والأرض} أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائن كل الأشياء، لا يملك أمرها ولا يتصرف فيها غيره قال ابن عباس: «مقاليد» مفاتيح، وقال السدي: خزائن السمواتِ والأرض بيده {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله أولئك هُمُ الخاسرون} أي والذين كذَّبوا بآيات القرآن الظاهرة، والمعجزات الباهرة، أولئك هم الخاسرون أشدَّ الخسران {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} ؟ أي قل يا محمد أتأمرونني أن أعبد غير الله بعد سطوع الآيات والدلائل على وحدانيته يا أيها الجاهلون؟ قال ابن كثير: إن المشركين من جهلهم دعو رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهَه فنزلت الآية {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} اللام موطئة للقسم أي واللهِ لقد أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} أي لئن أشركت يا محمد ليبطلنَّ ويفسدنَّ عملك الصالح {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} أي ولتكونَنَّ في الآخرة من جملة الخاسرين بسبب ذلك.
. وهذا على سبيل الفرض والتقدير، وإلاّ فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد عصمه الله، وحاشا له أن يشرك بالله، وهو الذي جاء لإقامة صرح الإِيمان والتوحيد قال أبو السعود: والكلام ورادٌ على طريقة الفرض لتهييج الرسل، وإقناط الكفرة، والإِيذان بغاية شناعة الإِشراك وقبحه {بَلِ الله فاعبد} أي أخلص العبادة لله وحده، ولا تعبد أحداً سواه. {وَكُن مِّنَ الشاكرين} أي وكن من الشاكرين لإِنعام ربك {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي وما عرفوا الله حق معرفته، إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة. . ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه فقال {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة} الجملة حالية والمعنى ما عظَّموه حقَّ تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة، التي هي غاية العظمة والجلال، فالأرضُ مع سعتها وبسطتها يوم القيامة تحت قبضته وسلطانه {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أي والسموات مضموات ومجموعات بقدرته تعالى قال الزمخشري: والغرضُ من هذا الكلام تصويرُ عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهابٍ بالقبضة واليمين إلى جهة وفي الحديث «يقبضُ اللهُ تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملكُ أين ملوكُ الأرض؟» {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله وتقدس عما يصفه به المشركومن من صفاتِ العجز والنقص، ثم ذكر تعالى أهوال الآخرة فقال {وَنُفِخَ فِي الصور} هو قرنٌ ينفخ فيه إسرافيل علهي السلام بأمر الله، والمراد بالنفخة هنا «نفخة الصَّعق» التي تكون بعد نفخة الفزع قال ابن كثير: وهي النفخة الثانية التي يموت بها الأحياء من أهل السمواتِ والأرض {فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} أي فخَّر ميتاً كل من في السموات والأرض {إِلاَّ مَن شَآءَ الله} أي إلاَّ من شاء الله بقاءه كحملة العرض، والحور العين والولدان {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى} أي نُفخ فيه نفخةٌ أخرى وهي نفخةُ الإِحياء {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} أي فإِذا جمع الخلائق الأموات يقومون من(3/80)
القبور ينظرون ماذا يُؤمرون {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا} أي وأضاءت أرض المحشر بنور الله يوم القيامة، حين تجلى الباري جلا وعلا لفصل القضاء بين العباد {وَوُضِعَ الكتاب} أي أحضرت صحائف أعمال الخلائق للحساب {وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء} أي وجيء بالأنبياء ليسألهم رب العزة عما أجابتهم به أممهم، وبالشهداء وهم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وقال السدي: هم الذين استشهدوا في سبيل الله {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق} أي وقَضي بين العباد جميعاً بالقسط والعدل {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي وهم في الآخرة لا يظلمون شيئاً من أعمالهم، لا بنقص ثواب، ولا بزيادة عقاب قال ابن جبير: لا يُنقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} أي جوزي كل إنسان بما عمل من خير أو شر {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي هو تعالى أعلم بما عمل كل إنسان، ولا حاجة به إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك تشهد الكتب إلزاماً للحجة.
. ثم فصَّل تعالى مآلٍ من الأشقياء والسعداء فقال {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً} أي وسيق الكفرة المجرمون إلى نار جهنم جماعاتٍ جماعات، كما يساق الأشقياء في الدنيا إلى السجون {حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي حتى إذا وصلوا إليها فتحت أبواب جهنم فجأة لتستقبلهم {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} ؟ أي وقال لهم خزنة جهنم تقريعاً وتوبيخاً: ألم يأتكم رسلٌ من البشر يتلون عليكم الكتب المنزلة من السماء؟ {وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} ؟ أي ويخوفونكم من شر هذا اليوم العصيب؟ {قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} أي قالوا بلى قد جاءونا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج والبراهين، ولكننا كذبناهم وخالفانهم لما سبق لنا من الشقاوة قال القرطبي: وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم، والمراد بكلمة العذاب قوله تعالى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] {قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي قيل لهم ادخلوا جهنَّم لتصلوا سعيرها ماكثين فيها أبداً، بلا زوال ولا انتقال {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} أي فبئس المقام والمأوى جهنم للمتكبرين عن الإِيمان بالله وتصديق رسله {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً} أي وسيق الأبرار المتقون لله إلى الجنة جماعاتٍ جماعات راكبين على النجائب قال القرطبي: سوقُ أهل النار طردُهم إليها بالخزي والهوان، كما يفعل بالمجرمين الخارجين على السلطان، وسوقُ أهل الجنان سوقُ مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان، لأنه لا يُذبهم بهم إلا راكبين، كما يفعل بالوافدين على الملوك، فشتَّان ما بين السوقين {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابُها كقوله تعالى {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} [ص: 50] قال الصاوي: والحكمةُ في زيادة الواو هنا «فُتحت» دون التي قبلها، أن أبواب السجون تكون مغلقة إلى أن يجيئها أصحاب الجرائم، فتفتح لهم ثم تُغلق عليهم، بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها فناسب دخول الواو هنا دون التي قبلها {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} أي وقال لهم(3/81)
حراس الجنة: سلامٌ عليكم أيها المتقون الأبرار {طِبْتُمْ} أي طهرتم من دنس المعاصي والذنوب، فادخلوا الجنة دار الخلود، قال البيضاوي: وجواب «إذا» محذوف، للدلالة على أنَّ لهم من الكرامة والتعظيم، ما لا يحيط به الوصف والبيان قال ابن كثير: وتقديره إِذا كان هذا سُعِدوا، وطابوا، وسُرّوا وفرحوا بقدر ما يكون لهم من النعيم {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أي وقالوا عند دخولهم الجنة واستقرارهم فيها: الحمد لله الذي حقَّق لنا ما وعدنا به من دخول الجنة قال المفسرون: والإِشارة إلى وعده تعالى لهم بقوله
{تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} [مريم: 63] {وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} أي وملَّكنا أرض الجنة نتصرف فيها تصرف المالك في ملكه وننزل فيها حيث نشاء، ولا ينازعنا فيها أحد {فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي فنعم أجر العاملين بطاعة الله الجنة {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} أي وترى يا محمج الملائكة محيطين بعرش الرحمن، محدقين به من كل جانب {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي يسبحون الله ويمجدونه تلذذاً لا تعبداً {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق} أي وقُضي بين العباد بالعدل {وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} أي وقيل الحمد لله على عدله وقضائه قال المفسرون: القائل هم المؤمنون والكافرون، المؤمنون يحمدون الله على فضله، والكافرون يحمدونه على عدله قال ابن كثير: نطق الكون أجمعه، ناطقه وبهيمه، لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله، ولهذا لم يسند القول إلى قائل، بل أطلقه فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين (تكفروا. . تَشْكُرُواْ) وبين {يَرْجُواْ. . ويَحْذَرُ} وبين {فَوْقِهِمْ. . وتَحْتِهِمْ} وبين {ضُرٍّ. . ورَحْمَةٍ} وبين {الغيب. . والشهادة} وبين {يَبْسُطُ. . وَيَقْدِرُ} وبين {اهتدى. . وضَلَّ} الخ.
2 - جناس الاشتقاق {يَتَوَكَّلُ المتوكلون} [الزمر: 38] وكذلك في قوله {أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} [الزمر: 10] .
3 - الأسلوب التهكمي {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار} [الزمر: 16] إطلاق الظلة عليها تهكم لأنها محرقة، ولظلة تقي من الحر.
4 - المقابلة الرائعة {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة. .} [الزمر: 45] الآية فقد قابل بين الله والأصنام، وبين السرور والاشمئزاز، وكذلك توجد مقابلة بين آيتي السعداء والأشقياء {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً} وقابل ذلك بقوله {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً. .} والمقابلةُ أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يُؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب وهو من المحسنات البديعية.
5 - الإِيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الزمر: 22] ؟ حذف خبره(3/82)
وتقديره كمن طبع الله على قلبه؟ ومثله {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل} [الزمر: 9] ؟ أي كمن هو كافرٌ جاحداً لربه؟
6 - الأمر الذي يراد منه التهديد {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ} [الزمر: 8] ومثله {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [الزمر: 39] للمبالغة في الوعيد.
7 - المجاز المرسل {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار} [الزمر: 19] ؟ أطلق المسبب وأراد السبب، لأن الضلال سبب لدخول النار.
8 - الاستعارة {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض} أي مفاتيح خيراتهما، ومعادن بركاتها فشبَّه الخيرات والبركات بخزائن واستعار لها لفظ المقاليد، بمعنى المفاتيح، ومعنى الآية خزائن رحمته وفضله بيده تعالى.
9 - الاستعارة التمثيلية {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} مثَّل لعظمته وكما قدرته، وحقارة الأجرام العظام التي تتحير فيها الأوهام بالنسبة لقدرته تعالى بمن قبض شيئاً عظيماً بكفه، وطوى السموات بيمينه بطريق الاستعارة التمثيلية، قال في تلخيص البيان: وفي الآية استعارة ومعنى ذلك أن الأرض في مقدوره كالذي يقبض عليه القابض، فتستولي عليه كفه، ويحوزه ملكه، ولا يشاركه غيره، والسموات مجموعات في ملكه ومضموات بقدرته وقال الزمخشري: والآية لتصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله، من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة، لأن الغرض الدلالة على القدرة الباهرة، ولا ترى باباً في علم البيان أدق ولا أرقَّ ولا ألطف من هذا الباب.
10 - الكناية {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} جنبُ الله كنايةٌ عن حقِّ الله وطاعته، وهذا من لطيف الكنايات.
11 - الالتفات من التكلم إلى الغيبة {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} والأصل: لا تقطنوا من رحمتي قال علماء البيان: وفي الآية الكريمة {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} الآية من أنواع المعاني والبيان أمور حسان: منها إقباله تعالى على خلقه ونداؤه لهم، ومنها إضافة الرحمة للفظ الجلالة الجامع لجميع الأسماء والصفات، ومنها الإِتيان بالجملة المعرَّفة الطرفين المؤكدة بإِن وضمير الفصل {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} .
12 - توافق الفواصل في الحرف الأخير، وهو نهاية في الروعة والجمال اقرأ مثلاً قوله تعالى {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} ألا تأخذك روعة هذا البيان، برونقه، وجماله، وأدائه، فينطلق لسانك بذكر الرحمن؟!(3/83)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
اللغَة: {غَافِرِ} الغفْر: السترُ والمحو والتكفير {الطول} الإِنعام والتفضل {يُدْحِضُواْ} يبطلوا ويزيلوا، يقال: الباطلُ داحضٌ، لأنه يزلق ويزل فلا يستقر {حَقَّتْ} وجبت ولزمت {مَقْتُ} المقت: شدة البغض {الروح} الوحيُ والنبوة سمي رُوحاً لأن القلوب تحيا به كما تحا الأبدان بالأرواح {التلاق} الاجتماع في الحشر {بَارِزُونَ} ظاهرون لا يسترهم شيء {الأزفة} اسم للقيامة سميت آزفة لقربها، يقال أزف الشيء إذا اقترب {وَاقٍ} دافع يدفع عنهم العذاب.
التفسِير: {حم} الحروف المقطَّعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وللإِرشاد على أن هذا القرآن المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله} أي هذا القرآن تنزيلٌُ من الله {العزيز العليم} أي العزيز في ملكه، العليم في خلقه {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب} أي الذي يعفو عن ذنوب العباد، ويقبل توبة العصاة لمن تاب منهم وأناب {شَدِيدِ العقاب} أي شديد العقاب لمن تكبر وطغى، وأعرض عن طاعة المولى {ذِي الطول} أي ذي الفضل والإِنعام {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا الله، ولا ربَّ في الوجود سواه {إِلَيْهِ المصير} أي إليه وحده مرجع الخلائق فيجازيهم بأعمالهم، وإنما قدَّم المغفرة والتوبة على العقاب، للإِشارة إلى سعة الفضل وأن رحمته سبقت عذابه، ثم لما ذكر أن القرآن هداية الله للعالمين، أعقبه بذكر المجادلين المعاندين فقال {مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} أي ما يدفع الحق ويجادل في هذا القرآن بعد وضوح آيات وظهور إعجازه إلا الجاحدون لآياتِ الله، المعاندون لرسله {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد} أي فلا تغترَّ أيها العاقل بتصرفهم وتقلبهم في هذه الدنيا، بالمساكن والمزارع، والممالك والتجارات، فإنهم أشقى الناس، وما هم عليه من النعيم متاعٌ قلي، وظلٌ زائل، فإِني وإِن أمهلتهم لا أهملُهم، بل آخذه بعد ذلك النعيم أخذ عزيز مقتدر قال في التسهيل: والآية تسليةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعيدٌ شديد للكفار {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ} أي كذَّب قبل كفار مكة أقوام كثيرون، منهم قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم ولم يقبلوا ما جاءوا به من عند الله كقوم عاد وثمود وفرعون وأمثالهم {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي وهمت كل أمةٍ من الأمم المكذبين أن يقتلوا رسولهم ويبطشوا به قال ابن كثير: أي حرصوا على قتله بكل ممكن ومنهم من قتل رسوله {وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} أي جادلوا رسلهم بالباطل ليزيلوا ويبطلوا به الحق الواضح الجلي {فَأَخَذْتُهُمْ} أي فأهلكتهم إهلاكاً مريعاً {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} استفهام تعجيب أي فكيف كان عقابي لهم؟ ألم يكن شديداً فضيعاً؟ {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا} أي وكذلك وجبت(3/86)
كلمة العذاب على هؤلاء المكذبين من قومك، كما وجبت لمن سبقهم من الكفار {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار} أي لأنهم أهل النار، قال القرطبي: أي كما حقَّ على الأمم التي كذبت رسلها وحلَّ بها عقابي، كذلك وجبت كلمة العذاب على الذين كفروا بالله من قومك لأنهم أصحاب النار.
ثم ذكر تعالى حال الملائكة الأطهار، والمؤمنين الأبرار، بعد أن ذكر الكفار والفجار فقال {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي هؤلاء العباد المقربون حملةُ العرش ومن حول العرش من أشراف الملائكة وأكابرهم، ممن لا يُحصي عددهم إلا الله، هم في عبادة دائبة لله، ينزهونه عن صفات النقص، ويثنون عليه بصفات الكمال {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أي ويصدقون بوجوده تعالى، وبأنه لا إله لهم سواه، ولا يستكبرون عن عبادته قال الزمخشير: فإن قالت: ما فائدة قوله {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ولا يخفى أن حملة العرش وجميع الملائكة يؤمنون بالله؟ فالجواب أن ذلك إظهار لفضيلة الإِيمان وشرفه والترغيب فيه {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} أي موهم مع عباداتهم واستغراقهم في تسبيح الله وتمجيده، يطلبون من الله المغفرة للمؤمنين قائلين {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} أي يا ربنا وسعت رحمتُك وعلمك كل شيء قال المفسرون: وفي وصف الله تعالى بالرحمة والعلم وهو ثناءٌ قبل الدعاء تعليمُ العباد أدب السؤال والدعاء، فهم يبدأون دعاءهم بأدبٍ ويستمطرون إحسانه وفضله وإنعامه {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} أي فاصفح عن المسيئين المذنبين، التائبين عن الشرك والمعاصي، المتعبين لسبيل الحق الذي جاء به أنبياؤك ورسلك {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} أي واحفظهم من عذاب جهنم {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} أي أدخلهم جنات النعيم والإِقامة التي وعدتهم إياها {وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي وأدخل الصالحين من الآباء والأزواج والأولاد في جنات النعيم أيضاً ليتم سرورهم بهم قال ابن كثير: أي جمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في الجنة بمنازل متجاورة {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي العزيز الذي لا يُغلب ولا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة {وَقِهِمُ السيئات} هذا من تمام ادعاء الملائكة أي أحفظم يا ربّ من فعل المنكرات والفواحش التي توبق أصحابها {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أي ومن حفظته من نتائجها وعواقبها يوم القيامة، فقد لفطفت به ونجيته من العقوبة {وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} أي وذلك الغفران ودخول الجنان، هو الظفر العظيم الذي لا ظفر مثله. . ولما تحدث عن أحوال المؤمنين، ذكر شيئاً من أحوال الكافرين فقال {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي تناديهم الملائكة يوم القيامة على جهة التوبيخ والتقريع: لبغض الله الشديد لكم في الدنيا أعظم من بغضكم اليوم لأنفسكم {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ} إي حين كنتم تُدعون إلى الإِيمان فتكفرون كبراً وعتواً قال قتادة: بغضُ الله لأهل الضلالة حين عُرض عليهم الإِيمان في الدنيا فأبوا أن يقبلوه، أكبرُ مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} أي قال الكفار لما(3/87)
رأوا الشدائد والأهوال ربَّنا أمتَّنا مرتين، وأحييتنا مرتين {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا} أي فاعترفنا بما جنيناه من الذنوب في الدنيا {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} أي فهل تردنا إلى الدنيا لنعمل بطاعتك؟ وهل تخرجنا من النار لنسلك طريق الأبرار؟ قال المفسرون: الموتةُ الأولى حين كانوا في العمد، والموتة الثانية حين ماتوا في الدنيا، والحياة الأولى حياة الدنيا، والحياة الثانية حياةُ البعث يوم القيامة، فهاتان موتتان وحياتان، وإنما قالوا ذلك على سبيل التعطف والتوسل إلى رضى الله، بعد أن عاينوا العذاب، وقد كانوا يكفرون وينكرون، ولهذا جاء الجواب {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} أي ذلكم العذاب والخلود في جهنم بسبب كفركم وعدم إيمانكم بالله، فإِذا دعيتم إلى التوحيد كفرتم {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ} وإن دعيتم إلى اللت والعزَّى وأمثالهما من الأصنام، آمنت وصدَّقتم بألوهيتها {فالحكم للَّهِ العلي الكبير} أي فالقضاء لله وحده، لا للأوثان والأصنام، ولا سبيل إلى نجاتكم، لأن الله هو المتعالي على خلقه، العظيم في ملكه الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
. ولما ذكر تعالى ما يوجب التهديد الشديد للمشركين، أردفه بذكر ما يدل على كما قدرته وحكمته ليصير بمنزلة البرهان على عدم جواز عبادة الأوثان فقال {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي الله جل وعلا هو الذي يريكم أيها الناس العلامات الدالة على قدرته الباهرة في مخلوقاته، في العالم العلوي والسفلي الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً} أي وينزِّل لكم من السماء المطر الذي هو سبب للرزق، وبه تخرج الزروع والثمار {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} أي وما يعتبر ويتعظ بهذه الآيات الباهرة، إلا من يرجع إلى الله بالتوبة والإِنابة، العمل الصالح البعيد عن الرياء والنفاق {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي فاعبدوا الله أيها المؤمنون مخلصين له العبادة والطاعة ولا تعبدوا معه غيره {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} هذا للمبالغة أي اعبدوه وأخلصوا له قلوبكم، حتى ولو كره الكافرون وذلك، وغاظهم إخلاصكم وقاتلكم عليه {رَفِيعُ الدرجات} أي عظيم الشأن والسلطان، صاحب الرفعة والمقام العالي {ذُو العرش} أي صاحب العرش العظيم، الذي هو أعظم المخلوقات، ولا شيء يشبهه من مخلوقات الله قال ابن كثير: أخبر تعالى عن عظمته وكبريائه، وارتفاع عرضه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، وقد ذُكر أن العرش من ياقوتةٍ حمراء ولا يعلم سعته إلا الله وقال أبو السعود: وكونُ العرض العظيم المحيط بأكناف العالم العلوي والسفلي، تحت ملكوته وقبضة قدرته، مما يقضي بكون علو شأنه وعظم سلطانه، في غايةٍ لا غاية وراءها {يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي نزل الوحي على من يشاء من خلقه، ويختص بالرسالة والنبوة من أراد من عباده، وإِنما سمَّى الوحي روحاً لأنه يسري في القلوب كسريان الروح في الجسد قال القرطبي: سمَّاه روحاً لأن الناس يحيون به من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} أي ليخوِّف الرسول الموحَى إليه يوم القيامة الكبرى، حيث يلتقي العباد جميعاً ليحاسبوا(3/88)
على أعمالهم، ويلتقي الخلق بالخالق في ساعة الحساب قال قتادة: يلتقي فيه أهل السماء بأهل الأرض، والخالق والخلق {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ} أي يوم هم ظاهرون بادون للعيان، لا شيء يكنُّهم ولا يظلّهم ولا يسترهم من جبلٍ أو أكمةٍ أو بناء، لأنهم في أرض مستوية هي أرض المحشر {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ} أي لا يخفى على الله شيء من أحواله وأعمالهم ولا من سرائرهم وبواطنهم قال الصاوي: والحكمة في تخصيص ذلك اليوم مع أن الله لا يخفى عليه شيء في سائر الأيام أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان مثلاً لا يراهم الله، وفي هذا اليوم لا يتوهمون هذا التوهم {لِّمَنِ الملك اليوم} ؟ أي ينادي الله سبحانه والناسُ بارزون في أرض المحشر: لمن المُلكُ اليوم؟ ويسكت الخلائق هيبةً لله تعالى وفزعاً، فيجيب تعالى نفسه قائلا {لِلَّهِ الواحد القهار} أي لله المتفرد بالملك، الذي قهر بالغلبة كل ما سواه قال الحسن: هو تعالى السائل والمجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي في ذلك اليوم يوم القضاء والفصل بين العباد تُجازى كل نفسٍ بما عملت من خيرٍ أو شر {لاَ ظُلْمَ اليوم} أي لا يُظلم أحد شيئاً، لا بنقص ثواب، ولا بزيادة عقاب {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي سريعٌ حسباه، لا يشغله شأنٌ عن شأن، فيحاسب الخلائق جميعاً في وقتٍ واحد قال القرطبي: كما يرزقهم في ساعةٍ واجدة، يحاسبهم كذلك في ساعةٍ واحدة، وفي الخبر:
«لا ينتصف النهارُ حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار» {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة} أي خّوفهم ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة قال ابن كثير: «الآزفة» اسم من أسماء القيامة، سميت بذلك لقربها كقوله تعالى {أَزِفَتِ الآزفة} [النجم: 57] {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر} أي تكاد قلوبهم لشدة الخوف والجزع تبلغ الحناجر وهي الحلوق مكان البلعوم {كَاظِمِينَ} أي ممتلئن غماً وحسرةً شأن المكروب قال في التسهيل: معنى الآية أن القلوب قد صعدت من الصدور لشدة الخوف حتى بلغت الحناجر، ويحتمل أن يكون ذلك حقيقةً أو مجازواً عبَّر به عن شدة الخوف والحنجرة هي الحلق {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} أي ليس للظالمين صديقٌ ينفعهم {وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي ولا شفيع يشفع لهم لينقذهم من شدة العذاب {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين} أي يعلم جلَّ وعلا العين الخائنة بمسارقتها النظر إلى محرم قال ابن عباس: هو الرجل يكون جالساً مع الناس، فتمرُّ المرأة فيسارقهم النظر إليها {وَمَا تُخْفِي الصدور} أي ويعلم السرَّ المستور تخفيه الصدور {والله يَقْضِي بالحق} أي يقضي ويحكم بالعدل {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أي والذين يعبدونهم من دون الله من الأوثان والأصنام {لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أي لا حكم لهم أصلاً فيكف يكونون شركاء لله؟ قال أبو السعود: وهذا تهكمٌ بهم(3/89)
لأن الجماد لا يقال في حقه يقضي أو لا يقضي {إِنَّ الله هُوَ السميع البصير} أي هو السمع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم {أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض} ؟ أي أولم يعتبر هؤلاء المشركون في أسفارهم بما يرون من أثار المكذبين {فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ} أي فينظروا ما حلَّ بالمكذبين من العذاب والنكال؟ فإنَّ العاقل من اعتبر بغيره {كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي كانوا أشدَّ قوةً من هؤلاء الكفار من قومك {وَآثَاراً فِي الأرض} أي وأقوى آثاراً في الأرض من الحصون والقصور والجند الأشداء، ومع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أهكلهم الله لما كذبوا الرسل {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكهم الله إهلاكاً فضيعاً بسبب إجرامهم وتكذيبهم رسل الله {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} أي وما كان لهم أحد يدفع عنهم عذاب الله، ولا يقيهم من عقابه.
. ثم ذكر تعالى سبب عقابه لهم فقال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي ذلك العذاب بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالمعجزات الباهرات، والآيات الساطعات الواضحات {فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله} أي فكفروا مع هذا البيان والبرهان فأهلكهم الله ودمَّرهم {إِنَّهُ قَوِيٌّ} أي إنه تعالى قويٌ لايُقهر، ذو قوة عظيمة وبأسٍ شديد {شَدِيدُ العقاب} أي عقابه شديد لمن عصاه، وعذابه أليم وجيع، أعاذنا الله من عقابه وأجارنا من عذابه.(3/90)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما حلَّ بالكفار من العذاب والدمار، أردفه بذكر قصة موسى مع فرعون تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عما يلقاه من الأذى والتكذيب، وبياناً لسنة الله تعالى في أهلاك الظاليمن، ثم ذكر موقف مؤمن آل فرعون ونصيحته لقومه، وهي مواقف بطولية مشرِّفة في وجه الطغيان.
اللغَة: {استحيوا} استبقوا بناتهم على قيد الحياة {ضَلاَلٍ} ضياع وبطلان {عُذْتُ} اعتصمت وتحصنتُ والتجأت {ظَاهِرِينَ} غالبين مستعلين {بَأْسِ الله} عذابه وانتقامه {دَأْبِ} عادة وشأن {التناد} يوم القيامة للنداء فيه إلى المحشر، أو المناداة الناس بعضهم بعضاً قال أمية بن الصَّلت:
وبثَّ الخلق فيها إذ دحاها ... فهم سكَّانُها حتى التَّنادِ
{عَاصِمٍ} مانع ودامع {صَرْحاً} قصراً وبناءً عظيماً حالياً {تَبَابٍ} خسران وهلاك {لاَ جَرَمَ} حقاً ولا محالة {حَاقَ} نزل وأحاط.
التفسِير: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} اللام موطئة للقسم أي والله لقد بعثنا رسولنا موسى بالآيات البينات، والدلائل الواضحات، وبالبرهان البيّن الظاهر وهو معجزة اليد والعصا {إلى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} أي إلى فرعون الطاغية الجبار، ووزيره هامان، وقارون(3/91)
صاحب الكنوز والأموال قال في البحر: وخصَّ قارون وهامان بالذكر لمكانتهما في الكفر، ولأنهما أشهر أتباع فرعون {فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أي فقالوا عن موسى إنه ساحر فيما أظهر من المعجزات، كذَّاب فيما ادعاه أنه من عند الله، وصيغة كذَّاب للمبالغة {فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا} أي فلما جاءهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقه، والتي أيَّده الله بها {قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَآءَهُمْ} أي اقتلوا الذكور لئلا يتناسلوا، واستبقوا الإِناث للخدمة قال الصاوي: وهذا القتلُ غيرُ الأول، لأن فرعون بعد ولادة موسى أمسك عن قتل الأولاد، فلما بُعث موسى وعجز عن معارضته أعاد القتل في الأولاد ليمتنع الناس من الإِيمان، ولئلا يكثر جمعهم فيكيدوه، فأرسل الله عليهم أنواع العذاب كالضفادع والقُمَّل والدم والطوفان، إلى أن خرجوا من مصر فأغرقهم الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم {وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} أي وما تدبيرهم ومكرهم إلا في خسرانٍ وهلاك، لأن الله لا يُنجح سعيهم {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى} أي قال فرعون الجبار: اتركوني حتى أقتلْ لكم موسى {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} أي وليناد ربه حتى يخصله مني، وإنما ذكره على سبيل الاستهزاء وكأنه يقول: لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإِنه لا حقيقة له وأنا ربكم الأعلى، وغرضُه أن يوهمهم بأنه إنما امتنع عن قتله رعايةً لقلوب أصحابه قال أبو حيان: والظاهر أ، فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبيٌ، وأن ما جاء به آياتٌ باهرة وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خبثٌ وجبروت وكان قتالاً سفاكاً للدماء لأهون شيء، فكيف لا يقتل من أحسَّ منه بأنه يثل عرشه ويهدم ملكه، ولكنه يخاف إن همَّ بقتله أن يُعاجل بالهلاك، وكان كلامه للتمويه على قومه وإيهامهم أنهم هم الذي يكفّرونه، وما كان يكفُّه إلا شدةُ الخوف والفزع {إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أي إني أخشى أن يغيّر ما أمنت عليه من عبادتكم لي إلى عباده ربه {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد} أي أو أن يثير الفتن والقلاقل في بلدكم، ويكون بسببه الهرجُ، وهذا كما قال المثل «صار فرعون واعظاً» {وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي إني استجرتُ بالله واعتصمتُ به ليحفظني {مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب} أي من شر كل جبارٍ عنيد متكبر عن الإِيمان بالله، لا يصدِّق بالآخرة قال في التسهيل: وإنما قال {مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} ولم يذكره باسمه ليشمل فرعون وغيره، وليكون فيه وصفٌ لغير فرعون بذلك الوصف القبيح {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} قال المفسرون: كان هذا الرجل ابن عم فرعون وكان قبطياً يخفي إيمانه عن فرعون،(3/92)
فلما سمع قول الجبار متوعداً موسى بالقتل نصحهم بقوله {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله} استفهام إنكاري للتبكيت عليهم أي أتقتلون رجلاً لا ذنب له إلا لأجل أنقال: ربيَ الله من غير تفكرٍ ولا تأملٍ في أمره؟ {وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ} أي والحال أنه قد أتاكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها من عند ربكم {وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} أي إن كان كذاباً في دعوى الرسالة فضرر كذبه لا يتعداه قاله القرطبي: ولم يكن ذلك لشكٍ منه في رسالته وصدقه، ولكنْ تلطفاً في الاستكفاف، واستنزالاً عن الأذى {وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} أي وإِن كان صادقاً في دعواه أصابكم بعضُ ما وعدم به من العذاب {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} أي لا يوفق للهداية والإِيمان من هو مسرفٌ في الضلال، مبالغ في الكذب على الله قال الإِمام الفخر: وفي هذا إشارة إلى رفع شأن موسى لأن الله هداه وأيده بالمعجزات، وتعريضٌ بفرعون في أنه مسرفٌ في عزمه على قتل موسى، كذَّاب في إِقدامه على ادعاء الإِلهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يبطله ويهدم أمره وقال في البحر: هذا نوعٌ من أنواع علم البيان يسميه علماؤنا «استدراج المخاطب» وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، وقومه على تكذيبه أراد الانتصار له بطريق يُخفي عليهم بها أنه متمعصبٌ له، وأنه من أتباعه، فجاءهم بطريق النصح والملاطفة فقال {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} ولم يذكر اسمه بل قال رجلاً ليوهمهم أنه لا يعرفه، ثما قال {أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله} ولم يقول رجلاً مؤمناً بالله أو هو نبيٌ الله، إذ لو قال ذلك لعلموا أنه متعصب ولم يقبلوا قوله، ثم أتبعه بقوله {وَإِن يَكُ كَاذِباً} فقدَّم الكذب على الصدق موافقة لرأيهم فيه ثم تلاه بقوله {وَإِن يَكُ صَادِقاً} ولم يقل هو صادق وكذلك قال {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} ولم يقل كلُّ ما يعدكم ولو قال ذلك لعلموا أنه متعصب له، وأنه يزعم نبوته وأنه يصدّقه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدِّق له وهو قوله {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وفيه تعريضٌ بفرعون، إذ هو في غاية الإِسراف والكذب على الله، إذْا ادعدى الألوهية والربوبية {ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظَاهِرِينَ فِي الأرض} كرر النصح مع التلطف والمعنى: أنتم غالبون على بني إسرائيل في أرض مصر قد قهرتموهم واستعبدتموهم اليوم {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا} أي فمن ينقذنا من عذاب الله وينجينا منه إن قتلتم رسوله قال الرازي: وإِنما قال {يَنصُرُنَا} و {جَآءَنَا} لأنه كان يُظهر لهم أنه منهم، وأنَّ الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه.
. وهنا تأخذ فرعون العزةُ بالإِثم، ويستبدُّ به الجبروت والطغيان {قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى} أي ما أشير عليكم برأيٍ سوى ما ذكرتُه من قتل موسى حسماً لمادة الفتنة {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} أي وما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الصواب والصلاح {وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب} أي أخشى عليكم مثل أيام العذاب التي عُذّب بها المتحزبون على الأنبياء {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} هذا تفسير للأحزاب أي مثل عادة قوم نوع وعاد وثمود وما أصابهم من العذاب والدمار بتكذيبهم لرسلهم {والذين مِن بَعْدِهِمْ} أي والمكذبين بعد أولئك كقوم لوط {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ} أي لا يعاقب(3/93)
العباد بدون ذنب قال الزمخشري: أي إن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وفيه مبالغة حيث جعل المنفي إرادة الظلم، ومن كان بعيداً عن إرادة الظلم، كان عن الظلم أبعد {وياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} خوَّفهم بعذاب الآخرة بعد أن خوفهم بعذاب الدنيا والمعنى إني أخاف عليكم من ذلك اليوم الرهيب يوم الحشر الأكبر، حيث ينادي المجرمون بالويل والثبور {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي تولون منهزمين من هول عذاب جنهم قال المفسرون: إن الكفار إذا سمعوا زفير النار أدبروا هاربين، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة يتلقونهم يضربون وجوههم، فيرجعون إلى مكانهم فتتلقهم جنهم {مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي ليس لكم مانع ولا دافع يصرف عنكم عذاب الله {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن يضلله اللهُ فليس له من يهديه إلى طريق النجاة {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} أي والله لقد جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالمعجزات الظاهرات {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ} أي فلم تزالوا شاكين في رسالته كافرين بما جاء به من عند الله قال المفسريون: المراد آباؤكم وأصولكم {حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} أي حتى إذا مات قلتم على سبيل التشهيّ والتمني من غير حجة ولا برهان لن يأتي أحد يدعي الرسالة بعد يوسف قال أبو حيان: وليس هذا تصديقاً لرسالة يوسف، كيف وما زالوا في شك منه، وإنما المعنى لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق، ففيه نفي الرسول ونفي بعثته {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} أي مثل ذلك الضلال الفظيع يُضلُّ الله كل مسرفٍ في العصيان، شاكٍّ في الدين، بعد وضوح الحجج والبراهين {الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} هذا من تتمة كلام الرجل المؤمن والمعنى الذين يجادلون في شريعة الله بغير حجة وبرهان جاءهم من عند الله {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ} أي عظُم بغضاً عند الله وعند المؤمنين جدالُهم بغير رهان قال في البحر: عادل الواعظ عن مخاطبتهم إلى الإسم الغائب، لحسنِ محاورته لهم واستجلاب قلوبهم، لئلا يفجأهم بالخطاب، وفي قوله {كَبُرَ مَقْتاً} ضربٌ من التعجب والاستعظام لجادالهم، كأنه خارج عن حدِّ أمثاله من الكبائر {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أي كما ختم على قلوب هؤلاء المجادلين كذلك يختم بالضلال على قلب كل متكبر عن الإِيمان، متجبرٍ على العباد، حتى لا يعقل الرشاد، ولا يقبل الحق، وإنما وصف القلب بالتكبر والجبروت لكونه مركزهما ومنبعهما، وهو سلطان الأعضاء، فمتى فسد فسدت {وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً} أي قال فرعون لوزيره هامان ابن لي قصراً عالياً، وبناءً شامخاً منيفاً قال القرطبي: لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فروع أن يتمكن كلامه في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فأمر وزيره هامان ببناء الصرح {لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات} أي لعلي أصل وأنتهي إلى طرق السموات وما(3/94)
يؤدي إليها، وكررها للتفخيم والبيان {فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} أي فأنظر إلى إله موسى نظر عيان {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} أي وإِني لأعتقد موسى كاذباً في ادعائه أن له إلهاً غيري قال أبو حيان: وبلوغُ أسباب السموات غير ممكن، لكنَّ فرعون أبرزه في صورة الممكن تمويهاً على سامعيه، ولما قال {فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} كان ذلك إقراراً بالإِله فلذلك استدرك هذا الإِقرار بقوله {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ} أي ومثل ذلك التزيين زُيّن لفرعون عمله السيء حتى رآه حسناً {وَصُدَّ عَنِ السبيل} أي ومُنع بضلاله عن طريق الهدى {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} أي وما تدبير فرعون ومكره إلا في خسار وهلاك، خسر ملكه في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بالخلود في النار {وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد} كرَّر مؤمن آل فرعون نصحه لهم بعد تلك المراوغة التي لقيها من فرعون، ودعا قومه إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وكشف لهم عن قيمة الحياة الزائلة، وشوَّقهم إلى نعيم الحياة الباقية، وحذَّرهم من عذاب الله ومعنى الآية: امتثلوا يا قوم أمري واسلكوا طريقي أرشدكم إلى طريق الفوز والنجاة طريق الجنة {ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ} أي ليست الدنيا إلا متاعاً زائلاً، لاثبات له ولا دوام {وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار} أي وإن الدار الآخرة هي دار الاستقرار والخلود، التي لا زوال لها ولا انتقال منها، فإِما خلود في النعيم، أو خلود في الجحيم قال القرطبي: ومراده بالدار الآخرة الجنة والنار لأنهما لا يفنيان {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} أي من عمل في هذه الدنيا سيئةً فلا يعاقب في الآخرة إلا بمقدارها دون زيادة، رحمة منه تعالى بالعباد {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي ومن فعل في الدنيا العمل الصالح سواءً كان ذكراً أو أنثى بشرط الإِيمان {فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي فأولئك المحسنون يدخلون جنات النعيم، ويعطون جزاءهم بغير تقدير، بل أضعافاً مضاعفة فضلاً من الله وكرماً، فقد اقتضى فضله تعالى أن تضاعف الحسناتُ دون السيئات قال ابن كثير: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي لا يتقدر بجزاء، بل يثيبه الله ثواباً كثيراً عظيماً، لا انقضاء له ولا نفاد {وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار} ؟ أي ما لي أدعوكم إلى الإِيمان الموصل إلى الجنان، وتدعونني إلى الكفر الموصل إلى النار؟ والاستفهما للتعجب كأنه يقول: أنا أتعجب من حالكم هذه، أدعوكم إلى النجاة والخير، وتدعونني إلى النار والشر؟ ثم وضَّح ذلك بقوله {تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أي تدعونني للكفر بالله، وأن أعبد ما ليس لي علمٌ بربويته، وما ليس بإِلهٍ كفرعون {وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار} أي وأنا أدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد، العزيز الذي لا يُغلب، العفَّار لذنوب العباد {لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ} أي حقاً إنما تدعونني لعبادته {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة} أي لا يصلح أن يُعبد لأنه لا يسْتجيب لنداء داعيه، ولا يقدر على تفريج كربته لا في الدنيا ولا في الآخرة {وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى الله} أي وأن مرجعنا إلى الله وحده فيجازي كلاً بعمله {وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار} أي وأن المسرفين في الضلال والطغيان(3/95)
سيخلَّدون في النار {فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ} أي فستذكرون صدق كلامي عندما يحل بكم العذاب، وهو تهديد ووعيد {وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله} أي أتوكل على الله، وأسلّم أمري إليه قال القرطبي: وهذا يدل على أنهم هدَّدوه وأرادوا قتله {إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} أي مطلع أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} أي فنجاه الله من شدائد مكرهم، ومن أنواع العذاب الذي أرادوا إلحاقه به {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب} أي ونزل بفرعن وجماعته أسوأ العذاب، وهو الغرق في الدنيا، والحرق في الآخرة، ثم فسَّره بقوله {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} أي النار ُحرقون بها صباحاً ومساء قال المفسرون: المراد بالنار هنا نار القبر وعذابهم في القبور بدليل قوله بعده {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} أي ويوم القيامة يقال للملائكة: ادخلوا فرعون وقومه نار جنهم التي هي أشد من عذاب الدينا.(3/96)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
المنَاسَبة: لما ذكر تعالى ما حلَّ بآل فرعون من العذاب والدمار، ذكر بعده النزاع والخصام الذي يكون بين أهل النار، واستغاثة المجرمين، وهم في عذاب الجحيم يصلون سعيرها فلا يجابون، ثم ذكر الأدلة والبراهين على قدرة الله ووحدانيته، لإِقامة الحجة على المشركين.
اللغَة: {يَتَحَآجُّونَ} يختصمون {خَزَنَةِ} جمع خازن وهو المتكفل بحفظ الشيء وحراسته {الأشهاد} جمع شاهد وهو الذي يشهد بالحجة على غيره {دَاخِرِينَ} أذلاء صاغرين {تُؤْفَكُونَ} تُصرفون عن الإِيمان إلى الكفر {قَرَاراً} مستقرا {أُسْلِمَ} أذل وأخضع.
التفسِير: {وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النار} أي واذكر حين يختصم الرؤساء والأتباع في نار جهنم {فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} أي فيقول الأتباع الضفعاء للرؤساء المستكبرين عن الإِيمان واتباع الرسل، إنا كنا لكم في الدنيا أتباعاً كالخدم ننقاد لأوامركم، ونطيعكم فيما تدعوننا إليه من الكفر والضلال {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار} ؟ أي فهل أنتم دافعون عنا جزءاً من هذا العذاب الذي نحن فيه؟ قال الرازي: علموا أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف، وإنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل الرؤساء، وإِيلام قلوبهم، لأنهم سعوا في إيقاعهم في أنواع الضلالات {قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ} أي قال الرؤساء جواباً لهم: إنَّا جميعاً في نار جهنم، فلو قدرنا على إزالة العذاب عنكم لدفعناه عن أنفسنا {إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد} أي قضى قضاءً مبرماً لا مردَّ له، بدخول المؤمنين الجنة، والكافرين النار، فلا نستطيع أن نفعل لكم شيئاً {وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} لما ئيس أهل النار بعضهم من بعض التجأوا إلى حراس جنهم يطلبون منهم التخفيف قال البيضاوي: وإنما وضع جهنم موضع الضمير {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} بدلاً من «لخزنتها» للتهويل والتفظيع {ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب} أي أدعوا لنا الله أن يخفف عنا ولو مقدار يوم واحد من هذا العذاب {قالوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات} ؟ أي أجابتم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع: ألم تأتكم الرسل بالمعجزات الظاهرات فكفرتم بهم وكذبتموهم؟ {قَالُواْ بلى} أي قال الكفار بلى جاءونا {قَالُواْ فادعوا} اي قالت لهم الملائكة: فادعوا اللهَ أنتم فإِنا لا نجترىء على ذلك قال الرازي: وليس قولهم {فادعوا} لرجاء المنفعة، ولكنْ للدلالة على الخيبة، فإن الملائكة المقربين إذا لم يُسمع دعاؤهم، فكيف يسمع دعاء الكفار؟ ثم يصرّحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم فيقولون {وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} أي دعاؤكم لا ينفع ولا(3/97)
يجدي لأن دعاء الكافرين ما هو إلا خسار وتبار {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا} أي ننصر الرسل والمؤمنين بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة المجرمين في هذه الحياة الدنيا {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} أي وفي الآخرة يوم يحضر الأشهاد الذين يشهدون بأعمال العباد، من مَلك ونبيٍ ومؤمن قال الرازي: الآية وعدٌ من الله تعالى لرسوله بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ} أي لا ينفع المجرمين اعتذارهم قال ابن جرير: لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل {وَلَهُمُ اللعنة} أي الطردُ من رحمة الله {وَلَهُمْ سواء الدار} أي ولهم جهنم أسوأ مرجع ومصير قال ابن عباس: {سواء الدار} سؤُ العاقبة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى} أي والله لقد أعطينا «موسى بن عمران» ما يُهتدى به في الذين، من المعجزات والصحف والشرائع {وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب} أي أورثناهم العلم النافع والكتاب الهادي وهو «التوراة» {هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب} أي هادياً وتذكرةً لأصحاب العقول السليمة {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي فاصبر يا محمد علىأذى المشركين، فإن وعد الله لك ولأتباعك بالنصر على الأعداء، حقٌ لا يمكن أن يتخلف، لأن الله لا يخلف الميعاد قال الإِمام الفخر: لما بيَّن تعالىأنه ينصر رسله، وضرب المثال في ذلك بحال موسى، خاطب بعده رسوله بقوله {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} والمراد أنَّ الله ناصرك كما نصرهم، ومنجزٌ وعده لك كما أنجزه في حقهم {واستغفر لِذَنبِكَ} أي واطلب المغفرة من ربك على ما فرط منك من ترك الأولى والأفضل، قال الصاوي: والمقصودُ من هذا الأمر تعليم الأمة ذلك، وإلا فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معصومٌ من الذنوب جميعاً، صغائر وكبائر قبل النبوة وبعدها على التحقيق وقال ابن كثير: وهذا تهييجٌ للأمة على الاستغفار {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي والإبكار} أي ودمْ على تسبيح ربك في المساء والصباح قال الرازي: والمرادُ منه الأمرُ بالمواظبة على ذكر الله، وألاَّ يفتر اللسان عنه، حتى يصبح في زمرة الملائكة الأبرار، الذين
{يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] والمرادُ بالتسبيح تنزيهُ اللهِ عن كل ما لا يليق به، ثم نبه تعالىإلى السبب الدافع للكفار إلى المجادلة بالباطل فقال {إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله} أي يخاصمون في الآيات المنزلة {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أي بلا برهانٍ ولا حجةٍ من الله {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} أي ما شفي قلوبهم إلا تكبرٌ وتعاظم يمنعهم من اتباعك والانقياد إليك {مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} أي ما هم بواصلين إلى مرادهم من إطفاء نور الله، ولا بمؤملين مقصودهم بالعو عليك {فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} أي فالتجىءْ وتحصَّنْ بالله من كيدهم، فإِن الله يدفع عنك شرهم، لأنه هو السميعُ لأقوالهم العليمُ بأحوالهم. . ثم ذكر تعالى الدلائل الدالة على قدرته ووحدانيته فقال {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} اللام لام الابتداء أي لخلقُ الله للسمواتِ والأرضِ وإِنشاؤُهما وابتداعهما من غير شيء أعظم من خلق البشر، فمن قدر على خلقهما مع عظمهما كيف(3/98)
يعجز عن خلق ما هو أحقر وأهون؟ قال في التسهيل: والغرض الاستدلال على البعث، لأن الإِله الذي خلقَ السمواتِ والأرض على كبرها، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد فنائها {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعملون ذلك، لأنهم لا يتأملون لغلبة الجهل عليهم، وفرط غفلتهم واتباعهم لأهوائهم {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} أي لا يتساوى المؤمن والكافر {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء} أي ولا البرُّ والفاجر {قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} أي لا تتعظون بهذه الأمثال إلا قليلاً قال ابن كثير: والمراد أنه كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار، والكفرة الفجار، ما أقلَ ما يتذكر كثيرٌ من الناس؟ {إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} أي إن القيامة آتيةٌ لا محالة، لا شك في ذلك ولا مرية {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يصدقون بمجيئها، ولذلك ينكرون البعث والجزاء قال الرازي: والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي ادعوني أجبْكم فيما طلبتم، وأعطم ما سألتم قال ابن كثير: ندب تعالى عباده إلى دعائه، وتكفَّل لهم بالإِجابة فضلاً منه وكرماً {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي إنَّ الذين يتكبرون عن دعاء الله سيدخلون جهنم أذلاء صاغرين.
