عال {عليهم} أي من شيء يستقبلهم {ولا هم} أي بضمائرهم {يحزنون} أي يتجدد لهم حزن على فائت لأن قلوبهم معلقة بالله سبحانه فلا يؤثر فيهم لذلك خوف ولا حزن أثراً يقطع قلوبهم كما يعرض لغيرهم، وفسرهم بقوله: {الذين آمنوا} أي أوجدوا هذا الوصف المصحح للأعمال وبه كمال القوة العلمية {وكانوا} أي كوناً صار لهم جبلة وخلقاً {يتقون} أي يوجدون التقوى، وهي كمال القوة العملية في الإيمان والأعمال ويجددونها فإنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق(9/153)
قدره؛ وانتهى الجواب بقوله: {إن الذين يفترون على الله الكذب} - الآية، وهذا الذي فسر الله به الأولياء لا مزيد على حسنه، وعن علي رضي الله عنه «هم قوم صفر الوجوه من السهر عمش العيون من العبر خمص البطون من الخوى» وقيل: الولي من لا يرائي ولا ينافق، وما أقل صديق من كان هذا خلقه، وصح عن الإمامين: أبي حنيفة والتبيان أن كلاًّ منهما قال: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي.
وهذا في العالم العامل بعلمه كما بينته عند قوله في سورة الزمر {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] .(9/154)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
ولما نفىعنهم الخوف والحزن، زادهم فقال مبيناً لتوليه لهم بعد أن شرح توليهم له: {لهم} أي خاصة {البشرى} أي الكاملة {في الحياة الدنيا} أي بأن دينهم يظهر وحالهم يشتهر وعدوهم يخذل وعمله لا يقبل وبالرؤية الصالحة {وفي الآخرة} بأنهم هم السعداء وأعداؤهم الأشقياء وتتلقاهم الملائكة {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} [الأنبياء: 103] . وما كان الغالب على أحوال أهل الله في الدنيا الضيق ولا سيما في أول الإسلام، كان السامع لذلك بمعرض أن يقول: يا ليت شعري هل يتم هذا السرور! فقيل: نعم، وأكد بنفي الجنس لأن الجبابرة ينكرون ذلك لهم لما يرون من أن عزهم من(9/154)
وراء ذل ليس فيه سوء ما لباطل المتكبرين من السورة والإرجاف والصولة: {لا تبديل} أي بوجه من الوجوه {لكلمات الله} أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة؛ وقوله -: {ذلك} أي الأمر العالي الرتبة {هو} أي خاصة {الفوز العظيم} في موضع البيان والكشف لمضمون هذه البشرى؛ والخوف: انزعاج القلب بما يتوقع من المكروه، ونظيره الجزع والفزع، ونقيضه الأمن؛ والحزن: انزعاجه وغلظ همه مما وقع من المكروه، من الحزن للأرض الغليظة، ونقيضه السرور، وهما يتعاقبان على حال الحي الذاكر للمحبوب؛ والبشرى: الخبر الأول بما يظهر سروره في بشرة الوجه.
ولما تقدمت البشرى بنفي الخوف والحزن معاً عن الأولياء، علم أن المعنى: هذه البشرى للأولياء وأنت رأسهم فلا تخف، فعطف عليه قوله: {ولا يحزنك قولهم} أي في نحو قولهم: إنهم يغلبون، وفي تكذيبك والاستهزاء بك وتهديدك، فإن ذلك قول يراد به تبديل كلمات الله الغني القدير، وهيهات ذلك من الضعيف الفقير فكيف بالعلي الكبير! وإلى هذا يرشد التعليل لهذا النهي بقوله: {إن العزة} أي الغلبة والقهر وتمام العظمة {لله} أي الملك الأعلى حال كونها {جميعاً} أي فسيذلهم ويعز دينه، والمراد بذلك التسلية عن قولهم الذي يؤذونه به.(9/155)
ولما بدئت الآية بقولهم، ختمها بالسمع له والعلم به وقصرهما عليه لأن صفات كل موصوف متلاشية بالنسبة إلى صفاته فقال: {هو} أي وحده {السميع} أي البليغ السميع لأقوالهم {العليم} أي المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم بما تقتضيه، وهو تعليل لتفرده بالعزة لأنه تفرد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة! والعزة: قدرة على كل جبار بما لا يرام ولا يضام، والمعنى أنه يعزك على من ناواك، والنهي في {ولا يحزنك} في اللفظ للقول وفي المعنى للسبب المؤدي إلى التأذي بالقول، وكسرت «إن» هاهنا للاستئناف بالتذكر بما ينفي الحزن، لا لأنها بعد القول لأنها ليست حكاية عنهم، وقرىء بفتحها على معنى «لأن» .
ولما ختمت بعموم سمعه وعلمه بعد قصر العزة عليه، كان كأنه قيل: إن العزة لا تتم إلاّ بالقدرة فأثبت اختصاصه بالملك الذي لا يكون إلاّ بها، فقال مؤكداً لما يستلزمه إشراكهم من الإنكار لمضمون هذا الكلام: {ألآ إن لله} أي الذي له الإحاطة الكاملة؛ ولما كان بعض الناس قد أشركوا ببعض النجوم، جمع فقال معبراً بأداة العقلاء تصريحاً بما أفهمه التعبير سابقاً بأداة غيرهم: {من في السماوات} أي كلها، وابتدأ بها لأن ملكها يدل على ملك الأرض بطريق الأولى، ثم صرح بها في قوله مؤكداً لما تقدم: {ومن في الأرض} أي كلهم(9/156)
عبيده ملوكهم ومن دونهم، نافذ فيهم تصريفه، منقادون لما يريده، وهو أيضاً تعليل ثان لقوله {ولا يحزنك قولهم} أو للتفرد بالعزة، وعبر ب «من» التي للعقلاء والمراد كل ما في الكون لأن السياق لنفي العزة عن غيره، والعقلاء بها أجدر، فنفيها عنهم نفي عن غيرهم بطريق الأولى، ثم غلبوا لشرفهم على غيرهم، ولذا تطلق «ما» التي هي لغيرهم في سياق هو بها أحق ثم يراد بها العموم تغليباً للأكثر الذي لا يعقل على الأقل؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك شريك بقوله عاطفاً على ما تقديره: فما له شريك مما ادعاه المشركون منهما أو من إحداهما: {وما يتبع} أي بغاية الجهد {الذين يدعون} أي على سبيل العبادة {من دون الله} أي الذي له العظمة كلها {شركآء} على الحقيقة؛ ويجوز أن تكون «ما» موصولة تحقيراً للشركاء بالتعبير بأداة ما لا يعقل ومعطوفه على «من» {إن} أي ما {يتبعون} في ذلك الذي هو أصل أصول الدين يجب فيه القطع وهو دعاءهم له شركاء {إلاّ الظن} أي المخطىء على أنه لو كان صواباً كانوا مخطئين فيه حيث قنعوا في الأصل بالظن، ثم نبه على الخطأ بقوله: {وإن} أي وما {هم إلاّ يخرصون} أي يحزرون ذلك ويقولون ما لا حقيقة له أصلاً؛ والاتباع: طلب اللحاق بالأول على تصرف الحال، فهؤلاء اتبعوا الداعي إلى عبادة الوثن وتصرفوا معه(9/157)
فيما دعا إليه، وظنهم في عبادتها إنما هو بشبيهة ضعيفة كقصد زيادة التعظيم لله وتعظيم تقليد الأسلاف، ويجوز أن يكون {شركاء} مفعولاً تنازعه {يتبع} و {يدعون} ؛ ثم أثبت سبحانه اختصاصه بشيء جامع للعلم والقدرة تأكيداً لاختصاصه بالعزة وتفرده بالوحدانية، وأن من أشرك به خارص لا علم له بوجه لكثرة الدلائل على وحدانيته ووضوحها فقال: {هو} أي وحده {الذي جعل} أي بسبب دوران الأفلاك الذي أتقنه {لكم} أي نعمة منه {الليل} أي مظلماً {لتسكنوا فيه} راحة لكم ودلالة على قدرته سبحانه على الإيجاد والإعدام وأُنساً للمحبين لربهم {والنهار} وأعار السبب وصف المسبب فقال: {مبصراً} أي لتنتشروا فيه، حذف وصف الليل وذكرت علته عكس ما فعل بالنهار ليدل ما ثبت على ما حذف، فالآية من الاحتباك.
ولما كانت هذه الآيات من الظهور بحيث لا يحتاج إلى أكثر من سماعها، قال: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم {لآيات لقوم} أي لهم قوة المحاولة على ما يريدونه {يسمعون} أي لهم سمع صحيح، وفي ذلك أدلة واضحات على أنه مختص بالعزة فلا شريك له، لأن الشريك لا بد وأن يقاسم شريكه شيئاً من الأفعال أو الأحوال أو الملك، وأما عند انتفاء جميع ذلك فانتفاء الشركة أوضح من أن يحتاج فيه إلى دليل، ويجوز أن يكون المعنى: لآيات لقوم يبصرون إبصار اعتبار(9/158)
ويسمعون سماع تأمل وإدكار، ولكنه حذف «يبصرون» لدلالة {مبصراً} عليه، ويزيد ذلك وضوحاً وحسناً كون السياق لنفي الشركاء، فهو إشارة إلى أنها لا تسمع ولا تبصر أصلاً فكيف بالاعتبار والافتكار؟ فالذين عبدوهم أكمل حالاً منهم.(9/159)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
ولما لم يكن شبهة على ادعاء الولد لله سبحانه ولا لهم اطلاع عليه بوجه، ساق قوله: {قالوا اتخذ} أي تكلف الأخذ بالتسبب على ما نعهد {الله} أي المسمى بهذا الاسم الذي يقتضي تسميته به أن يكون له الكمال كله، فلا يكون محتاجاً إلى شيء بوجه {ولداً} مساق البيان لقوله {إن يتبعون إلاّ الظن} وهذا صالح لأن يكون تعجيباً ممن ادعى في الملائكة أو عزير أو المسيح وغيرهم.
ولما عجب منهم في ذلك لمنافاته بما يدل عليه من النقص لما ثبت لله تعالى من الكمال كما مرّ، نزه نفسه الشريفة عنه فقال: {سبحانه} أي تنزه عن كل شائبة نقص التنزه كله؛ ثم علل تنزهه عنه وبينه بقوله: {هو} أي وحده {الغني} أي عن الولد وغيره لأنه فرد منزه عن الإبعاض والأجزاء والمجانسة؛ ثم بين غناه بقوله: {له ما في السماوات} ولما كان سياق الاستدلال يقتضي التأكيد، أعاد «ما» فقال: {وما في الأرض} من صامت وناطق، فهو غني بالملك ذلك عن أن يكون شيء منه ولداً له لأن الولد لا يملك، وعدم ملكه نقص مناف للغنى،(9/159)
ولعله عبر ب «ما» لأن الغني محط نظره الصامت مع شمولها للناطق.
ولما بين بالبرهان القاطع والدليل الباهر الساطع امتناع أن يكون له ولد، بكتهم بنفي أن يكون لهم بذلك نوع حجة فقال: {إن} أي ما {عندكم} وأغرق في النفي فقال: {من سلطان} أي حجة {بهذا} أي الاتخاذ، وسميت الحجة سلطاناً لاعتلاء يد المتمسك بها؛ ثم زادهم بها تبكيتاً بالإنكار عليهم بقوله: {أتقولون} أي على سبيل التكرير {على الله} أي الملك الأعظم على سبيل الاستعلاء {ما لا تعلمون} لأن ما لا برهان عليه في الأصول فهو جهل، فكيف بما قام الدليل على خلافه؛ والسلطان: البرهان القاهر لأنه يتسلط به على صحة الأمر ويقهر به الخصم، وأصله القاهر للرعية بعقد الولاية.
ولما قدم أن قولهم كذب، وبكتهم عليه مواجهة، أتبعه بما يشير إلى أنهم أهل للإعراض في سياق مهدد على الكذب، فقال معرضاً عن خطابهم مؤكداً لأن اجتراءهم على ذلك دال على التكذيب بالمؤاخذة عليه: {قل} أي للذين ادعوا الولد لله وحرموا ما رزقهم من السائبة ونحوها {إن الذين يفترون} أي يتعمدون {على الله} أي الملك الأعلى {الكذب لا يفلحون} ثم بين عدم الفلاح بقوله: {متاع}(9/160)
أي لهم، ونكره إشارة إلى قلته كما قال في الآية الأخرى {متاع قليل} وأكد ذلك بقوله: {في الدنيا} لأنها دار ارتحال، وما كان إلى زوال وتلاش واضمحلال كان قليلاً وإن تباعد مدّه وتطاولت مُدَده وجل مَدَده، وزاد على الحصر عَدده؛ وبين حالهم بعد النقلة بقوله: {ثم} أي بعد ذلك الإملاء لهم وإن طال {إلينا} أي على ما لنا من العظمة لا إلى غيرنا {مرجعهم} بالموت فنذيقهم عذاباً شديداً لكنه دون عذاب الآخرة {ثم نذيقهم} يوم القيامة {العذاب الشديد بما} أي بسبب ما {كانوا} أي كوناً هو جبلة لهم {يكفرون} ووجب كسر «إن» بعد القول لأنه حكاية عما يستأنف الإخبار به كما فعل في لام الابتداء لذلك.
ولما تقدم سؤالهم الإتيان بما يقترحون من الآيات، ومضت الإشارة إلى أن تسييرهم في الفلك من أعظم الآيات وإن كانوا لإلفهم له قد نسوا ذلك، وتناسجت الآي كما سلف إلى أن بين هذا أن متاع المفترين الكذبَ قليل تخويفاً من شديد السطوة وعظيم الأخذ، عقب ذلك بقصة قوم نوح لأنهم كانوا أطول الأمم الظالمة مدة وأكثرهم عدة، ثم أخذوا أشد أخذ فزالت آثارهم وانطمست أعلامهم ومنارهم فصاروا كأنهم لم يكونوا أصلاً ولا أظهروا قولاً(9/161)
ولا فعلاً، فقال تعالى عاطفاً على قوله {قل إن الذين} مسلياً لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم لأن المصيبة إذا عمت خفت، وتخويفاً للكفار ليرجعوا أو يخفوا من أذاهم: {واتل} أي اقرأ قراءة متتابعة مستعلية {عليهم نبأ نوح} أي خبره العظيم مذكراً بأول كون الفلك وأنه كان إذ ذاك آية غريبة خارقة للعادة عجيبة، وأن قوم نوح لم ينفعهم ذلك ولا أغنى عنهم افتراءهم وعنادهم مع تطاول الأمد وتباعد المدد، بل صار أمرهم إلى زوال، وأخذ عنيف ونكال {كأن لم يلبثوا إلاّ ساعة من النهار يتعارفون بينهم} [يونس: 45] مع نجاة رسولهم وخيبة مأمولهم، قد لبث فيهم ما لم يلبثه نبي في قولهم ولا رسول في أمته ألف سنة إلاّ خمسبن عاماً، وما آمن معه إلاّ قليل {إذ قال لقومه} أي بعد أن دعاهم إلى الله فأطال دعاءهم ومتعوا في الدنيا كثيراً وأملى لهم طويلاً فما زادهم ذلك إلا نفوراً {يا قوم} أي يا من يعز عليّ خلافهم ويشق عليّ ما يسوءهم لتهاونهم بحق ربهم مع قوتهم على الطاعة {إن كان كبر} أي شق وعظم مشقة صارت جبلة {عليكم} ولما كانت عادة الوعاظ والخطباء أن يكونوا حال الخطبة واقفين، قال: {مقامي} أي قيامي، ولعله خص هذا المصدر لصلاحيته لموضع القيام وزمانه فيكون(9/162)
الإخبار بكراهته لأجل ما وقع فيه من القيام أدل على كراهة القيام {وتذكيري} أي بكم {بآيات الله} أي الذي له الجلال والإكرام، فإن ذلك لا يصدني عن مجاهدتي بما يكبر عليكم من ذلك خوفاً منكم لأن الله أمرني به وأنا أخاف عذابه إن تركت، ولا أبالي بكراهيتكم لذلك خوف عاقبة قصدكم لي بالأذى {فعلى} أي فإني على {الله} أي الذي له العزة كلها وحده {توكلت} فإقامة ذلك المقام الجزاء من إطلاق السبب - الذي هو التوكل - على المسبب - الذي هو انتفاء الخوف - مجازاً مرسلاً، إعلاماً لهم بعظمة الله وحقارتهم بسبب أنهم أعرضوا عن الآيات وهم يعرفونها، بما دل عليه التعبير بالتذكير، فدل ذلك على عنادهم بالباطل، والمبطل لا يخشى أمره لأن الباطل لا ثبات له، ودل على ذلك بقوله: {فأجمعوا أمركم} أي في أذاي بالإهلاك وغيره، أعزموا عليه وانووه واجزموا به، والواو بمعنى «مع» في قوله: {وشركآءكم} ليدل على أنه لا يخافهم وإن كانوا شركاءهم أحياء كائنين من كانوا وكانت كلمتهم واحدة لا فرقة فيها بوجه.
ولما كان الذي يتستر بالأمور بما يفوته بعض المقاصد لاشتراط التستر، أخبرهم أنه لا يمانعهم سواء أبدوا أو أخفوا فقال: {ثم لا يكن} أي بعد التأبي وطول زمان المجاوزة في المشاورة {أمركم} أي الذي تقصدونه بي {عليكم غمة} أي خفياً يستتر عليكم شيء منه بسبب ستر ذلك عني لئلا أسعى في معارضتكم، فلا تفعلوا ذلك بل جاهروني به(9/163)
مجاهرة فإنه لا معارضة لي بغير الله الذي يستوي عنده السر والعلانية؛ والتعبير ب {ثم} إشارة إلى التأني وإتقان الأمر للأمان من معارضته بشيء من حول منه أو قوة {ثم اقضوا} ما تريدون، أي بتوه بتة المقضي إليه واصلاً {إلي} .
ولما كان ذلك ظاهراً في الإنجاز وليس صريحاً، صرح به في قوله: {ولا تنظرون*} أي ساعة ما، وكل ذلك لإظهار قلة المبالاة بهم للاعتماد على الله لأنه لا يعجزه شيء ومعبوداتهم لا تغني شيئاً؛ ثم سبب عن ذلك قوله: {فإن توليتم} أي كلفتم أنفسكم الإعراض عن الحق بعد عجزكم عن إهلاكي ولم ينفعكم علمكم بأن الذي منعني - وأنا وحدي - منكم وأنتم ملء الأرض له العزة جميعاً وأن من أوليائه الذين تقدم وعده الصادق بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون {فما} أي فلم يكن توليكم عن تفريط مني لأني سقت الأمر على ما يحب، ما {سألتكم} أي ساعة من الدهر، وأغرق في النفي فقال: {من أجر} أي على دعائي لكم يفوتني بتوليكم ولا تتهموني به في دعائكم.
ولما كان من المحال أن يفعل عاقل شيئاً لا لغرض، بين غرضه بقوله مستأنفاً: {إن} أي ما {أجري إلا على الله} أي الذي له صفات الكمال؛ ثم عطف عليه غرضاً آخر وهو اتباع الأمر خوفاً من حصول(9/164)
الضر فقال: {وأمرت} أي من الملك الأعلى الذي لا أمر لغيره، وبناه للمفعول للعلم بأنه هو الآمر وليزيد في الترغيب في المأمور به وتغطية بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال {أن أكون} أي كوناً أتخلق به فلا أنفك عنه؛ ولما كان في مقام الاعتذار عن مفاجأته لهم بالإنذار، عبر بالإسلام الذي هو الأفعال الظاهرة فقال: {من المسلمين*} أي الراسخين في صفة الانقياد بغاية الإخلاص، لي ما لهم وعليّ ما عليهم، أنا وهم في الإسلام سواء، لا مرية لي فيه أتهم بها، أن أستسلم لكل ما يصيبني في الله، لا يردني ذلك عن إنفاذ أمره، والحاصل أنه لم يكن بدعائه إياهم في موضع تهمة، لا سألهم غرضاً دنيوياً يزيده إن أقبلوا ولا ينقصه إن أدبروا، ولا أتى بشيء من عند نفسه ليظن أنه أخطأ فيه ولا سلك به مسلكاً يظن به استعباده إياهم في اتباعه، بل أعلمهم بأنه أول مؤتمر بما أمرهم به مستسلم لما دعاهم إليه ولكل ما يصيبه في الله، ولما لم يردهم كلامه هذا عن غيهم، سبب عنه قوله مخبراً بتماديهم: {فكذبوه} أي ولم يزدهم شيء من هذه البراهين الساطعة والدلائل القاطعة إلا إدباراً، وكانوا في آخر المدة على مثل ما كانوا عليه من التكذيب {فنجيناه} أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة الباهرة بسبب امتثاله لأوامرنا وصدق اعتماده علينا {ومن معه} أي من العقلاء وغيرهم {في الفلكِ} كما وعدنا أولياءنا، وجعلنا(9/165)
ذلك آية للعالمين {وجعلناهم} أي على ضعفهم بما لنا من العظمة {خلائف} أي في الأرض بعد من أغرقناهم، فمن فعل في الطاعة فعلهم كان جديراً بأن نجازيه بما جازيناهم {وأغرقنا} أي بما لنا من كمال العزة {الذين كذبوا} أي مستخفين مستهينين {بآياتنا} كما توعدنا يفترون على الله الكذب.
ولما كان هذا أمراً باهراً يتعظ به من له بصيرة، سبب عنه أمر أعلى الخلق فهما بنظره إشارة إلى أنه لا يعتبر به حق الاعتبار غيره فقال: {فانظر} وأشار إلى أنه أهل لأن يبحث عن شأنه بأداة الاستفهام، وزاد الأمر عظمة بذكر الكون فقال: {كيف كان} أي كوناً كان كأنه جبلة {عاقبة} أي آخر أمر {المنذرين*} أي الغريقين في هذا الوصف وهم الذين أنذرتهم الرسل، فلم يكونوا أهلاً للبشارة لأنهم لم يؤمنوا لنعلم أن من ننذرهم كذلك، لا ينفع من أردنا شقاوته منهم إنزال آية ولا إيضاح حجة؛ والتوكل: تعمد جعل الأمر إلى من يدبره للتقدير في تدبيره؛ والغمة: ضيق الأمر الذي يوجب الحزن؛ والتولي: الذهاب عن الشيء؛ والأجر: النفع المستحق بالعمل؛ والإسلام الاستسلام لأمر الله بطاعته بأنها خير ما يكتسبه العباد.(9/166)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
ولما لم يكن في قصص من بينه وبين موسى عليهم السلام مما يناسب(9/166)
مقصود هذه السورة إلا ما شاركوا فيه قوم نوح من أنهم لم تنفع الآيات من أريدت شقاوته منهم، ذكره سبحانه طاوياً لما عداه فقال تعالى: {ثم} أي بعد مدة طويلة {بعثنا} أي على عظمتنا؛ ولما كان البعث لم يستغرق زمان البعد، أدخل الجار فقال: {من بعده} أي قوم نوح {رسلاً} كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام.
