هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
اللغَة: {الغاشية} القيامة تغشى الناس بأهوالها {خَاشِعَةٌ} ذليلة خاضعة {نَّاصِبَةٌ} من النصب وهو التعب {ضَرِيعٍ} شيء في النار كالشوك مرٌّ منتنٌ {نَّاعِمَةٌ} ذات حسن وبهجة ونضارة {نَمَارِقُ} وسائد ومرافق يُتكأ عليها جمع نمرقة قال زهير:
كهولاً وشباناً حساناً وجوهُهم ... على سُرر مصفوفةٍ ونمارق(3/524)
{زَرَابِيُّ} بسط فاخرة جمع زريبة وقال الفراء: هي الطنافس التي لها خملٌ رقيق، {مَبْثُوثَةٌ} مفرَّقة في المجالس {إِيَابَهُمْ} رجوعهم.
التفسِير: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} الاستفهام للتشويق الى استماع الخبر، وللتنبيه والتفخيم لشأنها أي هل جاءك يا محمد خبرُ الداهية العظيمة التي تغشى الناس وتعمُّهم بشدائدها وأهوالها، وهي القيامة؟ قال المفسرون: سميت غاشية لأنها تشغى الخلائق بأهوالها وشدائدها، وتعمُّهم بما فيها من المكاره والكوارث العظيمة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي وجوهٌ في ذلك اليوم ذليلة خاضعةٌ مهينة {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} أي دائبة العمل فيما يُتعبها ويشقيها في النار قال المفسرون: هذه الآية في الكفار، يتعبون ويشقون بسبب جر السلاسل والأغلال، وخوضهم في النار خوض الإِبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلالها ودركاتها كما قال تعالى {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} [غافر: 7172] وهذا جزاء تكبرهم في الدنيا عن عبادة الله، وانهماكهم في اللذات والشهوات {تصلى نَاراً حَامِيَةً} أي تدخل ناراً مسعَّرة شديدة الحر قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله {تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي تسقى من عين متناهية الحرارة، وصل حرها وغليانها درجة النهاية {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} أي ليس لأهل النار طعام إلا الضريع وهو نبتٌ ذو شوك تسمية قريش «الشبرق» وهو أخبث طعامٍ وأبشعه وهو سم قاتل قال قتادة: هو شر الطعام وأبشعه وأخبثه. . ذكر تعالى هنا أن طعامهم الضريع {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} وقال في الحاقَة {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] ولا نافي بينهما، لأن العقاب ألوان، والمعذبون أنواع، فمنهم من يكون طعامه الزقوم، ومنهم من يكون طعامه الضريع، ومنهم من يكون طعامه الغسلين، وهكذا يتنوع العذاب {لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ} أي لا يفيد القوة والسمن في البدن، ولا يدفع الجوع عن آكله قال أبو السعود: أي ليس من شأنه الإِسمانُ والإِشباع، كما هو شأن طعام الدنيا، وقد روي أنه يُسلَّط عليهم الجوع بحيث يضطرهم إلى أكل الضريع، فإِذا أكلوه يُسلط عليهم العطش فيضطرهم إلى شرب الحميم، فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} [محمد: 15] . . ولما ذكر حال الأشقياء أهل النار، أتبعه بذكر حال السعداء أهل الجنة فقال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ} أي وجوه المؤمنين يوم القيامة ناعمة ذات بهجةٍ وحسن، وإشراق ونضارة كقوله تعالى
{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} [المطفيين: 34] {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي لعملها الذي عملته في الدنيا وطاعتها لله راضية مطمئنة، لأن هذا العسل أورثها الفردوس دار المتقين {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي في حدائق وبساتين مرتفعة مكاناً وقدراً، وهم في الغرفات آمنون {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} أي لا تسمع في الجنة شتماً، أو سباً، أو فحشاً قال ابن عباس: لا تسمع أذى ولا باطلاً {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أي فيها عيونٌ تجري بالماء السلسبيل لا تنقطع أبداً قال الزمخشري: التنوين في {عَيْنٌ} للتكثير أي عيونٌ كثيرة تجري مياهها {فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ} أي في الجنة أسرة مرتفعة، مكللة بالزبرجد والياقوت،(3/525)
عليها الحور العين، فإِذا أراد وليٌّ الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له {وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} أي وأقداح موضوعة على حافات العيون، معدة لشرابهم لا تحتاج إلى من يملأها {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} أي ووسائد مخدَّات قد صُفَّ بعضها إلى جانب بعض ليستندوا عليها {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} أي وفيها طنافس فاخرة لها خمل رقيق مبسوطة في أنحاء الجنة. . ثم ذكر تعالى الدلائل والبراهين الدالة على قدرته ووحدانيته فقال {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} أي أفلا ينظر هؤلاء الناس نظر تكفر واعتبار، إِلى الإِبل الجمال كيف خلقها الله خلقاً عجيباً بديعاً يدل على قدرة خالقها؟ {قال في التسهيل: في الآية حضٌ على النظر في خلقتها، لما فيها من العجائب في قوتها، وانقيادها مع ذلك لكل ضعيف، وصبرها على العطش، وكثرة المنافع التي فيها، من الركوب والحمل عليها، وأكل لحومها، وشرب ألبانها وغير ذلك {وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ} أي وإلى السماء البديعة المحكمة، كيف رفع الله بناءها، وأعلى سمكها بلا عمد ولا دعائم؟ {وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ} أي إلى الجبال الشاهقة كيف نصبت على الأرض نصباً ثابتاً راسخاً لا يتزلزل؟} {وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ} أي وإلى الأرض التي يعيشون عليها، كيف بسطت ومُهدت حتى صارت شاسعة واسعة يستقرون عليها، ويزرعون فيها أنواع المزروعات؟! قال الألوسي: ولا ينافي هذا، القول بأنها كرة أو قريبة من الكرة لمكان عظمها والحكمةُ في تخصيص هذه الأشياء بالذكر، أن القرآن نزل على العرب وكانوا يسافرون كثيراً في الأودية والبراري منفردين عن الناس، والإِنسان إِذا ابتعد عن المدينة أقبل على التفكر، فأول ما يقع بصره على البعير الذي يركبه فيرى نظراً عجيباً، وإن نظر فوق لم ير غير السماء، وإِن نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإِن نظر تحت لم ير غير الأرض، فلذلك ذكر هذه الأشياء قال ابن كثير: نبه تعالى البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكبٌ عليه، والسماء التي فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه، والأرض التي تحته، على قدرة خالق ذلك وصانعه، وأنه الرب العظيم، الخالق المالك المتصرف، الذي لا يستحق العبادة سواه.
. ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد ولم يعتبر بذلك الكفار، أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بوعظهم وتذكيرهم فقال {فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ} أي فعظهم يا محمد وخوفهم، ولا يهمنَّك أنهم لا ينظرون ولا(3/526)
يتفكرون، فإنما أنت واعظ ومرشد {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} أي لست بمتسلط عليهم ولا قاهر لهم حتى تجبرهم على الإِيمان {إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ} أي لكن من أعرض عن الوعظ والتذكير، وكفر بالله العلي القدير {فَيُعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر} أي فيعذبه الله بنار جهنم الدائم عذابها قال القرطبي: وإِنما قال {الأكبر} لأنهم عُذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} أي إِلنا وحدنا رجوعهم بعد الموت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أي ثم إن علينا وحدنا حسابهم وجزاءهم.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - أسلوب التشويق {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} ؟
2 - المجار المرسل بإِطلاق الجزء وإرادة الكل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} المراد أصحابها.
3 - الطباق في الحرف بين {إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ. . وعَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} .
4 - جناس الاشتقاق {فَذَكِّرْ. . مُذَكِّرٌ} وبين {يُعَذِّبُهُ. . والعذاب} .
5 - المقابلة بين وجوه الأبرار ووجوه الفجار {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} قابل بينها وبين سابقتها {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} .
6 - السجع الرصين غير المتكلف مثل {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} . . الخ.
تنبيه: روي أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما قدم الشام، أتاه راهب شيخ كبير عليه سواد، فلما رآه عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين إنه نصراني؟ فقال: ذكرتُ قول الله عَزَّ وَجَلَّ {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تصلى نَاراً حَامِيَةً} فبكيتُ رحمةً عليه.(3/527)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
اللغَة: {حِجْرٍ} عقل ولب قال الفراء: العرب تقول إِنه لذو حجر إِذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها، وأصل الحجر المنع، وسمي العقل حجراً لأنه يمنع عن السفه قال الشاعر:
وكيف يُرجَّى أن يتوب وإِنما ... يُرجَّى من الفتيان من كان ذا حِجْر
{جَابُواْ} قطعوا ومنه قولهم: فلان يجوب البلاد أي يقطعها {التراث} الميراث {لَّمّاً} شديداً وأصله الجمع ومنه قولهم: لمَّ اللهُ شعثه {جَمّاً} كثيراً عظيماً كبيراً قال الشاعر:
إِن تغفر اللَّهمَّ تغفر جماً ... وأيُّ عبدٍ لك ما ألمَّا
التفسِير: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ} هذا قسمٌ أي أُقسم بضوء الصبح عند مطادرته ظلمة الليل، وبالليالي العشر المباركات من أول ذي الحجة، لأنها أيام الاشتغال بأعمال الحج قال المفسرون: أقسم تعالى بالفجر لما فيه من خشوع القلب في حضرة الرب، وبالليالي الفاضلة المباركة وهي عشر ذي الحجة، لأنه أفضل أيام السنة، كما ثبت في صحيح البخاري «ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إلى الله فيهن من هذه الأيام يعني عشر ذي الحجة قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهادُ في سبيل الله، إِلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» {والشفع والوتر} أي وأٌقسم بالزوج والفرد من كل شيء فكأنه تعالى أقسم بكل شيء، لأن الأشياء إِما زوجٌ وإما فردٌ، أو هو قسمٌ بالخلق والخالق، فإِن الله تعالى واحد «وتر» والمخلوقات ذكرٌ وأنثى «شفع» {واليل إِذَا يَسْرِ} أي وأٌقسم بالليل إِذا يمضي بحركة الكون العجيبة، والتقييد بسريانه لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة، ووفور النعمة {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} أي هل فيما ذكر من الأشياء قسمٌ مقنع لذي لب وعقل؟ {والاستفهام تقريريٌ لفخامة شأن الأمور المقسم بها، كأنه يقول: إِن هذا لقسمٌ عظيمٌ عند ذوي العقول والألباب، فمن كان ذا لُب وعقل علم أن ما أقسم الله عَزَّ وَجَلَّ به من هذه الأشياء فيها عجائب، ودلائل تدل على توحيده وربوبيته، فهو حقيق بأن يُقسم له لدلالته على الإِله الخالق العظيم قال القرطبي: قد يُقسم الله بأسمائه وصفاته لعلمه، ويُقسم بأفعاله لقدرته كما قال تعالى {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] ويُقسم بمفعولاته لعجائب صنعه كما قال {والشمس وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] {والسمآء والطارق} [الطارق: 1] وجواب القسم محذوب تقديره: ورب هذه الأشياء ليعذبنَّ الكفار، ويدعل عليه قوله {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} ؟ أي ألم يبلغك يا محمد ويصل إِلى علمك، ماذا فعل الله بعاد قوم هود؟ {إِرَمَ ذَاتِ العماد} أي عاداً الأولى أهل أرم(3/529)
ذات البناء الرفيع، الذين كانوا يسكنون بالأحقاف بين عُمان وحضرموت {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} أي تلك القبيلة الي لم يخلق الله مثلهم في قوتهم، وشدتهم، وضخامة أجسامهم} والمقصود من ذلك تخويف أهل مكة بما صنع تعالى بعاد، وكيف أهلكهم وكانوا أطول أعماراً، وأشدَّ قوة من كفار مكة!؟ قال ابن كثير: وهؤلاء «عاد الأولى» وهم الذين بعث الله فيهم رسوله «هوداً» عليه السلام فكذبوه وخالفوه، وكانوا عتاة متمردين جبارين، خارجين عن طاعة الله مكذبين لرسله، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمَّرهم، وجعلهم أحاديث وعِبراً {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد} أي وكذلك ثمود الذين قطعوا صخر الجبال، ونحتوا بيوتاً بوادي القُرى
{وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ} [الحجر: 82] وكانت مساكنهم في الحجر بين الحجاز وتبوك قال المفسرون: أو ما نحت الجبال والصخور والرخام قبيلة ثمود وكانوا لقوتهم يخرجون الصخور، وينقبون الجبال فيجعلونها بيوتاً لأنفسهم، وقد بنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة بوادي القرى {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} أي وكذلك فرعون الطاغية الجبار، ذي الجنود والجموع والجيوش التي تشد ملكه قال أبو السعود: وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربونها في منازلهم أو لتعذيبه بالأوتاد {الذين طَغَوْاْ فِي البلاد} أي أولئك المتجبرين «عاداً، وثمود، وفرعون» الذين تمردوا وعتوا عن أمر الله، وجاوزوا الحدَّ في الظلم والطغيان {فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد} أي فأكثروا في البلاد الظلم والجور والقتل: وسائر المعاصي والآثام {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} أي فأنزل عليهم ربك ألواناً شديدة من العذاب بسبب إِجرامهم وطغيانهم قال المفسرون: استعمل لفظ الصبّ لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب، كما قال القائل «صببنا عليهم ظالمين سياطنا» والمراد أنه تعالى أنزل على كل طائفة نوعاً من العذاب، فأُهلكت عادٌ بالريح، وثمود بالصيحة، وفرعون وجنوده بالغرق كما قال تعالى {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} أي إِن ربك يا محمد ليرقب عمل الناس، ويحصيه عليهم، ويجازيهم به قال في التسهيل: المرصاد المكان الذي يرتقب فيه الرصد، والمراد أنه تعالى رقيب على كل إِنسان، وأنه لا يفوته أحد من الجبابرة والكفار، وفي ذلك تهديدٌ لكفار قريش. . ولما ذكر تعالى ما حلَّ بالطغاة المتجبرين، ذكر هنا طبيعة الإِنسان الكافر، الذي يبطر عند الرخاء، ويقنط عند الضراء فقال {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} أي إِذا اختبره وامتحنه ربه بالنعمة {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} أي فأكرمه بالغنى واليسار، وجعله منعماً في الدنيا بالبنين والجاه والسلطان {فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ} أي فيقول ربي أحسن إليَّ بما أعطاني من النعم التي أستحقها، ولم يعلم أن هذا ابتلاء له أيشرك أم يكفر؟ {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أي وأما إِذا اختبره وامتحنه ربه بالفقر وتضييق الرزق {فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} أي فيقول غافلاً عن الحكمة: إِن ربي أهانني بتضييقه الرزق عليَّ قال القرطبي: وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن(3/530)
بالبعث، وإِنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظّ في الدنيا وقلّته، وأما المؤمن فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته وتوفيقه المؤدي إِلى حظ الآخرة، وإِن وسَّع عليه في الدنيا حمده وشكره، وإِنما أنكر تعالى على الإِنسان قوله {ربي أَكْرَمَنِ} وقوله {ربي أَهَانَنِ} لأنه إِنما قال ذلك على وجه الفخر والكبر، لا على وجه الشكر، وقال: أهانن على وجه التشكي من الله وقلة الصبر، وكان الواجب عليه أن يشكر على الخير، ويصبر على الشر، ولهذا ردعه وزجره بقوله {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} أي ليس الإِكرام بالغنى، والإِهانة بالفقر كما تظنون، بل الإِكرام والإِهانة بطاعة الله ومعصيته ولكنكم لا تعلمون، ثم قال {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} أي بل أنتم تفعلون ماهو شرٌ من ذلك، وهو أنكم لا تكرمون اليتيم مع إِكرام الله لكم بكثرة المال!! {وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} أي ولا يحض بعضكم بعضاً ولا يحثه على إِطعام المحتاج وعون المسكين {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} أي وتأكلون الميران أكلاً شديداً، لا تسألون أمن حلالٍ هو أم من حرام؟ قال في التسهيل: هو أن يأخذ الميراث نصيب ونصيب غيره، لأن العرب كانوا لا يُعطون من الميراث أنثى ولا صغيراً، بل ينفرد به الرجال {وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} أي وتحبون المال حباً كثيراً مع الحرص والشره، وهذا ذمٌ لهم لتكالبهم على المال، وبخلهم بإِنفاقه {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً} {كَلاَّ} للردع أي وارتدعوا أيها الغافلون وانزجروا عن ذلك، فأمامكم أهوال عظيمة في ذلك اليوم العصيب، وينعدم {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} أي وجاء ربك يا محمد لفصل القضاء بين العباد، وجاء الملائكة صفوفاً متتابعة صفاً بعد صف قال في التسهيل: قال المنذر بن سعيد: معناه ظهوره للخلق هنالك، وهذه الآية وأمثالها مما يجب الإِيمان به من غير تكييفٍ ولا تمثيل وقال ابن كثير: قام الخلائق من قبورهم لربهم، وجاء ربك لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعدما يستشفعن إِليه بسيد ولد آدم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيجيء الربُ تبارك وتعالى لفصل القضاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} أي وأحضرت جهنم ليراها المجرمون كقوله
{وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى} [النازعات: 37] وفي الحديث «يُؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها» {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان} أي في ذلك اليوم الرهيب، والموقف العصيب، يتذكر الإِنسان علمه، ويندم على تفريطه وعصيانه، ويريد أن يقلع ويتوب {وأنى لَهُ الذكرى} أي ومن أين يكون له الانتفاع بالذكرى وقد فات أوانها؟! {يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} أي يقول نادماً متحسراً: يا ليتني قدمت عملاً صالحاً ينفعني في آخرتي، لحياتي الباقية قال تعالى {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أي ففي ذلك اليوم ليس أحد أشد عذاباً من تعذيب الله من عصاه {وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} أي ولا يقيد أحدٌ بالسلاسل والأغلال مثل تقييد الله للكافر الفاجر، وهذا في حق المجرمين من الخلائق، فأما(3/531)
النفس الزكية المطمئنة فيقال لها {ياأيتها النفس المطمئنة} أي يا أيتها النفس الطاهرة الزكية، المطمئنة بوعد الله التي لا يلحقها اليوم خوفٌ ولا فزع {ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} أي ارجعي إِلى رضوان ربك وجنته، راضيةً بما أعطاك الله من النعم، مرضيةٌ عنده بما قدمت من عمل قال المفسرون: هذا الخطاب والنداء يكون عند الموت، فيقال للمؤمن عند احتضاره تلك المقالة {فادخلي فِي عِبَادِي} أي فادخلي في زمرة عبادي الصالحين {وادخلي جَنَّتِي} أي وادخلي جنتي دار الأبرار الصالحين.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يليك
1 - الاستفهام التقريري {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد} ؟
2 - الطباق بين {الشفع. . والوتر} .