. ثم ذكر تعالى من آثار قدرته ووحدانيته، ما يلزم منه أفراده بالعبادة والشكر فقال {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} أي الله جل وعلا بقدرته وحكمته هو الذي جعل لكم الليل مظلماً لتستريحوا فيه من تعب وعناء العمل بالنهار، وجعل النهار مضيئاً لتتصرفوا فيه بأسباب الرزق وطلب المعاش {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} إي إنه تعالى متفضل على العباد، وهو صاحب الجود والإِحسان إليهم {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون الله على إحسانه، ويجحدون فضله وإِنعامه {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي ذلكم المتفرد بالخلق والإِنعام هو الله ربكم، خالق كل الأشياء {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أي لا معبود في الوجود سواه {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تصرفون عن عبادة الخالق المالك إلى عبادة الأوثان؟ {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} أي كذلك يُصرف عن الهدى والحق الذين جحدوا بآيات الله وأنكروها قال الصاوي: وهذه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى لا تحزن يا محمد على إِنكار قومك فإن من قبلهم فعل ذلك، ثم زاد في البيان ودلائل القدرة فقال {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً} أي جعلها مستقراً لكم في حياتكم وبعد مماتكم قال ابن عباس: جعلها منزلاً لكم في حال الحياة وبعد الموت {والسمآء بِنَآءً} أي وجعل السماء سقفاً محفوظاً، كالقبة المبنية مرفوعة فوقكم {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي صوَّركم أحسن تصوير، وخلقكم في أحسن الأشكال، متناسي الأعضاء، ولم يجعلكم كالبهائم منكوسين تمشون(3/99)
على أربع قال الزمخشري: لم يخلق تعالى حيواناً أحسن صورةً من الإِنسان، وهذه مثل قوله تعالى
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] {وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات} أي ورزقكم من أنواع اللذائذ {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} أي ذلكم الفاعل لهذه الأشياء والمنعم بهذه النعم هو ربكم لا إله إلا هو {فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} أي فتعالى وتمجَّد وتقدس ربُّ جميع المخلوقات الذي لا تصلح الربوبية إلاَّ له {هُوَ الحي لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي هو تعالى المتفرد بالحياة الذاتية الحقيقة، الباقي الذي لا يموت، لا إله سواه {فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي فاعبدوه وحده مخلصين له العبادة والطاعة ظاهراً وباطناً قائلين {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} أي الثناء والشكر لله مالك جميع المخلوقات، لا للأوثان الي لا تملك شيئاً، ولما بيَّن صفات الجلال والعظمة، نهى عن عبادة غير الله فقال {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي قل يا محمد إن ربي العظيم الجليل نهاني أن أعبد هذه الآلهة التي تعبدونها من الأوثان والأصنام قال الصاوي: أمر تعالى نبيه أن يخاطب قومه بذلك زجراً له، حيث استمروا على عبادة غير الله، بعد ظهور الأدلة العقلية والنقلية {لَمَّا جَآءَنِيَ البينات مِن رَّبِّي} أي حين جاءتني الآيات الواضحات من عنده، الدالة على وحدانيته قال الرازي: والبيناتُ هي أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به، وأن جعل الحجارة المنحوتة والأخشاب المصورة، شركاء له في المعبودية مستنكرٌ في بديهة العقل {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} أي وأمرت أن أذل وأخضع لله وحده، وأن أخلص له ديني، وأطهّر نفسي من عبادة غيره.(3/100)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن دلائل القدرة والوحدانية، فبعد أن ذكر تعالى دلائل القدرة في الآفق أردفها بدلائل القدرة في الأنفس، ثم تحدث عن أحوال المشركين يوم القيامة، وختم السورة الكريمة بالوعيد والتهديد لأهل الكفر والضلال.
اللغَة: {الأغلال} القيود جمع غُلَّ وهو القيد يجمع اليد إلى العنق {الحميم} الماء الحار البالغ نهاية الحرارة {يُسْجَرُونَ} توقد بهم النار يقال: سجر التنور أوقده {تَمْرَحُونَ} تبطرون وتأْشرون {مَثْوَى} مأوى ومكان إقامة، من ثَوى بالمكان إذا أقام فيه {خَلَتْ} مضت.
التفسِير: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} هذا بيانٌ للأجوار التي مرَّ خلق الإِنسان أي هو جل وعلا بقدرته الذي أوجدكم أيها الناس من العد، فخلق أصلكم آدم من تراب، ثم خلق ذريته من النطفة وهي المنيُّ، ثم من علقة وهي الدم الغليظ، إلى آخر تلك الأطوار {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي ثم بعد أن ينفصل الجنين من بطن الأم يكون طفلاً {ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} أي ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل، وهو سنُّ الأربعين {ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً} أي ثم لتصبحوا في سنِّ الهرم والشيخوخة قال الإِمام الفخر: رتَّب تعالى عمر الإِنسان على ثلاث مراتب: الطفولة، وبلوغ الأشد، والشخوخة، وهذا ترتيب مطابق للعقل، فإِن الإِنسان في أول عمره يكون في النمَّاء والنشوء وهو المسمى بالطفولة، إلى أن يبلغ إلى كمال النشوء من غير أن يحصل له ضعف، وهذا بلوغ الأشد، ثم يبدأ بالتراجع ويبدأ فيه الضعف والنقص، وهذه مرتبة الشيخوخة {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ} أي ومنكم من يُتوفى قبل أن يخرج إلى العالم وهو السِّقطُ وقال مجاهد: من قبلِ سنِّ الشيخوخة {ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى} أي ولتصلوا إلى الزمان الذي حُدِّد لكل شخصٍ وهو الموتَ {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي ولكي تعقلوا دلائل قدرته تعالى وتؤمنوا بأنه الواحد الأحد {هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو القادر جل وعلا على الإِحياء والإِماتة {فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ} أي فإِذا أراد أمراً من الأمور فلا يحتاج إلى تعب وعناء، وإِنما يوجد فوراً دون تأخير قال أبو السعود:(3/101)
وهذا تمثيلٌ لكمال قدرته، وتصوير لسرعة وجودها من غير أني كون هناك أمرٌ ومأمور. . ثم عاد إلى ذم المجادلين في آيات الله بالباطل فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله أنى يُصْرَفُونَ} الاستفهام للتعجيب أي ألا ترى السامع وتعجبْ من حال هؤلاء المكابرين، الذين يجادلون في آيات الله الواضحة، كيف تُصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟ ثم بيَّنهم بقوله {الذين كَذَّبُواْ بالكتاب وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} أي الذين كذبوا بالقرآن، وبسائر الكتب والشرائع السماوية {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيدٌ وتهديد أي سوف يعلمون عاقبة تكذيبهم {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل} أي حين يدخلون النار، وتربط أيديهم إلى أعناقهم بالأغلال والسلاسل {يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} أي يسحبون بتلك السلاسل في الماء الحارِّ المسخّن بنار جهنم، ثم يُوقدون ويحرقون فيها قال ابن كثير: ومعنى الآية أن السلاسل متصلة بالأغلال وهي بأدي الزبانية، يسحبونهم على وجوههم تارةً إلى الحميم، وتارة إلى الجحيم كما قال تعالى
{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله} أي ثم قيل لهم تبكيتاً: أين هم الأوثان والأصنام التي كنتم تعبدونها وتجعلونها شركاء لله؟ {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} أي فيقولون: غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً} أي بل لم نكن نعبد شيئاً قال المفسرون: جحدوا عبادتهم، وإنما فعلوا ذلك لحيرتهم واضطرابهم {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} أي مثل إضلال هؤلاء المذكبين يضلُّ الله كل كافر {ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي ذلكم العذاب بما كنتم تظهرونه في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال وإِنفاقه في المحرمات {وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} أي وبسبب بطركم وأشركم وخيلائكم قال الصاوي: وهذاوإن كان ذماً في الكفار، إلا أنه يجرُّ بذيله على كل من توسَّع في معاصي الله، فله من هذا الوعيد نصيب {ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي ادخلوا من أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم ماكثين فيها أبداً {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} أي بئست جهنم مقراً وسكناً للمستكبرين عن آيات الله، المعرضين عن دلائل الإِيمان والتوحيد، وإنما قال {مَثْوَى المتكبرين} ولم يقل فبئس مدخل المكبرين وهو مقتضى النظم، لأن الدخول لا يدوم، وإنما يدوم المثوى ولذا خصه بالذمِّ {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي فاصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، فإِن وعد الله بتعذيبهم كائنٌ لا محالة قال الصاوي: هذا تسلية من الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعدٌ حسن بالنصر له على أعدائه {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} أي إنْ أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره فذلك هو المطلوب، أو لتقرَّ به عينُك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي أو نتوفينَّك يا محمد قبل إنزال العذاب عليهم، فإِلينا مرجعهم يوم القيامة فننتقم منهم أشدَّ الانتقام، ثم أخبره تعالى بأنباء الرسل تسليةً له عليه السلام فقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} أي والله لقد بعثنا يا محمد رسلاً كثيرين قبلك، وأيدناهم بالمعجزات(3/102)
الباهرة فجادلهم قومهم وكذبوهم فتأسَّ بهم في الصبر على ما ينالك قال القرطبي: عزَّاه تعالى بما لقيت الرسلُ من قبله {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} أي من هؤلاء الرسل من أخبرناك عن قصصهم مع قومهم، ومنهم من لم نخبرك عن قصصهم وأخبارهم {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي وما صحَّ ولا استقام لرسولٍ من الرسل أن يأتي قومه بشيء من المعجزات إلا بأمر الله، وهذا ردٌ على قريش حيث قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اجعل لنا الصفا ذهباً وغير ذلك من مقترحاتهم {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق} أي فإِذا جاء الوقت المسمّى لعذابهم أهلكهم الله {وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون} أي خسر في ذلك الحين المعاندون الذين يجادلون في آيات الله، ويقترحون المعجزات على سبيل التعنت، ثم ذكَّرهم تعالى بعمه فقال {الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام} أي الله جلَّ وعلا الذي لا تصلح الألوهية إلا له، هو الذي سخَّر لكم هذه الأنعام «الإِبل والبقر والغنم» خلقها لكم ولمصلحتكم {لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي لتركبوا على ظهور بعض هذه الحيوانات، وتأكلوا من لحومها وألبانها، {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي ولكم في هذه الأنعام منافع عديدة في الوبر والصوف والشعر، واللبن والزبد والسمن {وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي بحمل الأثقال في الأسفار البعيدة {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} أي وعلى هذه الإِبل في البر، وعلى السفن في البحر تُحملون، وإنما قرن بين الإِبل والسفن لما بينهما من شدة المناسبة حتى سميت الإِبل سفن البر {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} أي ويريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته في الآفاق والأنفس {فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ} توبيخٌ لهم على إنكارهم لوحدانيته مع ظهور آياته الكثيرة والمعنى أيَّ آية من تلك الآيات الباهرة والدلائل الكثيرة الساطعة تنكرون مع وضوحها وجلائها وكثرتها؟ فإن هذه الدلائل لظهورها لا تقبل الإِنكار {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} الاستفهام إِنكاري أي أفلم يسر هؤلاء المشركون في أطراف الأرض ليعرفوا عاقبة المتكبرين المتمردين، وآثار الأمم السالفة قبلهم، ماذا حلَّ بهم من العذاب والدمار بسبب كفرهم وتكذيبهم؟ {كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض} أي كانوا أكثر عدداً من أهل مكة، وأقوى منهم قوة، وآثارهم لا تزال باقية بعدهم من الأبنية والقصور والمباني الضخمة {فَمَآ أغنى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي فلم ينفعهم ما كانوا يكسبونه من الأبنية والأموال شيئاً، ولا دفع عنهم العذاب {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي فلما جاءتهم الرسل بالمعجزات الظاهرات، والآيات الواضحات {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم} أي فرح الكفار بما هم عليه من العلم الدنيوي، الخالي عن نور الهداية والوحي، فرح بطرٍ وأشر، وأغتروا بذلك العلم {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي نزل بهم جزاء كفرهم واستهزائهم بالرسل والآيات {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ} أي فلما رأوا شدة العذاب وعيانوا أهواله وشدائده قالوا آمنا بالله الواحد الأحد {وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أي كفرنا بالأصنام والأوثان التي أشركناها في العبادة مع الله {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} أي فلم يكن ينفعهم ذلك الإِيمان حين شاهدوا العذاب لأنه إيمانٌ عن قسر وإلجاء {سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي(3/103)
عِبَادِهِ} أي سنَّ الله ذلك سنةً ماضيةً في العباد، أنه لا ينفع الإِيمان إذا رأوا العذاب {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون بربهم، الجاحدون لتوحيد خالقهم.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {الذنب. . والتوب} وبين {أَمَتَّنَا. . وَأَحْيَيْتَنَا} وبين {صَادِقاً. . وكَاذِباً} وبين {غُدُوّاً. . وَعَشِيّاً} وبين {يُحْيِي. . وَيُمِيتُ} وبين {الأعمى. . والبصير} .
2 - المقابلة {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ} [غافر: 12] فقد قابل بين التوحيد والإِشراك، والكفر والإِيمان وكذلك توجد المقابلة بين قوله تعالى {ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار} [غافر: 39] وهذه من المحسنات البديعية.
3 - المجاز المرسل {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً} [غافر: 13] أطلق الرزق وأراد المطر لأن الماء سبب في جميع الأرزاق، فهو من إِطلاق المسَّبب وإرادة السبب.
4 - الاستعارة اللطيفة {وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير} [غافر: 58] استعار الأعمى للكافر، والبصير للمؤمن.
5 - المجاز العقلي {والنهار مُبْصِراً} [غافر: 61] من إسناد الشيء إلى زمانه، لأن النهار زمنٌ للإِبصار.
6 - الكناية {يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15] الروحُ هنا كناية عن الوحي، لأنه كالروح للجسد.
7 - صيغ المبالغة مثل: «كذَّاب، جبَّار، سمعي، بصير، عليم» الخ.
8 - الجناس الناقص {تَفْرَحُونَ. . وتَمْرَحُونَ} وكذلك {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] .
9 - التأكيد بإِن واللم {إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ} [غافر: 59] .
10 - صيغة الحصر {مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} [غافر: 4] .
11 - جناس الاشتقاق {أَرْسَلْنَا رُسُلاً} .
12 - طباق السلب {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} .
13 - توافق رءوس الآيات مع السجن البديع، والكلام الذي يأخذ بالألباب، انظر روعة البيان، وتمعَّنْ قول القرآن وهو يتحدث عن مؤمن آل فرعون بذلك البيان الإلهي المعجز {وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار} [غافر: 4142] الخ الآيات الكريمة التي هي أجلى من عقود الجُمان.(3/104)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
اللغَة: {فصِّلتْ} بُيِّنت ووُضِّحت {أَكِنَّةٍ} جمع كنان وهو الغطاء {وَقْرٌ} صمم وثقل يمنع سماع الكلام {مَمْنُونٍ} مقطوع من مننْتُ الجبل إِذا قطعته قال الشاعر:
إني لعمرُك ما بابي بذي غلقٍ ... أساعة نحسٍ تُتَّقى أم بأسعد(3/106)
{صَرْصَر} الصَّرْصر: الريح الباردة العاصفة مع الصوت الشديد {نَّحِسَاتٍ} مشئومات من النَّحس بمعنى الشؤم وهو ضدُّ السَّعد قال الشاعر: _(3/107)
_سواءٌ عليه أيَّ حسنٍ أتيته _(3/107)
_ أساعة نحسٍ تُتَّقى أم بأسعد_(3/107)
_ {أخزى} أشد إهانةً وإِذلالاً من الخزي بمعنى الإِهانة {الهون} الإِهانة والذل.
التفسِير: {حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن {تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم} أي هذا القرآن المجيد منزَّل من الرحمن الرحيم، أنزله جل وعلا رحمة بعباده، وإِنما خصَّ هذين الإِسمين {الرحمن الرحيم} إشارة إلى أن نزوله من أكبر النعم، ولا شك أن القرآن نعمة باقية إلى يوم القيامة {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أي كتابٌ جامع للمصالح الدينية والدنيوية، بُيِّنت معانيه، ووُضِّحت أحكامه، بطريق القصص والمواعظ والأحكام والأمثال، في غاية البيان والكمال {قُرْآناً عَرَبِيّاً} أي في حال كونه قرآناً عربياً، واضحاً جلياً نزل بلسان العرب {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي لقومٍ يفهمون تفاصيل آياته، ودلائل إعجازه، فإِنه في أعلى طبقات البلاغة، ولا يتذوق أسراره إلا من كان عالماً بلغة العرب {بَشِيراً وَنَذِيراً} أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين بعذاب الجحيم {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي فأعرض أكثر المشركين عن تدبير آياته مع كونه نتزل بلغتهم، فهم لا يسمعون سماع تفكر وتأمل قال أبو حيان: المعنى أعرض أكثر أولئك القوم مع كونهم من أهل العلم، ولكن لم ينظروا النظر التام بل أعرضوا، فهم لإِعراضهم لا يسمعون ما احتوى عليه من الحجج والبراهين وقال القرطبي: السورةُ نزلت تقريعاً وتوبيخاً لقريش في إعجاز القرآن، فهم لا يسمعون سماعاً ينتفعون به، ثم أخبر تعالى عن عتوهم وضلالهم فقال {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} أي وقالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين دعاهم إلى الإِيمان: قلوبنا في أغطية متكاثفة، لا يصل إليها شيءٌ مما تدعونا إليه من التوحيد والإِيمان {وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ} أي وفي آذاننا صممٌ وثقلٌ يمنعنا من فهم ما تقول قال الصاوي: شبهوا أسماعهم بآذانٍ فيها صمَمٌ، من حيث إنها تمدُّ الحقَّ ولا تميل إلى استماعه {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} أي وبيننا وبينك يا محمد حاجز يمنع أن يصل إلينا شيء مما تقول، فنحن معذورون في عدم اتباعك، لوجود المانع من جهتنا وجهتك {فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ} أي اعملْ أنت على طريقتك، ونحن على طريقتنا، واستمرَّ على دينك فإنا مستمرون على ديننا {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} أي قل يا محمد لأولئك المشركين: لستُ إلا بشراً مثلكم خصّني الله بالرسالة والوحي، وأنا داعٍ لكم إلى توحيد خالقكم وموجودكم، الذي قامت الأدلة العقلية والشرعية على وحدانيته ووجوده، فلا داعي إلى تكذيبي {فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه} أي توجهوا إليه بالاستقامة على التوحيد والإِيمان، والإِخلاص في الأعمال، واسألوه المغفرة لسالف الذنوب {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة} أي دمارٌ وهلاك للمشركين الذين لا يفعلون(3/107)
الخير، ولا يتصدقون ولا ينفقون في طاعة الله قال القرطبي: قرَّعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء، وفي الآية دلالة على أن الكافر يُعذَّب بمنع الزكاة مع عذابه على كفره وقال ابن عباس: المراد زكاة الأنفس والمعنى: لا يطهرون أنفهسم من الشرك بالتوحيد، ولا يقولون لا إله الله {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} أي كفروا بالبعث والنشور، وكذَّبوا بالحساب والجزاء قال الصاوي: وإنما خصَّ منع الزكاة وقرنه بالكفر بالآخرة، لأن المال شقيق الروح فإِذا بذله الإِنسان في سبيل الله كان دليلاً على قوته وثباته في الدين {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لما ذكر حال الكفار ووعيدهم، أردفه بذكر حال المؤمنين وما لهم من الوعد الكريم والمعنى الذين صدَّقوا الله ورسوله، وجمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح، لهم في الآخةر أجرٌ غير مقطوع عند ربهم، بل هو دائم مستمر بدوام الجنة، ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} الاستفهام للتوبيخ والتعجب أي كيف تكفرون بالله وهو الإِلهُ العليُّ الشأن، القادر على كل شيء، خالقُ الأرض في يومين؟ {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} أي تجعلون له شركاء وأمثالاً تعبدنها معه {ذَلِكَ رَبُّ العالمين} أي ذلك الخالق المبدع هو ربُّ العالمين كلهم، فكيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإِلهية والمعبودية؟ قال الصاوي: الاستفهام {أَإِنَّكُمْ} للإِنكار والتشنيع عليهم المعنى: أنتم تعلمون أنه لا شريك له في العالم العلوي والسفلي، فكيف تجعلون له شريكاً؟ {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} أي جعل في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تميد بالبشر {وَبَارَكَ فِيهَا} أي أكثر خيرها بما جعل فيها من المياه، والزروع، والضروع {وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} أي قدَّر أرزاق أهلها ومعاشهم قال مجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} اي في تمام أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان، للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} أي عمد إلى خلقها وقصد إلى تسويتها وهي بهيئة الدخان قال ابن كثير: والمراد بالدخان بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} أي استجيبا لأمري طائعتين أو مكرهتين {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} أي قالت السموات والأرض أتينا أمرك طائعين قال الزمخشري: وهذا على التمثيل أي أنه تعالى أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إرا ورد عليه أمر الآمر المُطاع، والغرضُ تصوير أثر قدرته في المقدورات من غير أن يكون هناك خطاب وجواب، ومثله قول القائل: قال الحائطُ للمسمار لم تشقني؟ قل: سلْ من يدُقُّني، وروي عن ابن عباس قال قال الله تعالى(3/108)
للسماء: أطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شققي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين «قالتا أتينا أمرك طائعتين» واختاره ابن جرير {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ} أي صنعنَّ وأبدع خلقهن سبع سمواتٍ في وقت مقدَّر بيومين، فتمَّ خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولو شاء لخلقهنَّ بلمح البصر، ولكنْ أراد أن يعلّم عباده الحلم والأناة {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} أي أوحى في كل سماء ما أراده، وما أمر به فيها قال ابن كثير: أي رتَّب في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو {وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً} أي وزينَّا السماءَ الأولى القريبة منكم، بالكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض، وحرساً من الشياطين أن تستمع إل الملأ الأعلى {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} أي ذلك المذكور من الخلق والإِيداع هو صنع الله، العزيز في ملكه، العليم بمصالح خلقه {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} أي حين جاءتهم الرسلُ من كل جوانبهم، واجتهدوا في هدايتهم من كل جهة، وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتوَّ والإِعراض {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} أي بأن لا تعبدوا إلاّ اللهَ وحده {قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} أي فإن أعرضوا عن الإيمان بعد هذا البيان، فقل لهم: إني أخوفكم عذاباً هائلاً مثل هلاك عاد وثمود، وعبَّر بالماضي إشارةً إلى تحققه وحصوله {إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي ولو شاء ربُّنا إرسالَ رسولٍ لجعله ملكاً لا بشراً {فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} إي فإنا كافرون برسالتكم، لا نتبعكم وأنتم بشرٌ مثلُنا، وفي قولهم {بِمَآ أُرْسِلْتُمْ} ضربٌ من التهكم والسخرية بهم {فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} هذا تفصيلٌ لما حلَّ بعاد وثمود من استحقاقٍ للتعظم والاستعلاء {وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} ؟ أي وقالوا اغتراراً بقوتهم لمّا خُوّفوا بالعذاب: لا أحد أقوى منا فنحن نستطيع أن ندفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا قال أبو السعود: كانوا ذوي أجسام طوال، وخلق عظيم، وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل فيقتلعها بيده {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} جملة اعتراضية للتعجيب من مقالتهم الشنيعة والمعننى أغفلوا عن قدرة الله ولم يعلموا أن الله العظيم الجليل الذي خلقهم وخلق الكائنات، وهو أعظم منهم قوةً وقدرة؟ {وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} أي وكانوا بمعجزاتنا يجحدون قال الرازي: إنهم كانوا يعرفون أنها حقٌّ ولكنهم جحدوا كما يجحد المودعُ الوديعة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} أي فأرسلنا على عاد ريحاً باردة شديدة البرد، وشديدة الصوت والهبوب، تُهلك بشدة صوتها وبردها {في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} أي في أيامٍ مشئومات غير مباركات {لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا} أي لكي نذيقهم العذاب المخزي المذل في الدنيا قال الرازي: {عَذَابَ الخزي} أي عذاب الهوان والذل، والسبب أنهم استكبروا عن الإِيمان،(3/109)
فقالب الله ذلك الاستكبار بإيصال الذل والهوان إليهم {وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} أي ولعذابهم في الآخرة أعظم وأشدُّ إهانةٌ وخزياً من عذاب الدنيا، وليس لهم ناصر يدفع عنهم ذلك العذاب {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} أي وأمَّا ثمود فبينا لهم طريق الهدى، ودللناهم على سبيل السعادة، فاختاروا الضلالة على الهداية، والكفر على الإِيمان {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون} أي فأخذتهم قارعة العذاب الموقع في الإِهانة والذل {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي بسبب إجرامهم وطغيانهم وتكذيبهم لنبيّ الله «صالح» قال ابن كثير: بعث الله عليهم صيحةً ورجفة وذلاً وهواناً، وعذاباً ونكالاً، بتكذيبهم صالح وعقرهم الناقة {وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ} أي ونجينا صالحاً ومن آمن به من ذلك العذاب.(3/110)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة عاد وثمود، وما أصابهم من العقوبة في الدنيا بطغيانهم وإجرامهم، ذكر هنا ما يصيب الكفار عامةً في الآخرة من العذاب والدمار، ليحصل منه تمام الاعتبار، في الزجر والتحذير عن ارتكاب المعاصي والكفر بنعم الله.
اللغَة: {يُوزَعُونَ} يُحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا {تَسْتَتِرُونَ} تستخفون، من الاستتار بمعنى الاختفاء عن الأعين {أَرْدَاكُمْ} أهلككم وأوقعكم في المهالك {يَسْتَعْتِبُواْ} يطلبوا رضاء الله {المعتبين} جمع معتب وهو المقبول عتابه قال النابغة:
فإِن أكُ مظلوماً فعبدُ ظلمته ... وإنْ تكُ ذا عتبى فمثلك يُعتب
{قَيَّضْنَا} هيأنا {نُزُلاً} ضيافة وكرامةً {يَسْأَمُونَ} يملُّون.
سَبَبَُ النّزول: عن ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفرٍ: قريشان وثقفي، قليلٌ فقهُ قلوبهم، كثيرّ شحم بطونهم، فقال أحدهم: أترون أنَّ الله يسمع ما نقول؟ فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إن جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} الآية.
التفسِير: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار} أي واذكر يوم يُجمع أعداء الله المجرمون في أرض المحشر لسوقهم إلى النار {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يُحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا قال ابن كثير: تجمع الزبانية أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا {حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا} أي حتى إذا وقفوا للحساب {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي نطقت جوارحهم وشهدت عليهم بما اقترفوه من إجرامٍ وآثام، وفي الحديث «فيُختم على فيه أي فمه ثم يُقال لجوارحه انطقي، فتنطٌ بأعماله، ثم يُخَّلى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكُنَّ وسُحقاً، فعنكنَّ كنت أناضل» {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} أي وقالوا لأعضائهم وجلودهم توبيخاً وتعجباً من هذا الأمر الغريب: لم أقررتم علينا وشهدتم بما فعلنا وإنما كنا نجادل وندافع عنكم؟ {قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أي قالوا معتذرين: ليس الأمر بيدنا وإِنما أنطقنا الله بقدرته، الذي ينطق الجماد والإِنسان والحيوان، فشهدنا عليكم بما علمتم من القبائح {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي هو أوجدكمم من العدم، وأحياكم بعد أن لم تكونوا شيئاً، فمن قدر على هذا قدر على إنطاقنا {وَإِلَيْهِ(3/111)
تُرْجَعُونَ} أي وإِليه وحده تُردون بالبعث قال أبو السعود: المعنى ليس نطقنا بعجبٍ من قدرة الله، الذي أنطق كل حي، فإِن من قدر على خلقكم وإِنشائكم أولاً، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ثانياً، لا يُتعجب من إِنطاقه لجوارحكم {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ} أي وما كنتم تستخفون من هؤلاء الشهود في الدنيا حين مباشرتكم الفواحش، لأنكم لم تظنوا أنها تشهد عليكم قال البيضاوي: أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضيحة، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم فمنا استخفيتم منها، وفيه تنبيهٌ على أن المؤمن ينبغي ألاَّ يمر عليه حالٌ إلا وعليه رقيب {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أي ولكنْ ظننتم أن الله تعالى لا يعلم كثيراً من القبائح المخفية، ولذلك اجترأتم على المعاصي والآثام {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أي وذلكم الظنُّ القبيح برب العالمين أنه لا يعلم كثيراً من الخفايا هو الذي أوقعكم في الهلاك والدمار فأوردكم النار {فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين} أي فخسرتم سعادتكم وأنفسكم وأهليكم، وهذا تمام الخسران والشقاء {فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي فإِن يصبروا على العذاب فالنارُ مقامهم ومنزلهم، لا محيد ولا محيص لهم عنها {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين} أي وإن يطلبوا إرضاء الله، فما هم من المرضي عليهم، قال القرطبي: والعُتبى: رجوعُ المعتوب عليه إلى ميُرضي العاتب، تقول: استَعتبتُه فأعْتبني أي استرضيتُه فأرضاني {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ} أي هيأنا للمشركين ويسَّرنا لهم قرناء سوء من الشياطين، ومن غواة الإِنس {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي حسَّنوا لهم أعمالهم القبيحة، الحاضرة والمستقبلة قال ابن كثير: حسنوا لهم أعمالهم فلم يروا أنفسهم إلا محسنين {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي ثبت وتحقق عليهم كلمة العذاب، وهو القضاء المحتَّم بشقائهم {في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس} أي في جملة أمم من الأشقياء المجرمين قد مضت من قبلهم، ممن فعلوا كفعلهم من الجنِّ والإِنس {إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ} تعليلٌ لاستحقاقهم العذاب أي لأنهم كانوا من الخاسرين في الدنيا والآخرة، فلذلك استحقوا العذاب الأبدي {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن} لما أخبر تعالى عن كفر عاد وثمود وغيرهم، أخبر عن مشركي قريش وأنهم كذبوا القرآن والمعنى قال الكافرون بعضهم لبعض لا تستمعوا لمحمد إذا قرأ القرآن، وتشاغلوا عنه.
{والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي ارفعوا أصواتكم عند قراءته حتى لا يسمعه أحد لكي تغلبوه على دينه قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول {فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً} أي فوالله لنذيقنَّ هؤلاء المستهزئين عذاباً شديداً لا يخف ولا ينقطع {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ولنجازيهنم بشر أعمالهم، وسيء أفعالهم، أسوأُ وأقبح الجزاء {ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار} أي ذلك العذاب الشديد الذي هو أسوأُ الجزاء هو نار جهنم جزاء المجرمين، أعداء الله ورسوله {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} أي لهم في جهنم دار الإِقامة، لا يخرجون منها أبداً {جَزَآءً(3/112)
بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} أي جزاءً له على كفرهم بالقرآن، واستهزائهم بآيات الرحمن قال الرازي: وسمَّى لغوهم بالقرآن جحوداً لأنهم لما علموا أن القرآن بالغٌ إلى حد الإِعجاز، خافوا إن سمعه الناس أن يؤمنوا به، فاخترعوا تلك الطريقة الفاسدة، وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً إلا أنه جحدوه حسداً {وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس} أي ويقول الكفار إذا دخلوا جهنم ربنا أرنا كل من إغوانا وأضلنا من الجن والإِنس، وإِنما جاء بلفظ الماضي «وقال» لتحققه ومعناه المستقبل قال أبو حيان: والظاهر أن المراد ب {الَّذِينَ} يراد بهما الجنس أي كل مغوٍ من هذه النوعين {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} أن نطأْهما بأقدامنا انتقاماً وتشفياً {لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} أي ليكونا في الدرك الأسفل من النار، وهي أشد عذاب جهنم لأنها درك المنافقين، ولما ذكر تعالى حال الأشقياء المجرمين، أردفه بذكر حال السعداء المؤمنين فقال {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} أي آمنوا بالله إيماناً صادقاً وأخلصوا العمل له، ثم استقاموا على توحيد الله وطاعته، وثبتوا على ذلك حتى الممات، عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال على المنبر بنعد أن تلا الآية الكريمه: «استقاماو واللهِ على الطريقة لطاعته، ثم لم يروغوا روغان الثعالب» والغرضُ أنه استقاموا على شريعة الله، في سولكهم، وأخلاقهم وأقوالهم، وأفعالهم، فكانوا مؤمنين حقاً، مسلمين صدقاً، وقد سئل بعض العارفين على تعريف الكرامة فقال: الاستقامةُ عينُ الكرامة، وعن الحسن أنه كان يقول: اللهمَ أنت ربنا فارزقنا الاستقامة {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} أي تتنزل عليهم ملائكة الرحمة عند الموت بأن لا تخافوا ممَّا تقدمون عليه من أحوال القيامة، ولا تحزنوا على ما خلفتموه في الدنيا من أهلٍ ومالٍ وولد فنحن نخلفكم فيه {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي وأبشروا بجنة الخلد التي وعدكم الله بها على لسان الرسل قال شيخ زاده: إن الملائكة تتنزلُّ حين الاحتضار على المؤمنين بهذه البشارة أن لا تخافوا من هول الموت، ولا من هو القبر، وشدائد يوم القيامة، وإن المؤمن ينظر إلى حافظيه قائمين على رأسه يقولان لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنة التي كنت توعد، وإنك سترى اليوم أموراً لم تر مثلها فلا تهولنك فإنما يراد بها غيرك {نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة أي تقول لهم الملائكة: نحن أنصاركم وأعوانكم في الدنيا والآخرة، نرشدكم إلى مافيه خيركم وسعادتكم في الدارين {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أي ولكم في الجنة ما تشتهيه نفوسكم، وتقرُّ به عيونُكم من أنواع اللذائذ والشهوات، ولكم فيها ما تطلبون وتتمنون {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} أي ضيافة وكرامة من ربٍ واسع المغفرة، عظيم الرحمة لعباده المتقين {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين} أي دعا إلى توحيد الله وطاعته، بقوله وفعله وحاله، وفعل الصالحات، وجعل الإِسلام دينه ومذهبه قال ابن كثير: وهذه الآية معامة في كل من دعا إلى خير وهو نفسه مهتدٍ، وقال الزمخشري: والآية عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث: أن يكون مؤمنا معتقدا لدين الإِسلام، عاملا بالخير، داعيا إليه، وما هم إلا طبقة العلماء(3/113)
العاملين {وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة} أي لا يتساوى فعل الحنسة مع فعل السيئة، بل بينهما فرقٌ عظيم في الجزاء وحسن العاقبة {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن، مثل أن تدفع الغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإِسارة بالعفو قال ابن عباس: ادفع بحلمك جهل من جهل عليك {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أي فإذا فعلت ذلك صار عدوك كالصديق القريب، الخالص الصداقة في مودته ومحبته لك {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} أي وما ينال هذه المنزلة الرفيعة، والخصلة الحميدة، إلاّ من جاهد نفسه بكظم الغيظ واحتمال ُالأذى {وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي وما يصل إليها وينالها إلا وينالها إلا ذو نصيب وافر من السعادة واحتمال والخير {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} أي وإن وسوس إليك الشيطان بترك ما أُمرت به من الدفع بالتي هي أحسن، وأراد أن يحملك على البطش والانتقام، فاستعذ بالله من كيده وشره {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} أي هو السميع لأقوال العباد، العليم بأفعالهم وأحوالهم، ثم ذكر تعالى دلائل قدرته الباهرة، وحكمته البالغة فقال {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر} أي ومن علاماته الدالة على وحدانيته وقدرته تعاقب الليل والنهار، وتذليل الشمس والقمر، مسخَّرين لمصالح البشر {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ} أي لا تسجدوا للمخلوق واسجدوا للخالق، الذي خلق هذه الأشياء وأبدعها {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن كنتم تفردونه بالعبادة فلا تسجدوا لأحدٍ سواه {فَإِنِ استكبروا} أي فإِن استكبر الكفار عن السجود لله {فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار} أي فالملائكة الأبرار يعبدونه بالليل والنهار {وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} أي لا يملّون عبادته.(3/114)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
المنَاسَبَة: لما ذكر صفات المؤمنين الأبرار، وأردفها بذكر الدلائل الدالة على وجوده سبحانه ووحدانتيه، وكمال علمه وحكمته، ذكر هنا ما يدل على البعث والنشور، من صفحات هذا الكون المنظور، ثم أعقبه بذكر الملحدين في آياته، المكذبين برسله وأنبيائه، وختم السورة الكريمة بيان حال الأشقياء المجرمين، المنكرين للقرآن العظيم.
اللغَة: {يُلْحِدُونَ} يمليون عن الحق والاستقامة، والإِلحادُ: الميلُ والعدول يقال: ألحد في دين الله أي حاد عنه وعدل {أعْجَمِيّاً} بلغة العجم {وَقْرٌ} صممٌ مانع من سماعه {أَكْمَامِهَا} جمع كُمَّ وهو وعاء الثمرة بضم الكاف وكسرها (مَّحِيصٍ} فرار ومهرب من حاص يحيصُ حيصاً إذا هرب {نأ} تباعد وأعرض {الآفاق} أقطار السموات والأرض {مِرْيَةٍ} شك وارتياب عظيم.
التفسِير: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً} أي ومن البراهين والعلاقات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته، أنك ترى الأرض يابسة جرداء لا نبات فيها، تشبه الرجل الخاضع الذليل {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ} أي فإِذا أنزلنا عليها المطر تحركت حركة شديدة وانتفحت وعلت بالنبات، وأخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار {إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى} أي إن الإِله الذي أحيا الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الأموات ويبعثهم من القبور {إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه جل وعلا شيءٌ، فكما أخرج الزروع والثمار من الأرض المجدبة، فإِنه قادر على إحياء الموتى. . ثم توعَّد تعالى من يلحد في آياته بعد ظهور الأَدلة والبراهين على وجوده فقال {إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ} أي إن الذين يطعنون في آياتنا، بالتحريف والتكذيب والإِنكار لها لا يغيب أمرهم عنا فنحن لهم بالمرصاد، وفيه وعيد وتهديد قال قتادة: الإِلحادُ الكفر والعناد وقال ابن عباس: هو تبديلُ الكلام ووضعه في غير موضعه {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة} أي أفمن يُطرح في جهنم مع الخوف والفزع أفضل أم من يكون في الجنة آمناً من عذاب الله يوم(3/115)
القيامة؟ قال الرازي: والغرضُ التنبيهُ على أن الملحدين في آيات الله يُلقون في النار، وأن المؤمنين بآيات الله يكونون آمنين يوم القيمة، وشتَّان ما بينهما {اعملوا مَا شِئْتُمْ} أي افعلوا ما تشاءون في هذه الحياة، وهو تهديدٌ لا إباحة ملفَّع بظل الوعيد، بدليل قوله تعالى {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي هو تعالى مطّلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية، من أحوالكم، وسيجازيكم عليها {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَآءَهُمْ} أي إن الذين كذبوا بالقرآن حين جاءهم من عند الله، وخبر «إنَّ» محذوفٌ لتهويل الأمر كأنه قيل: سيجازون يكفرهم جزاءً لا يكاد يوصف لشدة بشاعته وفظاعته {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} أي وإِنه لكتاب غالب بقوة الحجة، لا نظير له لما احتوى عليه من الإِعجاز، يدفع كل جاحج، ويقمع كلَّ معاند {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} أي لا يتطرق إليه الباطل من جهةٍ من الجهات، ولا مجال للطعن فيه قال ابن كثير: أي ليس للبطلان إليه سبيل، لأنه منزَّل من رب العالمين {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أي هو تنزيلٌ من إله حكيم في تشريعه وأحواله وأفعاله، محمود من خلقه بسبب كثرة نعمه.
. ثم سلَّى تعالى نبيَّه على ما يصيبه من أذى الكفار فقال {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} أي ما يقول لك كفار قومك، إلاّ ما قد قال الكفار للرسل قبلهم من الكلام المؤذي، والطعن فيما أنزل الله قال القرطبي: يُعزّي نبيه ويُسلّيه من أذى وتكذيب قومه {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} إي إن ربك يا محمد لهو الغفور لذنوب المؤمنين، ذو العقاب الشديد للكافرين، ففوِّضْ أمرك إليه فإنه ينتقم من أعدائك، ثم ذكر تعالى تعنُّت الكافرين ومكابرتهم للحقِّ بعد سطوعه وظهوره فقال {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً} أي لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم {لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أي لقال المشركون: هلاَّ بُيّنت آياته بلسانٍ نفهمه وهلاَّ نزل بلغتنا {ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ؟ استفهام إنكاري أي أقران أعجميٌ ونبيٌ عربي؟ قال الرازي: ذكروا أن الكفار كانوا يقولون لتعنتهم: هلاَّ نزول القرآن بلغة العجم؟ {فأجيبوا بأن الأمر لو كان كما تقترحون لم تتركوا الاعتراض، ثم قال: والحقُّ عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحدٌ متعلق بعضُه ببعض، وقد حكى تعالى عنهم في أول السورة أهم قالوا {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] فردَّ تعالى عليهم هنا بأنه لو أنزل هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب} {ولصحَّ لهم أن يقولوا {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه} ! أما وقد نزل بلغة العرب، وهم من أهل هذه اللغة، فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك؟ فظهر أن الآية على أحسن وجوه النظم {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ(3/116)
هُدًى وَشِفَآءٌ} أي قل لهم يا محمد: إن هذا القرآن هدى للمؤمنين من الضلالة، وشفاء لهم من الجهل والشك والريب {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أي والذين لا يصدّقون بهذا القرآن، في آذانهم صممٌ عن سماعه، ولذلك تواصوا باللغو فيه {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أي كما أن هذا القرآن رحمة للمؤمنين، هو شقاء وتعاسة على الكافرين كقوله تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} [الإِسراء: 82] قال في حاشية البيضاوي: إن القرآن لوضوح آياته، وسطوع براهينه، هادٍإلى الحق، ومزيل للريب والشك، وشفاء من داء الجهل والكفر والارتياب، ومن ارتاب فيه ولم يؤمن به، فارتيابه إنما نشأ عن توغله في اتباع الشهوات، وتقاعده عن تفقد ما يُسعده وينجيه {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} أي أولئك الكافرون بالقرآن، كمن يُنادي من مكان بعيد، فإِنه لا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به، وهذا على سبيل التمثيل قال ابن عباس: يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاءً ونداءً {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ} أي والله لقد أعطينا موسى التوراة فاختلف فيها قومه ما بين مصدِّق لها ومكذِب، هكذا حال قومك بالنسبة للقرآن قال القرطبي: وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي لا يحزنك اختلاف قومك في كتابك، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم، فآمن به قوم وكذَّب به قوم {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي ولولا أن الله حكم بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة لعذَّبهم وأهلكهم في الدنيا {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} أي وإن هؤلاء الكفار لفي شكٍ من القرآن، لتبلد عقولهم وعمى بصائرهم، موقع لهم في أشد الريبة والاضطراب {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} أي من عمل شيئاً من الصالحات في هذه الدنيا فإِنما يعود نفع ذلك على نفسه، ومن أساء في الدنيا فإِنما يرجع وبال ذلك وضرره عليه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي وليس الله منسوباً إلى الظلم حتى يعذِّب بغير إساءة، فهو تعالى لا يعاقب أحداً إلا بذنبه، ولا يعاقبه إلا بجرمه قال المفسرون: ليست صغية «ظلاَّم» هنا للمبالغة، وإِنما هي صيغة نسبة مثل عطَّار، ونجَّار، وتمَّار، ولو كانت للمبالغة لأوهم أنه تعالى ليس كثير الظلم ولكنه يظلم أحياناً، وهذا المعنى فاسد لأنه يستحيل عليه الظلم جل وعلا {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة} أي إليه تعالى وحده علم وقت الساعة لا يعلمه غيره قال الإمام الفرخ: أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا اللهُ، ومناسبتُها لما قبلها أنه تعالى لما هدَّد الكفار بقوله {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} ومعناه أن جزاء كل أحدٍ يصل إليه في يوم القيامة، فكألأن سائلاً قال: ومتى يكون ذلك اليوم؟ فبيَّن تعالى أن معرفة ذلك اليوم لا يعلمه إلا الله {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا} أي وما تخرج ثمرةٌ من الثمرات من غلافها ووعائها {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} أي ولا تحمل أنثى جنيناً في بطنها، ولا تلده إلا ملتبساً بعلمه تعالى، لا يعزبُ عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء {(3/117)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي} ؟ أي ويوم القيامة ينادي الله المشركين أين شركائي الذين زعمتم أنهم آلهة؟ وفي تقريعٌ وتهكمٌ بهم {قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} أي قال المشركون: أعلمناك وأخبرناك الآن بالحقيقة ما مّنا من يشهد اليوم بأنَّ لك شريكاً في المفسرون: لما عاينوا القيامة تبرءوا من الأصنام وتبرأت الأصنم منهم أي وأعلنوا إيمانهم وتوحيدهم في وقت لا ينفع فيه إِيمان {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ} أي وغاب عنهم ما كنوا يعبدونه في الدنيا من الآلهة المزعومة {وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} أي وأيقنوا أنه لا مهرب ولا مخلص لهم من عذاب الله {لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير} أي لا يملُّ الإِنسان من سؤاله ودعائه بالخير لنفسه، كالمال والصحة العز والسلطان {وَإِن مَّسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} أي وإن أصابه فقر أو مرض فهو عظيم اليأس، قانطاٌ من ورح الله ورحمته {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} أي ولئن أعطيناه غنى وصحة من بعد شدة وبلاء {لَيَقُولَنَّ هذا لِي} أي ليقولنَّ هذا بسعْيي واجتهادي قال أبو حيان: سمَّى النعمة رحمة إذ هي من آثار رحمة الله {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً} أي وما أعتقد أن القيامة ستكون {وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} أي وعلى فرض أن القيامة حاصلة، فليحسننَّ إليَّ ربي كما أحسن إليَّ في هذه الدنيا قال ابن كثير: يتمنى على الله عَزَّ وَجَلَّ مع إساءته العمل وعدم اليقين {فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ} أي فواللهِ لنعلِمنَّ هؤلاء الكافرين بحقيقة أعمالهم، ولنبصرنَّهم بإِجرامهم {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي ولنعذبنَّهم أشد العذاب، وهو الخلود في نار جهنم {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي وإذا أنعمنا على الإِنسان أعرض عن شكر ربه، واستكبر عن الانقياد لأوامره، وشمخ بأنفه تكبراً وترفعاً {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} أي وإِذا أصابه المكروه فهو ذو دعاء كثير، يديم التضرع ويكثر من الابتهال، وهكذا طبيعة الإِنسان الجحود والنكران، يعرف ربه في البلاء وينساه في الرخاء قال الرازي: استعير العرض لكثرة الدعاء، كما استعير الغلظ لشدة العذاب {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} أي قل لهم يا محمد: أخبروني يا معشر المشركين، إن كان هذا القرآن من عند الله، وكفرتم به من غير تأمل ولا نظر، كيف يكون حالكم؟ {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أضلُ منكم لفرط شقاقكم وعداوتكم، قال أبو السعود: وضع الموصول «من أضلُّ» موضع الضمير «منكم» شرحاً لحالهم، وتعليلاً لمزيد ضلالهم {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} أي سنظهر لهؤلاء المشركين دلالاتنا وحجبنا عل أن القرآن حقٌ منزل من عند الله {فِي الآفاق} أي في أقطار السمواتِ والأرض من الشمس والقمر والنجوم، والأشجار والنبات وغير ذلك من العجائب العلوية والسفلية {وفي أَنفُسِهِمْ} أي وفي عجائب قدرة الله في خلقهم وتكوينهم قال القرطبي: المراد ما في أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحكمة، حتى سبيل الغائط والبول، فإِن الرجل يأكل ويشرب من مكان واحدٍ، ويتميز ذلك من مكانين، ومن بديع صنعة الله وحكمته في غينيه اللتين هما قطرة ماء، ينظر بهما من الأرض إلى(3/118)
السماء، مسيرة خمسمائة عام، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة، وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه {حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} أي حتى يظهر لهم أن هذال القرآن حق {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؟ أي أولم يكفهم رهاناً على صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء؟ وأنه مطَّلع على كل شيء لا تخفى عليه خافية؟ {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ} ألا استفتاحٌ لتنبيه السامع إلى ما يقال أي ألا فانتبهوا أيها القوم إن هؤلاء المشركين في شكٍ من الحساب والبعث والجزاء، ولهذا لا يتفكرون ولا يمنون {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} أي ألا فانتهوا فإنه تعالى قد أحاط علمه بكل الأشياء جملة وتفصيلاً، فهو يجازيهم على كفرهم.
البَلاَغة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {بَشِيراً. . وَنَذِيراً} وبين {طَوْعاً. . وكَرْهاً} وبين {مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. . وَمَا خَلْفَهُمْ} وبين {الحسنة. . والسيئة} وبين {مَغْفِرَةٍ. . وعِقَابٍ} وبين {ءَاعْجَمِيٌّ. . وعَرَبِيٌّ} وبين {تَحْمِلُ. . وتَضَعُ} وبين {الخير. . والشر} .
2 - طباق السلب {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ. . واسجدوا لِلَّهِ} وكذلك {آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ} .
3 - الالتفات {فَإِنْ أَعْرَضُواْ} [فصلت: 13] بعد قوله {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} [فصلت: 9] وهو التفات من الخطاب إلى الغيبة، وناسب الإِعراض عن مخاطبتهم لكونهم أعرضوا عن الحق، وهو تناسب حسن.
4 - الاستعارة التمثيلية {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} [فصلت: 11] مثَّل تأثير قدرته تعالى في السموات والأرض بأمر السلطان لأحد رعيته أو عبيده بأمر من الأمور وامتثال الأمر سريعاً.
5 - الاستعارة التصريحية {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] ليس هناك على الحقيقة شيء مما قالوه، وإِنما أخرجوا هذا الكلام مخرج الدلالة على استثقالهم ما يسمعونه من قوارع القرآن، وجوامع البيان، فكأنهم من شدة الكراهية له قد صُمَّت أسماعهم عن فهمه، وقلوبهم عن علمه.