ولما كان ربما ظن أن قوم الإنسان لا يكذبونه، وإن كذبوه لم يتمادوا على التكذيب لا سيما إن أتاهم بما يقترحونه من الخوارق قال: {إلى قومهم} أي ففاجأهم قومهم بالتكذيب {فجاءوهم} أي فتسبب عن استنادهم إلى عظمتنا أن جاؤوهم {بالبينات} ليزول تكذيبهم فيؤمنوا {فما} أي فتسبب عن ذلك ضد ما أمروا به وقامت دلائله وهو أنهم ما {كانوا} أي بوجه من وجوه الكون {ليؤمنوا} أي مقرين {بما كذبوا} أي مستهينين {به} أول ما جاؤوهم. ولما كان تكذيبهم في بعض الزمن الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي قبل مجيء البينات لأنا طبعنا على قلوبهم؛ قال أبو حيان: وجاء النفي مصحوباً بلام الحجود ليدل على أن إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع - انتهى. ويجوز أن يكون التقدير: من قبل مجيء الرسل إليهم، ويكون التكذيب أسند إليهم لأن أباهم كذبوا لما بدلوا ما كان عندهم من الدين الصحيح(9/167)
الذي أتتهم به الرسل ورضوا هم بما أحدث آباؤهم استحساناً له، أو لأنه كان بين أظهرهم بقايا على بقايا مما شرعته الرسل فكانوا يعظونهم فيما يبتدعون فلا يعون ولا يسمعون كما كان قس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهم قبل بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن المعنى الأول أولى - والله أعلم.
ولما قرر عدم انتفاعهم بالآيات، بنى ما يليه على سؤاله من لعله يقول: هل استمر الخلق فيمن بعدهم؟ فكأنه قيل: نعم! {كذلك} أي مثل ما طبعنا على قلوبهم هذا الطبع العظيم {نطبع} أي نوجد الطبع ونجدده متى شئنا بما لنا من العظمة {على قلوب المعتدين*} في كل زمن لكل من تعمد العدو فيما لا يحل له، وهذا كما أتى موسى عليه السلام إلى فرعون فدعاه إلى الله فكذبه فأخبره أن معه آية تصدقه فقال له: إن كنت جئت بآية فائت بها إن كنت من الصادقين، فلما أتاه بها استمرعلى تكذيبه وكان كلما رأى آية ازداد تكذيباً، وكان فرعون قد قوي ملكه وعظم سلطانه وعلا في كبريائه وطال تجبره على الضعفاء، فطمست أمواله وآثاره، وبقيت أحاديثه وأخباره، ولهذا أفصح سبحانه بقصته فقال: دالاً على الطبع: {ثم بعثنا} أي وبعد زمن طويل من إهلاكنا إياهم بعثنا، ولعدم استغراق زمن البعد أدخل الجار فقال: {من بعدهم} أي من بعد أولئك الرسل(9/168)
{موسى و} كذا بعثنا {هاورن} تأييداً له لأن اتفاق اثنين أقوى لما يقررانه وأوكد لما يذكرانه؛ ولما استقر في الأذهان بما مضى أن ديدن الأمم تكذيب من هو منهم حداً له ونفاسة عليه.
كان ربما ظن أن الرسول لو أتى غير قومه كان الأمر على غير ذلك، فبين أن الحال واحد في القريب والغريب، فقال مقدماً لقوله: {إلى فرعون وملئه} أي الأشراف من قومه، فإن الأطراف تبع لهم {بآياتنا} أي التي لا تكتنه عظمتها لنسبتها إلينا، فطبعنا على قلوبهم {فاستكبروا} أي طلبوا الكبر على قبول الآيات وأوجدوا ما يدل عليه من الرد بسبب انبعاثه إليهم عقب ذلك {وكانوا} أي جبلة وطبعاً {قوماً مجرمين*} أي طبعهم قطع ما ينبغي وصله ووصل ما ينبغي قطعه، فلذلك اجترؤوا على الاستكبار مع ما فيها أيضاً من شديد المناسبة لما تقدم من قول الكافرين {هذا سحر مبين} في نسبة موسى عليه السلام إليه وبيان حقيقة السحر في زواله وخيبته متعاطية لإفساده إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار، هذا إلى ما ينظم إليه من مناسبة ما بين إهلاك القبط وقوم نوح بآية الغرق، وأنه لم ينفع أحداً من الفريقين معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات، بل ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه بعد تلك المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة، ثم اتبعهم فرعون بعد أن كانت انحلت عن حبسهم عراه، وتلاشت من تجبره قواه، وشاهد من الضربات ما يهد الجبال،(9/169)
ودخل في طلبهم البحر بحزات لا يقرب ساحتها الأبطال، لما قدره عليه ذو الجلال، ولم يؤمن حتى أتاه البأس حيث يفوت الإيمان بالغيب الذي هو شرط الإيمان، فلم ينفعه إيمانه مع اجتهاده فيه وتكريره لفوات شرطه إجابة لدعوة موسى عليه السلام، ثم إن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام على منهاج واحد. فما اختلفوا إلا بعد مجيء العلم إليهم وبيان الطريق واضحة لديهم، ولهذا المراد ذكر هنا هارون عليه السلام لأن من أعظم مقاصد السورة المنع من طلب الآيات لمن بعد الإيمان عند الإتيان بها، إشارة إلى أن القول من الاثنين أوكد، ومع ذلك فلم يصدق من حكم القدير بشقاوته، كل ذلك حثاً على الرضا والتسليم، ووكل الأمر إلى الرب الحكيم، فمهما أمر به قبل، وما أعرض عنه ترك السؤال فيه رجاء تدبيره بأحسن التدبير وتقديره ألطف المقادير؛ ولما أخبر سبحانه باستكبارهم، بين أنه تسبب عنه طعنهم في معجزاته من غير تأمل، بل بغاية المبادرة والإسراع بما أشعرت به الفاء والسياق، فقال تعالى: {فلما جاءهم} أي فرعون وملؤه {الحق} أي البالغ في الحقية، ثم زاد في عظمته بقوله: {من عندنا} أي على ما لنا من العظمة التي عرفوا بها أنه منا، لا من الرسولين {قالوا} أي غير متأملين له ولا ناظرين في أمره بل(9/170)
عناداً ودلالة على استكبارهم مؤكدين لما علموا من تصديق الناس به {إن هذا لسحر مبين*} كما قال الناس الذين أخبر عنهم سبحانه في أول السورة في هذا القرآن وما إبانه من البعث.
فلما قالوا كان كأنه قيل: فماذا أجابهم؟ فأخبر أنه أنكر عليهم، بقوله: {قال موسى} ولما كان تكريرهم لذلك القول أجدر بالإنكار، عبر بالمضارع الدال على أنهم كرروه لينسخوا ما ثبت في قلوب الناس من عظمته {أتقولون للحق} ونبه على أنهم بادروا إلى التكذيب من غير نظر ولا توقف بقوله: {لما جاءكم} أي هذا القول الذي قلتموه وهو أنه سحر، فإن القول يطلق على المكروه، تقول: فلان قال في فلان، أي ذمه، وفلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول؛ ثم كرر الإنكار بقوله: {أسحر هذا} أي الذي هو في غاية الثبات والمخالفة للسحر في جميع الصفات حتى تقولون فيه ذلك. فالآية من الاحتباك: ذكر القول في الأول دال على حذف مثله في الثاني، وذكر السحر الثاني دال على حذف مثله في الأول.
ولما كان التقدير: أتقولون هذا والحال أنكم قد رأيتم فلاحه، بني عليه قوله: {ولا يفلح} أي يظفر بما يريد في وقت من الأوقات {الساحرون*} أي العريقون فيه لأن حاصل أمرهم تخييل وتمويه في الأباطيل، فالظفر بعيد عنهم، ويجوز أن تجعل هذه الجملة معطوفه(9/171)
على قوله: {أسحر هذا} لأنه إنكاري بمعنى النفي، فلما أنكر عليهم عليه السلام ما ظهر به الفرق الجلي بين ما أتى به في كونه أثبت الأشياء وبين السحر، لأنه لا ثبات له أصلاً، عدلوا عن جوابه إلى الإخبار بما يتضمن أنهم لا يقرون بحقيته لأنه يلزم عن ذلك ترك ما هم عليه من العلو وهم لا يتركونه، وأوهموا الضعفاء أن مراده عليه السلام الاستكبار معللين لاستكبارهم عن اتباعه بما دل على أنهم لا مانع أنهم منه إلا الكبر، فقال تعالى حكاية عنهم: {قالوا} أي منكرين عليه معللين بأمرين: التقليد، والحرص على الرئاسة.
ولما كان هو الأصل في الرسالة. وكان أخوه له تبعاً، وحدوا الضمير فقالوا: {أجئتنا} أي أنت يا موسى {لتلفتنا} أي لتقتلنا وتصرفنا {عما وجدنا عليه} وقالوا مستندين إلى التقليد غير مستحيين من ترك الدليل {آباءنا} من عبادة الأصنام والقول بالطبيعة لنقل نحن بذلك {وتكون لكما} أي لك أنت ولأخيك دوننا {الكبرياء} أي بالملك {في الأرض} أي أرض مصر التي هي - لما فيها من المنافع - كأنها الأرض كلها {وما} أي وقالوا أيضاً: ما {نحن لكما} وبالغوا في النفي وغلب عليهم الدهش فعبروا بما دل على أنهم غلبهم الأمر فعرفوا أنه صدق ولم يذعنوا فقالوا: {بمؤمنين*}(9/172)
أي عريقين في الإيمان، فهو عطف على {أجئتنا} أي قالوا ذاك وقالوا هذا، أو يكون عطفاً على نحو: فما نحن بموصليك إلى هذا الغرض، أفردوه أولاً بالإنكار عليه في المجيء ليضعف ويكف أخوه عن مساعدته، وأشركوه معه ثانياً تأكيداً لذلك الغرض وقطعاً لطمعه؛ والبعث: الإطلاق في أمر يمضي فيه، وهو خلاف الإطلاق من عقال؛ والملأ: الجماعة الذين هم وجوه القبيلة، لأن هيبتهم تملأ الصدور عند منظرهم؛ والاستكبار: طلب الكبر من غير استحقاق؛ والمجرم من اكتسب سيئة كبيرة، من جرم التمر - إذا قطعه، فالجرم يوجب قطع الخير عن صاحبه؛ والسحر: إيهام المعجزة على طريق الجيلة، ويشبه به البيان في خفاء السبب؛ والحق: ما يجب الحمد عليه ويشتد دعاء الحكمة إليه ويعظم النفع به والضرر بتركه؛ والكبرياء: استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب، وهي صفة مدح لله وذم للعباد لأنها منافية لصفة العبودية.(9/173)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
ولما لبسوا بوصفه بما هم به متصفون، أرادوا الزيادة في التلبيس بما يوهم أن ما أتى به سحر تمكن معارضته إيقافاً للناس عن تباعه، فقال تعالى حكاية عطفاً على قوله: {قالوا أجئتنا} : {وقال فرعون} إرادة المناظرة لما أتى به موسى عليه السلام {ائتوني بكل ساحر عليم*}(9/173)
أي بالغ في علم السحر لئلا يفوت شيء من السحر بتأخر البعض، وقراءة حمزة والكسائي بصيغة فعال دالة على زيادة لزعمه أقل من سياق الشعراء كما مضى في الأعراف.
ولما كان التقدير: فامتثلوا أمره وجمعوهم، دل على قرب اجتماعهم بالفاء في قوله: {فلما جاء السحرة} أي كل من في أرض مصر منهم {قال لهم موسى} مزيلاً لهذا الإيهام {ألقوا} جميع {ما أنتم ملقون*} أي راسخون في صنعة إلقائه، إشارة إلى أن ما جاؤوا به ليس أهلاً لأن يلقى إليه بال {فلما ألقوا} أي وقع منهم الإلقاء بحبالهم وعصيهم على إثر مقالاته وخيلوا بسحرهم لعيون الناس ما زلزل عقولهم {قال موسى} منكراً عليهم {ما جئتم به} ثم بين أنه ما استفهم عنه جهلاً بل احتقاراً وإنكاراً، وزاد في بيان كل من الأمرين بقوله: {السحر} لأنه استفهام أيضاً سواء قطعت الهمزة ومدت كما في قراءة أبي عمرو وأبي جعفر أوجعلت همزة وصل كما في قراءة الباقين، فإن همزة الاستفهام مقدرة، والتعريف إما للعهد وإما للحقيقة وهو أقرب، ويجوز في قراءة الجماعة أن يكون خبراً لما يقصد به الحصر، أي هو السحر لا ما نسبتموه إليّ؛ ثم استأنف بيان ما حقره به فقال: {إن الله} أي الذي له إحاطة العلم والقدرة {سيبطله} أي عن قريب بوعد لا خلف فيه؛ ثم علل ذلك بما بين(9/174)
أنه فساد فقال: {إن الله} أي الذي له الكمال كله {لا يصلح} أي وفي وقت من الأوقات {عمل المفسدين*} أي العريقين في الفساد بأن لا ينفع بعملهم ولا يديمه؛ ثم عطف عليه بيان إصلاحه عمل المصلحين فقال: {ويحق} أي يثبت إثباتاً عظيماً {الله} أي الملك الأعظم {الحق} أي الشيء الذي له الثبات صفة لازمة؛ ولما كان في مقام تحقيرهم، دل على ذلك بتكرير الاسم الجامع الأعظم. وأشار إلى ما له من الصفات العلى بقوله: {بكلماته} أي الأزلية التي لها ثبات الأعظم، وزاد في العظمة بقوله: {ولو كره المجرمون} أي العريقون في قطع ما أمر الله به أن يوصل، فكان كما قال عليه السلام بطل سحرهم، واضمحل مكرهم، وحق الحق - كما بين في سورة الأعراف.
ولما حكى سبحانه أن موسى عليه السلام أبان ما أبان من بطلان السحر وكونه إفساداً، فثبت ما أتى به لمخالفته له، أخبر تعالى - تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفطماً عن طلب الإجابة للمقترحات - أنه ما تسبب عن ذلك في أول الأمر عقب إبطال سحرهم من غير مهلة إلا إيمان ناس ضعفاء غير كثير، فقال تعالى: {فما آمن} أي متبعاً {لموسى} أي بسبب ما فعل، ليعلم أن الآيات ليست سبباً للهداية إلا لمن أردنا ذلك منه؛ وبين أن الصغار أسرع إلى القبول بقوله: {إلا ذرية} أي شبانهم هم أهل لأن تذر فيهم البركة {من قومه} أي قوم موسى الذين لهم القدرة(9/175)
على القيام في المحاولة لما يريدونه، والظاهر أنهم كانوا أيتاماً وأكثرهم - كما قاله مجاهد {على خوف} أي عظيم {من فرعون وملئهم} أي أشراف قوم الذرية؛ ولما كان إنكار الملأ إنما هو بسبب فرعون أن يسلبهم رئاستهم، انحصر الخوف فيه فأشار إلى ذلك بوحدة الضمير فقال: {أن يفتنهم} وأتبعه ما يوضح عذرهم بقوله مؤكداً تنزيلاً لقريش منزلة من يكذب بعلو فرعون لتكذيبهم لأن ينصر عليهم الضعفاء من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلوهم: {وإن فرعون لعال} أي غالب قاهر متمكن بما فتناه به من طاعة الناس له {في الأرض} أي أرض مصر التي هي بكثرة ما فيها من المرافق كأنها جميع الأرض {وإنه لمن المسرفين*} أي العريقين في مجاوزة الحدود بظاهره وباطنه، وإذا ضممت هذه الآية إلى قوله تعالى:
{وإن المسرفين هم أصحاب النار} [غافر: 43] كان قياساً بديهياً منتجاً إنتاجاً صريحاً قطعياً أن فرعون من أصحاب النار، تكذبياً لأهل الوحدة في قولهم: إنه آمن، ليهونوا المعاصي عند الناس فيحلوا بذلك عقائد أهل الدين.(9/176)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
ولما ذكر خوفهم وعذرهم، أتبعه ما يوجب طمأنينتهم، وهو التوكل على الله الذي من راقبه تلاشى عنده كل عظيم، فقال: {وقال موسى} أي لمن آمن به موطناً لهم على أن الجنة لا تنال إلا بمشقة عظيمة «يبتلى(9/176)
الناس على قدر إيمانهم» {يا قوم} فاستعطفهم بالتذكير بالقرب وهزهم إلى المعالي به فيهم من القوة ثم هيجهم وألهبهم على الثبات بقوله: {إن كنتم} أي كوناً هو في ثباته كالخلق الذي لا يزول {آمنتم بالله} وثبتهم بذكر الاسم الأعظم وما دل عليه من الصفات، وأجاب الشرط بقوله: {فعليه} أي وحده لما علمتم من عظمته التي لا يداينها شيء سواه {توكلوا} وليظهر عليكم أثر التوكل من الطمأنينة والثبات والسكينة {إن كنتم} أي كوناً ثابتاً {مسلمين*} جامعين إلى تصديق القلب إذعان الجوارح؛ وجواب هذا الشرط ما دل عليه الماضي من قوله: {فعليه توكلوا} {فقالوا} أي على الفور كما يقتضيه الفاء {على الله} أي الذي له العظمة كلها وحده {توكلنا} أي فوضنا أمورنا كلها إليه {ربنا} أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا {لا تجعلنا فتنة} أي موضع مخالطة بما يميل ويحيل {للقوم الظالمين*} أي لا تصبنا أنت بما يظنون به تهاونك بنا فيزدادوا نفرة عن دينك لظنهم أنا على الباطل ولا تسلطهم علينا مما يفتننا عن ديننا فيظنوا أنهم على الحق {ونجنا برحمتك} أي إكرامك لنا {من القوم} أي الأقوياء {الكافرين*} أي العريقين في تغطية الأدلة، وفي دعائهم هذا إشارة إلى أن أمر الدين أهم من أمر النفس.(9/177)
ولما أجابوه إلى إظهار الاعتماد عليه سبحانه وفوضوا الأمور إليه، أتبعه ما يزيدهم طمأنينة من التوطن في أرض العدو إشارة إلى عدم المبالاة به، لأنه روي أنه كانت لهم متعبدات يجتمعون فيها، فلما بعث موسى عليه السلام أخربها فرعون، فأمر الله تعالى أن تجعل في بيوتهم لئلا يطلع عليهم الكفرة فقال تعالى عاطفاً على قوله: {وقال موسى} {وأوحينا} أي بما لنا من العظمة البالغة {إلى موسى وأخيه} أي الذي طلب مؤازرته ومعارضته {أن تبوءا} أي اتخذا {لقومكما بمصر} وهي ما بين البحر إلى أقصى أسوان والإسكندرية منها {بيوتاً} تكون لهم مرجعاً يرجعون إليه ويأوون إليه {واجعلوا} أي أنتما ومن معكما من قومكما {بيوتكم قبلة} أي مصلى لتتعبدوا فيها مستترين عن الأعداء تخفيفاً من أسباب الخلاف {وأقيموا الصلاة} أي بجميع حدودها وأركانها مستخفين ممن يؤذيكم جمعاً بين آلتي النصر: الصبر والصلاة، وتمرناً على الدين وتثبيتاً له في القلب.
ولما كان الاجتماع فيما تقدم أضخم وأعز وأعظم، وكان واجب على الأمة كوجوبه على الإمام جمع فيه، وكان إسناده البشارة عن الملك إلى صاحب الشريعة أثبت لأمره وأظهر لعظمته وأثبت في قلوب أصحابه وأقر لأعينهم، أفرد في قوله: {وبشر المؤمنين*}(9/178)
أي الراسخين في الإيمان من أخيك وغيره.(9/179)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
ولما ختم ببشارة من دل على إيمانهم إسلامهم بفعل ما يدل على هوان أمر العدو، وكان هلاك المشانىء من أعظم البشائر، وكان ضلال فرعون وقومه بالزينة والمال إضلالاً لغيرهم، سأل موسى عليه السلام إزاله ذلك كله للراحة من شره، فقال تعالى حاكياً عنه: {وقال موسى} أي بعد طول دعائه لفرعون وإظهار المعجزات لديه وطول تكبره على أمر الله وتجبره على المستضعفين من عباده، ولما كان من أعظم أهل الاصطفاء، أسقط الأداة تسنناً بهم، وأشار بصفة الإحسان إلى أن هلاك أعدائهم أعظم إحسان إليهم فقال: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {إنك} أكد لما للجهال من إنكار أن يكون عطاء الملك الأعظم سبباً للإهانة {آتيت فرعون وملأه} أي أشراف قومه على ما هم فيه من الكفر والكبر {زينة} أي عظيمة يتزينون بها من الحلية واللباس وغيرهما {وأموالاً} أي كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما {في الحياة الدنيا} روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت؛ ثم بين غايتها لهم فقال مفتتحاً بالنداء باسم الرب ليعيذه وأتباعه من مثل حالهم: {ربنا} أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا والمدبر لأمورنا {ليضلوا} في(9/179)
أنفسهم ويضلوا غيرهم {عن سبيلك} أي الطريق الواسعة التي نهجتها للوصول إلى رحمتك.
ولما بين أن مآلهم الضلال، دعا عليهم فقال مفتتحاً أيضاً بالنداء باسم الرب ثالثاً لأن ذلك من أمارات الإجابة كما أُشير إليه في آخر آل عمران وإشارة إلى أنهم لا صلاح لهم بدون هلاكهم وهلاكها: {ربنا اطمس} أي أوقع الطمس وهو التسوية بين المطموس وبين غيره مما ليس له نفعه {على أموالهم} .