3 - جناس الاشتقاق {لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} {وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ} {يَتَذَكَّرُ. . الذكرى} .
4 - المقابلة {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} وبين {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ. .} الآية فقد قابل بين {أَكْرَمَنِ وأَهَانَنِ} وبين توسعة الرزق.
5 - الاستعارة اللطيفة الفائقة {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} شبه العذاب الشديد الذي نزل عليهم بسياطٍ لاذعة تكوي جسد المعذَّب واستعمل الصبَّ للإِنزال.
6 - الالتفات {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} في التفات من ضمير الغائب الى الخطاب زيادة في التوبيخ والعتاب، والأصل {بل لا يكرمون} .
7 - الإِضافة للتشريف {فادخلي فِي عِبَادِي} .
8 - السجع الرصين غير المتكلف مثل {وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر واليل إِذَا يَسْرِ} ومثل {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد} الآيات.(3/532)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
اللغَة: {كَبَدٍ} الكبدُ: الشدة والمشقة، وأصله من كبد الرجل كبداً إِذا وجعته كبده ثم استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه المكابدة لمقاساة الشدائد {اقتحم} الاقتحامُ: الدخول بسرعة وشدة يقال: اقتحم الأمر، واقتحم الحصن إِذا رمى نفسه فيه بدون روية {العقبة} الطريق الوعر في الجبل {فَكُّ} الفكُّ تخليص الشيء من الشيء يقال: فككت الحبل، وفككت الأسير أي خلصته من الأسر {مَسْغَبَةٍ} مجاعة يقال: سغبَ الرجل إذا جاع وقال الراغب: هو الجوع مع التعب {مَتْرَبَةٍ} افتقار يقال: تربَ الرجل إِذا افتقر ولصق بالتراب، وأرتب إِذا استغنى وكذلك أثرى {مُّؤْصَدَةٌ} مبطقة من أوصد الباب إِذا أغلقه وأطقبه.
التفسِير: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} هذا قسمٌ، أقسم سبحانه بالبلد الحرام «مكة» التي شرَّفها الله تعالى بالبيت العتيق قبلة أهل الشرق والغرب وجعلها مهبط الرحماتن وإِليها تجبى ثمرات كل شيء، وجعلها حرماً آمناً، وجعل حرمتها منذ خلق السموات والأرض، فلما استجمعت تلك المزايا والفضائل أقسم الله تعالى بها قال في التسهيل: أراد بالبلد «مكة» باتفاق، وأقسم بها تشريفاً لها {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} أي وأنت يا محمد ساكنٌ ومقيم بمكة بلد الله الأمين قال البيضاوي أقسم بالبلد الحرام وقيَّده بحلوله عليه السلام فيه أي إقامته فيه إظهاراً لمزيد فضله، وإِشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} أي وأُقسم بآدم وذريته الصالحين قال مجاهد: الوالد آدم عليه السلام {وَمَا وَلَدَ} جميع ذريته قال ابن كثير: وما ذهب إِليه مجاهد وأصحابه حسنٌ قوي، لأنه تعالى لما أقسم بأُم القرى وهي المساكن، أقسم بعده بالساكن وهو «آدم» أبو البشر وولده وقال الخازن: أقسم الله تعالى بمكة لشرفها وحرمتها، وبآدم وبالآنبياء والصالحين من ذريته، لأن الكافر وإن كان من ذريته لا حرمة له حتى يقسم به {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} هذا هو المقسم عليه أي لقد خلقنا الإِنسان في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يقاسي أنواع الشدائد، من وقت نفخ الروح فيه إلى حين نزعها منه قال ابن عباس: {فِي كَبَدٍ} أي في مشقة وشدة، من حمله، وولادته، ورضاعه، وفطامه، ومعاشه، وحياته، وموته، وأصل الكبد: الشدة، وقيل: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق قال أبو السعود: والآية تسليةٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مما كان يكابده من كفار مكة. . ثم أخبر تعالى عن طبيعة الإِنسان الجاحد بقدرة الله، والمكذب للبعث والنشور فقال {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} أي أيظن هذا الشقي الفاجر، المغتر بقوته، أنَّ الله تعالى لا يقدر عليه لشدته وقوته؟ قال المفسرون: نزلت في «أبي الأشد بن كلدة» كان شديداً مغتراً(3/534)
بقوته، وكان يبسط له الأديم الجلد فيوضع تحت قدميه، ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ولا تزلّ قدماه، ومعنى الآية: أيظن هذا القوي المارد، المستضعف للمؤمنين، أنه لن يقدر على الانتقام منه أحد؟ {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} أي يقول هذا الكافر: أنفقت مالاً كثيراً في عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال الألوسي: أي يقول فخراً ومباهاة على المؤمنين: أنفقت مالاً كثيراً، وأراد بذلك ما أنفقه «رياءً وسمعةً» وعبر عن الإِنفاق بالإِهلاك، إظهاراً لعدم الاكتراث، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع، فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً، وقيل يقول ذلك إظهاراً لشدة عداوته لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} ؟ أي أيظن أنَّ الله تعالى لم يره حين كان ينفق، ويظن أن أعماله تخفى على رب العباد؟ ليس الأمر كما يظن، بل إن الله رقيب مطلعٌ عليه، سيسأله يوم القيامة ويجازيه عليه.
. ثم ذكَّره تعالى بنعمه عليه ليعتبر ويتعظ فقال {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ} أي ألم نجعل له عينين يبصر بهما؟ {وَلِسَاناً} أي ولساناً ينطق به فعيبر ما في ضميره؟ {وَشَفَتَيْنِ} أي وشفتين يطبقهما على فمه، ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلكظ قال الخازن: يريد أن نعم الله على عبده متظاهرة، يقرره بها كي يشكره {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} أي وبينا له طريق الخير والشر، والهدى والضلال، ليسلك طريق السعادة، ويتجنب طريق الشقاوة قال ابن مسعود: {النجدين} الخير والشر كقوله تعالى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإِنسان: 3] {فَلاَ اقتحم العقبة} أي فهلا أنفق ماله في اجتياز العقبة الكئود، بدل أن ينفقه في عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟! قال في البحر: والعقبةُ استعارةٌ للعمل الشاق على النفس، من حيث فيه بذل المال، تشبيهاً لها بعقبة الجبل وهو ما صعب منه وقت الصعود، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها، ومعنى اقتحامها دخلها بسرعة وشدة، وهو مثلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس، والهوى، والشيطان، حتى ينال رضى الرحمن {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} أي وما أعلمك ما اقتحام العقبة؟ وفيه تعظيم لشأنها وتهويل. . ثم فسرها تعالى بقوله {فَكُّ رَقَبَةٍ} أي هي عتق الرقبة في سبيل اله، وتخليص صاحبها من الأسر والرقِّ، فمن أعتق رقبة كانت له فداء من النار {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي أو أن يطعم الفير في يوم عصيب ذي مجاعة، قال الصاوي وقيد الإِطعام بيوم المجاعة، لأن إِخراج المال فيه أشد على النفس {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} أي أطعم اليتيم الذي بينه وبينه قرابة {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} أو المسكين الفقير البائس الذي قد لصق بالتراب من فقره وضره، وهو كناية عن شدة الفقر والبؤس قال ابن عباس: هو المطروح على ظهر الطريق لا يقيه من التراب شيء {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} أي عمل هذه القربات لوجه الله تعالى، وكان مع ذلك مؤمناً صادق الإِيمان قال المفسرون: وفي الآية إشارة أن هذه القُرَب والطاعات لا تنفع إِلا مع الإِيمان {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} أي وأوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإِيمان وطاعة الرحمن، وبالرحمة والشفقة على الضعفاء والمساكين {أولئك أَصْحَابُ الميمنة} أي هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات الجليلة، هم أصحاب الجنة الذين يأخذون كتبهم(3/535)
بأيمانهم، ويسعدون بدخول جنات النعيم {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة} قرن بين الأبرار والفجار على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، لبيان المفارقة الهائلة بين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشرار أي والذين جحدوا نبوة محمد وكذبوا بالقرآن هم أهل الشمال أهل النار لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، وعبر عنهم بضمير الغائب إشارة إلى أنهم غائبون عن حضرة قدسه، وكرامة أُنسه {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} أي عليهم نارٌ مطبقة مغلقة، لا يدخل فيها روحٌ ولا ريحان، ولا يخرجون منها أبد الزمان.
. اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، ونجنا من ذلك يا رب.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - زيادة {لاَ} لتأكيد الكلام، وهو مستفيض في كلام العرب {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} أي أُقسم بهذا البلد، وفائدتها تأكيد القسم كقولك: لا والله ما ذاك كما تقول أي والله قال امرؤ القيس:
«لا وأبيك ابنة العامري» ... 2 جناس الاشتقاق {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} فكل من الوالد والولد مشتق من الولادة.
3 - الاستفهام الإِنكاري للتوبيخ {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} ؟ ومثله {أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} ؟
4 - الاستفهام التقريري للتذكير بالنعم {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} ؟
5 - الاستفهام للتهويل والتعظيم {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة} ؟ لأن الغرض تعظيم شأنها.
6 - الاستعارة اللطيفة {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} أي طريقي الخير والشر، وأصل النجد الطريق المرتفع، استعير كل منهما لسلوك طريق السعادة، وسلوك طريق الشقاوة.
7 - الاستعارة كذلك في قوله {فَلاَ اقتحم العقبة} لأن أصل العقبة الطريق الوعر في الجبل، واستعيرت هنا للأعمال الصالحة لأنها لا تصعب وتشق على النفوس، ففيه استعارة تبعية.
8 - الجناس الناقص بين {مَقْرَبَةٍ} و {مَتْرَبَةٍ} لتغير بعض الحروف.
9 - المقابلة اللطيفة بين {أولئك أَصْحَابُ الميمنة} وبين {هُمْ أَصْحَابُ المشأمة} .
10 - مراعاة الفواصل ورءوس الآيات مثل {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد. . وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} ومثل {عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} وهو من المحسنات البديعية.(3/536)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
اللغَة: {ضُحَاهَا} ضوءها، والضحى وقت ارتفاع الشمس أول النهار قال المبرد: الضحى مشتقٌ من الضحِّ وهو نور الشمس {طَحَاهَا} بسطها ومدَّها قال الجوهري: طحوتُه مثل دحوته أي(3/537)
بسطتُه {دَسَّاهَا} أخفاها وأصل الكلمة دسسها أبدلت السين الثانية ألفاً تخفيفاً {فَدَمْدَمَ} الدمدمة: إِطباقُ الشيء على الشيء يقال: دمدم عليه القبر أي أطبقه والمراد به هنا إِطباقُ العذاب عليهم بمعنى إِهلاكهم بطريق الاستئصال {عُقْبَاهَا} عاقبتها وتبعتها.
التفسِير: {والشمس وضحاهاوالليل إِذَا يَغْشَاهَا والسمآء وَمَا بَنَاهَا} أي أُقسم بالشمس وضوئها الساطع إِذا أنار الكون وبدَّد الظلام {والقمر إِذَا تَلاَهَا} أي وأُقسم بالقمر إِذا سطع مضيئاً، وتبع الشمس طالعاً بعد غروبها قال المفسرون: وذلك في النصف الأول من الشهر، إِذا غربت الشمس تلاها القمر في الإِضاءة وخلفها في النور، وحكمةُ القسم بالشمس أن العالم في وقت غيبة الشمس عنهم كالأموات، فإِذا ظهر الصبح وبزغت الشمس دبت فيهم الحياة، وصار الأموات أحياء فانتشروا لأعمالهم وقت الضحوة، وهذه الحالة تشبه أحوال القيامة، ووقتُ الضحى يشبه استقرار أهل الجنة فيها، والشمسُ والقمر مخلوقان لمصالح البشر، والقسم بهما للتنبيه على مافيهما من المنافع العظيمة {والنهار إِذَا جَلاَّهَا} أي وأُقسم بالنهار إِذا جلا ظلمة الله بضيائه، وكشفها بنوره وقال ابن كثير: إِذا جلا البسيطة وأضاء الكون بنوره {والليل إِذَا يَغْشَاهَا} أي وأقسمُ بالليل إِذا غطَّى الكون بظلامه، ولفَّه بشبحه، فالنهار يجلي المعمورة ويظهرها، والليل يغطيها ويسترها، قال الصاوي: وأتى بالفعل مضارعاً {يَغْشَاهَا} ولم يقل {غشاها} مراعاةً للفواصل {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} أي وأقسم بالقادر العظيم الذي بنى السماء، وأحكم بناءها بلا عمد قال المفسرون: {ما} اسم موصول بمعنى «منْ» أي والسماء ومن بناها والمراد به الله رب العالمين، بدليل قوله بعده {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} كأنه قال: والقادر العظيم الشأن الذي بناها، فدلَّ بناؤها وإحكامها على وجوده، وكمال قدرته {والأرض وَمَا طَحَاهَا} أي وأُقسمُ بالأرض ومن بسطها من كل جانب، وجعلها ممتدة ممهَّدة، صالحة لسكنى الإِنسان والحيوان، وهذا لا ينافي كرويتها كما قال المفسرون، لأن الغرض من الآية الامتنان بجعل الأرض ممتدة واسعة، ميسَّرة للزراعة والفلاحة وسكنى الإِنسان {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي وأقسمُ بالنفس البشرية وبالذي أنشأها وأبدعها، وجعلها مستعدة لكمالها، وذلك بتعديل أعضائها، وقواها الظاهرة والباطنة، ومن تمام تسويتها أن وهبها العقل الذي تميز به بين الخير والشر، والتقوى والفجور، ولهذا قال {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي وعرَّفها الفجور والتقوى وما تميز به بين رشدها وضلالها قال ابن عباس: بيَّن لها الخير والشر، والطاعة والمعصية، وعرَّفها ما تأتي وما تتقي قال المفسرون: أقسم سبحانه بسبعة أشياء «الشمس، والقرم، والليل، والنهار، والسماء، والأرض، والنفس البشرية» إِظهاراً لعظمة قدرته، وانفراده بالألوهية، وأشارةً إِلأى كثرة مصالح تلك الأشياء وعظم نفعها وأنها لا بد لها من صانع ومدبر لحركاتها وسكناتها وقال الإِمام الفخر: لما كانت الشمس أعظم المحسوسات، ذكرها تعالى مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمها، ثم ذكر سبحانه ذاته(3/538)
المقدسة، ووصفها جلَّ وعلا بصفاتٍ ثلاث ليحظى العقل بإِدراك جلال الله تعالى وعظمته، كما يليق به جلَّ جلاله، فكان ذلك طريقاً إِلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات، إِلى بيداء أوج كبريائه جلَّ شأنه {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} هذا هو جواب القسم أي لقد فاز وأفلح من زكَّى نفسه بطاعة الله، وطهَّرها من دنس المعاصي والآثام {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} أي وقد خسر وخاب من حقَّر نفسه بالكفر والمعاصي، وأوردها موارد الهلكة، فإِنَّ من طاوع هواه، وعصى أمر مولاه، فقد نقص من عداد العقلاء، والتحق بالجهلة الأغبياء.
. ثم ضرب تعالى مثلاً لمن طغى وبغى، ولم يطهر نفسه من دنس الكفر والعصيان، فذكر {ثَمُودُ} قوم صالح عليه السلام فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} أي كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها {إِذِ انبعث أَشْقَاهَا} أي حين انطلق أشقى القةم بسرعةٍ ونشاط يعقر الناقة قال ابن كثير: وهو «قدار بن سالف» الذي قال الله فيه {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [القمر: 29] وكان عزيزاً شريفاً في قومه، ورئيساً مطاعاً فيهم، وهو أشقى القبيلة {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله} أي فقال لهم صالح عليه السلام {نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا} أي احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء، واحذروا أيضاً أن تمنعوها من سُقياها أي شربها ونصيبها من الماء كما قال تعالى {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} أي فكذبوا نبيه صالحاً وقتلوا الناقة، ولم يتلفتوا إِلى تحذيره {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ} أي فأهلكهم اللهُ ودمَّرهم عن آخرهم بسبب إِجرامهم وطغيانهم قال الخازن: والدمدمة: هلاكٌ باستئصال والمعنى أطبق عليهم العذاب طبقاً فلم ينفلت منهم أحد {فَسَوَّاهَا} أي فسوَّى بين القبيلة في العقوبة فلم يفلت منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا غنيٌ ولا فقير {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي ولا يخاف تعالى عاقبة إِهلاكهم وتدميرهم، كما يخاف الرؤساء والملوك عاقبة ما يفعلون، لأنه تعالى لا يُسأل عما يفعل.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {الشمس والقمر} و {الليل والنهار} وبين {فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} .
2 - المقابلة اللطيفة بين {والنهار إِذَا جَلاَّهَا} وبين {والليل إِذَا يَغْشَاهَا} وبين {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} وبين {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} وكلٌ من الطباق والمقابلة من المحسنات البديعية.
3 - الإِضافة للتكريم والتشريف {نَاقَةَ الله} نسبت إِلى تشريفاً لأنها خرجت من حجرٍ أصم معجزةً لصالح عليه السلام.
4 - التهويل والتفظيع {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ} فإِن التعبير بالدمدمة يدل على هول العذاب.
5 - السجع المرصَّع مراعاة للفواصل ورءوس الآيات وهو ظاهر جليٌ في السورة الكريمة.(3/539)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
اللغَة: {تجلى} انكشف وظهر {شتى} متفرق ومختلف {الحسنى} الكلمة الحسنى وهي كلمة التوحيد {اليسرى} الخصلة المؤدية الى اليسر والراحة وهي الجنة {العسرى} الخصلة المؤدية إلى العسر والشدة وهي جهنم {تردى} هلك وسقط في الهاوية {تلظى} أصلها تتلظى أي تتلهب وتتوقد {يَصْلاَهَآ} يدخلها وياقسي حرها.