6 - الاستعارة أيضاً {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} شبّه حالهم في عدم قبول المواعظ، وإِعراضهم عن القرآن وما فيه بحال من يُنادى من مكان بعيد، فلا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به، والجامع عدم الفهم في كلٍ.
8 - الأمر التهديدي {اعملوا مَا شِئْتُمْ} خرج الأمر عن صيغته الأصلية إلى معنى الوعيد والتهديد.
9 - التشبيه المرسل المجمل {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] ذكرت أداة التشبيه وحذف وجه الشبه فهو مرسل مجمل.
10 - إن اللسان عاجز عن تصوير البلاغة في جمال الأسلوب القرآني، فتأمل الروعة البيانية في(3/119)
قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وتصور التناسق الفني في التعبير والأداء، وتأمل لفظ الخشوع والاهتزاز والانتفاخ للأرض الميتة يبعثها الله كما يبعث الموتى من القبور، إنه جو بعث وإِخراج وإِحياء، ويا له من تصوير رائع يأخذ بالألباب.(3/120)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
اللغَة: {يتفطَّرنْ) يتشققن، والفطور: الشقوق ومنه {هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3] {فاطر} خالد ومبدع ومخترع {يَوْمَ الجمع} يقوم القيامة لاجتماع الخلائق فيه {أُمَّ القرى} مكة المكرمة {يَذْرَؤُكُمْ} ينشئكم وكثِّركم {مَقَالِيدُ} مفاتيح جمع إقليد على غير قياس {شَرَعَ} بيَّن وسنَّ وأوضح {كَبُرَ} عظم وشقَّ {يُنِيبُ} يرجع ويتوب من ذنبه {مُرِيبٍ} موقع في الريبة والقلق {دَاحِضَةٌ} باطلة وزائلة يقال: دحضت حجته أي بطلت، ودَحضت رجله أي زلقت.
التفسِير: {حم عسق} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وإثارة انتباه الإِنسان بحروف أولية، وبدءٍ غير مألوف {كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم} أي مثل ما أوحى إليك ربك يا محمد هذا القرآن، أوحى إلى الرسل من قبلك في الكتب المنزلة، اللهُ العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي ما له ما في الكون مالكاً وخلقاً وعبيداً {وَهُوَ العلي العظيم} أي هو المتعالي فوق خلقه، المنفرد بالكبرياء والعظمة {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي تكاد السمواتُ يتشققن من عظمة الله وجلاله، ومن شناعة ما يقوله المشركون من اتخاذ الله الولد {والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي والملائكةُ الأبرار دائبون في تسبيح الله، ينزهونه عما لا يليق به {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} أي ويطلبون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين قال في التسهيل: والآية عمومٌ يراد به الخصوص لأن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض، فهي كقوله تعالى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [غافر: 7] {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} أي ألاَ فانتبهوا أيها القوم إن الله هو الغقور لذنوب عباده، الرحيم بها حيث لا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وعصيانهم قال القرطبي: هيَّب وعظَّم جل وعلا في الابتداء، وألطف وبشَّر في الانتهاء {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} أي جعلوا له شركاء وأنداداً {الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي اللهُ تعالى رقيبٌ على أحوالهم وأعمالهم، لا يفوقه منها شيءٌ، وهو محاسبُهم عليها {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي وما أنت يا محمد بموكَّل على أعمالهم حتى تقسرهم على الإِيمان، إنما أنت منذرٌ فحسب {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أي وكما أوحينا إلى الرسل قبلك أوحينا إليك يا محمد قرآناً عربياً معجزاً، بلسان العرب لا لبس فيه ولا غموض {لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا} أي لتنذر بهذا القرآن أهل مكة ومن حولها من البلدان قال الإِمام الفخر: وأمُّ القُرى أصلُ القرى وهي مكة، وسميت بهذا الاسم إجلالاً لها، لأن فيها البيت ومقام إبراهيم، والعربُ تسمي أصلُ كل شيءٍ أمه، حتى يقال: هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} أي وتخوّف الناس ذلك اليوم الرهيب، يوم اجتماع الخلائق للحساب في صعيدٍ واحد {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي لاشك في وقوعه، ولا محالة من حدوثه {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} أي فريقٌ منهم في جنات النعيم وهو المؤمنون، وفريق منهم في دركات الجحيم وهم الكافرون، حيث ينقسمون بعد الحساب إلى أشيقاء وسعداء كقوله تعالى
{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ(3/123)
أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لجعل الناس كله مهتدين، أهل دينٍ واحدٍ وملةٍ واحدة وهي الإِسلام قال الضحاك: أهل دينٍ واحد، أهل ضلالةٍ أو أهل هُدى {ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي ولكنَّه تعالى حكيمٌ لا يفعل إلاَّ ما فيه المصلحة، فمن علم منه اختيار الهدى يهديه فيدخله في جنته، ومن علم منه اختيار الضلال يضلُّه فيدخله بذلك السعير ولهذا قال {والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي والكافرون ليس لهم وليٌّ يتولاهم يوم القيامة، ولا نصيرٌ ينصرهم من عذاب الله قال أبو حيان: والآية تسليةٌ للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمَّا كان يقاسيه من كفر قومه، وتوقيفٌ على أنَّ ذلك راجعٌ إلى مشيئته جلال وعلا، ولكنْ من سبقت له السعادة أدخله في رحمته يعني دين الإِسلام {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} استفهامٌ على سبيل الإِنكار أي بل اتخذ المشركون من دون الله آلهة، يستعينون بهم، ويطلبون نصرهم وشفاعتهم؟ {فالله هُوَ الولي} أي فاللهُ وحده هو الوليُّ الحقُّ، الناصرُ للمؤمنين، لا وليَّ سواه {وَهُوَ يُحْيِي الموتى} أي هو تعالى القادر على إحياء الموتى، لا تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه شيء فهو الحقيق بأن يُتخذولياً دون من سواه {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} أي وما اختلفتم فيه أيها المؤمنون من شيء من أمر الدنيا أو الدين، فالحكم فيه إلا الله جل وعلا، هو الحاكم فيه بكتابه أو بسنة نبيه عليه السلام {ذَلِكُمُ الله رَبِّي} أي الموصوف بهذه الصفات هو ربي وحده، وَليِّي ومالك أمري قال القرطبي: وفيه إضمارٌ أي قل لهم يا محمد: ذلك الذي يُحيي الموتى، ويحكم بين المختلفين هو ربّي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه وحده اعتمدت في جميع أموري {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي وإِليه وحده أرجع في كل ما يعرض عليَّ من مشكلاتٍ ومعضلات، لا إلى أحدٍ سواه قال الرازي: والعبارة تفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً. . ثم بيَّن تعالى صفاته الجليلة القدسية، التي هي من آثار ومظاهر الربوبية فقال {فَاطِرُ السماوات والأرض} أي هو جل وعلا خالقهما ومبدعهما على غير مثالٍ سابق {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} أي أوجد لكم بقدرته من جنسكم نساءً من الآدميات {وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً} أي وخلق لكم كذلك من الإِبل والبقر والضأن والمعز أصنافاً، ذكوراً وإناثاً {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي يكثّركم بسببه بالتوالد، ولولا أنه خلق الذكر والأثنى لما كان ثَمة تناسلٌ ولا توالدٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس له تعالى مثيلٌ ولا نظير، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهوالواحد الأحد، الفردُ الصمد والغرضُ: تنزيهُ الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، والكاف هنا لتأكيد النفي أي ليس مثله شيءٌ، قال ابن قتيبة: العربُ تقيم المثل مقام النفس فتقول: مثلي لا يُقال له هذا أي أنا لا يُقال لي هذا، ومعنى الآية ليس كالله جل وعلا شيءٌ وال القرطبي: والذي يُعتقد في هذا الباب أن الله جلَّ اسمُه في عظمته وكبريائه، وملوكته وحُسنى أسمائه، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا يُشبَّه به أحد، وما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذْ صفاتُ القديم عزَّ وجلَّ بخلاف صفات(3/124)
المخلوق، وإذْ صفِاتُهنم لا تنفك عن الأعراض والأغراض، وهو تعالى منزَّه عن ذلك، وقد قال بعض المحقيين: التوحيدُ إثباتُ ذاتٍ غير مشهبةٍ للذوات، ولا معطَّلة من الصفات، وزاد الواسطيُّ فقال: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، وهذا مذهب أهل الحق، أهل السنة والجماعة {وَهُوَ السميع البصير} أي وهو تعالى السميع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم {لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض} أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائنهما من المطر والنبات وسائر الحاجات {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسِّعُ الرزق على من يشاء، ويضيّق على من يشاء، حسب الحكمة الإلهية {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعليل لما سبق أي لأن علمه تعالى محيط بكل الأشياء، فهو واسع العلم، يعلم إذا كان الغنى خيراً للعبد أو الفقر {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أي سنَّ وبيَّن لكم أيها المؤمنون من الشريعة السمحة والدين الحنيف، ما وصَّى به الرسل، وأرباب الشرائع من مشاهير الأنبياء، كنوح ومحمد عليه السلام {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى} أي وما أمرنا به بطريق الإِلزام إبراهيم وموسى وعيسى من أصول الشرائع والأحكام قال الصاوي: خصَّ هؤلاء بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء، وأولوا العزم، وأصحاب المعظمة، فلكل واحد من هؤلاء الرسل شرعٌ جديد، وأمَّا من عداهم، فإِنما كان يبعث بتبليغ شرع من قبله، ولم يزل الأمر يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء، واحداً بعد واحد، وشريعةً إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملةِ أكر الرسل نبينا محمد صلى الله عليه ووسلم، فتبيَّن أن شرعنا معشَر الأمة المحمدية قد جمع جميع الشرائع المتقدمة في أصول الاعتقادات، وأصول الأحكام ولهذا قال تعالى {أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} أي وصيناهم بأن أقيموا الدين الحق دين الإِسلام الذي هو توحيدُ الله وطاعتُه، والإِيمان بكتبه ورسله، وبالبعث والجزاء قال القرطبي: المراد اجعلوا الدين قائماً مستمراً محفوظاً من غير خلافٍ فيه واضطراب، في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة وهي: التوحيد، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغيرها فهذا كله مشروعاً ديناً واحداً وأملة متحدة.
{كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أي عظمُ وشقَّ على الكفار ما تدعوهم إليه من عبادة الله، وتوحيد الواحد القهار {الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} أي اللهُ يصطفي ويختار للإِيمان والتوحيد من يشاء من عباده، ويهدي إلى دينه الحق من يرجع إلى طاعته، فيوفقه له ويقربه إليه رحمةً وإكراماً {وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} أي وما تفرَّق أهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم إلاّ من بعد ما قامت عليهم الحجج والبراهين من النبي المرسل إليهم {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي ظلماً وتعدياً، وحسداً وعناداً {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي ولولا أن الله قضى بتأخير العذاب عنهم إلىيوم القيامة {لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} أي لعجَّل لهم العقوبة في الدنيا سريعاً باستئصالهم قال ابن كثير: أي لولا الكلمة السالفة من الله تعالى بإِنظار العباد إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة سريعاً {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} أي وإِن بقيَّة أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من(3/125)
بعد أسلافهم السابقين {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} أي لفي شك من التوراة والإِنجيل، موقع لهم في أشد الحيرة والريبة، لأنهم ليسوا على يقين من أمر دينهم وكتابهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان قال البيضاوي: لا يعلمون كتابهم كما هو ولا يؤمنون به حق الإِيمان، فهم في شك مقلق {فَلِذَلِكَ فادع واستقم كَمَآ أُمِرْتَ} أي فلأدل الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك، فادع يا محمد إليه ولزم النهج القويم مع الاستقامة كما أمرك ربك {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} أي ولا تتبع أهواء المشركين الباطلة فيما يدعونك إليه من ترك دعوة التوحيد {وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ} أي صدَّقت بكل كتابٍ أنزله الله تعالى قال الرازي: يعني الإِيمان بجميع الكتب السماوية، لأن أهل الكتاب المتفرقين في دينهم آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي وأمرني ربي بأن أعدل بينكم في الحكم قال ابن جزي: يعني العدل في الأحكام إذا تخاصموا إليه {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي الله خالقنا جميعاً ومتولي أمورنا فيجب أن نفرده بالعبادة {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم، من خير أو شرٍّ، لا نستفيد من حسناتكم ولا نتضرر من سيئاتكم قال ابن كثير: هذا تبرؤٌ منهم أي نحن برآء منكم كقوله تعالى
{وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41] {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي لا جدال ولا مناظرة بيننا وبينكم، فإن الحقَّ قد ظهر وبَانَ كالشمس في رابعة النهار، وأنتم تعاندون وتكابرون {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المصير} أي الله يجمع بيننا يوم القيامة لفصل القضاء، وإليه المرجع والمآب فيجازي كل أحدٍ بعمله من خير وشر قال الصاوي: والغرضُ أن الحقَّ قد ظهر، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجة ولا جدل، والله يفصل بين الخلائق يوم المعاد، ويجازي كلاً بعمله {والذين يُحَآجُّونَ فِي الله} أي يخاصمون في دينه لصدِّ الناس عن الإِيمان {مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ} أي من بعد ما استجاب الناسُ له ودخلوا في دينه {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أي حجتهم باطلة لا ثبوت لها عند الله قال ابن عباس: نزلت في طائفةٍ من بني إسرائيل همَّت برد الناس عن الإِسلام وإضلالهم ومحاجتهم بالباطل {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي وعليهم غضب عظيم في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة، {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق} أي نزَّل القرآن وسائر الكتب الإِلهية متلبساً بالصدق القاطع، والحقِّ الساطع، في أحكامه وتشريعاته وأخباره {والميزان} أي ونزَّل الميزان أي العدل والإِنصاف، فهو من تسمية الشيء باسم السبب {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} أي وما ينبئك أيها المخاطب لعلَّ وقت الساعة قري؟ فإن الواجب على(3/126)
العاقل أن يحذر منها، ويستعدُّ لها. قال أبو حيان: ووجه اتصال الآية بما سبق أن الساعة يوم الحساب فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} أي يستعجل بالقيامة المشركون الذين لا يُصدِّقون بها فيقولون على سبيل الاستهزاء: متى تكون؟ {والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي والمؤمنون المصدِّقون بها خائفون وجلون من قيامها {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق} أي وعلمون أنها كائنة وحاصلة لا محالة {أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} أي الذين يُجالدون في أمر القيامة في ضلالٍ بعيد عن الحق، لإِنكارهم عدل الله وحكمته.(3/127)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الساعة وما يلقاه عند قيامها المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار من الحساب والجزاء، ذكر هنا أنه لطيف بالعباد لا يعاجل العقوبة للعصاة مع استحقاقهم للعذاب، ثم ذكر مآل المتقين، ومآل المجريمن في الآخرة، دار العدل والجزاء.
اللغَة: {لَطِيفٌ} برٌّ رفيقٌ رحيم {حَرْثَ الآخرة} الحرثُ في الأصل: إلقاء البذور في الأرض، ويطلق على الزرع الحاصل منه، ثم استعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة {(3/127)
الفصل} القضاء السابق {يَقْتَرِفْ} يكتسب {رَوْضَاتِ} جمع روضة وهو الموضع الكثير الأزهار والأشجار والثمار كالمنتزه وغيره {يَقْتَرِفْ} يكتسب {الغيث} المطر سمي غيثاً لأنه الخلق {قَنَطُواْ} يئسوا {بَثَّ} فرَّق ونشر {بِمُعْجِزِينَ} فائتين من عذاب الله بالهرب.
التفسِير: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} أي بارٌّ رحيم بالخلق كثير الإِحسان بهم، يفيض عليهم من الخيرات والبركات مع عصيانهم قال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم {يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} أي يوسِّع الرزق على من يشاء قال القرطبي: وفي تفضيل قومٍ بالمال حكمه، ليحتاج البعضُ إلى البعض، وهذا من لطفه بالعباد، وأيضاً ليتمحن الغنيَّ بالفير، والفقير بالغني كقوله تعالى {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] ؟ {وَهُوَ القوي} أي القادر على كل ما يشاء {العزيز} أي الغالبُ الذي لا يُغالب ولا يُدافع ثم لما بيَّن كونه لطيفاً بالعباد، كثير الإِحسان إليهم، أشار إلى أن الإِنسان ما دام في هذه الحياة فعلية أن يسعى في طلب الخيرات لأسباب السعادة فقال {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها، نزدْ له في أجره وثوابه، بمضاعفة حسناته {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي ومن كان يريد بعمله متاع الدنيا ونعيمها فقط، نعطه بعض ما يطلبه من المتاع العاجل ممَّا قُدر له {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} أي وليس له في الآخرة حظٌ من الثواب والنعيم قال الزمخشري: سمَّى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز، وفرَّق بينهما بأن عمل للآخرة ضوعفت حسناته، ومن عمل للدنيا أُعطي شيئاً منها لا ما يريده ويبتغيه وقال افي التسهيل: حرثُ الآخرة عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعارٌ من حرث الأرض، لأن الحرَّاث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل، ثم أخذ ينكر على الكفار عبادتهم لغير الله، مع أنه الخالق المتفضل على العباد فقال {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} ؟ الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي ألهؤلاء الكفار شركاء من الشياطين أو آهلة من الأوثان، شرعوا لهم الشرك والعصيان الذي لم يأمر به الله؟ قال شيخ زاده: وإسنادٌ الشرع إلى الأوثان، وهي جمادات إسنادُ مجازي، ومن إسناد الفعل إلى السبب، وسمَّاه ديناً للماشكلة والتهكم {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لولا أنَّ الله حكم وقضى في سابق أزله أن الثواب والعقاب يكونان يوم القيامة لحكم بين الكفار والمؤمنين، بتعجيل العقوبة للظالم، وإِثابة المؤمن {وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وإِن الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان لهم غذابٌ مرجع مؤملم {تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ} أي ترى أيها المخاطب الكفارين يوم القيامة خائفين خوفاً شديداً من جزاء السيئات التي ارتكبوها في الدنيا {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي والجزاء عليها نازلٌ بهم يوم القيامة لا محالة، سواءً خافوا أو لم يخافوا {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات} أي والمؤمنون الصالحون في(3/128)
رياض الجنة يتمتعون، في أطيب بقاعها، وفي أعلى منازلها {لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} أي لهم في الجنات ما يشتهونه من أنواع اللذائذ والنعيم والثواب العظيم عند رب كريم قال ابن كثير: فأين هذا من هذا؟ أين من هو في الذل والهوان، ممن هو في روضات الجنان؟ فيا يشاء من مآكل ومشارب وملاذ؟ ولهذا قفال تعالى {ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير} أي ذلك النعيم والجزاء هو الفوز الأكبر الذي لا يوازيه شيء قال القرطبي: أي الفضل الذي لا يوصف، ولا تهتدي العقول إلى حقيقة صفته، لأن الحقَّ جلا وعلا إذا قال «كبير» فمن ذا الذي يقدر قدره {ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي ذلك الإِكرام والإِنعام هو الذي يبشر الله به عباده المؤمنين المتقين، ليتعجلوا السرور ويزدادوا شوقاً إلى لقائه {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من الأجر والمال، إلاَّ أن تحفظوا حقَّ القربى ولا تؤذوني حتى أبلغ رسالة ربي قال ابن كثير: أي لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح مالاً، وإِنما أطلب أن تذروني حتى أبلغ رسالات ربي، فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة قال ابن عباس: يقول إلا أن تصلوا ما بين وبينكم من القرابة، وتؤذوني في نفسي لقرابتي منكم {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} أي ومن يكتسب ويفعل طاعةً من الطاعات نضاعف له ثوابها {إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ} أي غفور للذنوب شاكر لإِحسان المحسن، لا يضيع عنده عمل العامل، ولهذا يغفر الكثير من السيئات، ويكثِّر القليل من الحسنات {أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً} ؟ أي بل أيقول كفار قريش إن محمداً اختلق الكذب علىلله بنسبة القرآن إليه؟ قال أبو حيان: وهذا استفهام إنكار وتوبيخ للمشركين على هذه المقالة أي مثله لا يُنسب إلى الكذب على الله مع اعترافكم له قبل بالصدق والأمانة {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} أي لو افتريت على الله الكذب كما يزعم هؤلاء المجرمون لختم على قبلك فأنساك هذا القرآن، وسلبه من صدرك، ولكنك لم تفتر على الله كذباً ولهذا أيَّدك وسدَّدك قال ابن كثير: وهذه كقوله جل وعلا
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 4446] وقال أبو السعود: والآيةُ استشهادٌ على بطلان ما قالوا ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعاً، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرفٍ من حروفه {وَيَمْحُ الله الباطل} أي يزيل الله الباطل بالكلية {وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ} أي ويثبتُ اللهُ الحق ويوضّحه بكلامه المنزل، وقضائه المبرم وقال ابن كثير: بكلماته أي بحججه وبراهينه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي عالم بما في القلوب، يعلم ما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر وقال القرطبي: والمراد أنك لو حدثت نفسك أن تفتري الكذب لعمله الله وطبع على قلبك {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} هذا امتنانٌ من الرحمن على العباد أي هوجل وعلا بفضله وكرمه يتقبل التوبة من عباده، إِذا أقلعوا عن المعاصي وأنابوا بصدقٍ وإِخلاص نيّة {وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات} أي يصفح عن الذنوب صغيرها وكبيرها لمن يشاء {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي يعلم جميع ما تصنعون من(3/129)
خيرٍ أو شر {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي ويستجيب الله دعاء المؤمنين الصالحين قال الرازي: أي ويستجيبُ اللهُ للمؤمنين إلاَّ أنه حذف اللام كما حذف في قوله {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطفيين: 3] أي كالوا لهم {وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} أي ويزيدهم من جوده وكرمه فوق ما سألوا واستحقوا لأنه الجواد الكريم، البرُّ الرحيم {والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي وأما الكافرون بالله فلهم العذاب الموجع الأليم في دار الجحيم {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض} أي ولو وسَّع الله الرزق على عباده لطغوا وبغَوْا وأفسدوا في الأرض بالمعاصي والآثام، لأن الغني والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً، وقال قتادة: خير العيش مالا يُلهيك ولا يُطغيك {ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ} أي ولكنه تعالى يُنزّل أرزاق العباد بما تقتضيه الحكمة المصلحة كما جاء في الحديث القدسي «إنَّ من عبادي من لا يصلُحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإِن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه» {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي عالم بأحوالهم وما يصلحهم، فيعطي ويمنع، ويبسط ويقبض، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} تعديدٌ لنعمه على العباد أي هو تعالى الذي ينزّل المطر، الذي يغيثهم من الجدب، من بعد ما يئسوا من نزوله {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} أي ويبسط خيراته وبركاته على العباد {وَهُوَ الولي الحميد} أي وهو الوليُّ الذي يتولى عباده، المحمود بكل لسان على ما أسدى من النعماء {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض} أي ومن دلائل قدرته، وعجائب حكمته، الدالة على وحدانيته، خلقُ السموات والأرض بهذا الشكل البديع {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ} أي وما نشر وفرَّق في المسوات والأرض من مخلوقات قال ابن كثير: وهذا يشمل الملائكة والإِنس والجن، وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم وأجناسهم وأنواعهم وقال مجاهد: هم الناسُ والملائكة {وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ} أي وهو تعالى قادر على جمع الخلائق للحشر والحساب والجزاء، في أيِّ وقتٍ شاء {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي وما أصابكم أيها الناس مصيبة من المصائب في النفس أو المال فإنما هي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها قال الجلال: وعبَّر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تُزاول بها {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} لهلكتم وفي الحديث
«لا يصيب ابن آدم وخدش عود، أو عثرة قدمٍ، ولا اختلاجُ عرقٍ إلا بذنبٍ، وما يعفه عنه أكثر» {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض} أي ولستم أيها المشركون فائتين من عذاب الله، ولا هاربين من قضائه، وإِن هربتم من أقطارها كل مهرب {وَمَا لَكُمْ(3/130)
مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي وليس لكم غير الله وليٌّ يتولى أموركم ويتعهد مصالحكم، ولا نصير يدفع عنكم عذابه وانتقامه.
فَائِدَة: المصائب التي تُصيب الناس لتكفير السيئات، وأما الأنبياء فإِنما هي لرفع الدرجات لأنهم معصومون عن الذنوب والآثام.
تنبيه: قال بعض العلماء: لا يستبعد أن يكون في الكواكب السيارة، والعوالم العلوية مخلوقات غير الملائكة تشبه مخلوقات الأرض، وأن يكون فيها حيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا كما تدل الدلائل الفكلية على وجود حياةٍ في المريخ، واستدلوا بهذه الآية {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ} الآية، أقول: يحتمل أن يوجد في هذا الفضاء الواسع، مخلوقات حيَّة غير الإِنسان، أم الإِناسن فإِننا نقطع بأنه لا يوجد إلا فوق سطح الكوكب الأرضي لقوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25] .(3/131)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى بعض الدلائل على وحدانيته في خلق السموات والأرض، وما بثَّ فيهما من مخلوقات لا تُحصى، أتبعه بذكر آية أخرى تدل على وجود الإِله القادر الحكيم، وهي السفن الضخمة التي تشبه الجبال تسير بقدرته تعالى فوق سطح البحر، محمَّلة بالأقوات والأرزاق، وختم السورة الكريمة ببيان إثبات الوحي وصدق القرآن.
اللغَة: {الجوار} جمع جارية وهي السفينة سميت جارية لأنها تجري في الماء {كالأعلام} جمع علم وهو الجبل العظيم الشاهق قالت الخنساء:
وإِنَّ صخْراً لتأْتمُّ الهُداةُ به ... كأنَّهُ علمٌ في رأسهِ نارُ
{رَوَاكِدَ} ثوابت ساكنة لا تسير، من ركدَ الماء إذا سكن ووقف عن الجري {مَّحِيصٍ} مهرب ومخلص من العذاب {يُوبِقْهُنَّ} يهلكهنَّ يقال: أوبقه أي أهلكه {الفواحش} جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحه كالزنى والقتل والشرك وغيرها {نَّكِيرٍ} منكِرٌ يُنكِر ما ينزل بكم من العذاب {عَقِيماً} لا تلد.
التفسِير: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام} أي ومن علاماته الدالة على قدرته الباهرة، وسلطانه العظيم، السفنُ الجارية في البحر كأنها الجبال من عظمها وضخامتها {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ} أي لو شاء تعالى لأسكن الرياح وأوقفها فتبقى السفن سواكن وثوابت على ظهر البرح لا تجري {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إن في تسييرها لعبراً وعظات لكن مؤمن صابر في البأساء، شاكر في الرخاء قال الصاوي: أي كثير الصبر على البلايا، عظيم الشكر على العطايا وقال أبو حيان: وإنما ذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف، يغوص فيه الثقيل، والسفن تحمل الأجسام الثقيلة الكثيفة ومع ذلك جعل الله تعالى في الماء قوة يحملها بها ويمنعها من الغوص، ثم جعل الرياح سبباً لسيرها فإذا أراد أن ترسوا أسكن الريح فلا تبرح عن مكانها، {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أي وإِن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق هذه السفن وأهلها بسبب ما اقترفوا من جرائم {وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك {وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ} أي وليعلم الكفار المجادلون في آيات الله بالباطل، أنه لا ملجأ لهم ولا مهرب من عذاب الله قال القرطبي: أي ليعلم الكافر إِذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أنه لا ملجأ لهم سوى لله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخصلون له العبادة {فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ(3/132)
الحياة الدنيا} أي فما أعطيتم أيها الناس من شيء من نعيم الدنيا وزهرتها الفانية، فإنما هو نعيم زائل، تتمتعون به مدة حياتكم ثم يزول {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} أي وما عند الله من الثواب والنعيم، خيرٌ من الدينا وما فيها لأنَّ نعيم الآخرة دائم مستمر، فلا تُقدِّموا الفاني على الباقي {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} أي للذين صدَّقوا الله ورسوله وصبروا على ترك الملاذ في الدنيا {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي واعتمدوا على الله وحده في جميع أمورهم {والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم} أي وهؤلاء المؤمنون هم الذين يجتنبون كبائر الذنوب كالشرك والقتل وعقوق الوالدين {والفواحش} قال ابن عباس: يعني الزنى {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} أي إذا غضبوا على أحدٍ ممَّن اعتدى عليهم عفوا وصفحوا قال الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخلٍ بالمروءة، ولا واجباً كما إِذا انتهكت حرماتُ الله فالواجب حنيئذٍ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي «من استُغضب ولم يغضب فهو حمار» وقال الشاعر «وحلمُ الفتى في غير موضعه جهل» {والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ} أي أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة قال البيضاوي: نزل في الأنصار دعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الإِيمان فاستجابوا {وَأَقَامُواْ الصلاة} أي أدوها بشروطها وآدابها، وحافظوا عليها في أوقاتها {وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ} أي يتشاورون في الأمور ولا يعجلون، ولا يُبرمون أمراً من مهمات الدنيا والدين إلا بعد المشورة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي وينفقون مما أعطاهم الله في سبيل الله بالإِحسان إلى خلق الله {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ} أي ينتقمون ممن بغى عليهم، ولا يستسلمون الظلم المعتدي قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُذلُوةا أنفسهم فتجترىء عليهم الفساق قال أبو السعود: وهو وصفٌ لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل، وهذا لا ينافي وصفهم بالغفران فإِن كلاً في موضعه محمود {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} أي وجزاء العدوان أن ينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي عليه بالزيادة قال الإِمام الفخر: لما قال تعالى {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ} أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أني كون مقيداً بالمثل دون زيادة، وإِنما سمَّى ذلك سيئة لأنها تسوء من تنزل به {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} أي فمن عفا عن الظالم، وأصلح بينه وبين عدوه، فإِن الله يثيبه على ذلك الأجر الجزيل قال ابن كثير: شرع تعالى العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، فمن عفا فإِن الله لا يضيع له ذلك كما جاء في الحديث
«وما زاد اللهُ تعالى عبداً بعفوٍ إلا عزاً» {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} أي إنه جل وعلا يبغض البادئتين بالظلم، والمعتدين في الانتقام {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي انتصر ممن ظلمه دون عدوان {فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} أي فليس عليهم عقوبة ولا مؤاخذة، لأنهم أتوا بما أبيح له من الانتصار {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} إي إنما العقوبة والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناس بعدوانهم {وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي(3/133)
ويتكبرون في الأرض تجبراً وفساداً بالمعاصي والاعتداء على الناس في النفوس والأموال {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي أولئك الظالمون الباغون لهم عذاب مؤلم موجع بسبب ظلمهم وبغيهم {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} أي ولمن صبر على الأذى، وترك الانتصار لوجه الله تعالى، فإِن ذلك الصبر والتجاوز من الأمور الحميدة التي امر الله بها وأكد عليها قال الصاوي: كرَّر الصبر اهتماماً به وترغيباً فيه وللإِشارة إلى أنه محمد العاقبة {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ} أي ومن يضلله اللهُ فلس له ناصر ولا هادٍ يهديه إلى الحق {وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي وترى الكافرين حين شاهدوا عذاب جهنم {يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لهول ما يشاهدون من العذاب ويقولون: هل هناك طريق لعودتنا إلى الدنيا؟ قال القرطبي: يطلبون أن يُردُّوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله عَزَّ وَجَلَّ فلا يجابون {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي وتراهم أيها المخاطب يُعرضون على النار {خَاشِعِينَ مِنَ الذل} أي متضائلين صاغرين مما يلحقهم من الذل والهوان {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي يسارقون النظر خوفاً منها وفزعاً كما ينظر من قُدِّم ليقتل بالسيف، فإِنه لا يقدر أن ينظر إليه بملء عينه قال ابن عباس: ينظرون بطرفٍ ذابلٍ ذليل وقال قتادة والسدي: يُسارقون النظر من شدة الخوف {وَقَالَ الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة} أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حلَّ بالكفار: إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء، فإِنهم خسروا أنفسهم وأهليهم بخلودهم في نار جهنم {أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} أي ألا إنهم في عذاب دائمٍ لا ينقطع {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله} أي وما كان لهم من أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب الله كما كانوا يرجون ذلك في الدنيا {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} ومن يضلله اللهُ فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا، وإِلى الجنة في الآخرة، لأنه قد سُدَّت عليه طريق النجاة قال ابن كثير: من يضلله الله فليس له خلاص {استجيبوا لِرَبِّكُمْ} أي استجيبوا أيها الناسُ إلى ما دعاكم غليه ربكم من الإِيمان والطاعة {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} أي من قبل أن يأتي ذلك اليوم الرهيب الذي لا يقدر أحدٌ على ردِّه، لأنه ليس له دافع ولا مانع {مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ} أي ليس لكم مفر تلتجئون إليه {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} أي وليس لكم مكِرٌ يثنكِر ما ينزل بكم من العذاب وقال أبو السعود: أي ما لكم إنكار لما اقترفتموه لأنه مدوَّن في صحائف أعمالهكم وتشهد عليه جوارحكم {فَإِنْ أَعْرَضُواْ} أي فإِن أعرض المشركون عن الإِيمان ولم يقبلوا هداية الرحمن {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي فما أرسلناك يا محمداً رقيباً على أعمالهم ولا محاسباً لهم {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} أي ما عليك إلاَّ أن تبلغهم رسالة ربك وقد فعلت قال أبو حيان: والآية تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتأنيسٌ له، وإِزالةٌ لهمِّه، ثم أخبر تعالى أن طبيعة الإِنسان الكفران لنعم الله فقال {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ(3/134)
بِهَا} وأراد بالإِنسان الجنس بدليل قوله {وَإِن تُصِبْهُمْ} والمعنى إنا إذا أكرمنا الإِنسان بنعمةٍ من النعم من صحة وغنى وأمنٍ وغيرها بطر وتكبَّر {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ} أي وإِن أصاب الناسَ جدبٌ ونقمة، وبلاءٌ وشدة، بسبب ما اقترفوه من آثام فإِن الإِنسان مبالغٌ في الجحود والكفران، ينسى النعمة ويذكر البلية قال الصاوي: والحكمةُ في تصدير النعمة ب «إذا» والبلاء ب «إنْ» هو الإِشارة إلى أن النعمة محققة الحصول بخلاف البلاء، لأن رحمة الله تغلب عضبه وقال الإِمام الفخر: نِعمُ اللهِ في الدنيا وإِن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سمَّاها ذوقاً، فبيَّن تعالى أن الإِنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير في الدنيا فإِنه يفرح بها ويعظم غروره وبسببها ويقع في العجب والكبر، ويظن أنه فاز بكل المُنى، وذلك لجهله بحال الدنيا وبحال الآخرة {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} أي هو تعالى المالك للكون كلِّه، علويه وسفليّه، والمتصرف فيه بالخلق والإِيجاد، كيفما يشاء، والمقصودُ من الآية أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه، وأن يعلم أن الكل ملك الله وحده، وبيده مقاليد التصرف في السموات والأرض، يعطي ويمنع، لا رادَّ لقاضه ولا معقّب لحكمه {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً} أي يخص من شاء من عبداه بالإِناث دون البنين {وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور} أي ويخص من شاء بالذكور دون الإِناث {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} أي جعلهم إن شاء من النوعين فيجمع للإِنسان بين البنين والبنات {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} أي ويجعل بعض الرجال عقيماً فلا يولد له، وبعض النساء عقيماً فلا تلد قال البيضاوي: والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة، على مقتضى المشيئة، فيهب لبعضٍ إمّا صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى، أو الصنفين جمعاً، ويُعقم آخرين، والمراد من الآية بيان نفاذ قدرته تعالى في الكائنات كيف يشاء، ولهذا قال {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} أي مبالغ في العلم والقدرة، يفعل ما فيه مصلحة وحكمة قال ابن كثير: جعل تعالى الناس أربعة أقسام: منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه النوعين الذكر والإِناث، ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد، فسبحان العليم القدير.
. ثم ذكر تعالى الوحي وأقسامه وأنواعه فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً} أي وما صحَّ لأحدٍ من الشر أياً كان أن يكلمه الله إلا بطريق الوحي في الناس أو بالإلهام، لأن رؤيا الأنبياء حقٌ كما وقع للخليل إبراهيم عليه السلام {إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] {أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} أي أو يكلمه من وراء حجاب كما كلَّم موسى عليه السلام {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} أي أو يرسل ملكاً فيبلغ الوحي إلى الرسل بأمره تعالى ما يشاء تبليغه كما نزل جبريل بالوحي على الأنبياء قال في التسهيل: بيَّن تعالى في الآية أن كلامه لعباده على ثلاثة أوجه: أحدها الوحي بطريق الإلهام أو المنام، والآخر أن يُسمعه كلامه من وراء حجاب، والثالث: الومحي بواسطة الملك، وهذا خاص بالإنبياء، والثاني خاص بموسى وبمحمد إذ كلمه الله ليلة الإِسراء، وأما الأول فيكون للأنبياء والأولياء وقال الصاوي: وقد(3/135)
يقع الإِلهام لغير الأنبياء كالأولياء، غير أن إلهام الأولياء قد يختلط به الشيطان لأنهم غير معصومين، بخلاف الأنبياء فإلهامهم محفوظ منه {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي إنه تعالى متعالٍ عن صفات المخلوقين، حكيم في أفعاله وصنعه، تجري أفعاله على موجب الحكمة {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} أي وكما أوحينا إلى غيرك من الرسل أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، وسمَّاه روحاً لأن فيه حياة النفوس من موت الجهل، وكان مالك بن دينار يقول: يا أهل القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيب ربيع الأرض {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} أي ما كنت يا محمد تعرف قبل الوحي ما هو القرآن، ولا كنت تعرض شرائع الإِيمان ومعالمه على وجه التفصيل {ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا} أي ولكن جعلنا هذا القرآن نوراً وضياءً نهدي به عبادنا المتقين {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي وإنك يا محمد لترشد إلى دين قيمٍ مستقيم هو الإِسلام {صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي هذا الدين الذي لا اعوجاج فيه هو دينُ الله الذي له كل ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} أي ألا إلى الله وحده ترجع الأمور فيفصل فيها بين العباد بحكمه العادل وقضائه المبرم.
البَلاَغَة: تصمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان نوجزها فيما يلي:
1 - المجاز المرسل {لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى} [الشورى: 7] أي لتنذر أهل مكة لأن الإِنذار لأهل القرية لا لها.
وفي الآية احتباك حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر وتقديره: لتنذر أم القرى العذاب، وتنذر الناس يوم الجمع.
2 - توالي المؤكدات مع صيغة المبالغة {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} [الشورى: 5] وهي ألا، وإن، وضمير الفصل.
3 - الطباق بين {الجنة. . والسعير} وبين {يَبْسُطُ. . ويَقْدِرُ} وبين {ذُكْرَاناً. . وَإِنَاثاً} .
4 - طباق السلب {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى: 18] .
5 - الاستعارة {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة} [الشورى: 20] الآية شبه العمل للآخرة بالزارع يزرع الزرع ليجني منه الثمرة والحب، بطريق الاستعارة التمثيلية وهي من لطائف الاستعارة.
6 - المقابلة {وَيَمْحُ الله الباطل وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24] .
7 - عطف العام على الخاص {يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] فالغيث خاص والرحمة عام.
8 - التشبيه المرسل المجمل {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام} أي كالجبال في الضخامة والعظم.
9 - التقسيم {يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} .
10 -(3/136)
جناس الاشتقاق {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ} [الشورى: 30] .
11 - صيغة المبالغة {لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي عظيم الصبر، كبير الشكر.
12 - المشاكلة {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} سميت الثانية سيئة لمشابهتها للأولى في الصورة.
13 - توافق الفواصل وهو من المحسنات البديعية وهو كثير في القرآن العظيم.(3/137)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
اللغَة: {صَفْحاً} إعراضاً يقال: ضربت عنه صفحاً إِذا أعرضت عنه وتركته {بَطْشاً} قوة وانتقاماً، وبطش به أخذه بشدة وعنف {مَهْداً} فراشاً وبساطاً {أَنشَرْنَا} أحيينا، والنشور، الإِحياء بعد(3/139)
الموت {تَسْتَوُواْ} تستقروا وتركبوا {مُقْرِنِينَ} مطيقين {كَظِيمٌ} مملوء غماً وغيظاً {يَخْرُصُونَ} يكذبون {أُمَّةٍ} دين وطريقة {مُتْرَفُوهَآ} المترف: المتنعم المنغمس في الشهوات.
التفسِير: {حم} الحروف المقطعمة للتنبيه على إِعجاز القرآن {والكتاب المبين} قسمٌ أقسم الله به أي أُقْسمُ بالقرآن البيّن الواضح الجلي، المظهر طريق الهدى من طريق الضلال، المبيِّين للبشرية ما تحتاج إليه من الأحكام والدلائل الشرعية {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} هذا هو المقسم عليه أي أنزلناه بلغة العرب، مشتملاً على كمال الفصاحة والبلاغة، بأسلول محكم، وبيانٍ معجز {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تفهموا أحكامه، وتتدبروا معانيه، وتعقلوا أن أسلوبه الحكيم خارج عن طوق البشر قال البيضاوي: أقسم تعالى بالقرآن على أنه جعله قرآناً عربياً، وهو من البدائع البلاغية لتناسب القسم والمُقْسم عليه، تنبيهاً على أنه لا شيء أعلا منه فيقسم به، وهذا يدل على شرف القرآن وعزته بأبلغ وجهٍ وأدقه {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا} أي وإِنه في اللوح المحفوظ عندنا {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي رفيع الشأن عظيم القدرة، ذو حكمةٍ بالغةٍ ومكانةٍ فائقة قال ابن كثير: بيِّن شرف القرآن في الملأ الأعلى، ليشرّفه ويعظّمه أهل الأرض أي وإِن القرآن في اللوح المحفوظ عندنا ذو مكانةٍ عظيمة، وشرف وفضل {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً} الاستفهام إِنكاري أي أنترك تذكيركم إعراضاً عنكم، ونعتبركم كالبهائم فلا نعظكم بالقرآن؟ {أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} أي لأجل أنكم مسرفون في التكذيب والعصيان؟ لا، بل نذكّركم ونعظكم به إلى أن ترجعوا إلى طريق الحق قال قتادة: لو أن هذا القرآن رُفع حين ردَّه الأوائل لهلكوا، ولكنَّ الله برحمته كرَّره عليهم، ودعاهم إليه عشرين سنة قال ابن كثير: وقول قتادة لطيف المعنى جداً وحاصله أن تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير، وإلى الذكر الحكيم، وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل يأمر به ليهتدي به من قدَّر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأولين} ؟ ت سلية للنبي عليه السلام أي ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم الاولين؟ {وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي ولم يكن يأتيهم نبي إلا سخروا منه واستهزءوا به قال الصاوي: وهاذ اتسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى تسلَّ يا محمد ولا تحزن فإنه وقع للرسل قبلك ما وقع لك {فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أي فأهلكنا قوماً كانوا أشد قوة من كفار مكة وأعتى منهم وأطغى {ومضى مَثَلُ الأولين} أي وسبق في القرآن أحاديثُ إِهلاكهم، ليكونوا عظة وعبرة لمن بعدهم من المكذبين قال الإِمام الفخر: إن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك فقد ضربنا لهم مثَلَهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} أي ولئن سألتَ يا محمد هؤلاء المشركين من خلق السمواتِ والأرض بهذا الشكل البديع {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} أي ليقولُنَّ خلقهنَّ اللهُ وحده، العزيزُ في ملكه، العليمُ بخلقه قال القرطبي: أقروا له بالخلق والإِيجاد، ثم عبدوا معه غيره(3/140)
جهلاً منهم وسفهاً.
. ثم بيَّن تعالى لهم صفاته الجليلة، الدالة على كمال القدرة والحكمة فقال {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} أي بسط الأرض وجعلها كالفراش لكم، تستقرون عليها وتقومون وتنامون {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي وجعل لكم فيها طُرُقاً تسلكونها في أسفاركم {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا إلى قدرة الخالق الحكيم، مودع هذا النظام العجيب {والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ} أي نزَّل بقدرته الماء من السماء بمقدارٍ ووزنٍ معلوم، بحسب الحاجة والكفاية قال القرطبي: أي بمقدار ينفع ولا يضر {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} أي فأحيينا به أرضاً ميتةً مقفرةً من النبات {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي كذلك نخرجكم من قبوركم كما نُخرج النبات من الأرض الميتة {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا} أي خلق جميع الأصناف من الحيوان والنبات وغير ذلك قال ابن عباس: «الأزواج» الأصناف والأنواع كلها كالحلو والحامض، والأبيض والأسود، والذكر والأنثى {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} أي وسخَّر لكم من السفن في البحر، والإِبل في البر ما تركبونه في أسفاركم قال ابن كثير أي ذلَّلها وسخَّرها ويسَّرها لكم، لتأكلوا لحومها وتركبوا ظهورها {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} أي لتستقروا على ظهور هذا المركوب، سفينةً كانت أو جملاً {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} أي وتتذكروا نعمة ربكم الجليلة عليكم حين تستقرون فوقها فتشكروه بقلوبكم {وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا} أي وتقولوا بألستنكم عند ركوبكم: سبحان الله الذي ذلَّل ويسَّر لنا ركوب هذا المركوب {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أو وما كنا قادرين ولا مطيقين لركوبه لولا تسخيره تعالى لنا {وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أي وإِنا إلى ربنا لراجعنن، وصائرون إليه بعد الموت قال في حاشية البيضاوي: وليس المراد من ذكر النعمة تصورها وإِخطارها في البال، بل المراد تذكر أنها نعمة حاصلةٌ بتدبير القادر العليم الحكيم، مستدعية لطاعته وشكره، فإن من تفكر في أنَّ ما يركبه الإِنسان من الفُلكْ والأنعام، أكثرة قوة وأكبر جثة من راكبه، ومع ذلك كان مسخراً لراكبه يتمكن من تصريفه إلى أيّ جانب شاء، وتفكر أيضاً في خلق البحر والريح وفي كونهما مسخرين للإِنسان مع ما فيهما من المهابة والأهوال، استغرق في معرفة عظمة الله تعالى وكبريائه، وكما قدرته وحكمته، فيحمله ذلك الاستغراق على أن يقول متعجباً من عظمة الله {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} .