ولما كان قد رأى منهم من التكبر على الله والتكذيب لآياته والتعذيب لأوليائه ما لا يشفي غيظه منه إلا إدامة شقائهم دنيا وأخرى، وكان عالماً بأن قدرة الله على إبقائهم على الكفر مع تحسيرهم بسلب المال كقدرته على ذلك باستدراجهم إليه بالمال، قال: {واشدد} أي شداً ظاهراً لكل أحد - بما أشار إليه الفك مستعلياً {على قلوبهم} قال ابن عباس: اطبع عليها وامنعها من الإيمان، وأجاب الدعاء بقوله: {فلا يؤمنوا} أي ليتسبب عن ذلك الشد عدم إيمانهم إذا رأوا مبادىء العذاب الطمس {حتى يروا} أي بأعينهم {العذاب الأليم*} حيث لا ينفعهم الإيمان فيكونوا جامعين ذل النفوس المطلوب منهم اليوم ليفيدهم العز الدائم إلى شدة الغضب بوضع الشيء في غير موضعه المنتج لدوام ذلهم بالعقاب؛ وهذه الآية منبهة على أن الرضى بكفر خاص(9/180)
لا يستلزم استحسان الكفر من حيث هو كفر؛ قال الإمام الحليمي في كتاب شعب الإيمان المسمى بالمنهاج: وإذا تمنى مسلم كفر مسلم فهذا على وجهين: أحدهما أن يتمناه له كما يتمنى الصديق لصديقه الشيء يستحسنه فيحب أن يكون له فيه نصيب، فهذا كفر لأن استحسان الكفر كفر، والآخر أن يتمناه له كما يتمنى لعدوه الشيء يستفظعه - فيجب أن يقع فيه، فهذا ليس بكفر، تمنى موسى صلوات الله عليه وسلامه بعد أن أجهده فرعون ألا يؤمن فرعون وملأه ليحق عليهم العذاب، وزاد على ذلك أن دعا الله تبارك وتعالى فلم ينكر تعالى ذلك عليه لعلمه أن شدته على فرعون وغلظته عليه لما رآه من عتوه وتجبره هي التي حملته على ذلك، فمن كان في معناه فله حكمه؛ وقد نقل ذلك عنه الزركشي في حرف الثاء من قواعده مرتضياً له، ونقل عنه أيضاً أنه قال: ولو كان في قلب مسلم على كافر فأسلم فحزن المسلم لذلك وتمنى لو عاد إلى الكفر لا يكفر، لأن استقباحه الكفر هو الذي حمله على تمنيه واستحسانه الإسلام هو الحامل لله على كراهته؛ ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لو قتل عدو للإنسان ظلماً ففرح هل يأثم! إن فرح بكونه عصى الله فيه فنعم، وإن فرح بكونه خلص(9/181)
من شره فلا بأس لاختلاف سببي الفرح - انتهى.
ويؤيده ما روى البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن مقسم مرسلاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا عل عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمي وجهه فقال: «اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً!» فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار، ومسألة أن الرضى بالكفر كفر نقلها الشيخان عن المتولي وسكتا عليها، ولكن قال الشيخ محيي الدين في شرح المهذب: إن ذلك إفراط، فما تقدم من التفصيل عن الحليمي وابن عبد السلام هو المعتمد، والمسألة في أصل الروضة. فإنه قال: لو قال لمسلم: سلبه الله الإيمان، أو لكافر: رزقه الله الإيمان، فليس بكفر لأنه ليس رضى بالكفر لكنه دعاء عليه بتشديد الأمر والعقوبة؛ قلت: ذكر القاضي حسين في الفتاوى وجهاً ضعيفاً أنه لو قال مسلم: سلبه الله الإيمان، كفر - والله أعلم، وحكى الوجهين عن القاضي في الأذكار وقال: إن الدعاء بذلك معصية.(9/182)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
ولما أخبر سبحانه عن دعائه عليه السلام أخبر بإجابته بقوله مستأنفاً: {قال} ولما كان الموضع محل التوقع للإجابة، افتتحه بحرفه فقال: {قد أجيبت دعوتكما} والبناء للمفعول أدل على القدرة وأوقع في النفس من جهة الدلالة على الفاعل بالاستدلال، وثنى للإعلام بأن هارون عليه السلام مع موسى عليه السلام في هذا الدعاء، لأنه معه كالشيء الواحد لا خلاف منه له أصلاً وإن كان غائباً، وذلك(9/182)
كما بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عثمان رضي الله عنه في عمرة الحديبية فضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو غائب في حاجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذا ضرب له في غزوة بدر بسهمه وأجره وكان غائباً.
ولما كانت الطاعة وانتظار الفرج وإن طال زمنه أعظم أسباب الإجابة، سبب عن ذلك قوله: {فاستقيما} أي فاثبتا على التعبد والتذلل والخضوع لربكما كما أن نوحاً عليه السلام ثبت على ذلك وطال زمنه جداً واشتد أذاه ولم يضجر؛ ولما كان الصبر شديداً. أكد قوله: {ولا تتبِّعان} بالاستعجال أو الفترة عن الشكر {سبيل الذين لا يعلمون*} ولما أمر بالتأني الذي هو نتيجة العلم، عطف على ذلك الإخبار بالاستجابة قوله: {وجاوزنا} أي فعلنا بعظمتنا في إجازتهم فعل المناظر للآخر المباري له، ودل بإلصاق الباء بهم على مصاحبته سبحانه لهم دلالة على رضاه بفعلهم فقال: {ببني إسراءيل} أي عبدنا المخلص لنا {البحر} إعلاماً بأنه أمرهم بالخروج من مصر وأنجز لهم ما وعد فأهلك فرعون وملأه باتباعهم سبيل من لا يعلم بطيشهم وعدم صبرهم، ونجى بني إسرائيل بصبرهم وخضوعهم؛ والالتفات من الغيبة إلى التكلم لما في هذه المجاوزة ومقدماتها ولواحقها من مظاهر العظمة ونفوذ الأوامر ومضاء الأحكام؛ وبين سبحانه كيفية إظهار استجابة الدعوة بقوله مسبباً عن المجاوزة:(9/183)
{فأتبعهم} أي بني إسرائيل {فرعون وجنوده} أي أوقعوا تبعهم أي حملوا نفوسهم على تبعهم، وهو السير في أثرهم، واتبعه - إذا سبقه فلحقه، ويقال: تبعه في الخير واتبعه في الشر. ولما أفهم ذلك، صرح به فقال: {بغياً} أي تعدياً للحق واستهانة بهم {وعدواً} أي ظلماً وتجاوزاً للحد.
ولما كان فاعل ذلك جديراً بأن يرجع عما سلكه من الوعورة، عجب منه في تماديه فقال - عاطفاً على ما تقديره: واستمر يتمادى في ذلك -: {حتى} ولما كانت رؤية انفراج البحر عن مواضع سيرهم مظنة تحقق رجوع الماء إلى مواضعه فيغرق، عبر بأداة التحقق فقال: {إذا أدركه} أي قهره وأحاط به {الغرق} أي الموت بالماء كما سأل موسى في أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم {قال آمنت} أي أوقعت إيمان الداعي لي من التكذيب؛ ثم علل إيمانه بقوله مبدلاً من {آمنت} في قراءة حمزة والكسائي بالكسر مؤكداً من شدة الجزع: {أنه} وعلى تقدير الباء تعليلاً في قراءة الجماعة أي معترفاً بأنه {لا إله إلا الذي} ويجوز أن يكون أوقع {آمنت} على {أنه} وما بعدها - أي {آمنت} نفي الإلهية عن كل شيء غير من استثنيه من أن أعبره أو أرجع عنه.
ولما كان قد تحقق الهالك وعلم أنه لا نجاة إلا بالصدق، اراد الإعلام(9/184)
بغاية صدقه فقال: {آمنت} أي أوقعت التصديق معترفة {به بنو إسراءيل} فعينه تعييناً أزال الاحتمال؛ ثم قال: {وأنا من المسلمين*} فكرر قبول ما كان دعي إليه فأباه استكباراً، وعبر بما دل على ادعاء الرسوخ فيه بياناً لأنه ذل ذلاً لم يبق معه شيء من ذلك الكبر ولم ينفعه ذلك لفوات شرطه، فاتصل ذله ذلك بذل الخزي في البرزخ وما بعده، وقد كانت المرة الواحدة كافية له عند وجود الشرط، وزاده تعالى ذلاً بالإيئاس من الفلاح بقوله على لسان الحال أو جبريل عليه السلام أو ملك الموت أو غيره من الجنود عليهم السلام: {آلآن} أي أتجيب إلى ما دعيت إليه في هذا الحين الذي لا ينفع فيه الإجابة لفوات الإيمان بالغيب الذي لا يصح أن يقع اسم الإيمان إلا عليه {وقد} أي والحال أنك قد {عصيت} أي بالكفر {قبل} أي في جميع زمان الدعوة الذي قبل هذا الوقت، ومعصية الملك توجب الأخذ والغضب كيف كانت، فكيف وهي بالكفر! {وكنت} أي كوناً جبلياً {من المفسدين*} أي العريقين في الفساد والإفساد؛ ثم أكده - بدل شماتة الأعداء به الذين كانوا عنده أقل شيء وأحقره - بقوله مسبباً عما تضمنه ذلك الإنكار من الإذلال بالإهلاك إشارة إلى أن الماء أحاط به وصار يرتفع قليلاً قليلاً حتى امتد زمن التوبيخ: {فاليوم ننجيك} أي تنجية عظيمة.(9/185)
ولما كان ذلك ساراً وكانت المساءة بما يفهم السرور إنكاء، قال دالاً على أن ذلك يعد نزع روحه: {ببدنك} أي من غير روح وهو كامل لم ينقص منه شيء حتى لا يدخل في معرفتك لبس {لتكون} أي كوناً هو في غاية الثبات {لمن خلفك} أي يتأخر عنك في الحياة من بني إسرائيل وغيرهم {آية} في أنك عبد ضعيف حقير، لست برب فضلاً عن أن تكون أعلى ويعرفوا أن من عصى الملك أخذ وأن كان أقوى الناس وأكثرهم جنوداً، وقد ادعى بعض الملحدين إيمانه بهذه الآية إرادة لما يعيذ الله منه من حل العقد الواجب من أن فرعون من أكفر الكفرة بإجماع أهل الملل ليهون للناس الاجتراء على المعاصي، وادعى أنه لا نص في القرآن على أنه من أهل النار وضل عن الصرائح التي في القرآن في ذلك في غير موضع وعن أن قوله تعالى:
{وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين} [يونس: 83] مع قوله تعالى: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} [غافر: 43] قياس قطعي الدلالة بديهي النص على أنه من أهل النار، والآية - كما ترى - دليل على قوله: {قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً} - الآية، لو كان فرعون مثل قريش، فكيف ولا نسبة لهم منه في شدة الاستكبار التابعة لكثرة الجموع ونفوذ(9/186)
الكلمة بضخامة الملك وعز السلطان والقوة بالأموال والأعوان، وقد وري أن جبريل عليه السلام كان أتاه بفتيا في عبد نشأ في نعمة سيده فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه، فكتب فرعون جزاء العبد الخارج عن طاعة سيده الكافر نعماءه أن يغرق في البحر، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه فعرفه.
ولما لم يعمل فرعون وآله بمقتضى ما رأوا من الآيات، كان حكمهم حكم الغافلين عنها، فكان التقدير: ولقد غفلوا عما جاءهم من الآيات {وإن كثيراً} أكده لأن مثله ينبغي - لبعده عن الصواب - أن لا يصدق أن أحداً يقع فيه {من الناس} أي وهم من لم يصل إلى حد أول أسنان أهل الإيمان لما عندهم من النوس - وهو الاضطراب - والأنس بأنفسهم {عن آياتنا} أي على ما لها من العظمة {لغافلون} والإصلاح: تقويم العمل على ما ينفع بدلاً مما يضر؛ وإحقاق الحق: إظهاره وتمكينه بالدلائل الواضحة حتى يرجع الطاعن عنه حسيراً والمناصب له مفلولاً؛ والإسراف: الإبعاد في مجاوزة الحق؛ والفتنة: البلية، وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة؛ والنجاة: الخلاص مما فيه المخافة، ونظيرها السلامة، وعلقوا النجاة بالرحمة لأنها إنعام على المحتاج بما تطلع إليه النفوس العباد، فهو على أوكد ما يكون(9/187)
من الدعاء إلى الصلاح؛ والوحي: إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء، والإيحاء والإيماء والإشارة نظائر، ولا يجوز أن تطلق الصفة بالوحي إلا لنبي؛ وتبوأ: اتخذ، وأصله الرجوع، فالمتبوأ: المنزل، لأنه يرجع إليه للمقام فيه: والطمس: محو الأثر فهو تغير إلى الدثور والدروس؛ والإجابة: موافقة الدعوة فيما طلب بها لوقوعها على تلك الصفة؛ والدعوة: طلب الفعل بصيغة الأمر، وقد تكون بالماضي؛ والمجاوزة: الخروج عن الحد من إحدى الجهات؛ والبحر: مستقر الماء الواسع بحيث لا يدرك طرفيه من كان في وسطه، وهو مأخوذ من الاتساع؛ والاتباع: اللحاق بالأول؛ والبغي: طلب الاستعلاء بغير حق؛ والآن: فصل الزمانين الماضي والمستقبل، ومع أنه إشارة إلى الحاضر، ولهذا بنى كما بنى «ذا» ؛ والبدن: مسكن روح الحيوان على صورته.(9/188)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
ولما ذكر تعالى عاقبة أمر فرعون وقومه وأنهم لم ينتفعوا بما جاءهم من البينات مع ما كان فيها من جلي البيان وفي بعضها من الشدائد والامتحان حتى كان آخرها أنه لما رأى مبدأ الهلاك من انفراق البحر لم يزعه عن لجاجه غفلة منه عن عاقبته. وختمها بالإخبار بكثرة الغفلة إشارة إلى أن هذا الخلق في غير القبط أيضاً، أتبع ذلك ذكر خاتمة أمر بني إسرائيل فيما خولهم فيه بعد الإنجاء من النعم المقتضي للعلم القطعي بأنه لا إله غيره، وأن من خالفه كان على خطر الهلاك،(9/188)
وأنهم - مع مشاهدتهم الآيات الآتيه بسببهم إلى فرعون - آتاهم من الآيات الخاصة بهم المنجزة لصدق وعده سبحانه لآبائهم ما فيه غاية الإحسان إليهم والإكرام لهم، وأنهم كانوا تحت يد فرعون على طريق واحد، ليس بينهم خلاف، وما اختلفوا فصاروا فرقاً في الاعتقادات وأحزاباً في الديانات حتى جاءهم العلم الموضح من الله، فكان المقتضي لاجتماعهم على الله مفرقاً لهم على سبيل الشيطان لخبث سرائرهم وسوء ضمائرهم وقوفاً مع الشاهد الزائل وجموداً مع المحسوس الفاني ونسياناً للغائب الثابت والمعلوم المتيقن، كل ذلك لأنا قضينا به فالأمر تابع لما نريد، لا لما يأمر به وينهى عنه، فكان أعظم زاجر عن طلب الآيات وظن أنها توجب له الرد على الغوايات، فقال تعالى: {ولقد بوأنا} أي أسكنا بما لنا من العظمة التي تنقطع الأعناق دون عليائها وتتضاءل ثواقب الأفكار عن إحصائها {بني إسراءيل} مسكناً هو أهل لأن يرجع إليه من خرج عنه، وهو المراد بقوله: {مبوأ صدق} أي في الأرض المقدسة لأن وعدنا كان قد تقدم لهم بها وعادة العرب أنها إذا مدحت الشيء أضافته إلى الصدق لأنه مع ثباته حبيب إلى كل نفس ويصدق ما يظن به من الخير.
ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالرزق، وكان التعبير عنه بالمبوإ دالاً على الرزق بدلالة الالتزام، صرح به فقال: {ورزقناهم} أي(9/189)
بما لنا من العظمة {من الطيبات} أي الحسية حلاء واشتهاء من الفواكة والحبوب والألبان والأعسال وغيرها. والمعنوية من الشريعة والكتاب والمعارف كما تقدم وعدنا لآبائهم بذلك. ولما كانوا كغيرهم إذا كانوا على أمور يتواضعون عليها تقاربوا فيها وتوافقوا، وإذا كانوا على حدود حدها لهم المحسن إليهم وحده لم يلبثوا أن يختلفوا عابهم الله بذلك فقال: {فما} أي فتسبب عن صدقنا لهم في الوعد أنهم ما {اختلفوا} أي أوقعوا الخلف المفضي إلى جعل كل منهم صاحبه خلفه ووراء ظهره. واستهان به {حتى جاءهم العلم} الموجب لاجتماعهم على كلمة واحدة لما له من الضبط حتى يكون أتباعه على قلب واحد. فكأنه قيل: فماذا يفعل بهم؟ لا هم بعقولهم ينتفعون ولا بما جاءهم من الحق يرجعون؟ فقيل مؤكداً لإنكار العرب البعث: {إن ربك} أي المحسن إليك بإصاء الأنبياء بك ووصفك في كتبهم وجعلك صاحب لواء الحمد في القيامة {يقضي بينهم} .
ولما كان هذا تهديداً عظيماً، زاده هولاً وعظمة بقوله: {يوم القيامة} أي الذي هو أعظم الأيام {فيما كانوا} أي بأفعالهم الجبلية {فيه يختلفون*} فيميز الحق من الباطل، والصديق من الزنديق، ويسكن كلاًّ داره.
ذكر بعض ما في التوراة من المن عليهم بالأرض المقدسة:(9/190)
قال قي أثناء السفر الخامس: قد رأت أعينكم جميع أعمال الله العظيمة التي عمل، فاحفظوا جميع الوصايا التي أمركم الله بها اليوم لتدخلوا الأرض التي تجوزون إليها لترثوها وتطول أعماركم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم ويرثها نسلهم الأرض التي تغل السمن والعسل. لأن الأرض التي تدخلونها لترثوها ليست مثل أرض مصر التي خرجتم منها التي كنتم تحتاجون فيها أن تستقوا بأرجلكم وتسقوها مثل بساتين السقي، ولكن الأرض التي تجوزون إليها لترثوها هي أرض الجبال والصحارى، وإنما تشرب من مطر السماء. يتعاهدها الله ربكم في كل حين، وعينا الله ربنا فيها منذ أول السنة إلى آخر السنة. فإن أنتم سمعتم الأحكام التي آمركم بها اليوم وتتقون الله ربكم وتعبدونه من كل قلوبكم وأنفسكم يديم نظره إليكم، ويمطر لكم في الخريف والربيع جميعاً، وتستغلون طعاماً وشراباً وزيتاً، وينبت في حرثكم عشباً لمواشيكم، وتأكلون وتشبعون، احفظوا أن لا تخدع قلوبكم وتروغوا إلى الآلهة الأخرى وتسجدوا لها وتعبدوها فيشتد غضب الرب عليكم، ويمنع السماء من المطر والأرض من غلاتها، وتهلكوا سريعاً من الأرض التي يعطيكم الله ربكم، بل اجعلوا هذه الآيات في قلوبكم، وصيروها ميسماً بين أعينكم، وعلموها بينكم أن يتكلموا بها في حضوركم وفي سفركم، وإذا(9/191)
رقدتم وإذا قمتم، واكتبوها على معاقم بيوتكم وأبوابكم لتطول أعماركم وأعمار أولادكم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم. وإن أنتم حفظتم هذه الوصايا كلها وعملتم بها وأحببتم الله ربكم وسرتم في طرقه ولحقتم بعبادته يهلك الرب الملوك كلها من بين أيديكم وترثون شعوباً أعظم وأعز منكم، وكل بلاد تطأها أقدامكم تكون لكم بين البرية ولبنان ومن النهر إلى الفرات: النهر الأكبر، وتكون تخومكم عند البحر الآخر، ولا يقدر أحد أن يقاومكم، ويلقي الله ربكم خوفكم وفزعكم على كل الأرض التي تطؤونها كما قال لكم الرب: انظروا! إني أتلوا عليكم دعاء ولعناً، أما الدعاء فتصيرون إليه إن أنتم حفظتم وصايا الله ربكم، وأما اللعن فيدرككم إن أنتم لم تسمعوا وصايا الله ربكم وزغتم عن الطريق الذي أمركم به اليوم وتبعتم آلهة أخرى لم تعرفوها، وإذا أدخلكم الله ربكم إلى الأرض التي تدخلونها لترثوها اتلوا الدعاء على جبل حوريب واللعن على جبل من حيالها في مجاز الأردن خلف الطريق عند مغارب الشمس في أرض الكنعانين الذين يسكنون المغرب بإزاء الجبال وجبال بلوط - وفي نسخة: مرج ممري، لأنكم تجوزون الأردن لتدخلوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم وتسكنونها وتحفظون وتعملون بجميع الوصايا التي آمركم بها اليوم - انتهى.
وفي سفر يوشع بن نون عليه السلام: ولما كان بعد موسى(9/192)
عبد الله قال الله ليوشع ابن نون خادم موسى عليهما السلام: موسى عبدي مات، والآن فقم فاعبر هذا الأردن أنت، وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل، كل موضع تطؤه أرجلكم لكم أعطيته، كما قلت لموسى عبدي. من البر وهذه للبنان وإلى النهر الكبير نهر الفرات كل أرض الذاعرين، لا يقف أحد قدامك طول ايام حياتك، كما كنت مع موسى أكون معك، لا أدعك ولا أتركك، اشتد وتأيد، فإنك أنت تنحل هذا الشعب الأرض التي قسمت لآبائهم لإعطاء ذلك لهم، لا يزول درس كتاب هذا الشريعة من فيك. وتلهج به نهاراً وليلاً لكي تحفظ للعمل بجميع المكتوب. فحينئذ تنجح طرقك. وحينئذ ترشد، أليس قد أوصيتك؟ اشتد وتأيد، ولا ترهب ولا تنذعر، لأن معك الله ربك في جميع ما تسير فيه، ووصى بوضع يوشع عرفاء القوم قائلاً: جوزوا في وسط العسكر ووصّوا القوم قائلين لهم: أعدوا لكم زاداً فإنكم بعد ثلاثة أيام عابرون هذا الأردن للدخول لإرث الأرض التي الله ربكم معطيها لكم، اذكروا ذكر القول الذي أمركم به موسى عبد الله قائلاً: الله ربكم مريحكم بما أعطاكم هذه الأرض، نساءكم وأطفالكم ومواشيكم تجلسون في مدنكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن وأنتم تجورون محزومي الخواطر إلى أن يريح الله إخوتكم كما أراحكم فترثوا أيضاً الأرض التي ربكم معطيكم، حينئذ ترجعون إلى أرض حوزكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن مشرق الشمس، فأجابوا يوشع قائلين: جميع(9/193)
ما أوصيتنا به نعمل، كل موضع ترسلنا نمضي كجميع ما قبلنا من موسى كذاك نقبل منك. إذا كان الله معك كما كان مع موسى، كل إنسان يخالف أمرك ولا يقبل كلامك كجميع ما تأمره به يقتل. فاشتد وتأيد، فبعث يوشع بن نون من الكافرين رجلين جاسوسين في خفية قائلاً: امضيا! انظرا الأرض كلها مع أريحا، فمضيا ودخلا إلى بيت امرأة سواقة اسمها راحاب واضطجعا ثمَّ، فقيل لملك أريحا: هو ذا أناس من بني إسرائيل قد جاؤوا إلى هنا الليلة لجس البلد. فأرسل ملك أريحا إلى راحاب قائلاً: أخرجي القوم الجائين إليك الذين دخلوا دارك. فإنهم لجس جميع البلد جاؤوا. فأخذت المرأة الرجلين فأخفت أمرهما وقالت: كذاك كان القوم جاؤوا إليّ ولم أعلم من أين هم؟ وكان عند إغلاق الباب في الظلام.