المنَاسَبَة: روي أن بلالاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان عبداً مملوكاً ل «أُمية بن خلف» وكان سيده يعذبه لإِسلامه، ويخرجه إِذا حميت الشمسُ فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد! {فيقول وهو في تلك الحالة: أحدٌ، أحدٌ، فمرَّ به أبو بكر الصديق وهم يصنعون به ذلط، فقال لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين} ! فقال له: أنت أفسدته عليَّ فأنقذه مما ترى، فاشتراه أبو بكرٍ منه وأعتقه في سبيل الله، فقال المشركون: إِنما أعتقه ليدٍ كانت له عنده فنزلت {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى} .
التفسِير: {والليل إِذَا يغشى} أي أُقسمُ بالليل إِذا غطَّى بظلمته الكون، وستر بشبحه الوجود {والنهار إِذَا تجلى} أي وأُقسمُ بالنهار إِذا تجلَّى وانكشف، وأنار العالم وأضاء الكون قال المفسرون: أقسم تعالى بالليل لأنهسكنٌ لكافة الخلق، يأوي فيه الإِنسان والحيوان إلى مأواه، ويسكن عن الاضطراب والحركة، ثم أقسم بالنهار لأن فيه حركة الخلق وسعيهم إلى اكتساب الرزق، والحكمة في هذا القسم ما في تعاقب الليل والنهار من مصالح لا تُحصى فإِنه لو كان العمر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان كله نهاراً لما سكن الإِنسان إلى الراحة، ولاختلت مصالح البشر {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} أي وأُقسمُ بالقادر العظيم الذي خلق صنفي الذكر والأنثى، من نطفةٍ إذا تمنى. . أقسم تعالى بذاته على خلق النوعين {الذكر والأنثى} للتنبيه على أنه الخالق المبدع الحكيم، إِذْ لا يُعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى يحصل بمحض الصدفة من طبيعة بلهاء لا شعور لها فإِن الأجزاء الأصلية في المنيّ متساوية، فتكوينُ الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً، وتارة أنثى، دليلٌ على أن واضع هذا النظام عالم، بما يفعل، محكم لما يصنع {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} هذا هو جواب القسم أي إن عملكم لمختلف، فمنكم تقيٌ ومنكم شقي، ومنكم صالحٌ ومنكم طالح، ثم فسَّره بقوله {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} أي فأما من أعطى ماله وأنفق ابتغاء وجه الله، واتقى ربه فكف عن(3/541)
محارم الله قال بان كثير: أعطى ما أُمر باخراجه، واتقى الله في أموره {وَصَدَّقَ بالحسنى} أي وصدَّق بالجنة التي أعدَّها الله للأبرار {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} أي فسنهيئه لعمل الخير، ونسهّل عليه الخصلة المؤدية لليسر، وهي فعل الطاعات وترك المحرمات {وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى} أي وأمَّا من بخل بإِنفاق المال، واستغنى عن عبادة ذي الجلال قال ابن عباس: بخل بماله، واستغنى عن ربه عزَّ وجل {وَكَذَّبَ بالحسنى} أي وكذَّب بالجنة ونعيمها {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} أي فسنهيئه للخصة المؤدية للعسر، وهي الحياة السيئة في الدنيا والآخرة وهي طريق الشر قال المفسرون: سمَّى طريقة الخير يسرى لأن عاقبتها اليسر وهي دخول الجنة دار النعيم، وسمَّى طريقة الشرِّ عسرى لأن عاقبتها العسر وهو دخول الجحيم {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} استفهام إِنكاري أيْ أيُّ شيء ينفعه ماله إذا هلك وهو في نار جهنم؟ هل نفعه المال، ويدفع عنه الوبال؟ {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} أي إنَّ علينا أن نبيِّن للناس طريق الهدى من طريق الضلالة، ونوضّح سبيل الرشد من سبيل الغي كقوله
{وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} أي لنا ما في الدنيا والآخرة، فمن طلبهما من غير الله فقد أخطأ الطريق {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} أي فحذرتكم يا أهل مكة ناراً تتوقَّد وتتوهج من شدة حرارتها {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى} أي لا يدخلها للخلود فيها ولا يذوق سعيرها، إِلاّ الكافر الشقي. . ثم فسَّره تعالى بقوله {الذي كَذَّبَ وتولى} أي كذَّب الرسل وأعرض عن الإِيمان {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} أي وسيبعد عن النار التقيُ النقيُّ، المبالغ في اجتناب الشرك والمعاصي. . ثم فسَّره تعالى بقوله {الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} أي الذي ينفق ماله في وجوه الخير ليزكي نفسه {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} أي وليس لأحدٍ عنده نعمة حتى يكافئه عليها، وإِنما ينفق لوجه الله قال المفسرون: نزلت الآيات في حقِّ «أبي بكر الصديق» حين اشترى بلالاً وأعتقه في سبيل الله فقال المشركون: إِنما فعل ذلك ليد كانت له عنده فنزلت {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} أي ليس له غاية إِلا مرضاة الله {وَلَسَوْفَ يرضى} أي ولسوف يعطيه الله في الآخرة ما يرضيه وهو وعدٌ كريم من رب رحيم.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين لفظة {الأشقى} و {الأتقى} وبين {اليسرى} و {العسرى} .
2 - المقابلة اللطيفة {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى} وبين {وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى} الآيات.
3 - جناس الاشتقاق {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} لأن اليسرى من التيسير فبينهما مجانسة.
4 - حذف المفعول للتعميم ليذهب ذهن السامع كل مذهب {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى. .} الآيات.(3/542)
5 - السجع الرصين غير المتكلف كقوله {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى. . وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} الخ.
كان عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول: أعتق سيدُنا سيدَنا يريد أعتق سيدنا أبو بكر سيدنا بلالاً، فما أروع هذه النفوس؟ اللهم ارزقنا محبة أصحاب الرسول جميعاً.(3/543)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
اللغَة: {سجى} سجى الليل: اشتد ظلامه {قلى} أبغض قال الراغب: القلي: شدة البغض يقال: قلاه ويقليه أي أبغضه {آوى} ضمَّه إلى من يرعاه {عَآئِلاً} فقيراً معدماً وهو من اشتد به الفقر قال جرير:(3/544)
اللهُ نزَّل في الكتاب فريضةٌ ... لابن السبيل وللفقير العائل
{تَقْهَرْ} تذله وتحقره {تَنْهَرْ} تزجره وتغلظ عليه في الكلام.
سَبَبُ النّزول: اشتكى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأةٌ وهي أم جميل امرأة أبي لهب شفقالت يا محمد: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك!! لم أره قربك ليلتين أو ثلاثاً فأنزل اله عَزَّ وَجَلَّ: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} .
التفسِير: {والضحى والليل إِذَا سجى} أقسم تعالى بوقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمسُ، وأقسم بالليل إِذا اشتد ظلامه، وغطَّى كل شيء في الوجود قال ابن عباس: {سجى} أقبل بظلامه قال ابن كثير: هذا قسمٌ منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء، وبالليل إِذا سكن فأظلم وأدلهمَّ، وذلك دليلٌ ظاهر على قدرته تعالى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} أي ما تركك ربك يا محمد منذ اختارك، ولا أبغضك منذ أحبك، وهذا ردٌّ على المشركين حين قالوا: هجره ربه، وهو جواب القسم {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} أي وللدارُ الآخرة خيرٌ لك يا محمد من هذه الحياة الدنيا، لأن الآخرة باقية، والدنيا فانية، ولهذا كان عليه السلام يقول: «اللهم لا عيش إِلا عيشُ الآخرة» {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} أي سوف يعطيك ربك في الآخرة من الثواب، والكرامة، والشفاعة، وغير ذلك إلى أن ترضى قال ابن عباس: هي الشفاعة في أُمته حتى يرضى، لما روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر أمته فقال: اللهم أُمتي أُمتي وبكى، فقال الله يا جبريل إِذهب إلى محمد واسأله ما يبكيك: اذهب إِلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» ، وفي الحديث «لكل نبي دعوةٌ مستجابة، فتعجَّل كل نبي دعوته، وإِني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة» الحديث قال الخازن: والأولى حملُ الآية على ظاهرها ليشمل خيري الدنيا والآخرة معاً، فقد أعطاه الله تعالى في الدنيا النصر والظفر على الأعداء، وكثر الأتباع والفتوح، وأعلى دينه، وجعل أمته خير الأمم، وأعطاه في الآخرة الشفاعة العامة، والمقام المحمود، وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة. . ثم لما وعده بهذا الوعد الجليل، ذكَّره بنعمه عليه في حال صغره ليشكر ربه فقال {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} أي ألم تكنْ يا محمد يتيماً في صغرك، فآواك الله إلى عمك أبي طالب وضمَّك إليه؟ قال ابن كثير: وذلك أن أباه توفي وهو حملٌ في بطن أمه، ثم توفيت أُمه وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده «عبد المطلب» إِلى أن تُوفي وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه «أبو طالب» ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره حتى ابتعثه الله على رأس الأربعين وأبو طالب على عبادة الأوثان مثل قومه ومع ذلك كان يدفع الأذى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكلُّ هذا من حفظ الله له، كلاءته(3/545)
وعنايته به {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} أي ووجدك تائهاً عن معرفة الشريعة والدين فهداك إِليها كقوله تعالى
{مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] قال الإِمام الجلال: أي وجدك ضالاً عمان أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها، وقيل: ضلَّ في بعض شعاب مكة وهو صغير فردَّه الله إِلى جده قال أبو حيان: لا يمكن حمله على الضلال الذي يقابله الهدى، لأن الأنبياء معصومون من ذلك قال ابن عباس: هو ضلاله وهو في صغره في شعاب مكة، وقيل: ضلَّ وهو مع عمه طريق الشام {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} أي ووجدك فقيراً محتاجاً فأغناك عن الخلق، بما يسَّ لك من أسباب التجارة. . ولمَّا عدَّد عليه هذه النعم الثلاث، وصَّاه بثلاث وصايا مقابلها فقال {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} أي فأما اليتيم فلا تحتقره ولا تغلبه على ماله قال مجاهد: أي لا تحتقره وقال سفيان: لا تظلمه بتضييع ماله، والمراد كن لليتيم كالأب الرحيم، فقد كنت يتيماً فآواك الله {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} أي وأمَّا السائل المستجدي الذي يسأل عن حاجة وفقر، فلا تزجره إِذا سألك ولا تُغلظ له القول بل أعطه أو ردَّه رداً جميلاً قال قتادة: ردَّ المسكين برفقٍ ولين {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي حدِّثْ الناس بفضل الله وإِنعامه عليك، فإِن التحدث بالنعمة شكر لها قال الألوسي: كنت يتيماً وضالاً وعائلاً، فأواك الله وهداك وأغناك، فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث، فتعطَّف على اليتيم، وترحَّم على السائق، فقد ذقت اليتم والفقر، وأرشد العباد إِلى طريق الرشاد، كما هداك ربك.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {الآخِرَةُ} و {الأولى} لأن المراد بالأولى الدنيا وهي تطابق الآخرة.
2 - المقابلة اللطيفة {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى. . وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} قابلها بقوله {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} وهي من لطائق علم البديع.
3 - الجناس الناقص بين {تَقْهَرْ} و {تَنْهَرْ} لتغير الحرف الثاني من الكلمتين.
4 - السجع المرصَّع كأنه الدر المنظوم في عقد كريم {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى} الخ.(3/546)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
التفسِير: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} استفهامٌ بمعنى التقرير أي قد شرحنا لك صدرك يا محمد بالهدى والإِيمان، ونور القرآن كقوله تعالى {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأَنعام: 125] قال ابن كثير: أي نورناه وجعلناه فسيحاً، رحيباً، واسعاً، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحاً، سمحاً، سهلاً، لا حرج فيه ولا إِصرْ ولا ضيق وقال أبو حيان: شرحُ الصدر تنويره بالحكمة، وتوسيعه لتلقي ما يوحى إِليه وهو قول الجمهور، وقيل: هو شق جبريل لصدره في(3/547)
صغره وهو مرويٌ عن ابن عباس {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} أي حططنا عنك حملك الثقيل {الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أي الذي أثقل وأوهن ظهرك قال المفسرون: المراد بالوزر الأمور التي فعلها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَوَضْعُها عنه هو غفرانها له كقوله تعالى {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وليس المراد بالذنوب المعاصي والأثام، فإِن الرسل معصومون من مقارفة الجرائم، ولكن ما فعله عليه السلام عن اجتهاد وعوتب عليه، كإِذنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للمنافقين في التخلف عن الجهاد حين اعتذروا، وأخذه الفداء من أسرى بدر، وعبسه في وجه الأعمى ونحو ذلك، قال في التسهيل: وإِنما وصفت ذنوب الأنبياء بالثقل، وهي صغائر مغفورة لهم، لهمِّهم بها وتحسرهم عليهان فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم من الله وهذا كما ورد في الأثر «إنَّ المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كالذبابة تطير فوق أنفه» والنقيضُ هو الصوتُ الذي يسمع من المحمل فوق ظهر البعير من شدة الحمل {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} أي رفعنا شأنك، وأعلينا مقامك في الدنيا والآخرة، وجعلنا اسمك مقروناً باسمي قال مجاهد: لا أَذكر إِلا ذكرت معي وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إِلا ينادي: أشهد أن لا إِله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وفي الحديث «أتاني جبريل فقال لي يا محمد: إن ربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله تعالى أعلم، قال: إِذا ذكرتُ ذكرتَ معي» قال في البحر: قرن الله ذكر الرسول بذكره جل وعلا في كلمة الشهادة، والأذان والإِقامة، والتشهد، والخطب، وفير غير موضع من القرآن، وأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به كما قال حسان بن ثابت:
وضمَّ الإِله اسم النبي إِلى اسمه ... إِذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشقَّ له من إِسمه ليُجله ... فذو العرش محمودٌ وهذا محمد
{فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} أي بعد الضيق يأتي الفرج، وبعد الشدة يكون المخرج قال المفسرون: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما عدَّد عليه النعم في أول السورة تسلية وتأنسياً له، لتطيب نفسه ويقوى رجاؤه، وكأن الله تعالى يقول: إِنَّ الذي أنعم عليك بهذه النعم الجليلة، سينصرك عليهم، ويظهر أمرك، ويبدل لك هذا العسر بيسرٍ قريب، ولذلك كرره ومبالغة فقال: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} أي سيأتي الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر فلا تحزن ولا تضجر وفي الحديث
«لن يغلب عسرٌ يسرين» {فَإِذَا(3/548)
فَرَغْتَ فانصب} أي فإِذا فرغت يا محمد من دعوة الخلق، فاجتهد في عبادة الخالق، وإِذا انتهيت من أمور الدنيا، فأتعب نفسك في طلب الآخرة {وإلى رَبِّكَ فارغب} أي اجعل همَّك ورغبتك فيما عند الله، لا في هذه الدنيا الفانية قال ابن كثير: المعنى إِذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها، فانصب إِلى العبادة، وقم إِليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الاستفهام التقريري للامتنان والتذكير بنعم الرحمن {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. .} الخ.
2 - الاستعارة التمثيلية {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} شبَّه الذنوب بحمل ثقيل يرهق كاهل الإِنسان ويعجز عن حمله بطريق الاستعارة التمثيلية:
3 - التنكير للتفخيم والتعظيم {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} نكر اليسر للتعظيم كأنه يسراً كبيراً.
4 - الجناس الناقص بين لفظ {اليُسْر} و {العسر} .
5 - تكرير الجملة لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} ويسمى هذا بالإِطناب.
6 - السجع المرصَّع مراعاة لرءوس الآيات {فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب وإلى رَبِّكَ فارغب} ومثلها {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} وهو من المحسنات البديعية.(3/549)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
اللغَة: {طُورِ سِينِينَ} هو جبل الطور الذي كلم الله عليه موسى ومعنى {سِينِينَ} المبارك {تَقْوِيمٍ} تعديل يقال: قوَّم العود أي عدَّله وجعله مستقيماً، وقوَّمه الدهر جعله متزناً حصيف الرأي والعقل {مَمْنُونٍ} مقطوع {بالدين} الجزاء مأخوذ من دان بمعنى جاز ومنه الحديث الشريف «كما تدين تُدان» أي كما تفعل تُجازى.