. ولما ذكر تعالى اعتراف المشركين بأن خالق السموات والأرض هو رب العالمين، ذكر بعده ما يدل على سفههم وجهلهم في عبادة غير الله فقال {وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} أي جعل المشركون لله ولداً حيث قالوا: الملائكةُ بنات الله {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} أي إن القائل لهذا المبالغُ في الكفر، عظيم الجحود والطغيان قال البيضاوي: أي ظاهر الكفران لأنه نسبة الولد إليه تعالى من فرط الجهل به والتحقير لشأنه {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بالبنين} إِنكارُ وتعجبُ من حالهم أي هل اتخذ تعالى لنفسه البنات، وخصَّكم واختار لكم البنين؟ قال ابن كثير: وهذا إنكار(3/141)
عليهم غاية الإِنكار، ثم ذكر تعالى تمام الإِنكار فقال {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً} أي وإِذا بُشِّر أحد المشركين بالأنثى التي جعلها مثلاً لله بنسبة البنات له {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} أي صار وجهه كأنه أسود من الكآبة والحزن، وهو ممتلىءٌ غيظاً وغماً من سوء ما بُشّر به قال الإِمام الفاخر: والمقصودُ من الآية التنبيهُ على قلة عقولهم وسخافة تفكيرهم، فإِن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحدِّ كيف يجوز للعاقل إثباتُه لله تعالى؟ وقد روي عن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية} أي أيجعلون للهِ من يُربَّى في الزينة وينشأ ويكبر عليها وهنَّ الإِناث؟ {وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} أي ومن هو في الجدال غيرُ مظهرٍ لحجته لضعف رأيه؟ أوَمَنْ يكونُ هكذا يُنْسب إلى جناب الله العظيم؟ قال في التسهيل: والمقصد الرد على الذين قالوا الملائكةُ بنات الله، كأنه قال: أجعلتم للهِ من ينشأ في الحيلة؟ يعني يكبر وينبت في استعمالها، وذلك صفةُ النقص، ثم أتبعها بصفة نقصٍ أُخرى فقال {وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} يعني أن الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أن تبيّن حجتها لنقص عقلها، وقلّما تجد امرأة إلا تفسد الكلام، وتخلط المعاني، فكيف يُنسب لله من يتصف بهذه النقائص؟ وقال ابن كثير: المرأة ناقصة في الصورة والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي ليجبر ما فيها من نقص، كما قال بعض الشعراء:
وما الحليُ إلا زينةٌ من نقيصةٍ ... يتمِّم من حُسْنٍ إِذا الحُسْنُ قصَّرا
وأما نقصُ معناها فإِنها صعيفةٌ عاجزةٌ عن الانتصار، كما قال بعض العرب وقد بُشِّر ببنت «ما هي بنعم الولد، نصرُها بكاءٌ، وبرُّها سرقة» {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} كفرٌ آخرٍ تضمنه قولهم الشنيع أي واعتقد كفار العرب بأن الملائكة الذين هم أكمل العباد وأكرمهم على الله إناثٌ وحكموا عليهم بذلك {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} أي أحضروا وقت خلق الله لهم حتى عرفوا أنهم إناث؟ وهذا تجهيلٌ وتهكمٌ بهم {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} أي سنأمر الملائكة بكتابة شهادتهم الكاذبة في ديوان أعمالهم ويُسألون عنها يوم القيامة، وهو وعيدٌ شديدٌ مع التهديد قال المفسرون: حكى تعالى عن كفار العرب ثلاثة أقوال شنيعة: الأول: أنهم نسبوا إلى الله الولد، الثاني: أنهم نسبوا إليه البناتِ دون البنين، الثالث: أنهم حكموا على الملائكة المكرمين بالأنوثة بلا دليل ولا برهان، فكذَّبهم القرآن الكريم في تلك الأقوال، ثم زادوا ضلالاً وبهتاناً فزعموا أنَّ ذلك برضى الله {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} أي قالوا على سبيل السخرية والاستهزاء: لو شاء اللهُ ما عبدنا هؤلاء الملائكة ولا الأصنام، ولمَّا كانت عبادتنا واقعة بمشيئته فهو راضٍ بها قال القرطبي: وهذا منهم كلمةُ حقٍّ أُريد بها باطل، فكل شيءٍ بإِرادة الله، والميشئةُ غير الرضى، ولا يصح الاحتجاج بالمشيئة، فإِنهم لو عبدوا الله بدل الأصنام لعلمنا أنَّ الله أراد منهم ذلك، وقد(3/142)
كذبهم الله بقوله {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} إي ما لهم بذلك القول ولا برهان {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} أي ما هم إلا يكذبون ويتقوَّلون على الله كذباً وزوراً {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} ردٌّ آخر عليهم أي أم أنزلنا على هؤلاء المشركين كتاباً من قبل القرآن فهم بذلك الكتاب متمسكون يعملون بتوجيهاته؟ قال الإِمام الفخر: والمعنى: هل وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزَّل قبل القرآن حتى يعوِّلوا عليه ويتمسكوا به {بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ} بل للإِضراب وهو الانتقال من كلام إلى آخر أي لم يأتوا بحجةٍ عقلية أو نقلية على ما زعموا بل اعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم الجهَلة قال أبو السعود: والأُمةُ: الدينُ والطريقةُ سميت أمةً لأنها تؤم وتقصد {وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} أي ونحن ماشون على طريقتهم مهتدون بآثارهم {وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} أي وكما تبع هؤلاء الكفار آباءهم بغير حجة ولا برهان كذلك فعل من قبله من المذكبين، فما بعثنا قبلك رسولاً في أمةٍ من الأمم {إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} أي إلا قال المتنعمون فيها الذي أبطرتهم النعمة، وأعمتهم الشواتُ والملاهي عن تحمل المشاق في طلب الحق: إنا وجدنا أسلافنا على ملةٍ ودين، وإِنا مقتدون بهم في طريقتهم قال البيضاوي: والآية تسليةٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودلالةٌ على أن التقليد في نحو هذا ضلالٌ قديم، وأسلافُهم لم يكن سندٌ منظور يُعتَدُّ به، وإِنما خصَّص المترفين بالذكر للإِشعار بأن التنعم وحبَّ البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد الأعمى، وذكر هنا {مُّقْتَدُونَ} وهناك {مُّهْتَدُونَ} تفنناً لأن معناهما واحد {قال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ} ؟ أي قال كل نبيٍّ لقومه حين أنذرهم عذاب الله: أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بدينٍ أهدى وأرشد مما كانوا عليه؟ {قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي قالوا إنا كافرون بكل ما أُرسلتم به من التوحيد والإِيمان والبعث والنشور {فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} أي فانتقمنا من الأمم المكذبة بأنواع العذاب فانظر كيف صار حالهم ومآلهم!!(3/143)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
المنَاسَبَة: لما حكى عن المشركين تقليدهم الأعمى للآباء، ذكر هنا إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام، الذي يفتخر به العرب وينتسبون إليه، وتبرءه من قومه ومن عبادة الأوثان، للمقارنة بين الهدى والضلال، وبين منطق العقل السديد، ومنطق الهوى والتقليد.
اللغَة: {بَرَآءٌ} مصدر بمعنى بريء أي متبرىء يقال: تبرأتُ من الأمر أي تخليت منه بالكلية {عَقِبِهِ} ذريته ونسله قال ابن شهاب: العقب: الولدُ وولد الولد {سُخْرِيّاً} أي مسخراً في العمل مستخدماً فيه {مَعَارِجَ} مصاعد ومراقي جمع مِعْراج وهو ما يصعد عليه الإِنسان كالدرج ونحوه {يَظْهَرُونَ} يرتقون ويصعدون {زُخْرُف} زينة من ذهب وفضة وغيرهما {يَعْشُ} يُعرض وأصله من عشيَ البصرُ إذا ضعف قال الخليل: العشو هو النظر ببصر ضعيف.
التفسِير: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} أي واذكر يا محمد حين قال إبراهيم الخليل لأبيه وقومه المشركين إنني بريءٌ من هذا الأوثان التي تعبدونها من دون الله {إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} أي لكنْ ربي الذي خلقني وأنشأني من العدم فإِنه يرشدني إلى الدين الحق، ويهديني إلى طريق السعادة {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي وجعل إبراهيم هذه الكلمة كلمة التوحيد باقيةً في ذريته فلا يزال فيهم من يوحِّد الله {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي رجاء أن يرجع إلى الإِيمان من الشرك منهم من قال مجاهد: «وجعلها كلمة» يعني «لا إله إلا الله» لا يزال في ذريته من يقولها إلى ايوم الدين {بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَآبَآءَهُمْ} أي بل متعتُ أهل مكة وآبائهم وهم من عقب إبراهيم بالإِمداد في العمر والنعمة، فاغتروا بالمهلة واشتغلوا بالتنعم واتباع الشهوات عن كلمة التوحيد {حَتَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َmp;
1648 - ; جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} أي حتى جاءهم القرآن ورسولٌ ظاهر الرسالة، مؤيدٌ بالمعجزات الباهرة من عند الله قال الإِمام الفخر: وجه نظم الآية أنهم لما عوَّلوا على تقليد الآباء، ولم يتفكروا في الحجة، اغتروا بطول الإِمهال وإِمتاع الله إياهم بنعيم الدنيا فأعرضوا عن الحق {وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ} أي ولمَّا جاءهم القرآن لينبههم من غفلتهم، ويرشدهم إلى التوحيد، ازدادوا(3/144)
عتواً وضلالاً فقالوا عن القرآن إنه سحر {وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} أي ونحن كافرون به، لا نصدّق أنه كلام الله قال أبو السعود: سمَّوا القرآن سحراً وكفروا به واستحقروا الرسول عليه السلام، فضمُّوا إلى كفرهم السابق معاندة الحق والاستهانة به {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} أي وقال المشركون: هلاَّ أُنزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير في مكة أو الطائف!! قال المفسريون: يعنون «الوليد بن المغيرة» في مكة أو «عُروة بن مسعود الثقفي» في الطائف.
. استبعدت قريش نزول القرآن على محمد وهو فقير يتيم، واقترحوا أن ينزل على أحد الرؤساس والعظماء، ظناً منهم أن العظيم هو الذي يكون له مال وجاه، وفاتهم أن العظيم هو الذي يكون عند الله عظيماً، وهم يعتبرون مقياس العظمة: الجاه والمال، وهذا رأي الجاهلين في كل زمانٍ ومكان، أما مقياسُ العظمة الحقيقة عند الله تعالى وعند العقلاء، فإنما هو عظمة النفس، وسُموُّ الروح، ومَنْ أعظمُ نفساً وأسمى روحاً من محمد بان عبد الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ! {ولهذا ردَّ تبارك وتعالى عليهم بقوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ؟ أي أهم يمنحون النبة ويخصَّون بها من شاءوا من العباد، حتى يقترحوا أن تكون لفلان الغني، أو فلانٍ الكبير من الناس؟ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َmp;
1649 - ;لْحَيَاةِ الدنيا} أي نحن بحكمتنا جعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً، وفاوتنا بينهم في الأموال والأرزاق، وإِذا كان أمر المعيشة وهو تافه حقير لم نتركه لهم بل تولينا قسمته بأنفسنا، فكيف نترك أمر النبوة وهو عظيم وخطير لأهوائهم ومشتهياتهم} ! قال في التسهيل: كما قسمنا المعايش في الدنيا كذلك قسمنا المواهب الدينية، وإِذا كنا لم نهمل الحظوظ الحقيرة الفانية، فأولى وأحرى ألا نُهمل الحظوظ الشريفة الباقية {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي فضلنا بين الخلق في الرزق والعيش، وجعلناهم مراتب: هذا غني، وهذا فقير، وها متوسط الحال {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} أي ليكون كلٌ منهم مسخراً للآخر، ويخدم بعضهم بعضاً، لينتظم أمر الحياة قال الصاوي: إن القصد من جعل الناس متفاوتين في الرزق، لينتفع بعضهم ببعض، ولو كانوا سواءً في جميع الأحوال لم يخدم أحدٌ أحداً، فيفضي إلى خراب العالم وفساد نظامه وقال أبو حيانن: وقوله تعالى: {سُخْرِيّاً} بضم السين من التسخير بمعنى الاستخدام، لا من السخرية بمعنى الهزء، والحكمة هي أن يترفق بعضهم ببعضٍ، ويصلوا إلى منافعهم، ولو تولَّى كل واحدٍ جميع أشغاله بنفسه ما أطاق ذلك، وضاع وهلك، وفي قوله {نَحْنُ قَسَمْنَا} تزهيدٌ في الإِكباب على طلب الدنيا، وعونٌ على التوكل على الله، وقال قتادة: تلقى ضعيف القوة، قليل الحيلة، عييَّ اللسان وهو موسَّع عليه في الرزق، وتلقى شديد الحيلة، بسيط اللسان وهو مقتَّر عليه في الرزق، وقال الشافعي:
ومن الدليل على القضاء وكونِه ... بؤسُ اللبيب وطيبُ عيشِ الأحمق
{وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أي وإِنعامه تعالى عليك بالنبوة خيرٌ مما يجمع الناسُ من حطام الدنيا الفاني، ثم بيَّن تعالى حقارة الدنيا ودناءة قدرها عند الله فقال {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً(3/145)
وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} أي ولولا أن يرغب الناسُ في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الرزق، ويصيروا أمةً واحدة في الكفر، لخصصنا هذه الدنيا بالكفار، وجعلنا لهم القصور الشاهقة المزخرفة بأنواع الزينة والنقوش، سقفها من الفضة الخالصة {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي وجعلنا لهم مصاعدَ وسلالم من فضة عليها يرتقون ويصعدون {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً} أي ولبيوتهم أبواباً من قضة وسرراً من فضة، زيادةً في الرفاهية والنعيم {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} أي على تلك الأسرَّة الفضيَّة يتكئون ويجلسون {وَزُخْرُفاً} أي وجعلنا لهم زينةً من ستور ونمارق ونقوش وقال ابن عباس: {زُخْرُفاً} ذهباً أي جعلنا لهم سقفاً وأبواباً وسرراً من فضة وذهب {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} أي وما كل ذلك النعيم العاجل الذي نعطيه للكفار، إلاّ شيء يُتمتع به في الحياة الدنيا الزائلة الحقيرة {والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أي والجنةُ وما فيها من أنواع الملاذ والنعم التي يقصر عنها البيان، هي خاصة بالمتقين لا يشاركهم فيها أحد قال المفسرون: والآياتُ سِيقتْ لبيان حقارة الدنيا وقلة شأنها، وأنها من الهوان بحيث لولا الفتنة لخصَّ بها الكفارين، فجل بيوت الكفرة ودرجها وسقوفها من ذهب وفضة، وأعطى الكافر كل ذلك النعيم في الدنيا لعدم حظه في الآخرة، ولكنه تعالى رحيم بالعباد فلذلك أغنى بعض الكفار وأفقر بعضهم، وأغنى بعض المؤمنين وأفقر بعضهم وفي الحديث
«لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها جرعة ماء» قال الزمخشري: فإِن قلت: فحين لم يوسّع على الكفارين للفتنة التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم، من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها، فهلاَّ وسَّع على المسلمين ليطبق الناس على الإِسلام؟ قلتُ التوسعةُ عليهم مفسدة أيضاً لما تؤدي إليها من دخول الناس في الإِسلام لأَجل الدنيا وذلك من دين المنافقين، فكانت الحكمة فيما دبَّر، حيث جعل الفريقين أغنياء وفقراء، وغلَّب الفقر على الغنى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ا ;لرحمن} أي ومن يعرض ويتعام ويتغافل عن القرآن وعبادة الرحمن {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} أي نهيء ونيسّر له شيطاناً لا ينفك عن الوسوسة له والإِغواء كقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم: 83] {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} فهو له ملازم ومصاحب له لا يفارقه {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل} أي وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الكفار الضالين عن طريق الهدى {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} أي ويحسب الكفار أنهم على نور وبصيرة وهدايةٍ من أمرهم {حتى إِذَا جَآءَنَا} أي حتى إذا جاء الكافر مع قرينه وقد ربط بلسلسةٍ واحدة {قَالَ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} أي قال الكافر لقرينه: يا ليت بيني وبينك مثل ما بين المشرق والمغرب قال الطبري: وهذا من التغليب كما يقال: القمران، والعمران، والأبوان، فغلَّب ههنا المشرق عل المغرب {فَبِئْسَ القرين} أي فبئس الصاحب أنت لأنك كنت سبباً في شقائي بتزينك الباطل لي قال أبو سعيد الخدري: إذا بُعث الكافر زُوّد بقرينه من الشياطين، فلا يفارقه حتى(3/146)
يصير به إلى النار {وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} أي ولن ينفعكم ويفيدكم اشتراككم في العذاب، ولن يخفف ذلك عنكم شيئاً بسبب ظلمكم، فإِن لكل واحد نصيبه الأوفر منه قال في التسهيل: المراد أنه لا ينفعهم اشتراكهم في العذاب، ولا يجدون راحة التأسي التي يجدها المكروب في الدنيا إذا رأى غيره قد أصابه مثل ما أصابه لأن المصيبة إذا عمَّت هانت، فدفع تعالى ذلك التوهم بأن اشتراكهم في العذاب، لا يخفِّف عنهم البلاء {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي فأنت يا محمد تقدر أن تسمع هؤلاء الكفار الذين هم كالصُّم والعُمي، ومن كان في ضلالٍ واضح؟ ليس لك ذلك فلا يَضِقْ صدرك إن كفروا قال المفسرون: والآية تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد كان يجتهد في دعائهم إلى الإِيمان، ولا يزدادون إلاَّ تعامياً عن الحق وطغياناً وضلالاً {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} أي إن عجلنا وفاتك قبل الانتقام منهم، فإِنا سننتقم منهم بعد وفاتك {أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} أي أو نرينَّك يا محد العذاب الذي وعدناهم به في حياتك فإِنا قادرون عليهم فهم في قبضتنا لا يفوتوننا قال ابن عباس: قد أراه الله ذلك يوم بدر وقال ابن كثير: المعنى لا بدَّ أن ننتقم منهم ونعاقبهم في حياتك أو بعد وفاتك، ولم يقبض الله تعالى رسوله حتى أقرَّ عينه من أعدائه، وحكَّمه في نواصيهم {فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ} أي فتمسكْ يا محمد بالقرآن الذي أوحيناه لك {إِنَّكَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي فإِنك على الحق الواضح والطريق المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} أي وإِن هذا القرآن لشرفٌ عظيم لك ولقومك من قريش، إذ أُنزل بلغتهم وعلى رجلٍ منهم وسوف تسألون عن شكر هذه النعمة قال في التسهيل: والذكرُ هنا بمعنى الشرف، وقومُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هم قريشٌ وسائر العرب، فإِنهم نالوا بالإِسلام شرف الدنيا والآخرة، ويكفيك أن فتحوا مشارق الدنيا ومغاربها وصارت فيهم الخلافة والملك، وهذا القرآن شرفٌ لكل من تبعه، وهذه الآية نظير قوله تعالى
{لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] ؟ {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} هذا على سبيل الفرض، وفي الكلام محذوف أي إن كنت يا محمد شاكاً في أمر التوحيد فسلْ من سبقك من الرسل {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ؟ أي هل هناك أحدٌ من الرسل دعا لعبادة غير الله؟ ولاآية كقوله تعالى {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} [يونس: 94] قال أبو السعود: والمراد بالآية الاستشهاد بإِجماع الأنبياء على التوحيد، والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه حتى يُكذَّب ويُعادى وقال أبو حيان: ويظهر أن الخطاب للسامع، والسؤال هنا مجاز عن النظر في أديان الأنبياء، هل جاءت عبادة الأوثان في ملةٍ من مللهم؟ وهذا كما يساءل الشعراء الديار والأطلال، ومنه قولهم: سل الأرض من شقَّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإِنها إن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً، وهذا كله من باب المجاز.(3/147)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
المنَاسَبَة: لما طغت قريش على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر النبوة، بسبب أنه فقيرٌ عديم المال والجاه، واختاروا أن يتنزَّل القرآن على رجلٍ كثير المال عظيم الجاه، ذكر تعالى قصة «موسى مع فرعون» ليشير إلى أن المنطق العناد والطغيان واحد، فقد سبقهم فرعون إلى التجبر بماله وسلطانه، وفرضَ قبول دعوة الحق بحجة أنه أكثر مالاً وجاهاً من موسى، فردت الآيات الكريمة هذه الشبهة السقيمة بالحجة والبرهان.
اللغَة: {يَنكُثُونَ} نكث العهد: نقضه {مَهِينٌ} حقير لا قدر له ولا مكانة {آسَفُونَا} أغضبونا وغاضونا {سَلَفاً} قُدْوة {يَصِدُّونَ} بكسر الصاد بمعنى يضجّون ويصيحون، وبضمها بمعنى الإِعراض ومنع الناس عن الإِيمان قال الجوهري: صدَّ يصُدُّ صديداً أي ضجَّ، وقيل إنه بالضم من الصدود وهو الإِعراض، وبالكسر من الضجيج، وقال الفراء: هما سواء {تَمْتَرُنَّ} الامتراء: الشك، امترى في الأمر شكَّ فيه، والمريةُ: الشكُ.
سَبَبُ النّزول: عن مجاهد قال: إن قريشاً قالت إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد النصارى عيسى ابن مريم فأنزل الله {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} .
التفسِير: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي واللهِ لقد أرسلنا موسى بالمعجزات الباهرة الدالة على صدقه إلى فرعون وقومه الأقباط {فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ العالمين} أي(3/148)
فقال له موسى: إني رسول الله إليك، أرسلني لأدعنك وقومك إلى عبادة الله وحده {فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ} أي فلما جاءهم بتلك الآيات الباهرة الدالة على رسالته ضحكوا سخريةً واستهزاءً به قال القرطبي: إِنما ضحكوا منها ليوهموا أتباعهم أن تلك الآياتِ سحرٌ، وأنهم قادرون عليها، قال تعالى {وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي وما نريهم آية من آيات العذاب كالطوفان، والجراد، والقُمَّل إلا وهي في غاية الكبر والظهور، بحيث تكون أوضح من سابقتها قال الصاوي: والمعنى إلا وهي بالغة الغاية في الإِعجاز، بحيث يظن الناظر إليها أنها أكبر من غيرها {وَأَخَذْنَاهُم بالعذاب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي عاقبناهم بأنواع العذاب الشديد، لعلهم يرجعون عما هوعليه من الكفر والتكذيب {وَقَالُواْ ياأيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ} أي وقالوا لما عاينوا العذاب ياأيها الساحرُ ادع لنا ربك ليكشف عنا هذا البلاء والعذاب {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي بالعهد الذي أعطاك إياه من استجابة دعائك {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي لنؤمِنن بك إن كشف عنا العذاب بدعائك قال المفسرون: ليس قولهم {ياأيه الساحر} على سبيل الانتقاص، وإنما هو تعظيم في زعمهم، لأن السحر كان عِلم زمانهم، ولم يكن مذموماً، فنادوه بذلك على سبيل التعظيم قال ابن عباس: معناه يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيماً يوقرونه {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي فلما رفعنا عنهم العذاب بدعوة موسى، إذا هم ينقضون العهد ويصرون على الكفر والعصيان {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} أي نادى فرعون رؤساء القبط وعظماءهم، لما رأى الآيات الباهرة من موسى وخاف أن يؤمنوا {قَالَ ياقوم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي} ؟ أي قال مفتخراً متبجحاً: أليست بلادُ مصرَ الواسعة الشاسعة ملكاً لي؟ وهذه الخُلجان والأنهار المتفرعمة من نهر النيل تجري من تحتي قصوري؟ قال القرطبي: ومعظمها أربعة: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تينس وكلها من النيل وقال قتادة: كانت جنانها وأنهارها تجري من تحت قصره {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} ؟ أفلا تبصرون عظمتي وسعة ملكي، وقلة موسى وذلته؟ {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ} أي بل أنا خيرٌ من هذا الضعيف الحقير الذي لا عزَّ له ولا جاه ولا سلطان، فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه؟ يعني بذلك موسى عليه السلام {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} أي لا يكاد يفصح عن كلامه، ويوضّح مقصوده، فكيف يصلح للرسالة؟ قال أبو السعود: قال فرعون ذلك افتراءً على موسى، وتنقيصاً له عليه السلام في أعين الناس، باعتبار ما كان في لسانه من عُقدة، ولكنَّ الله أذهبها عنه بدعائه
{واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} [طه: 2728] {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} أي فهلاَّ ألقى الله إليه أسورةً من ذهب كرامةً له ودلالة على نبوَّتاه! {قال مجاهد: كانوا إذا أرادوا أن يجعلوا رجلاً رئيساً عليهم سّوروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهبٍ علامة لسيادته {أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} أي أو جاءت معه الملائكةُ يكتنفونه خدمةً له وشهادة بصدقه قال أبو حيان: لما(3/149)
وصف فرعون نفسه بالعزة والمُلك، ووان بينه وبين موسى عليه السلام، ووصفه بالضعف وقلة الأعوان، اعترض فقال: إن كان صادقاً فهلاَّ ملَّكه ربُه وسوَّره وجعل الملائكة أنصاره} ! {فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أي فاستخفَّ بعقول قومه واستجهلهم لخفة أحلامهم، فأطاعوه فيما دعاهم إليه من الضلالة {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} لأي إنما أجابوه لفسقهم وخروجهم عن طاعة الله {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} أي فلما أغضبونا وغاظونا انتقمنا منهم بأشد أنواع العقاب {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي فأغرقنا فرعون وقومه في البحر أجمعين فلم نبق منهم أحداً قال المفسرون: اغتر فرعنن بالعظمة والسلطان والأنهار التي تجري من تحته، فأهلكه الله بجنس ما تكبر به هو وقومه وذلك بالغرق بماء البحر، وفيه إشارة إلى أن من تعزَّز بشيء أهلكه الله به {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ} أي جعلنا قوم فرعون قُدوةً لمن يعدهم من الكفار في استحقاق العذاب والدمار، ومثلاً يعتبرون به لئلا يصيبهم مثل ذلك قال مجاهد: سلفاً لكفار قريش يتقدمونهم إلى النار، وعظة وعبرةً لمن يأتي بعدهم {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أي ولمَّا ذُكر عيسى بن مريم في القرآن وضُرب المثلُ بالآلهة التي عُبدت من دون الله إذا مشركو قريش يضجون وترتفع أصواتُهم بالصياح قال المفسرون:
«لما قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال ابن الزبعرى: أهذا لنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال: قد خصمتك وربِّ الكعبة؟ أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود يعبدون عزيراً؟ وبنو فلان يعبدون الملائكة!! فإِن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، فسكت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ انتظاراً للوحي، فظنوا أنه أُلزم الحجة فضحك المشركون وضجوا وارتفعت أصواتهم فأنزل الله {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] » قال القرطبي: ولو تأمل ابن الزبعرى الآية ما اعترض عليها، لأنه تعالى قال {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} ولم يقل «ومنْ تعبدون» وإِنما أراد الأصنام ونحوها مما لايعقل، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإِن كانوا معبودين {وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} أي أآلهتنا خيرٌ أم عيسى؟ فإِن كان عيسى في النار فلتكنْ آلهتنا معه {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً} أي ما قالوا هذا القول لك إلاَّ على وجه الجدل والمكابرة لا لطلب الحقِّ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي بل هم قوم شديدو الخصومة واللجاج بالباطل قال في التسهيل: أي ما ضربوا لك هذا المثال إلا على وجه الجدل، وهو أن يقصد الإِنسان أن يغلب من يناظره، سواء غلبه بحقٍ أو بباطل، فإِن ابن الزبعرى وأمثاله ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم يدخل في قوله تعالى {حَصَبُ جَهَنَّمَ} ولكنهم أرادوا المغالطة فوصفهم الله بأنهم قوم خَصِمون {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} أي ما عيسى إالا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه بالنبوة وشرفناه بالرسالة، وليس هو إلهاً ولا ابن إله كما زعم النصارى {إِوَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ} أي(3/150)
وجعلناه آيةً وعبرةً لبني إسرائيل، يستدلون بها على قدرة الله تعالى، حيث خُلق من أمٍ بلا أب قال الرازي: أي صيرناه عبرةً عجيبة كالمثل السائر حيث خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ} أي ولو أردنا لجعلنا بدلاً منكم ملائكةً يسكنون في الأرض يكونون خلفاً عنكم قال مجاهد: ملائكة يعمرون الأرض بدلاً منكم {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} أي وإِن عيسى علامة على قبل الساعة قال ابن عباس وقتادة: إن خروج عيسى عليه السلام من أعلام الساعة لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} أي فلا تشكُّوا في أمر الساعة فإنها آتية لا محالة وفي الحديث
«يوشك أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً ... » الحديث {واتبعون هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي وقل لهم يا محمد: ابتعوا هُداي وشرعي، فإِن هذا الذي أدعوكم إليه دينٌ قيّم وطريق مستقيم {وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي لا تغتروا بوساوس الشيطان، واحذروا أن يصدكم عن اتباع الحق، فإِنه لكم عدوٌ ظاهر العداوة، حيث أخرج أباكم من الجنة، ونزع عنه لباس النور {وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} أي ولما جاء عيسى بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات، قال قد جئتكم بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع {وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أيوجئتكم لأبين لكم ما اختلفتم فيه من أمور الدين قال ابن جزي: وإِنما قال {بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} دون الكل، لأن الأنبياء إِنما يبيّنون أمور الدين لا أمور الدنيا وقال الطبري: يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} أي فاتقوا اللهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأطيعوا أمري فيما أبلغه إليكم من التكاليف {إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} أي إن الله جلا وعلا هو الربُ المعبود لا ربَّ سواه فأخلصوا له الطاعة والعبادة قال ابن كثير: أي أنا وأنتم عبيد له، فقراء إليه، مشتركون في عبادته وحده {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع، طريق مستقيم موصلٌ إلى جنات النعيم.(3/151)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أمر عيسى ودعوته إلى الدين الحق، أتبعه بذكر ضلال أهل الكتاب حيث تفرقوا شيعاً وأحزاباً في شأنه، فقد بعضهم إنه إله، وقال بعضهم إنه ابن الإِله، وقال آخرون إنه ثالث ثلاثة، ثم ذكر تعالى أحوال القيامة وأهوالها، وختم السورة الكريمة ببيان صفات المعبود الحق، الواحد الأحد جلاَّ وعلا.
اللغَة: {الأخلاء} جمع خليل وهو الصديق الحميم {تُحْبَرُونَ} تُسرون وتفرحون، والحبورُ: السرور والفرح {أَكْوَابٍ} جمع كوب وهو القدح الذي لا عروة له {مُبْلِسُونَ} آيسون من الرحمة، وحزينون من شدة اليأس {أبرموا} أحكموا الشيء يقال: أبرم القوم أمرهم أحكموه، والإِبرام، الإِحكام {يُؤْفَكُونَ} يُقلبون ويُصرفون، أَفكه أفْكاً أي قلبه وصرفه عن الشيء.
سَبَبُ النّزول: عن مقاتل قال: مكر المشركون بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في دار الندورة، وتآمروا على قتله حين استقر أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم، وهو أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله وتضعف المطالبة بدمه فنزلت: {أَمْ أبرموا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} .
التفسِير: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} أي اختلفت فرق النصارى في شأن عيسى وصاروا شيعاً وأحزاباً فيه قال ابن كثير: صاروا شيعاً فيه، منهم من يُقرُّ بأنه عبدُ الله ورسولُه وهو الحقُّ، ومنهم من يدّعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول إنه الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي فهلاكٌ ودمارٌ لهؤلاء الكفرة الظالمين من عذاب يومٍ مؤلم وهو يوم القيامة {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون إلا إتيانَ الساعة ومجيئها فجأةً {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي وهم غافلون عنها مشتغلون بأمور الدنيا، وحينئذٍ يندمون حيث لا ينفعهم الندم، ثم ذكر تعالى أحوال القيامة فقال {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ(3/152)
إِلاَّ المتقين} أي الأصدقاء والأحباب يوم القيامة يصبحون أعداء "لاَّ من كانت صداقته ومحبته لله قال ابن كثير: كلُّ خلةٍ وصداقة لغير الله، فإِنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عَزَّ وَجَلَّ فإِنه دائم بدوامه قال ابن عباس: صارت كل خلَّةٍ عداوةً يوم القيامة إلا المتقين تشريفاً وتطييباً لقلوبهم فيقول: {ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} يا عباد الله المؤمنين الذين تحققتم في العبودية لرب العالمين، لا خوفٌ عليكم في هذا اليوم العصيب، ولا أنتم تحزنون على ما فاتكم من الدنيا، ثم وضَّحهم بقوله {الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} أي هم الذين صدَّقوا بالقرآن، واستسلموا لحكم الله وأمره، وانقادوا لطاعته {ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} أي يقال لهم: أدخلوا الجنة أنتم ونساؤكم المؤمنات، تُنعَّمون فيها وتُسرُّون سرورا يظهر أثره على وجوهكم {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} أي يُطاف على أهل الجنة بأوانٍ من الذهب فيها طعام، وأقداحٍ من ذهب فيها الشراب قال المفسرون: آنية أهل الجنة التي يأكلون فيها الطعام، والكئوس التي يشربون فيها الشراب كلُّها من ذهب وفضة كما قال تعالى
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ} [الإنسان: 15] وفي الحديث «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها في الدنيا ولكم في الآخرة» {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين أي وفي الجنة كل ما تشتهيه النفوس من أنواع اللذائذ والمشتهيات، وتُسرُّ به الأعين من فنون المناظر الجميلة، والمشاهد اللطيفة {وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي وأنتم في الجنة باقون دائمون، لا تخرجون منها أبداً قال أبو السعود: وهذا إتمامٌ للنعمة وإِكمال للسرور، فإِنَّ كل نعيمٍ زائلٍ موجبٌ لخوف الزوال. . لمَّا ذكر الجنة وأنها موضع الحبور، ذكر ما فيها من النعم، فذكر أولاً المطاعم، ثم ذكر المشارب، ثم بعد ذلك التفصيل ذكر بياناً كلياً بقوله {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} ثم ذكر تمام النعمة بالخلود في دار النعيم، وهذا حصرٌ لأنواع النعم، لأنها إمّا مشتهاة في القلوب، أو مستلذةٌ في العيون {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي وتلك الجنة الموصوفة بتلك الأوصاف الجليلة أُعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة التي قدمتموها في الدنيا قال ابن كثير: أي أعمالكم الصالحة كانت سبباً لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحد الجنة بعمله، ولكنْ برحمة الله وفضله، وإِنما الدرجاتُ يُنال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات وفي الحديث «مامن أحدٍ إلاّ وله منزلٌ في الجنة ومنزلٌ في النار، الكافر يرث المؤمن منزله في النار، والمؤمن يرثُ الكافر منزله في الجنة، وذلك قوله تعالى {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} أي لكم في الجنة من أنواع الفواكة والثمار الشيء الكثير سوى الطعام والشراب من هذه الفواكة تأكلون تفكهاً وتلذذاًَ قال المفسرون: يأكل أهل الجنة من بعض الثمار، وأما الباقي فعلى الأشجار على الدوام، لا(3/153)
ترى فيها شجرةٌ تخلو عن ثمرها لحظة، فهي مزنيةٌ بالثمار أبداً، لأن كل ما يؤكل يخلف بدله وفي الحديث» لا ينزع رجلٌ في الجنة من ثمرها إلا نبت مثلاها مكانها «. ولما ذكر حال السعداء الأبرار أعقبه بذكر حال الأشقياء الفجار فقال {إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} أي إن الكافرين الراسخين في الإِجرام في العذاب الشديد في جهنم دائمون فيها أبداً قال الصاوي: والمراد بالمجرمين الكفار لأنهم ذكروا في مقابلة المؤمنين {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي لا يخفَّف عنه العذاب لحظة {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي وهم في ذلك العذاب يائسون من كل خير {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} أي وما ظلمناهم بعقابنا لهم، ولكنْ كانوا هم الظالمين لتعريضهم أنفسهم للعذاب الخالد {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي ونادى الكفار مالكاً خازن النار قائلين: ليمتْنا اللهُ حتى نستريحمن العذاب قال ابنك ثير: أي ليقبضْ أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه قال ابن عباس: فلم يجبهم إلا بعد ألف سنة {قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} أي أجابهم إنكم مقيمون في العذاب أبداً، لا خلاص لكم منه بموتٍ ولا بغيره {لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} خطاب توبيخ وتقريع أي لقد جئناكم أيها الكفار بالحق الساطع المبين، ولكنكم كنتم كارهين لدين الله مشمئزين منه لكونه مخالفاً لأهوائكم وشهواتكم قال الرازي: هذا كالعلة لما ذُكر والمرادُ نفرتهم عن محمد وعن القرآن، وشدة بُغضْهم لقبول الدين الحق {أَمْ أبرموا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} الكلام عن كفار قريش أي أم أحكم هؤلاء المشركون أمراً في كيد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإِنا محكمون أمرنا في نصرته وحمايته، وإهلاكهم وتدميرهم قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم المكر بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في دار الندوة {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} أي أم يظنون أنَّا لا نسمع ما حدَّثوا به أنفسهم، وما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي قال في التسهيل: السرُّ ما يحدث به الإِنسان نفسه أو غيره في خفية، والنجوى ما تكلموا به بينهم {بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} أي لى إنا نسمع سرَّهم وعلانيتهم، وملائكتنا الحفظة يكتبون عليهم أعمالهم، روي أنها نزلت في» الأخنس بن شُريق «و» الأسود بن عبد يغوث «اجتمعنا فقال الأخنس: أترى الله يسمع سرَّنا!! فقال الآخر: يسمع نجوانا ولا يسمع سرنا {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لو فُرض أنَّ لله ولداً لكنت أنا أول من يعبد ذلك الولد، ولكنه جلا وعلا منزَّه عن الزوجة والولد قال القرطبي: وهذا كما تقول لمن تناظره: إن ثبتَ ما قلت بالدليل فأنا أول من يعتقده، وهذا مبالغةٌ في الاستبعاد، وترقيقٌ في الكلام وقال الطبري: هو ملاطفةٌ في الخطاب وقال البيضاوي: ولا يلزم من هذا الكلام صحة وجود الولد وعبادته له، بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه، وإِنكاره للولد ليس للعناد والمراء، بل لو كان لكان أولى الناس بالاعتراف به، فإن النبي يكون أعلم بالله وبما يصح له وما لا يصح {سُبْحَانَ رَبِّ السماوات(3/154)
والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزَّه وتقدَّس اللهُ العظيمُ الجليل، ربُّ السمواتِ والأرضِ، وربُّ العرشِ العظيم، عمَّا يصفه به الكافرون من نسبة الولد إليه {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ} أي اترك كفار مكة في جهلهم وضلالهم، يخوضوا في باطلهم ويلعبوا بدنياهم {حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} أي إلى ذلك اليوم الرهيب الذي وُعدوه وهو يوم القيامة فسوف يعلمون حينئذٍ كيف يكون حالهم ومصيرهم ومآلهم {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله} أي هو جل وعلا معبودٌ في السماء ومعبود في الأرض، لأنه هو الإِله الحق، المستحق للعابدة في السماء والأرض قال في التسهيل: أي هو الإِله لأهل الأرض وأهل السماء وقال ابن كثير: أي هو إله من في السَّمء وإلهُ من في الأرض، يعبده أهلهما وكلُّهم خاضعون له أذلاء بين يديه {وَهُوَ الحكيم العليم} أي هو الحكيم في تدبير خلقه، العليمُ بمصالحهم، وهذا كالدليل على وحدانيته تعالى {وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي له مُلك السمواتِ والإرض وما بينهما من المخلوقات، من الإِنس والجن والملائكة، فهو الخالق والمالك والمتصرف في الكائنات بلا ممانعةٍ ولا مدافعة {وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة} أي وعنده وحده علم زمان قيام الساعة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإليه لا إلى غيره مرجع الخلائق للجزاء، فيجازي كلاً بعمله {وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشفاعة} أي ولا يملك أحدٌ ممن يعبدونهم من دون الله أن يشفع عند الله لأحد، لأنه شفاعته إلا بإذنه {إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق} أي إلا لمن شهد بالحق، وآمن عن علم وبصيرة، فإنه تنفع شفاعته عند الله {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي وهم يعلمون أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه قال المفسرون: والمرادُ ب {مَن شَهِدَ بالحق} عيسى وعزير والملائكة، فإِنهم يشهدون بالحق والوحدانية للهِ، فهؤلاء تنفع شفاعتهم للمؤمنين وإِن كانوا قد عُبدوا من دون الله {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} أي ولئن سألت يا محمد كفار مكة من الذي خلقهم وأوجدهم؟ ليقولُنَّ اللهُ خلقنا، فهم يعترفون بأنه خالق ثم يعبدون غيره ممن لا يقدر على شيء {فأنى يُؤْفَكُونَ} أي فكيف ينصرفون عن عبادة الرحمن إلى عبادة الأوثان؟ فهم في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقول {وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} أي وقول محمد في شكواه لربه يا ربِّ إن هؤلاء قوم معاندون جبارون لا يصدقون براستلي ولا بالقرآن قال قتادة: هذا قول نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشكو قومه إلى ربه عَزَّ وَجَلَّ {فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ} أي فأعرض عنهم يا محمد وسامحهم ولا تقابلهم بمثل ما يقابلونك به قال الصاوي: وهو تباعدٌ وبترؤٌ منهم، وليس في الآية مشروعية السلام على الكفار وقال قتادة: أمر بالصفح عنهم ثم أُمر بقتالهم، فصار الصفح منسوخاً بالسيف {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يعلمون عاقبة إجرامهم وتكذيبهم، وهو وعدٌ وتهديد للمشركين، وتسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -(3/155)
التشبيه البليغ
{جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} [الزخرف: 10] أي كالمهد والفراش حذفت منه الأداة ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
2 - الاستعارة التبعية {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} [الزخرف: 11] شبَّه الأرض قبل نزول المطر بالإِنسان الميت ثم أنشرها الله أي أحياها بالمطر ففيه استعارة تبعية.
3 - التأكيد بإِنَّ واللام مع صيغة المبالغة {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} [الزخرف: 15] لأن فعول وفعيل من صيغ المبالغة.
4 - الأسولب التهكمي للتوبيخ والتقريع {أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بالبنين} [الزخرف: 16] ؟ وبين لفظ البنات والبنين طباقٌ.
5 - المجار المرسل {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] المراد بالكملة الجملة التي قالها {إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف: 26] ففي اللفظ مجاز.
6 - الاستعارة {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي} [الزخرف: 40] شبه الكفار بالصم والعمي بطريق الاستعارة التمثيلية.
7 - جناس الاشتقاق {أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} [الزخرف: 45] لتغير الشكل وبعض الحروف بينهما.
8 - حذف الإِيجاز {بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} أي أكواب من ذهب وحذف لدلالة السابق عليه.
9 - ذكر العام بعد الخاص {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس} بعد قوله {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} الآية.
10 - الطباق {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} لأن المراد سرَّهم وعلانيتهم.
11 - السجع الرصين غير المتكلف مثل {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11] {مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] {وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] وغير ذللك وهو من المحسنات البديعية.(3/156)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
اللغَة: {يُفْرَقُ} يُبيَّن ويُفصَّل {ارتقب} انتظر {يَغْشَى} يغطي ويحيط {نَبْطِشُ} نأخذ بشدة وعنف {فَتَنَّا} ابتلينا وامتحنا {تَعْلُواْ} تتكبروا وتتطاولوا {عُذْتُ} استجرتُ والتجأت إلىلله {أَسْرِ} سر ليلاً {رَهْواً} ساكناً، والرهو عند العرب الساكن قال الشاعر:
والخيلُ تمزع رهواً في أعنَّتها ... كالطير تنجو من الشُئبوب ذي البرد
قال الجوهري: رها البحر أي سكن، وجاءت الخيل رهواً أي برفق وسكينة {مُنظَرِينَ} مؤخرين {نَعْمَةٍ} النَّعمة بفتح النون من التنعيم وهو سعة العيش والراحة، وبالكسر من المنة وهي العطية والإِفضال.
سَبَبُ النّزول: عن ابن مسعود قال: إن قريشاً لما استعصت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحطّ وجهدٌ حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر الى السماء فيرى مابينه وبينها كهيئة الدخان من الجهْد، فأنزل الله تعالى {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} فأتي رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقيل يا رسول الله: استسق لمضر فإِنها قد هلكت، فاستسقى فُسقُوا فنزلت {إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} .
التفسير {حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وقد تقدم {والكتاب المبين} أي أُقسم بالقرآن البيِّن الواضح، الفارق بين طريق الهدى والضلال، البيِّن في إِعجازه، الواضح في أحكامه، وجوابه {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} أي أنزلنا القرآن في ليلةٍ فاضلة كريمة هي ليلة القدر من شهر رضمان المبارك {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] قال ابن جزي: وكيفيةُ(3/158)
إِنزاله فيها أنه أُنزل الى السماء الدنيا جملةٌ واحدة، ثم نزل به جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً بعد شيء، وقيل: المعنى ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، قال القرطبي: ووصف الليلة بالبركة لما يُنزل الله فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} أي لننذر به الخلق، لأن من شأننا وعادتنا ألاَّ نترك الناس دون إِنذار وتحذيرٍ من العقاب، لتقوم الحجة عليهم {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي في ليلة القدر يُفصل ويُبيَّن كلُّ أمرٍ محكم من أرزاق العباد وآجالهم وسائر أحوالهم فلا يُبدَّل ولا يُغيِّر قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى السنة القابلة ما كان من حياةٍ، أو موت، أو رزقٍ قال المفسرون: إن الله تعالى ينسخ من اللوح المحفوظ في ليلة القدر، ما يكون في تلك السنة من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من خير وشر، وصالح وطالح، حتى إن الرجل ليمشي في الأسواق وينكحُ ويُولد له وقد وقع اسمه في الموتى {أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ} أي جميع ما نقدِّره في تلك الليلة وما نوحي به إلى الملائكة من شئون العباد، هو أمرٌ حاصل من جهتنا، بعلمنا وتدبيرنا {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي نرسل الأنبياء إلى البشر بالشرائع الإِلهية لهدايتهم وإرشادهم {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي من أجل الرأفة والرحمة بالعباد قال في البحر: وضع الظاهر {رَّبِّكَ} موضع الضمير «رحمةً منا» إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} أي السميع لأقوال العباد، العليمُ بأفعالهم وأحوالهم {رَبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} أي الذي أنزل القرآ، وهو ربُّ السمواتِ والأرض وخالقهما ومالكهما ومن فيهما، إن كنتم من أهل الإِيمان واليقين {لاَ إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي لا ربَّ غيره، ولا معبود سواه، لأنه المتصف بصفات الجلال والكمال، يُحيي الأموات، ويميت الأحياء {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} أي وهو خالقكم وخالق من سقبكم من الأمم الماضين قال الرازي: والمقصودُ من الآية أن المنزل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء، كان المُنزل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} أي ليسوا موقنين فيما يظهرونه من الإِيمان في قولهم: اللهُ خالقنا، بل هم في شكٍ من أمر البعث، فهم يلعبون ويسخرون ويهزءون قال شيخ زاده: التفت من الخطاب للغيبة فقال {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} تحقيراً لشأنهم، وإيعاداً لهم عن موقف الخطاب، لكونهم من أهل الشك والامتراء، وكونُ أفعالهم الهزء واللعب لعدم التفاتهم إلى البراهين القاطعة، وعدم تمييزهم بين الحق والباطل، والضار والنافع، ثم لما بيَّن أن شأنهم الحماقة والطغيان التفت إلى حبيبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسليةً له، وإقناطاً من إيمانهم فقال {فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} أي فانتظر يا محمد عذابهم يوم تأتي السماءُ بدخانٍ كثيف، بيّنٍ واضح يراه كل أحد قال ابن مسعود: إن قريشاً لما عصت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا عليهم فقال:
«اللهم اشدُد وطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسني يوسف» فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف، وكان الرجل يُحدِّث أخاه فيسمع صوته ولا يراه لشدة الدخانا المنتشر بين السماء والأرض،(3/159)
ثم قال ابن مسعود: خمسٌ قد مضين: «الدخانُ، والرومُ، والقمر، والبطشة، واللزام» وقال ابن عباس: لم يمض الدخان بل هو من أمارات الساعة، وهو يأتي قُبيل القيامة، يصيبُ المؤمن منه مثلُ الزكام، ويُنضجُ رءوس الكافرين والمنافقين، حتى يصبح رأس الواحد كالرأس المشوي، ويغدو كالسكران فيملأ الدخان جوفه ويخرج من منخريه وأُذنيه ودبره {يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي يشمل كفار قريش ويعمهم من كل جانب ويقولون حين يصيبهم الدخان: هذا عذاب أليم {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ} أي ويقولون مستغيثين: ربَّنا ارفع عنا العذاب فإِننا مؤمنون بمحمد وبالقرآن إن كشفته عنا قال البيضاوي: وهذا وعدٌ بالإِيمان إن كشف العذاب عنهم {أنى لَهُمُ الذكرى} ؟ استبعداٌ لإِيمانهم أي من أين يتذكرون ويتعظون عند كشف العذاب؟ {وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} أي والحال أنه قد أتاهم رسولٌ بيّن الرسالة، مؤيدٌ بالبينات الباهرة، والمعجزات القاهرة، ومع هذا لم يؤمنوا به ولم يتعبوه؟ {ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} أي ثم أعرضوا عنه وبهتوه، ونسبوه إلى الجنون وحاشاه فهل يُتوقع من قومٍ هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال الإِمام الفخر: إن كفار مكة كان لهم في ظهور القرآن نعلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قولان: منهم من يقول: إن محمداً يتعلم هذا الكلام من بعض الناس، ومنهم من كان قول: إنه مجنون والجنُّ تلقي عليه هذا الكلام حال تخبطه {إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ} أي سنكشف عنكم العذاب زمناً قليلاً ثم تعودون إلى ما كنتم عليه من الشرك والعصيان قال الرازي: والمقصودُ التنبيه على أنهم لا يوفون بعهدهم، وأنهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر وتقليد الأسلاف قال ابن مسعود: لما كشف عنهم العذاب باستسقاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عادوا إلى تكذبيه {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} نَبْطِشُ أي واذكر يوم نبطش بالكفار بطشتنا الكبرى انتقاماً منهم، والبطشُ: الأخذُ بقوة وشدة قال ابن مسعود: «البطشة الكبرى» يوم «بدر» وقال ابن عباس: هي يوم القيامة قال ابن كثير: الظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يومُ بدر يومَ بطشةٍ أيضاً وقال الرازي: القول الثاني أصح لأن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف به هذا الوصف العظيم، ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القايمة، ولمّا وصف بكونها «كبرى» وجب أنتكون أعظلم أنواع البطش على الإِطلاق، وذلك إنما يكون في القيامة، ثم ذكَّر كفار قريش بما حلَّ بالطاغين من قوم فرعون فقال {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم أقباط مصر {وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} أي وجاءهم رسولٌ شريف الحسب والنسب، من أكرم عباد الله وهو موسى الكليم عليه(3/160)
أفضل الصلاة والتسليم {أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله} أي فقال لهم موسى: ادفعوا إليَّ عبادَ الله وأطلقوهم من العذاب، يدريد بني إِسرائيل كقوله تعالى
{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} [طه: 47] {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي إني رسولٌ مؤتمنٌ على الوحي غير متهم، وأنا لكم ناصح فاقبلوا بنصحي {وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله} أي لا تتكبروا على الله ولا تترفَّعوا عن طاعته {إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي قد جئتكم بحجةٍ واضحة، وبرهانٍ ساطع، يعترف بهما كل عاقل {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ} أي التجأت إليه تعالى واستجرت به من أن تقتلوني قال القرطبي: كأنهم توعَّدوه بالقتل فاستجار بالله {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون} أي وإن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة، فكفوا عن أذاي وخلُّوا سبيلي قال ابن كثير: أي لاتتعرضوا لي ودعوا الأمر مسالمةً إلى أن يقضي الله بيننا {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} أي فدعا عليهم لمّا كذبوه قائلاً: يا ربِّ إن هؤلاء قوم مجرمون فانتقم منهم {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} في الكلام حذف تقديره فأوحينا إليه وقلنا له: أسرِ بعبادي أي أخرج ببني إسرائيل ليلاً فإن فرعون وقومه يتبعونكم، يوكن ذلك سبباً لهلاكهم {واترك البحر رَهْواً} أي واترك البحر ساكناً منفرجاً على هيئته بعد أن تجاوزه {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} أي إنَّ فرعون وقومه سيغرقون فيه قال في التسهيل: لمَّا جاوز موسى البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فأمره الله بأن يتركه ساكناً كما هو ليدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه، وإنما أخبره تعالى بذلك ليبقى فارغ القلب من شرهم وإِيذائهم، مطمئناً إلى أنهم لن يدركوا بني إسرئيل، ثم أخبر تعالى عن هلاكهم فقال {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} كم للتكثير أي لقد تركوا كثيراً من البساتين والحدائق الغناء والأنهار والعيون الجارية {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي ومزارع عديدة فيها أنواع المزروعات ومجالس ومنازل حسنة قال قتادة: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} هي المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها {وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ} أي وتنعم بالعيش مع الحسن والنضارة كانوا فيها ناعمين بالرفاعية وكمال السرور قال الإِمام الفخر: بيَّن تعالى أنهم بعد غرقهم تركوا هذه الأشياء الخمسة هي: الجنات، والعيون، والزروع، والمقام الكريم وهو المجالس والمنازل الحسنة ونعمة العيش بفتح النون هي حسنُه ونضارته {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} أي كذلك فعلنا بهم حيث أهلكناهم وأورثنا ملكهم وديارهم لقومٍ آخرين، كانوا مستعبدين في يد القبط وهم بنو إسرائيل قال ابن كثير: والمراد بهم بنو إسرائيل فقد استولوا بعد غرق فرعون وقومه على الممالك القبطية، والبلاد المصرية كما قال تعالى
{وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] وقال تعالى في مكان آخر {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} أي فما حزن على فقدهم أحد، ولا تأثر بموتهم(3/161)
كائن من الخلق {وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ} أي ما كانوا مؤخرين وممهلين إلى وقت آخر. بل عُجّل عقابهم في الدنيا قال القرطبي: تقول العرب عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمَّت مصيبتُه الأشياء حتى بكته الأرض والسماء، والريح والبرق قال الشاعر:
فيما شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع لموتِ طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغةٌ في وجوب الجزع والبكاء عليه والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد، وقيل هو على حذف مضاف أي ما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض.(3/162)
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى إهلاك فرعون وقومه، أردفه بذكر إحسانه لبني إسرائيل، ليشركوا ربهم على إنعامه وإحسانه، ثم حذَّر كفار مكة من بطش الله وانتقامه، وختم السورة الكريمة ببيان حال الأشقياء والسعداء في يوم الفصل والجزاء.