ثم خرج القوم ولم أعلم أين مضوا؟ اطلبوهم بسرعة فإنكم تلحقونهم؛ ثم أصعدتهما إلى السطح وظهرتهما في فش الكتان. والقوم طلبوهما في طريق الأردن إلى المعابر - وفي نسخة: إلى المخاضات - ولباب أغلقوا بعد ما خرج الطالبون خلفهما. وهما قبل أن يناما صعدت إليهما راحاب إلى السطح فقالت لهما: قد علمت أن الله سلم إليكم البلد، وأنه قد وقعت هيبتكم علينا. وقد ماج جميع سكان البلد من قبلكم. وإنا قد سمعنا أن الله أيبس لكم(9/194)
بحر القلزم عقب خروجكم من مصر وما عملتم بملكي الأمورانيين الذي في مجاز الأردن: سيحون وعوج اللذين اصطلمتموهما، فعند ما سمعنا ذابت قلوبنا ولم يثبت أيضاً روح في واحد منا من جهتكم، فإن الله ربكم هو إله من في السماوات من فوق ومن على الأرض من تحت، والآن فاحلفوا باسم الله إذ قد عملت معكما فضلاً، فتعملاً أيضاً أنتما مع أهل أبي فضلاَ، وتعطياني علامة هي حق. لتستبقوا أبي وأمي وإخوتي وجميع من التصق بهم، وتخلصوا أنفسنا من القتل. فقالا لها: نبذل أنفسنا دونكم للموت إن لم تخبروا بخبرنا هذا. فيكون عند التسليم الله لنا البلد نعمل معك فضلاً وأمانة فأحدرتهما بالحبل من داخل الطاقة إذ منزلها في حائط السور. وفي السور هي ساكنة. وقالت لهما: سيرا إلى الجبل كيلا يلقاكما الطالبون، وبعد ذلك سيرا: لطريقكما، فقالا لها: أبرياء نحن من قسمك هذا الذي استقسمتنا إن لم تفعلي ما نقول لك، هو ذا نحن داخلون إلى البلد فاعقدي خصلة خيط من القرمز في الطاقة التي أخبرتنا منها. وأبوك وأمك وإخوتك وكل بيت أبيك تضمين إليك المنزل، فيكون كل من يخرج من أبواب منزلك إلى خارج دمه في عنقه ونحن أبرياء، وكل من يكون معك في المنزل دمه في أعناقنا إن بطشت به يد. وإن أخبرت بخبرنا(9/195)
هذا فنحن أبرياء من قسمك الذي استقسمتنا، فقالت: كما قلتما، فأطلقتهما ومضيا، وعقدت خصلة القرمز في الطاقة، فمضيا إلى الجبل وجلسا ثم ثلاثة أيام إلى أن رجع الطالبون ولم يجدوهما. ورجع الرسولان وانحدرا من الجبل وجازا الأردن وجاءا إلى يوشع بن نون وقصا له كل ما وافاهما وقالا ليوشع: إن الله دفع بأيدينا كل الأرض، وقد ماج جميع ساكنها منا؛ وأدلج يوشع بالغداة ورحلوا من الكفرين، وجاؤوا إلى الأردن هو وجميع بني إسرائيل وباتوا ثم قبل أن يجوزوا. فلما كان بعد ثلاثة أيام جاز النقباء في وسط العسكر وأمروا القوم قائلين لهم: عند نظركم صندوق عهد الله ربكم والأئمة اللاويين حاملين له أنتم ترحلون من موضعكم وتمشون خلفه، لكن بينكم وبينه بعد مقدار ألفي ذارع بالمساحة، لا تقربوا منه لأجل أن تعرفوا الطريق التي تمشون فيها إذ لم تمشوا فيها أمس وأول أمس.
وقال يوشع للقوم: استعدوا فإن غداً يعمل الله في وسطكم عجائب، وقال يوشع للأئمة: احملوا صندوق العهد وجوزوا قدام القوم. فحملوا صندوق العهد وساروا قدام القوم، وقال الله ليوشع: هذا اليوم ابتدىء بتعظيم اسمك بحضرة جميع إسرائيل لكي يعلموا أنني كما كنت مع موسى أكون معك؛ وقال يوشع لبني إسرائيل: تقدموا(9/196)
هاهنا وأسمعوا الله ربكم؛ قال يوشع: بهذه الخلة تعرفون أن قادراً حياً لذاته في وسطكم، وأن قارضاً يقرض من قدامكم قبائل الأمم: الكنعانيين والذاعرين - وفي نسخة: الحاثبين المنسوبين إلى حاث جدهم - والحويين أي الفصحاء البلغاء - وفي نسخة: المجتمعين إلى الحي - والربضيين والفلاحين والأمورانيين - أي الرؤساء - واليبوسيين - أي الجبارين القاهرين، ها هو ذا صندوق العهد، سيد كل الأرض جائز قدامكم في الأردن والآن خذوا لكم اثني عشر رجلاً من أسباط إسرائيل: رجلاً واحداً من كل سبط، ويكون عند قرار أقدام أرجل الأئمة حاملي صندوق العهد سيد كل الأرض في مياه الأردن من الأمر العظيم أنه تنقطع مياه الأردن المنحدرة من فوق وتقف طوداً واحداً كأنها في زق محصورة.
ولما ارتحل الشعب وقطعوا خيمه ليجوزوا الأردن سار الكهنة الذين حملوا التابوت أمام الشعب، فلما انتهوا إلى الأردن وكان ممتلئاً يفيض كل أيام الحصاد انشق الأردن وقام الماء الذي كان ينحدر من فوق كأنه في زق ناحيته، وتباعد عن قرية إدام التي عند صريم(9/197)
جداً، والذي كان يجري إلى البحر العربي الذي يدعى بحر الملح انشق وحار وانقطع، وجاز الشعب حيال أريحا، وقام الكهنة الذيم حملوا تابوت العهد في الأردن يابساً حتى عبر جميع الشعب بحر الأردن؛ فلما جاز الشعب جميعاً قال الرب ليوشع: اعمد إلى اثني عشر رجلاً من الشعب: من كل سبط رجل واحد، وقل لهم: خذوا من هاهنا من جوف الأردن من تحت أقدام الكهنة اثني عشر حجراً وعبروها معكم وانصبوها في موضع المبيت الذي تبيتون فيه الليلة، فأمرهم يوشع بذلك وأن يحمل كل رجل حجره على عاتقه، فأخذوها إلى موضع مبيتهم ونصبوها هناك، فمكثت الحجارة - التي أخذوها من الأردن من تحت أقدام الكهنة الذين حملوا التابوت - موضوعة هناك إلى اليوم؛ والكهنة الذين حملوا التابوت كانوا قياماً حتى تمت جميع الأقوال التي أمر الرب يشوع أن يقص على الشعب كما أوصى موسى يشوع، وعجل الشعب على المجاز وجازوا، فما جاز جميع الشعب وجاز الكهنة الذين كانوا حاملين التابوت أمام الشعب وجاز بنو روبال وبنو جاد ونصف سبط منسا، وهم متسلخون أمام إخوتهم - كما أمر موسى - أربعون ألفاً ذوو قوة، جازوا أمام الرب إلى قاع أريحا للمحاربة.
في ذلك(9/198)
اليوم عظم يشوع عند جميع بني إسرائيل وفرقوه كفرقهم من موسى طول أيام حياته، وقال الرب ليشوع: مر الكهنة الذين حملوا تابوت الشهادة يصعدوا من الأردن، فأمرهم، فلما صعدوا رجع ماء الأردن إلى مواضعه أول ما استقرت أقدام الكهنة في الشط وجرى في سواحل الأردن كما كان أولاً، فصعدوا من الأردن في عشر خلت من الشهر الأول - قلت: وهو نيسان على ما قال بعض فضلاء اليهود - ونزلوا الجلجال أقصى مشارق أريحا، فأما الاثنا عشر حجراً التي أخذوها من الأردن فنصبها يشوع في الجلجال، وقال يشوع لبني إسرائيل: إذا سألكم بنوكم غداً وقالوا لكم: ما هذه الحجارة؟ قولوا لهم: إن بني إسرائيل فلق له هذا الأردن فجازوه يابساً، لأن الله ربكم يبَّس ما الأردن أمامهم حتى جازوه كما فعل الله ربكم ببحر سوف الذي يبسه أمامنا حتى جزناه ليعلم جميع شعوب الأرض أن يد الرب قوية، وتتقوا الله ربكم كل الأيام.
فلما سمع جميع ملوك الأمورانيين الذين في جانب الأردن الغربي وجميع ملوك الكنعانيين الذين على شاطىء البحر أن الرب يبس ماء الأردن أمام بني إسرائيل حتى جازوا، فزعت قلوبهم ولم يبق فيهم رمق فزعاً من بني إسرائيل وفي ذلك الزمان قال الرب ليشوع: اتخذ سيفاً من طوران واختن بني إسرائيل ثانية، فختن بني إسرائيل ثانية في أكمة(9/199)
الغلف، والذي ختن يشوع جميع الذكورة الذين كانوا ولدوا في البرية حين خرجوا من أرض مصر، لأن جميع الرجال الأبطال المقاتلة هلكوا في البرية لأنهم لم يطيعوا الله ربهم وكانوا كلهم مختتنين، فأقسم الرب عليهم أن لا يريهم الأرض التي وعد آباءهم أن يعطيهموها الأرض التي تغل السمن والعسل، فبنوهم الذين كانوا من بعدهم هم الذين ختن يشوع لأنهم كانوا غلفاً. فلما ختن جميع الشعب مكثوا مواضعهم في المعسكر حتى برئوا، وقال الرب ليشوع: اليوم صرفت عنكم عار أهل مصر، ودعا اسم ذلك الموضع جلجالاً، ونزل بنو إسرائيل الجلجال وعلموا فصحاً في أربعة عشر يوماً من الشهر الأول عند المساء في قاع أريحا وأكلوا من بر الأرض بعد الفصح وأكلوا في ذلك اليوم فطيراً وسنبلاً مقلواً. وارتفع المن عن بني إسرائيل منذ ذلك اليوم حيث أكلوا من بر الأرض ولم ينزل المن لبني إسرائيل بعد ذلك اليوم وأكلوا من بر الأرض وغلات أرض كنعان في تلك السنة. وبينا كان يشوع في قاع أريحا قائماً إذ نظر رجلاً قائماً إزاءه مخترطاً سيفه ممسكه بيده، فاقبل يشوع إليه وقال له: أنت منا أم من أعدائنا؟ قال: أنا سيد أجناد الرب، الآن أتيتك، فخر يشوع ساجداً على وجهه على الأرض وقال: ما الذي يقول السيد(9/200)
لعبده؟ قال: اخلع خفيك عن قدميك، فإن الموضع الذي أنت قائم فيه طاهر، ففعل يشوع ذلك؛ وكان بنو إسرائيل قد حاصروا أريحا، ولم يكن يقدر أحد من أهلها يدخل ولا يخرج، قال الرب ليوشع: انظر! إني قد دفعت في يدك أريحا وملكها وكل أجنادها، فليحط بالمدينة جميع رجال المقاتلة، ودوروا حول المدينة مرة في اليوم، وافعلوا ذلك ستة أيام، ويحمل سبعة من الكهنة سبعة أبواق ويهتفون أمام التابوت، حتى إذا كان اليوم السابع دوروا حول المدينة سبع مرات ويهتف الكهنة بالقرون، فإذا هتفت الأبواق وسمعتهم أصواتها يهتف جميع الشعب بأعلى أصواتهم صوتاً شديداً، فيقع سور المدينة مكانه، ويصعد الشعب كل إنسان حياله، فدعا يشوع الكهنة وقال لهم: احملوا تابوت الرب عهد الرب ويحمل سبعة من الكهنة سبعة قرون وينفخون فيها أمام تابوت الرب، ثم قال للشعب: دوروا حول المدينة، والمتسلخون يجوزون أمام تابوت الرب، فحمل سبعة من الكهنة سبعة قرون وهتفوا أمام تابوت الرب فلم يزالوا ينفخون في القرون، والذين كانوا يحملون التابوت يتبعون أصحاب الأبواق والمتسلخون يسيرون أمام الكهنة الذي يهتفون بالقون ويسيرون أمام التابوت.
وقال يشوع للشعب: لا تهتفوا، ولا تسمعوا أصواتكم، ولا تخرج كلمة من أفواهكم إلى اليوم الذي آمركم أن تهتفوا. فدارت الجماعة بالتابوت كل يوم مرة(9/201)
كما أمرهم يشوع، فلما كان اليوم السابع أدلجوا سحراً وأحاطوا بالمدينة كسنتهم ولكن في ذلك اليوم السابع داروا حولها سبع مرات، وفي المرة السابعة هتف الكهنة بالقرون وقال يشوع للشعب: اهتفوا لأن الرب قد دفع المدينة في أيديكم، ولكن صيروا هذه المدينة وكل ما فيها حريمة للرب، لا يمسه إنسان منكم، وأبقوا على راحاب الزانية - يعني القندقانية كما أخبرني بعض فضلائهم، ويؤيده التعبير عنها فيما مضى بالسواقة والله أعلم - وعلى كل من معها في بيتها لأنها غيبت الدسيسين اللذين أرسلنا، فأما أنتم فاحتفظوا من الحرام، ولا تنجسوا أنفسكم بأكل الحرام، فتصيروا عسكر بني إسرائيل حراماً، فنفخوا في القرون فلما سمع الشعب صوت الأبواق ضجوا كلهم واحدة شديدة جداً، فوقع سور المدينة فصعد الشعب إلى المدينة كل إنسان حياله، فافتتحوها وقتلوا كل من فيها رجالها ونساءها والمشيخة والصبيان والثيران والحمير والغنم، قتلوها بالسيف، وأما الرجلان اللذان اجتسا الأرض فقال لهم يشوع: ادخلا إلى بيت المرأة الزانية - يعني الفندقانية كما مضى - فأخرجاها وأخرجا كل من معها في البيت كما حلفتما لها، ففعلوا وأنزلوهم خارج عسكر بني إسرائيل وأحرقوا المدينة وكل من فيها بالنار، وأحيى يشوع الزانية ووالديها وكل من معها، وأقسم يشوع في ذلك الزمان ولعن وقال: ملعوناً يكون(9/202)
أمام الرب الرجل الذي يقوم يبني مدينة أريحا هذه، وكان الرب بعونه مع يشوع ونصره، وشاع خبره في الأرض كلها، وأثم بنو إسرائيل وتناولوا من الحرام، وذلك لأن عاجار ابن كرمي بن زبدي بن زرح من قبيلة يهودا نحر وأخذ من الحرام وغيب في خيمته، فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل، ثم أرسل يشوع رجالاً إلى عاي التي عند بيت آون من مشارق بيت إل ليجتسوها، فقالوا له: إنه يجزىء في أخذها ألفان أو ثلاثة لأن أهلها قليل، فصعدوا فحاربوهم عند باب المدينة فانهزم بنو إسرائيل وجرح منهم جرحى كثير - فذكر القصة في سجود يشوع وانزعاجه وإخبار الله تعالى إياه أن قومه غلّوا، ثم أمره بالقرعة حتى خرج الذي عنده الغلول وهو عاجار، وكان غلوله طنفسة بابلية ومائتي مثقال فضة وسبيكة من ذهب فيها خمسون مثقالاً، فأخرجه يشوع مع كل شيء هو له، وقد مضى ذلك في البقرة عند
{أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} [البقرة: 98] وتقدم في المائدة فتح بعض بلاد بيت المقدس بأعجوبة أخرى واستمروا هكذا يفتحونها بلداً بعد بلد، ويقتلون من جبابرتها عدداً بعد عدد، ويرون في ذلك من عجائب الأمور وبدائع المقدور ما يبقي على كر الآباد ومَر الدهور، وهم في أثناء ذلك كل قليل يكفرون(9/203)
وينقضون العهود ولا يشكرون كما هو مبين في سفر يوشع بن نون، وقد مضى شيء منه في المائدة عند قوله تعالى {فعموا وصموا} [المائدة: 71]- الآية، كل ذلك بعد أن جاءهم من العلم ما لا تدخله مرية لا يخالطه شك ولا يدنو منه لبس، فتبارك من له الأمر كله، لا مضل لمن هدى ولا هادي لمن يضله.(9/204)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
ولما كان ما مضى - من الآيات هذه السورة المبينة أن من أريدت شقاوته لا ينفعه مشاهدة الآيات - سبباً لنفي الشك عنها وإثبات اليقين بمضامينها بما سلف من الأدلة على تلك المضامين غلى أن ختم ذلك بذم من عمل عمل الشاك بعد أن جاء ما يوجب اليقين من العلم، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما مضى في آخر التي قبلها أشفق الخلق لا سيما على العرب لا سيما على قومه منهم، وكانت الوصية قد برزت من الجناب الإلهي له بما يوافق طبعه من بذل الجهد في ملاطفتهم، كان ذلك جديراً بأن يحرك طبع البشر لتمني الإجابة لما يقترحون، وكان طلب ذلك بعد الفطام عنه من أفعال الشك في الجملة فأريد صرف النفس عنه بالكلية ولو بالخطور في البال فقيل مسبباً عما قبله: {فإن كنت} أي يا أرحم الخلق {في شك} ولم يرد بهذا الكلام حقيقته - والله أعلم - بل تقوية اليقين وتأكيده ورسوخه وتأييده بأن هذا أمر قد عزم عليه وفرغ منه فلا يحتمل مراجعة، وذلك لأن المعنى أن ثباتهم على(9/204)
الشقاوة أمر لا يعلم إلاّ من قبلنا، وذلك بأحد أمرين: إما بواسطة الأمين جبرئيل بما يأتي به من الوحي عنا غضاً طرياً محفوظاً من الغير فلا تحريف فيه ولا تبديل، وإما بواسطة أهل الكتاب عن أنبيائهم - وفي ذلك نزول درجتين مع تجويز التخويف والتبديل، وهذا ما لا يرضاه ذو همة علية ونفس أبية - فالمعنى: أنا قد أخبرتك بأن الآيات لا تزيد المقضي بشقائه إلاّ ضلالاً وأنا خبير بذلك {ولا ينبئك مثل خبير} فلا تطلب إجابتي إياهم إلى ما يقترحون عليك رجاء إيمانهم فإنهم لا يؤمنون بذلك {فإن كنت} أي في وقت من الأوقات {في شك} أي ولو قل {ممآ أنزلنآ} أي بعظمتنا واصلاً على لسان الواسطة {إليك} في ذلك {فسئل} أي بسبب ذلك الشك {الذين يقرءون} أي متتابعين لذلك {الكتاب} أي السماوي من اليهود والنصارى، فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزلنا إليك على حد عظيم. ومن آمن منهم أو كان منصفاً جدير بأن يزداد من فاوضه في ذلك إيماناً؛ ولما كانوا بعض من أوتي الكتاب في الزمن السالف، أثبت الجار فقال: {من قبلك} وهم عن ذلك الخبر بمراحل، فلا تجنح إلى سؤال غيري، وهذا مضمون قوله تعالى مؤكداً آتياً بحرف التوقع(9/205)
لأن كلاًّ من الأمرين في أحق مواضعه: {لقد جآءك الحق} أي الثابت الكامل ثباته وهو إمضاء العدل فيهم؛ وزاده تشريفاً وترغيباً فيه بقوله: {من ربك} أي المحسن إليك باصطفائك لذلك، فلذا سيق مساق البيان له من غير واو، فإذا ثبت أنه الحق أي الثابت أعلى الثبات تسبب عنه البعد من تزلزل من جاءه، فناسب اتباعه بقوله: {فلا تكونن} أكده لأنه حقيق بأن لا ينثني عنه أحد بوجه من الوجوه {من الممترين} أي الغافلين عن آيات الله فتطلب الفضل لأهل العدل؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله! ما شك طرفة عين ولا سأل أحداً منهم.
ولما نهى عن ذلك لم يبق مما اقتضته القسمة العقلية إلاّ العناد ممن يمكن منه كما فعل بنو إسرائيل بعد مجيء العلم فأتبعه النهي عن مثل حالهم بقوله: {ولا تكونن} أي بوجه من الوجوه، والمراد بهذا أتباعه {من الذين كذبوا} أي فعلوا فعل المكذب مستهينين {بآيات الله} أي التي لا أعظم منها بإضافتها إلى من لا أعظم منه {فتكون} أي كوناً راسخاً {من الخاسرين} بل اثبت على ما أنت عليه من اليقين والطمأنينة والثقة بالله والسكينة، وهذا ونحوه مما غلظت فيه العبارة دلالة على مزيد قرب المخاطب وإن كان المراد غيره وعظيم منزلته ولطيف خصوصيته كما مضى بيانه عن الإمام أبي الحسن الحرالي رحمه الله في سورة براءة عند قوله تعالى {عفا الله عنك} [براءة: 43]- الآية، وتغليظ(9/206)
العبارة فيه تأديب عظيم لتابعيه؛ والشك: الوقوف بين النقيضين، وهو من شك العود فيما ينفذ فيه، لأنه يقف بذلك الشك بين جهتيه؛ والإنزال: نقل الشيء من علو إلى سفل؛ والامتراء؛ طلب التشكك مع ظهور الدليل، من مري الضرع وهو مسحه ليدر.