التفسِير: {والتين والزيتون} هذا قسمٌ أي أُقسمُ بالتين والزيتون لبركتهما وعظيم منفعتهما قال(3/550)
ابن عباس: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت وقال عكرمة: أقسم الله تعالى بمنابت التين والزيتون، فإِن التين ينبتُ كثيراً بدمشق، والزيتون ببيت المقدس. . وهو الأظهر، ويدل عليه أن الله تعالى عطف عليه الاماكن «جبل الطور» و «البلد الأمين» فيكون قسماً بالبقاع المقدسة التي شرَّفها الله تعالى بالوحي والرسالات السماوية {وَطُورِ سِينِينَ} أي وأُقسم بالجبل المبارك الذي كلَّم الله عليه موسى وهو «طور سيناء» ذو الشجر الكثير، الحسن المبارك قال الخازن: سمي «سينين» و «سيناء» لحسنه ولكونة مباركاً، وكلُّ جبلٍ فيه أشجارٌ مثمرة يسمى سينين وسيناء {وهذا البلد الأمين} أي وأٌقسم بالبلد الأمين «مكة المكرمة» التي يأمن فيها من دخلها على نفسه وماله كقوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] ! {قال الألوسي: هذه أقسام ببقاع مباركة شريفة على ما ذهب إِليه الكثيرون، فأما البلد الأمين فمكة المكرمة حماها الله بلا خوف، وأما طور سينين فالجبل الذي كلم الله تعالى موسى عليه، ويقال له: طور سيناء، وأما التين والزيتون فروي عن قتادة أن المراد بهما جبلان: أحدهما بدمشق، والثاني ببيت المقدس، وعنى بالتين والزيتون منبتيهما، وقيل: المراد بهما الشجران المعروفان وهو قول ابن عباس ومجاهد، والغرض من القسم بتلك الأشياء الإِبانة عن شرف البقاع المباركة، وما ظهر فيها من الخير والبركة ببعثة الأنبياء والمرسلين وقال ابن كثير: ذهب بعض الأئمة إِلى أن محالٌ ثلاث، بعث الله في كلٍ منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار فالأول: محلة التين والزيتون وهي «بيت المقدس» التي بعث الله فيها عيسى عليه السلام والثاني: طور سينين وهو «طور سيناء» الذي كلَّم الله عليه موسى بن عمران والثالث: البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذر أرسل الله فيه محمداً صلى الله عليه والسلم، وقد ذكر في آخر التوراة هذه الأماكن الثلاثة «جاء اللهُ من طور سيناء الجبل الذي كلم الله عليه موسى وأشرق من ساعير يعني جبل المقدس الذي بعث الله منه عيسى واستعلن من جبال فاران يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فذكرهم بحسب ترتيبهم بالزمان، وأقسم بالأشرف ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما، وجواب القسم هو قوله {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أي خلقنا جنس الإِنسان في أحسن شكل، متصفاً بأجمل وأكمل الصفات، من حسن الصورة، وانتصاب القامة، وتناسب الأعضاء، مزيناً بالعلم والفهم، والعقل والتمييز، والنطق والأدب، قال مجاهد: {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أحسن صورة، وأبدع خلق {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي ثم أنزلنا درجته إِلى أسفل سافلين، لعدم قيامه بموجب ما خلقناه عليه، حين لم يشكر نعمة خلقنا له في أحسن صورة، ولم يستعمل ما خصصناه به من المزايا في طاعتنا، فلذلك سنرده إِلى أسفل سافلين وهي جهنم قال مجاهد والحسن: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أسفل دركات النار وقال الضحاك: أي رددناه إِلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة قال(3/551)
الألوسي: والمتبادرُ من السياقِ الإِشارة الى حالة الكافر يوم القيامة، وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها، بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي إِلا المؤمنين المتقين الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي فلهم ثواب دائم غير مقطوع عنهم، وهو الجنة دار المتقين {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين} الخطاب للإِنسان على طريقة الالتفات أي فما سبب تكذيبك أيها الانسان، بعد هذا البيان وبعد وضوح الدلائل والبراهين؟ فإِن خلق الإِنسان من نطفة، وإيجاده في أجمل شكل وأبدع صورة، من أوضح الدلائل على قدرة الله عَزَّ وَجَلَّ على البعث والجزاء، فما الذي يدعوك إِلى التكذيب بيوم الدين بعد هذه البراهين؟ {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} أي أليس الله الذي خلق وأبدع، بأعدل العادلين حكماً وقضاءً وفصلاً بين العباد؟} وفي الحديث
«أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إِذا قرأها قال: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» .
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - المجاز العقلي بإِطلاق الحال وإِرادة المحل {والتين والزيتون} أراد موضعهما الشام وبيت المقدس على القول الراجح.
2 - الطباق بين {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} وبين {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} .
3 - جناس الاشتقاق {أَحْكَمِ الحاكمين} .
4 - الالتفات من الغيبة إِلى الخطاب زيادة في التوبيخ والعتاب {فَمَا يُكَذِّبُكَ} ؟ {
5 - الاستفهام التقريري {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} ؟
6 - السجع المرصَّع {البلد الأمين. . أَسْفَلَ سَافِلِينَ. . أَحْكَمِ الحاكمين} والله أعلم.
لطيفَة: ذكر الإِمام القرطبي: أن «عيسى الهاشمي» كان يحب زوجته جباً شديداً، فقال لها يوماً: أنت طالقٌ ثلاثاً إِن لم تكوني أحسن من القمر} ! فاحتجبت عنه وقالت طلقتني، فحزن حزناً شديداً وذهب إِلى الخليفة «المنصور» وأخبره الخبر، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم، فقال جميع من حضر: قد طُلّقت، إِلا رجلاً واحداً من أصحاب أبي حنيفة فقد بقى ساكتاً فقال له المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال له الرجل يا أمير المؤمنين: يقول الله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فليس شيء أحسن من الإِنسان، فقال صدقت، وردها إِلى زوجها.(3/552)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
اللغَة: {عَلَقٍ} جمع علقة وهي الدم الجامد، سميت علقة لأنها تعلق بالرحم {نَسْفَعاً} السَّفع: الجذب بشدة وقوة أهل اللغة: سفعت بالشيء إِذا قبضتُ عليه وجذبته جذباً شديداً، وسفع بناصية فرسه جذبها قال الشاعر:
قومٌ إِذا كثر الصياح رأيتهم ... مابين ملجم مهره أو سافع
{الناصية} شعر مقدَّم الرأس {الزبانية} مأخوذ من الزَّبن وهو الدفع، والمراد بهم ملائكة العذاب، الغلاظ الشداد، والعرب يطلقون هذا الاسم على من اشتد بطشه قال الشاعر:
مطاعيم في القُصْوى، مطاعين ... في الوغى زبانيةٌ غلبٌ عظام حلومها
«روي أن أبا جهل قال لأصحابه يوماً: هل يُعفِّر محمد وجهه بين أظهرهم؟ يريد هل يصلي ويسجد أمامكم قالوا: نعم، فقال: واللأَّت والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأنَّ على رقبته، ولأُعفرنَّ وجهه في التراب، فجاء يوماً فوجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي، فأقبل يريد أن يطأ على رقبته، فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له: ما لك؟ قال: إِن بني وبينه خندقاً من نار، وهولاً وأجنحة فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لو دنا مني لاختفطته الملائكةُ عضواً عظواً «فأنزل الله {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} إِلى آخر السورة.
التفسير: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} هذا أول خطاب إِلهي إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفيه دعوةٌ إِلى القراءة والكتابة والعلم، لأنه شعار دين الإِسلام أي إقرأ يا محمد القرآن مبتدئاً ومستعيناً باسم ربك الجليل، الذي خلق المخلوقات، وأوجد جميع العوالم، ثم فسَّر الخلق تفخيماً لشأن الإِنسان فقال {خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ} أي خلق هذا الإِنسان البديع الشكل، الذي هو أشرف المخلوقات من العلقة هي الدودة الصغيرة وقد أثبت الطبُّ الحديث أن المنيّ الذي خلق منه الإِنسان محتوٍ على حيواناتٍ وديدان صغيرة لا تُرى بالعين، وإنما ترى بالمجهر الدقيق الميكرسكوب وأن لها رأساً وذنباً، فتبارك الله أحسن الخالقين قال القرطبي: خصَّ الإِنسان بالذكر تشريفاً له، والعلقةُ قطعة من ادمٍ رطب، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمرُّ عليه {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} أي اقرأ يا محمد وربك العظيم الكريم، الذي لا يساويه ولا يدانيه كريم، وقد دلَّ على كمال كرمه أنه علَّم العباد ما لم يعلموا {الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} أي الذي علَّم الخطَّ والكتابة بالقلم، وعلَّم البشر ما لم يكونوا يعرفونه من العلوم والمعارف، فنقلهم من ظلمة(3/554)
الجهل إِلى نور العلم، فكما علَّم سبحانه بواسطة الكتابة بالقلم، فإِنه يعلمك بلا واسطة وإِن كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب قال القرطبي: نبَّه تعالى على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إِنسان، وما دُونت العلوم ولا قُيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتبُ الله المنزَّلة إِلا بالكتابة، ولولاها ما استقامت أمور الدنيا والدين.
. وهذه الآيات الخمس هي أول ما تنزَّل من القرآن، كما ثبت في الصحاح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نزل عليه الملك وهو يتعبَّد بغار حراء، فقال: اقرأ، فقال ما أنا بقارىء. . الخ قال ابن كثير: أول شيء نزل من القرآن هذه الآيات المباركات، وهنَّ أول رحمةٍ رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإِنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علَّم الإِنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرَّمه وبالعلم، وهو القدر الذي امتاز به «آدم» على الملائكة. . ثم أخبر تعالى عن سبب بطر الإِنسان وطغيانه فقال {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} أي حقاً إِن الإِنسان ليتجاوز الحد في الطغيان، واتباع هوى النفس، ويستكبر على ربه عَزَّ وَجَلَّ {أَن رَّآهُ استغنى} أي من أجل أن رأى نفسه غنياً، وأصبح ذا ثروة ومال أشر وأبطر، ثم توعَّده وتهدده بقوله {إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى} أي إنَّ إِلى ربك أيها الإِنسانُ المرجعُ والمصير فيجازيك على أعمالك، وفي الآية تهديدٌ وتحذير لهذا الإِنسان من عاقبة الطغيان، ثم هو عام لكل طاغٍ متكبر قال المفسرون: نزلت هذه الآيات إِلى آخر السورة في «أبي جهل» بعد نزول صدر السورة بمدة طويلة، وذلك أن أبا جهل كان يطغى بكثرة ماله، ويبالغ في عداوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} تعجبٌ من حال ذلك الشقي الفاجر أي أخبرني يا محمد عن ذلك المجرم الأثيم، الذي ينهى عبداً من عباد الله عن الصلاة، ما استخفعقله، وما أشنع فعله! {قال أبو السعود: هذه الآية تقبيحٌ وتشنيعٌ لحال الطاغي وتعجيب منها، وإِيذان بأنها من الشناعة الغرابة بحيث يقضى منها العجب، وقد أجمع المفسرون على أن العبد المصلي هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأن الذي نهاه هو اللعين «أبو جهل» حيث قال: لئن رأيتُ محمداً يصلي لأطأن على عنقه {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى} أي أخبرني إن كان هذا العبد المصلي وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي تنهاه عن الصلاة صالحاً مهتدياً، على الطريقة المستقيمة في قوله وفعله} { {أَوْ أَمَرَ بالتقوى} أي أو كان آمراً بالإِخلاص والتوحيد، داعياً إِلى الهدى والرشاد، كيف تزجره وتنهاه} {فما أبلهك أيا الغبي الذي تنهى من هذه أوصافه: عبدٌ لله(3/555)
مطيعٌ مهتدٍ منيب، داعٍ إِلى الهدى والرشاد؟} وما أعجب هذا؟ {ثم عاد لخطاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} أي أخبرني يا محمد إِن كذَّب بالقرآن، وأعرض عن الإِيمان {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى} أي ألم يعلم ذلك الشقي أن الله مطَّلع على أحواله، مراقب لأفعاله، وسيجازيه عليها} {ويله ما أجهله وأغباه؟} ثم ردعه وزجره فقال {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} أي ليرتدع هذا الفاجر «أبو جهل» عن غيه وضلاله، فوالله لئن لم ينته عن أذى الرسول، ويكف عمَّا هو عليه من الكفر والضلال {لَنَسْفَعاً بالناصية} أي لنأخذنه بناصيته مقدم شعر الرأس فلنجرنه إِلى النار بعنفٍ وشدة ونقذفه فيها {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي صاحب هذه الناصية كاذبٌ، فاجرٌ، كثر الذنوب والإِجرام قال في التسهيل: ووصفها بالكذب والخطيئة مجازٌ، والكاذب الخاطىء في الحقيقة صاحبها، والخاطىء الذي يفعل الذنب متعمداً، والمخطىء الذي يفعله بدون قصد {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي فليدع أهل ناديه وليستنصر بهم {سَنَدْعُ الزبانية} أي سندعوا خزنة جهنم، الملائكة الغلاظ الشداد، روي
«أن أبا جهل مرَّ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يصلي عند المقام فقال: ألم أنهك عن هذا يا محمد {فأغلظ له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القول، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني يا محمد} والله إِني لأكثر أهل الوادي هذا نادياً فأنزل الله {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزبانية} » قال ابن عباس: لو دعا نادية لأخته ملائكة العذاب من ساعته {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ} أي ليرتدع هذا الفاجر، ولا تطعه يا محمد فيما دعاك إِليه من ترك الصلاة {واسجد واقترب} وأي وواظب على سجودك وصلاتك، وتقرَّب بذلك إِلى ربك وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» .
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الإِطناب بتكرار الفعل {اقرأ باسم رَبِّكَ. .} ثم قال: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم} لمزيد الاهتمام بشأن القراءة والعلم.
2 - الجناس الناقص بين {خَلَقَ} و {عَلَقٍ} .
3 - طباق السلب {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
4 - الكناية {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً} كنَّى بالعبد عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يقل: ينهاك تفخيماً لشأنه وتعظيماً لقدره.
5 - الاستفهام للتعجيب من شأن الناهي {أَرَأَيْتَ الذي ينهى} ؟ {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى} ؟
6 - المجاز العقلي {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} أي كاذب صاحبها خاطىء فأسند الكذب إِليها مجازاً.
7 - السجع المرصَّع مثل { {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ} .(3/556)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
التفسِير: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} أي نحن أنزلنا هذا القرآن المعجز في ليلة القدر والشرف قال المفسرون: سميت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها، والمرادُ بإِنزال القرآن إِنزالهُ من اللوح المحفوظ إِلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل إِلى الأرض في مدة ثلاث وعشرين سنة كما ابن عباس: أنزل الله القرآن جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إِلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر} تعظيمٌ وتفخيمٌ لأمرها أي وما أعلمك يا محمد ما ليلةٌ القد والشرف؟ قال الخازن: وهذا على سبيل التعظيم لها والتشريق لخبرها كأنه قال: أي شيء يبلغ علمك بقدرها ومبلغ فضلها؟ {ثم ذكر فضلها من ثلاثة أوجه فقال تعالى {لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي ليلة القدر في الشرف والفضل خيرٌ من ألف شهر، لما اختصت به من شرف إِنزال القرآن الكريم فيها قال المفسرون: العمل الصالح في ليلة القدر خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وقد روي أن رجلاً لبس السلاح وجاهد في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله والمسلمون من ذلك، وتمنى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأُمته فقال يا رب: جعلت أُمتي أقصر الأمم أعماراً، وأقلها أعمالاً} ! فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: ليلةُ القدر خيرٌ لك ولأمكت من ألف شهر، جاهد فيها ذلك الرجل قال مجاهد: عملها وصيامها(3/557)
وقيامها خيرلإ من ألف شهر، وهذا هو الوجه الأول من فضلها ثم قال تعالى {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} أي تنزل الملائكةُ وجبريل إِلى الأرض في تلك الليلة بأمر ربهم من أجل كل أمرٍ قدَّره الله وقضاه لتلك السنة إِلى السنة القابلة، وهذا هو الوجه الثاني من فضلها، والوجه الثالث قوله تعالى {سَلاَمٌ هِيَ حتى مَطْلَعِ الفجر} أي هي سلام من أول يومها إِلى طلوع الفجر، تسلّم فيها الملائكة على المؤمنين، ولا يُقدّر الله فيها إِلا الخير والسلامة لبني الإِنسان.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الإِطناب بذكر ليلة القدر ثلاث مرات، زيادة في الاعتناء بشأنها، وتفخيماً لأمرها.
2 - الاستفهام بغرض التفخيم والتعظيم {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر} ؟
3 - ذكر الخاص بعد العام {تَنَزَّلُ الملائكة والروح} فذكر جبريل بعد الملائكة لينبه على جلالة قدره.
4 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل {القدر، شَهْرٍ، أَمْرٍ، الفجر} وهو من المحسنات البديعية اللفظية والله أعلم.(3/558)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
اللغَة: {مُنفَكِّينَ} منتهين زائلين، وأصلُ الفك: الفتحُ ومنه فكُّ الكتاب، وفكُّ الخلخال {البينة} الحجة الواضحة، والدلالة القاطعة {مُّطَهَّرَةً} منزهة عن الباطل والشبهات {قَيِّمَةٌ} مستقيمة عادلة {حُنَفَآءَ} مائلين عن الباطل إِلى الدين الحق، وأصل الحنف: الميلُ {البرية} الخلق من قولهم: برأ اللهُ الخلق، ومنه البارىء أي الخالق.
التفسِير: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} أي لم يكن أهل الكفر والجحود، الذين كفروا بالله وبرسوله، ثم بيَّنهم بقوله {مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} أي من اليهود والنصارى أهل الكتاب، ومن المشركين عبدة الأوثان والأصنام {مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} أي منفصلين ومنتهين عما هم عليه من الكفر، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولهذ فسَّرها بقوله {رَسُولٌ مِّنَ الله} أي هذه البيّنة هي رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المرسل من عند الله تعالى {يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} أي يقرأ عليهم صحفاً منزَّهة عن الباطل عن ظهر قلب، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أميٌ لا يقرأ ولا يكتب قال القرطبي: أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب، يتلوها عن ظهر قلبه لا عن كتاب، لأنه عليه السلام كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ قال ابن عباس: {مُّطَهَّرَةً} من الزور، والشك والنفاق، والضلالة وقال قتادة: مطهَّرة عن الباطل {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي فيها أحكام قيمة لا عوج فيها، تبيّن الحق من الباطل قال الصاوي: المراد بالصحف القراطيس التي يكتب فيها القرآن، والمراد بالكتب الأحكام المكتوبة فيها، وإِنما قال {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} لأن القرآن جمع ثمرة كتب الله المتقدمة. . ثم ذكر تعالى من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة} أي وما اختلف اليهود والنصارى في شأن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إِلا من بعد ما جاءتم الحجة الواضحة، الدالة على صدق رسالته، وأنه الرسول الموعود به في كتبهم قال ابو السعود: والآية مسوقةٌ لغاية التشنيع على أهل الكتاب خاصة، وتغليظ جناياتهم، ببيان أن تفرقهم لم يكن إِلا بعد وضوح الحق، وتبيّن الحال، وانقطاع الأعذار بالكلية، كقوله تعالى: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} [آل عمران: 19] وقال في التسهيل: أي ما اختلفوا في نبوة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا من بعد ما علموا أنه حق، وإنما خصَّ أهل الكتاب هنا بالذكر، لأنهم كانوا يعلمون صحة نبوته، بما يجدون في كتبهم من ذكره {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي والحال أنهم ما أُمروا في التوراة والإِنجيل إِلا بأن يعبدوالله وحده، مخلصين العبادة جلّ وعلا، ولكنهم حرَّفوا وبدَّلوا، فعبودوا أحبارهم ورهبانهم كما قال تعالى
{اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ(3/560)
وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً} [التوبة: 31] {حُنَفَآءَ} أي مائلين عن الأديان كلها إِلى دين الإِسلام، مستقيمين على دين إِبراهيم، دين الحنيفية السمحة، الذي جاء به خاتم المرسلين {وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة} أي وأُمروما بأن يؤدوا الصلاة على الوجه الأكمل، في أوقاتها بشروطها وخشوعها وآدابها، ويعطوا الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس قال الصاوي: وخصَّ الصلاة والزكاة لشرفهما {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} أي وذلك المذكور من العبادة والإِخلاص، وإِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة، هنو دين الملة المستقيمة دين الإِسلام فلماذا لا يدخلون فيه؟ ثم ذكر تعالى مآل كل من الآبرار والأشرار، في دار الجزاء والقرار فقال {إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ} أي إِنَّ الذين كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد عليه السلام، من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان، هؤلاء جميعهم يوم القيامة في نار جهنم، ماكثين فيها أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون {أولئك هُمْ شَرُّ البرية} أي أولئك هم شر الخلق على الإِطلاق قال الامام الفخر: فإن قيل: لم ذكر {كَفَرُواْ} بلفظ الفعل، {والمشركين} باسم الفاعل؟ فالجواب تنبيهاً على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر، لأنهم كانوا مصدقين بالتوارة والإِنجيل، ومقرين بمبعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم أنهم كفروا بذلك بعد مبعثه عليه السلام، بخلاف المشركين فإِنهم ولدوا على عبادة الأوثان، وإِنكار الحشر والقيامة، وقوله {أولئك هُمْ شَرُّ البرية} لإِفادة الحصر أي شرٌ من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرُّ من قطاع الطريق، لأنهم قطعوا طريق الحق عن الخلق، ولما ذكر مقرٍ الأشقياء، ذكر بعده مقر السعداء فاقل {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي إن المؤمنين الذين جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال {أولئك هُمْ خَيْرُ البرية} أي هم خير الخليقة التي خلقها الله ويرأها {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أي ثوابهم في الآخرة على ما قدموا من الإِيمان والأعمال الصالحة {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار} أي جنات إِقامة تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي ما كثين فيها أبداً، لا يموتون ولا يخرجون منها، وهم في نعيم دائم لا ينقطع {رِّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} أي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بما قدموا في الدنيا من الطاعات وفعل الصالحات، ورضوا عنه بما أعطاهم من الخيرات والكرامات {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي ذلك الجزاء والثواب الحسن لمن خالف الله واتقاه، والنتهى عن معصية مولاه.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - الإِجمال ثم التفصيل {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} ثم فصلها بقوله {رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} .