اللغَة: {عَالِياً} متكبراً جباراً {بَلاَءٌ} اختبار وامتحان {مُنشَرِينَ} مبعوثين بعد الموت، وأنشر الله الموتى أحياهم {قَوْمُ تُبَّعٍ} ملوك اليوم، وكانوا يسمون ملوكهم التبابعة قال الجوهري:(3/162)
التبابعة ملوك اليمن، واحدهم تُبَّع، وقال أهل اللغة: تُبَّع لقب للملك منهم كالقياصرة للروم، والأكاسرة للفرس، والخلفاء للمسلمين {يَوْمَ الفصل} يوم القيامة {مَّوْلًى} قريب وناصر {المهل} النحاس المذاب {الأثيم} الفاجر من أثِمَ الرجل يأثم إِذا وقع في الإِثم والفجور {اعتلوه} جرُّوه وسوقوه بغنفٍ وشدَّة {سُندُسٍ} رقيق الديباج {إِسْتَبْرَقٍ} غليظ الديباج {عِينٍ} واسعات الأعين جمع عيناء {ارتقب} انتظر.
التفسِير: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين} أي والله لقد أنقدنا بني إسرائيل من العذاب الشديد، المفرط في الإِذلال والإِهانة، وهو قتل أبنائهم واستخدام نسائهم، وإرهاقهم في الأعمال الشاقة {مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} أي من طغيان فرعون وجبروته إنه كان متكبراً جباراً، متجاوزاً الحد في الطغيان والإِجرام قال الصاوي: هذه من جملة تعداد النعم على بني إسرائيل، والمقصود من ذلك تسليته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتبشيره بأنه سينجيه وقومه المؤمنين من أيدي المشركين، فإِنهم لم يلغوا في التجبر مثل فرعون وقومه {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} أي اصطفيناهم وشرفناهم على علمٍ منا باستحقاقهم لذلك الشرف على جميع الناس في زمانهم قال قتادة: على أهل زمانهم، لا على أمة محمد لقوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ} أي وآتيناهم من الحجج والبراهين وخوارق العادات ما فيه اختبار وامتحان ظاهر جليٌ لمن تدبَّر وتبصَّر قال الرازي: والآياتُ مثل فلق البحر، وتظليل الغمام، وإِنزال المنِّ والسلوى وغيرها من الآيات الباهرة، التي ما أظهر الله مثلها على أحدٍ سواهم {إِنَّ هؤلاء لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى} أي إن كفار قريش ليقولون: لن نموت إلا موتةً واحدةً وهي موتتنا الأولى في الدنيا، وفي قوله تعالى {هؤلاء} تحقيرٌ لهم وازدراءٌ بهم قال المفسرون: لمَّا كان الحديث في أول السورة عن كفار مكة، وجاءت قصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإِصرار على الضلالة والكفر، رجع إلى الحديث عن كفار قريش، والغرضُ من قولهم {إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى} إِنكار البعث كأنهم قالوا: إِذا متنا فلا بعث ولا حياة ولا نشور، ثم صرحوا بذلك بقولهم {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} أي وما نحن بمبمعوثين {فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} خطابٌ للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين على وجه التعجيز أي أحيو لنا آبائنا ليخبرونا بصدقكم إن كنتم صادقين في أن هناك حياةً بعد هذه الحياة قال الإِمام الفخر: إن الكفار احتجوا على نفي الحشر والنشر بأن قالوا: إن كان البعث والنشور ممكناً معقولاً فجعلوا لنا إحياء من مات من آبائنا ليصير ذلك دليلاً عندنا على صدق دعواكم في البعث يوم القيامة وقال القرطبي: قال هذا أبو جهل، قال يا محمد: إن كنت صادقاً في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما: قُصي بن كلاب فإِنه كان رجلاً صادقاً، لنسأله كما يكون بعد الموت {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} استفهام انكار مع(3/163)
التهديد أي أهؤلاء المشركون أقى وأشدُّ أم أهل سبأ ملوك اليمن؟ الذين كانوا أكثر أموالاً، وأعظم نعيماً من كفار مكة؟ {والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ} أي والذين سبقوهم من الأمم العاتية أهلكناهم، وخربنا بلادهم، وفرقناهم شذر مذر قال أبو السعود: والمراد بهم عاد وثمود وأضرابهم من كل جبار عنيد، أولي بأسٍ شديد، فأولئك كانوا أقوى من هؤلاء، وقد أهلكهم الله مع ما كنوا عليه من غاية القوة والشدة، فإِهلاك هؤلاء أولى {إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} تعليل للإِهلاك أي أهلنكاهم ودمرناهم بسبب إِجرامهم، وفيه وعيد وتهديد لقريش أن يفعل الله بهم ما فعل بقوم تُبَّع والمكذبين.
. ثم نبه تعالى إلى دلائل البعث وهو خلق العالم بالحقِّ فقال {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} أي ما خلقنا هذا الكون وما فيه من المخلوقات البديعة لعباً وعبثاً {مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق} أي ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات إالا بالعدل والحقِّ المبين، لنجازي المحسن بإِحسانه والمسيء بإِساءته {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك فينكرون البعث والجزاء قال المفسرون: إن الله تعالى خلق النوع الإِنساني، وخلق ما ينتظم به أسباب معاشهم، من السقف المرفوع، والمهاد المفروش، وما بينهما من عجائب المصنوعات، وبدائع المخلوقات، ثم كلفهم بالإِيمان والطاعة، فآمن البعض وكفر البعض، فلا بدَّ إذاً من دار جزاء يثاب فيها المحسن، ويعاقب فيها المسيء، لتجزى كل نفسٍ بما كسبت، ولو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق لهواً وعبثاً، وتنزَّه الله عن ذلك، ولهذا قال بعده {إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي إن يوم القيامة موعد حساب الخلائق أجمعين، سُمي {يَوْمَ الفصل} لأنه الله تعالى يفصل فيه بين الخلق كما قال {يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3] {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} أي في ذلك اليوم الرهيب، لا يدفع قريب عن قريبه، ولا صديقٌ عن صديقه، ولا ينفع أحدٌ أحداً ولا ينصره ولو كان قريبه كقوله {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً}
[لقمان: 33] {إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} استثناء متصل أي لا يغني قريبٌ عن قريب إلا المؤمنين فإِنه يُؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض وقيل: منقطع أي لكنْ من رَحِمَهُ اللَّهُ ُ فإِنه يشفع وينفع قال ابن عباس: يريد المؤمن فإِنه تشفع له الأنبياء والملائكة {إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم} أي هو المنتقم من أعدائه، الرحيمُ بأوليائه. . ولما ذكر الأدلة على القيامة، أردفه بوصف ذلك اليوم العصيب، فذكر وعيد الكفار أولاً ثم وعند الأَبرار ثانياً للجمع بين الترهيب والترغيب فقال {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} أي إن هذه الشجرة الخبيثة شجرة الزقوم التي تنبتُ في أصل الجحيم، طعام كل فاجر، ليس له طعام غيرها قال أبو حيان: الأثيمُ صفة مبالغة وهو الكثير الآثام، وفُسِّر بالمشرك {كالمهل يَغْلِي فِي البطون} أي هي في شناعتها وفظاعتها إذا أكلها الإِنسان كالنحاس المذاب الذي تناهى حرُّه، فهو يُجرجر في البطن {كَغَلْيِ الحميم} أي كغليان الماء الشديد الحرارة قال القرطبي: وشجرة الزقوم هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم، وسمَّاها الشجرة(3/164)
الملعونة، فإِذا جاع أهل النار التجئوا إليها فأكلوا منها، فغلبت في بطونهم كما يغلي الماء الحار، وشبَّه تعالى ما يصير منها إلى بطونهم بالمُهل وهو النحاس المذاب، والمرادُ بالأثيم الفاجر ذو الإِثم وهو أبو جهل، وذلك أنه كان يقول: يعدنا محمد أن في جهنم الزقوم، وإنما هو الثَّريد بالزبد والتمر، ثم يأتي بالزبد والتمر ويقول لأصحابه: تزقموا، سخريةً واستهزاءً بكلام الله، قال تعالى {خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَآءِ الجحيم} أي يُقال للزبانية: خذوا هذا الفاجر اللئيم فسوقوه وجروه من تلابيبه بعنف وشدة إلى وسط الجحيم {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم} أي ثم صبوا فوق رأس هذا الفاجر عذاب ذلك الحميم الذي تناهى حرُّه {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أي يقال له على سبيل الاستهزاء والإِهانة: ذقْ هذا العذاب فإِنك أنت المعزَّز المكرَّم قال عكرمة: التقى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأبي جهل فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّ الله أمرني أن أقول لك {أولى لَكَ فأولى} [القيامة: 34] فقال: بأي شيءٍ تهددني! واللهِ ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، إني لمن أعزَّ هذا الوادي وأكرمه على قومه، فقتله الله يوم بدر وأذلَّه ونزلت هذه الآية {إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي إنَّ هذا العذاب هو ما كنتم تشكُّون به في الدنيا، فذوقوه اليوم {أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] والجمعُ في الآية باعتبار المعنى لأن المراد جنس الأثيم. . ولما ذكر تعالى أحوال أهل النار أتبعه بذكر أحوال أهل الجنة فقال {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} أي الذين اتقوا اللهَ في الدنيا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم اليوم في موضع إِقامة يأمنون فيه من الآفات والمنغصات والمكاره، وهو الجننة ولهذا قال بعده {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي في حدائق وبساتين ناضرة، وعيونٍ جارية {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} أي يلبسون ثياب الحرير، الرقيق منه وهو السندس، والسميك منه وهو الاستبرق {مُّتَقَابِلِينَ} أي متقابلين في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أي كذلك أكرمناهم بأنواع الإِكرام، وزوجناهم أيضاً بالحور الحسان في الجنان قال البيضاوي: أي قرناهم بالحور العين، والحوراءُ: البيضاءًُ، والعيناءُ عظيمة العينين، وإنما وصف تعالى نعيمهم بذلك لأن الجنات والأنهار من أقوى أسباب نزهة الخاطر، وانفراجه عن الغم، ثم ذكر الحور الحِسان لأن بها اكتمال سعادة الإِنسان كما قيل «ثلاثةُ تنفي عن القلب الحزن: الماء، والخضرةُ، والوجهُ الحسن» ثم زاد في بيان النعيم فقال {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} أي يطلبون من الخدم إحضار جميع أنواع الفواكه في الجنة، لأجل أنهم آمنون من التخم والأمراض، فلا تعب في الجنة ولا وَصَب {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} استثناء منقطع أي لا يذوقون في الجنة الموت لكنهم قد ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا فلم يعد ثمة موت، بل خلود أبد الآبدين {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم} أي خلَّصهم ونجَّاهم من عذاب جهنم الشديد الأليم {فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ} أي فعل ذلك بهم تفضلاً منه تعالى عليهم {ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} أي ذلك الذي أعطوه من النعيم، هو الفوز العظيم الذي لا فوز وراءه {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي فإِنما سهلنا القرآن بغلتكم وهي لسان العرب لعلهم يتعظون وينزجرون {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} أي فانتظر يا محمد ما يحل بهم، إِنهم منتظرون(3/165)
هلاكك، ويسعلمون لمن تكون النصرة والظفر في الدنيا والآخرة، وفيه وعد للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعيد للمشركين.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - صغية المباغلة {السميع العليم} {العزيز الرحيم} {العزيز الكريم} .
2 - الطباق {لاَ إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الدخان: 8] وكذلك {إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} .
3 - تحريك الهمة للإِيمان والتبصر {إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} [الدخان: 7] .
4 - الإِيجاز بحذف بعض الكلام {أَنْ أَسْرِ بعبادي} أي وقلنا له بأن أسر.
5 - الاستعارة اللطيفة {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} [الدخان: 29] أي لم يتغير بهلاكهم شيء ولم تحزن عليهم السماء والأرض بعد انقطاع آثارهم، والعرب يقولون في التعظيم: بكت عليه السماء والأرض، وأظلمت له الدنيا ويقولون في التحقير: مات فلان فلم تخشع له الجبال.
6 - أسلوب التعجيز {فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
7 - أسلوب التهكم والسخرية {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} .
8 - التفجيع وإِظهار الأسى والحسرة {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 2526] ؟
9 - التشبيه المرسل المجمل {كالمهل يَغْلِي فِي البطون كَغَلْيِ الحميم} .
10 - السجع الرصين غير المتكلف الذي يزيد في رونق الكلام وجماله إِقرأ مثلاً قوله تعالى {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم كالمهل يَغْلِي فِي البطون كَغَلْيِ الحميم خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَآءِ الجحيم ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} .(3/166)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
اللغَة: {يَبُثُّ} ينشر ويفرِّق {تَصْرِيفِ} تقليب، صرَّف الله الريح قلَّبها من جهى إلى جهة {وَيْلٌ} كلمة تستعمل في العذاب والدمار {أَفَّاكٍ} كذَّاب، والإِفك: الكذب {أَثِيمٍ} كثير الإِثم والإِجرام {رِّجْزٍ} أشد العذاب {يُصِرُّ} أصرَّ على الشي: عزم على البقاء عليه بوقة وشدة {يُغْنِي} ينفع أو يدفع ومنه {مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة: 28] {بَصَائِرُ} دلائل ومعالم.
التفسِير: {حم} الحروف المقطَّعة للتنبيه على إعجاز القرآن {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} أي هذا القرآن تنزلٌ من الله، العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه، الذي لا يصدر عنه إلا كل ما فيه حكمةٌ ومصلحة للعباد، ثم أخبر تعالى عن دلائل الوحدانية والقدرة فقال {إِنَّ فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي إنَّ في خلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات العجيبة،(3/168)
والأحوال الغريبة، والأمور البديعة، لعلامات باهرة على كمال قدرة الله وحكمته، لقوم يصدّقون بوجود الله ووحدانيته {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي وفي خلقكم أيها الناسُ من نطفةٍ ثم من علقة، متقلبة في أطوارٍ مختلفة إلى تمام الخلق، وفيما ينشره تعالى ويُفرقه من أنواع المخلوقات التي تدب على وجه الأرض، آياتٌ باهرةٌ أيضاً لقومٍ يصدّقون عن إذعانٍ ويقين بقدرة ربِّ العالمين {واختلاف الليل والنهار} أي وفي تعاقب الليل والنهار، دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وذاك بضيائه، بنظام محكم دقيق {وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ} أي وفيما أنزله الله تبارك وتعالى من السحاب، من المطر الذي به حياة البشر في معاشهم وأرزاقهم قال ابن كثير: وسمَّى تعالى المطر رزقاً لأنه به يحصل الرزق {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي فأحيا بالمطر الأرض بعدما كانت هامدةً يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فأخرج فيها من أنواع الزروع والثمرات والنبات {وَتَصْرِيفِ الرياح} أي وفي تقليب الرياح جنوباً وشمالاً، باردة وحارة {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي علامات ساطعة واضحة على وجود الله ووحدانيته، لقومٍ لهم عقول نيّرة وبصائر مشرقة قال الصاوي: ذكر الله سبحانه وتعالى من الدلائل ستةً في ثلاث آيات، ختم الأولى ب {لِّلْمُؤْمِنِينَ} ، والثانية ب {يُوقِنُونَ} والثالثة ب {يَعْقِلُونَ} ووجه التغابر بينها في التعبير أن الإِنسان إذا تأمل في السمواتِ والأرض، وأنه لا بدَّ لهما من صانع آمن، وإِذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد إيماناً فأيقن، وإِذا نظر في سائر الحوادث كمل عقله واستحكم علمه {تَلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} أي هذه آيات الله وحججه وبراهينه، الدالة على وحدانيته وقدرته، نقصُّها عليك يا محمد بالحق المبين الذي لا غموض فيه ولا التباس {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ؟ أي وإِذا لم يصدِّق كفار مكة بكلام الله، ولم يؤمنوا بحججه وبراهنيه، فبأي كلامٍ يؤمنون ويصدِّقون؟ والغرضُ استعظام تكذيبهم للقرآن بعد وضوح بيانه وإِعجازه {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أي هلاك ودمارٌ لكل كذَّاب مبالغٍ في اقتراف الآثام قال الرازي: وهذا وعيدٌ عظيم، والأَفاك الكذَّاب، والأثيمُ المبالغ في اقتراف الآثام {يَسْمَعُ آيَاتِ الله تتلى عَلَيْهِ} أي يسمع آيات القرآن تُقرأ عليه، وهي في غاية الوضوح والبيان {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} أي ثم يدوم على حاله من الكفر، ويتمادى في غيّه وضلاله، مستكبراً عن الإِيمان بالآيات كأنه لم يسمعها {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فبشّره يا محمد بعذاب شديد مؤلم، وسمَّاه «باشرة» تهكماً بهم، لأن البشارة هي الخبر السارُّ قال في التسهيل: وإِنما عطفه ب «ثم» لاستعظام الإِصرار على الكفر بعد سماعه آيات الله، واستبعاد ذلك في العقل والطبع قال المفسرون: نزلت في «النضر بن الحارث» كان يشتري أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن، والآيةُ عامةٌ في كل من كان موصوفاً بالصفة المذكورة {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتخذها هُزُواً} أي إِذا بلغه شيء من الآيات التي أنزلها الله على محمد، سخر واستهزأ بها {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي أولئك الأفاكون المستهزءون بالقرآن لهم عذاب شديد مع الذل والإِهانة {مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} أي أمامهم(3/169)
جهنم تنتظرهم لما كانوا فيه من التعزز في الدنيا والتكبر عن الحق {وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً} أي لا ينفعهم ما ملكوه في الدينا من المال والولد {وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ} أي ولا تنفعهم الأصنام التي عبدوها من دون الله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم عذاب دائم مؤلم قال أبو السعود: وتوسيط النفي {وَلاَ مَا اتخذوا} مع أن عدم إِغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إِغناء الأموال والأولاد، مبينٌ على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم بهم {هذا هُدًى} أي هذا القرآن كامل في الهداية لمن آمن به وأتَّبعه {والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي جحدوا بالقرآن مع سطوعه، وفيه زيادة تشنيع على كفرهم به، وتفظيع حالهم {لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} أي لهم عذاب من أشدِّ أنواع العذاب مؤملمٌ موجعٌ قال الزمخشري: والرجزُ أشدُّ العذاب، والمراد ب {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} القرآن.
. ثم لمَّا توعَّدهم بأنواع العذاب ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة ليشكروه ويوحّدوه فقال {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر} أي الله تعالى بقدرته وحكمته هو الذي ذلَّل لكم البحر على ضخامته وعظمه {لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ} أي لتسير السفنُ على سطحه بمشيئته وإرادته، دن أن تغوص في أعماقه قال الإِمام الفخر: خلَق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها السفن، وخلق الخشبة على وجه تبقى طافيةً على وجه الماء دون أن تغوص فيه، وذلك لا يقدر عليه أحد إلا الله {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي ولتطلبوا من فضل الله بسبب التجارة، والغوص على اللؤلؤ والمرجان، وصيد الأسماك وغيرهال {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولأجل أَن تشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم وتفضَّل قال القرطبي: ذكر تعالى كما قدرته، وتمام نعمته على عباده، وبيَّن أنه خلقَ ما خلق لمنافعهم، وكلُّ ذلك من فعله وخلقه، وإِحسانٌ منه وإِنعام {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} أي وخلق لكم كل ما في هذا الكون، من كواكب، وجبال، وبحار، وأنهار، ونباتٍ، وأشجار، الجميع من فضله وإِحسانه وامتنانه، من عنده وحده جلَّ وعلا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إِنَّ فيما ذُكر لعبراً وعظات لقوم يتأملون في بدائع صنع الله فيستدلون على قدرته ووحدانيته ويؤمنون، ثم لما بيَّن تعالى دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، أردفه بتعليم فضائل الأخلاق، ومحاسن الأفعال فقال {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} أي قل يا محمد للمؤمنين يصفحوا عن الكفار، ويتجاوزوا عمَّا يصدر عنهم من الأذى والأفعال الموحضة قال مقاتل: شتم رجلٌ من الكفار عمر بمكة فهمَّ أن يبطش به، فأمر الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية، والمرادُ من قوله {لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} أي لا يخفون بأسِِ الله وعقابه لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ولا بلقاء الله قال ابن كثير: أُمر المسلمون أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك تأليفاً لهم، ثم لما أصرُّوا على العناد، شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ(3/170)
يَكْسِبُونَ} وعيدٌ وتهديد أي ليجازي الكفرة المجرمين بما اقترفوه من الإِثم والإِجرام، والتنكيرُ للتحقير {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} أي من فعل خيراً في الدنيا فنفعُه لنفسه، ومن أرتكب سوءاً وشراً فضرره عائد عليها، ولا يكاد يسري عملٌ إلى غير عامله {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي ثم مرجعكم يوم القيةم إلى الله وحده، فيجازي كلاً بعمله، المحسنَ بإِحسانه، والمسيءَ بإِساءته.
. ولما ذكَّر بالنعم العامة أردفه بذكر النعم الخاصة على بني إِسرائيل فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب والحكم والنبوة} أي والله لقد أعطينا بني إِسرائيل التوراة، وفصل الحكومات بين الناس، وجعلنا فيهم الأنبياء والمرسلين {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} أي ورزقناهم من أنواع النعم الكثيرة من المآكل والمشارب، والأقوات والثمار {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين} أي وفضلناهم على سائر الأمم في زمانهم قال الصاوي: والمقصود من ذلك تسليته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كأنه قال: تحزن يا محمد على كفر قومك، فإِننا آتينا بني إِسرائيل الكتاب والنعم العظيمة، فلم يشكروا بل أصرُّوا على الكفر، فكذلك قومك {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر} أي وبينا لهم في التوراة أمر الشريعة وأمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أكمل وجه قال ابن عباس: يعني أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشواهد نبوته بأنه يُهاجر من تهامة إلى يثرب وينصره أهلها {فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} أي فما اختلفوا في ذلك الأمر، إلا من بعد ما جاءتهم الحجج والبراهين والأدلة القاطعة على صدقه {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي حسداً وعناداً وطلباً للرياسة قال الإِمام الفخر: والمقصودُ من الآية التعجبُ من هذه الحالة، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وههنا صار العلم سبباً لحصول الاختلاف، لأنه لم يكن مقصودهم نفس العلم وإِنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم، فلذلك علموا وعاندوا {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي هو جل وعلا الذي يفصل بين العباد يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، وفي الآية زجرٌ للمشركين أن يسلكوا مسلك من سبقهم من الأمم العاتية الطاغية {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر فاتبعها} أي ثم جعلناك يا محمد على طريقة واضحة، ومنهاجٍ سديد رشيد من أمر الدين، فاتبع ما أوحىإليك ربك من الدين القيّم {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي تتَّبع ضلالال المشركين قال البيضاوي: لا تتبع آراء الجهال التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش حيث قالوا: ارجع إلى دين آبائك {إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} أي لن يدفعوا عنك شيئاً من العذاب إن سايرتهم على ضلالهم {وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي وإن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا ولا ولي لهم في الآخرة {والله وَلِيُّ المتقين} أي وهو تعالى ناصر ومعين المؤمنين المتقين في الدنيا والآخرة {هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي هذا القرآن نور وضياء للناس بمنزلة البصائر في القلوب، وهو رحمة لمن آمن به وأيقن.(3/171)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
المنَاسَبَة: لما حكى تعالى ضلالات بني إِسرائيل، وبيَّن أن القرآن نور وهداية لمن تمسَّك به، أعقبه ببيان أنه لا يتساوى المؤمن مع الكافر، ولا البر مع الفاجر، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ثم ذكر الأدلة على البعث والنشور.
اللغَة: {اجترحوا} اكتسبوا والاجتراحُ الاكتساب ومنه الجوارح {غِشَاوَةً} غطاء وغثَّى الشيءَ غطَّاه {جَاثِيَةً} باركةً على الركب لشدة الهول جثا بحثو إِذا قعد على ركبتيه {نَسْتَنسِخُ} استنسخ الشيء أمر بكتابته وتدوينه {حَاقَ} نزل وأحاط {يُسْتَعَتَبُونَ} يُطلب منهم إِرضا ربهم يقال: استعتبتهُ فأعتبني أي استرضيتُه فقبل مني عذري {الكبريآء} العظمة والمُلك والجلال.
سَبَبُ النّزول: روي أن أبا جهلٍ طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثنا في شأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال أبو جهل: واللهِ إني لأعلم أنه لصادق، فقال له: مهْ، وما دلَّك على ذلك؟ فقال يا أبا عبد شمسٍ: كنا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تمَّ عقلهُ وكمُل رشده نسميه الكذاب الخائن! {والله إني لأعلم أنه لصادق، قال: فما يمنعك أن تصدّشقه وتُؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني اتبعت أبي طالب من أجل كسْرة واللاتِ والعُزَّى لا أتَّبعه أبداً فنزلت {(3/172)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ. .} الآية.
التفسِير: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} الاستفهام للإِنكار والمعنى هل يظنُّ الكفار الفجار الذين اكتسبوا المعاصي والآثام {أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي نجعلهم كالمؤمنين الأبرار {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} أي نساوي بينهم في المحيا والممات؟ لا يمكن أن نساوي بين المؤمنين والكفار، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإِن المؤمنين عاشو على التقوى والطاعة، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية، وشتان بين الفريقين كقوله {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] ؟ قال مجاهد: المؤمنُ يموت مؤمناً ويُبعث مؤمناً، والكافر يموت كافراً ويُبعث كافراً {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء حكمهم في تسويتهم بين أنفسهم وبين المؤمنين قال ابن كثير: ساء ما ظنّوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأَبرار والفجار، فكما لا يُجتنى من الشوك العنبُ، كذلك لا ينال الفُجَّار منازل الأبرار {وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق} أي وخلق الله السموات والأرض بالعدل والأمر الحقِّ ليدل بهما على قدرته ووحدانيته {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي ولكي يُجزى كل إِنسان بعمله، وبما اكتسب من خير أو شر، دون أن يُنقص في ثوب المؤمن أو يُزاد في عذاب الكافر قال شيخ زاده: لمّا خلق تعالى السموات والأرض لإِجل إِظهار الحق، وكان خلقهما من جملة حكمته وعدله، لزم من ذلك أن ينتقم من الظالم لأجل المظلوم، فبثت بذلك حشر الخلائق للحساب {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} أي أخبرني يا محمد عن حال من ترك عبادة الله وعبد هواه} ! قال في البحر: أي هو مطواعٌ لهوى نفسه يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلَهه قال ابن عباس: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلاّ ركبه {وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} أي وأضلَّ الله ذلك الشقي في حال كونه عالماً بالحق غير جاهل به، فهو أشدُّ قبحاً وشناعةً ممن يضل عن جهل، لأنه يُعرض عن الحقِّ والهُدى عناداً كقوله تعالى
{وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} أي وطبع على سمعه وقلبه بحث لا يتأثر بالمواعظ، ولا يتفكر في الآيات والنُّذر {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أي وجعل على بصره غطاء حتى لا يبصر الرشد، ولا يرى حجة يستضيء بها {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} ؟ أي فمن الذي يستطيع أن يهديه بعد أن أضله الله؟ لا أحد يقدر على ذلك {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تعتبرون أيها الناس وتتعظون؟ قال الصاوي: وصف تعالى الكفار بأربعة أوصاف: الأول: عبادة الهوى، والثاني: ضلاله على علم الثالث: الطبع على أسماعهم وقلوبهم الرابع: جعل الغشاوة على أبصارهم، وكلَّ وصفٍ منها مقتضٍ للضلالة، فلا يمكن إِيصال الهدى إليهم بوجهٍ من الوجوه. . ثم حكى تعالى عن المشركين شبهتهم في إنكار القيامة، وفي إِنكار الإِله القادر العليم فقال {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي وقال المشركون: لا حياة إلا هذه الحياة(3/173)
الدنيا، يموت بعضنا ويحيا بعضنا، ولا آخرة، ولا بعث، ولا نشور قال ابن كثير: هذا قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إِنكار المعاد، ومرادهم ما ثمَّ إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وليس هناك معادٌ ولا قيامة، وهذا قول الفلاسفة الدهريين، المنكرين للصانع، المعتقدين أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه {وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} أي وما يهلكنا إلا مرورُ الزمان، وتعاقبُ الأيام قال الرازي: يريدون أن الموجب للحياة والموت تأثيراتُ الطبائع وحركاتُ الأفلاك، ولا حاجة إلى إثبات الخالق المختار، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإِله وبين إِنكار البعث والقيامة، قال تعالى رداً عليهم {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي وليس لهم مستندٌ من عقل أو نقل، ولذلك أنكروا وجود الله من غير حجةٍ ولا بنية {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} أي ما هم إلا قوم يتوهمون ويتخيلون، يتكلمون بالظن من غير يقين {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا قرئت آياتُ القرآن على المشركين، واضحات الدلالة على البعث والنشور {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ما كان متمسكهم في دفع الحق الصريح إلا أن يقولوا: أحيْوا لنا آباءنا الأولين، إن كان ما تقولونه حقاً، سُمِّيَ قولهم الباطل حجةً على سبيل التهكم {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أي قل لهم يا محمد: اللهُ الذي خلقكم ابتداءً حين كنتم نُطفاً هو الذي يميتكم عند انقضاء آجالكم، لا كا زعمتم أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي ثم بعد الموت يبعثكم للحساب والجزاء كما أحياكم في الدنيا، فإِنَّ من قدر على البدء قدر على الإِعادة، والحكمةُ اقتضت الجمع للجزاء في يوم القيامة، الذي لا شك فيه ولا ارتياب {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر، لا يعلمون قدرة الله فينكرون البعث والجزاء.
. ثم بيَّن إمكان الحشر والنشر ذكر تفاصيل أحوال يوم القيامة فقال {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي هو جل وعلا المالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون} أي ويوم القيامة يخسر الكافرون الجاحدون بآيات الله {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} أي وترى أيها المخاطب كل أمةٍ من الأمم جالسةً على الركب من شدة الهول الفزع، كما بحثوا الخصوم بين يدي الحاكم بهيئة الخائف الذليل قال ابن كثير: وهذا إذا جيء بجهنم فإِنها تزفر زفرةً لا يبقى أحدٌ إلا جثا على ركبتيه {كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا} أي كلُّ أمةٍ من تلك الأمم تُدعى إلى صحائف أعمالها {اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم: في هذا اليوم الرهيب تنالون جزاء أعمالكم من خيرٍ أو شر {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} أي هذا كتابُ أعمالكم يشهد عليكم بالحق من غير زيادةٍ ولا نقصان قال في التسهيل: فإِن قيل: كيف أضاف الكتاب تارةً إليهم وتارةً إلى الله تعالى؟ فالجواب أنه أضافه إليهم لأن أعمالهم ثابتةٌ فيه، وأضافه إلى الله تعالى لأنه مالكه وأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي كنَّا نأمر الملائكة بكتابة أعمالكم، وإثباتها عليكم قال المفسرون: تنسخ هنا بمعنى تكتب، وحقيقة النسخ هو(3/174)
النقل من أصلٍ آخر، وقال ابن عباس: تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابل الملائكة الموكلون بديوان الأعمال ما كتبه الحفظة، مما قد أُبز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر، ما كتبه الله في القِدم على العباد قب لأن يخلقهم، فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، فذلك هو الاستنساخ، وكان ابن عباس يقول: ألستم عرباً، هل يكون الاستنساخ إالا من أصل؟ ثم بيَّن تعالى أحوال كلٍ من المطيعين والعاصين فقال {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} أي فأما المؤمنون الصالحون المتقون لله في الحياة الدنيا، فيدخلهم الله في الجنة، سُميت الجنة رحمةً لأنها مكان تنزل رحمةِ الله {ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين} أي ذلك هو الفوز العظيم، البيّن الظاهر الذي لا فوز وراءه {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} أي وأمَّا الكافرون فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً: أفلم تكن الرسل تتلو علكيم آيات الله؟ {فاستكبرتم وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} أي فتكبرتم عن الإِيمان بها، وأعرضتم عن سماعها، وكنتم قوماً مغرقين في الإِجرام {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ} أي وإِذا قيل لكم إن البعث كانئ لا محالة {والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} أي والقيامة آتيةٌ لا شك في ذلك ولا ريب {قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة} أي قلتم لغاية عتوكم، أيُّ شيء هي؟ أحقٌّ أم باطل؟ قال البيضاوي: قالوا هذا استغراباً واستبعاداً وإِنكاراً لها {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً} أي لا نصدِّق بها ولكن نسمع الناس يقولون: إنَّ هناك آخرة فنتوهم بها توهماً {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} أي ولسنا مصدِّقين بالآخرة يقيناً، وهذا تأكيد منهم لإِنكار القيامة {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي وظهر لهم في الآخرة قبائح أعمالهم {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي ونزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به في الدنيا {وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} أي ويقال لهم: اليوم نتركُكم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي، كما تركتم الطاعة التي هي الزادد ليوم المعاد فلم تعملوا لآخرتكم {وَمَأْوَاكُمُ النار} أي ومستقركم في نار جهنم {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي وليس لكم من ينصركم ويخلصكم من عذاب الله {ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُواً} أي إِنما جازيناكم هذا الجزاء، بسبب أنكم سخرتم من كلام الله واستهزأتم به {وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا} أي خدعتكم الدنيا بزخارفها وأباطيلها، حتى ظننتم ألاَّ حياة سواها، وألاَّ بعث ولا نشور {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ} أي فاليوم لا يُخْرجون من النار، ولا يُطلبُ منهم أن يرضوا ربَّهُم بالتوبة والطاعة لعدم نفعها يومئذٍ {فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين} أي فلله الحمد خاصة لا يستحق الحمد أحدٌ سواه لأنه الخالق والمالك لجميع المخلوقات والكائنات {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض} أي وله العظمة والجلال، والبقاء والكمال في السموات والأرض {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي الغالب الذي لا يغلب، الحكيم في صنعه وفعله وتدبيره.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - التأكيد بأنَّ واللام {إِنَّ فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ} [الجاثية: 3] لأن المخاطبين منكرون لوحدانية الله.(3/175)
2 - صيغة المبالغة {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7] .
3 - الأسلوب التهكمي {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 8] .
4 - المجاز المرسل {وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ} [الجاثية: 5] أي مطر، مجاز مرسل علاقته المسببية لأن الرزق لا ينزل من السماء، ولكن ينزل المطر الذي ينشأ عنه النبات والرزق.
5 - التشبيه المرسل {يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية: 8] أي كأنه لم يسمع آيات القرآن.
6 - المبالغة بذكر المصدر {هذا هُدًى} [الجاثية: 11] كأن القرآن لوضوع حجته عين الهُدى.
7 - الإِطناب بتكرار اللفظ {سَخَّرَ لَكُمُ البحر. . وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الجاثية: 1213] لإِظهار الامتنان.
8 - طباق السلب {فاتبعها وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] .
9 - المجاز المرسل {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} أي في الجنة لأنها مكان تنزل رحمة الله.
10 - الطباق بين {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} [الجاثية: 15] وبين {نَمُوتُ وَنَحْيَا} وبين {يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} .
11 - الاستعارة التصريحية {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} أي يشهد عليكم، والاستعارة هنا أبلغ من الحقيقة، لأن شهادة الكتاب ببيانه أقوى من شهادة الإِنسان بلسانه.
12 - الالتفات {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا} فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة لإِسقاطهم من رتبة الخطاب.
13 - الاستعارة التمثيلية {اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} مثَّل تركهم في العذاب بمن حُبس في مكانٍ ثم نسيه السَّجان من الطعام والشراب حتى هلك بطريق الاستعارة التمثيلية، والمراد من الآية نترككم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي، لأن الله تعالى لا ينسى ولا يعرض عليه النسيان.(3/176)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
اللغَة: {شِرْكٌ} شركة ونصيب {أَثَارَةٍ} بقية من الشيء {تُفِيضُونَ} الإِفاضة في الشيء: الخوضُ فيه والاندفاع يقال: أفاضوا في الحديث اندفعوا فيه، وأفاض الناس من عرفات أي دفعوا منها {بِدْعاً} البدع بالكسر الشيء المبتدع قال الرازي: والبِدعُ والبديع من كل شيء المبدع، والبدعة ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله بحكم السُنَّة {إِفْكٌ} كذب {كُرْهاً} بكرةٍ ومشقة {فِصَالُهُ} فطامه {أوزعني} ألهمني {أُفٍّ} كلمة تضجّر وتبرم {خَلَتِ} مضت.
التفسِير: {حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} أي هذا الكتاب المجيد منزَّل من عند الإِله العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} أي ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثاً، وإِنما خلقناهما خلقاً متلبساً بالحكمة، لندل على وحدانيتنا وكمال قدرتنا {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي وإِلى زمنٍ معيَّن هو زمن فنائهما يوم القيامة {(3/178)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48] {والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ} أي وهؤلاء الكفار معرضون عما خُوّفوه من العذاب ومن أهوال الآخرة، لا يتفكرون فيه لا يستعدون له. . ثم لما بيَّن وجود الإِله العزيز الحكيم ردَّ على عبدة الأصنام فقال {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخبروني عن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وتزعمون أنا ألهة {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} ؟ أي أرشدوني وأخبروني أيَّ شيءٍ خلقوا من أجاء الأرض، وممَّا على سطحها من إِنسان أو حيوان؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات} ؟ أي أمْ لهم مشاركة ونصيب مع الله في خلق السموات؟ {ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ} أي هاتوا كتاباً من الكتب المنزلة من عند الله قبل هذا القرآن يأمركم بعبادة هذه الأصنام؟ وهو أم تعجيز لأنهم ليس لهم كتابٌ يدل على الإِشراك بالله، بل الكتب كلُّها ناطقة بالتوحيد {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} أي أو بقية من علمٍ من علوم الأولين شاهدة بذلك {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي إن كنتم صادقين في دعواكم أنها شركاء مع الله قال في البحر: طلبمنهم أن يأتوا بكتابٍ يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة الله، أو بقيةٍ من علوم الأولين، والغرضُ توبيخهم لأن كل كتاب الله المنزَّشلة ناطقة بالتوحيد وإِبطال الشرك، فليس لهم مستند من نقل أو عقبل. . ثم أخبر تعالى عن ضلال المشركين فقال {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة} ؟ أي لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يعبد أصناماً لا تسمع دعاء الداعين، ولا تعهلم حاجاتِ المحتاجين، ولا تستجيب لمن ناداها أبداً لأنها جمادات لا تسمع ولا تعقل {وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ} أي وهم لا يسمعون ولا يفهمون دعاء العابدين، وفيه تهكم بها وبعبدتها، وإِنما ذكر الأصنام بضمير العقلاء، لأنهم لما عبدوها ونزَّلوها منزلة من يضر وينفع، صحَّ أن توصف بعدم الاستجابة وبعد السمع والنفع، مجاراة لزعم الكفار {وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً} أي وإِذا جمع الناس للحساب يوم القايمة كانت الأصنام أعداءً لعابديها يضرونهم ولا ينفعونهم {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} أي وتتبرأ الأصنام من الذين عبدوها قال المفسرون: إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عابديها وتقول
{تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] وهذه الآية كقوله تعالى {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82] واللهُ على كل شيء قدير {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا قرئت عليهم آيات القرآن واضحات ظاهرات أنها من كلام الله {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ} أي قال الكافرون عن القرآن الحق لما جاءهم من عند الله {هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي هذا سحرٌ لا شبهة فيه ظاهر كونه سحراً، وإنما وضع الظاهر {الذين كَفَرُواْ} موضع الضمير تسجيلاً عليهم بكمال الكفر والضلالة قال في البحر: وفي قوله {لَمَّا جَآءَهُمْ} تنبيه على أنهم لم يتأملوا ما يُتلى عليهم، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عناداً وظلماً، ووصفوه بأنه {مُّبِينٌ} أي ظاهر أنه سحر لا شبهة فيه {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أي أيقولون اختلق محمد هذا القرآن وافتراه من تلقاء نفسه؟ وهو إِنكار توبيخي {قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً}(3/179)
أي قل إن افتريتُه على سبيل الفرض فالله حسبي في ذلك كوهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه، ولا تقتدرون أنتم على أن تردُّوا عني عذاب الله، فكيف أفتريه من أجلكم وأتغرض لعقابه؟ {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي هو جل وعلا أعلمُ بما تخوضون في القرآن وتقدحون به من قولكم هو شعر، هو سحر، هو افتراء، وغير ذلك من وجوه الطعن {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي كفى أن يكون تعالى شاهداً بيني وبينكم، يشهد لي بالصدق والتبليغ، ويشهد عليكم بالجحود والتكذيب {وَهُوَ الغفور الرحيم} أي وهو الغفور لمن تاب، الرحيم بعابده المؤمنين قال أبو حيان: وفيه وعدٌ لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر، وإِشعارٌ بحلمه تعالى عليهم إِذْ لم يعالجهم بالعقوبة {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل} أي لست أول رسول طرق العالمم، ولا جئت بأمرٍ لم يجىء به أحدٌ قبلي، بل جئت بما جاء به ناسٌ كثيرون قبلي، فلأيّ شيءٍ تنكرون ذلك عليَّ؟ والبدْعُ والبديعُ من الأشياء هو الذي لم يُر مثله قال ابن كثير: أي ما أنا بالأمر الذى لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم، فقد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} أي ولا أدري بما يقضي الله عليَّ وعليكم، فإن قدر الله مغيَّب {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} أي لا أتبع إلا ما ينزله اللهُ عليَّ من الوحي، ولا أبتدع شيئاً من عندي {وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي وما أنا إلا رسولٌ منذرٌ لكم من عذاب الله، بيّن الإِنذار بالشواهد الظاهرة، والمعجزات الباهرة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ} أي قل يا محمد: أخبروني يا معشر المشركين إن كان هذا القرآن كلام الله حقاً وقد كذبتم به وجحتموه وجوابه محذوف تقديره: كيف يكون حالكم؟ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ فَآمَنَ واستكبرتم} أي وقد شهد رجل من علماء بني إِسرائيل على صدق القرآن، فآمن به واستكبرتم أنتم عن الإِيمانت، كيف يكون حالكم، ألستم أض الناس وأظلم الناس؟ قال الزمخشري: وجوابُ الشرط محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ودلَّ على هذا المحذوف قوله تعالى {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي لا يوفق للخير والإِيمان من كان فاجراً ظالماً قال المفسرون: والشاهدُ من بني إسرائيل هو «عبد الله بن سلام» وذلك حين قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة جاء إليه ابن سلام ليمتحنه، فلما نظر إلى وجهه علم أن ليس بوجه كاذب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعملهنَّ إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أُمه؟ فلما أجابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: أشهد أنك رسول الله حقاً.
. الخ ثم ردَّ تعالى على شبهةٍ أخرة من شبه المشركين فقال {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} أو وقال كفار مكة في حق المؤمنين: لو كان هذا القرآن والدين خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء الضعفاء!! وقال ابن كثير: يعنون «بلالاً» و «عماراً» و «صيهباً» و «خباباً» وأشباههم من المستضعَفين والعبيد والإِماء ممن أسلم(3/180)
وآمن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} أيم ولمّا لم يهتدوا بالقرآن مع وضوح إِعجازه، قالوا هذا كذبٌ قديم مأثور عن الأقدمين، أتى به محمد ونسبه إلى الله تعالى {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً} أي ومن قل القرآن التوراة التي أنزلها الله على موسى قدوةً يؤتم بها في دين الله وشرائعه كا يؤتم بالإِمام، ورحمة لمن آمن بها وعمل بما فيها قال الإِمام الفخر: ووجه تعلق الآية بما قبلها أن المشركين طعنوا في صحة القرآن، وقالوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء الصعاليك، فردَّ الله عليهم بأنكم لاتنازعون أن الله أنزل التوراة على موسى، وجعل هذا الكتاب التوراة إماماً يقتدى به، ثم إن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإِذا سلمتم كونها من عند الله، فاقبلوا حكمها بأن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولٌ حقاً من عند الله {وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً} أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن، مصدّقٌ للكتب قبله بلسانٍ عربي فصيح، فكيف ينكرونه وهو أفصح بياناً، وأظظهر رهاناً، وأبلغ إعجازاً من التوراة؟ {لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ} أي ليخوِّف كفار مكة الظالمين من عذاب الجحيم، ويبشر المؤمنين المحسنين بجنات النعيم.
. ولما بيَّن تعالى أحوال المشركين المكذبين بالقرآن، أردفه بذكر أحوال المؤمنين المستقيمين على شريعة الله فقال {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} أي جمعوا بين الإِيمان والتوحيد والاستقامة على شريعة الله {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي فلا يلحقهم مكروهٌ في الآخرة يخافون منه {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا في الدنيا {أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} أي أولئك المؤمنون المستقيمون في دينهم، هم أهل الجنة ماكثين فيها أبداً {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي نالوا ذلك النعيم جزاءً لهم على أعمالهم الصالحة {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} لمَّاكان رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما حثَّ تعالى العباد عليه والمعنى أمرنا الإِنسان أمراً جازماً مؤكداً بالإِحسان إلى الوالدين، ثم بيَّن السبب فقال {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي حملته بكرهٍ ومشقة ووضعته بكرهٍ ومشقة {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} أي ومده حمله ورضاعه عامان ونصف، فهي لا تزال تعاني التعب والمشقة طيلة هذه المدة قال ابن كثير: أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً من وحَم، وغثيان، وثقل، وكرب إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، ووضعته بمشقة أيضاً من الطَّلق وشدته، وقد استدل العلماء بهذه الآية مع التي في لقمان {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قويٌ صحيح {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي حتى إِذا عاش هذا الطفل وبلغ كما قوته وعقله {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} أي واستمر في الشباب والقوة حتى بلغ أربعين سنة وهو نهاية اكتمال العقل والرشد {قَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ} أي قال ربِّ ألهمني شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ وعلى والديَّ حتى ربياني صغيراً {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} أي ووفقني لكي أعمل عملاً صالحاً يرضيك عني {(3/181)
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي} أي اجعل ذريتي ونسلي صالحين قال اشيخ زاده: طلب هذا الداعي من الله ثلاثة أشياء: الأول: أن يوفقه الله للشكر على النعمة والثاني: أن يوفقه للإِتيان بالطاعة المرضية عند الله والثالث: أن يصلح له في ذريته، وهذه كمال السعادة البشرية {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين} أي إِني يا رب تبت إليك من جميع الذنوب، وإِني من المستمسكين بالإِسلام قال ابن كثير: وفي الآية إرشادٌ لمن بلغ الأربعين أن يجدِّد التوبة والإِنابة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ ويعزم عليها {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي أولئك الموصوفون بما ذكر نتقبل منهم طاعاتهم ونجازيهم على أعمالهم بأفضلها {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة} أي ونصفح عن خطيئاتهم وزلاتهم، في جملة أصحاب الجنة الذين نكرمهم بالعفو والغفران {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} أي بذلك الوعد الصادق الذي وعدناهم به على ألسنة الرسل، بأن نتقبل من محسنهم ونتجاوز عن مسيئهم.