ولما كان ما مضى من هذه الآيات وما كان من طرازها قاضياً بأنه لا تغني الآيات عنهم. صرح به قوله تعالى: {إن الذين حقت} أي وجبت وثبتت {عليهم} أي بأنهم أشقياء، وعبر بالاسم المفهم للإحسان إعلاماً بأنه ما أوجب عليهم العذاب إلاّ إحساناً إليه بما يقاسي من معالجتهم وغير ذلك من الحكمة فقال: {كلمت ربك} أي المحسن إليك في جميع أمرك {لا يؤمنون} أي لا قبول لهم لتجدد الإيمان {ولو جآءتهم كل آية} ونسبتها إلى قوله {لقد جاءك الحق} نسبة {لقد جاءك الحق} إلى {فإن كنت في شك} الآية في البيان المستفاد من حذف العاطف، وإذا كان الكلام في معنى واحد كان بمنزلة الكلمة الواحدة فسمي بها {حتى يروا العذاب الأليم} أي حين لا ينفعهم الإيمان لفوات شرطه كما لم ينفع فرعون لذلك {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تحويلاً} [الأحزاب: 92] .(9/207)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
ولما كان هذا موضع أن يقال: إنما تطلب الآيات لما يرجى من تسبب الإيمان عنها، تسبب عنه أن يجاب بقوله تعالى: {فلولا} أي فهلا {كانت قرية} أي واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها {آمنت} أي آمن قومها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب {فنفعهآ} أي فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها - {إيمانها} ولما كان المعنى «لولا» النفي، كان التقدير: لكن لم تؤمن قرية منهم إلاّ عند صدم العذاب كما فعل فرعون، لو آمن عند رؤية البحر على حال الفلق أو عند توسطه وقبل انسيابه عليه قُبِل، ولكنه ما آمن إلا بعد انهماره ومسه. وذلك حين لا ينفع لفوات شرطه من الإيمان بالغيب {إلاّ قوم يونس} فإنهم آمنوا عند المخايل وقت بقاء التكليف فنفعهم ذلك فإنهم {لمآ آمنوا} ودل على أنه قد كان أظلهم بقوله: {كشفنا} أي بعظمتنا {عنهم} أي حين إيمانهم، روي أنه لم يبق بينهم وبين العذاب إلاّ قدر ميل {عذاب الخزي} أي الذي كان يوجب لهم لو برك عليهم هوان الدارين {في الحياة الدنيا} أي فلم يأخذهم وقت رؤيتهم له {ومتعناهم} أي تمتيعاً عظيماً {إلى حين} وهو انقضاء آجالهم مفرقة كل واحد منهم في وقته المضروب له، وما ذكرته في معنى الآية نقله القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره المسند عن ابن أبي عمر قال: قال سفيان الثوري:(9/208)
{فلولا كانت قرية آمنت} قال: فلم تكن قرية آمنت، وهذا تفسير معنى الكلام، وأما «لولا» فهو بمعنى هلا، وهي على وجوه تحضيض وتأنيث، أي توبيخ، وهي هنا للتوبيخ. ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى «لولا» ، ويلزم كلا من المعنيين النفي؛ والنفع: إيجاب اللذة بفعلها أو ما يؤدي إليها كالدواء الكريه المؤدي إلى اللذة؛ والخزي هو أن يفضح صاحبه، وهو وضع من القدر للغم الذي يلحق به، وأصله التعب.
ولما كان ما مضى ربما أوجب اعتقاد أن إيمان مثل أولئك محال جاءت هذه الآية في مقام الاحتراس منه مع البيان لأن حرص الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إيمانهم لا ينفع ومبالغته في إزالة الشبهات وتقرير الدلائل لا تفيد إلاّ بمشيئة الله تعالى لتوفيقهم وهدايتهم، ولو كان ذلك وحده كافياً لآمنوا بهذا السورة فإنها أزالت شبهاتهم وبينت ضلالاتهم وحققت بقصتي نوح وموسى عليهما السلام ضعفهم ووهن مدافعاتهم فقال تعالى: {ولو شآء} أي إيمان الناس {ربك} أي المحسن إليك بإقبال من أقبل لعلمه الخير فيه وإدبار من أدبر لعدم قابليته للخير {لأمن من في الأرض} من الكفار.
ولما كان هذا ظاهراً في الكل، صرح به مؤكداً لأن المقام يقتضيه فقال:(9/209)
{كلهم جميعاً} أي مجتمعين في آن واحد لا يختلفون في شيء منه، ولكن لم يشأ ذلك وأنت لحرصك على امتثال أوامري ووصيتي لك باللطف بخلقي الموافق لما جبلتك عليه من الخير تريد ذلك {أفأنت تكره الناس} أي الذين لم يرد الله إيمانهم مع ما طبعهم عليه من الاضطراب {حتى يكونوا} أي كوناً جبلياً {مؤمنين} أي راسخين في الإيمان، وإيلاء الاستفهام الاسم مقدماً على الفعل للإعلام بأن الفعل - وهو هنا الإكراه - ممكن من غير ذلك الاسم وهو هنا الله وحده القادر على تحويل الطباع فإن قدرته قاهرة لكل شيء ومشيئته نافذة في كل شيء مع الدلالة على أن وقوع خلاف المشيئة مستحيل لا يمكن لغيره تعالى بإكراه ولا غيره، والمشيئة معنى يكون به الفعل مراداً أخذت من الشيء، والمراد بالآية تخفيف ما يلحق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التحسر للحرص على إيمانهم {وما كان} أي وما ينبغي ولا يتأتى {لنفس} أي واحدة فما فوقها {أن تؤمن} أي يقع منها إيمان في وقت ما {إلاّ بإذن الله} أي بإرادة الملك الأعلى الذي له الخلق والأمر وتمكينه، فيجعل الثبات والطمأنينة - اللازمين للإيمان الذي هو أبعد شيء عن السحر - على الذين ينتفعون بعقولهم فيلزمون معالي الأخلاق التي هي ثمرات للإيمان {ويجعل الرجس} أي الاضطراب والتزلزل الذي يلزمه التكذيب الذي هو أشبه شيء بالسحر لأنه تخييل ما(9/210)
لا حقيقة له والقذر والقباحة والغضب والعقاب الناشىء عنه.
ولما كان ما في هذه السورة من الدلائل قد وصل في البيان إلى حد لا يحتاج فيه إلى غير مجرد العقل قال: {على الذين لا يعقلون} أي لا يوجد لهم عقل، فهم لذلك لا ينتفعون بالآيات وهم يدعون أنهم أعقل الناس فيتساقطون في مساوىء الأخلاق وهم يدعون أنهم أبعد الناس عنها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ والنفس: خاصة الشيء التي لو بطل ما سواها لم يبطل ذلك الشيء، ونفسه وذاته واحد.(9/211)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
ولما تقرر ما مضى من النهي عن الإصغاء إليهم في طلب الآيات، وختم بتعليق الأمر بمجرد المشيئة، كان كأنه قيل: فماذا يقال لهم إذا طلبوا؟ فقال: {قل} أي يا أشرف الخلق لهم غير مهتم بأمرهم ومنبهاً لهم على إبطال مذهب الجبر المتعلق أصحابه بنحو هذه الآية، لأن المشيئة مغيبة والعبد مأمور ببذل الجهد في الطاعة بما له من القدرة والاختبار.
ولما أمر بهذا الفكر فكان ربما ظن لأجله أن للإنسان قدرة مستقلة، نبه على مذهب أهل السنة القائل بالكسب الذي هو - كما قال الإمام علي رضي الله عنه - أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض، فقال معلماً أن من حكم بشقائه لا ينفعه شيء: {انظروا} أي بأبصاركم وبصائركم لتخرجوا بالانتفاع بالعقل عن عداد البهائم؛ قال الإمام: ولو أن الإنسان تفكر في كيفية حكمة الله تعالى في خلق جناح بعوضة لانقطاع(9/211)
فكره قبل أن يصل إلى أول مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد، فلذلك أبهم في قوله: {ماذا} أي الذي {في السماوات والأرض} أي من الآيات وواضح الدلالات التي أخرجتموها - بإلفكم لها - عن عداد الآيات، وهي عند التأمل من أعظم خوارق العادات، وقال الإمام: فكأنه سبحانه نبه على القاعدة الكليه حتى ينتبه لأقسامها، وقال أبو حيان أخذاً من الإمام: السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب وما يختص بذلك من المنافع والفوائد، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان وخصوصاً حال الإنسان - انتهى.
ولما كان ما فيها من الآيات في غايه الدلالة، نبه سبحانه على أن التوقف عن الإيمان بعد التنبيه على كيفية الاستدلال معاندة فقال: {وما} وهي نافية أو استفهامية {تغني الآيات} أي وإن كانت في غاية الوضوح {والنذر} أي والإنذارات أو الرسل المنذرون {عن قوم} أي وإن كانت فيهم قوة {لا يؤمنون*} أي للحكم بشقائهم، فكان ذلك سبباً لتهديدهم بقوله: {فهل ينتظرون} أي بجميع قواهم في تكذيبهم للرسول وتخلفهم عن الإيمان {إلا}(9/212)
أي أياماً أي وقائع {مثل أيام} أي وقائع {الذين خلوا} ولما كان أهل الأيام الهائلة بعض من كان قبل، أتى بالجار فقال: {من قبلهم} أي من مكذبي الأمم وهم القبط وقوم نوح ومن طوي بينهما من الأمم، أي من حقوق الكلمة عليهم فنحل بهم بأسنا ثم ننجيكم لإيمانكم كما كنا نحل بأولئك إذا كذبوا رسلنا، ثم ننجي الرسل ومن آمن بهم حقاً علينا ذلك للعدل بين العباد.
ولما تقدمت الإشارة إلى أن الكلمة حقت على الكافرين بعدم الإيمان والرجس الذي هو العقاب، زاد في تهديدهم بالاعتراض بما سببه عن فعلهم فعل من ينتظر العذاب بقوله: {قل فانتظروا} أي بجميع جهدكم ما ترونه واقعاً بكم بسبب ما تقرر عندكم مما كان يقع بالماضين في أيام الله، وزاد التحذير استئنافه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب: {إني} وأعلمهم بالنصفة بقوله: {معكم من المنتظرين*} .
ولما كان التقدير: فإنا كنا في أيام الذين خلوا نوقع الرجس بالمكذبين، عطف عليه بياناً لم كان يفعل بالرسل وأتباعهم إذا أهلك الظالمين قوله: {ثم ننجي} أي تنجية عظيمة وننجيهم إنجاء عظيماً وجاء به مضارعاً حكاية للأحوال الماضية وتصويراً لها تحذيراً لهم من مثلها وإعلاماً بأنه كذلك يفعل بهذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباعه رضي الله عنهم، وأشار بأداة التراخي إلى طول زمان الابتلاء وعظيم رتبة التنجية، وحذف مقابل الإنجاء لأن المقام بعد آية(9/213)
{ألا إن أولياء الله} ناظر إلى البشارة أكثر من النظر إلى النذارة {رسلنا} أي الذين عظمتهم من عظمتنا {والذين آمنوا} أي بالرسل وهم معهم في زمانهم ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان تشريفاً للرسل فإنهم بصدد الرسوخ بملازمتهم؛ ثم وصل بذلك تشريفاً للراسخين وترغيباً في مثل حالهم قوله: {كذلك} أي كما حق علينا إهلاك الكافرين هذا الإهلاك العظيم {حقاً علينا} أي بما أوجبناه على جنابنا الأعظم {ننج المؤمنين} أي العريقين في الإيمان ولو كانوا بعد موت الرسل تنجية عظيمة وتنجيهم إنجاء عظيماً، فالآية من الاحتباك لما أشارت إليه القراءتان بالتخفيف والتثقيل، أو يكون ذلك بني على سؤال من لعله يقول: هل حقوق النجاة مختص بالرسل ومن معهم؟ فقيل: لا، بل {كذلك} أي الحقوق {حقاً علينا} على ما لنا من العظمة {ننج المؤمنين} في كل زمن وإن لم يكن بين ظهرانيهم رسول، لأن العلة الاتصاف بالإيمان الثابت، فيكون الكاف مبتدأ «وننج» خبره؛ والنظر: طلب المعنى بالقلب من جهة الذكر كما يطلب إدراك المحسوس بالعين؛ والغنى: حصول ما ينافي الضر وصفة النقص، ونقيضه الحاجة؛ والنذر: جمع نذير، من النذارة وهي الإعلام بموضع المخافة ليقع به السلامة؛ والانتظار: الثبات لتوقع ما يكون من الحال؛ والمثل إن كان من الجنس فهو ما سد مسد غيره(9/214)
في الحس، وإن كان من غيره فالمراد ما كان فيه معنى يقرب به من غيره كقربه من جنسه كتشبيه أعمال الكافر بالسراب؛ والنجاة من النجوة وهي الارتفاع من الهلاك.
ولما تقدم الفطام عن الميل يطلب الآيات، وكان طلبهم لها إنما هو على وجه الشك، وإن لم يكن على ذلك الوجه فإنه فعل الشاك غالباً وتقدمت أجوبة لهم، وختم ذلك بتهديدهم وبشارة المؤمنين الموجبة لثباتهم، ناسبه كل المناسبة أن اتبعت الأمر بجواب آخر دال على ثباته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه مظهر دينه رضي من رضي وسخط من سخط، لأن البيان قد وصل إلى غايته في قوله تعالى: {قل يا أيها الناس} أي الذين هم في حيز الاضطراب، لم ترقهم هممهم إلى رتبة الثبات {إن كنتم} أي كوناً هو كالجبلة منغمسين {في شك} كائن {من} جهة {ديني} تطلبون لنزوله - بعد تكفل العقل بالدلالة عليه - إنزال الآيات، فأنا لست على شك من صحة ديني وبطلان دينكم فاعرضوه على عقلوكم وانظروا ما فيه من الحكم مستحضرين ما لدينكم من الوهي الذي تقدم بيانه في قوله تعالى
{قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق} [يونس: 59] ونحوه {فلا أعبد} أي الآن ولا في المستقبل الزمان {الذين تعبدون} أي الآن أو بعد الآن {من دون الله} أي الملك الأعظم لعدم قدرتهم على شيء من ضري، فلا تطمعوا في أنه يحصل لي شك بسبب حصول الشك(9/215)
لكم، فإذاً لا أعبد غير الله أصلاً.
ولما كان سلب عبادته عن غيره ليس صريحاً في إثباتها له قال: {ولكن أعبد الله} أي الجامع لأوصاف الكمال عبادة مستمرة؛ ثم وصفه بما يوجب الحذر منه ويدل على كمال قدرته {الذي يتوفاكم} بانتزاع أرواحكم التي لا شيء عندكم يعدلها. فلا تطمعون - عند إرادنه لنزعها - في المحاولة لتوجيه دفاع عن ذلك. وفي هذا الوصف - مع ما فيه من الترهيب - إشارة إلى الدلالة على الإبداء والإعادة، فكأنه قيل: الذي أوجدكم من عدم كما أنتم به مقرون بعدمكم بعد هذا الإيجاد وأنتم صاغرون، فثبت قطعاً أنه قادر على إعادتكم بعد هذا الإعدام بطريق الأولي فاحذروه لتعبدوه كما أعبده فإنه قد أمرني بذلك وأنتم تعرفون غائلة الملك إذا خولف، وقال {إن كنتم في شك} مع أنهم يصرحون ببطلان دينه، لأنهم في حكم الشاك لاضطرابهم عند ورود الآيات، أو لأن فيهم الشاك فغلب لأنه أقرب إلى الحيز؛ والشك: وقوف بين المعنى ونقيضه، وضده الاعتقاد فإنه قطع بصحة المعنى دون نقيضه، وعبر ب «من» إشارة إلى أن فعلهم ذلك ابتدأ من الدين، ولو عبر ب «في» لأفهم أنهم دخلوا فيه لأنهم في الشك والشك في الدين، والظرف لظرف الشيء ظرف لذلك الشيء، وترك العطف إشارة إلى أن كل جواب منها كاف على حياله.(9/216)
ولما قرر ما هو الحقيق بطريق العقل، أتبعه بما رود من النقل بتأييده وإيجابه بقوله: {وأمرت} أي بأمر جازم ماض ممن لا أمر لأحد معه، وعظم المأمور به بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال: {أن أكون} أي دائماً كوناً جبلياً، ولما كان السياق لما يحتمل الشك من الأمر الباطن، عبر بالإيمان الذي هو للقلب فقال: {من المؤمنين} أي الراسخين في هذا الوصف {وأن أقم} أي أيها الرسول {وجهك} أي كليتك على سبيل الإخلاص الذي لا شوب فيه {للدين} فوصل أولاً كلمه «أن» بمعنى الأمر أي {أن أكون} دون «أكن» وثانياً بلفظه وهو {أقم} جمعاً بين الأسلوبين، وكلاهما بمعنى المصدر، وخص الثاني بذلك لطوله لأنه كالتفصيل للأول فالخطاب فيه أوكد وألذ، وقوله: {حنيفاً} حال من فاعل «أقم» ومعناه: مسلماً ميالاً مع الدليل - كما أوضحته في البقرة، أي أجمع بين الإيمان بالقلب والإسلام بالجوارح {ولا تكونن} أي في وقت من الأوقات {من المشركين*} الذين هم على ضد صفة الإسلام من الجفاء والغلظة والجمود والقسوة.(9/217)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
ولما نهاه عن الشرك، أكده بما هو كالتعليل له بما يلزمه من العبث بالخضوع لما لا ضر فيه ولا نفع بقوله تعالى: {ولا تدع} أي في رتبة من الرتب الكائنة {من دون الله} أي الذي(9/217)
بيده كل شيء {ما لا ينفعك} أي إن فعلت شيئاً من ذلك فأتاك بأسنا {ولا يضرك} أي إن أقمت على طاعتنا مع نصرنا {فإن فعلت} أي شيئاً مما نهيناك عنه {فإنك إذاً} إذا دعوت ذلك الغير بسبب ذلك {من الظالمين*} أي العريقين في وضع الدعوة في غير محلها لأن ما هو كذلك في غاية البعد عن منصب الإلهية؛ ثم قال تعالى عاطفاً على قوله {فإن فعلت} : {وإن يمسسك الله} أي الذي لا راد لأمره {بضر} أي أيّ ضر كان على أي وجه كان وإن كان ظاهراً جداً بما أنبأ عنه الإظهار {فلا كاشف له} أي أصلاً بوجه من الوجوه {إلا هو} لأنه أراده وما أراده لا يكون غيره فلا ترج سواه في أن يبذله بخير، وعبر بالمس لأنه أخوف {وإن يردك} أي مطلق إرادة {بخير فلا} أي أصابك لا محالة فإنه لا {رآد} ونبه على أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بأن وضع مكان الضمير قوله: {لفضله} أي عمن يريده به كما يفعل بعض العاتين من أتباع ملوك الدنيا في رد بعض ما يريدون، بل هو بحيث لا ينطق أحد إلا بإذنه فلا تخش غيره، فالآيه من الاحتباك: ذكر المس أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والإرادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً، ولم يستثن في الإرادة كما استثنى في الكشف لأن دفع المراد محال، وعبر بالإرادة في الخير(9/218)
وبالمس في الضير تنبيهاً على أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مراد بالخير بالذات وبالضر بالعرض تطييباً لقلبه لما تكرر في هذه السورة من الإخبار بإحقاق العذاب على الفاسقين والإيئاس من الظالمين، فلما تقرر ذلك حسن موقع قوله مبيناً لحال ذلك الفضل: {يصيب به} أي بذلك الفضل أو بالذي تقدم من الخير والضير {من يشاء} أي كائناً من كان من أدنى وأعلى، وبين العلة في كونهم مقهورين بقوله: {من عباده} وهذا كله إشارة إلى أن ما أوجب الإعراض عن معبوداتهم بانسلاله عنها أوجب الإقبال عليه بثبوته له واختصاصه به، وختم الآية بقوله: {وهو الغفور} أي البليغ الستر للذنوب {الرحيم*} أي البالغ في الإكرام إشارة إلى أن إصابته بالخير لا يمكن أن يكون إلا فضلاً منه بعد الستر للذنوب والرحمة للضعف، فهو الحقيق بأن يعبد؛ والمس: اجتماع التباين من غير نقص، ونظيره المطابقة، والمجامعة نقيضها المباينة؛ والكشف: رفع الستار، جعل الضر كأنه مانع من إدراك الإنسان وساتر له.
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر والنواهي والأجوبة بسبب ما يقترحونه على وجه التعنت، وختم بأن من دعا غيره كان راسخاً في الظلم لا مجير له منه، ختم ذلك بجواب معلم بأن فائدة الطاعة ليست راجعة إلا إليهم، وضرر النفور ليس عائداً إلا عليهم فقال تعالى: {قل يا أيها الناس} أي غاية كل من له قابلية التحرك والاضطراب(9/219)
{قد جاءكم الحق} أي الكامل بهذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الكتاب، وذلكم خير عظيم أصابكم الله به، وزاد الرغبة فيه بقوله: {من ربكم} أي المحسن إليكم {فمن} أي فتسبب عن ذلك أنه من {اهتدى} أي آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمل بما في الكتاب {فإنما يهتدي لنفسه} أي لأنه تبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجنة {ومن ضل} أي كفر بهما أو بشيء منهما {فإنما يضل عليها} لأنه ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء لأنه فانٍ فقد غر نفسه {وما أنا} ولما كان السياق لنفي تصرفه فيهم وأن ذلك إنما هو إلى الله تعالى، كان تقديم ضميرهم أهم فقال: {عليكم بوكيل*} فيطلب مني حفظكم مما يؤدي إلى الهلاك ومنعه عنكم كما يطلب من الوكيل.
ولما كان أكثر ذلك وعظاً لهم وتذكيراً ختمه بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يفعله في خاصة نفسه أجابوا أو لمن يجيبوا، فقال عطفاً على قوله {قل يا أيها الناس} : {واتبع} أي بجميع جهدك {ما يوحى إليك} وبناه للمفعول لأن ذلك كان بعد أن تقررت عصمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلم أن كل ما يأتيه من عند الله، فكان ذلك أمكن في أمره باتباع كل ما يأتيه منه سبحانه وفي الإيذان بأنه لا ينطق عن الهوى {واصبر} في تبليغ الرسالة على ما أصابك في ذلك من عظيم الضرر وبليغ الخطر(9/220)
من ضلال من لم يهتد وإعراضه وجفوته وأذاه {حتى يحكم الله} أي الملك الأعظم بين من ضل من أمتك ومن اهتدى {وهو} أي وحده {خير الحاكمين} لأنه يوقع الحكم في أولى مواقعه وأحقها وأحسنها وأعدلها، وهو المطلع على السرائر فاعمل أنت بما تؤمر به وبشر وأنذر وأخبر وادع إلى الله بجميع ما أمرك به واترك المدعوين حتى يأمرك فيهم بأمره؛ قال الزمخشري: وروى أنها لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصار قال: «إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» وتبعه على ذلك أبو حيان وغيره، فإن صح فالسر فيه - والله أعلم - أنه لما أعلمت هذه الآية أن من اتبع الوحي ابتلى بما ينبغي الصبر عليه وأفهمت أن من كان له أشد اتباعاً كان أشد بلاء، وكان الأنصار رضي الله عنهم أجمعين أحق بهذا الوصف من غيرهم من حيث إنهم كانوا أول قبيلة جمعها الإيمان ومن حيث كانوا له أسهل قياداً وألين عريكة مع كونهم لم يتقدم لهم عشرة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا خبرة بأحواله توجب لهم من اتباعه ما يوجب لمن كان من بني عمه قريش يخالطه ويأنس به ويرى منه معالي الأخلاق وكريم الشمائل ما يوفر داعيته على اتباعه، فلما كان ذلك كذلك، خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصار رضي الله عنهم لهذا الأمر، فتفضيلهم في ذلك من الجهتين المذكورتين فلا يتوهم(9/221)
تفضيلهم على المهاجرين بل المهاجرون أفضل لأنهم جمعوا إلى النصرة الهجرة مع أن أكثرهم له من قرب النسب من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسبق في الإسلام حظ وافر.