2 - الطباق بين {خَيْرُ البرية} و {شَرُّ البرية} .
3 - الاستعارةى التصريحية {يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} لفظة مطهرة فيها استعارة حيث شبه تنزه الصحف عن الباطل بطهارتها عن النجاس.
4 - المقابلة بين نعيم الأبرار وعذب الفجار {إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب. .} الآية وبين {(3/561)
إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
5 - توافق الفواصل وهو من المحسنات البديعية مثل {البينة، القَيِّمَةٌ، خَيْرُ البرية، شَرُّ البرية} ونحو ذلك.
تنبيه: الإِخلاص هو لبُّ العبادة وقد جاء في الحديث القدسي: «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه» وقد قسم العلماء الأعمال الى ثلاثة أقسام: «مأمورات، ومنهيات، ومباحات» فأما المأمورات فالإِخلاص فيها بأن يقصد بعمله وجه الله، وإن كانت النية لغير وج الله، فالعمل رياء محض مردود، وأما المنهيات فإن تركها بدون نية خرج عن عهدتها، ولم يكن له أجر في تركها، وإِن تكرها ابتغاء وجه الله كان مأجوراً على تركها، وأما المباحاتن كالأكل والنوم والجماع وشبه ذلك، فإِن فعلها بغير نية لم يكن بها أجر، وإن فعلها بنية وجه الله فله فيها أجر، فإن كل مباح يمكن أن يصير قربة إِذا قصد به وجه الله، مل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة ويقصد بالجماع التعفُّف عن الحرام.(3/562)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
اللغَة: {زُلْزِلَتِ} حركت تحريكاً عنيفاً {أَثْقَالَهَا} الموتى الذين في جوفها، جمع ثقل وهو الشيء الثقيل ومنه {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7] قال الأخفش: إِذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإن كان فوقها فهو ثقل عليها {يَصْدُرُ} ينصرف ويخرج، والصدور ضد الورود، فالوارد الآتي، والصادر المنصرف {أَشْتَاتاً} متفرقين جمع شت يقال: ذهبوا أشتاتاً أي متفرقين.
التفسِير: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} أي إِذا حركت الأرض تحريكاً عنيفاً، واضطربت اضطراباً شديداً، واهتزت بمن عليها اهتزازاً يقطع القلوب ويُفزع الألباب كقوله تعالى {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] قال المفسرون: إِنما أضاف الزلزلة إِليها {زِلْزَالَهَا} تهويلاً كأنه يقول: الزلزلة التي تليق بها على عظم جرمها، وذلك عند قيام الساعة تتزلزل وتتحرك تحريكاً(3/563)
متتابعاً، وتضطرب بمن عليها، ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل وشجر وبناءٍ وقلاع {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} أي وأخرجت الأرض ما في بطنها من الكنوز والموتى قال ابن عباس: أخرجت موتاها وقال منذر ابن سعيد: أخرجت كنوزها وموتاها وفي الحديث «تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطواننة من الذهب والفضة، فجيء القاتل فيقول في هذا قتلتُ، ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعتُ رحمي، ويجيء السارقُ فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً» {وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا} ؟ أي وقال الإِنسان: ما للأرض تزلزلت هذه الزلزلة العظيمة، ولفظت ما في بطنها؟! يقول ذلك دهشة وتعجباً من تلك الحالة الفظيعة {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} أي في ذلك اليوم العصيب يوم القيامة تتحدث الأرض وتخبر بما عُمل عليها من خير أو شر، وتشهد على كل إِنسان بما صنع على ظهرها، عن أبي هريرة قال: «قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فقال:» أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلم، قال: فإِن أخبارها أن تشهد على كل عبدٍ أو أمةٍ بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا، كذا وكذا، فهذه أخبارها «وفي الحديث» تحفَّظوا من الأرض فإِنها أمكم، وإِنه ليس من أحدٍ عاملٍ عليها خيراً أو شراً إِلا وهي مخبرة به « {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي ذلك الإِخبار بسبب أن الله جلت عظمته أمرها بذلك، وأذن لها أن تنطق بكل ما حدث وجرى عليها، فهي تشكو العاصي وتشهد عليه، وتشكر المطيع وتثني عليه، والله على كل شيء قدير {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً} أي في ذلك اليوم يرجع الخلائق من موقف الحساب، وينصرفون متفرقين فرقاً فرقاً، فآخذٌ ذات اليمين إِلى الجنة، وآخذٌ ذات الشمال إِلى النار {لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} أي لينالوا جزاء أعمالهم من خير أو شر {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} أي فمن يفعل من الخير زنة ذرةٍ من التراب، يجده في صحيفته يوم القيامة ويلق جزاءه عليه قال الكلبي: الذرةُ أصغرُ النمل وقال ابن عباس: إِذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها، فكلُّ واحد مما لصق به من التراب ذرة {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} أي ومن يفعل من الشر زنة ذرةٍ من التراب، يجده كذلك ويلق جزاءه عليه قال القرطبي: وهذا مثل ضربه الله تعالى في أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة، وهو مثل قوله تعالى
{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] .
البَلاَغة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع نجزها فيما يلي:
1 - الإِضافة للتهويل والتفظيع {زِلْزَالَهَا} .
2 - الإِظهار في مقام الإِضمار {وَأَخْرَجَتِ الأرض} لزيادة التقرير والتوكيد.
3 - الاستفهام للتعجب والاستغراب {وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا} ؟
4 - جناس الاشتقاق {زُلْزِلَتِ. . زِلْزَالَهَا} .
5 -(3/564)
المقابلة بين {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً. .} وبين {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً. .} .
6 - السجع المرصَّع كأنه الذهب السبيك أو الدر والياقوت مثل {زِلْزَالَهَا، أَثْقَالَهَا، أوحى لَهَا، أَخْبَارَهَا، مَا لَهَا} وهو من المحسنات البديعية.
فَائِدَة: سمَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. .} الجامعة الفاذَّة حين سئل عن زكاة الحُمر فقال: ما أنزل الله فيها شيئاً إِلا هذه الآية الفاذَّة الجامعة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} أخرجه البخاري.(3/565)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
اللغَة: {ضَبْحاً} الضبح: صوت أنفاس الخيل إِذا عدت قال عنترة: والخيلُ تكدح حين تضبح في حياض الموت ضبحاً {أَثَرْنَ} هيَّجن {نَقْعاً} النقعُ: الغبار {كَنُودٌ} كفور جحود لنعمة الله من كند النعمة إِذا كفرها ولم يشكرها قال الشاعر:
كنودٌ لنعماء الرجال ومن يكن ... كنوداً لنعماء الرجالِ يبعَّد
{بُعْثِرَ} أثير من بعثرت المتاع إِذا جعلت أسفله أعلاه.
التفسِير: {والعاديات ضَبْحاً} أي أُقسمُ بخيل المجاهدين المسرعات في الكرّ على العدو، يُسمع لأنفاسها صوتٌ جهير هو الضبحُ قال ابن عباس: الخيل إِذا عدت قالت: أُحْ، أُحْ فذلك ضبحها قال أبو السعود: أقسم سبحانه بخيل الغزاة التي تعدو نحو العدو وتضبح ضبحاً وهو صوت(3/566)
أنفاسها عند عدوها {فالموريات قَدْحاً} أي فالخيل التي تخرج شرر النار من الأرض بوقع حوافرها على الحجارة من شدة الجري {فالمغيرات صُبْحاً} أي فالخيل التي تغير على العدو وقت الصباح قبل طلوع الشمس قال الألوسي: هذا هو المعتادُ في الغارات، كانوا يعدون ليلاً لئلا يشعر بهم العدو، ويهجمون صباحاً ليروا ما يأتون وما يذرون {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} أي فأثارت الخيل الغبار الكثيف لشدة العدو، في الموضع الذي إغرن به {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} أي فتوسطن به جموع الأعداء، وأصبحن وسط المعركة. . أقسم سبحانه وتعالى بأقسام ثلاثة على أمور ثلاثة، تعظيماً للمقسم به وهو خيل المجاهدين في سبيل الله، التي تسرع على أعداء الله، وتقدح النار بحوافرها، وتُغير على الأعداء وقت الصباح، فتثير الغبار، وتتوسط العدو فتصيبه بالرعب والفزع، أما الأمور التي أقسم عليها فيه قوله {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي إِن الإِنسان لجاحد لنعم ربه، شديد الكفران قال ابن عباس: جاحدٌ لنعم الله وقال الحسن: يذكر المصائب وينسى النعم {وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} أي وإِن الإِنسان لشاهد على كنوده، لا يقدر أن يجحده لظهور أثره عليه {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} أي وإِنه لشديد الحب للمال حريصٌ على جمعه، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيفٌ متقاعس. . ثم بعد أن عدَّد عليه قبائح أفعاله خوَّفه فقال {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور} أفلا يعلم هذا الجاهل إِذا أُثير ما في القبور وأُخرج ما فيها من الأموات {وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور} أي وجمع وأبرز ما في الصدور من الأسرار والخفايا التي كانوا يسرونها {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} إي إنَّ ربهم لعالم بجميع ما كانوا يصنعون، ومجازيهم عليه أوفر الجزاء، وإِنما خص علمه بهم في ذلك اليوم يوم القيامة لأنه يوم الجزاء، بقصد الوعيد والتهديد، فهو تعالى عالم بهم في ذلك اليوم وغيره.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - التأكيد بإِنَّ واللام في مواضع مثل {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} زيادة في التقرير والبيان.
2 - الجناس غير التام بين {لَشَهِيدٌ} و {لَشَدِيدٌ} وكذلك {ضَبْحاً} و {صُبْحاً} .
3 - الاستفهام الإِنكاري للتهديد والوعيد {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور} ؟
التضمين {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} ضمَّن لفظ {لَّخَبِيرٌ} معنى المجازاة أي يجزيهم على أعمالهم.
5 - توافق الفواصل مثل {شَهِيدٌ} و {شَدِيدٌ} الخ. ويسمى «السجع المرصَّع» وهو من المحسنات البديعية.(3/567)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
اللغَة: {القارعة} اسم من أسماء القيامة، سميت بها لأنها تقرع الخلائق بأهوالها وأفزاعها، وأصلُ القرع الضرب بشدة وقوة، تقول العرب: قرعتهم القارعة وفقَرتهم الفاقرة، إِذا وقع بهم أمر فضيع {المبثوث} المنتشر المتفرق {العهن} الصوف ذو الألوان أو المصبوغ {الهَاوِيَةٌ} اسم لجهنم سميت بذلك لأنَّ الناس يهْوون بها أي يسقطون.
التفسِير: {القارعة مَا القارعة} أي القيامة وأيُّ شيء هي القيامة؟ إِنها في الفظاعة والفخامة بحيث لا يدركها خيال، ولا يبلغها وهمُ انسان فهي أعظم من أن توصف أو تصوَّر، ثم زاد في التفخيم والتهويل لشأنها فقال {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} ؟ أي أيُّ شيء أعلمك ما شأن القارعة في هولها على النفوس؟ إِنها تُفزع القلوب فحسب، بل تؤثّر في الاجرام العظيمة، فتؤثر في السموات بالإِنشقاق، وفي الأرض بالزلزلة، وفي الجبال بالدكّ والنسف، وفي الكواكب بالانتثار، وفي الشمس والقمر بالتكوير والانكدار إِلى غير ما هنالك قال أبو السعود: سميت القيامة قارعة لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأهوال والأفزاع، ووضع الظاهر موضع الضمير {مَا القارعة} تأكيداً للتهويل، والمعنى أيُّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة، ثم أكد هولها وفظاعتها بقوله {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} ؟ ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، بحيث لا تكاد تنالها دراية أحد. . وبعد هذا التخويف والتشويق إِلى معرفة شيءٍ من أحوالها، جاء التوضيح والبيان بقوله تعالى {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} أي ذلك يحدث عندما يخرج الناسُ من قبورهم فزعين، كأنهم فراش متفرق منتشر هنا وهناك، يموج بعضهم في بعض من شدة الفزع والحيرة قال الرازي: شبه تعالى الخلق وقت البعث ههنا بالفراش المبثوث، وفي آية أُخرى بالجراد المنتشر، أما وجه التشبيه بالفراش، فلأن(3/568)
الفراش إِذا ثار لهم يتجه إِلى جهةٍ واحدة، بل كل واحدة منها تذهب إِلى غير جهة الأُخرى، فدلَّ على أنهم إِذا بُعثوا فزعوا، وأما وجه التشبيه بالجراج فهو في الكثرة، يصبحونن كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضاً، فكذلك الناس إِذا بُعثوا يموج بعضُهم في بعض كالجراد والفراش كقوله تعالى {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف: 99] {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} هذا هو الوصف الثاني من صفات ذلك اليوم المهول أي وتصير الجبال كالصوف المنتثر المتطاير، تتفرق أجزاؤها وتتطاير في الجو، حتى تكون كالصوف المتطاير عند الندف قال الصاوي: وإِنما جمع بين حال الناس وحال الجبال، تنبيهاً على أن تلك القارعة أثَّرت في الجبال العظيمة الصلبة، حتى تصير كالصوف المندوف مع كونها غير مكلفة، فكيف حال الإِنسان الضعيف المقصود بالتكليف والحساب!! ثم ذكر تعالى حالة الناس في ذلك اليوم، وانقسامهم إِلى شقي وسعيد فقال {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي رجحت موازين حسناته، وزادت حسناتُه على سيئاته {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي فهو في عيشة هنيءٍ رغيد سعيد، في جنان الخلد والنعيم {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي نقصت حسناته عن سيئاته، أول يكن له حسناتٌ يُعتدُّ بها {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي فمسكنه ومصيره نار جهنم يهوي في قعرها، سَّماها أُماّ لأ، الأم مأوى الولد ومفرزعة، فنار جهنم تؤوي هؤلاء المجرمين، كما يأوي الأولاد إِلى أمهم، وتضمهم إِليها كما تضم الأم الأولاد إِليها قال أبو السعود: {هَاوِيَةٌ} اسم من أسماء النار، سميت بها لغاية عمقها وبعد مهواها، روي أن أهل النار يهوون فيها سبعين خريفاً {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} ؟ استفهام للتفخيم والتهويل أي وما أعلمك ما الهاوية؟ ثم فسَّرها بقوله {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي هي نار شديدة الحرارة، قد خرجت عن الحد المعهود، فإِن حرارة أي نارٍ إِذا سُعرت وأُلقي فيها أعظم الوقود لا تعادل حرارة جهنم، أجارنا الله منها بفضله وكرمه.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزه فيما يلي:
1 - الاستفهام للتفخيم والتهويل {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة} ؟ {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} ؟
2 - وضع الظاهر مكان الضمير للتخويف والتهويل {القارعة مَا القارع} ؟ والأصل أن يقال: القارعة ما هي؟
3 - التشبيه المرسل المجمل {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه أي في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، ومثله {كالعهن المنفوش} أي في تطايرها وخفة سيرها فيسمى مرسلاً مجملاً.
4 - المقابلة {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} ثم قابلها بقوله {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} وهو من المحسنات البديعية.
5 - المجاز العقلي {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي راضٍ بها صاحبها ففيه اسناد مجازي.(3/569)
6 - الاحتباك وهو أن يحذف من موازينه {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} حذف من الأول (فأمه الجنة) وذكر فيها {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} وحذف من الآية الثانية (فهو في عيشة ساخطة) وذكر {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} فحذف من كلٍ نظير ما أثبته في الآخر، وهو من المحسنات البديعية.
7 - توافق الفواصل في الحرف الأخير، وهو واضح في السورة الكريمة.