. ولما مثَّل تعالى لحال الإِنسان البار بوالديه وما آل إليه حاله من الخير والسعادة، مثَّل لحال الإِنسان العاقِّ لوالديه وما يئول إليه أمره من الشقاوة والتعاسة فقال {والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} أي وأمَّا الوالد الفاجر الذي يقول لوالديه إِذا دعواه إلى الإِيمان أفٍ لكما أي قبحاً لكما على هذه الدعوة {أتعدانني أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي} ؟ أي أتعدانني أن أُبعث بعد الموت وقد مضت قرونٌ من الناس قبلي ولم يُبعث منهم أحد؟ {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله وَيْلَكَ آمِنْ} أي وأبواه يسألان الله أن بغيثه ويهديه للإِسلام قائلين له: ويْلك آمنْ بالله وصدِّق بالبعث والنشور وإِلاَّ هلكت {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي وعدُ الله صدقٌ لا خُلف فيه {فَيَقُولُ مَا هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} أي فيقول ذلك الشقي: ما هذا الذي تقولان من أمر البعث إلاّ خرافات وأباطيل سطرَّرها الألولون في الكتب مما لا أصل له قال تعالى {أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي أولئك المجرمون هم الذين حقَّ عليهم قول الله بأنهم أهل النار قال القرطبي: أي وجب عليهم العذاب وهي كلمة الله كما في الحديث «هؤلاء في النار ولا أبالي» {في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس} أي في جملة أمم من أصحاب النار قد مضت قبلهم من الكفرة الفجار من الجن والإِنس {إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ} أي كانوا كافرين لذلك ضاع سعيهم وخسروا أخرتهم، وهو تعليل لدخولهم جهنم قال الإِمام الفخر: قال بعضهم: إن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصّديق قبل إِسلامه، والصحيحُ أنه لا يراد بالآية شخص معيَّن، بل المراد منها كل من كان موصوفاً بهذه الصفة، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الحقِّ فأباه وأنكره، ويدل عليه أن الله تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه {أُفٍّ لَّكُمَآ} بأنه من الذين حقَّ عليهم القول بالعذاب، ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إِسلامه وكان من سادات المسلمين فبطل حمل الآية عليه {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} أي لكلٍ من المؤمنين والكافرين مراتب ومنازل بحسب أعمالهم، فمراتب المؤمنين في الجنة علاية، ومراتب الكافرين في جهنم سافلة {(3/182)
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي وليعطيهم جزاء أعمالهم وافيه كاملة، المؤمنون بحسب الدرجات، والكفارون بحسب الدركات، من غير نقصان بالثواب، ولا زيادة في العقاب.(3/183)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أحوال بعض الأشقياء، أعقبه بذكر حال الكفار والفجار في الآخرة، ثم ذكر قصة عاد الذين أهلكهم الله بطغيانهم مع ما كانوا عليه من القوة والشدة، تذكيراً لكفار قريش بعاقبة التكذيب والطغيان، وختم السورة الكريمة بقصة النفر من الجنِّ الذين آمنوا بالقرآن حين سمعوه ودعوا قومهم إِلى الإِيمان.(3/183)
اللغَة: {الهون} الهوان والذل {الأحقاف} الرمال العظيمة جمع حِقْف وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوجَّ، والأحقاف ديار عاد {لِتَأْفِكَنَا} لتصرفنا وتزيلنا، والإِفك: الكذب {عَارِضاً} سحاباً يعرض في الأفق {تُدَمِّرُ} تُهلك، والتدميرُ الهلاك وكذلك الدَّمار {صَرَّفْنَا} بعثنا ووجهنا {يَعْيَ} يضعف ويعجز من الإِعياء وهو التعب والعجز.
التفسِير: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} أي وذكّرهم يا محمد يوم يُكشف الغطاء عن نار جهنم، وتبرز للكافرين فيقرَّبون منها وينظرون إِليها {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا} في الكلام حذف أي ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً أذهبتم طيباتكم أي لقد نلتم وأصبتم لذائد الدنيا وشهواتها فلم يبق لكم نصيب اليوم في الآخرة قال في البحر: والطيبات هنا المستلذات من المأكل والمشارب، والملابس والمفارش. والمراكب والمواطىء، وغير ذلك مما ينتعَّم به أهل الرفاهية {واستمتعتم بِهَا} اي وتمتعتم بتلك اللذائذ والطيبات في الدنيا قال المفسرون: المراد بالآية إِنكم لم تؤمنوا حتى تنالوا نعيم الآخرة، بل اشتغلتم بشهوات الدنيا ولذائذها عن الإِيمان والطاعة، وأفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي، وآثرتم الفاني على الباقي، فلم يبق لكم بعد ذلك شيء من النعيم، ولهذا قال بعده {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي ففي هذا اليوم يوم الجزاء تنالون عذاب الذُلِّ والهَوان {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي بسبب استكباركم في الدنيا عن الإِيمان وعن الطاعة {وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} أي وبسبب فسقكم وخروجكم عن طاعة الله، وارتكاب الفجور والآثام قال الإِمام الفخر: وهذه الآية تدل على المنع من التنعم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإنما وبَّخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولا يؤدي شكر المنعم بطاعته والغِيمان به، وأما المؤمن فإِنه يؤدي بإِيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ودليله {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] ! {نعم لا يُنكر أن الاحتراز عن التنعيم أولى، وعليه يُحمل قول عمر «لو شئتُ لكنتُ أطيبكم طعاماً، وأحسنكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة» وقال في التسهيل: الآية في الكفار بدليل قوله تعالى {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ} وهي مع ذلك واعظةٌ لأهل التقوى من المؤمنين، ولذلك قال عمر لجابر ابن عبد الله وقد رآه اشترى لحماً أو كلما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه} أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ممن قال الله فيهم {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا} !! {واذكر أَخَا عَادٍ} أي اذكر يا محمد لهؤلاء المشركين قصة بني الله هود عليه السلام مع قومه عادٍ ليعتبروا بها {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف} أي حين حذَّر قومه من عذاب الله إِن لم يؤمنوا وهم مقيمون بالأحقاف وهي تلالٌ عظيمة من الرمل في بلاد اليمن قال ابن كثيكر: الأحقاف جمع حِقْف وهو الجبل من الرمل، قال قتادة: كانوا حياً باليمن أهل رملٍ مشرفين على البحر بأرضٍ يُقال لها: الشَحْر {وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي وقد مضت الرسلُ بالإِنذار من قبل هودٍ ومن بعده، والجملة اعتراضية وهي إخبار من الله تعالى أنه قد بعث رسلاً متقدمين قبل هودٍ وبعده {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله}(3/184)
أي حذَّرهم هود عليه السلام قائلا لهم: بأن لا تعبدوا إلا الله {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إِني أخاف عليكم إِن عبدتم غير الله عذاب يومٍ هائلٍ وهو يوم القيامة {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} أي قالوا جواباً لإِنذاره: أجئتنا يا هود لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ وهو استفهام، يراد منه التسفيه والتجهيل لما دعاهم إليه {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي فأتنا بالعذاب الذي وعدتنا به إن كنت صادقاً فيما تقولم قال ابن كثير: استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعاداً منهم لوقوعه {قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله} أي قال لهم هود: ليس علم وقت العذاب عندي إنما علمه عند الله {وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ} أي وإِنما أنا مبلّغٌ ما أرسلني به الله إليكم {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} أي ولكنني أجدكم قوماً جهلة في سؤالكم استعجال العذاب {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أي فلما رأوا السحاب معترضاً في أفق السماء متجهاً نحو أوديتهم استبشروا به {قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} أي وقالوا هذا السحاب يأتينا بالمطر قال المفسريون: كانت عاد قد أبطأ عنهم المطر، وقُحطوا مدةً طويلةً من الزمن، فلما رأوا ذلك السحاب العارض ظنوا أنه مطر ففرحوا به واستبشروا وقالوا: هذا عراضٌ ممطرنا {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} أي قال لهم هود: ليس الأمر كما زعمتم أنه مطر، بل هو ما استعجلتم به من العذاب ثم فسَّره بقوله {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي هو ريحٌ عاصفة مدمّرة فيها عذابٌ فظيع مؤلم {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} أي تُخرَرِّب وتُهلك كل شيء أتت عليه من رجالٍ ومواشٍ وأموال، بأمره تعالى وإِذنه قال ابن عباس: أو ما جاءت الريح على قوم عاد، كانت تأتي على الرجال المواشي فترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء حتى يصبح الواحد منهم كالريشة، ثم تضربهم على الأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، فهي التي قال الله فيها {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} أي تدمرّ كل شيء مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها، والتدميرُ الهلاك، وفي الحديث عن عائشة قالت:
«كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهه، فقلت يا رسول الله: الناسُ إِذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إِذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية؟ فقال يا عائشة: ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، عُذّب قوم بالريح» ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} أي فأصبحوا هلكى لا تُرى إِلا مساكنهم، لأن الريح لم تبق منهم إِلا الآثار والديار خاوية {كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين} أي بمثل هذه العقوبة الشديدة نعاقب من كان عاصياً مجرماً قال الرازي: والمقصود منه تخويف أهل مكة، ولهذا قال بعده {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ} «إِنْ» نافية بمعنى «ما» أي ولقد مكَّنا عاداً في الذي لم نمكنكم فيه يأ أهل مكة من القوة، والسَّعة، وطور الأعمار، وهو خطاب لكفار مكة على وجهه التهديد {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} أي وأعطيناهم الأسماع والأبصار(3/185)
والقلوب، ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على الخالق المنعم {فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ} أي فما نفعتهم تلك الحواس أي نفع، ولا دفعت عنهم شيئاً من عذاب الله قال الإِمام الفخر: المعنى أنّا فتحنا عليهم أبواب النعم: أعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل، وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبَر، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدينا ولذاتها، فلا جرم أنها لم تغن عنهم من عذاب الله شيئاً {إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله} تعليلٌ لما سبق أن لأنهم كانوا يكفرون وينكرون آيات الله المنزَّلة على رسله ويكذبون رسله {وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي ونزل وأحاطبهم العذاب الذي كانوا يستعجلون به بطريق الاستهزاء {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى} تخويفٌ آخر لكفار مكة أي ولقد أهلكنا القرى المجاورة لكم يا أهل مكة والمحيطة بكم، كقرى عاد وثموج وسبأ وقوم لوط، والمراد بإهلاك القرى إِهلاكُ أهلها {وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي وكررنا الحجج والدلالات، والمواعظ والبينات، أوضحناها وبيَّناها لهم لعلهم يرجعون عن كفرهم وضلالهم {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ} أي فهلاَّ نصرتهم آلهتهم التي ترقبوا بها إلى الله بزعمهم، وجعلوها شفعاءهم لتدفع عنهم العذاب؟! و «لولا» تحضيضية بمعنى هلاَّ ومعناها النفي أي لم تنصرهم آلهتهم ولم تدفع عنهم عذاب الله {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} أي غابوا عن نصرتهم وهم أحوج ما يكونون إليهم، فإِن الصديق وقت الضيق قال أبو السعود: وفي الآية تهكمٌ بهم كأنَّ عدم نصرهم كان لغيبتهم {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي وذلك الذي أصابهم هو كذبهم وافتراؤهم على الله، حيث زعموا أن الأصنام شركاء الله وشفعاء لهم عند الله {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن} أي واذكر يا محمد حين وجهنا إليك وبعثنا جماعةً من الجن ليستمعوا القرآن قال البيضاوي: والنفر دون العشرة، روى أنهم وافوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرأ في تهجده القرآن {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ} أي فلما حضروا القرآن عند تلاوته قال بعضهم لبعضٍ: اسكتوا لاستماع القرآن قال القرطبي: هذا توبيخٌ لمشركي قريش، أي إِن الجنَّ سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله، وأنتم معرضون مصرّون على الكفر {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} أي فلما فُرغَ من قراءة القرآن رجعوا إِلى قومهم مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا قال الرازي: وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلاّ وقد آمنوا {قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} أي سمعنا كتاباً رائعاً مجيداً منزَّلاً على رسولٍ من بعد موسى قال ابن عباس: إن الجنَّ لم تكن قد سمعت بأمر عيسى عليه السلام {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي مصدِّقاً لما قبله من التوارة {يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي هذا القرآن يرشد إلى الحقِّ المبين، وإِلأى دين الله القويم {ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ} أي أجيبوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يدعوكم إليه من الإِيمان وصدِّقوا برسالته {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي يمحو الله(3/186)
عنكم الذنوب والآثام {وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي ويخلِصْكم وينجكم من عذاب شديد مؤلمٍ {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض} هذا ترهيبٌ بعد الترغيب أي ومن لم يؤمن بالله ويستجيب لدعوة رسوله، فإِنه لا يفوت الله طلباً، ولا يعجزه هرباً {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ} أي وليس له أنصار يمنعونه من عذاب الله {أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي أولئك الذي لا يستجيبون لدعوة الله في خسرانٍ واضح، وإِلى هنا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن، ثم ذكر تعالى الأدلة على قدرته ووحدانيته فقال {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض} أي أولم يعلم هؤلاء الكفار المنكرون للبعث والنشرو أن الله العظيم القدير الذي خلق السمواتِ والأرض ابتداءً من غير مثال سابق {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} أي ولم يضعف ولم يتعب بخلقهنَّ {بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} ؟ أي قادرٌ على أن يعيد الموتى بعد الفناء، ويحييهم بعد تمزق الأشلاء؟ {بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي بلى إنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، فكما خلقهم يعيدهم {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار} أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين الأهوال والشدائد التي يرونها في الآخرة، وذكّرهم يوم يُعرضون على النار فيقال لهم {أَلَيْسَ هذا بالحق} ؟ أي أليس هذا العذاب الذي تذوقونه حقٌّ؟
{أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] {قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا} أي قالوا بلى وعزة ربنا، أكَّدوا كلامهم بالقسم طعماً في الخلاص قال الفخر الرازي: والمقصود بالآية التهكمُ بهم، والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 138] {قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي فيقال لهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين كما صبر مشاهير الرسل الكرام وهم «نوح وإبراهيم وموسى وعيسى» {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أي ولا تدع على كفار قريش تعجيل العذاب فإِنه نازل بهم لا محالة {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} أي كأنهم حين يعاينون العذاب في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعةً واحدة من النهار، لما يشاهدون من شدة العذاب وطوله {بَلاَغٌ} أي هذا بلاغ وإِنذار {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} أي لا يكون الهلاك والدمار إلا للكافرين الخارجين عن طاعة الله.
تنبيه: قال المفسرون: «إن الجنَّ كانوا يسترقون السمع، فلما حُرست السماء بالشهب، قال إبليس: إن هذا الذي حدث بالسماء من أمر حدث في الأرض، فبعث سراياه ليعرف الخبر، فذهب ركبٌ من نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة، فلما بلغوا باطن نخلة سمعوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي ويتلو القرآن، فاستمعوا له وقالوا: أنصتوا ثم لما انتهى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من القراءة آمنوا ثم رجعوا إلى قومهم منذرين فدعوهم إلى الإِيمان، وجاءوا بعد ذلك جماعات جماعات إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذلك سبب قوله تعالى {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن} .
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - التعجيز {ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ} [الأحقاف: 4] أمرٌ يراد منه التعجيز.
2 - جناس الاشتقاق {يَدْعُواْ. . وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ} ومثله {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} [الأحقاف: 10] .
3 -(3/187)
الطباق بين {آمَنَ. . وَكَفَرْتُمْ} وبين {يُنذِرَ. . وبشرى} .
4 - ذكر الخاص بعد العام {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ} ثم قال {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً} [الأحقاف: 15] فذكر الخاص بعد العام لزيادة العانية والاهتمام بشأن الأم لحقها العظيم.
5 - الطباق بين {حَمَلَتْهُ. . وَوَضَعَتْهُ} .
6 - صيغة الحصر {مَا هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [الأحقاف: 17] .
7 - الاستعارة {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} [الأحقاف: 19] استعار الدرجات للمراتب، للسعداء والأشقياء.
8 - الإِيجاز بالحذف مع التوبيخ والتقريع {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا} أي يقال لهم أذهبتم.
9 - الإِطناب بتكرار اللفظ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} ثم قال {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ} لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.
10 - توافق الفواصل مما يزيد في جمال الكلام وحسن تناسقه وهو من المحسنات البديعية مثل {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الجاثية: 33] {وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} الخ.(3/188)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
اللغَة: {كَفَّرَ} أزال ومحا {أَثْخَنتُمُوهُمْ} أكثرتم فيهم القتل والجراح والأسر قال في المصباح: أثخن في الأرض إِيخاناً، سار إلى العدو وأوسعهم قتلاً، وأثخنته الجراحة أوهنته وأضعفته {الوثاق} القيد والحبل الذي يربط به {مَنًّا} إِطلاق الأسير من غير فدية {أَوْزَارَهَا} آلاتها وأثقالها وهي الأسلحة والعتاد يقال: وضعت الحرب أوزارها أي انقضت الحرب وانتهت، وأصل الأوزار الأثقال من السلاح والخيل قال الشاعر:(3/190)
وأعددتُ للحرب أوزارها ... رماحاً طوالاً وخيلاً ذكوراً
{تَعْساً} شقاءً وهلاكاً {آسِنٍ} متغيّر ومنتن {حَمِيماً} حاراً شديد الحرارة {آنِفاً} الآن، من قولهم، استأنف الأمر إِذا ابتدأ به {أَشْرَاطُ} أمارات وعلامات.
التفسِير: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} هذا إِعلان حربٍ من الله تعالى على أعدائه وأعداء دينه والمعنى الذين جحدوا بآيات الله وأعرضوا عن الإسلام، ومنعوا الناس عن الدخول فيه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا ثواب لها لأنها لم تكن لله فبطلت، والمراد أعمالهم الصالحة كإِطعام الطعام، وصلة الأرحام، وقرى الضيف قال الزمخشري: وحقيقة إِضلال الأعمال جعلُها ضالةً ضائعة، ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها كالضالة من الإِبل، التي لا ربَّ لها يحفظها ويعتني بأمرها، والمراد لهم التي عملوها في كفرهم بما كانوا يسمونه «مكارم الأخلاق» ، من صلة الأرحام، وفك الأسارى، وقرى الأضياف، وحفظ الجوار {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي جمعوا بين الإِيمان الصادق، والعمل الصالح {وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} أي صدَّقوا بما أنزل الله على رسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تصديقاً جازماً لا يخالجه شك ولا ارتياب وهوعطف خاص على عام، والنكتةُ فيه تعظيم أمره والاعتناء بشأنه، إشارةً إلى أن الإِيمان لا يتمُّ بدونه، ولذا أكَّده بقوله {وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ} أي وهو الثابت المؤكد المقطوع بأنه كلام الله ووحيهُ المنزَّل من عند الله، والجملة اعتراضية لتأكيد السابق {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي أزال ومحا عنهم ما مضى من الذنوب والأوزار {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي أصلح شأنهم وحالهم، في دينهم ودنياهم، ثم بيَّن تعالى سبب ضلال الكفار، واهتداء المؤمنين فقال {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل} أي ذلك الإِضلال لأعمال الكفار بسبب أنهم سلكوا طريق الضلال، واختباروا الباطل على الحق {وَأَنَّ الذين آمَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ} أي وأن المؤمنين سلكوا طريق الهدى، وتمسَّكوا بالحق والإِيمان المنزل من عند الرحمن {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي مثل ذلك البيان الواضح، بيَّن الله أمر كلٍ من الفريقين المؤمنين والكافرين بأوضح بيانٍ وأجلى برهان ليعتبر الناس ويتعظوا. . وبعد إعلان هذه الحرب السافرة على الكافرين أمر تعالى المؤمنين بجهادهم فقال {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب} أي فإِذا أدركتم الكفار في الحرب فاحصدوهم حصْداً بالسيوف قال في التسهيل: وأصله فاضربوا الرقاب ضرباً ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه والمراد: اقتلوهم، ولكنْ عبَّر عنه بضرب الرقاب لأنه الغالب في صفة القتل {حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق} أي حتى إِذا هزمتموهم وأكثرتم فيهم القتل والجراحات ولم تبق لهم قوة للمقاومة فأْسروهم وكفُّوا عن قتلهم قال الزمخشري: وفي هذه العبارة {فَضَرْبَ الرقاب} من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو حزٌّ العنق وإطارة رأس البدن، ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله {فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] ومعنى {أَثْخَنتُمُوهُمْ} أكثرتم قتلهم وأغلظتموه {(3/191)
فَشُدُّواْ الوثاق} أي فأسروهم، والوثاقَ اسم لما يربط من حبلٍ وغيره {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} أي ثم أنتم مخيَّرون بعد أسرهم إمَّا أن تمنُّوا عليهم وتطلقوا سراحهم بلا مقابل من مال، أو تأخذوا منهم مالاً فداءٌ لأنفسهم، ولكنْ بعد أن تكونوا قد كسرتم شوكتهم، وأعجزتموهم بكثرة القتل والجراح {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} أي حتى تنقضي الحرب وتنتهي بوضع آلاتها وأثقالها، وتنتهي الحرب بين المسلمين والمناوئين له، وذلك بعزة الإِسلام واندحار المشركين {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي الأمر فيهم ما ذُكر، ولو أراد اله لانتصر منهم وأهلكهم بقدرته، دون أن يكلفكم أيها المؤمنون إلى قتالهم قال ابن كثير: أي لو شاء الله لانتقم من الكفارين بعقوبةٍ ونكالٍ من عنده {ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي ولكنَّه أمركم بجهادهم ليختبر إِيمانكم وثباتكم، فيظهر حال الصادق في الإِيمان من غيره كما قال تعالى
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} [محمد: 31] وليبتلي المؤمنين بالكافرين والكفارين بالمؤمنين، فيصير من قُتل من المؤمنين إلى الجنة، ومن قتل من الكافرين إلى النار ولهذا قال {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي والذين استشهدوا في سبيل الله فلن يُبطل الله عملهم، بل يكثّره ويضاعفه وينميّه {سَيَهْدِيهِمْ} أي سيهديهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، بتوفيقهم إلى العمل الصالح وإِرشادهم إلى الجنة دار الأبرار {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} أي ويُصلح حالهم وشأنهم {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي ويدخلهم الجنة دار النعيم بيَّنها لهم بحيث يعلم كل واحدٍ منزلة ويهتدي إِليه قال مجاهد: يهتدي أهلُها إلى بيوتهم ومساكنهم لا يخطئون كأنهم سكنوها منذ خُلقوا وفي الحديث «والذي نفسي بيده إِن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا» {ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} أي إِن تنصروا دينه يصنركم على أعدائكم {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} أي ويثبتكم في مواطن الحرب {والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} أي والذين كفروا بالله وآياته فهلاكاً وشقاْ لهم، وهو دعاءٌ عليهم بالتعاسة والخيبة والخذلان {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها وأحبطها لأنها كانت في طاعة الشيطان {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ الله} أي ذلك التعس والإِضلال بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله من الكتب والشرائع قال الزمخشري: أي كرهوا القرآن وما أنزل الله فيه من التكاليف والأحكام، لأنهم قد ألفوا الإهمال وإِطلاق العَنان في الشهوت والملاذِّ فشقَّ عليهم ذلك وتعاظمهم {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي أذهبها وأضاعها لأن الإِيمان شرط لقبول الأعمال، والشرك محبطُ للعمل، ثم خوَّفهم تعالى عاقبة الكفر فقال {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي أفلم يسافر هؤلاء ليروا(3/192)
ما حلَّ بمن سبقهم من الأمم الطاغية كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من المجرمين، كيف كان مآلهم؟ وماذا حلَّ بهم من العذاب؟ فإنَّ آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} أي أهلكهم الله، واستأصل كل ما يخصهم من مالٍ وبنين ومتاع، فإِذا هو انقاض متراكمة وإِذا هم تحت هذه الأنقاض «ودمَّر عليهم» أبلغ من دمَّرهم لأن معناها أهلكهم مع أموالهم ودورهم وأولادهم وأطبق عليهم الهلاك إطباقاً فلم يبق شيء إلا شمله الدمار {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي ولكفار مكة أمثال تلك العاقبة الوخيمة والعذاب المدمّر {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ} أي وليُّهم وناصرهم {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} أي لا ناصر لهم ولا معين ولامغيث، ثم بيَّن تعالى مآل كلٍ من الفريقين المؤمنين والكافرين في الآخرة فقال {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي يدخل المؤمنين جناتِ النعيم، التي فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} أي والكفارون في الدنيا ينتفعون بشهواتها ولذائذها، ويأكلون كما تأكل البهائم، ليس لهم همٌّ إلا بطونهم وفروجهم {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي وجهنم مقامهم ومنزلهم في الآخرة قال الزمخشري: المراد أنهم ينتفعون بمتاع الدنيا أياماً قلائل، ويأكلون غافلين غير مفكرين في العاقبة كما تأكل الأنعام في مسارحها ومعالفها غافلةً عما هي بصدده من النحر والذبح، والنار منزل ومقام لهم في الآخرة.
. ثم سلَّى تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ} أي وكم من أهل قرية عاتية ظالمة كانوا أقوى من أهل مكة الذين أخرجوك منها {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ} أي أهلكناهم بأنواع العذاب فلم ينصرهم أحد فكذلك نفعل بهؤلاء قال ابن عباس: لما خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة واختفى بالغار ثم خرج مهاجراً إلى المدينة، التفت إِلى مكة ثم قال «إِنك لأحبُّ البلاد إِلى الله، وأحبُّ البلاد إِليَّ، ولولا أنَّ قومك أخرجوني منك ما خرجت فنزلت الآية {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أي هل من كان على حجة وبصيرة، وثبات ويقين من أمر دينه {كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ} ؟ أي كمن زُيّن له عمله القبيح فرآه حسناً؟ {واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ} أي أنهمكوا في الضلال حتى عبدوا الهوى؟ ليس هذا كهذا، وإِنما جاء بصيغة الجمع مراعاةً للمعنى قال المفسرون: يريد ب {َمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ} رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبمن {زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ} أبا جهل وكفار قريش.
. واللفظ أعمُّ لأن الغرض المباينة بين من يعبد الله، وبين من يعبد هواه، ولذلك مثَّل بعده بالفارق الكبير بين الجنة والنار فقال {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} أي صفة الجنة الغريبة العجيبة الشأن، التي وعد الله بها عباده الأبرار وأعدَّها للمتقين الأخيار {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أي فيها أنهار جاريات من ماءٍ غير متغير الراحة قال ابن مسعود: أنهار الجنة تفجَّر من جبلٍ من مسكٍ {وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} أي وأنهار جاريات من حليبٍ في غاية البياض والحلاوة والدسامة، لم يحمض بطول المقام ولم يفسد(3/193)
كما تفسد ألبان الدنيا وفي حديث مرفوع «لم يخرج من ضروع الماشية» {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي وأنهار جاريات من خمرٍ لذيذة الطعم يتلذذ بها الشاربون لأنه {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 47] وإِنما قيَّدها بأنها لذة للشاربين، لأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا لا يلتذ بها إلاَّ فاسد المزاج، وأما خمر الآخةر فهي طيبة الطعم والرائحة، يشربها أهل الجنة لمجرد الالتذاذ {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} أي وأنهارٌ جارياتٌ من عسل في غاية الصفاء وحسن اللون والريح، لم يخرج من بطون النحل قال أبو السعود: {عَسَلٍ مُّصَفًّى} أي لم يخالطه الشمع وفضلات النحل {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} أي ولهم في الجة أنواعٌ متعددة من جميع أصناف الفواكه والثمار قال في حاشية البيضاوي: وفي ذكر الثمرات بع المشروب إشارة إِلى أنَّ مأكول أهل الجنة للَّذَّة لا للحاجة {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} أي ولهم فوق ذلك النعيم الحسن نعيمٌ روحي وهو المغفرة من الله مع الرحمة والرضوان وفي الحديث «أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعد أبداً» قال الصاوي: في الجنة ترفع عنهم التكاليف فيما يأكلونه ويشربونه، بخلاف الدنيا فإِن مأكولها ومشروبها يترتب عليه الحساب والعقاب، ونعيم الآخرة لا حساب عليه ولا عقاب فيه {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار} أي كمن هو مخلَّدٌ في الجحيم؟ والاستفهام للإِنكار أي لا يستوي من هو في ذلك النعيم المقيم، بمن هو خالد في الجحيم؟ {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} أي وسُقوا مكان تلك الأشربة ماءً حاراً شديد الغليان، فقطَّع أحشاءهم من فرط حرارته؟ قال المفسرون: بلغ الماء الغاية في الحرارة، إِذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رءوسهم، فإِذا شربوه قطَّع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم ولما بيَّن تعالى حال الكافرين، ذكر حال المنافقين فقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} أي ومن هؤلاء المنافقين جماعة يستمعن إِلى حديثك يا محمد {حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ} أي حتى إِذا أخرجوا من مجلسك {قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً} أي قالوا العلماء الصحابة كابن عباس وابن مسعود ماذا قال محمدٌ قريباً في تلك الساعة؟ قال ابن كثير: أخبر تعالى عن المناقين في بلادتهم وقلة فهمهم، حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويستمعمن كلامه، فلا يفهمون منه شيئاً، فإِذا خرجوا من عنده قالوا لأهل العلم من الصحابة: ماذا قال محمد {آنِفاً} أي الساعة، لا يعقلون ما قال ولا يكترثون به {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} أي ختم على قلوبهم بالكفر {واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} أي ساورا وراء أهوائهم الباطلة {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} أي وأما المؤمنون المتقون فقد زادهم الله هدى وألهمهم رشدهم قال الإِمام الفخر: لما بيَّن تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع، ويستعيد ولا يستفيد، بيَّن أن حال المؤمن المهتدي بخلافه، فإِنه يستمع فيفهم، ويعمل بما يعلم، وفيه فائدة وهو قطع عذر المنافق، فإنه لو قال ما فهمت كلامه لغموضه، يُردُّ عليه بان المؤمن فهم واستنبط، فذلك لعماء القلوب لا الخفاء المطلوب {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي(3/194)
فهل ينتظرون إلا قيام الساعة فجأةً فتبغتهم وهم سادرون غارون غافلون؟ {فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا} أي فقد جاءت أماراتها وعلاماتها، ومنها بعثة خاتم الرسل صلى لله عليه وسلم {فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} أي فمن أين لهم التذكر إِذا جاءتهم الساعة، حيث لا ينفع ندم ولا توبة؟ {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله} أي فدمن يا محمد على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} أي اطلب من الله المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات {والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أي يعلم تصرفكم في الدنيا، ومصيركم في الآخرة، فأعدوا الزاد ليوم الميعاد.(3/195)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
المنَاسَبَة: كان بدء السورة في الحديث عن الكافرين، ثم جاء عن المؤمنين، وهنا يأتي الحديث عن المنافقين، وقد استغرق الجانب الأكبر من السورة باعتبارهم الخطر الداهم على الإِسلام والمسلمين، والآيات الكريمة تتحدث عن الجهاد وعن موقف المنافقين منه.(3/195)
اللغَة: {سَوَّلَ} زيَّن وسهَّل {أَضْغَانَهُمْ} أحقادهم الدفينة قال الجوهري: الضغنُ والضغينة: الحقد، وتضاغن القوم أبطنوا على الأحقاد {سِيمَاهُمْ} علامتهم {السلم} الصلح الموادعة {يُحْفِكُمْ} يلحُّ عليكم يقال: أحفى بالمسألة وألحف وألحَّ بمعنى واحد {يَتِرَكُمْ} ينقصكم يقال: وتره حقه أي نقصه.
التفسِير: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ} أي ويقول المؤمنون المخصلون شوقاً إلى الجهاد وحرصاً على ثوابه: هلاَّ أنزلت سورة فيها الأمر بالجهاد {فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال} أي فإِذا أنزلت سورة صريحةٌ ظاهرة الدلالة على الأمر بالقتال قال القرطبي: {مُّحْكَمَةٌ} أي لم تنسخ وقد قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فيه محكمة، وهي أشد القرآن على المناقين {رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} أي رأيت المنافقين الذين في قلوبهم شك ونفاق {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} أي ينظرون إِليك يا محمد تشخص أبصارهم جنباً وهلعاً، كما ينظر من أصابته الغشية من حلول الموت {فأولى لَهُمْ} أي فويلٌ لهم قال في التسهيل: وهي كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم كقوله تعالى {أولى لَكَ فأولى} [القيامة: 35] {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} مبتدأٌ محذوف الخبر أي طاعةٌ لك يا محمد، وقولٌ جميلٌ طيبٌ خيرٌ لهم وأفضل وأحسن، قال الرازي: وهو كلام مستأنف محذوف الخير تقديره خيرٌ له أي أحسن وأمثل، وإِنما جاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة ويدل عليه قوله {وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} كأنه قال: طاعة مخلصة، وقولٌ معروفٌ خيرٌ لهم {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} أي فإذا جدَّ الجِدذُ وفُرض القتال {فَلَوْ صَدَقُواْ الله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} أي فلو أخلصوا نياتهم وجاهدوا بصدقٍ ويقين لكان ذلك خيراً لهم من التقاعس والعصيان، والجملةُ جواب الشرط {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ} أي فلعلَّكم إِن أعرضتم عن الإِسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، من الإِفساد في الأرض بالمعاصي، وقطع الأرحام! {قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولّوا عن كتاب الله، ألم يسفكوا الدم الحرام، ويقطعوا الأرحام، ويعصوا الرحمن؟} قال أبو حيان: يريد ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله} أي طردهم وأبعدهم من رحمته {فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ} أي فأصمهم عن استماع الحق، وأعملى قلوبهم عن طريق الهدى فلا يهتدون إلى سبي الرشاد قال القرطبي: أخبر تعالى أن من فعل ذلك حقت عليه اللغنة، وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره، حتى لاينقاد للحق وإِن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} ؟ الاستفهام توبيخي أي أفلا يتفهمون القرآن(3/196)
ويتصفحونه ليروا ما فيه من المواعظ والزواجر، حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات!؟ {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} «أم» بمعنى «بل» وهو انتقالٌ من توبيخهم على عدم التدبر إلى توبيخهم على ظلمة القلوب وقسوتها حتى لا تقبل التفكر والتدبر والمعنى: بل قلوبهم قاسية مظلمة كأنها مكبَّلة بالأقفال الحديدية فلا ينفذ إليها نور ولا إيمان قال الرازي: إِن القلب خُلق للمعرفة فإِذا لم تكن فيه المعرفة فكأنه غير موجود، وهذا كما يقول القائل في الإِنسان المؤذي: هذا ليس بإِنسان هذا وحش، وهذا ليس بقلب هذا حجر {إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} أي رجعوا إلى الكفر بعد الإِيمان، وبعد أن وضح لهم طريق الهدى بالدلائل الظاهرة والمعجزات الواضحة {الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ وأملى لَهُمْ} أي الشيطان زيَّن لهم ذلك الأمر، وغرَّهم وخدعهم بالأمل، وطول الأجل {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله} أي ذلك الإِضلال بسبب أنهم قالوا لليهود الذين كرهوا القرآن الذي نزَّله الله حسداً وبغياً {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر} أي سنطيعكم في بعض ما تأمروننا به كالقعود عن الجهاد، وتثبيط المسلمين عنه وغير ذلك {والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي وهو جل وعلا يعلم خفاياهم، وما يبطنونه من الكيد والدسّ والتآمر على الإِسلام والمسلمين قال المفسرون: قال المنافقون لليهود ذلك سراً فأظهره الله تعالى وفضحهم {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي فكيف يكون حالهم حين تحضرهم ملائكة العذاب لقبض أرواحهم معهم مقامع من حديد يضربون بها وجودههم وظهروهم؟ قال القرطبي: المعنى على التخويف والتهديد أي إِن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر قال ابن عباس: لا يُتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ} أي ذلك العذاب بسبب أنهم سلكوا طريق النفاق وكرهوا ما يرضي الله من الإِيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطل ما عملوه حال إيمانهم من أعمال البر {أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ} ؟ أي أيعتقد المنافقون الذين في قلوبهم شك ونفاق أن الله لن يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ وأنه لن يظهر بغضهم وأحقادهم على الإِسلام والمسلمين؟ لا بدَّ أن يفضحهم ويكشف أمرهم {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} أي لو أردنا لأريناك يا محمد أشخاصهم فعرفتهم عياناً بعلامتهم ولكنَّ الله ستر عليهم إبقاءً عليهم وعلى أقاربهم من المسلمين لعلهم يتوبون {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} أي ولتعرفنَّ يا محمد المنافقين من فحوى كلامهم وأسلوبه، فيما يعرضونه بك من القول الذي ظاهره إيمان وإِسلام وباطنه كفر ومسبّة قال الكلبي: لم يتكلم بعد نزولها عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منافقٌ إلا عرفه {والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بحسب قصدكم، ففيه وعدٌ ووعيد {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} أي ولنختبرنكَم أيها الناسُ بالجهاد وغيره من التكاليف الشاقة حتى نعلم علم ظهور المجاهدين في سبيل الله، والصابرين على مشاقَ الجهاد {وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ} أي ونختبر أعمالكم(3/197)
حسنها وقبيحها قال في التسهيل: المراد بقوله {حتى نَعْلَمَ} أي نعلمه علماً ظاهراً في الوجود تقوم به الحجة عليكم، وقد علم الله الأشياء قبل كونها، ولكنه أراد إقامة الحجة على عباده بما يصدر منهم، وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلنا فإنك إذا ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي جحدوا بآيات الله ومنعوا الناس على الدخول في الإِسلام {وَشَآقُّواْ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} أي عادوا الرسول وخرجوا عن طاعته من بعد ما ظهر لم صدقُه وأنه رسول الله بالحجج والآيات {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} أي لن يضروا الله بكفرهم وصدّهم شيئاً من الضرر، وسيبطل أعمالهم من صدقة ونحوها فلا يرون لها في الآخرة ثواباً {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول} أي امتثلوا أوامر الله وأوامر رسوله {وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} أي ولا تُبطلوا أعمالكم بما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق، والعُجب والرياء {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي جحدوا بآيات الله وصدُّوا الناس عن طريق الهدى والإِيمان {ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} أي وماتوا على الكفر {فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} أي فلن يغفر الله لهم بحالٍ من الأحوال، وهذا قطع بأن من مات على الكفر لا يغفر اللهُ له لقوله تعالى
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] قال أبو السعود: وهذا حكم يعم كل من مات على الكفر، وإن صحَّ نزوله في أصحاب القليب {فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم} أي فلا تضعفوا وتدعوا إلى المهادنة والصلح مع الكفار إِذا لقيتموهم {وَأَنتُمُ الأعلون} أي وأنتم الأعزة الغالبون لأنكم مؤمنون {والله مَعَكُمْ} أي والله معكم بالعونِ والنصر {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي لن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم قال ابن كثير: وفي قوله {والله مَعَكُمْ} بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي ما الحياة الدنيا إلا زائلة فانية، لا قرار لها ولا ثبات، كاللعب واللهو الذي يتلهى به الأولاد قال شيخ زاده: بيَّن تعالى أن الدنيا وما فيها من الحظوظ العاجلة، لا يصلح مانعاً من الإِقدام إلى الجهاد، وما يؤدي إلى ثواب الآخرة، لكونها بمنزلة اللهو اللهب في سرعة زوالها، وأن الآخرة هي الحياة الباقية، فلا ينبغي أن يكون حبُّ الدنيا والحرص على ما فيها من اللذات والشهوات سبباً للجبن عن الغزو والتخلف عن الجهاد {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي وإِن تؤمنوا بالله وتتقوه حقَّ تقواه، يعطكم ثواب أعمالكم كاملاً {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} أي ولا يطلب منكم أن تنفقوا جميع أموالكم، بل الزكاة المفروضة فيها قال ابن كثير: أي هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئاً، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساةً لإِخوانكم الفقراء، ليعود نفع ذلك وثوابه عليكم {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ} أي إن يسألكم جميع أموالكم ويبالغ في طلبها، ويلح عليكم في إنفاقها تبخلوا {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي ويخرج ما في قلوبكم من البخل وكراهة الإِنفاق قال في التسهيل: وذلك لأن الإِنسان جبل على محبة الأموال، ومن نوزع في حبيبه ظهرت سرائره، فمن رحمته تعالى على عباده عدم التشديد عليهم في التكاليف {(3/198)
هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} أي ها أنتم معشر المخاطبين تُدعون للإِنفاق في سبيل الله، وقد كلفتم ما تطيقون {فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ} أي فمنكم من يشح عن الإِنفاق ويمسك عنه {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} أي ومن بخل عن الإِنفاق في سبيل الله فإِنما يعود ضرر بخله على نفسه، لأنه يمنعها الأجر والثواب قال الصاوي: وبخل يتعدى ب «على» إِذا ضُمِّن معنى شحذَ، وب «عن» إِذا ضُمِّن معنى أمسك {والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء} أي واللهُ مستغن عن إنفاقكم ليس بمحتاج إِلى أموالكم، وأنتم محتاجون إليه {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي وإِن تعرضوا عن طاعته واتباع أوامره، يخلف مكانكم قوماً آخرين يكونون أطوع لله منكم {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} أي لا يكونون مثلكم في البخل عن الإِنفاق بل يكونوا كرماء أسخياء.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - المقابلة بين الآية الأولى والثانية {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1] وبين {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [محمد: 2] الآية وهو من المحسنات البديعية.
2 - ذكر الخاص بعد العام {وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} [محمد: 2] والنكتة تعظيمه والاعتناء بشأنه.
3 - الاستعارة التبعية {تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] شبَّه ترك القتال بوضع آلته، واشتق من الوضع «تضع» بمعنى تنتهي وتترك بطريق الاستعارة التبعية.
4 - المجاز المرسل {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] أطلق الجزء وأراد الكل أي يثبتكم، وعبَّر بالأقدام لأن الثبات التزلزل يظهران فيهاوهو مثل {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] .
5 - الطباق بين {مَنًّا. . وفِدَآءً} وبين {آمَنُواْ. . وكَفَرُواْ} وبين {الغني. . والفقرآء} .
6 - المجاز العقلي {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} نسب العزم إلى الأمر وهو لأهله مثل نهاره صائم.
7 - الالتفات {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ} وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع.
9 - الاستعارة التصريحية {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} شبَّه قلوبهم بالأبواب المقفلة، فإِنها لا تنفتح لوعظ واعظ، ولا يفيد فيها عذل عاذل، وهي من لطائف الاستعارات.
10 - الإِطناب بتكرار ذكر الأنهار {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ. .} [محمد: 15] الآية وذلك لزيادة التشويق إلى نعيم الجنة.
11 - الكناية {ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ} كناية عن الكفر بعد الإِيمان.
12 - السجع الرصين غير المتكلف {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ. واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ. وأعمى أَبْصَارَهُمْ} الخ وهو من المحسنات البديعية.(3/199)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
اللغَة: {السكينة} السكونُ والطمأنينة والثبات {السوء} المساءة والحزن والالم قال الجوهري: ساءَه سوءاً بالفتح ومساءةً نقيضُ سَّره، والإِسمُ السُّوءُ بالضم، ودائرة السُّوء يعني الهزيمة والشر، ومن فتح فهو من المساءة {تُعَزِّرُوهُ} تعظّموه وتنصروه وتمنعوا الأذى عنه، وسمي التعزيزُ في الحدود تعزيزاً لأنه مانع من فعل القبيح {نَّكَثَ} نقض البيعة والعهد {بُوراً} هلكى قال الجوهري: البورُ: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه، و «قوماً بوراً» جمع بائر، وبار فلان أي هالك {حَرَجٌ} إثم وذنب.(3/201)
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: تخلف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعراب المدينة حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح، بعغد أن كان استنفرهم معه حذراً من قريش، وأحرم بعمرةٍ وساق معه الدي ليعلم الناسُ أنه لا يريد حرباً، فتثاقلواعنه واعتلَّوا بالشغل فنزلت {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا. .} الآية.
التفسِير: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} أي قد فتحنا لك يا محمد مكة فتحاً بيناً ظاهراً، وحكمنا لك بالفتح المبين على أعدائك، والمراد بالفتح فتح مكة، وعده الله به قبل أني كون، وذكره بلفظ الماضي لتحققه، وكانت بشارة عظيمة من الله تعالى لرسوله وللمؤمنين قال الزمخشري: هو فتح مكة، وقد نزلت مرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن مكة عام الحديبية، وهو وعدٌ له بالفتح، وجيء به بلفظ الماضي على عادة ربّ العزَّة سبحانه في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن الفتح ما لايخفى {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أي ليغفر لك ربك يا محمد جميع ما فرط منك من ترك الأولى قال أبو السعود: وتسمتُه ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل وقال ابن كثير: هذا من خصائصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التي لا يشاركه فيها غيره، وفيه تشريفٌ عظيم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذ هو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة، وهو في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، ولما كان أطوع خلق الله بشره الله بالفتح المبين، وغنفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي وكمّل نعمته عليك بإِعلاء الذين ورفع مناره {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي ويرشدك إلى الطريق القويم، الموصل إلى جنات النعيم؛ بما يشرعه لك من الدين العظيم {وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً} أي وينصرك الله على أعدائك نصراً قوياً منيعاً، فيه عزةٌ وغلبة، يجمع لك به بين عز الدنيا والآخر {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين} أي هو جل وعلا الذي جعل السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين {ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} أي ليزدادوا يقيناً مع يقينهم، وتصديقاً مع تصديقهم، برسوخ العقيدة في القلوب، والتوكل على علاَّم الغيوب {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} أي وللهِ جلَّت عظمته كل جنود السموات والأرض، من الملائكة والجن، والحيوانات، والصواعق المدمّرة، والزلازل، والخسف والغرق، جنودٌ لا تُحصى ولا تُغلب، يسلطها على من يشاء قال ابن كثير: ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم، ولكنه تعالى شرع لعباده الجهاد، لما له في ذلك من الحجة القاطعة والحكمة البالغة ولذلك قال {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} أي عليماً بأحوال خلقه، حكيماً في تقديره وتدبيره قال المفسرون: أراد بإِنزال السكينة في(3/202)
قلوب المؤمنين «أهل الحديبية» حين بايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على مناجزة الحرب مع أهل مكة، بعد أن حصل لهم ما يزعج النفوس ويزيع القلوب، من صد الكفار لهم عن دخول مكة، ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصود، فلم يرجع منه أحدٌ عن الإِيمان، بعد أن هاج الناس وماجوا، وزلزلوا حتى جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: أنت نبيَّ الله حقاً؟ قال: بلى، قال ألسنا على الحق وعدوُّنا على الباطل؟ قال بلى، قال: فلم نعط الدنيَّة في ديننا إذن؟ قال إني رسول الله وليست أعصيه وهو ناصري.