هذا ما ظهر لي من مناسبته على تقدير الصحة. والذي في الصحيح عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يقطع للأنصار من البحرين فقالت الأنصار: حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين مثل الذي تقطع لنا، وقال: سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» فهذا فيه أن السبب حرصهم على الإنصاف وهو يدل على أن المنصف يقل إنصاف الناس له وهو أمر مستقرى: والوحي: إلقاء المعنى غلى النفس في خفاء. وهو هنا ما يجيء به الملك إلى النبي عليهما السلام عن الله تعالى فيلقيه إليه على اختصاصه به من غير أن يرى ذلك سواه من الناس؛ والصبر: تجرع مرارة الامتناع من المشتهي إلى الوقت الذي ينبغي فيه تعاطيه ويعين عليه العلم بعاقبته وكثرة الفكر في الخبر الذي ينال به، واعتياد الصبر في خصلة يسهل الصبر في خصلة أخرى لأن الخير يدعو إلى الخير فتمكن الإنسان في خصلة يصير له ملكة تدعوه إلى ماشاكلها، وقد ختم سبحانه السورة بما ابتدأها به من أمر الكتاب والإشارة إلى الإرشاد لما ينفع من ثمرة إنزاله وهو العمل بما دل(9/222)
عليه أو أشار إليه إلى أن ينجلي الحكيم الذي انزله للحكم في الدنيا أو في الآخرة بما لا مرد له مما برزت به مواعيده الصادقة في كلماته التامة، وهذا لعينه هو أول التي بعدها، فكان ختم هذه السورة وسطاً بين أولها وأول التي تليها، ففيه رد المقطع على المطلع وتتبع لما استتبع والله الموفق.(9/223)
سورة هود
مقصودها وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل في حالتي البشارة والنذارة المقتضي ذلك لمنزلة سبحانه وضع كل شيء في أتم محاله وإنفاذه مهما أريد الموجب للقدرة على كل شيء، وأنسب ما فيها لهذاالمقصد ما ذكر في سياق قصة هو عليه السلام من أحكام البشارة والنذارة بالعاجل والآجل والتصريح بالجزم بالمعالجة بالمبادرة الناظر إلى أعظم مدارات السورة (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) والعناية بكل دابة والقدرة على كل شيء من البعث وغيره المقتضي للعلم بكل معلوم اللازم منه التفرد بالملك.
وسيأتي في الأحاف وجه اختصاص كل منهما باسمهما (بسم الله) أي الذي له تمام العلم وكمال الحكمة وجميه القدرة) الرحمن (لجميع خلقه بعموم البشارة والنذارة (الرحيم) لأهل ولايته بالحفظ في سلوك سبيله (الر) .(9/224)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
لما ختمت السورة التي قبلها - كما ترى - بالحث على اتباع الكتاب ولزومه والصبر على ما يتعقب ذلك من مرائر الضير المؤدية إلى مفاوز الخير اعتماداً على المتصف بالجلال والكبرياء والكمال. ابتدئت هذه بوصفه بما يرغب فيه، فقال بعد الإشارة إلى إعادة القرع بالتحدي على ما سلف(9/224)
في البقرة: {كتاب} أي عظيم جامع لكل خير، ثم وصفه بقوله: {أحكمت} بناه للمفعول بياناً لأن إحكامه أمر قد فرغ منه على أيسر وجه عنه سبحانه وأتقن إتقاناً لا مزيد عليه {آياته} أي أتقنت إتقاناً لا نقص معه فلا ينقصها الذي أنزلها بنسخها كلها بكتاب آخر ولا غيره، ولا يستطيع غيره نقص شيء منها ولا الطعن في شيء من بلاغتها أو فصاحتها بشيء يقبل، والمراد ب {محكمات} في آل عمران عدم التشابه.
ولما كان للتفصيل رتبة هي في غاية العظمة، أتي بأداة التراخي فقال: {ثم} أي وبعد هذه الرتبة العالية التي لم يشاركه في مجموعها كتاب جعلت له رتبة أعلى منها جداً بحيث لم يشاركه في شيء منها كتاب وذلك أنه {فصلت} أي جعلت لها - مع كونها مفصلة إلى حلال وحرام وقصص وأمثال - فواصل ونهايات تكون بها مفارقة لما بعدها وما قبلها، يفهم منها علوم جمة ومعارف مهمة وإشارات إلى أحوال عالية، وموارد عذبة صافية، ومقامات من كل علة شافية، كما تفصل القلائد بالفرائد، وهذا التفصيل لم يشاركه في شيء منه شيء من الكتب السالفة، بل هي مدمجة إدماجاً لا فواصل لها كما يعرف ذلك من طالعها، ويكفي في معرفة ذلك ما سقته منها في تضاعيف هذا الكتاب،(9/225)
وما أنسب ختام هذه الآية للإحكام والتفصيل بقوله: {من لدن} أي نزلت آياته محكمة مفصلة حال كونها مبتدئة من حضرة هي أغرب الحضرات الكائنة من إله {حكيم خبير} منتهية إليك وأنت أعلى الناس في كل وصف فلذلك لا يلحق إحكامها ولا تفصيلها، أرسلناك به قائلاً: {ألا تعبدوا} أي بوجه من الوجوه {إلا الله} أي الإله الأعظم.
ولما كان هذا معظم ما أرسل به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومداره، استأنف الإخبار بأنه أرسله سبحانه مؤكداً له لأجل إنكارهم فقال: {إنني} ولما كان إرساله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأجل رحمة العالمين، قدم ضميرهم فقال: {لكم منه} أي خاصة، ثم أجمل القرآن كله في وصفيه صلى الله عليه مسلم بقوله: مفدماً ما هو أنسب لختام التي قبلها بالصبر: {نذير وبشير} كامل في كل من الوصفين غاية الكمال، وهذا التقدير يرشد إليه قوله تعالى أول التي قبلها {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} [يونس: 2] مع إيضاحه لما عطف عليه قوله تعالى:
{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه أن} [هود: 25] عطفناه عليه، وإظهاره لفائدة عطفه كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويرجح أن «لا» ناهية جازمة ل {تعبدوا} عطف {أن استغفروا} عليه، فقد ظهر من(9/226)
تلويح هذا وتصريحه وتصريح ما في بقية السورة أن مقصودها وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل بما يعجز الخلق لأنه من عند من هو شامل العلم كامل القدرة فهو بالغ الحكمة يعيد الخلق للجزاء كما بدأهم للعمل فوجب إفراده بالعبادة وأن يمتثل جميع أمره، ولا يترك شيء منه رجاء إقبال أحد ولا خوف إدباره، ولا يخشى غيره. ولا يركن إلى سواه، على ذلك مضى جميع النبيين ودرج سائر المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجمعين.
ولما تقدم أنه نذير وبشير. أتبع ذلك بما يشمل الأمرين بقوله عطفاً على {ألا تعبدوا} مشيراً إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره: {وأن استغفروا ربكم} أي اطلبوا مع الإخلاص في العبادة أن يغفر لكم المحسن إليكم ما فرطتم فيه؛ وأشار بأداة التراخي إلى علو رتبة التوبة وأن لا سبيل إلى طلب الغفران إلا بها فقال: {ثم توبوا إليه} أي ارجعوا بالظاهر والباطن رجوعاً لا رجعة فيه وإن كان المراد بها الدوام فجليل رتبته غير خفي {يمتعكم} أي يمد في تلذيذكم بالعيش مداً، من متع النهار: ارتفع، والضحى: بلغ غايته، وأمتعه الله بكذا: أبقاه وأنشأه إلى أن يبلغ شبابه؛ ولما، كان التمتيع - وهو المتاع البالغ فيه حتى لا يكون فيه كدر - لا يكون إلا في الجنة فلذلك جعل المصدر {متاعاً} وأنه وضع موضع «تمتيعاً» ، هذا المصدر(9/227)
ووصفه بقوله: {حسناً} ليدل على أنه أنهى ما يليق بهذه الدار، ولقد كان ما أوتيه الصحابة رضي الله عنهم في زمن عمر رضي الله عنه من الظفر بالإهداء وسعة الدنيا ورغد العيش كذلك {إلى} أي ممتداً إلى {أجل مسمى} أي في علمه إما بالموت لكل واحد أو بانقضاء ما ضربه من الأجل للنعمة التي أشار إليها {ويؤت كل ذي فضل} أي عمل فاضل {فضله} أي جزاء ما قصد بعمله على وجه التفضيل منه سبحانه فإنه لا يجب لأحد عليه شيء، وهو مع ذلك على حسب التفضيل: الحسنة بعشرة أمثالها؛ قال ابن مسعود: وهلك من غلبت آحاده عشراته.
ولما انقضى التبشير مجزوماً به، أتبعه التحذير مخوفاً منه لطفاً بالعباد واستعطافاً لهم فقال: {وإن تولوا} اي تكلفوا أنفسكم ضد ما طبعها الله عليه من سلامة الفطرة وسهولة الانقياد من الإعراض ولو أدنى درجاته بما اشار إليه حذف التاء {فإني أخاف عليكم} أي والعاقل من أبعد عن المخاوف {عذاب يوم كبير*} أي لكبر ما فيه من العذاب ممن قدر على إثباتكم، وخص اسم الرب تذكيراً بما له من النعم في الإيجاد والإنشاء والتربية؛ ولما كان الاستغفار - وهو طلب الغفران - مطلوباً في نفسه لكنه لا يعتبر إلا إذا قرن بالتوبة، عطف عليه(9/228)
ب {ثم} إشارة إلى عظيم رتبتها وعلى منزلتها وإن كان المراد بها الدوام عليها فجليل رتبته غير خفي، وفي التعبير عن العمل بالفضل إشارة إلى أنه لم يقع التكليف إلا بما في الوسع مع أنه من معالي الأخلاق، لأن الفضل في الأصل ما فضل عن الإنسان وتعانيه من كريم الشمائل، وما كان كذلك فهو في الذروة من الإحكام، لأنه منع الفعل من الفساد؛ والحكيم من الحكمة وهي العلم بما يجمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد والنقض، وبها يميز الحسن من القبيح والفاسد من الصحيح، وقد أشارت الآية إلى أن الاستغفار والتوبة سبب السعة
{ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} [المائدة: 66] وأن الإعراض سبب الضيق، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» {ويؤت كل ذي فضل فضله} إشارة إلى ثواب الآخرة، فالتوبة سبب طيب العيش في الدنيا والآخرة.
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير في كتابه في مناسبة هذه السورة للتي قبلها. ولما كانت سورة يونس عليه السلام قد تضمنت - من آي التنبيه والتحريك للفطر ومن العظات والتخويف والتهديد والترهيب(9/229)
والترغيب وتقريع المشركين والجاحدين والقطع بهم والإعلام بالجريان على حكم السوابق ووجوب التفويض والتسليم - ما لم تشمل على مثله سورة لتكرر هذه الأغراض فيها، وسبب تكرر ذلك فيها - والله أعلم - أنها أعقبت بها السبع الطوال، وقد مر التنبيه على أن سورة الأنعام بها وقع استيفاء بيان حال المتنكبين عن الصراط المستقيم على اختلاط أحوالهم، ثم استوفت سورة الأنعام ما وقعت الإحالة عليه من أحوال الأمم السالفة كما تقدم وبسطت ما أجمل من أمرهم، ثم اتبع ذلك بخطاب المستجيبين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحذروا وأنذروا، وكشف عن حال من تلبس بهم من عدوهم من المنافقين، وتم المقصود من هذا في سورتي الأنفال وبراءة، ثم عاد الخطاب إلى طريقة الدعاء إلى الله والتحذير من عذابه بعد بسط ما تقدم، فكان مظنة تأكيد التخويف والترهيب لإتيان ذلك بعد بسط حال وإيضاح أدلة، فلهذا كانت سورة يونس مضمنة من هذا ما لم يضمن غيرها، ألا ترى افتتاحها بقوله: {إن ربكم الله} [يونس: 3] الآيات. ومناسبة هذا الافتتاح دعاء الخلق إلى الله في سورة البقرة بقوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] ثم قد نبهوا هنا كما نبهوا هناك فقال تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله}
[يونس: 38] ثم تأكدت المواعظ والزواجر والإشارات إلى أحوال المكذبين والمعاندين،(9/230)
فمن التنبيه {إن ربكم الله} [يونس: 3] ، {هو الذي جعل الشمس} [سورة يونس، آية: 5] ، {إن في اختلاف الليل والنهار} [سورة يونس، آية: 6] ، {قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده} [يونس: 34] ، {قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق} [سورة يونس، آية: 35] ، {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} [سورة يونس، آية: 101]- إلى غير هذا، وعلى هذا السنن تكررت العظات والأغراض المشار إليها في هذه السورة إلى قوله: {يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم} [سورة يونس، آية: 108] فحصل من سورة الأعراف والأنفال وبراءة ويونس تفصيل ما كان أجمل فيما تقدمها كما حصل مما تقدم تفصيل أحوال السالكين والمتنكبين، فلما تقرر هذا كله أتبع المجموع بقوله: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} وتأمل مناسبة الإتيان بهذين الاسمين الكريمين وهما {الحكيم الخبير} ثم تأمل تلاؤم صدر السورة بقوله: {يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم} [سورة يونس، آية: 108] وقد كان تقدم قوله تعالى: {قد جاءتكم موعظة من ربكم} [يونس: 57] فأتبع قوله: {قد جاءكم الحق من ربكم} بقوله في صدر سورة هود {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} [هود: 41] فكأنه في معرض بيان الحق والموعظة، وإذا كانت محكمة مفصلة فحق لها أن تكون شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وحق توبيخهم في قوله تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} [يونس: 39] والعجب في عمههم مع إحكامه وتفصيله ولكن {الذين حقت عليهم(9/231)
كلمت ربك لا يؤمنون} [يونس: 96] وتأمل قوله سبحانه آخر هذه السورة {وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود: 120] ، و {جاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} [هود: 120] فكل الكتاب حق وموعظة وذكرى، وإنما الإشارة - والله أعلم - بما أراد إلى ما تقرر الإيماء إليه من كمال بيان الصراط المستقيم وملتزمات متبعيه أخذاً وتركاً، وذكر أحوال المتنكبين على شتى طرقهم، واختلاف أهوائهم وغاياتهم وشرُّهم إبليس فإنه متبعهم والقائل لجميعهم في إخبار الله تعالى {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم} [إبراهيم: 22] وقد بسط من أمره وقصته في البقرة والأعراف ما يسر على المؤمنين الحذر منه وعرفهم به وذكر اليهود والنصارى والمشركون والصابئون والمنافقون وغيرهم، وفصل مرتكب كل فريق منهم كما استوعب ذكر أهل الصراط المستقيم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وفصل أحوالهم ابتداء وانتهاء والتزاماً وتركاً ما أوضح طريقهم، وعين حزبهم وفريقهم {أولئك الذين هدى الله} [الأنعام: 90] وذكر أحوال الأمم مع أنبيائهم وأخذ كل من الأمم بذنبه مفصلاً، وذكر ابتداء الخلق في قصة آدم عليه السلام وحال الملائكة في التسليم والإذعان وذكر فريق الجن من مؤمن وكافر وأمر الآخرة وانتهاء حال الخلائق واستقرارهم الأخروي وتكرير دعاء الخلق إلى الله تعالى طمعاً فيه ورحمة وإعلام الخلق بما هو علبه سبحانه وما يجب(9/232)
له من الصفات العلى والأسماء الحسنى، ونبه العباد على الاعتبار وعملوا طرق الاستدلال ورغبوا ورهبوا وبشروا وأنذروا وأعلموا بافتقار المخلوقات بجملتها إليه سبحانه كما هو المتفرد بخلقهم إلى ما تخلل ذلك مما يعجز الخلائق عن حصره والإحاطة به
{والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4] فما تقدم هذا كله في السبع الطوال وما تلاها. أعقب ذلك بقوله: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [هود: 1] ثم أتبع هذا بالإيماء إلى فصول ثلاثة عليها مدار آي كتب، وهي فصل الإلهية، وفصل الرسالة، وفصل التاكليف، أما الأول فأشار إليه قوله: {ألا تعبدوا إلا الله} [هود: 2] وأما فصل الرسالة فأشار إليه قوله سبحانه: {إنني لكم منه نذير وبشير} [هود: 2] وأما فصل التالكيف فأشار إليه قوله سبحانه {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} [هود: 3] . وهذه الفصول الثلاثة هي التي تدور عليها آي القرآن وعليها مدار السورة الكريمة، فلما حصل استيفاء ذلك كله فيما تقدم ولم يبق وجه شبهة للمعاند ولا تعلق للجاحد واتضح الحق وبان قال سبحانه وتعالى: {وجاءك في هذه الحق} [هود: 120] إشارة إلى كمال المقصود وبيان المطلوب واستيفاء التعريف بوضوح الطريق وقد وضح من هذا تلاء السورة الكريمة لما تقدمها، ومما يشهد لهذا - والله أعلم - قوله تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} [هود: 17] وقوله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا} [هود: 112](9/233)
فقد وضح طريقك وفاز بالفلاح حزبك وفريقك {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} [هود: 113] فقد عرفتم سبيلهم ومصيرهم فقد بان طريق الحق، وكيف ينكب من جزم سلوكه من الخلق! ونظيره قوله سبحانه {وجاءك في هذه الحق} [هود: 120] عقب ما ذكر سبحانه {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] وقوله: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله} [الانفطار: 19] فتأمل ذلك والله المستعان - انتهى.(9/234)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
ولما خوف المنذرون باليوم الكبير كانوا كأنهم قالوا: ما هذا اليوم؟ فكان الجواب: يوم يرجعون إليه، ولما كانوا ربما حملوا الرجوع على مجرد الموت والصيرورة تراباً، نبههم على أنه بغير المعنى الذي يتوهمه بل بمعنى إعادتهم كما كانوا فقال: {إلى الله} أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده {مرجعكم} أي رجوعكم ووقته ومكانه لأجل الحساب لا إلى التراب ولا غيره، وهو بكل شيء عليم، ومنه بدؤكم لأخذ الزاد للمعاد، وجعل فاصلة الآية حكماً على المراد فقال: {وهو} أي وحده {على كل شيء} أي ممكن {قدير*} أي بالغ القدرة لأنهم يقرون بقدرته على أشياء هي أعظم من الإعادة، فهو قادر على الإعادة كما قدر على البداءة، فالآية من الاحتباك: ذكر المرجع أولاً دليلاً على المبدأ ثانياً، وتمام القدرة ثانياً دليلاً على تمام العلم أولاً لأنهما متلازمان.
ولما تقدم من التخويف والإطماع ما هو مظنة لإقبالهم ورهبهم(9/234)
على التولي بخصوصه، فكان موضع أن يقال: هل أقبلوا؟ فقيل: لا قال مبيناً أن التولي باطناً كالتوالي ظاهراً لأن الباطن هو العمدة، مؤكداً لأنه امر لا يكاد أن يصدق، والتأكيد أقعد في تبكيتهم: {ألا إنهم} أي الكفار المعاندين {يثنون صدورهم} أي يطوونها وينحرفون عن الحق على غل من غيرِ إقبال لأن من أقبل على الشيء عليه بصدره {ليستخفوا منه} أي يريدون أن يوجدوا إخفاء سرهم على غاية ما يكون من أمره. فإن كان مرادهم بالثني الاستتار من الله تعالى فالأمر في عود الضمير إليه سبحانه واضح، وإن كان من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالاستخفاء منه استخفاء ممن أرسله، ثم أعلم أن ذلك غير مغن عنهم لأنه يعلم سرهم وعلنهم في أخفى أحوالهم عندهم، وهو حين استغشاهم ثيابهم، فيغطون الوجوه التي تستقر عن بعض ما في القلوب للمتوسمين فقال: {ألا حين يستغشون ثيابهم} أي يوجدون غشيانها أي تغطيتها لرؤوسهم، لاستخفاء كراهية لسماع كلام الله وأخبار رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يعلم ما يسرون} أي يوقعون إسراره في أيّ وقت كان ومن أيّ نوع كان من غير بطء لتدبر أو تأمل، ولما لم يكن بين علم السر والعلن ملازمة لاختصاص العلن بما يكون لغيبة أو اختلاف بأصوات ولفظ أو اختلاف لغة ونحو ذلك قال تصريحاً: {وما يعلنون} أي يوقعون إعلانه لا تفاوت في(9/235)
علمه بين إسرار وإعلان، فلا وجه لاستخفائهم نفاقاً، فإن سوق نفاقهم غير نافق عنده سبحانه. ثم علله بما هو أدق من ذلك كله مع شموله للنوعين فقال: {إنه عليم} أي بالغ العلم جداً {بذات الصدور*} أي بضمائر قلوبهم التي في دواخل صدورهم التي يثنونها من قبل أن يقع لهم إضمارها، بل من قبل أن يخلقهم؛ وأصل الثني العطف، ومنه الاثنان - لعطف أحدهما على الآخر، والثناء - لعطف المناقب في المدح.