تنبيه: الجمهور على أن الميزان حقيقي له كفتان ولسان، توزن فيه الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات، وروي عن ابن عباس أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة، وبالأعمال السيئة على صور قبيحة، فتوضح في الميزان، فمن رجحت حسناته سعد، ومن رجحت سيئاته شقي، والله أعلم.(3/570)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
اللغَة: {أَلْهَاكُمُ} الإِلهاء: الشغل والانصراف عن الشيء الهام إِلى ما يدعو إِليه الهوى، وأصل اللهو الغفلةُ ثم شاع في كل شاغلٍ قال الراغب: اللهو ما يشغلك عما يعني ويهمُّ {التكاثر} التباهي بكثرة المال والجاه وهو بمعنى المكاثرة {المقابر} القبور جمع مقبرة، والقبور جمع القبر قال الشاعر:
أبى أهل القُصور إِذا أُميتوا ... بَنَوْا فوق المقابر بالصخور
أبو إِلاّ مباهاةً وفخراً ... على الفقراء حتى في القبور
التفسِير: {أَلْهَاكُمُ التكاثر} أي شغلكم أيها الناسُ التفاخر بالأموال والأولاد والرجال عن طاعة الله، وعن الاستعداد للآخرة {حتى زُرْتُمُ المقابر} أي حتى أدرككم الموت، ودفنتم في المقابر، والجملةُ خيرٌ يراد به الوعظ والتوبيخ قال القرطبي: المعنى شغلكم المباهاة بكثرة المال والأولاد عن طاعة الله، حتى مُتُّم ودفنتم في المقابر {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} زجرٌ وتهديدٌ أي ارتدعوا أيها الناس وانزجروا عن الاشتغال بما لا ينفع ولا يفيد، فسوف تعلمون عاقبة جهلكم وتفريطكم في جنب الله، وانشغالكم بالفاني عن الباقي {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعيدٌ إِثر وعيد، زيادة في الزجر والتهديد أي سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إِذا نزل بكم الموت وعاينتم أهواله وشدائده قال ابن عباس: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما ينزل بكم من العذاب في القبر {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي في الآخرة إِذا حلَّ بكم العذاب {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} أي ارتدعوا(3/571)
وانزجروا فلو علمتم العلم الحقيقي الذي لا شك فيه ولا امتراء، وجواب {لَوْ} محذوفٌ لقصد التهويل أي لو عرفتم ذلك لما ألهاكم التكاثر بالدنيا عن طاعة الله، ولما خُدعتم بنعيم الدنيا عن أهوال الآخرة وشدائدها كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» الحديث قال في التسهيل: وجوابُ {لَوْ} محذوفٌ تقديره: لو تعلمون لازدجرتم واستعددتم للآخرة، وإِنما حذف لقصد التهويل، فيقدر السامع، أعظم ما يخطر بباله كقوله تعالى {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} [الأنعام: 27] {لَتَرَوُنَّ الجحيم} أي أُقسم وأؤكد بأنكم ستشاهدون الجحيم عياناً ويقيناً قال الألوسي: هذا جواب قسم مضمر، أكد به الوعيد، وشدَّد به التهديد، وأوضح به ما أنذره وبعد إِبهامه تفخيماً أي والله لترون الجحيم {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} أي ثم لترونها رؤية حقيقية بالمشاهدة العينية قال في البحر: زاد التوكيد بقوله {عَيْنَ اليقين} نفياً لتوهم المجاز في الرؤية الأولى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} أي ثم لتسألنَّ في الآخرة عن نعيم الدنيا من الأمن والصحة، وسائر ما يُتلذذ به من مطعم، ومشرب، ومركب، ومفرش.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - الوعد والتوبيخ {أَلْهَاكُمُ التكاثر} فقد خرج الخبر عن حقيقته إِلى التذكير والتوبيخ.
2 - التكرار للتهديد والإِنذار {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعطفه ب {ثُمَّ} للتنبيه على الثاني أبلغ من الأول، كما يقول العظيم لعبده: أقول لك ثم أقول لك لا تفعل، ولكونه أبلغ نُزّل منزلة المغايرة فعطف بثم.
3 - حذف جواب {لَوْ} للتهويل {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} أي لرأيتم ما تشيب له الرءوس، وتفزع له النفوس من الشدائد والأهوال.
4 - الإِطناب بتكرار الفعل {لَتَرَوُنَّ} {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} لبيان شدة الهول.
5 - الكناية {حتى زُرْتُمُ المقابر} كنَّى عن الموت بزيارة القبور والمراد حتى مُتُّم.
6 - المطابقة بين {النعيم. . الجحيم} .
7 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: روى الترمذي عن عبد الله بن الشخِّير قال: «انتيهت إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يقرأ هذه الآية {أَلْهَاكُمُ التكاثر} فقال:» يقول ابن آدم مالي، مالي، وهل لك من مالك إِلا ما أكلت فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدقتَ فأمضيت «
لطيفَة: روى مسلم عن أبي هريرة قال:» خرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم أو ليلة، فإِذا هو بأبي بكر وعمر، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قال: الجوعُ يا رسول الله، قال: زوأنا(3/572)
والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما {فقوموا فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار فإِذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أين فلان} قالت: ذهب يستغذب لنا الماء، إِذ جاء الأنصاري فنظر إِلى رسول الله وصاحبيه ثم قال: الحمد لله ما أحدٌ اليوم أكرم أضيافاً مني، فانطلق فجاءهم بعذق عنقود فيه بسر وتمر ورطب فقال: كلوا، وأخذ المدية السكين فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِياك والحلوب! فذبح لهم شاة فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذْق وشربوا، فملا شبعوا ورَووْا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لتسألنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم «.(3/573)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
التفسِير: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} أي أُقسمُ بالدهر والزمان لما فيه من أصناف الغرائب والعجائب، والعبر والعظات، على أن الإِنسان في خسران، لأنه يفضِّل العاجلة على الآجلة وتغلب عليه الأهواء والشهوات قال ابن عباس: العصر هو الدهر أقسم تعالى به لاشتماله على أصناف العجائب وقال قتادة: العصرُ هو آخر ساعات النهار، أقسم به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة الباهرة، والعظة البالغة. . وإنما أقسم تعالى بالزمان لأنه رأس عمر الإِنسان، فكل لحظةٍ تمضي فإِنها من عمرك ونقص من أجلك، كما قال القائل:
إِنا لنفرحُ بالأيام نقطعها ... وكلُّ يومٍ مضى نقصٌ من الأجل
قال القرطبي: أقسم الله عَزَّ وَجَلَّ بالعصر وهو الدهر لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلائل على الصانع، وقيل: هو قسمٌ بصلاة العصر لأنها أفضل الصلوات {(3/574)
إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي جعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال، فهؤلاء هم الفائزون لأنهم باعوا الخسيس بالنفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات عوضاً عن الشهوات العاجلات {وَتَوَاصَوْاْ بالحق} أي أوصى بعضهم بعضاً بالحق، وهو الخير كله، من الإِيمان، والتصديق، وعبادة الرحمن {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} أي وتواصوا بالصبر على الشدائد والمصائب، وعلى فعل الطاعات، وترك المحرمات. . حكم تعالى بالخسار على جميع الناس إِلا من أتى بهذه الأشياء الأربعة وهي: الإِيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فإِن نجاة الإِنسان لا تكون إِلا إِذا كمَّل الإِنسان نفسه بالإِيمان والعمل الصالح، وكمَّل غيره بالنصح والإِرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله، وحق العباد، وهذا هو السرُّ في تخصيص هذه الأمور الأربعة.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - إِطلاق البعض وإرادة الكل {إِنَّ الإنسان} أي الناس بدليل الاستثناء.
2 - التنكير للتعظيم {لَفِى خُسْرٍ} أي في خسرٍ عظيم ودمار شديد.
3 - الإِطناب بتكرار الفعل {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} لإِبراز كمال العناية به.
4 - ذكر الخاص بعد العام {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} بعد قوله {بالحق} فإن الصبر داخل في عموم الحق، إِلا أنه أفرده بالذكر إِشادة بفضيلة الصبر.
5 - السجع غير المتكلف مثل {العصر، الصبر، خُسْرٍ} وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: أخرج البيهقي في الشعب عن «أبي حذيفة» وكانت له صحبة قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة {والعصر} ثم يسلم أحدهما على الآخر.(3/575)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
اللغَة: {هُمَزَةٍ} الهَّماز: الذي يغتاب الناس ويطعن في أعراضهم، وبناء «فُعلة» يدل على الاعتياد فلا يقال: لُعنة وضُحكة إِلا للمكثر المعتاد {لُّمَزَةٍ} اللماز: الذي يعيب الناس وينال منهم بالحاجب والعين {الحطمة} نار جهنم سميت بذلك لأنها تكسر كل ما يُلقى فيها وتحطمه وتهشميه {مُّؤْصَدَةٌ} مطبقة مغلقة من أوصد الباب إِذا أغلقه.
التفسِير: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} أي عذاب شديد وهلاك ودمار، لكل من يعيب الناس ويغتابهم ويطعن في أعراضهم، أو يلمزهم سراً بعينه أو حاجبه قال المفسرون: نزلت السورة في «الأخنس بن شريق» لأنه كان كثير الوقيعة في الناس، يلمزهم ويعيبهم مقبلين ومدبرين، والحكم عامٌ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، {الذى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} أي الذي جمع مالاً كثيراً وأحصاه، وحافظ على عدده لئلا ينقص فمنعه من الخيرات قال الطبري: أي أحصى عدده ولم ينفقه في سبيل الله ولم يؤد حقَّ الله فيه ولكنه جمعه فأوعاه وحفظه {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أي يظن(3/576)
هذا الجاهل لفرط غفلته أن ماله سيتركه مخلداً في الدنيا لا يموت {كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة} أي ليرتدع عن هذا الظنّ فواللهِ ليطرحنَّ في النار الت تحطم كل ما يُلقى فيها وتلتهمه {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة} تفخيمٌ وتهويلٌ لشأنها أي وما الذي أعلمك ما حقيقة هذه النار العظيمة؟ إِنها الحطمة التي تحطم العظام وتأكل اللحوم، حتى تهجم على القلوب، ثم فسرها بقوله {نَارُ الله الموقدة} أي هي نار الله المسعَّرة بأمره تعالى وإِرادته، ليست كسائر النيران فإِنها لا تخمد أبداً، وفي الحديث «أُوقد على النار ألفُ سنة حتى احمرت، ثم أُوقد عليها ألف سنة حتى ابيضَّت، ثم أُوقد عليها ألفُ سنة حتى اسودَّت، فهي سوداء مظلمة» {التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة} أي التي يبلغ ألمها ووجعها إلى القلوب فتحرقها قال القرطبي: وخصَّ الأفئدة لأن الألم إِذا صار إِلى الفؤاد مات صاحبه، فإِنهم في حال من يموت وهم لا يموتون كما قال تعالى {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} [الأعلى: 13] فهم إِذاً أحياء في معنى الأموات {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} أي إِن جهنم مطبقة مغلقةٌ عليهم، لا يدخل إِليهم روح ولا ريحان {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} أي وهم موثوقون في سلاسل وأغلال، تشدُّ بها أيديهم وأرجلهم، بعد إطباق أبواب جهنم عليهم، فقد يئسوا من الخروج بإِطباق الأبواب عليهم، وتمدد العمد إِيذاناً بالخلود إِلى غير نهاية. .
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - صيغة المبالغة {هُمَزَةٍ، لُّمَزَةٍ} لأن بناء «فُعلة» يدل على أنها عادة مستمرة.
2 - التنكير للتفخيم {جَمَعَ مَالاً} أي مالاً كثيراً لا يكاد يحصى.
3 - التفخيم والتهويل {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة} ؟ تهويلاً لشأن جهنم.
4 - الجناس غير التام بين {هُمَزَةٍ} و {لُّمَزَةٍ} ويسمى الجناس الناقص.
5 - توافق الفواصل مثل {عَدَّدَهُ، أَخْلَدَهُ، الموقدة، مُّمَدَّدَةِ} ويسمى بالسجع.(3/577)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
اللغَة: {أَبَابِيلَ} جماعات جماعات بعضها في إِثر بعض قال الجوهري: وهو من الجمع الذي لا واحد له يقال: جاءت إِبلك أبابيل أي فرقاً وجماعات قال الشاعر:
كادتْ تهدُّ من الأصوات راحلتي ... إِذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
{سِجِّيلٍ} طين متحجر {عَصْفٍ} ورق الزرع بعد الحصاد كالتين وقشر الحنطة، سمى عصفاً لأن الريح تعصف به فتفرقه ذات اليمين وذات الشمال.
التفسِير: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} أي ألم يبلغك يا محمد وتعلم علماً يقينياً كأنه مشاهد العين، ماذا صنع الله العظيم الكبير بأصحاب الفيل الذين قصدوا الاعتداء على البيت الحرام؟ قال المفسرون: روى أن «أبرهة الأشرم» ملك اليمن، بنى كنيسةً بصنعاء وأراد أن يصرف إِليها الحجيج، فجاء رجلٌ من كنانة وتغوَّط فيها ليلاً ولطخ جدرانها بالنجاسة احتقاراً لها، فغعضب «أبرهة» وحلف أن يهدم الكعبة، وجاء مكة بجيش كبير على أفيال، يتقدمهم فيل هو أعظم الفيلة،(3/578)
فلما وصل قريباً من مكة فرَّ أهلها الى الجبال، خوفاً من جنده وجبورته، وأرسل الله تعالى على جيش أبرهة طيوراً سوداً، مع كل طائر ثلاثة أحجار، جحر في منقاره وحجران في رجليه، فرمتهم الطيور بالحجارة، فكان الحجر يدخل في رأس الرجل ويخرج من دبره فيرميه جثة هامدة، حتى أهلكهم الله ودمَّرهم عن آخرهم، وكانت قصتهم عبرة للمعتبرين قال ألبو السعود: وتعليقُ الرؤية بكيفية فعله جل وعلا {كَيْفَ فَعَلَ} لا بنفسه بأن يقال: «ألم تر ما فعل ربك» الخ لتهويل الحادثة، والإِيذان بوقوعها على كيفية هائلة، وهيئةٍ عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى، وكمال علمه وحكمته وشرف رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن ذلك من الإرهاصات لما روي أ، القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} أي ألم يهلكهم ويجعل مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة في ضياعٍ وخسار؟! {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} أي وسلَّط عليهم من جنوده طيراً أتتهم جماعات، متتابعة بعضها في إثر بعض، وأحاطت بهم من كل ناحية {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} أي تقذفهم بحجارة صغيرة من طين متحجر، كأنها رصاصات ثاقبة لا تصل إلى إلى أحدٍ إِلا قتلته {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} أي فجعلهم كورق الشجر الذي عصفت به الريح، وأكلته الدواب ثم راثته، فأهلكهم عن بكْرة أبيهم، وهذه القصة تدل على كرامة الله للكعبة، وإِنعامه على قريش بدفع العدو عنهم، فكان يجب عليهم أن يعبدوا لله ويشكروه على نعمائه، وفيها مع ذلك عجائب وغرائب من قدرة الله على الانتقام من أعدائه قال في البحر: كان صرف ذلك العدو العظيم عام مولده السعيد عليه السلام، إرهاصاً بنبوته إِذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول، من خوارق العادات والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم السلام، وقد أهلكهم الله تعالى بأضعف جنوده وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - الاستفهام للتقرير والتعجيب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ. .} الآية.
2 - الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإِضافته إِلى اسم الجلالة {فَعَلَ رَبُّكَ} تشريف للنبي العظيم، وإِشادةٌ بقدرة الله تعالى.
3 - التشبيه المرسل المجمل {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} ذكرت الأداة وحذف وجه الشبه.
4 - توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل {الفيل، تَضْلِيلٍ، سِجِّيلٍ، أَبَابِيلَ} الخ.(3/579)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
التفسِير: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ} هذه اللام متعلقة بالفعل الذي بعدها {فَلْيَعْبُدُواْ} ومعنى {لإِيلاَفِ} الإِلفُ والاعتياد يقال: ألف الرجل الأمر إِلفاً؛ وآلفه غيره إيلافاً والمعنى: من أجل تسهيل الله على قريش وتيسيره لهم ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إِلى اليمن، وفي الصيف إِلى الشام كما قال تعالى: {رِحْلَةَ الشتآء والصيف} أي في رحلتي الشتاء والصيف، حيث كانوا يسافرون للتجارة، ويأتون بالأطعمة والثياب، ويربحون في الذهاب والإِياب، وهم آمنون مطمئنون لا يتعرض لهم أحد بسوء، لأن الناس كانوا يقولون: هؤلاء جيرانُ بيت الله وسُكان حرمه، وهم أهل الله لأنهم ولاة الكعبة، فلا تؤذهم ولا تظلموهم، ولما أهلك الله أصحاب الفيل، وردَّ كيدهم في نحورهم، ازداد وقع أهل مكة في القلوب، وازداد تعظيم الأمراء والملوك لهم، فازدادت تلك المنافع والمتاجر، فلذلك جاء الامتنان على قريش، وتذكيرهم بنعم الله ليوحدوه ويشكروه {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} أي فليعبدوا الله العظيم الجليل، ربَّ هذا البيت العتيق، وليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة الجليلة التي خصَّهم بها قال المفسرون: وإِنما دخلت الفاء {فَلْيَعْبُدُواْ} لما في الكلام من معنى الشرط كأنه قال: إِن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه من أجل إِفهم الرحتلين، التي هي من أظهر نعمه عليهم، لأنهم في بلادٍ لا زرع فيها ولا ضرع، ولهذا قال بعده {الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} أي هذا الإِله الذي أطعمهم بعد شدة جوع، وآمنهم بعد شدة خوف، فقد كانوا يسافرون آمنين لا يتعرض لهم أحد، ولا يُغير عليهم أحد لا في سفرهم ولا في حضرهم كما تعالى {أَوَلَمْ(3/580)
يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وذلك ببركة دعوة أبيهم الخليل إِبراهيم عليه السلام حيث قال {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126] وقوله {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126] أفلا يجب على قريش أن يفردوا بالعبادة هذا الإِله الجليل، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف؟!
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجها فيما يلي:
1 - الطباق بين {الشتآء. . والصيف} وبين الجوع والإِطعام {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} وبين الأمن والخوف {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} .
2 - الإِضافة للتكريم والتشريف {رَبَّ هذا البيت} .
3 - تقديم ما حقه التأخير {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} والأصل {لْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت لإِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} فقدَّم الإِيلاف تذكيراً بالنعمة.