. الخ. {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} أي ليدخلهم على طاعتهم وجهادهم حدائق وبساتين ناضرة، تجري من تحتها أنهار الجنة ما كثين فيها أبداً {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي يمحو عنهم خطاياهم وذنوبهم {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} أي وكان ذلك الإدخال في الجنات والتكفير عن السيئات، فوزاً كبيراً وسعادةً لا مزيد عليها، إذ ليس بعد نعيم الجنة نعيم {وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} أي وليعذِّب الله أهل النفاق والإِراك، وقدَّمهم على المشركين لأنهم أعظم خطراً وأشر ضرراً من الكفار المجاهرين بالكفر {الظآنين بالله ظَنَّ السوء} أي الظانين بربهم أسوأ الظنون، ظنوا أن الله تعالى لن ينصر رسله والمؤمنين، وأن المشركين يستأصلونهم جميعاً كما قال تعالى {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} قال القرطبي: ظنوا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يرجع إلى المدينة ولا أحدٌ من أصحابه حين خرج إلى الحديبية {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} دعاءٌ عليهم أي عليهم ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين من الهلاك والدمار {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} أي سخط تعالى عليهم بكفرهم ونفاقهم، وأبعدهم عن رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} أي وهيأ لهم في الآخرة ناراً مستعرة هي نار جهنم، وساءت مرجعاً ومنقلباً لأهل النفاق والضلال {وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض} تأكيد للانتقام من الأعداء أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين قال الرازي: كرر اللفظ لأن جنود الله قد يكون إِنزالهم للرحمة، وقد يكون للعذاب، فذكرهم أولاً لبيان الرحمة للمؤمنين وثانياً لبيان إِنزال العذاب عل الكافرين {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} أي عزيزاً في ملكه وسلطانه، حكيماً في صنعه وتدبيره قال الصاوي: ذكره هذه الآية أولاً في معرض الخلق والتدبير فذيَّلها بقوله
{عَلِيماً حَلِيماً} [الأحزاب: 51] وذكرها ثانياً في معرض الانتقام فذيلها بقوله {عَزِيزاً حَكِيماً} وهو في منتهى الترتيب الحسن، لأنه تعالى ينزل جنوج الحرمة لنصرة المؤمنين، وجنود العذاب لإِهلاك الكافرين. . ثم امتن تعالى على رسوله الكريم بتشريفه بالرسالة، وبعثه إلى كافة الخلق فقال {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} أي: إنا أرسلناك يا محمد شاهداً على الخلق يوم القيامة، ومبشراً للمؤمنين بالجنة، ومنذراً للكافرين من عذاب النار {لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي أرسلنا الرسول لتؤمنوا أيها الناس بربكم ورسولكم حقَّ الإِيمان، إيماناً عن اعتقاد ويقين، لا يخالطه شك ولا ارتياب {(3/203)
وَتُعَزِّرُوهُ} أي تُفخمو وتُعطِّموه {وَتُوَقِّرُوهُ} أي تحترموا وتجلُّوا أمره مع التعظيم والتكريم، والضمير فيهما للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي تسبحوا ربكم في الصباح والمساء، ليكون القلب متصلاً بالله في كل آن، ثم قال تعالى {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} أي إن الذين يبايعونك يا محمد في الحديبية «بيعة الرضوان» إِنما يبايعون في الحقيقة اللهَ، وهذا تشريفٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث جعل مبايعته بمنزل مبايعة الله، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سفيرٌ ومعبِّر عن الله قال المفسرون: المراد بالبيعة هنا بيعة الرضوان بالحديبية، حين بايع الصحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الموت كما روى الشيخان عن سلمة ابن الأكوع أنه قال: «بايعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الموت» وسميت «بيعة الرضوان» لقول الله فيها {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} [الفتح: 18] {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قال ابن كثير: أي هو تعالى حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظاهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسول الله صلى لله عليه وسلم وقال الزمخشري: يريد أن يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التي تعلو أيدي المبايعين هي يدُ الله، والمعنى أن من بايع الرسول فقد بايع الله كقوله تعالى {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} أي فمن نقض البيعة فإنما يعود ضرر نكثه عليه، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب بنقضه العهد والميثاق الذي عاهد به ربه {وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله} أو ومنْ وفَّى بعهده {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي فسيعطيه الله ثواباً جزيلاً، وهو الجنة دار الأبرار {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} أي سيقول لك يا محمد المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج معك عام الحديبية من أعراب المدينة {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا} أي شُغلنا عن الخروج معك الأموال والأولاد، فاطلب لنا من الله المغفرة، لأن تخلفنا لم يكن باختيار بل عن اضطرار قال في التسهيل: سمَّاهم تعالى بالمخلَّفين لأنهم تخلَّفوا عن غزوة الحديبية، والأعراب هم أهل البوادي من العرب لما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى مكة يعتمر، رأوا أنه يستقبل عدواً كثيراً من قريش وغيرهم فقعدوا عن الخروج معه، ولم يكن إيمانهم متمكناً فظنوا أنه لا يرجع هو والمؤمنون من ذلك السفر، ففضحهم الله في هذه السورة وأعلمَ تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، وأعلمه أنهم كاذبون في اعتذارهم {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} اي يقولون خلاف ما يبطنون وهذا هو النفاق المحض، فهم كاذبون في الاعتذاروطلب الاستغفار، لأنهم قالوه رياءً من غير صدقٍ ولا توبة {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} ؟ أي قل لهم: مَن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه، إِن أراد أن يُلحق بكم أمراً يضركم كالهزيمة، أو أمراً ينفعكم كالنصر والغنيمة؟ قال القرطبي: وهذا ردٌ عليهم حين ظنوا ان التخلف عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدفع عنهم الضرُّ، ويُعجل لهم النفع {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي ليس الأمر كما زعمتم بل الله مطلع على ما في قلوبكم من الكذب والنفاق، ثم أظهر تعالى ما يخفونه في نفوسهم فقال {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن(3/204)
لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} أي بل ظننتم أيها المنافقون أن محمداً وأصحابه لن يرجعوا إلى المدينة أبداً {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} أي وزُيّن ذلك الضلال في قلوبكم {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} أي ظننتم أنهم يُسْتأصلون بالقتل، ولا يرجع منهم أحد {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أو وكنتم قوماً هالكين عند الله، مستوجبين لسخطه وعقابه {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ} لما بيَّن حال المتخلفين عن رسول الله، وبيَّن حال ظنهم الفاسد، وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر، حرَّضهم على الإِيمان والتوبة على سبيل العموم والمعنى من لم يؤمن بالله ورسوله بطريق الإِخلاص والصدق {فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً} أي فإِنَّا هيأنان للكافرين ناراً شديدة مستعرة، وهو وعيدٌ شديد للمنافقين {وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} أي له جل وعلا جميع ما في السموات والأرض، يتصرف في الكل كيف يشاء {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أي يرحم من يشاء من عباده ويُعذب من يشاء، وهذا قطع لطمعهم في استغفار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي واسع المغفرة عظيم الرحمة {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} أي سيقول الذين تخلَّفوا عن الخروج مع رسول الله في عمرة الحديبية، عند ذهابكم إلى مغانم خيبر لتحصلوا عليها {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} أي اتركونا نخرج معكم إلى خيبر لنقاتل معكم {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} أي يريدون أن يُغيّروا وعد الله الذي وعده لأهل الحديبية من جعل غنائم خيبر لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد قال القرطبي: إن الله تعالى جعل لأهل الحديبية غنائم خيبر عوضاً عن فتح مكة إذ رجعوا من الحديبية على صلح {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} أي قل لهم لا تتبعونا فلن يكون لكم فيها نصيب {كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ} أي كذلكم حكم الله تعالى بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب قبل رجوعنا منها {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي فسيقولون ليس هذا من الله بل هو حسد منكم لنا على مشاركتكم في الغنيمة، قال تعالى ردّاً عليهم {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي لا يفهمون إِلا فهماً قليلاً وهو حرصهم على الغنائم وأمور الدنيا {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي قل لهؤلاء الذين تخلفون عن الحديبية كرَّر وصفهم بهذا الإِسم إظهاراً لشناعة ومبالغةً في ذمهم ستُدعون إلى حرب قوم أشداء، هم بنو حنيفة قوم مسليمة الكذاب أصحاب الردة {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أي إما أن تقتلوهم أو يدخلوا في دينكم بلا قتال {فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً} أي فإِن تستجيبوا وتخرجوا لقتالهم يعطكم الله الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي وإن تتخلفوا عن الخروج كما تخلفتم زمن الحديبية، يعذبكم اللهُ عذاباً شديداً مؤلماً في نار جهنم.
. ثم ذكر تعالى الأعذار في ترك الجهاد فقال {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} أي ليس على هؤلاء إِثم أو ذنب في ترك الخروج للجهاد لما بهم من الأعذار الظاهرة {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي من يطع أمر الله وأمر الرسول يدخله جنات النعيم خالداً فيها {وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} أي ومن ينكل عن الجهاد لغير عذر يعذبه الله عذاباً شديداً، في الدنيا بالمذلة وفي الآخرة بالنار.(3/205)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
المنَاسَبَة: لمَّا ذكر تعالى حال المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ن، ذكر تعالى حال المؤمنين المجاهدين الذين بايعوا الرسول «بيعة الرضوان» تسجلاً لرضى الله تعالى عنهم، وتخليداً لمآثرهم الكريمة، وختم السورة الكريمة بالثناء على الصحابة الأبرار، بأبلغ ثناء وأكرم تمجيد.
اللغَة: {أَظْفَرَكُمْ} أظهركم وأعلاكم، طفر بالشيء غلب عليه، وأظفره غلبه {مَعْكُوفاً} محبوساً ومنه الاعتكاف {مَّعَرَّةٌ} المعرَّة: العيب والمشقة اللاصقة بالإِنسان من العُرِّ وهو الجرب {تَزَيَّلُواْ} تميَّزوا {الحمية} الأنفة والغضب الشديد {سِيمَاهُمْ} علامتهم {شَطْأَهُ} الشطء: الفراخ قال الجهوري: شطءُ الرزع والنبات فراخُه والجمع أشطاء {آزَرَهُ} قوَّاه وأعانه وشدَّه.(3/206)
سَبَبُ النّزول: عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن ثمانين من أهل مكة هبطوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التنعيم مستلحين يريدون الغدر به وبأصحابه فأخذناهم أسرى فأنزل الله تعالى {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ ... } الآية.
التفسِير: {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} اللام موطئة لقسم محذوف وأي والله لقد رَضِيَ اللَّهُ عَنْ المؤمنين حين بايعوك يا محمد «بيعة الرضوان» تحت ظل الشجرة بالحديبية قال المفسرون: كان سبب هذه البيعة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما بلغ الحديبية أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة يخبرهم أنه إِنما جاء معتمراً، وأنه لا يريد حرباً، فلما ذهب عثمان حبسوه عندهم، وجاء الخبر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن عثمان قد قتل، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الناس إلى البيعة على أن يدخلوا مكة حرباً، وبايعوه على الموت، فكانت بيعت الرضوان، فلما بلغ المشركين ذلك أخذهم الرعب وأطلقوا عثمان وطلبوا الصلح من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أن يأتي في العام القابل، ويدخلها وقيم فيها ثلاثة أيام، وكانت هذه البيعة تحت شجرة سمرة بالحديبية وقد سميت «بيعة الرضوان» ولما رجع المسلمون يعلوهم الحزنُ والكآبة، أراد الله تسليتهم وإِذهاب الحزن عنهم فأنزل الله هذه السورة على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد مرجعه من الحديبية {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] وكان عدد الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألفاً وأربعماةئ رجل، وفيهم نزلت الآية الكريمة {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} ولم يتخلف عن البيعة إلا «الجد بن قيس» من المنافقين، وحضر هذه البيعة روح القدس جبريل الأمين، ولهذا سُطرت في الكتاب المبين {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي فعلم تعالى ما في قلوبهم من الصدق والوفاء، عند مبايعتهم لك على حرب الأعداء {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} أي رزقهم الطمأنينة وسكون النفس عند البيعة {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} أي وجازاهم على بيعة الرضوان بفتح خيبر، وما فيها من النصر والغنائم، زيادةً على ثواب الآخرة {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي وجعل لهم الغنائم الكثيرة التي غنموها من خيبر قال ابن كثير: هو ما أجرى الله عَزَّ وَجَلَّ على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير والعامِّ بفتح خبير، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى {وَكَان الله عَزِيزاً حَكِيماً} أي غالباً على أمره، حكيماً في تدبيره وصعنه، ولهذا نصركم عليهم وغنَّمكم أرضهم وديارهم وأموالهم {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} أي وعدكم الله معشر المؤمنين على جهادكم وصبركم الفتوحات الكثيرة، والغنائم الوفيرة تأخذونها من أعدائكم، قال ابن عباس: هي المغانم التي تكون إلى يوم القيامة قال في البحر: ولقد اتَّسع نطاق الإِسلام، وفتح المسلمون فتوحاً لا تُحصى، وغنموا مغانم لا تُعدُّ وذلك في شرق البلاد وغربها، حتى في الهند(3/207)
والسودان تصديقاً لوعده تعالى وقدم علينا أحد ملوك غانة من بلاد التكرور، وقد فتح أكثر من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان، وأسلموا معه وقدم علينا ببعض ملوكهم يحج معه {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} أي فعجَّل لكم غنائم خيبر بدون جهد وقتال {وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ} أي ومنع أيدي الناس أن تمتد إِليكم بسوء فقال المفسرون: المراد أيدي أهل خبير وحلفائهم من بني أسد وغطفان، حين جاءوا لنصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرغب {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} اي ولتكون الغنائم، وفتح مكة، ودخول المسجد الحرام علامة واضحة تعرفون بها صدق الرسول فيما أخبركم به عن الله {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي ويهديكم تعالى إلى الطريق القويم، الموصل إلى جنات النعيم بجهادكم وإِخلاصكم قال الإِمام الفخر: والآية للإِشارة إلى أنَّ ما أعطاهم من الفتح والمغانم، ليس هو كل الثواب، بل الجزاء أمامهم، وإِنما هوي شيء عاجل عجَّله لهم لينتفعوا به، ولتكون آية لمن بعدهم من المؤمنين، تدل على صدق وعد الله في وصول ما وعدهم به كما وصل إِليكم {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} أي وغنيمةً أخرى يسَّرها لكم، لم تكونوا بقدرتكم تستطيعون عليها، ولكنَّ الله فضله وكرمه فتحها لكم، والمراد بها فتح مكة {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} أي قد استولى الله عليها بقدرته ووهبها لكم، فهي كالشيء المحاط به من جوانبه محبوسٌ لكم لا يفوتكم {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} أي قادراً على كل شيء، لا يعجزه شيء أبداً، فهو القادر على نصرة أوليائه، وهزم أعدائه قال ابن كثير: المعنى أي وغنميةً أخرى وفتحاً أخر معيناً، لم تكونوا تقدرون عليها، قد يسَّرها الله عليكم وأحاط بها لكم، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون والمرادُ بها في هذه الآية «فتح مكة» وهو أختيار الطبري {وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار} تذكيرٌ لهم بنعمةٍ أخرى أي ولو قاتلكم أهل مكة ولم يقع الصلح بينكم وبينهم، لغلبوا وانهزموا أمامكم ولم يثبتوا {ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي ثم لا يجدون من يتولّى أمرهم بالحفظ والرعاية، ولا من ينصرهم من عذاب الله {سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أي تلك طريقة الله وعادتُه التي سنَّها فيمن مضى من الأمم، من هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين قال في البحر: أي سنَّ الله لأنبيائه ورسله سنة قديمة وهي قوله
{كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} أي وسنته تعالى لا تتبدَّل ولا تتغيَّر {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} أي وهو تعالى بقدرته وتدبيره صرف أيدي كفار مكة عنكم كما صرف عنهم أيديككم بالحديبية التي هي قريبة من البلد الحرام قال ابن كثير: هذا امتنانٌ من الله تعالى على عباده المؤمنين، حين كفَّ أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوء، وكفَّ أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل(3/208)
صان كلاً من الفريقين وأوجد بينهم صلحاً، فيه خيرة للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي من بعد ما أخذتموهم أسارى وتمكنتم منهم قال الجلال: وذلك أن ثمانين من المشركين طافوا بعسكر المؤمنين ليصيبوا منهم، فأخذوا وأُتي بهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعفا عنهم وخلَّى سبيلهم، فكان ذلك بسبب الصلح وقال في التسهيل: وروي في سببها أن جماعةً من فتيان قريش خرجوا إلى الحديبية، ليصيبوا من عسكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فبعث إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خالد بن الوليد في جمناعةٍ من المسلمين فهزموهم وأسروا منهم قوماً، وساقوهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأطلقهم، فكفَّ أيدي الكفار هو هزيمتهم وأسرهم، وكفُّ أيدي المؤمنين عن الكفار هو إطلاقهممن الأسر وسلامتهم من القتل {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} أي هو تعالى بصير بأعمالكم وأحوالكم، يعلم ما فيه مصلحة لكم، ولذلك حجزكم عن الكافرين رحمةً بكم، وحرمةً لبيته العتيق لئلا تسفك فيه الدماء. . ثم ذكر تعالى استحقاق المشركين للعذاب والدمار فقال {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} أي هم كفار قريش المعتدون الذين كفروا بالله والرسول، ومنعوا المؤمنين عن دخول المسجد الحرام لأداء مناسك العمرة عام الحديبية {والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} أي وصدُّوا الهدي أيضاً وهو ما يُهدى لبيت الله لفقراء الحرم معكوفاً أي محبوساً عن أن يبلغ مكانه الذي يذبح فيه وهو الحرم قال القرطبي: يعني قريشاً منعوا المسلمين من دخول المسجد الحرام عام الحديبية، حين أحرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أصحابه بالعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله، وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم الحمية الجاهلية علىأن يفعلوا ما لا يعتقدونه ديناً، فوبخهم الله على ذلك وتوعَّدهم عليه، وأدخل الأنس على رسول الله ببيانه ووعده {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ} أي ولولا أن في مكة رجالاً ونساءً من المؤمنين المستضعفين، الذين يخفون إِيمانهم خوفاً من المشركين {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} أي لا تعرفونهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين {أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي كراهة أن توقعوا بهم وتقتلوا منهم دون علم منكم بإِيمانهم، فينالكم بقتلهم إِثم وعيب وجواب «لولا» محذوفٌ تقديره: لأذن لكم في دخول مكة، ولسلَّطكم على المشركين قال الصاوي: والجواب محذوف قدَّره الجلال بقوله: لأذِنَ لكم في الفتح، ومعنى الآية: لولا كراهة أن تُهلكوا أناساً مؤمنين بين أظهر الكفار، حال كونكم جاهلين بهم فيصيبكم بإِهلاكهم مكروه لما كفَّ أيديكم عنهم، ولأذن لكم في فتح مكة {لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} أي إنما فعل ذلك ليخلّص المؤمنين من بين أظهر المشركين، وليرجع كثيرٌ منهم إلى الإِسلام قال القرطبي: أي لم يأذن الله لكم في قتال المشركين، ليُسلم بعد الصلح من قضى أن يُسلم من أهل مكة، وكذلك كان، أسلم كير منهم وحسن إِسلامُه، ودخلوا في رحمته وجنته {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي لو تفرقوا وتميَّز بعضهم عن(3/209)
بعض، وانفصل المؤمنون عن الكفار، لعذبنا الكافرين منهم أشدَّ العذاب، بالقتل والسبي والتشريد من الأوطان {إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية} أي حين دخل إلى قلوب الكفار الأنفة والكبرياء بالباطل، فرفضوا أن يكتبوا في كتاب الصلح «بسم الله الرحمن الرحيم» ورفضوا أن يكتبوا «محمد رسولُ الله» وقولهم: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولكنْ اكتبْ اسمك واسم أبيك {حَمِيَّةَ الجاهلية} أي آنفةً وغطرسةً وعصبيةً جاهلية {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} أي جعل الطمأنينة والوقار في قلب الرسول والمؤمنين، ولم تلحقهم العصبية الجاهلية كما لحقت المشركين {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} أي اختار لهم كلمة التقوى إِلزام تكريم وتشريف وهي كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» هذا قول الجمهور، والظاهر: أن المراد بكلمة التقوى هي أخلاصهم وطاعتهم لله ورسوله، وعدم شقّ ص الطاعة عندما كُتيبت بنود الصلح، وكانت مجحفةً بحقوق المسلمين في الظاهر، فثبَّت الله المؤمنين على طاعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان في هذا الصلح كل الخير للمسلمين {وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} أي وكانوا أحقَّ بهذه الفضيلة من كفار مكة، لأن الله اختارهم لدينه وصبحة نبيه {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أي عالما بمن هو أهل للفضل، فيخصه بمزيد من الخير والتكريم.
. ثم أخبر تعالى عن رؤيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المنام وهي رؤيا حق لأنها جزء من الوحي فقال {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق} اللام موطئة للقسم، و «قد» للتحقيق أي والله لقد جعل الله رؤيا رسوله صادقة محققه لم يدخلها الشيطان لأنها رؤيا حق قال المفسرون: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد رأى في منامه أنه دخل مكة هو وأصحابه وطافوا بالبيت، ثم حلق بعضهم وقصَّر بعضهم، فحدَّث بها أصحابه ففرحوا واستبشروا، فلما خرج إلى الحديبية مع الصحابة، وصدَّه المشركون عن دخول مكة، وقع ما وقع من قضية الصلح، ارتاب المنافقون وقالوا: واللهِ ما حلقنا ولا قصَّرنا ولا رأينا البيت، فأين هي الرؤيا؟ ووقع في نفوس بعض المسلمين شيء فنزلت الآية {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق} فأعلم تعالى أن رؤيا رسوله حقٌّ، وأنه لم يكذب فيما رأى، ولكنه ليس في الرؤيا أنه يدخلها عام ستٍ من الهجرة، وإِنما اراه مجرد صورة الدخول، وقد حقق الله له ذلك بعد عام فذلك قوله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله} أي لتدخلن يا محمد أنت وأصحابك المسجد الحرام بمشيئة الله {آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} أي تدخلونها آمنين من العدو، تؤدون مناسك العمرة ثم يحلق بعضكم رأسه، ويقصِّر بعض {لاَ تَخَافُونَ} أي غير خائفين، وليس فيه تكرارٌ لان المراد آمنين وقت دخولكم، وحال المكث، وحال الخروج {فَعَلِمَ مَا لَمْ(3/210)
تَعْلَمُواْ} أي فعلم تعالى ما في الصلح من الحكمة والخير والمصلحة لكم ما لم تعلموه أنتم قال ابن جزي: يريد ما قدَّره تعالى من ظهور الإِسلام في تلك المدة، فإِنه لما انعقد الصلح وارتفعت الحرب، رغب الناس في الإِسلام، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزوة الحديبية في ألف وأربعمائة، وغزا «غزوة الفتح» بعدها بعامين ومعه عشرة آلاف {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} أي فجعل قبل ذلك فتحاً عاجلاً لكم وهو «صلح الحديبية» وسُمي فتحاً لما ترتَّب عليه من الآثار الجليلة، والعواقب الحميدة، ولهذا روى البخاري «عن البراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» تعدُّون أنتم الفتح «فتح مكة» وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعدُّ الفتح «بيعة الرضوان» يوم الحديبية. . «الحديث {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق} أي هو جلَّ وعلا الذي أرسل محمداً بالهداية التامة الشاملة الكاملة، والدين الحق المستقيم دين الإِسلام {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي لعيليه على جميع الأديان، ويرفعه على سائر الشرائع السماوية {وكفى بالله شَهِيداً} اي وكفى بالله شاهداً على أن محمداً رسوله.
. ثم أثنى تعالى على أصحاب رسول الله بالثناء العاطر، وشهد لرسوله بصدق الرسالة فقال {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} أي هذا الرسول المسمَّى محمداً هو رسولُ الله حقاً لا كما يقول المشركون {والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} أي وأصحابه الأبرار الأخيار غلاظٌ على الكفار متراحمون فيما بينهم كقوله تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] قال أبو السعود: أي يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن وافقهم في الدين الرحمة والرأفة قال المفسرون: وذلك لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] وقد بلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمسَّ أبدانهم، وكان الواحد منهم إِذا رأى أخاه في الدين صافحه وعانقه {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} أي تراهم أيها السامع راكعين ساجدين من كثرة صلاتهم وعبادتههم، رهباتٌ بالليل أسودٌ بالنهار {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً} أي يطلبون بعبادتهم رحمة الله ورضوانه قال ابن كثير: وصفه بكثرة الصلاة وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإِخلاص لله عَزَّ وَجَلَّ والاحتساب عنده بجزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله ورضاه {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} أي علامتهم وسمتُهم كائنة في جباههم من كثرة السجود والصلاة قال القرطبي: لاحت في وجوههم علامات التهجد بالليل وأمارات السهر، قال ابن جريج: هو الوقار والبهاء، وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع، قال منصور سألت مجاهداً عن قوله تعالى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} أهو أثرٌ يكون بين عيني الرجل؟ قال: لا، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلباً من الحجارة، ولكنه نورٌ في وجوههم من الخشوع {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة} أي ذلك وصفهم في التوراة: الشدة على الكفار، والرحمة بالمؤمنين، وكثرة الصلاة والسجود {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ(3/211)
أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي ومثلهم في الإِنجيل كزرعٍ أخرج فراخه وفروعه {فَآزَرَهُ فاستغلظ} أي فقوَّاه حتى صار غليظاً {فاستوى على سُوقِهِ} أي فقام الرزع واستقام على أصوله {يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} أي يعجب هذا الزرع الزراع، بقوته وكثافته وحسن منظره، ليغتاظ بهم الكفار قال الضحّاك: هذا مثل في غاية البيان، فالزرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والشطءُ أصحابُه، كانوا قليلاً فكثروا، وضعفاء فقووا، وقال القرطبي: وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعني أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين بدأ بالدعوة ضعيفاً، فأجابه الواحد بعند الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالاً بعد حال حتى يغلظ نباته، وأفراخه، فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} أي وعدهم تعالى بالآخرة بالمغفرة التامة والأجر العظيم والرزق الكريم في جنات النعيم، اللهم أرزقنا مجبتهم يا رب العالمين.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {مَا تَقَدَّمَ. . وَمَا تَأَخَّرَ} وبين {وَمُبَشِّراً. . وَنَذِيراً} وبين {بُكْرَةً. . وَأَصِيلاً} وبين {نَّكَثَ. . وأوفى} وبين {أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} [الفتح: 11] وبين {يَغْفِرُ. . وَيُعَذِّبُ} وبين {مُحَلِّقِينَ. . وَمُقَصِّرِينَ} وبين {أَشِدَّآءُ. . ورُحَمَآءُ} .
2 - المقابلة بين {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ. .} [الفتح: 5] الآية وبين {وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات} [الفتح: 6] ألآية.
3 - الاستعارة التصريحية المكنية {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] شبَّه المعاهدة على التضحية بالأنفس في سبيل الله طلباً لمرضاته بدفع السِّلع في نظير الأموال، واستعير اسم المشَّبه به للمشبه واشتق من البيع يبايعون بمعنى يعاهدون على دفع أنفسهم في سبيل الله، والمكنية في قوله {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} شبَّه اطلاع الله على مبايعتهم ومجازاته على طاعتهم بملكٍ وضع يده على يد أميره ورعيته، وطوى ذكر المشبَّه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو اليد على طريق الاستعارة المكنية، ففي الآية استعارتان.
4 - الكناية {لَوَلَّوُاْ الأدبار} كناية عن الهزيمة لأن المنهزم يدير ظهره لعوده للهرب.
5 - التعبير بصيغة المضارع لاستحضار صورة المبايعة {لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ. .} .
6 - الالتفات من ضمير الغائب إلى الخطاب {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ} بعد قوله تعالى {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} وذلك لتشريف المؤمنين في مقام الامتنان.
7 - الإِطناب بتكرار الحرج {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} [الفتح: 17] لتأكيد نفي الإِثم عن أصحاب الأعذار.
8 - التشبيه التمثيلي {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ. .} الآية لأن وجه الشبه منتزعٌ من متعدد.
9 - مراعاة الفواصل في نهاية الآيات وهو من المحسنات البديعية.(3/212)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
اللغَة: {يَغُضُّونَ} غضَّ صوته خفضه وخافت به {فَاسِقٌ} الفاسق: الخارج من حدود الشرع، وهو في أصل الاشتقاق موضوع لما يدل على معنى الخروج، مأخوذ من قولهم: فسقت الرطبة إِذا خرجت من قشرها، وسمي فاسقاً لخروجه عن الطاعة {نبأ} النبأ: الخبر الهام قال الراغب: لا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن {(3/214)
عَنِتُّمْ} وقعتم في العَنت وهو المشقة والهلاك قال في اللسان: العن: الهلاك وأعنته أوقعه في الهلكة {الراشدون} جمع راشد وهو المهتدي إلى محاسن الأمور {تفياء} ترجع {بَغَتْ} اعتدت واستطاعت وأصله مجاوزة الحد في الظلم والطغيان {تلمزوا} تعيبوا.
سَبَبُ النّزول: أروي أن بعض الأعراب الجفاة جاءوا إلى حجرات أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجعلوا ينادونه: يا محمد أُخرج إلينا، يا محمد أخرج إلينا فأنزل الله {إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} .
ب وروي أن النبي بعث «الوليد بن عقبة» إلى الحارث بن ضرار ليقبض ما كان عنده من الزكاة التي جمعها من قومه، فلما سار الوليد واقترب منهم خاف وفزع، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال يا رسول الله: إنهم قد ارتدوا ومنعوا الزكاة، فهمَّ بعض الصحابة بالخروج إليهم وقتالهم فأنزل الله {ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا. .} الآية.
ج عن أنس قال: قيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو أتيت «عبد الله بن أُبيٍّ» وهو رأس المنافقين فانطلق إليه وركب حماراً، وانطلق معه المسلمون يمشون، فلما أتاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له: إليك عني أي تنحَّ وابتعد عني فوالله لقد آذاني نتنُ حمارك، فقال رجل من الأنصار والله لحمارُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه، وغضب للأنصاري آخرون من قومه، فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل الله {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا. .} الآية.
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} أي أيها المؤمون، يا من اتصفتم بالإِيمان، وصدَّقتم بكتاب الله، لا تقُدقموا أمراً أو فعلاً بين يدي الله ورسوله، وحُذِف المفعول للتعميم ليذهب ذهن السامع إلى كل ما يمكن تقديمه من قولٍ أو فعل، كما إِذا عرضت مسألة في مجلسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يسبقونه بالجواب، وإِذا حضر الطعام لا يبتدئون بالأكل، وإِذا ذهبوا معه إلى مكان لا يمشون أمامه ونحو ذلك قال ابن عباس: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم وقال البيضاوي: المعنى لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكم الله ورسوله به، وقيل: المراد بين يدي رسول الله، وذُكر اللهُ تعظيماً له وإِشعاراً بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله {واتقوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي واتقوا الله فيما أمركم به، إن الله سمعٌ لأقوالكم، عليمٌ بنياتكم وأحوالكم، وإظهار الاسم الجليل واحترامه فقال {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} أي إِذا كلمتم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاخفضوا أصواتكم ولا ترفعوها على صوتِ النبي {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي ولا تبلغوا حدَّ الجهر(3/215)
عند مخاطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يجهر بعضكم في الحديث مع البعض، ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعظكم بعضاً فتقولوا: يا محمد، ولكنْ قولوا يا نبيَّ الله، ويا رسول الله، تعظيماً لقدره، ومراعاةً للأدب قال المفسرون: نزلت في بعض الأعراب الجفاة الذين كانوا ينادون رسول الله باسمه، ولا يعرفون توقير الرسول الكريم {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي خشية أن تبطل أعمالكم من حيث لا تشعرون ولا تدرون، فإن في رفع الصوت والجهر بالكلام في حضرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استخفافاً قد يؤدي إلى الكفر المحبط للعمل قال ابن كثير: روي
«أن ثابت بن قيس كان رفيع الصوت، فلما نزلت الآية قال: أنا الذي كنتُ أرفع صوتي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنا من أهل النار، حبط عملي، وجلس في أهله حزيناً، فافتقده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: تفقَّدك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما لك؟ فقال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حبط عملي أنا من أهل النار، فأتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبروه بما قال، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا بل هو من أهل الجنة» وفي رواية «أترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟ فقال: رضيتُ ببشرى الله تعالى ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا أرفع صوتي أبداً على صوت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} أي إن الذين يخفضون أصواتهم في حضرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولئك الذين أخلص الله قلوبهم للتقوى ومرَّنها عليها وجعلها صفة راسخةً راسخة فيها قال ابن كثير: أي أخلصها للتقوى وجعلها أهلا ومحلاً {الَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} أي لهم في الآخرة صفحٌ عن ذنوبهم، وثواب عظيم في جنات النعيم. . ثم ذمَّ تعالى الأعراب الجفاة الذين ما كانوا يتأدبون في ندائهم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات} أي يدعونك من وراء الحجرات، منازل أزواجك الطاهرات {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي أكثر هؤلاء غير عقلاء، إذ العقل يقتضي حسن الأب، ومراعاة العظماء عند خطابهم، سيّما لمن كان بهذا المنصب الخطير قال البيضاوي: قيل إِن الذي ناداه «عُيينة بن حُصين» و «الأقرع بن حابس» وفدا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سبعين رجلاً من بني تميم وقت الظهيرة وهو راقد فقالا يا محمد أخرج إلينا {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} أي ولو أنَّ هؤلاء المنادين لم يزعجوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمناداتهم وصبروا حتى يخرج إليهم لكان ذلك الصبر خيراً لهم وأفضل عند الله وعند الناس، لما فيه من مراعاة الأدب في مقام النبوة {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي الغفور لذنوب العباد، الرحيم بالمؤمنين حيث اقتصر على نصحهم وتقريعهم، ولم يُنزل العقاب بهم.
. ثم حذَّر تعالى من الاستماع للأخبار بغير تثبت فقال {ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} أي إِذا أتاكم رجل فاسق غير موثوق بصدقه وعدالته بخبر من الأخبار {فتبينوا} أي فتثبتوا من صحة الخبر {أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} أي لئلا تصيبوا قوماً وأنتم جاهلون حقيقة الامر {فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} أي فتصيروا نادمين أشد الندم على صنيعكم {واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} أي واعلموا أيها المؤمنون أنَّ بينكم الرسول المعظَّم، والنبيُّ المكرم، المعصوم عن اتباع الهوى {لَوْ يُطِيعُكُمْ(3/216)
فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} أي لو يسمع وشاياتكم، ويصغي بسمعه لإِراتكم، ويطيعكم في غالب ما تشيرون عليه من الأمور، لوقعتكم في الجهد والهلاك قال ابن كثير: أي اعلموا أنَّ بين أظهركم رسو لالله فعظّموه ووقروه، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم، ولو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدَّى لك ذلك إلى عنتكم وحرجكم {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} أي ولكنه تعالى بمنّه وفضله نوَّر بصائركم فحبَّب إلى نفوسكم الإِيمان {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي وحسَّنه في قلوبكم، حتى أصبح أغلى عندكم من كل شيء {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} أي وبغَّض إلى نفوسكم أنواع الضلال، من الكفر والمعاصي والخروج عن طاعة الله قال ابن كثير: والمراد بالفسوق الذنوبُ الكبار، وبالعصيان جميع المعاصي {أولئك هُمُ الراشدون} أي أولئك المتصفون بالنعوت الجليلة هم المهتدون، الراشدون في سيرتهم وسلوكهم، والجملة تفيد الحصر أي هم الراشدون لا غيرهم {فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً} أي هذا العطاء تفضلٌ منه تعالى عليكم وإِنعام {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليمٌ بمن يستحق الهداية، حكيم في خلقه وصنعه وتدبيره. . ثم عقَّب تعالى ما يترتب على سماع الأنباء المكذوبة من تخاصم وتباغضٍ وتقاتل فقال {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} أي وإنْ حدث أنَّ فئتين وجماعتين من إخوانكم المؤمنين جنحوا إلى القتال فأصلحا بينهما، واسعوا جهدكم للإِصلاح بينهما، والجمعُ {اقتتلوا} باعتبار المعنى، والتثنية {بَيْنَهُمَا} باعتبار اللفظ {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} أي فإِن بغت إحداهما على الأخرى، وتجاوزت حدَّها بالظلم والطغيان، ولم تقبل الصلح وصمَّمت على البغي {فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله} أي فقاتلوا الفئة الباغية حتى ترجع إلى حكم الله وشرعه، وتُقلع عن البغي والعدوان، وتعمل بمقتضى أخوة الإِسلام {فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا} أي فإن رجعت وكفَّت عن القتال فأصلحوا بينهما بالعدل، دون حيفٍ على إِحدى الفئتين، واعدلوا في جميع أموركم {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أي يحبُّ العادلين الذين لا يجورون في أحكامهم قال البيضاوي: والآية نزلت في قتالٍ حدث بين «الأوس» و «الخزرج» في عهده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان فيه ضرب السَّعف والنعال، وهي تدلُّ على أن الباغي مؤمن، وأنه إِذا كفَّ عن الحرب ترك، وأنه يجب تقديم النصح والسعي في المصالحة {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} أي ليس المؤمنون إلا اخوة، جمعتهم رابطة الإِيمان، لا ينبغي أن تكون بينهم عداوة ولا شحناء، ولا تباغضٌ ولا تقاتل قال المفسرون: {إِنَّمَا} لحصر فكأنه يقول: لا أخوَّة إلا بين المؤمنين، ولا أخوة بين مؤمن وكافر، وفي الآية إشارة إلى أنْ أخوة الإِسلام أقوى من أخوَّة النسب، بحيث لا تعتبر أخوَّة النسب إذا خلت عن أخوة الإِسلام {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} أي فأصلحوا بين إخوانكم المؤمنين، ولا تتركوا الفرقة تدبُّ، والبغضاء تعمل عملها {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي اتقوا الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لتنالكم رحمته، وتسعدوا بجنته(3/217)
ومرضاته {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ} أي يا معشر المؤمنين، يا من اتصفتم بالإيمان، وصدَّقتم بكتاب الله وبرسوله، لا يهزأ جماعة بجماعة، ولا يسخر أحد من أحد، فقد يكمون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر، وربَّ أشعث أغير ذو طمرين لو أقسم على الله لأبره {وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} أي ولا يسخر نساء من نساء فعسى أن تكون المحتقر منها خيراً عند الله وأفضل من الساخرة {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} أي ولا يعب بعضكم بعضاً، ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء، وإنما قال {أَنفُسَكُمْ} لأن المسلمين كأنهم نفسٌ واحدة {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} أي بئس أن يسمى الإِنسان فاسقاً بعد أن صار مؤمناً قال البيضاوي: وفي الآية دلالة على أن التنابز فسقٌ، والجمع بينه وبين الإِيمان مستقبح {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون} أي ومن لم يتبْ عن اللَّمز والتنابز فأولئك هم الظالمون بتعريض أنفسهم للعذاب {ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن} أي ابتعدوا عن التهمة والتخون وإساءة الظنِّ بالأهل والناس، وعبَّر بالكثير ليحتاط الإنسان في كل ظنٍّ ولا يسارع فيه بل يتأملُ ويتحقَّق {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ} أي إنَّ في بعض الظنِّ إِثم وذنب يستحق صاحبه العقوبة عليه قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لا تظُنَّنَّ بكلمةٍ خرجت من أخيكَ المؤمنِ إلا خيراً، وأنت تجدُ لها في الخير محملاً» {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ولا تتبعوا معايبهم {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} أي لا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته بما يكرهه {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} تمثيلٌ لشناعة الغيبة وقبحها بما لا مزيد عليه من التقبيح أي هل يحب الواحد منكم أن يأكل لحم أخيه المسلم وهو ميت؟ {فَكَرِهْتُمُوهُ} أي فكما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا الغيبة شرعاً، فإن عقوبتها أشدُّ من هذا.
. شبَّه تعالى الغيبة بأكل لحم الأخ حال كونه ميتاً، وإِذا كان الإِنسان يكره لحم الإِنسان فضلاً عن كونه أخاً، وفضلاً عن كونه ميتاً وجب عليه أن يكره الغيبة بمثل هذه الكراهة أو أشد {واتقوا الله} أي خافوا الله واحذروا عقابه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} أي إِنه تعالى كثير التوبة، عظيم الرحمة، لمن اتقى اللهَ وتاب وأناب، وفيه حثٌ على التوبة، وترغيبٌ بالمساعة إلى الندم والاعتراف بالخطأ لئلا يقنط الإِنسان من رحمة الله.(3/218)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
المنَاسَبَة: لمَّا دعا تعالى إِلى مكارم الأخلاق ونهى عن مساوئها، وحذَّر المؤمنين من بعض الأفعال القبيحة، دعا الناس هنا جميعاً للتعارف والتآلف ونهاهم عن التفاخر بالأنساب، ثم بيَّن صفات المؤمن الكامل.
اللغَة: {يَلِتْكُمْ} ينقصكم {قَبَآئِلَ} جمع قبيلة وهي الجماعة التي يربطها حسبٌ أو نسبٌ، وهي أخصُّ من الشعب، لأن الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد، فالشعب يجمع القبيلة، والقبيلة تجمع البطون والأفخاذ {يَرْتَابُواْ} يشكُّوا والريب: والشكُ {يَمُنُّونَ} المنُّ: الامتنان على الشخص والاعتداد عليه بفعل المعروف، وأصله في اللغة القطع ومنه {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] .
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسدٍ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا يا رسول الله: أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، أخذوا يمنون عليه فنزلت الآية الكريمة {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ. .} الآية.
التفسِير: {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} الخطاب لجميع البشر أي نحن بقدرتنا خلقناكم من أصلٍ واحد، وأوجدناكم من أب وأم فلا تفاخر بالآباء والأجداد، ولا اعتداد بالحسب والنسب، كلكم لآدم وآدمُ من تراب {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا} أي وجعلناكم شعوباً شتى وقبائل متعددة، ليحصل بينكم التعارف والتآلف، لا التناحر والتخالف قال مجاهد: ليعرف الإِنسان نسبه فيقال فلان بن فلان من قبيلة كذا، وأصل تعارفوا تتعارفوا حذفت إحدى التاءين تخفيفاً قال شيخ زاده: والمعنى إن الحكمة التي من أجلها جعلكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض ولا ينسبه إلى غير آبائه، لا أن نتفاخر بالآباء والأجداد، والنسبُ وِإن كان يُعتبر عرفاً وشرعاً، حتى لا تُزوج الشريفة بالنبطيّ، إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم قدراً منه وأعز، وهو الإيمان والتقوى، كما لا تظهر الكواكب عند طلوع الشمس {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} أي إنما يتفاضل الناس بالتقوى لا بالأحساب والأنساب، فمن أراد شرفاً في الدنيا ومنزلةٌ في الآخرة فليتق الله كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من سرَّه أن يكون أكرم الناس فليتَّق الله» وفي الحديث «الناسُ رجلان:(3/219)
رجل برٌّ تقيٍ كريم على الله تعالى، ورجل فاجر شقي هيّن على الله تعالى» {إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} أي عليمٌ بالعباد، مطلع على ظواهرهم وبواطنهم، يعلم التقي والشقي، والصالح والطالح {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 23] . {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} أي زعم الأعراب أنهم آمنوا قل لهم يا محمد: إنكم لم تؤمنوا بعد، لأن الإِيمان تصديقٌ مع ثقة واطمئنان قلب، ولم يحصل لكم، وإِلا لما مننتم على الرسول بالإِسلام وترك المقاتلة، ولكنْ قولوا استسلمنا خوف القتل والسبي قال المفسرون: نزلت في نفرٍ من بني أسد، قدموا المدينة في سنةٍ مجدبة، وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كم قاتلك بنو فلان وفلان، يريدون الصَّدقة ويمنّون على الرسول، وقد دلت الآية على الإِيمان مرتبةً أعلى من الإِسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد بالظاهر ولهذا قال تعالى {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} أي ولم يدخل الإِيمان إلى قلوبكم ولم تصلوا إلى حقيقته بعد، ولفظةُ «لمَّا» تفيد التوقع كأنه يقول: وسيحصل لكم الإِيما عند اطلاعكم على محاسن الإِسلام، وتذوقكم لحلاوة الإِيمان قال ابن كثير: وهؤلاء الأعراب المذكورون في هذه الآية ليسوا منافقين، وإِنما هم مسلمون لم يستحكم الإِيمان في قلوبهم، فادَّعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك، ولو كانوامنافقين كما ذهب إليه البخاري لعُنفوا وفُضِحوا {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} أي وإن أطعتم الله ورسوله بالإِخلاص الصادق، والإِيمان الكامل، وعدم المنِّ على الرسول لا ينقصكم من أجوركم شيئاً {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عظيم المغفرة، واسع الرحمة، لأن صيغة «فعول» و «فعيل» تفيد المبالغة.
. ثم ذكر تعالى صفات المؤمنين الكُمَّل الصادقين في إِيمانهم فقال {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي إنما المؤمنون الصادقون في دعوى الإِيمان، الذين صدَّقوا الله ورسوله، فأقروا لله بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، عن يقين راسخ وإِيمان كامل {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} أي ثم لم يشكوا ويتزلزوا في إيمانهم بل ثبتوا على التصديق واليقين {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} أي وبذلوا أموالهم ومهجهم في سبيل اله وابتغاء رضوانه {أولئك هُمُ الصادقون} أي أولئك الذين صدقوا في ادعاء الإِيمان. . وصف تعالى المؤمنين الكاملين بثلاثة أوصاف: الأول: التصديق الجازم بالله ورسوله الثاني: عدم الشك والارتياب الثالث: الجهاد بالمال والنفس، فمن جمع هذه الأوصاف فهو المؤمن الصادق {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي قل يا محمد، أتخبرون الله بما في ضمائركم وقلوبكم؟ {والله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي وهو جل وعلا العليم بأحوال جميع العباد، لا تخفى عليه خافية لا في السموات ولا في الأرض {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي واسع العلم رقيب على كل شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} أي يعدون إِسلامهم عليك يا محمد منَّة، يستوجبون عليها الحمد والثناء {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ} أي قل لهم لا تمتنوا عليَّ بإِسلامكم،(3/220)
فإن نفع ذلك عائد عليكم {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي بل للهِ المنةُ العظمة عليكم، بالهداية للإِيمان والتثبيت عليه إن كنتم صادقين في دعوى الإِيمان {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض} أي يعلم ما غاب عن الأبصار في السموات والأرض {والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي مطَّلع على أعمال العباد، لا تخفى عليه خافية.
. كرَّر تعالى الإِخباربعلمه بجميع الكائنات، وإحاطته بجميع المخلوقات، ليدل على سعة علمه، وشموله لكل صغيرة وكبيرة، في السر والعلن، والظاهر والباطن.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الاستعارة التمثيلية {لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] شبَّه حالهم في إيداء الرأي وقطع الأمر في حضرة الرسول بحال ملكٍ عظيم تقدَّم للسير أمامه بعض الناس وكان الأدب يقضي أن يسيروا خلفه لا أمامه، وهذا بطريق الاستعارة التمثيلية.
2 - التشبيه المرسل المجمل {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] لوجود أداة التشبيه.
3 - الالتفات من الخطاب إلى الغيبة {أولئك هُمُ الراشدون} بعد قوله {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} [الحجرات: 7] وهذا من المحسنات البديعية.
4 - المقابلة بين {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} وبين {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7] .
5 - الطباق {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] .
6 - جناس الاشتقاق {وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] .
7 - التشبيه التمثيلي {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات: 12] مثَّل للغيبة بمن يأكل لحم الميت، وفيه مبالغات عديدة لتصوير الاغتياب بأقبح الصور وأفحشها في الذن.
8 - طباق السلب {آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} .
9 - الاستفهام الإِنكاري للتوبيخ {أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} .
10 - التشبيه البليغ {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] أصل الكلام المؤمنون كالإِخوة في وجوب التراحم والتناظر، فحذف وجه الشبه وأداة التشبيه فأصبح بليغاً مع إفادة الجملة الحصر.
تنبيه: سورة الحجرات تسمى سورة «الأخلاق والآدب» فقد أرشدت إلى مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال، وجاء فيها النداء بوصف الإِيمان خمس مراتٍ، وفي كل مرة إرشاد إلى مكرمة من المكارم وفضيلة من الفضائل، وهذه الآداب الرفيعة نستعرضها في فقرات:
أولاً: وجوب الطاعة والانقياد لأوامر الله ورسوله وعدم التقدم عليه بقول أو رأي {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] .(3/221)
ثانياً: احترام الرسول وتعظيم شأنه {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي. .} [الحجرات: 2] .
ثالثاً: وجوب التثبت من الأخبار {ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا. .} [الحجرات: 6] .
رابعاً: النهي عن السخرية بالناس {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ. .} [الحجرات: 11] .
خامساً: النهي عن التجسس والغيبة وسوء الظن {ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن} [الحجرات: 12] الآية.
لطيفَة: سئل بعض العلماء عما وقع بين الصحابة من قتال فقال «تلك دماءٌ قد ظهَّر الله منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا، وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته» .(3/222)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
اللغَة: {مَّرِيجٍ} مختلط قال ابن قيبة: مرج الأمر ومرج الدين اختلط، وأصله أن يقلب الشيء ولا يستقر يقال: مرج الخاتم في يدي إِذا قلق للهزال {فُرُوجٍ} شقوق وصدوع جمع فرج وهو الشقُّ {بَاسِقَاتٍ} طوال بسق الشيء بُسوقاً إذا طال {نَّضِيدٌ} متراكب بعضه فوق بعض {لَبْسٍ} حيرة وشك واضطراب {عَيِينَا} عجزنا يقال: عيي به يعيا أي عجز عنه {رَقِيبٌ} حافظ شاهد على أعمال الإِنسان {عَتِيدٌ} حاضر مهيأ قال الجوهري: العتيد الشيء الحاضر المهيأ ومنه {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} [يوسف: 31] وفرسٌ عتد معدٌّ للجري {حَدِيدٌ} حادٌّ نافذ.