ولهذا لما قال العبد في الفاتحة {الرحمن الرحيم} بعد الحمد قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي - كما في حديث «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» والاستثناء - لعطف الثاني على الأول بالاستخراج منه؛ والاستخفاء: طلب خفاء الشيء: ثم أتبع ذلك بما يدل على شمول العلم والقدرة معاً فقال:(9/236)
{وما} وأغرق في العموم بقوله: {من دآبة} ودل على أن الانتفاع بالأموال مخصوص بأهل العالم السفلي بقوله: {في الأرض} أي صغرت أو كبرت {إلا على الله} أي الملك الأعلى الذي، له الإحاطة وحده لا على غيره {رزقها} أي قوتها وما تنتفع وتعيش به بمقتضى ما أوجبه على نفسه، تحقيقاً لوصوله وحملاً على التوكل فيه، لأن الإفصال على كل نفس بما لا تعيش إلا به ولا يلائمها إلا هو مدة حياتها أدق مما مضى في العلم مع تضمنه لتمام القدرة، والآية مع ذلك ناظرة إلى ترغيب آية {وأن استغفروا ربكم} فالمراد: أخلصوا العبادة له ولا تفتروا عن عبادته للاشتغال بالرزق فإنه ضمنه لكم وهو عالم بكل نفس فلا تخشوا من أنه ينسى أحداً، وقال: {وفي الأرض} ليعم ما يمشي على وجهها وما في أطباقها من الديدان ونحوها مما لا يعلمه إلا هو، لقد شاهدت داخل حصاة من شاطىء بحر قبرس شديدة الصلابة كأنها العقيق الأبيض دودة عندها ما تأكل، وأخبرني الفاضل عز الدين محمد بن أحمد التكروري الكتبي أنه شاهد غير مرة في دواخل حجارة تقطع من جبل مصر الدود عنده ما يأكل من الحشيش الأخضر وما يشرب من الماء؛ ونبه بقوله: {ويعلم مستقرها} أي مكانها الذي تستقر فيه {ومستودعها} أي موضعها الذي تودع فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة او بعده من قبر أو فلاة أو غير ذلك على ما يحيط به علمه من تفاصيل(9/237)
السكنات والحركات ما كان منها وما يكون من كل ذلك مما يحير الفكر ويدهش الألباب، ثم جعل فاصلة الآية ما هو في غاية العظمة عند الحق وهو {كل} أي من ذلك {في كتاب مبين*} فإنه ليس كل ما يعلمه العبد يقدر على كتابته ولا كل ما يكتبه يكون مبيناً بحيث إنه كلما أراد الكشف منه وجد ما يريده، وإذا وجده كان مفهماً له؛ والدابة: الحي الذي من شأنه الدبيب؛ والمستقر: الموضع الذي يقر فيه الشيء، وهو قراره ومكانه الذي يأوي إليه؛ والمستودع: المعنى المجعول في قراره كالولد الذي يكون في البطن والنطفة التي في الظهر، وقد جعل سبحانه في كتابه ما ذكر حكماً منها ما للملائكة فيه من العبرة عند المقابلة بما يكون من الأمور المكتوبة قبل وجودها.(9/238)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
ولما كان خلق ما منه الرزق أعظم من خلق الرزق وتوزيعه في شمول العلم والقدرة معاً، تلاه بقوله: {وهو} أي وحده {الذي خلق} أي أوجد وقدر {السماوات والأرض} وحده لم يشركه في ذلك أحد كما أنتم معترفون {في ستة أيام} ولما كان خلق العرش أعظم من ذلك كله فإن جميع السماوات والأرض بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة. وأعظم من ذلك أن يكون محمولاً على الماء الذي لا يمكن حمله في العادة إلا في وعاء ضابط محكم، تلاه بقوله: {وكان} أي قبل خلقه لذلك {عرشه} مستعلياً {على الماء} ولا يلزم من ذلك(9/238)
الملاصقة كما أن السماء على الأرض من غير ملاصقة. وقد علم من هذا السياق أنه كان قبل الأرض خلق فثبت أنه وما تحته محمولان بمحض القدرة من غير سبب آخر قريب أو بعيد، فثبت بذلك أن قدرته في درجات من العظمة لا تتناهى، وهذا زيادة تفصيل لما ذكر في سورة يونس عليه السلام من أمر العرش لأن هذه السورة التفصيل ونبه بقوله تعالى معلقاً ب «خلق» : {ليبلوكم} أي أنه خلق ذلك كله لكم سكناً كاملاً بمهده وسقفه من أكله وشربه وكل ما تحتاجونه فيه وما يصلحكم وما يفسدكم ومكنكم من جميع ذلك والحكمة في خلق ذلك أنه يعاملكم معاملة المختبر، ودل على شدة الاهتمام بذلك بسوقه مساق الاستفهام في قوله: {أيكم} أي أيها العباد {أحسن عملاً} على أنه فعل هذه الأفعال الهائلة لأجل هذه الأمور التي هم لها مستهينون وبها مستهزئون، وعلق فعل البلوى عن جملة الاستفهام لما فيه من معنى العلم لأنه طريق إليه، روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قال الله عز وجل: أنفق أنفق عليك» ، وقال: «يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في(9/239)
يده، وكان عرشه على الماء،. وبيده الميزان يخفض ويرفع» وفي الآية حث على محاسن الأعمال والترقي دائماً في مراتب الكمال من العلم الذي هو عمل القلب والعمل الظاهر الذي هو وظيفة الأركان.
ولما ثبت - بيده الخلق الذي هم به معترفون - القدرة على إعادته، وثبت بالابتلاء أنه لا تتم الحكمة في خلق المكلفين إلا باعادتهم ليجازي كلاًّ من المحسن والمسيء بفعاله وأنهم ما خلقوا إلا لذلك. عجب من إنكارهم له وأكده لذلك فقال: {ولئن قلت} أي لهؤلاء الذين ما خلقت هذا الخلق العظيم إلا لابتلائهم {إنكم مبعوثون} أي موجودون، بعثكم ثابت قطعاً لا بد منه.
ولما كان زمن البعث بعض الزمن قال: {من بعد الموت} الذي هو في غاية الابتداء {ليقولن} أكده دلالة على العلم بالعواقب علماً من أعلام النبوة {الذين كفروا إن} أي ما {هذا} أي القول بالبعث {إلا سحر مبين*} أي شيء مثل السحر تخييل باطل لا حقيقة له أو خداع يصرف الناس عن الانهماك في اللذات للدخول في طاعة الأمر.
ولما كان ما تقدم عنهم من الأفعال ومضى من الأقوال مظنة لمعاجلتهم(9/240)
بالأخذ، وكان الواقع أنه تعالى يعاملهم بالإمهال فضلاً منه وكرماً، حكى مقالتهم في مقابلة رحمته لهم فقال: {ولئن أخرنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء {عنهم} أي الكفار {العذاب} أي المتوعد به {إلى أمة} أي مدة من الزمان ليس فيها كدر {معدودة} أي محصورة الأيام أي قصيرة معلومة عندنا حتى تعد الأنفاس {ليقولن} على سبيل التكرار {ما يحبسه} أي العذاب عن الوقوع استعجلاً له تكذيباً واستهزاء، وهو تهديد لهم بأنه آتيهم عن قريب فليعتدوا لذلك.
ولما كان العاقل لا ينبغي أن يسأل عن مثل ذلك إلا بعد قدرته على الدفع، أعرض عن جوابهم وذكر لهم أنهم عاجزون عن دفاعه عند إيقاعه إعلاماً بأنهم عكسوا في السؤال، وتحقيقاً لأن ما استهزؤوا به لا حق بهم لا محالة، فقال مؤكداً لشديد إنكارهم: {ألا يوم} وهو منصوب بخبر «ليس» الدال على جواز تقدم الخبر {يأتيهم ليس} أي العذاب {مصروفاً عنهم} أي بوجه من الوجوه؛ وقدم الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التهديد فقال: {وحاق بهم} أي أدركهم إذ ذاك على سبيل الإحاطة {ما كانوا} أي بجبلاتهم وسيىء طبائعهم، وقدم الظرف إشارة إلى شدة إقبالهم على الهزء به حتى كأنهم لا يهزؤون بغيره فقال: {به} ولما كان استعجالهم استهزاء، وضع موضع يستعجلون قوله:(9/241)
{يستهزءون} أي يوجدون الهزء به إيجاداً عظيماً حتى كأنهم يطلبون ذلك.(9/242)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
ولما كان قولهم ذلك ناشئاً عن طبع الإنسان على الوقوف مع الحالة الراهنة والعمى عن الاستضاءة بنور العقل فيما يزيلها في العاقبة، بين ذلك ليعلم أن طبعه مناف لما تضمنه مقصود السورة من الإحكام الذي هو ثمرة العلم. وبعلم ذلك يعلم مقدار نعمته على من حفظه على ما فطره عليه من أحسن تقويم بقوله مؤكداً لأن كل أحد ينكر أن يكون طبعه كذلك: {ولئن أذقنا} أي بما لنا من العظمة {الإنسان} أي هذا النوع المستأنس بنفسه؛ ولما كان من أقبح الخلال استملاك المستعار. وكانت النعم عواري من الله يمنحها من شاء من عباده، قدم الصلة دليلاً على العارية فقال: {منا رحمة} أي نعمة فضلاً منا عليه لا بحوله ولا بقوته من جهة لا يرجوها بما دلت عليه أداة الشك ومكناه من التلذذ بها تمكين الذائق من المذوق {ثم نزعناها} أي بما لنا من العظمة وإن كره ذلك {منه} أخذاً لحقنا {إنه ليئوس} أي شديد اليأس من أن يعود له مثلها {كفور*} أي عظيم الستر لما سلفه له من الإكرام لأن شأنه ذلك وخلقه إلا من رحم ربك {ولئن أذقناه نعماء} من فضلنا.
ولما كان استملاكه العارية طبعاً له، لا ينفك عنه إلا بمعونة شديد من الله. دل عليه بما أفهم أنه لو كان طول عمره في الضر ثم نال حالة(9/242)
يرضاها عقب زمن الضر سواء بادر إلى اعتقاد أنها هي الحالة الأصلية له وأنها لا تفارقه أصلاً ولا يشوبها نوع ضرر ولا يخالط صفوها شيء من كدر. فقال دالاًّ على اتصال زمن الضر بالقول بنزع الخافض من الظرف: {بعد ضراء} أي فقر شديد مضر ببدنه، ولم يسند المس إليه سبحانه كما فعل في النعماء تعليماً للأدب فقال: {مسته} أي بما كسبت يداه {ليقولن} مع قرب عهده بالضراء خفة وطيشاً {ذهب السيِّئات} أي كل ما يسوءني {عني} وقوله {إنه} الضمير فيه للإنسان، المعنى أن الإنسان. فهي كلية مشهورة بمستغرق، أي أن كل إنسان {لفرح فخور} أي خارج عن الحد في فرحه شديد الإفراط في فخره على غيره بكل نعمة تفضل الله عليه بها. لا يملك ضر نفسه ومنعها من ذلك فلذا اتصل بها قوله مستثنياً من الإنسان المراد به اسم الجنس: {إلا الذين صبروا} في وقت الشدائد وزوال النعم رجاء لمولاهم وحسن ظن به بسبب إيمانهم الموجب لتقيدهم بالشرع {وعملوا الصالحات} أي من أقوال الشكر وأفعاله عند حلول النعم، فهم دائماً مشغولون بمولاهم شكراً وصبراً، وهم الذين أتم عليهم سبحانه نعمه، وخلقهم في أحسن تقويم. وهم أقل من القليل لعظيم جهادهم لنفوسهم(9/243)
فيما جبلت عليه من الحظوظ والشهوات وغيرها وشياطينهم.
ولما كان كأنه قيل: فما لهم لم يكونوا كذلك! أنتج السياق مدحهم فقال: {أولئك} أي العالو المراتب {لهم مغفرة} إذا وقعت منهم هفوة {وأجر كبير*} على صبرهم وشكرهم؛ والذوق: تناول الشيء بالفم لإدراك الطعم كما أن الشم ملابسة الشيء الأنف لإدراك الرائحة؛ والنزع: رفع الشيء عن غيره مما كان مشابكاً له كالقلع والقشط؛ واليأس: القطع بأن الشيء لا يكون، وهو ضد الرجاء، ويؤوس: كثير اليأس، وهو ذم لأنه للجهل بسعة الرحمة الموجبة لقوة الأمل في كل ما يجوز في الحكمة فعله؛ والنعماء: إنعام يظهر أثره على صاحبه، كما أن الضراء مضرة تظهر الحال بها، لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة من حمراء وعوراء مع ما في مفهومها من المبالغة؛ والسيئة: ما يسوء من جهة نفور طبع أو عقل، وهي هنا المرض والفقر ونحوه؛ والفرح: انفتاح القلب بما يلتذ به؛ وعبارة البغوي: هو لذة في القلب بنيل المشتهى وهو أعظم من ملاذ الحواس؛ والفخر: التطاول بتعديد المناقب؛ والصبر: حبس النفس عن المشتهى من المحارم ونحوها، والصبر على مر الحق يؤدي إلى الفوز في الآخرة مع ما فيه من جمال في الدنيا؛ والكبير واحد يقصر مقدار غيره عنه؛ والكثير: جمع يزيد على عدد غيره.(9/244)
ولما استثنى سبحانه من الجارين مع الطبع الطائشين في الهوى من تحلى برزانة الصبر الناشىء عن وقار العلم المثمر لصالح العمل، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأس الصابرين، وكان ما مضى من أقوالهم وأفعالهم مثل قولهم {ما يحبسه} وتثنيهم صدورهم أسباباً لضيق صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فربما كانت مظنة لرجائهم تركه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض ما يوحى إليه من عيب آلهتهم وتضليل آبائهم وتسفيه أحلامهم، وغير ذلك مما يشق عليهم طمعاً في إقبالهم أو خوفاً من إدبارهم فإنهم كانوا يقولون: ما نراه يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكرنا به من الشر، قال تعالى مسبباً عن ذلك ناهياً في صيغة الخبر: {فلعلك تارك} أي إشفاقاً أو طمعاً {بعض ما} ولما كان الموحى قد صار معلوماً لهم وإن نازعوا فيه بنى للمفعول قوله: {يوحى إليك} كالإنذار وتسفيه أحلام آبائهم {وضآئق به} أي بذلك البعض {صدرك} مخافة ردهم له إذا بلغته لهم؛ ثم علل ذلك بقوله: {أن} أي مخافة أو لأجل أن {يقولوا} تعنتاً ومغالبة إذ لو كانوا مسترشدين لكفتهم آية واحدة {لولا} أي هلا ولم لا {أنزل عليه كنز} يستغني به ويتفرغ لما يريد، وبنوه للمفعول لأن المقصود مطلق حصوله وكانوا يتهاونون بالقرآن لعلمهم أنه الآية العظمى فكانوا لا يعدونه آية عناداً ومكابرة {أو جاء معه ملك} أي ليؤيد كلامه وليشهد له، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضيق صدره بمثل أقوالهم هذه ويثقل عليه أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون(9/245)
منه فحركه الله بهذا لأداء الرسالة كائناً فيها ما كان، فكان المعنى: فإذا تقرر أن الإنسان مطبوع على نحو هذا من التقلبات، فلا تكن موضع رجائهم في أن تكون تاركاً ما يغيظهم مما نأمرك به، بل كن من الصابرين؛ قال أهل السير: فلما بادى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه إلا من عصمه الله؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أم المشركين قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا.
ولما أفهم هذا السياق الإنكار لما يفتر عن الإنذار، كان كأنه قيل له: هذا الرجاء المرجو منكر، والمقصود الأعظم من الرسالة النذارة لأنها هي الشاقة على النفوس، وأما البشارة فكل من قام يقدر على إبلاغها فلذا قال: {إنما أنت نذير} فبلغهم ما أرسلت به فيقولون لك ما يقدره الله لهم فلا يهمنك فليس عليك إلا البلاغ وما أنت عليهم بوكيل تتوصل إلى ردهم إلى الطاعة بالقهر والغلبة بل الوكيل الله الفاعل لما يشاء {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة.
ولما كان السياق لإحاطته سبحانه، قدم قوله: {على كل شيء} منهم ومن غيرهم ومن قبولهم وردهم ومن حفظك منهم ومن غيره {وكيل*} فهو يدبر الأمور على ما يعلمه من الحكم، فإنشاء جاء(9/246)
بما سألوا وإن لم يشأ لم يأت به ولا اعتراض عليه فتوكل عليه في كل أمر وإن صعب، ولعله اقتصر على النذارة لأن المقام يقتضيها من أجل أنهم أهل لها وأنها هي التي يطعمون في تركها بإطماعهم في المؤالفة بالإعراض عما يوجب المخالفة؛ والصدر: مسكن القلب، يشبه به رئيس القوم والعالي المجلس لشرف منزلته على غيره من الناس؛ والكنز: المدفون، وقد صار في الدين صفة ذم لكل مال لم يخرج منه الواجب من الزكاة وإن لم يكن مدفوناً، والآية من الاحتباك: نفي أولاً قدرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإتيان بما سألوا دليلاً على قدرة مرسله على ذلك وغيره ثانياً. وأثبت الوكالة ثانياً دليلاً على نفيها أولاً.(9/247)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
ولما كانوا ذوو الهمم العوال، لا يصوبون إلى الكنوز والأموال، وكان الملك إنما يراد لتطييب النفس بتثبيت الأمر. وكان فيما يشهد به إعجاز القرآن ببديع نظمه وباهر حكمه وحكمه وزاجر غرائبه ووافر علمه ما يغني عن ذلك، وكان في كل آية منه ما يبين للفهم سفساف قدحهم في الرسالة، كان موضع الإنكار له، فكان كأنه قيل: أيقولون ذلك تعنتاً منهم واقتراحاً وإعراضاً عن معجز القرآن فأعرض عنه فإنه لا يضر في وجه الدليل {أم يقولون} أي مكررين {افتراه} فكان ذلك موضع أن يقال: نعم، إنهم ليقولون ذلك فيقدحون في الدليل فماذا يقال لهم؟ فقيل: {قل} أي لهم على سبيل التنزل {فأتوا} يا معاشر العرب فإنكم مثلي في العربية واللسان(9/247)
والمولد والزمن وفيكم من يزيد عليَّ بالكتابة والقراءة ومخالطة العلماء والتعلم من الحكماء ونظم الشعر واصطناع الخطب والنثر وتكلف الأمثال وكل ما يكسب الشرف والفخر {بعشر سور} أي قطع، كل قطعة منها تحيط بمعنى تام يستدل فيها عليه {مثله} أي تكون العشر مثل جميع القرآن في طوله وفي مثل احتوائه على أساليب البلاغة وأفانين العذوبة والمتانة والفحولة والرشاقة حال كونها {مفتريات} أي أنكم قد عجزتم عن الإتيان بسورة أي قطعة واحدة آية أو آيات من مثله فيما هو عليه من البلاغة والإخبار بالمغيبات والحكم والأحكام والوعد والوعيد والأمثال وادعيتم مكابرة أنه مفترى فارغ عن الحكم فأتوا بعشر مثله في مجرد البلاغة غير ملزمين بحقائق المعاني وصحة المباني - ذكره البغوي عن المبرد، وقد مضى في البقرة عند {فأتوا بسورة من مثله} عن الجاحظ وغيره ما يؤيده؛ قال أبو حيان: وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولاً بأن يفعل أمثالاً مما يفعل هو، ثم إذا تبين عجزه قال: افعل مثلاً واحداً - انتهى. فكأنهم تحدوا أولاً بجميع القرآن في مثل قوله: {فليأتوا بحديث مثله} [الطور: 34] أي في التحتم والتطبيق على الوقائع وما يحدث ويتجدد شيئاً في إثر شيء ثم قطع بعد عجزهم بدوام عجزهم في قوله تعالى: {قل لو اجتمعت الإنس والجن} [الإسراء: 88] تبكيتاً لهم وإخزاء وبعثاً على ذلك وإغراء، ثم تحدوا(9/248)
في سورة يونس عليه السلام بسورة واحدة مثل جميع القرآن غير معتنين فيها بالتفصيل إلى السور تخفيفاً عليهم واستهانة بأمرهم، فلما عجزوا تحدوا بعشر مفتراه، ولما خفف عنهم التقيد بصدق المعنى وحقيقة المباني، ألزمهم بما خففه عنهم في يونس من التفصيل ولم يخلهم من التخفيف إشارة إلى هوان أمرهم واحتقار شأنهم بأن جعلها إلى عشر فقط، فلما عجزوا أعيد في المدينة الشريفة لأجل أهل الكتاب تحديهم بسورة، أي قطعة واحدة مقروناً ذلك بالإخبار بدوام عجزهم عن ذلك في قوله تعالى في البقرة
{فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا} [البقرة: 24] ، فالمتحدى به في كل سورة غير المتحدى به في الأخرى، وقد مضى في يونس والبقرة ويأتي في سبحان والطور إنشاء الله تعالى ما يتم به فهم هذا المقام، والبلاغة ثلاث طبقات فأعلاها معجز، وأوسطها وأدناها ممكن، والتحدي وقع بالعليا، وليس هذا أمراً بالافتراء لأنه تحدّ فهو للتعجيز وقوله: {وادعوا من استطعتم} أي طلبتم أن يطيعكم ففعل، ولما كانت الرتب كلها تحت رتبته تعالى والعرب مقرة بذلك قال: {من دون الله} أي الملك الأعلى. وأشار إلى عجزهم بقوله: {إن كنتم صادقين*} وفي ذلك زيادة بيان وتثبيت للدليل، فإن كل ظهير من سواهم دونهم في البلاغة، فعجزهم عجز لغيرهم بطريق الأولى.
ولما كان أدنى درجات الافتراء إتيان الإنسان بكلام غيره من(9/249)
غير علمه، وكان عجزهم عن المعارضة دليلاً قاطعاً على أنهم لم يصلوا إلى شيء من كلامه تعالى بغير علمه ولا وجدوا مكافئاً له يأتيهم بمثله ثبت قطعاً أن هذا القرآن غير مفترى، فقال تعالى مخاطباً للجميع بخلاف ما في القصص إشارة إلى وضوح الأمر لا سيما في الافتراء عند كل أحد وأن المشركين قد وصلوا من ذل التبكيت بالتحدي مرة بعد مرة وزورهم لأنفسهم في ذلك المضمار كرة في أثر كرة إلى حد من العجز لا يقدرون معه على النطق في ذلك ببنت شفة: {فإن لم يستجيبوا لكم} أي يطلبوا إجابتكم ويوجدوها {فاعلموا} أيها الناس كافة {أنما أنزل} أي ما وقع إنزال هذا القرآن خاصة إلا ملتبساً {بعلم الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بمقتضى أن محمداً واحد منهم تمع العادة أن يعثر دون جميع أهل الأرض على ما لم يأذن فيه ربه من كلامه فضلاً عن أن يكون مخترعاً له، ويجوز أن يكون ضمير {يستجيبوا} ل «من» {من استطعتم} و {لكم} للمشركين، وكذا في قوله: فاعلموا و {أنتم} {وأن} أي واعلموا أن {لا إله إلا هو} فإنه لو كان معه إله آخر لكافأة في الإتيان بمثل كلامه وفيه تهديد وإقناط من أن يجيرهم من بأس الله آلهتهم.
ولما كان هذا دليلاً قطعياً على ثبوت القرآن، سبب عنه قوله(9/250)
مرغباً مرهباً: {فهل أنتم مسلمون*} أي منقادون أتم انقياد.