4 - التنكير في لفظة {جُوعٍ} ولفظة {خَوْفٍ} لبيان شدتهما أي جوع شديد، وخوفٍ عظيم.
تنبيه: قال الإِمام الفخر: إِعلم أنَّ الإِنعام على قسمين: أحدهما دفع ضر وهو ما ذكره في سورة الفيل، والثاني: جلب النفع وهو ما ذكره في هذه السورة، ولما دفع الله عنهم الضر، وجلب لهم النفع، وهما نعمتان عظيمتان أمرهم بالعبودية وأداء الشكر {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت. .} الآيات.(3/581)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
اللغَة: {يَدُعُّ} يدعف بعنفٍ وشدة يقال: دعَّه دعّاً أي دفعه دفعاً ومنه {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] {يَحُضُّ} الحضُّ: الحثُّ والترغيب {سَاهُونَ} جمع ساهي يقال: سها عن كذا يسهو سهواً إِذا تركه عن غفلة {الماعون} الشيء القليل من المعن وهو القلة تقول العرب: «ماله معنة ولا سعنة» أي ماله قليل ولا كثير من المال، قال المبّرد والزجاج: الماعون كل ما فيه منفعة كالفأس والقدر والدلو وغير ذلك.
التفسِير: {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين} ؟ استفهام للتعجيب والتشويق أي هل عرفت الذي يكذب بالجزاء والحساب في الآخرة؟ هل عرفت من هو، وما هي أوصافه؟ إِن أردت تعرفه {فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم} أي فذلك هو الذي يدفع اليتيم دفعاً عنيفاً بجفوة وغلظة، ويقهره ويظلمه ولا يعطيه(3/582)
حقه {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} أي ولا يحث على إِطعام المسكين قال أبو حيان: وفي قوله {وَلاَ يَحُضُّ} إِشارة إِلى أنه هو لا يُطعم إِذا قدر، وهذا من باب الأولى لأنه إِذا لم يحضَّ غيره بخلاً، فلأن يترك هو ذلك فعلاً أولى وأحرى وقال الرازي: فإِن قيل: لِم قال {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} ولم يقل: ولا يُطعم المسكين؟ فالجواب أنه إِذا منَع اليتيم حقه، فكيف يطعم المسكين من مال نفسه؟ بل هو بخيل من مال غيره، وهذا هو النهاية في الخسة، ويدل على نهاية بخله، وقاسة قلبه، وخساسة طبعه، والحاصل أنه لا يُطعم المسكين ولا يأمر بإِطعامه، لأنه يكذّب بالقيامة، ولو آمن بالجزاء وأيقن بالحساب لما صدر عنه ذلك {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} أي هلاكٌ وعذابٌ للمصلين المناقين، المتصفين بهذه الأوصاف القبيحة {الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} أي الذين هم غافلون عن صلاتهم، يؤخرونها عن أوقاتها تهاوناً بها قال ابن عباس: هو المصلي الذي إن صلى لم يرج لها ثواباً، وإن تركها لم يخش عليها عقاباً وقال أبو العالية: لا يصلونها لمواقيتها، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها، وقد «سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الآية فقال:» هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها «قال المفسرون: لمَّا قال تعالى {عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} بلفظة {عَن} عُلم أنها في المنافقين، ولهذا قال بعض السلف: الحمد لله الذي قال {عَن صَلاَتِهِمْ} ولم يقل» في صلاتهم «لأنه لو قال» في صلاتهم «لكانت في المؤمنين، والمؤمنُ قد يسهو في صلاته، والفرق بين السهوين واضح، فإن سهو المنافق سهو تركٍ وقلة التفات إِليها، فهو لا يتذكرها ويكون مشغولاً عنها، والمؤمن إِذا سها في صلاته تداركه في الحال وجبره بسجود السهو، فظهر الفارق بين السهوين، ثم اد في بيان أوصافهم الذميمة فقال {الذين هُمْ يُرَآءُونَ} أي يصلون أمام الناس رياءً ليقال إِنهم صلحاء، ويتخشعون ليقال إِنهم أتقياء، ويتصدقون ليقال إنهم كرماء، وهكذا سائر أعمالهم للشهوة والرياء {وَيَمْنَعُونَ الماعون} أي ويمنعون الناس المنافع اليسيرة، من كل ما يستعان به كالإِبرة، والفأس، والقدر، والملح، والماء وغيرها قال مجاهد: الماعون العارية للأمتعة وما يتعاطاه الناس بينهم كالفأس والدلو والآنية وقال الطبري: أي يمعنون الناس منافع ما عندهم، وأصل الماعون من كل شيء منفعته.
. وفي الآية زجر عن البخل بهذه الأشياء القلية الحقيرة فإِن البخل بها نهاية البخل وهو مخل بالمروءة.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - الاستفهام الذي يراد به تشويق السامع إلى الخبر والتعجيب منه {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين} ؟
2 - الإِيجاز بالحذف {فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم} حذف منه الشرط أي إِن أردت أن تعرفه فذلك الذي يدعُّ اليتيم، وهذا من أساليب البلاغة.(3/583)
3 - الذم والتوبيخ {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} ووضع الظاهر مكان الضمير {فَوَيْلٌ لَّهُمْ} زيادة في التقبيح لأنهم مع التكذيب ساهون عن الصلاة.
4 - الجناس الناقص {وَيَمْنَعُونَ الماعون} .
5 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل {سَاهُونَ، يُرَآءُونَ، الماعون} الخ.(3/584)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
اللغَة: {الكوثر} الخير الكثير وهو مبالغة من الكثرة، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد، والقدْر الخطر كوْثراً قال الشاعر:
وأنت كثيرٌ يا ابن مروان طيّبٌ ... وكانَ أبوك ابنُ العقائل كوثرا
{انحر} النحر خاصٌ بالإِبل، وهو بمنزلة الذبح في البقر والغنم {شَانِئَكَ} الشانيء: المبغض من الشنآن بمعنى العداوة والبغض ومنه {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 2] أي بغضهم {الأبتر} المنقطع عن كل خير، من البتر وهو القطعُ يقال: بترتُ الشيء بتراً قطعته، والسيف الباترُ: القاطعُ، ويقال للذي لا نسل له أبتر، لأنه انقطع نسبه، وسميت خطبة زياد بالخطبة البتراء لأنه لم يحمد اله فيها ولم يصلّ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
التفسِير: {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} الخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تكريماً لمقامه الرفيع وتشريفاً أي نحن أعطيناك يا محمد الخير الكثير الدائم في الدنيا والآخرة، ومن هذا الخير «نهر الكوثر» وهو كما ثبت في الصحيح «نهرٌ في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدذُ والياقوت، تربتُه أطيبُ من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلح، من شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبداً» عن أنس قال «بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم بين أظهرنا، إِذْ غفى إِغفاءةً ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا: ما أضحكك يا(3/585)
رسول الله؟ قال: أُنزلت عليَّ آنفاً سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} السورة ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه نهرٌ وعدنيه ربي عَزَّ وَجَلَّ، فيه خيرٌ كثير، هو حوضٌ ترد عليه أُمتي يوم القيامة، آنيتُه عدد النجوم، فيختلج العبد أي ينتزع ويقتطع منهم فأقول: إِنه من أمتي! فيقال إِنك لا تدري ما أحدث بعدك» قال أبو حيان: وذكر في الكوثر ستة وعشرون قولاً، والصحيحُ هو ما فسره به رسول الله صل الله عليه وسلم فقال: «هو نهرٌ في الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربتُه أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل» وعن ابن عباس: الكوثرُ: الخير الكثير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر} أي فصلِّ لربلك الذي أفاض عليك م نالخير خالصاً لوجهه الكريم، وانحر الإِبل التي هي خيار أمال العرب شكراً له على ما أولاك ربك من الخيرات والكرامات قال في التسهيل: كان المشركون يصلون مكاءً وتصدية، وينحرون للأصنام فقال الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: صلِّ لربك وحده، وانحر لوجهه لا لغيره، فيكون ذلك أمراً بالتوحيد والإِخلاص {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} أي إِن مبغضك يا محمد هو المنقطع عن كل خير قال المفسرون: لما مات «القاسم» ابن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال العاص بن وائل: دعوه فإِنه رجلٌ أبتر لا عقب له أي لا نسله له فإِذا هلك انقطع ذكره فأنزل الله تعالى هذه السورة، وأخبر تعالى أن هذا الكافر هو الأبتر وإِن كان له أولاد، لأنه مبتور من رحمة الله أي مقطوع عنها ولأنه لا يُذكر إِلا ذكر باللعننة، بخلاف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإِن ذكره خالد إلى آخر الدهر، مرفوع على المآذن والمنابر، مقرون بذكر الله تعالى، والمؤمنون من زمانه إِلى يوم القيامة أتباعه فهو كالوالد لهم صلوات الله وسلامه عليه.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - صيغة الجمع الدالة على التعظيم {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ} ولم يقل: أنا أعطيتك.
2 - تصدير الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم {إِنَّآ} لأن أصلها إِنَّ ونحن.
3 - صيغة الماضي المفيدة للوقوع {أَعْطَيْنَاكَ} ولم يقل: سنعطيك لأن الوعد لما كان محققاً عبَّر عنه بالماضي مبالغة كأنه حدث ووقع.
4 - المبالغة في لفظة الكوثر.
5 - الإِضافة للتكريم والتشريف {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} .
6 - إِفادة الحصر {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر} .
7 - المطابقة بين أول السورة وآخرها بين {الكوثر والأبتر} فالكوثر الخير الكثير، والأبتر المنقطع عن كل خير، فهذه السورة على وجازتها جمعت فنون البلاغة والبيان فسبحان منزل القرآن!!(3/586)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
التفسِير: {قُلْ ياأيها الكافرون} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين يدعونك إِلى عبادة الأوثان والأحجار {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي لا أعبد هذه الأصنام والأوثان التي تعبدونها، فأنا برىءٌ من آلهتكم ومعبوداتكم التي لا تضر ولا تنفع ولا تغني عن عابدها شيئاً قال المفسرون: إن قريشاً طلبت من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة، فقال، معاذ الله أن نشرك بالله شيئاً فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إِلهك، فنزلت السورة فغدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رءوسهم فقرأها عليهم فأيسوا منه وآذوه وآذوا أصحابه وفي قوله {قُلْ} دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله، وخطابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم بلفظ {ياأيها الكافرون} ونسبتهم إِلى الكفر وهو يعلم أنهم يغضبون من أن يُنسبوا إِلى ذلك دليلٌ على أنه محروسٌ من عند الله، فهو لا يبالي بهم ولا بطواغيتهم {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أي ولا أنتم يا معشر المشركين عابدون إِلهي الحق الذي أعبده وهو الله وحده، فأنا أعبد الإِله الحقَّ هو الله ربُّ العالمين، وأنتم تعبدون الأحجار والأوثان، وشتان بين عبادة الرحمن، وعبادة الهوى والأوثان!! {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} تأكيدٌ لما سبق من البراءة من عبادة الأحجار، وقطعٌ لأطماع الكفار كأنه قال: لا أعبد هذه الأوثان في الحال ولا في الاستقبال، فأنا لا أعبد ما تعبدونه أبداً ما عشتُ، لا أعبد أصنامكم الآن، ولا فيما يستقبل من الزمان {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أي ولستم أنتم في المستقبل بعابدين إِلهي(3/587)
الحق الذي أعبد {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أي لكم شرككم، ولي توحيدي، وهذا غاية في التبرؤ من عبادة الكفار، والتأكيد على عبادة الواحد القهار، قال المفسرون: معنى الجملتين الأولتين: الاختلاف التام في المعبود، فإِله المشركين الأوثان، وإِله محمد الرحمن، ومعنى الجملتين الآخرتين: الاختلاف التام في العبادة، كأنه قال: لا معبودنا واحد، ولا عبادتنا واحدة.
البَلاَغَة: تضمن السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - الخطاب بالوصف {ياأيها الكافرون} للتوبيخ والتشنيع على أهل مكة.
2 - طباق السلب {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فالأول نفيٌ والثاني إِثبات.
3 - المقابلة بين كلٍ من الجملتين الأوليين {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أي في الحال، والمقابلة بين الجملتين الأخريين {وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أي في الاستقبال، وفي هذه المقابلة نفيٌ لعبادة الأصنام في الحال والاستقبال وهو من المحسنات البديعية.
4 - توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل {ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} .(3/588)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
التفسِير: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} الخطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يذكّره ربه بالنعمة والفضل عليه وعلى سائر المؤمنين، والمعنى: إِذا نصرك الله يا محمد على أعدائك، وفتح عليك مكة أم القرى قال المفسرون: الإِخبارُ بفتح مكة قبل وقوعه إخبارٌ بالغيب، فهو من أعلام النبوَّة {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً} أي ورأيت العرب يدخلون في الإِسلام جماعاتٍ جماعات من غير حربٍ ولا قتال، وذلك بعد فتح مكة صارت العرب تأتي من أقطار الأرض طائعة قال ابن كثير: إنَّ أحياء العرب كانت تنظر فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبيٌّ، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجاً فلم تمض سنتان حتى استوثقت جزيرة العرب إِيماناً، ولم يبق في سائر قبائل العرب إِلا مظهرٌ للإِسلام {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي فسبّح ربك وعظمه ملتبساً بحمده على هذه النعم، واشكره على ما أولاك من النصر على الأعداء، وفتح البلاد، وإِسلام العباد {واستغفره} أي اطلب منه المغفرة لك ولأُمتك {إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} أي إِنه جلّ وعلا كثير التوبة، عظيم الرحمة لعباده المؤمنين.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 -(3/589)
ذكر الخاص بعد العام {نَصْرُ الله والفتح} نصر الله يشمل جميع الفتوحات فعطف عليه (فتح مكة) تعظيماً لشأن هذا الفتح واعتناءً بأمره.
2 - إِطلاق العموم وإِرادة الخصوص {وَرَأَيْتَ الناس} لفظ الناس عام والمراد به العرب.
3 - دين الله هو الإِسلام {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله} وأضافه اليه تشريفاً وتعظيماً، كبيت الله وناقة الله.
4 - صيغة المبالغة {إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} لأن صيغة «فعال» للمبالغة.
تنبيه: هذه السورة الكريمة فيها نعيُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولهذا تسمى سورة (التوديع) وحين نزلت قال رسول الله صلى اله عليه وسلم لعائشة: ما أراه إِلا حضور أجلي، وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزلت {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الآية فعاش بعدهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمانين يوماً. وروى الإِمام البخاري عن ابن عباس قال: «كان عمر يدْخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إِنه من علمتم!! فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم قال فما رأيت أنه دعاني إِلا ليريهم فقال عمر: ما تقولون في قول الله تعالى {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} ؟ فقال بعضهم: أُمرنا بأن نحمد الله ونستغفره إِذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذا تقول يا ابن عباس؟ قلت: لا قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلمه إياه فقال {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} فذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} فقال عمر: والله ما أعلم منها إِلا ما تقول» .(3/590)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
اللغَة: {تَبَّتْ} هلكت والتبابُ: الهلاك والخسران ومنه قوله تعالى {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] وقال الشاعر:
«فتباً للذي صنعوا» ... {ذَاتَ لَهَبٍ} ذات اشتعال وتلهب {جِيدِهَا} عنقها قال امرؤ القيس:
«وجيدٍ كجيد الريم ليس بفاحش» ... {مَّسَدٍ} ليف قال الواحدي: المسد في كلام العرب: القتل، يقال مسد الحبل يمسده مسداً إِذا أجاد فتله، وكلُّ شيء فتل من الليف والخَوْص فهو مسد.
سبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: «لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] صعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الصفا ونادى: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون من قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إِذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو الخبر، فاجتمعت قريش وجاء عمه» أبو لهب «فقالوا: ما وراءك؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أرأيتكم لو أخبرتكم أنَّ خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدِّقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً قط، قال: فإِني {نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] فقال له أبو لهب: تباً لك يا محمد سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . .» السورة.
ب(3/591)
وعن طارق المحاربي قال «بينا أنا بسوق ذي المجاز إِذْ بشاب حديث السن يقول أيها الناس:» قولوا لا إِله إِلا الله تفلحوا «وإِذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه مؤخر القدم ويقول: يا أيها الناس إنه كذابٌ فلا تصدقوه، فقلت: من هذا؟ فقالوا هو محمد بزعم أنه نبي، وهذا عمه» أبو لهب «يزعم أنه كذاب» .