ولما كان في هذا من الحث على الثبات على الإسلام والدخول فيه والوعيد على التقاعس عنه ما من حق السامع أن يبادر إليه، وكان حق المسلم الإعراض عن الدنيا لسوء عاقبتها، وكان أعظم الموانع للمشركين من التصديق اسستيلاء أحوال الدنيا عليهم، ولذلك تعنتوا بالكنز، أشار إلى عواقب ذلك بقوله: {من كان يريد} أي بقصده وأعماله من الإحسان إلى الناس وغيره {الحياة الدنيا} أي ورضي بها مع دناءتها من الآخرة على علوها وشرفها {وزينتها} فأخلد إليها لحضورها ونسي ما يوجب الإعراض عنها من فنائها وكدرها {نوف} موصلين {إليهم أعمالهم} أي جزاءها {فيها} أي الدنيا بالجاه والمال ونحو ذلك {وهم فيها} أي في الأعمال أو الدنيا {لا يبخسون*} أي لا ينقص شيء من جزائهم فيها، وأما أبدانهم وأرواحهم وأديانهم فكلها بخس في الدارين معاً، وفي الجملتين بيان سبب حبس العذاب عنهم في مدة إمهالهم مع سوء أعمالهم.(9/251)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
ولما بين حالهم في الدنيا، بين حالهم في الأخرى مشيراً بأداة البعد إلى أنهم أهل البعد واللعنة والطرد في قوله نتيجة لما قبله: {أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين ليس لهم} أي شيء من الأشياء {في الآخرة إلا النار} أي لسوء أعمالهم واستيفائهم جزاءها في الدنيا {وحبط} أي بطل وفسد {ما صنعوا فيها}(9/251)
أي مصنوعهم أو صنعهم أي لبنائه على غير أساس؛ ولما كان تقييد الحبوط بالآخرة ربما أوهم أنه شيء في نفسه قال: {وباطل} أي ثابت البطلان في كل من الدارين {ما كانوا يعملون*} أي معمولهم أو عملهم وإن دأبوا فيه دأب من هو مطبوع عليه لأنه صورة لا معنى لها لبنائه على غير أساس؛ والزينة: تحسين الشيء بغيره من لبسه أو حلية أو هيئة؛ والتوفية: تأدية الحق على تمام؛ وحبوط العمل: بطلانه، من قولهم: حبط بطنه - إذا فسد بالمأكل الرديء.
ولما اتضحت الحجج وانتهضت الدلائل فأغرقتهم عوالي اللجج، كان ذلك موضع الإنكار على من يسوي بين المهتدي والمعتدي، فكيف يفضل إما باعتبار النظر إلى الرئاسة الدنيوية غفلة من حقائق الأمور أو عناداً كمن قال من اليهود للمشركين: أنتم أهدى منهم، فقال: {أفمن كان على بينة} أي برهان وحجة {من ربه} بما آتاه من نور البصيرة وصفاء العقل فهو يريد الآخرة ويبني أفعاله على أساس ثابت {ويتلوه} أي ويتبع هذه البينة {شاهد} هو القرآن {منه} أي من ربه، أو تأيد ذلك البرهان برسالة رسول عربي بكلام معجز وكان {من قبله} أي هذا الشاهد مؤيداً له {كتاب موسى} أي شاهد أيضاً وهو التوارة حال كونه {إماماً} يحق الاقتداء به {ورحمة} أي لكل من اتبعه.(9/252)
ولما كان الجواب ظاهراً حذفه، وتقديره - والله أعلم: كمن هو على الضلالة فهو يريد الدنيا فهو يفعل من المكارم ما ليس مبنياً على أساس صحيح، فيكون في دار البقاء والسعادة هباء منثوراً؛ ولما كان هذا الذي على البينة عظيماً، ولم يكن يراد به واحداً بعينه، استأنف البيان لعلو مقامه بأداة الجمع بشارة لهذا النبي الكريم بكثرة أمته فقال: {أولئك} أي العالو الرتبة بكونهم على هدى من ربهم وتأيد هداهم بشاهد من قبله وشاهد من بعده مصدق له {يؤمنون به} أي بهذا القرآن الذي هو الشاهد ولا ينسبون الآتي به إلى أنه افتراه {ومن يكفر به} أي بهذا الشاهد {من الأحزاب} من جميع الفرق وأهل الملل سواء، سوى بين الفريقين جهلاً أو عناداً {فالنار موعده} أي وعيده وموضع وعيده يصلى سعيرها ويقاسي زمهريرها.
ولما عم بوعيد النار، اشتد تشوف النفس لما سبب عنه فقرب إزالة ما حملت من ذلك بالإيجاز، فاقتضى الأمر حذف نون «تَكن» فقيل: {فلا تكُ} أي أيها المخاطب الأعظم {في مرية} أي شك عظيم ووهم {منه} أي من القرآن ولا يضيق صدرك عن إبلاغه، أو من الوعد الذي هو النار والخيبة وإن أنعمنا على المتوعد بذلك ونعمناه في الدنيا؛ ثم علل النهي بقوله: {إنه} القرآن(9/253)
أو الموعد {الحق} أي الكامل، وزاد في الترغيب فيه بقوله: {من ربك} أي المحسن إليك بانزاله عليك.
ولما كان كونه حقاً سبباً يعلق الأمل بإيمان كل من سمعه، قال: {ولكن أكثر الناس} أي الذين هم في حيز الاضطراب {لا يؤمنون} بأنه حق لا لكون الريب يتطرق إليه بل لما على قلوبهم من الرين ويؤولون إليه من العذاب المعد لهم ممن لا يبدل القول لديه ولا ينسب الظلم إليه، والقصد بهذا الاستفهام الحث على ما حث عليه الاستفهام في قوله {فهل أنتم مسلمون} من الإقبال على الدين الحق على وجه مبين لسخافة عقول الممترين وركاكة آرائهم.
ولما كان الكافرون قد كذبوا على الله بما أحدثوه من الدين من غير دليل وما نسبوا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الافتراء، أتبع ذلك سبحانه قوله: {ومن أظلم} أي لا أحد أظلم {ممن افترى} أي تعمد أن اختلق متكبراً {على الله} أي الملك الأعظم {كذباً} الآية، وهو موضع ضمير لو أتى به لقيل: لا يؤمنون ظلماً منهم، ومن أظلم منهم أي هم أظلم الظالمين، فأتى بهذا الظاهر بياناً لما كفروا به لأنه إذا علق الحكم بالوصف دل على أنه علته.
ولما بين أنهم أظلم، أتبعه جزاءهم بقوله استئنافاً: {أولئك} المستحقو البعد؛ ولما كان نفس العرض مخوفاً، بنى للمجهول قوله:(9/254)
{يعرضون} أي لذلك ولدلالة على أنهم على صفة الهوان ومستسلمون لكل عارض، فعرضهم في غاية السهولة {على ربهم} أي الذي أحسن إليهم فلم يشكروه، العالم بالخفايا فيفتضحون بين يديه بما قابلوا به إحسانه من اللوم {ويقول} على سبيل التكرار {الأشهاد} وهم الذين آمنوا بالكتب الشاهد بعضها لبعض المشار إليه بقوله {ويتلوه شاهد منه} والملائكة الذين شهدوا أعمالهم ومن أعضائهم حين يختم على أفواههم {هؤلاء} إشارة بأداة القرب إلى تحقيرهم {الذين كذبوا} متكبرين {على ربهم} في ادعاء الشريك والولد والتحليل والتحريم وغير ذلك بما عراهم من إحسانه وطول حلمه، وفي الإتيان بصفة الربوبية غاية التشنيع عليهم، فتكررت بهذا القول فضيحتهم عند جنسهم وبعدهم عن كل من سمع هذا الكلام لأنه لا أبعد عن القلوب من الكاذب فكيف بالمجترىء بالكذب على الرؤساء فكيف بملك الملوك الذي رباهم وكل من أهل الموقف مرتقب برّه خائف من انتقامه، وكأنه قيل: فما لهم بعد هذا العذاب العظيم بهذه الفضيحة؟ فقيل: {ألا لعنة الله} وهي طرد الملك الأعظم وإبعاده، وانظر إلى تهويل الأمر باسم الذات ما أشده {على الظالمين} فكيف بأظلم الظالمين، ثم فصل ظلمهم بقوله: {الذين يصدون} أي يعرضون في أنفسهم ويمنعون غيرهم {عن سبيل}(9/255)
أي دين {الله} أي الملك الذي له الكمال كله مع أنه الولي الحميد {ويبغونها} أي يريدون بطريق الدين الواسعة السهلة {عوجاً} بإلقاء الشبهات والطعن في الدلائل مع كونها في غاية الاستقامة.
ولما كان النظر شديداً إلى بيان كذبهم وتكذيبهم، بولغ في تأكيد قوله: {وهم} أي بضمائرهم وظواهرهم؛ ولما كان تكذيبهم بالآخرة شديداً، قدم قوله: {بالآخرة} وأعاد الضمير تأكيداً لتعيينهم وإثبات غاية الفساد لبواطنهم واختصاصهم بمزيد الكفر فقال: {هم كافرون} أي عريقون في هذا الوصف؛ والعرض: إظهار الشيء بحيث يرى للتوقيف على حالة، والصد: المنع بالإغراء الصارف عن الأمر؛ والبغية: طلب أمر من الأمور، وهي إرادة وجدان المعنى بما يطمه فيه؛ والعوج: العدول عن طريق الصواب، وهو في المعنى كالدين بالكسر، وفي غيره كالعود بالفتح فرقاً بين ما يرى وما لا يرى، جعلوا السهل للسهل والصعب للصعب؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في النجوى: «يدنى المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقرره بذنوبه: تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف رب أعرف - مرتين، ويقول: سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم، ثم يطوي صحيفة حسناته، وأما الآخرون أو الكفار فينادي على رؤوس الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} » .(9/256)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
ولما هددهم بأمور الآخرة، أشار إلى بيان قدرته على ذلك في الدارين بقوله: {أولئك} أي البعداء عن حضرة الرحمة {لم يكونوا} أي بوجه من الوجوه {معجزين} وأشار إلى عجزهم بأنهم لا يقدرون على بلوغ العالم العلوي بقوله: {في الأرض} أي ما كان الإعجاز - وهو الامتناع من مراد الله - لهم ولا هو في قدرتهم، لأن قدره على جميع الممكنات على حد سواء.
ولما نفى التعذر بأنفسهم، نفاه من جهة غيرهم فقال: {وما كان لهم} ولما كانت الرتب التي هي دون عظمته سبحانه متكاثرة جداً، بين أنهم معزولون عن كل منها بإثبات الجار فقال: {من دون الله} أي الملك الأعظم، وأغرق في النفي بقوله: {من أوليآء} أي يفعلون معهم ما يفعل القريب من تولي المصالح والحماية من المصائب، ومن لم يقدر على الامتناع وهو حي لم يمتنع بعد موته فكأنه قيل: ماذا يفعل بهم؟ فقيل: {يضاعف} أي يفعل فيه فعل من يناظر آخر في الزيادة، وبناه للمفعول لأن المرجع وجود المضاعفة مطلقاً {لهم العذاب} أي بما كانوا يضاعفون المعاصي؛ ثم علل سبب المضاعفة بأنه خلق لهم سمعاً وبصراً فضيعوهما بتصامّهم عن الحق وتعاميهم عنه، فكأن لا فرق بينهم وبين فاقدهما فقال: {ما كانوا} أي بما لهم من فساد الجبلات(9/257)
{يستطيعون السمع} أي يقدرون لما غلب على فطرهم الأولى السليمة بانقيادهم للهوى من التخلق بنقائص الشهوات على أن توجد طاعته لهم فما كانوا يسمعون {وما كانوا} يستطيعون، الإبصار فما كانوا {يبصرون} حتى يعرضوا عن الشهوات فتوجد استطاعتهم للسمع والإبصار، وهو كناية عن عدم قبولهم للحق وأن شدة إعراضهم عنه وصلت إلى حد صارت فيه توصف بعدم الاستطاعة كما يقول الإنسان لما تشتد كراهته له: هذا مما لا أستطيع أن أسمعه، وتكون المضاعفة بالكفر والصد، ونفي الاستطاعة أعرق في العيب وأدل على النقص وأنكأ من نفي السمع لأنهم قد يحملونه على الإجابة، وأما نفي البصر فغير منفك عن النقص سواء كان للعين أو للقلب، هذا إن لم تخرج الآية على الاحتباك، وإن خرجت عليه استوى الأمران، وصار نفي الاستطاعة أولاً دالاًّ على نفيها ثانياً، ونفي الإبصار يدل على نفي السمع أولاً.
ولما ثبت أنهم لا سمع ولا بصر، ثبت أنهم لا شيء فقال: {أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين خسروآ أنفسهم} أي بتضييع الفطرة الأولى التي هي سهولة الانقياد للخير وصعوبة الانقياد للشر؛ ولما كان العاجز ربما نفعه من كان يخدمه فيكسبه قوة بعد الضعف ونشاطاً بعد العجز، نفى ذلك بقوله عائداً إلى نفي النفع ممن عذرهم أولاً(9/258)
على أحسن وجه: {وضل عنهم ما كانوا} أي كوناً جبلوا عليه فصاروا لا ينفكون عنه {يفترون} أي يتعمدون كذبه مما ادعوا كونهم آلهة، ولا شك أن من خسر نفسه ومن خسرها من أجله بادعاء أنه شريك لخالقه ونحو ذلك كان أخسر الناس، فلذلك قال: {لا جرم} أي لا شك {أنهم} أي هؤلاء الذي بالغوا في إنكار الآخرة {في الآخرة} ولما كان المقام جديراً بالمبالغة في وصفهم بالخسارة، أعاد الضمير فقال: {هم} أي خاصة {الأخسرون} أي الأكثرون خسراناً من كل من يمكن وصفه بالخسران؛ والإعجاز: الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه؛ والمضاعفة: الزيادة على المقدار بمثله أو أكثر؛ والاستطاعة: قوة ينطاع بها الجوارح للفعل؛ وأما «لا جرم» فقد اضطرب علماء العربية في تفسيرها، قال الرضي في شرح الحاجبية والبرهان السفاقسي في إعرابه ما حاصله: والغالب بعد {لا جرم} الفتح، أي في {أن} ، ف {لا} إما رد الكلام السابق - على ما هو مذهب الخليل - أو زائدة كما في {لا أقسم} لأن في جرم معنى القسم، وهي فعل ماض عند سيبويه والخليل مركبة مع «لا» ، وجعلها سيبويه فعلاً بمعنى حق، ف «أن» «فاعله» ، وقيل: «جرم» بمعنى حق، وهو اسم لا و «أنهم» خبره؛ وقال الكسائي معناها: لا صد ولا منع؛ وعن الزجاج أنها غير مركبة، ولا نفي لما قيل من أن لهم أصناماً تنفعهم، وجرم - فعل ماض بمعنى كسب وفاعله(9/259)
مضمر معبر به عن فعلهم، و {أنهم} مفعولة؛ وقال الفراهي: كلمة كانت في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة، لأنه يروي عن العرب «لا جرم» - يعني بضم ثم سكون، والفعل - يعني هكذا، والفعل - يعني محركاً، يشتركان في المصادر كالرشد والرعد والبخل؛ والجرم: القطع، أي لا قطع من هذا كما أنه لا بد بمعنى لا قطع، فكثرت وجرت على ذلك حتى صارت بمعنى القسم، فلذلك يجاب بما يجاب به القسم، فيقال: لا جرم لآتينك، ولا جرم أنك قائم، فمن فتح فللنظر إلى أصل {لا جرم} كما نقول: لا بد أن نفعل كذا وأنك تفعل، أي من أن ومن أنك تفعل، ومن كسر فلمعنى القسم العارض في {لا جرم} - انتهى.
فتفسيره لها بالقطع نظر منه إلى أن مادة «جرم» بخصوصها دائرة على القطع، والأصنع تفسيرها بالظن نظراً إلى ما تدور عليه المادة من حيث هي - بأي ترتيب كان - من جرم وجمر ورجم ورمج ومجر ومرج، وإنما جعلتها كذلك لأنهم قالوا جرم النخل: خرصها، وأجمر النخل أيضاً: خرصها، ورجم - إذا ظن، والمجر: العقل، ويلزم الظن اتقاد الذهن ومنه جمرة النار، والجرم - للأرض الشديدة الجر، ويلزم الظن أيضاً اجتماع الفكر، ومنه الجمرة للقلبية وكل ما شاكلها في الجمع، ومنه الجرم بالكسر وهو الجسد فإنه بالنظر إلى جميعه، والصوت أو جهارته فإنه يجمع فيه الحلق لقطعه، ويلزم الاجتماع أيضاً العظمة، ومنه أجرم - إذا عظم،(9/260)
والجمير كأمير: مجتمع القوم، ومن الجمع الرياء والعقل، فينشأ منه الصفاء، ومنه {مارج من نار} أي لا دخان فيه، ومنه أجرم لونه: صفا، ومن الاجتماع المجر - بالتحريك، وهو أن يملأ بطنه من الماء ولم يرو، والكسب، جرم لأهله - إذا كسب، ومنه الذنب فإنه كسب خاص، ويمكن أن يكون من القطع لأنه يقطع صاحبه عن الخير، ويلزم الاجتماع أيضاً الاستتار ومنه أجمرت الليلة - استتر فيها الهلال، والمجر لما في بطون الحوامل من الإبل والغنم، أو يجعل هذا مما يلزم نفس الظن من الخفاء، ومن الاجتماع الضمور، أجمر الخيل: أضمرها، وشاة مجمرة: مهزولة، ويلزم الاجتماع الصلابة والتمام، ومنه حول مجرم كمعظم: تام، فينشأ الافتراق، ومنه تجرم الليل: ذهب، وابنا جمير كأمير: الليل والنهار، أو يكون ذلك من لوازم القطع كما يأتي؛ ومن الاجتماع الرجم الذي هو الخليل والنديم، ويلزم الظن الفصل بين الأشياء، ومنه جرام النخل لصرامها؛ والجمرة: الحصاة، فيلزم مطلق الرمي فينشأ الرمي بالجمار، وهي الحجارة فينشأ القتل للمرجوم، وهو يرجع أيضاً إلى نفس القطع، فإنه قطع النفس عما كانت عليه، ويلزم الفصل القذف والعيب؛ والرماج كسحاب: كعوب الرمح لانفصال بعضها عن بعض، والرمج بالفتح وهو إلقاء الطير ذرقه، ويلزم الظن المبالغة في النظر فتأتي المبالغة في الكلام والعزيمة، ومنه المرجام للماد(9/261)
عنقه في السير من الإبل، وأجمر: أسرع في السير، وقد يلزم الظن الحيرة، ومنه حديث مرجم كمعظم: لا يوقف على حقيقته، فيلزم حينئذٍ الذنب والفساد والقلق والاضطراب، ومنه أمرج العهد: لم يف به، أي جعله مارجاً مزلزلاً، وعلى الاضطراب تدور مادة «مرج» بخصوص هذا الترتيب، أو الترميج: إفساد سطور بعد كتبتها، ويلزم الظن الاختلاط، ومنه الجرم للون لأنه لا يخلو عن شوب، وأجرم الدم به: لصق، والإجرام: متاع الراعي، أو هي من الكسب، والجرام كرمان: السمك؛ والمرج: موضع الرعي، وقد علم من هذا أن جميع تصاريف المادة تدور على الاضطراب وهو بين في غير العقل، وأما فيه فإنه يقدر العقل يكون اضطراب الرأي لأن العاقل كلما أنعم النظر انفتح له ما كان مغلقاً فيعدل إليه، فإذا ظهر هذا ظهر أن معنى «لا جرم» أنهم لا ظن ولا اضطراب في أنهم، ويكون نفي الظن في مثل هذا السياق نفياً لجميع ما يقابله إلاّ العلم الذي هو بمعنى القطع كما إذا قيل: لا شك في كذا ولا ريب، فاتضح أن تفسيرهم لها ب «حقاً» تفسير معنى لمجموع الكلمتين لأنه إذا نفي في مثل هذا السياق الظن ثبت اليقين والقطع، وإليه يرجع تفسير سيبويه لا حق لأنه يريد - والله أعلم - أن لا صلة، وموضوعها في الأصل النفي، فهي نافية لضد ما دخلت عليه، فكأنه(9/262)
قيل: حق وثبت أنهم كذا وانتفى كل ما يضاده، فهذا وجه كونها صلة مؤكدة، وقريب من ذلك ما قيل في «إنما» نحو إنما زيد قائم، أي أن زيداً قائم، ما هو إلاّ كذلك، فقد بان أن النافي مثل ذلك مؤكد - والله الموفق.(9/263)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
ولما توعد الكافرين وأخبر عن مآلهم بسببه، كان موضع أن يسأل عن حال المؤمنين فقال: {إن الذين آمنوا} أي أوجدوا هذه الحقيقة {وعملوا الصالحات} ولما كان الحاصل ما مضى من وصف الكافرين بعد مطلق الأعمال السيئة الإعراض عن ربهم والنفرة عن المحسن إليهم جلافة وغلظة، وصف المؤمنين بالإقبال عليه والطمأنينة إليه فقال: {وأخبتوا} أي خشعوا متوجهين منقطعين {إلى ربهم} أي المحسن إليهم فشكروه فوفقهم لاستطاعة السمع والأبصار.
ولما ذكر وصفهم ذكر جزاءهم عليه بقوله: {أولئك} أي العالو الرتبة {أصحاب الجنة} ولما كانوا مختصين بها أول أو بالخلود من أول الأمر، أعاد الضمير فقال: {هم فيها} أي خاصة لا في غيرها {خالدون} .
ولما استوفى أوصاف الحزبين وجزاءهم، ضرب للكل مثلاً بقوله: {مثل الفريقين} أي الكافرين والمؤمنين، وهو من باب اللف(9/263)
والنشر المرتب، فإن الكافر ذكر فيما قبل أولاً {كالأعمى} أي العام العمى في بصره وبصيرته {والأصم} في سمعه كذلك، فهذا للكافرين {والبصير} بعينه وقلبه {والسميع} على أتم أحوالهما، وهذا للمؤمنين، وفي أفراد المثل طباق أيضاً {هل يستويان} أي الفريقان {مثلاً} أي من جهة المثل. ولما كان الجواب قطعاً لمن له أدنى تأمل: لا يستويان مثلاً فلا يستويان ممثولاً، حسن تسبب الإنكار عنه في قوله: {أفلا تذكرون} أي يحصل لكم أدنى تذكر بما أشار إليه الإدغام فتعلموا صدق ما وصفوا به بما ترونه من أحوالهم، وذلك ما قدم في حق الكفار من قوله: {ما كانوا يستطيعون السمع} الآية؛ والإخبات: الخشوع المستمر على استواء فيه، وأصله الاستواء من الخبت، وهو الأرص المستوية الواسعة، ولعله وصله بإلى في موضع اللام إشارة إلى الإخلاص أي إخباتاً ينتهي إلى ربهم من غير أن يحجب عنه؛ والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بحال الأول، والأمثال لا تغير عن صورتها.
ولما تم ذلك على أوضح المسالك، وختم بالحث على التذكر، وكان تقديم ذكر كتاب موسى محركاً لتوقع ذكر نبئه ونبأ غيره من الرسل، عطف - مقروناً بحرف التوقع على العامل الذي قدرته في قوله: {ألا تعبدوا(9/264)