التفسِير: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} أي هلكت يد ذلك الشقي {أَبِي لَهَبٍ} وخاب وخسر وضلَّ عمله {وَتَبَّ} أي وقد هلك وخسر، الأول دعاءٌ، والثاني إِخبارٌ كما يقال: أهلكه اللهُ وقد هلك قال المفسرون: التباب هو الخسار المفضي إِلى الهلاك، والمراد من اليد صاحبُها، على عادة العرب من التعبير ببعض الشيء عن كله وجميعه، وأبو لهب هو «عبد العُزى بن عبد المطلب» عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وامرأته العوراء «أم جميل» أخت أبي سفيان، وقد كان كلٌ منهما شديد العداوة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها، «أتت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وفي يدها فهْر قطعة من الحجارة، فلما دنت من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ الله بصرها عنه فلم تر إِلاّ أبا بكر، فقالت يا أبا بكر: بلغني أن صاحبك يهجوني، فوالله لو وجدته لضربت بهذا الحجر فاه، ثم أنشدت تقول:»
مُذمًّماً عصينا وأمره أبينا ودينه قليْنا ... «ثم انصرفت فقال أبو بكر يا رسول الله: أما تراها رأتك؟ قال: ما رأتني لقد أخذ الله بصرها عني» ، وكانت قريش يسبون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولون: مذمماً بدل «محمد» وكان يقول صلوات الله عليه: ألا تعجبون كيف صرف الله عني أذى قريش؟ يسبون ويهجون مذمماً وأنا محمد!؟ قال الخازن: فإِن قلت: لم كناه وفي التكنية تشريف وتكرمة؟ فالجواب من وجوه: أحدهما: أنه كان مشتهراً بالكنية دون الاسم، فلو ذكره باسمه لم يعرف، الثاني: أنه كان سامه «عبد العزى» فعلد عن إِلى الكنية لما فه من الشرك لأن العزَّى صنم فلم تضف العبودية إِل صنم الثالث: أنه لما كان من أهل النار، ومآله إِلى النار، والنرُ ذاتُ لهب، وافقت حاله كنيته وكان جديراً بأن يذكرها بها {مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أي لم يفده ماله الذي جمعه، ولا جاهه وعزه الذي اكتسبه قال ابن عباس {وَمَا كَسَبَ} من الأولاد، فإِن ولد الرجل من كسبه. . روي أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما دعا قومه إِلى الإِيمان، قال أبو لهب: إِن كان ما يقول ابن أخي حقاً، فإِني أفتدي نفسي من العذاب بمالي وولدي فنزلت قال الألوسي: كان لأبي لهب ثلاثة أبناء «عُتبة» و «متعب» و «عُتيبة» وقد أسلم الأولان يوم الفتح، وشهدا حنيناً والطائف، وأما «عُتيبة» فلم يسلم، وكانت «أم كلثوم» بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنده، وأختها «رُقية» عند أخيه عُتبة، فلما نزلت السورة قال أبو لهب لهما: رأسي ورأسكما حرام إِن لم تطلقا ابنتي محمد، فطلقاهما ولما أراد «عُتيبة» بالتصغير الخروج إلى الشام مع أبيه قال: لآتينَّ محمداً وأوذينَّه فأتاه(3/592)
فقال يا محمد: إِن كافر بالنجم إِذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل أمام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وطلَّق ابنته «أم كلثوم» فغضب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودعا عليه فقال: «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك» فافترسه الأسد، وهلك أبو لهب بعد وقعة بدر بسب ليالٍ بمرضٍ معدٍ كالطاعون يسمى «العدسة» وبقي ثلاثة أيام حتى أنتن، فلما خافوا العار حفروا له حفرة ودفعوه إِليها بعود حتى وقع فيها ثم قذفوه بالحجارة حتى واروه، فكان الأمر كما أخبر به القرآن {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} أي سيدخل ناراً حامية، ذات اشتعال وتوقُّد عظيم، وهي نار جهنم {وامرأته حَمَّالَةَ الحطب} أي وستدخل معه نار جهنم، امرأته العوراء «أم جميل» التي كانت تمشي بالنميمة بين الناس، وتوقد بينهم نار العداوة والبغضاء قال أبو السعود: كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لإِذائه وقال ابن عباس: كانت تمشي بالنميمة بين الناس لتفسد بينهم {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} أي في عنقها جبلٌ من ليف قد فتل فتلاً شديداً، تعذب به يوم القيامة قال مجاهد: هو طوقٌ من حديد وقال أبن المسيب: كان لها قلادة فاخرة من جوهر، فقالت: واللاتِ والعُزَّى لأنفقتها في عداوة محمد، فأعقبها الله منها حبلاً في جيدها من مسد النار.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - الجناس المرسل {يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} أطلق الجزء وأراد الكل أي هلك أبو لهب.
2 - الجناس بين {أَبِي لَهَبٍ} وبين {نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} فالأول كنية والثاني وصف للنار.
3 - الكنية للتصغير والتحقير {أَبِي لَهَبٍ} فليس المراد تكريمه بل تشهيره، كأبي جهل.
4 - الاستعارة اللطيفة {حَمَّالَةَ الحطب} مستعار للنميمة وهي استعارة مشهورة قال الشاعر: «ولم يمش بين احلي بالحطب والرطب.
5 - النصب على الشتم والذم {وامرأته حَمَّالَةَ الحطب} أي أخص بالذم حمالة الحطب.
6 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات وهو من المحسنات البديعية.(3/593)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
اللغَة: {الصمد} السيد المقصود في قضاء الحاجات قال الشاعر:
ألا بكرَّ الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
{كُفُواً} الكُفُوءُ: النظير والشبيه قال أبو عبيدة: ياقل: كفُو، وكفء وكفاء كلها بمعنى واحد وهو المِثْل والنظير.
سَبَبُ النّزول: روي أن بعض المشركين جاءوا إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا محمد صف لنا ربَّك، أمن ذهبٍ هو، أم من فضة، أم من زبرجد، أم من ياقوت؟! فنزلت {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد. .} السورة.
التفسِير: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المستهزئين: إِن ربي الذي أعبده، والذي أدعوكم لعبادته هو واحد أحد لا شريك له، ولا شبيه له ولا نظير، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو جل وعلا واحد أحد، ليس كما يعتقد النصارى بالتثليث «الآب، والابن، وروح القدس» ولا كما يعتقد المشركون بتعدد الآلهة قال في التسهيل: واعلم أن وصف الله تعالى بالواحد له ثلاث معانٍ، كلها صحيحة في حقه تعالى: الأول: أنه واحد لا ثاني معه فهو نفيٌ للعدد، والثاني: أنه واحد لا نظير له ولا شريك له، كما تقول: فلان واحد في عصره أي لا نظير له(3/594)
والثالث: أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعض، والمراد بالسورة نفي الشريك رداً على المشركين، وقد أقام الله في القرآن براهين قاطعة على وحدانيته تعالى، وذلك كثير جداً، وأوضحها أربعة براهين: الأول؛ قوله تعالى {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] ؟ وهذا دليل الخلق والإِيجاد فإِذا ثبت أن الله تعالى خالق لجميع الموجودات، لم يصح أن يكون واحد منها شريكاً له والثاني: قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وهو دليل الإِحكام والإِبداع الثالث: قوله تعالى {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإِسراء: 42] وهو دليل القهر والغلبة الرابع: قوله تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] وهو دليل التنازع والاستعلاء ثم أكد تعالى وحدانيته واستغناءه عن الخلق فقال {الله الصمد} أي هو جل وعلا المقصود في الحوائج على الدوام، يحتاج إِليه الخلق وهو مستغنٍ عن العالمين قال الألوسي: الصَّمد السيدُ الذي ليس فوقه أحد، الذي يصمدُ إِليه أي يلجأ إِليه الناسُ في حوائجهم وأمروهم {لَمْ يَلِدْ} أي لم يتخذ ولداً، وليس له أبناء وبنات، فكما هو متصف بالكمالات، منزَّه عن النقائص قال المفسرون: في الآية ردٌّ على كل من جعل لله ولداً، كاليهود في قولهم
{عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] والنصارى في قولهم {المسيح ابن الله} [التوبة: 30] وكمشركي العرب في زعمهم أن (الملائكة بنات الله) فردَّ الله تعالى على الجميع في أنه ليس له ولد، لأن الولد لا بدَّ أن يكون من جنس والده، والله تعالى ليس له زوجة وإِليه الإِشارة بقوله تعالى {بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101] ؟! {وَلَمْ يُولَدْ} أي ولم يولد من أبٍ ولا أُمٍ، لأن كل مولود حادث، والله تعالى قديم أزلي، فلا يصح أن يكون مولوداً ولا أن يكون له والد، وقد نفت الآية عنه تعالى إِحاطة النسب من جميع الجهات، فهو الأول الذي لا ابتداء لوجوده، القديم الذي كان ولم يكن معه شيء غيره {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أي وليس له جل وعلا مثيلٌ، ولا نظير، ولا شبيه أحدٌ من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} [الشورى: 11] قال ابن كثير: هو مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظيرٌ يساميه، أو قريب يدانيه؟ تعالى وتقدَّس وتنزَّه، وفي الحديث القدسي «يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إِياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إِعادته، وأما شتمه إِياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد» .(3/595)
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - ذكر الاسم الجليل بضمير الشأن {قُلْ هُوَ} للتعظيم والتفخيم.
2 - تعريف الطرفين {الله الصمد} لإِفادة التخصيص.
3 - الجناس الناقص {لَمْ يَلِدْ} {وَلَمْ يُولَدْ} لتغير الشكل وبعض الحروف.
4 - التجريد فإِن قوله تعالى {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} يقتضي نفي الكف، والولد، وقوله {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} هو تخصيص الشيء بالذكر بعد دخوله في العموم وذلك زيادة في الايضاح والبيان.
5 - السجع المرصَّع وهو من المحسنات البديعية {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} .
لطيفَة: هذه السورة الكريمة مؤلفة من أربع آيات، وقد جاءت في غاية الإِيجاز والإِعجاز، وأوضحت صفات الجلال والكمال، ونزهت الله جل وعلا عن صفات العجز والنقص، فقد أثبتت الآية الأولى الوحدانية، ونفت التعدد {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} وأثبتت الثانية كماله تعالى، ونفت النقص والعجز {الله الصمد} وأثبتت الثالثة أزليته وبقاءه ونفت الذرية والتناسل {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وأثبتت الرابعة عظمته وجلاله ونفت الأنداد والأضداد {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} فالسورة إثبات لصفات الجلال والكمال، وتنزيه للرب بأسمى صور التنزيه عن النقائص.
فَائِدَة: روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «من قرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} فكأنما قرأ بثلث القرآن» قال العلماء: وذلك لما تضمنته من المعاني والعلوم والمعارف، فإِن علوم القرآن ثلاثة: «توحيد، وأحكام وقصص» وقد اشتملت هذه السورة على التوحيد، فهي ثلاث القرآن بهذا الاعتبار، وقيل: إِن ذلك في الثواب أي لمن قرأها من الأجر مثل أجر من قرأ ثلث القرآن، والله أعلم.(3/596)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
اللغَة: {الفلق} الفَلَق: الصبح تقول العرب: هو أبين من فلق الصبح، والفِلْق بالكسر الداهية والأمر العجب، وأصله من فلقتُ الشيء أي شققته، فكل ما انفلق من شيء من حيوان، وحب، ونوى فهو فلق، ومنه «فالق الإِصباح» قال ذو الرمة: «حتى إِذا ما انجلى عن وجهه فلق» أي انجلى الصبح عن وجهه {غَاسِقٍ} الغاسق: الليل إِذا اشتد ظلامه، والغسق أول ظلمة الليل يقال: غسق الليل أي أظلم قال الشاعر:
إنَّ هذا الليل قد غسقا ... واشتكيتُ الهمَّ والأرقا
{وَقَبَ} دخل بظلامه، والوقوب: الدخول {النفاثات} النفث: شبه النفخ دون تفلتٍ بالريق، فإِذا كان معه ريق فهو التفل قال عنترة:
فإِنْ يبرأ فلم أنفث عليه ... وإِن يُفْقد فحُقَّ له الفُقود
التفسِير: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} أي قل يا محمد ألتجىء وأعتصم برب الصبح الذي ينفلق عنه الليل، وينجلي عنه الظلام قال ابن عباس: {الفلق} الصبحُ كقوله تعالى {فَالِقُ الإصباح} [الأنعام: 96] وفي أمثال العرب: هو أبينُ من فلق الصبح قال المفسرون: سبب تخصيص الصبح بالتعوذ أن(3/597)
انبثاق نور الصبح بعد شدة الظلمة، كالمثل لمجيء الفرج بعد الشدة، فكما أن الإِنسان يكون منتظراً لطلوع الصباح، فكذلك الخائف يترقب مجيء النجاح {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} أي من شر جميع المخلوقات من الإِنس، والجن، والدواب، والهوام، ومن شر كل مؤذٍ خلقه الله تعالى {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} أي ومن شر الليل إِذ أظلم واشتد ظلامه، فإِن ظلمة الليل ينتشر عندها أهل الشر من الإِنس والجن ولهذا قالوا في المثل «الليلُ أخفى للويل» قال الرازي: وإِنما أُمر أن يتعوذ من شر الليل، لأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من مكانها، ويهجم السارقُ والمكابر، ويقع الحريق، ويقل فيه الغوث {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} أي ومن شر السواحر اللواتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن أي ينفخن فيها ليضروا عباد الله بسحرهن، ويفرقوا بين الرجل وزوجه {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 102] قال في البحر: وسبب نزول المعوذتين قصة «لبيد بن الأعصم» الذي سحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مشطٍ ومشاطه وجف قشر الطلع طلعةٍ ذكر، ووترٍ مقعود فيه إِحدى عشرة عقدة، معروزٍ بالإِبر، فأنزلت عليه المعوذتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد في نفسه خفة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى انحلت العقدة الأخيرة فقام فكأنما نشط من عقال {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أي ومن شر الحاسد الذي يتمنى زوال النعمة عن غيره، ولا يرضى بما قسمه الله تعالى له.
البَلاَغَة: تضمنت السرة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - الجناس الناقص بين {فَلَقِ} و {خَلَقَ} .
2 - الإِطناب بتكرار الاسم {شَرِّ} مراتٍ في السورة {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ} {وَمِن شَرِّ النفاثات} الخ تنبيهاً على شناعة هذه الأوصاف.
3 - ذكر الخاص بعد العام للاعتناء بالذكور {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} فإِنه عموم يدخل تحته شر الغاسق، وشر النفاثات، وشر الحاسد.
4 - جناس الاشتقاق بين {حَاسِدٍ} و {حَسَدَ} .
5 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات.(3/598)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
اللغَة: {الوسواس} الشيطان الموسوس، مشتق من الوسوسة وهي الكلام الخفي وحديث النفس قال الأعشى:
«تسمعُ لِلحَلْي وسْواساً إِذا انصرفت» ... {الخناس} الذي عادته أن يخنس أي يتوارى ويختفي ويتأخر يقال: خنس الظبي إِذا اختفى، وسمي الشيطان خناساً لأنه يتوارى ويختفي إِذا ذكر العبد ربه، فإِذا غفل عن ذكر الله عاد فوسوس له والخنوس: التأخر {الجنة} بكسر الجيم الجنُّ جمع جني، وبضم الجيم الوقاية وفي الحديث «الصوم جُنة» أي وقاية من عذاب الله.
التفسِير: {قُلْ أَعُوذُ} أي قل يا محمد أعتصم وألتجىء وأستجير {بِرَبِّ الناس} أي بخالق الناس ومربيهم ومدبر شئونهم، الذي أحياهم وأوجدهم من العدم، وأنعم عليهم بأنواع النعم قال المفسرون: إِنما خصَّ الناس بالذكر وإِن كان جلت عظمته رب جميع الخلائق تشريفاً وتكريماً لهم، من حيث إنه تعالى سخَّر لهم ما في الكون، وأمدهم بالعقل والعلم، وأسجد لهم ملائكة قدسه، فهم أفضل المخلوقات على الإِطلاق {مَلِكِ الناس} أي مالك جميع الخلق حاكمين(3/599)
ومحكومين، ملكاً تاماً شاملاً كاملاً، يحكمهم، ويضبط أعمالهم، ويدبّر شئونهم، فيعز ويذل، ويغني ويُفقر {إله الناس} أي معبودهم الذي لا ربَّ لهم سواه قال القرطبي: وإِنما قال {مَلِكِ الناس إله الناس} لأن في الناس ملوكاً فذكر أنه ملكهم، وفي الناس من يعبد مغيره فذكر إِنه إِلههم ومعبودهم، وأنه الذي يجب إن يستعاذ به ويُلجأ إِليه، دون الملوك والعظماء، وترتيب السورة بهذا الشكل في منتهى الإِبداع، وذلك لأن الإِنسان أولاً يعرف أن له رباً، لما يشاهده من أنواع التربية {رَبِّ الناس} ثم إِذا تأمل عرف أن هذا الرب متصرفٌ في خلقه، غني عن خلقه فهو الملك لهم {مَلِكِ الناس} ثم إِذا زاد تأمله عرف أنه يستحق أن يُعبد، لأن لا عبادة إِلا للغني عن كل ما سواه، المفتقر إِليه كل ما عداه {إله الناس} إِنما كرر لفظ الناس ثلاثاً ولم يكتف بالضمير، لإِظهار شرفهم وتعظيمهم والاعتناء بشأنهم، كما حسن التكرار في قوله الشاعر:
لا أرى الموتَ يسبقُ الموتَ شيء ... نغَّص الموتُ ذا الغِنَى والفقيرا
قال ابن كثير: هذه ثلاث صفات من صفات الرب عَزَّ وَجَلَّ «الربوبية» و «الملك» و «الإِلهية» فهو ربُّ كل شيء ومليكه وإِله، وجميع الأشياء مخلوقة ومملوكة له، فأُمر المستعيذُ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات {مِن شَرِّ الوسواس} أي من شر الشيطان الذي يلقي حديث السوء في النفس، ويوسوس للإِنسان ليغريه بالعصيان {الخناس} الذي يخنص أن يختفي ويتأخر إِذا ذكر العبد ربه، فإِذا غفل عن الله عاد فوسوس له وفي الحديث «إِن الشيطان واضح خطمه أنفه على قلب ابن آدم، فإِذا ذكر الله خنس، وإِذا نسي الله التقم قلبه فوسوس»
« {الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس} أي الذي يلقي لشدة خبثه في قلوب البشر صنوف الوساوس والأوهام قال القرطبي: ووسوستُه هو الدعاء لطاعته بكلام خفي يصل مفهومه الى القلب من غير سماع صوت {مِنَ الجنة والناس} {مِنَ} بيانية أي هذا الذي يوسوس في صدور الناس، هو من شياطين الجن والإِنس كقوله تعالى {شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً} [الأنعام: 112] فالآية استعاذة من شر الإِنس والجن جميعاً، ولا شك أن شياطين الإِنس، أشدُّ فتكاً وخطراً من شياطين الجن، فإِن شيطان الجن يخنس بالاستعاذة، وشيطان الإِنس يزين له الفواحش ويغريه بالمنكرات، ويثنيه عن عزمه شيء، والمعصوم من عصمه الله.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - الإِضافة للتشريف والتكريم {أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} وفي الآيتين بعدها.
2 - الأطناب بتكرار الاسم {رَبِّ الناس مَلِكِ الناس} زيادة في التعظيم لهم، والاعتناء بشأنهم، ولو قال (ملكهم، إِلههَم) لما كان لهم هذا الشأن العظيم.
3 - الطباق بين {الجنة} و {الناس} .
4 -(3/600)
جناس الاشتقاق {يُوَسْوِسُ. . الوسواس} ثم ما في السورة من الجرس الموسيقي، الذي يفضل الألحان بعذوبة البيان، وذلك من خصائص القرآن.
تنبيه: عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت:» كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا أوى إِلى فراشه جمع كفيه ونفث فيهما وقرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإِخلاص: 1] والمعوذتين، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ برأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاثاً «.(3/601)