التفسِير: {ق} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وللإِشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {والقرآن المجيد} قسمٌ حذف جوابه أي أقسم بالقرآن الكريم، ذي المجد والشرف على سائر الكتب السماوية لتبعثنَّ بعد الموت قال ابن كثير: وجواب القسم محذوب وهو مضمون الكلام بعده وهو إثبات النبوة، وإِثبات المعاد وتقديره إِنك يا محمد لرسول انَّ البعث الحق، وهذا كثير في القرآن وقال أبو حيان: والقرآنُ مقسم به، والمجيد صفته وهو الشريف على غيره من الكتب، والجواب محذوفٌ يدل عليه ما بعده تقديره: لقد جئتهم منذراً بالبعث فلم يقبلوا {بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ} أي تعجب المشركون من إِرسال رسول(3/224)
إِليهم من البشر يخوفهم من عذاب الله {فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} أي فقال كفار مكة: هذا شيءٌ في منتهى الغرابة والعجب والإِظهار في موضع الإِضمار لتسجيل جريمة الكفر عليهم، والآية إِنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، فإِنهم قد عرفوا صدق الرسول وأمانته ونصحه، فكان الواجب عليهم أن يسارعوا إلى الإِيمان لا أن يعجبوا ويستهزئوا، ثم أخبر تعالى عن وجه تعجبهم فقال {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} أي أئذا متنا واستحالت أجسادنا إِلى تراب هل سنحيا ونرجع كما كنَّا؟ {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} أي ذلك رجوع بعيد غاية البعد، مستحيل حصوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ} أي قد علمنا ما تنقصه الأرض من أجسادهم، ما تأكله من لحومهم وأشعارهم ودمائهم إِذا ماتوا، فلا يضل عنا شيءٌ حتى تتعذَّر علينا الإِعادة {وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} أي ومع علمنا الواسع عندنا كتاب حافظ لعددهم وأسمائهم وما تأكله الأرض، وهو اللوح المحفوظ الذي يحصي تفصيل كل شيء {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} إِضراب إِلى ما هو أفظع وأشنع من التعجب وهو التكذيب بالقرآن العظيم أي كذبوا بالقرآن حين جاءهم، مع سطوع آياته، ووضوح بيانه {فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أي فهم في أمرٍ مختلط مضطرب، فتارة يقولون عن الرسول إِنه ساحر، وتارةً يقولون إِنه شاعر، وتارة يقولون إِنه كاهن، وهكذا قالوا أيضاً عن القرآن إِنه شحر، أو شعر، أو أساطير الأولين إِلى غير ذلك.
. ثم ذكر تعالى دلائل القدرة والوحدانية الدالة على عظمة رب العالمين فقال {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ} أي أفلم ينظروا نظر تفكر واعتبار، إِلى السماء في ارتفاعها وإِحكامها، فيعلموا أن القادر على إِيجادها قادر على إعادة الإِنسان بعد موته؟ {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} أي كيف رفعناها بلا عمد وزيناها بالنجوم {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} أي ما لها من شقوق وصدوع {والأرض مَدَدْنَاهَا} أي والأرض بسطناها ووسعناها {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي وجعلنا فيها جبالاً ثوابت تمنعها من الاضطراب بسكانها {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي وأنبتنا فيها من كل نوعٍ من النبات حسن المنظر، يبهج ويسر الناظر إِليه {تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي فعلنا ذلك تبصيراً منا وتذكيراً عن كمال قدرتنا، لكل عبد راجع إلى الله متفكر في بديع مخلوقاته {وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً} أي ونزلنا من السحاب ماءً كثير المنافع والبركة {فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحصيد} أي فأخرجنا بهذال الماء البساتين الناضرة، والأشجار المثمرة، وحبَّ الزرع المحصود، كالحنطة والشعير وسائر الحبوب التي تحصد {والنخل بَاسِقَاتٍ} أي وأخرجنا شجر النخيل طوالاً مستويات {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} أي لها طلعٌ منضود، منظمٌ بعضه فوق بعض، قال أبو حيان: يريد كثرة الطلع وتراكمه وكثرة ما فيه من الثمر، وأول ظهور الثمر يكون منضَّداً كحب الرمان، فما دام متلصقاً بعضه ببعض فهو نضيد، فإِذا خرج من أكمامه فليس بنضيد {رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ} أي أنبتنا كل ذلك رزقاً للخلق لينتفعوا به {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} أي وأحيينا بذلك الماء أرضاً جدبة لا ماء فيها ولا زرع فأنبتنا فيها الكلأ والعشب {كَذَلِكَ الخروج} أي كما أحييناها بعد موتها كذلك نخرجكم أحياء بعد موتكم قال ابن كثير: وهذه الأرض الميتة كانت هامدة، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج من أزاهير وغير ذلك مما يحار الطرف(3/225)
في حسنها، وذلك بعد ما كانت لا نبات بها فأصبحت تهتز خضراء، فهذا مثال للبعث بعد الموت، فكما أحيا الله الأرض الميتة كذلك يحيي الله الموتى. . ثم ذكَّر تعالى كفار مكة بما حلَّ بمن سبقهم من المكذبين إنذاراً لهم وإِعذاراً فقال {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي كذَّب قبل هؤلاء الكفار قوم نوح {وَأَصْحَابُ الرس} أي وأصحاب البئر وهم بقية من ثمود رسُّوا نبيَّهم فيها أي دسُّوة فيها {وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ} سمَّاهم إِخوانه لأنه صاهرهم وتزوج منهم {وَأَصْحَابُ الأيكة} أي وأصحاب الشجر الكثير الملتف وهم قوم شعيب، نُسبوا إِلى الأيكه لأنهم كانت تحيط به البساتين والأشجار الكثيرة، الملتف بعضُها على بعض {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} قال المفسرون: هو ملكٌ كان باليمن أسم ودعا قومه إلى الإِسلام فكذبوه وهو تُبَّع اليماني {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل} أي جميع هؤلاء المذكورين كذبوا رسلهم قال ابن كثير: وإشنما جمع الرسل لأن من كذب رسولاً فإِنما كذب جميع الرسل كقوله تعالى
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} [الشعرا: 105] {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي فوجب عليهم وعيدي وعقابي، والآية تسليةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتهديد للكفرة المجرمين {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} أي أفعجزنا عن ابتداء الخلق حتى نعجز عن إعادتهم بعد الموت؟ قال القرطبي: وهو توبيخٌ لمنكري البعث، وجوابٌ لقولهم {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ومراده أن ابتداء الخلق لم يعجزنا، والإِعادةُ أسهلُ منه فكيف يُتوهم عجزنا عن البعث والإِعادة {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي بل هم في خلطٍ وشبهةٍ وحيرة من البعث والنشور قال الألوسي: وإِنما نكَّشر الخلق وصف بجديد، ولم يقل: من الخلق الثاني تنبيهاً على استبعاهدم له وأنه خلق عظيم يجب أن يهتم بشأنه فله نبأ عظيم ثم نبه تعالى على سعة علمه وكما قدرته فقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي خلقنا جنس الإِنسان ونعلم ما يجول في قلبه وخاطره، لا يخفى علينا شيء من خفايا ونواياه {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} أي ونحن أقرب إِليه من حبل وريده، وهو عرق كبير في العنق متصل بالقلب قال أبو حيان: ونحن أقرب إِليه قرب علم، نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته، فكأن ذاته تعالى قريبة منه، وهو تمثيل لفرط القرب كقول العارب: هو مني معقد الإِزار وقال ابن كثير: المراد ملائكتنا أقرب إلى الإِنسان من حبل وريده إليه، والحلول والاتحاد منفيان بالإِجماع تعالى الله تقدَّس، وهذا كما قال في المحتضر {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85] يريد به الملائكة، ويدل عليه قوله بعده {إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} أي حين يتلقى الملكان الموكلان بالإِنسان، ملك عن يمينه يكتب الحسنات، وملك عن شماله يكتب السيئات، وفي الكلام حذفٌ تقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه قال مجاهد: وكذَل الله بالإِنسان مع علمه بأحواله ملكين بالليل وملكين بالنهار يحفظان عمله ويكتبان أثره إِلزاماً للحجة، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات فذلك قوله تعالى {(3/226)
عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} وقال الأولسي: والمراد أنه سبحانه أعلم بحال الإِنسان من كل رقيب، حين يتلقى المتلقليان الحفيظان ما يتلفظ به، وفيه إِيذانٌ بأنه وعَزَّ وَجَلَّ غنيٌّ عن استحفاظ الملكين، فإِنه تعالى أعلم منهما ومطَّلع على ما يخفى عليهما، لكنْ الحكمة اقتضت كتابة الملكين لعرض صحائفهما يوم يقوم الأشهاد، فإِذا علم العبد ذلك مع علمه بإِحاطة الله تعالى بعلمه ازداد رغبةٌ في الحسنات، وانتهاءً عن السيئات {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ} أي ما يتلفظ كلمةٌ من خيرٍ أو شر، إِلا وعنده ملك يرقب قوله ويكتبه {عَتِيدٌ} أي حاضر معه أينما كان مهيأٌ لكتابة ما أُمر به قال ابن عباس: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر وقال الحسن: فإِذا مات ابن آدم طويت صحيفته وقيل له يوم القيامة
{اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإِسراء: 14] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} أي وجاءت غمرة الموت وشدته التي تغشى الإِنسان وتغلب على عقله، بالأمر الحق من أهوال الآخرة حتى يراها المكر لها عياناً {ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه وتهرب منه وتفزع وفي الحديث عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمّا تغشاه الموت جعل يمسح العرف عو وجهه ويقول: «سبحان الله إنَّ للموت لسكرات» {وَنُفِخَ فِي الصور ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد} أي ونفخ في الصور نفخة البعث ذلك هو اليوم الذي وعد الله الكفار به بالعذاب {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} أي وجاء كل إِنسان براً كان أو فاجراً ومعه ملكان: أحدهما يسوقه إِلى المحشر، والآخر يشهد عليه بعمله قال ابن عباس: السائق من الملائكة، والشهيد من أنفسهم وهي الأَيدي والأرجل {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] وقال مجاهد: السائق والشيهد ملكان، ملكٌ يسوقه وملك يشهد عليه {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} أي لقد كنت أيها الإِنسان في غفلةٍ من هذا اليوم العصيب {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ} أي فأزلنا عنك الحجاب الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك في الدنيا {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} أي فصرَك اليوم قويٌّ نافذ، ترى به ما كان محجوباً لزوال الموانع بالكلية.(3/227)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
المنَاسَبَة: لمّا حكى تعالى في الآيات السابقة إِنكار المشركين للبعث، وأقام الأدلة والبراهين على البعث والنشور، ذكر هنا الأهوال والشدائد التي يلقاها الكافر في الآخرة، والنعيم الذي أعدَّه للمؤمنين الأبرار في الجنة، وختم السورة الكريمة ببيان السورة الكريمة ببيان دلائل البعث وأحواله وأطواره.
اللغَة: {وَأُزْلِفَتِ} قُربت يقال: زلف يزلف أي قرب، وأزلفه قرَّبه {أَوَّابٍ} رجَّاع إلى الله من آب يئوب أوباً إِذا رجع {بَطْشاً} البطش: الأخذ بالشدة والعنف {نَقَّبُواْ} طوَّفوا وساروا وأصل التنقيب التنفقير عن الشيء والبحث عنه قال الشاعر:
نقَّبوا في البلاد من حذ الموت ... وجالوا في الأرض كلَّ مجال
{مَّحِيصٍ} مفر ومهرب من حاص يحيص حيصاً إِذا أراد الهرب {لُّغُوبٍ} تعب.
سَبَبُ النّزول: عن قتادة أن اليهود قالوا إِن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، وأنه تعب فاستراح يوم السبت وسمَّوه يوم الراحة فكذبهم تعالى فيما قالوا فنزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} .
التفسِير: {وَقَالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} أي وقال الملك الموكل به، هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرتُ ديوان عمله {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} أي يقول تعالى للملكين «السائق والشهيد» إقذفا في جهنم كلَّ كافر معاند للحقِّ لا يؤمن بيوم الحساب {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} أي مبالغ في المنع لكل حقٍّ واجب عليه في ماله {مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ} أي ظالم غاشم شاكٍ في الدين {الذي جَعَلَ مَعَ الله إلها آخَرَ} أي أشرك بالله ولمن يؤمن بوحدانيته {فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب الشديد} أي فألقياه في نار جنهم، وكرر اللفظ {فَأَلْقِيَاهُ} للتوكيد {قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ} أي قال قرينه وهو الشيطان المقيَّض له ربنا ما أضللتُه {ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} أي ولكنَّه ضلَّ باختياره، وآثر العمى على الهدى من غير إِكراهٍ أو إجبار، وفي الآية محذوفٌ دل عليه السياق كأن الكافر قال يا رب إِن شيطاني(3/228)
هو الذي أطغاني فيقول قرينه: ربنا ما أطغيتُه بل كان هو نفسه ضالاً معانداً للحق فأعنته عليه {قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} أي فيقول الله عَزَّ وَجَلَّ للكافرين وقرنائهم من الشياطين: لا تتخاصموا هنا فما ينفع الخصام ولا الجدال، وقد سبق أن أنذرتكم على ألسنة الرسل بعذابي، وحذرتكم شديد عقابي، فلم تنفعكم الآياتُ والنُّذر {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} أي ما يُغيَّر كلامي، ولا يُبدَّل حكمي بعقاب الكفرة المجرمين قال المفسرون: المراد وعدُه تعالى بعذاب الكافر وتخليده في النار بقوله تعالى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي ولست ظالماً حتى أعذب أحداً بدون استحقاق، وأعاقبه بدون جرم {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ؟ أي اذكر ذلك اليوم الرهيب يوم يقول الله تعالى لجهنم هل امتلأت، وتقول هل هناك من زيادة؟ وفي الحديث «لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول هل من مزيد، حتى يضع ربٌّ العزة فيها قدمه، فتقول: قَطْ قَطْ وعزتك وكرمك أي قد اكتفيتُ وينزوي بعضُها إلى بعض» والظاهر أن السؤال والجواب على حقيقتهما، والله على كل شيء قدير، فإِن إِنطاق الجماد والشجر والحجر جائز عقلاً، وحاصلٌ شرعاً، وقد أخبر القرآن الكريم أنَّ نملة تكلمت، وأن كل شيء يسبح بحمد الله، وورد في صحيح مسلم أن المسلمين في آخر الزمان يقاتلون اليهود، حتى يختبىء اليهود وراء الشجر والحجر، فينطق الله الشجر والحجر.
. الخ وقيل: إن الآية على التمثيل وأنها تصويرٌ لسعة جهنم وتباعد أقطارها بحيث لو ألقى فيها جميع الكفرة والمجرمين فإِنها تتسع لهم، وهو كقولهم «قال الحائط للمسمار لم تشفني؟ قال: سلْ منْ يدقني» ثم أخبر تعالى عن حال السعداء بعد أن ذكر حال الأشقياء فقال {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي قُرّبت وأدنيت الجنة من المؤمنين المتقين مكاناً غير بعيد، بحيث تكون بمرأى منهم مبالغة في إِكرامهم {هذا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} أي يقال لهم: هذا الذي ترونه من النعيم هو ما وعده الله لكل عبدٍ أوَّاب أي رجَّاعٍ إلى الله، حافظٍ لعهده وأمره {مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} أي خاف الرحمن فأطاعه دون أن يراه لقوة يقينه، وجاء بقلبٍ تائب خاضع خاشع {ادخلوها بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الخلود} أي يقال لهم: أدخلوا الجننة بسلامة من العذاب والهموم والأكدار، ذلك هو يوم البقاء الذي لا انتهاء له أبداً، لأنه لا موت في الجنة ولا فناء {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا} أي لهم في الجنة من كل ما تشتهيه أنفسهم، وتلذ به أعينهم {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} أي وعندنا زيادة على ذلك الإِنعام والإِكرام، وهو النظر إلى وجه الله الكريم. . ثمَّ خوَّف تعالى كفار مكة بما حدث للمكذبين قبلهم فقال {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} أي وأهلكنا قبل كفار قريش أمماً كثيرين من الكفار المجرمين {هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً}(3/229)
أي هم أقوى من كفار قريش قوة، وأعظم منهم فتكاً وبطشاً {فَنَقَّبُواْ فِي البلاد هَلْ مِن مَّحِيصٍ} أي فساروا في البلاد، وطوَّفوا فيها وجالوا في أقطارها، فهل كان لهم من الموت مهرب؟ وهل كان لهم من عذاب الله مخلص؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} أي إن فيما ذُكر من إهلاك القرى الظالمة، لتذكره وموعظة لمن كان له عقل يتدبر به، أو أصغى إلى الموعظة وهو حاضر القلب ليتذكر ويعتبر قال سفيان: لا يكون حاضراً وقلبه غائب وقال الضحاك: العرب تقول: ألقى فلان سمعه إِذا استمع بأذنيه وهو شاهد بقلب غير غائب، وعبَّر عن العقل بالقلب لأن موضعه كما قال تعالى {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} هذه الآية ردٌّ على اليهود حيث زعموا أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، أوَّلُها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة وأنه تعب فاستراح يوم السبت واستلقى على ظهره فوق العرش، فكذبهم الله تعالى والمعنى والله خلق السموات السبع في ارتفاعها وعظمتها، والأرض في كثافتها وسعتها، وما بنيهما من المخلوقات البديعة في ستة أيام، وما مسَّنا من إِعياء وتعب {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أي فاصبرْ يا محمد على ما يقوله اليهود وغيرهم من كفار قريش، واهجرهم هجراً جميلاً {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب} أي ونزِّه ربك عما لا يليق به، وصلِّ له واعبدْه وقتي الفجر والعصر، وخصَّهما بالذكر لزيادة فضلهما وشرفهما {وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السجود} أي ومن الليل فصلِّ للهِ تهجداً وأعقاب الصلوات المفروضة قال ابن كثير: كانت الصلاة المفروضة قبل الإِسراء ثنتان قبل طلوع الشمس، وثنتان قبل الغروب، وكان قيام الليل واجباً على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى أُمته حولاً ثم نسخ في حق الأمة وجوبه، ثم بعد ذلك نسخ كل ذلك ليلة الإِسراء بخمس صلواتٍ، وبقي منهم صلاة الصبح والعصر فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب {واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} أي واستمع يا محمد النداء والصوت حين ينادي إِسرافيل بالحشر من موضع قريب يصل صوته إلى الكل على السواء قال أبو السعود: وفيه تهويلٌ وتفظيع لشأن المخبر به، والمنادي هو إِسرافيل عليه السلام يقول: أيتها العظام البالية، والأوصال والمتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إِن الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة بالحق} أي يسمعون صيحة البعث التي تأتي بالحقِّ وهي النفخة الثانية في الصور {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} ذلك هو يوم الخروج من القبور {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المصير} أي نُحيي الخلائق ونميتُهم في الدنيا، وإلينا رجوعهم للجزاء في الآخرة، لا إِلى غيرنا {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ سِرَاعاً} أي يوم تنشقُّ الأرضُ عنهم فيخرجون من القبور مسرعين إِلى موقف الحساب استجابةً لنداء المنادي {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أي ذلك جمع وبعث سهلٌ هيّنٌ علينا لا يحتاج إِلى عناء {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي نحن أعلم بما يقول كفار قريش من إِنكار البعث والسخرية والاستهزاء بك وبرسالتك، وفيه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتهديدٌ لهم {(3/230)
وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أي وما أنت يا محمد بمسلَّط عليهم تجبرهم على الإِسلام، إِنما بعثت مذكّر {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} أي عظْ بهذا القرآن من يخاف وعيدي.
. ختم السورة الكريمة بالتذكير بالقرآن كما افتتحها بالقسم بالقرآن ليتناسق البدء مع الختام:
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيا يلي:
1 - الإِظهار في موطن الإِضمار {فَقَالَ الكافرون} [ق: 2] يدل فقالوا للتسجيل عليهم بالكفر.
2 - الاستفهام الإِنكار لاستبعاد البعث {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} [ق: 2] ؟
3 - الإِضراب عن السابق لبيان ما هو أفضع وأشنع من التعجب {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق} [ق: 5] وهو التكذيب بآيات الله وبرسوله المؤيد بالمعجزات.
4 - التشبيه المرسل المجمل {كَذَلِكَ الخروج} [ق: 11] شبَّه إِحياء الموتى بإِخراج النبات من الأرض الميتة.
5 - الاسعتارة التمثيلية {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] مثَّل علمه تعالى بأحوال العبد، وبخطرات النفس، بحبل الوريد القريب من القلب، وهو تمثلٌ للقرب بطريق الاستعارة كقول العرب: هو مني مقعد القابلة، وهو مني معقد الإِزار.
6 - الحذف بالإِيجاز {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ق: 17] أصله عن اليمين قعيدٌ، وعن الشمال قعيد، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وبين اليمين والشمال طباقٌ وهو من المحسنات الديعية.
7 - الاستعارة التصريحية {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} [ق: 19] استعار لفظ السَّكرة للهول والشدة التي يلقاها المحتضر عن وفاته.
8 - الجناس الناقص بين {عَنِيدٍ} و {عَتِيدٌ} لتغاير حرفيْ النون والتاء.
9 - الطباق بين {نُحْيِي} و {نُمِيتُ} .
10 - توافق الفواصل والسجع اللطيف غير المتكلف مثل {ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد} [ق: 20] {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} ومثل {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المصير. . ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} الخ وهو من المحسنات البديعية، لما فيه من جميل الوقع على السمع.(3/231)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
اللغَة: {الحبك} الطرائق جمع حبيكة كطريقة وزناً ومعنى قال الزجاج: الحُبك الطرائق الحسنة، والمحبوك في اللغة ما أُديد عمله وقال ابن الأَعرابي: كلُّ شيءٍ أحكمته وأحسنت عمله فقد حبكته {الخراصون} جمع خرَّص وهو الكذَّاب {غَمْرَةٍ} الغمرة ما ستر الشيء وغطَّاه ومنه نهر غمر {يَهْجَعُونَ} ينامون والهجوع النومُ ليلاً {أَوْجَسَ} أحسَّ وشعر {صَرَّةٍ} صيحة وضجة {مُّسَوَّمَةً} معلَّمة.
التفسِير: {والذاريات ذَرْواً} هذا قسمٌ أقسم تعالى به أي أُقسم بالرياح التي تذرو التراب فتفرّقه، وتحمل الرمال من مكان إلى مكان {فالحاملات وِقْراً} أي وأقسم بالسحب الت يتحمل أثقال الأمطار، وهي محمَّلة بالماء الذي فيه حياة البشر {فالجاريات يُسْراً} أي وأقسم بالسفن التي تجري على وجه الماء جرياً سهلاً بيسر وهي تحمل ذرية بني آدم {فالمقسمات أَمْراً} أي وأقسم بالملائكة الت يتقسم الأرزاق والأَمكار بين العباد، وكل ملك مخصَّص بأمر، فجبريل صاحب الوحي إِلى الأنبياء، وميكائيل صاحب الرزق والرحمة، وإِسرافيل صاحب الصور، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح قال المفسرون: أقسم الله تعالى بهذه الأشياء لشرفها ولما فيها من الدلالة على عجيب(3/233)
صنعه وقدرته، ثم ذكر جواب القسم فقال {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} إي إن الذي توعدونه من الثواب والعقاب، والحشر والنشر، لأمرٌ صدقٌ محقَّق لا كذب فيه {وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} أي وإنَّ الجزاء لكائنٌ لا محالة، ثم ذكر تعالى قسماً آخر فقال {والسمآء ذَاتِ الحبك} أي وأقسم بالسماء ذات الطرائق المحكمة والبنيان المتقن قال ابن عباس: ذات الخلق الحسن المستوي {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} جواب القيم أي إِنكم أيها الكفار لفي قول مضطرب في أمر محمد، فمنكم من يقول إنه ساحر، ومنكم من يقول إنه شاعر، وبعضكم يقول إِنه مجنون إِلى غير ما هنالك من أقوال مختلفة {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي يُصرف عن الإِيمان بالقرآن وبمحمد عليه السلام، من صُرف عن الهداية في علم الله تعالى وحُرم السعادة {قُتِلَ الخراصون} أي لُعن الكذابون الذين قالوا إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ساحر وكذاب وشاعر قال ابن الأنباري: والقتلُ إِذا أُخبر عن الله به فهو بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك {الذين هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} أي الذين هم غافلون لاهون عن أمر الآخرة {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين} أي يقولون تكذيباً واستهزاءً: متى يوم الحساب والجزاء؟ قال تعالى رداً عليهم {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} أي هذا الجزاء كائن يوم يدخلون جهنم ويُحرقون بها {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} أي تقول لهم خزنة النار: ذوقوا تعذيبكم وجزاءكم {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي هذا الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا استهزاءً. . ولما ذكر حال الكفار ذكر المؤمنين الأبرار فقال {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي هم في بساتين فيها عيون جاريةٌ، تجري فيها على نهاية ما يُتنزه به {آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي راضين بما أعطاهم ربهم من الكرامة والنعيم {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} أي كانوا في دار محسنين في الأعمال، ثم ذكر طرفاً من إِحسانهم فقال {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} أي كانوا ينمامون قليلاً من الليل ويصلُّون أكثره قال الحسن: كابدوا قيام الليل لا ينامون من إلا قليلاً {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي وفي أواخر الليل يسغفرون الله من تقصيرهم، فهم مع إحسانهم يعدُّون أنفسهم مذنبين، ولذلك يكثرون الاستغفار بالأسحار قال أبو السعود: أي هم مع قلة نومهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار بالأسحار، كأنهم أسلفوا ليلهم باقتراف الجرائم، وهو مدح ثانٍ للمحسنين {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} مدحٌ ثالث أي وفي أموالهم نصيب معلوم قد أوجبوه على أنفسهم بمقتضى الكرم للسائل المحتاج، وللمتعفف الذي لا يسأل لتعففه {وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} أي وفي الأرض دلائل واضحة على قدرة الله سبحانه ووحدانيته للموقنين بالله وعظمته، الذين يعرفونه بصنعه قال ابن كثير: أي وفي الأرض من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما فيها من صنوف النباتات والحيوانات، والجبال القفار، والبحار، والأنهار، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، ما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم، والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم(3/234)
من الخلق البديع، ولهذا قال بعده {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} أي وفي أنفسكم آياتٌ وعبرٌ من مبدأ خلقكم إِلى منتهاه، أفلا تبصرون قدرة الله في خلقكم لتعرفوا قدرته على البعث؟ قال ابن عباس: يريد اختلاف الصور، والألسنة، والألوان، والطبائع، والسمع والبصر والعقل إِلى غير ذلك من العجائب المودعة في ابن آدم وقال قتادة: من تفكَّر في خلق نفسه عرف أنه إِمنما خُلق ولُيّنت مفاصله للعبادة {وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} أي وفي السماء أسباب رزقكم ومعاشكم وهو المطر الذي به حياة البلاد والعباد، وما توعدون به من الثواب والعقاب مكتوب كذلك في السماء قال الصاوي: والآيةُ قُصد بها الامتنان والوعد والوعيد {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أي أٌقسم بربِّ السماءِ والأرض إن ما توعدون به من الرزق والبعث والنشور لحقٌّ كائن لا محالة مثل نطقكم، فكما لا تشكون في نقطكم حين تنطقون فكذلك يجب ألا تشكوا في الرزق والبعث قال المفسرون: وهذا على سبيل التشبيه والتمثيل أي رزقكم مقسوم في السماء كنطقكم فلا تشكوا في ذلك، وهذا كقول القائل: هذا حق كما أنك ههنا، وهذا حقٌ كما أنك ترى وتسمع، فالرزق مثل النطق لا يفارق الشخص في حالٍ من الأحوال وفي الحديث
«لو أن أحدكم فرَّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت»
. ثم ذكر تعالى قصة ضيف إِبراهيم تسلية لقلب النبي الكريم فقال {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} ؟ الاستفهام للتشويق ولتفخيم شأن تلك القصة كما يقول القائل: هل بلغك الخير الفلاني؟ يريد تشويقه إلى استماعه والمعنى هل وصل إِلى سمعك يا محمد خبر ضيوف إِبراهيم المعظَّمين؟ قال ابن عباس: يريد جبريل وميكائيل وإِسرافيل عليهم السلام، سُمُّوا مكرمين لكرامتهم عند الله عَزَّ وَجَلَّ {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً} أي حين دخلوا على إِبراهيم فقالوا: نسلِّم عليك سلاماً {قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي قال علكيم سلامٌ أنتم قومٌ غرباء لا نعرفكم فمن أنتم؟ قال ابن كثير: وإِنما أنكرهم لأنهم قدموا عليه في صورة شبانٍ حسانٍ عليهم مهابة عظيمة ولهذا أنكرهم وقال أبو حيان: والذي يناسب حال إِبراهيم عليه السلام أنه لا يخاطبهم بذلك، إِذْ فيه من عدم الإِنس ما لا يخفى، وإِنما قال ذلك في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه، بحيث لا يسمع ذلك الأضياف {فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ} أي فمضى إلى أهله في سرعة وخفية عن ضيفه، لأن من أدب المضيف أن يبادر بإِحضار الضيافة من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يمنعه الضيف، أو يُثقل عليه في التأخير قال ابن قتيبة: عدل إليهم في خفية ولا يكون الرَّواغُ إِلا أن تُخفي ذهابك ومجيئك {فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} أي فجاءهم بعجل سمينٍ مشوي، والعجلُ ولدُ البقرة وكان عامة ما له البقر، واختاره لهم سميناً زيادة في إكرامهم {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ} أي أفادناه منهم(3/235)
ووضعه بين أيديهم فلم يأكلوا فقال لهم في تلطف وبشاشة: ألا تأكلون هذا الطعام. قال ابن كثير: وفي الآية تلطف في العبارة وعرض حسن، وقد انتظمت الآية آداب الضيافة، فإنه جاء بطعامٍ من حيث لا يشعرون بسرعة، ولم يتمنَّ عليهم أولاً فقال نأتيكم بطعام بل جاء به بسرعةٍ وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله وهو عجل فتيٌّ سمين مشوي، فقربه إليه ولم يضعه وقال اقتربوا بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمراً يشق على سامعه بصغية الجزم بل قال: أملا تأكلون؟ على سبيل العرض والتلطف كما يقول القائل: إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي فأضمر في نفسه الخوف منهم لما رأى إِعراضهم عن الطعام {قَالُواْ لاَ تَخَفْ} أي قالوا له لا تخف إِنا رسل ربك {وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ} أي وبشروه بولدٍ يولد له من زوجته سارة يكون عالماً عند بلوغه قال أبو حيان: وفيه تبشيرٌ بحياته حتى يكون من العلماء، والجمهور علىأن المبشر به هو إِسحاق لقوله تعالى في سورة هود {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} أي فأقبلت سارة نحوهم حيث سمعت البشارة في صيحةٍ وضحة قال المفسرون: لما سمعت بالبشارة وكانت في زاوية من زوايا البيت جاءت نحوهم في صحية عظيمة تريد أن تستفر الخبر {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} أي فلطمت وجهها على عادة النساء عند التعجب قال ابن عنباس: لطمت وجهها تعجباً كا تتعجب النساء من الأمر الغريب {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ والعقيم هي التي لم تلد قطّ لانقطاع حبلها قبل الإِمام الجلال: كان عمرهها تسعاً وتسعين سنة، وعمر إِبراهيم مائة وعشرين {قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} أي الأمر كما أخبرناك هكذا حكم وقضى ربك من الأزل فلا تعجبي ولا تشكّي فيه {إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم} أي الحكيم في صنعه، العليم بمصالح خلقه {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} أي ما شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم أيها الملائكة الأبرار؟ قال البيضاوي: لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون مجتمعين إِلا لأمرٍ عظيم سأل عنه {قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} أي قالوا إن الله أرسلنا لإِهلاك قوم لوط الذين ارتكبوا أفحش الجرائم «اللواط» وكانوا ذوي جرائم متعددة، وهي كبار المعاصي من كفر وعصيان {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} أي لنهلكهم بحجارةٍ من طين متحجر مطبوخ بالنار وهو السجيل قال أبو حيان: والتسجيلُ طينٌ يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصبح في صلابة الحجارة {مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ} أي معلَّمة من عند الله بعلامة، على كل واحدةٍ منها اسم صاحبها الذي يهلك بها {لِلْمُسْرِفِينَ} أي المجاوزين الحدَّ في الفجور قال الصاوي: كان في قرى لوط ستمائة ألف فأدخل جبريل جناحه تحت الأرض فاقتلع قراهم، ورفعها حتى سمع أهل السماء أصواتهم ثم قلبها، ثم أرسل الحجارة على من كان خارجاً عنها {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين} أي فأخرجنا من كان في قرى أهل لوط من المؤمنين(3/236)
لئلا يهلكوا {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} أي فما كان فيها بعد البحث والتفتيش غير أهل بيت واحد من المسلمين قال: مجاهد هم لوطٌ وابنتاه، والغرضُ من الآية بيان قلة المؤمنين الناجين من العذاب، وكثرة الكافرين المستحقين للهلاك قال الإِماما الجلال: وصفوا بالإِيمان والإِسلام أي هم صدقون بقلوبهم، عاملون بجوارحهم الطاعات {وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً} أي أبقينا في تلك القرى المهلكة بعد أهلاك الظالمين علامةً على هلاكهم بجعل عاليها سافلها {لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم} أي للذين يخافون عذاب الله فإنهم المعبترون به قال ابن كثير: ومعنى الآية {وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً} أي جعلناها عبرةً بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال، وجعلنا محلتهم بحيرةً منتنة خبيثة ففي ذلك عبرةٌ للمؤمنين الذين يخافون العذاب الأليم.
تنبيهْ: قال الإِمام الرازي: في قصة ضيف إِبراهيم تسلية لقلب النبي الكريم صلى لله عليه وسلم ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله، واختار تعالى إِبراهيم لكونه شيخ المرسلين، وكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سنته في بعض الأشياء، وفيها إنذار لقومه بما أجرى من الضيف ومن إنزال الحجارة على المذنبين المضلين.(3/237)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة ضيف إِبراهيم الذين أُرسلوا لهلاك قوم لوط أتبعه بذكر قصص الأمم الطاغية، فذكر منهم فرعون وجنوده، وعاداً، وثمود، وقوم نوح، تسلية للنبي عليه السلام، وتذكيراً(3/237)
للأنام بانتقام الله من أعدائه وأعداء رسله، ثم ذكر دلائل القدرة والوحدانية، وختم السورة الكريمة بإِنذار المكذبين الضالين.
اللغَة: {نَبَذْنَاهُمْ} طرحناهم {اليم} البحر {مُلِيمٌ} آتٍ بما يلام عليه {الرميم} الشيء الهالك البالي قال الزجاج: الرميمُ: الورق الجاف المتحطم مثل الهشيم، ورمَّ العظم إِذا بلي فهو رِمَّة ورميم قال جرير يرثي ابنه:
تركْتني حين كفَّ الدهر من بصري ... وإِذْ بقيتُ كعظم الرمَّة البالي
{الماهدون} مهدتُ الفراش مهداً بسطته ووطأته، والتمهيد تسوية الشيء وإِصلاحه {ذَنُوباً} الذَّنوب: بفتح الذال النصيب من العذاب.
التفِسير: {وَفِي موسى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلى فِرْعَوْنَ} أي وجعلنا في قصة موسى أيضاً أيةً وعبرة وقت إِرسالنا له إِلى فرعون {بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي بحجة واضحة ودليلٍ باهر {فتولى بِرُكْنِهِ} أي فأعرض عن الإِيمان بموسى بجموعه وأجناده، وقوته وسلطانه قال مجاهد: تعزَّز عدوٌّ الله بأصحابه والغرض أن فرعون أعرض عن الإِيمان بسبب ما كان يتقوى به من جنوده لأنهم كانوا له كالركن الذي يعتمد عليه البنيان {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} أي وقال اللعين في شأن موسى إنه ساحرٌ ولذلك أتى بهذه الخوارق، أو مجنون ولذلك أدَّعى الرسالة، وإِنما قال ذلك تمويهاً على قومه لا شكاً منه في صدق موسى {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} أي فأخذنا فرعون مع أصحابه وجنوده {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} أي فطرحناهم في البحر لما أغضبونا وكذبوا رسولنا {وَهُوَ مُلِيمٌ} أي وهو آتٍ بم يلام عليه من الكفر والطغيان. . ثم لما انتهى من قصة فرعون أعقبها بذكر قصة عاد فقال {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} أي وجعلنا في قصة عاد كذلك آية لمن تأمر حين أرسلنا عليهم الريح المدمرة، التي لا خير فيها ولا بركة، لأنها لا تحمل المطر ولا تلقّح الشجر، وإِنما هي للإِهلاك، وهي الريح التي تسمَّى الدبور وفي الصحيح «نُصرت بالصبا وأُهلكت عادٌ بالدَّبور» قال المفسرون: سميت {الريح العقيم} تشبيهاً لهم بعقم المرأة الي لا تحمل ولا تلد، ولما كانتم هذه الريح لا تلقح سحاباً ولا شجراً، ولا خير فيها ولا بركة لأنه لا تحمل المطر شبهت بالمرأة العقيم {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} أي ما تترك شيئاً مرَّت عليه في طريقها مما أراد الله تدميره وإِهلاكه {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} إي إلا جعلته كالهشيم المتفتت البالي قال ابن عباس: {الرميم} الشيء الهالك البالي وقال السدي: هو التراب والرماد المدقوق كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] قال المفسرون:(3/238)
كانت الريح التي أرسلها الله عليهم ريحاً صرصراً عاتية، استمرت عليهم ثمانية أثام متتابعة، فكانت تهدم البنيان وتنتزع الرجال فترفعهم إلى السماء حتى يرى الواحد منهم كالطير ثم ترمي به إلى الأرض جثة هامدة
{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] . . ثم أخبر تعالى عن هلاك ثمود فقال {وَفِي ثَمُودَ} أي وجعلنا ثمود أيضاً آية وعبرة {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} أي حين قيل لهم عيشوا متمتعين بالدنيا إلى وقت الهلاك بعد عقرهم للناقة، وهو ثلاثة أيام كما في هود {فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] {فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي فاستكبروا عن امتثال أمر الله، وعصوا رسولهم فعقروا الناقة {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} أي فأخذتهم الصيحة المهلكة صيحة العذاب {وَهُمْ يَنظُرُونَ} أي وهم يشاهدونها ويعاينونها لأنها جاءت في وضح النهار قال ابن كثير: وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار وقال الألوسي: إِن صالحاً عليه السلام وعندهم ب الهلاك بعد ثلاثة أيام وقال لهم: تصبح وجوهكم غداً مصفرة، وبعد غد محمرة، وفي اليوم الثالث مسودَّة، ثم يصبحكم العذاب، فلما رأوا الآيات التي بينها عليه السلام عمدوا إلى قتله فنجاه الله، وفي اليوم الرابع أتتهم الصاعقة وهي نار من السماء وقيل صيحة فهلكوا {فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} أي ما قدروا على الهرب والنهوض من شدة الصيحة، بل أصبحوا في ديارهم جاثمين {وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ} أي وما كانوا ممن ينتصر لنفسه فيدفع عنها العذاب. . ثم أخبر تعالى عن هلاك قوم نوح فقال: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ} أي وأهلكنا قوم نوحٍ بالطوفان من قبل إِهلاك هؤلاء المذكورين {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} تعليلٌ للهلاك أي لأنهم كانوا فسقةً خارجين عن طاعة الرحمن بارتكابهم الكفر والعصيان. . ولما انتهى من أخبار هلاك الأمم الطاغية المكذبة، شرع في بيان دلال القدرة والوحدانية فقال {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ} أي وشيدنا السماء وأحكمنا خلقها بقوةٍ وقدرة قال ابن عباس: {بِأَيْدٍ} بقوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي وإِنا لموسعون في خلق السماء، فإِن الأرض وما يحيط بها من الهواء والماء بالنسبة لها كحلقة صغيرة في فلاة كما ورد في الأحاديث وقال ابن عباس: {لَمُوسِعُونَ} أي لقادرون، من الوسع بمعنى الطاقة {والأرض فَرَشْنَاهَا} أي والأرض مهدناها لتسقروا عليها، وبسطناها لكم ومددنا فيها لتنتفعوا بها بالطرقات وأنواع المزروعات، ولا ينافي ذلك كرويتها، فذلك أمرٌ مقطوع به، فإنها مع كرويتها واسعة ممتدة، فيها السهول الفسيحة، والبقاع الواسعة، مع الجبال والهضاب ولهذا قال تعالى {فَنِعْمَ الماهدون} أي فنعم الباسطون الموسعون لها نحن، وصيغة الجمع للتعظيم {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أي ومن كل شيء خلقنا صنفين ونوعين مختلفين ذكراً وأنثى، وحلواً وحامضاً ونحو ذلك {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي كي(3/239)
تتذركوا عظمة الله فتؤمنوا به، وتعلموا أن خال الأزواج واحد أحد {ففروا إِلَى الله} أي الجأوا إِلى الله، واهرعوا إِلى توحيده وطاعته قال أبو حيان: والأمر بالفرار إلى الله أمرٌ بالدخول في الإِيمان وطاعة الرحمن، وإنما ذكر بلفظ الفرار لينبه على أن وراء الناس عقاباً وعذاباً، وأمرٌ حقه أن يُفر منه، فقد جمعت اللفظة بين التحذير والاستدعاء، ومثله قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك» وقال ابن الجوزي: المعنى اهربوا مما يوجب العقاب من لكفر والعصيان، إلى ما يوجب الثواب من الطاعة والإِيمان {إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ} أي إِني أنذركم عذاب الله وأخوفكم انتقامه {مُّبِينٌ} أي واضحٌ أمري فقد أيدني الله بالمعجزات الباهرات {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ} أي لا تشركوا مع الله أحداً من بشر أو حجر {إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} كرر اللفظ للتأكيد والتنبيه إلى خطر الإِشراك بالله قال الخازن: وإنما كرر اللفظ عند الأمر بالطاعة، والنهي عن الشرك، ليعلم أن الإِيمان لا ينفع إلاّ مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إِلا مع الإِيمان، وأنه لا يفوز وينجو عند الله إلاّ الجامع بينهما {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} هذه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي كما كذبك قومك يا محمد، وقالوا عنك إنك ساحرٌ أو مجنون، كذلك قال المكذبون الأولون لرسلهم، فلا تحزن لما يقول المجرمون {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} أي هل أوصى أولهُم آخرهم بالتكذيب؟ وهو استفهام للتعجب من إجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة، ثم أضرب عن هذا النفي والتوبيخ فقال {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي لم يوص بعضهم بعضاً بذلك، بل حملهم الطغيان على التكذيب والعصيان فلذلك قالوا ما قالوا {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرض يا محمد عنهم {فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} أي فلا لوم عليك ولا عتاب، لأن قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة، وبذلت الجهد في النصح والإرشاد {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} أي لا تدع التذكير والموعظة فإن القلوب المؤمنة تنتفع وتتأثر بالموعظة الحسنة. . ثم ذكر تعالى الغاية من خلق الخلق فقال {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي وما خلقت الثقلين الإِنس والجن إِلا لعبادتي وتوحيدي، لا لطلب الدنيا والانهماك بها قال ابن عباس: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} إِلا ليقروا لي بالعبادة طوعاً أو كرهاً وقال مجاهد: إِلا ليعرفوني قال الرازي: لما بيَّن تعالى حال المكذبين ذكر هذه الآية ليبيّن سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله مع أن خلقهم لم يكن إِلا للعبادة {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} أي لا أريد منهم أن يرزقوني أو يرزقوا أنفسهم أو غيرهم بل أنا الرزَّاق المعطي {وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} أي ولا أُريد منهم أن يطعموا خلقي ولا أن يطعموني فأنا الغني الحميد قال البيضاوي: والمراد أن يبيّن أن شأ، هـ مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم، فإِنهم إِنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم، فكأنه سبحانه يقول: ما أريد(3/240)
أن أستعين بهم كما يستعين السادة بعبيدهم، فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي {إِنَّ الله هُوَ الرزاق} أي إنه جل وعلا هو الرزاق، المتكفل بأرزاق العباد وحاجاتهم، أتى باسم الجلالة الظاهر للتخيم والتعظيم، وأكد الجملة بإن والضمير المنفصل لقطع أوهام الخلق في أمور الرزق، وليقوي اعتمادهم على الله {ذُو القوة} أي ذو القدرة الباهرة {المتين} أي شديد القوة لا يطرأ عليه عجزٌ ولا ضعف قال ابن كثير: أخبر تعالى أنه غير محتاج إِليهم، بل هم الفقراء إلى الله في جميع أحوالهم فهو خالقهم ورازقهم، وفي الحديث القدسي
«يا بان آدم تفرَّغ لعبادتي أملأُ صدرك غنى، وإِلا تفعل ملأتُ صدرك شغلاً ولم أسدَّ فقرك» {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} أي فإِن لهؤلاء الكفار الذين كذبوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نصيباً من العذاب مثل نصيب أسلافهم الذين أُهلكوا كقوم نحو وعاد وثمود {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} أي فلا يتعجلوا عذابي فإِنها واقع لا محالة مإِن عاجلاً أو آجلاً {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ} أي هلاك ودمار وشدة عذاب لهؤلاء الكفار في يوم القيامة الذي وعدهم الله به.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] لأن السائل الطالب، والمحروم المتعفف.
2 - تأكيد الخبر بالقسم وإِنَّ واللام {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] ويسمى هذا الضرب إنكارياً، لأن المخاطب منكر لذلك.
3 - أسلوب التشويق والتفخيم {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} [الذاريات: 24] ؟
4 - الاستعارة {فتولى بِرُكْنِهِ} استعار الركن للجنود والجموع لأنه يحصل بهم التقوى والاعتماد كما يعتمد على الركن في البناء أو استعارة للقوة والشدة.
5 - المجاز العقلي {وَهُوَ مُلِيمٌ} أطلق اسم الفاعل على اسم المفعول أي ملام على طغيانه.
6 - الاستعارة التبعية {الريح العقيم} شبه إهلاكهم وقطع دابرهم بعقم النساء وعدم حملهن ثم أطلق المشبه به على المشبه واشتق منه العقيم بطريق الاستعارة.
7 - حذف الإِيجاز {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} [الذاريات: 25] أي أنتم قوم منكرون ومثلها {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29] أي أنا عجوز.
8 - التشبيه المرسل المجمل {ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} أي نصيباً من العذاب مثل نصيب أسلافهم المكذبين في الشدة والغلظة، حذف منه وجه الشبه فهو مجمل.
9 - الإِطناب بتكرار الفعل {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} للمبالغة والتأكيد.
10 - السجع الرصين غير المتكلف الذي يزيد في جمال الأسلوب ورونقه مثل {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. . والأرض فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون} وهو من المحسنات البديعية.(3/241)
لطيفَة: ذكر أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ {وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 2223] فقال: يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف {ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ يا ويح الناس} !(3/242)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
اللغَة: {رَقٍّ} الرَّق بالفتح والكسر جلد رقيق يكتب فيه وقال أو عبيدة: الرقُّ الورق وفي الصحاح: الرقُّ بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيب {المسجور} الموقد ناراً يقال: سجرت النار أي أوقدتها {تَمُورُ} مار الشيء يمور موراً إذ تحرك واضطرب، وجاء وذهب، قال جرير:
وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
{يُدَعُّونَ} يدفعون بشدة عنف، والدَّع: الدفع بشدة وإهانة {أَلَتْنَاهُمْ} أنقصناهم {رَهَينٌ} محبوس {السموم} لريح الحارة النافذة في المسام
التفسِير: {والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} أقسم تعالى بجل الطور الذي كلَّم الله عليه وسمى، وأقسم بالكتاب الذي أنزله على خاتم رسله وهو القرآن العظيم المكتوب {فِي رَقٍّ} أي في أديمٍ من الجلد الرقيق {مَّنْشُورٍ} أي مبسوط غير مطوي وغير مختوم عليه قال القرطبي: أقسم الله تعالى بالكتاب المسطور أي المكتوب وهو القرآن يقرأه المؤمنون من المصاحف، ويقرأه الملائكة من اللوح المحفوظ، وقيل يعني بالكتاب سائر الكتب المنزلة على الأنبياء لأن كل كتاب في رقٍّ ينشره(3/244)
أهله لقراءته، والرقُّ ما رٌقّق من الجلد ليكتب فيه {والبيت المعمور} أي وأُقسم بالبيت المعمور الذي تطوف به الملائكة الأبرار، وهو لأهل السماء كالكعبة المشرفة لأهل الأرض، وفي حديث الإِسراء «ثم رفع إِليَّ البيت المعمور، فقلت يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك، إِذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم» وقال ابن عباس: هو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة أي مقابلها وحذاءها تعمره الملائكة، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه {والسقف المرفوع} أي والسماء العالية المرتفعة، الواقفة بقدرة الله بلا عمد، سمَّى السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت ودليله {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] وقال ابن عباس: هو العرش وهو صف الجنة {والبحر المسجور} أي والبحر المسجور الموقد ناراً يوم القايمة كقوله {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] أي أضرمت حتى تصير ناراً ملتهبة تتأجج تحيط بأهل الموقف {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} هذا جواب القسم أي إن عذاب الله لنازل بالكفارين لا محالة قال ابن الجوزي: أقسم تعالى بهذه الأشياء الخمسة للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن عذاب المشركين حق {مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} أي ليس له دافع يدفعه عنهم قال أبو حيان: والواو الأولى للقسم وما بعدها للعطف، والجملة المقسم عليها هي {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} وفي فإضافته إِلى الرب وإِضافته لكاف الخطاب أمانٌ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن العذاب واقع بمن كذبه، ولفظ واقع أشد من كائن، كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حلَّ به {يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً} أي تتحرك السماء وتضطرب اضطراباً شديداً من هول ذلك اليوم {وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً} أي تنسف نسفاً عن وجه الأرض فتكون هباءً منثوراً كقوله
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] قال الخازن: والحكمة في مور السماء وسير الجبال، الإِنذارُ والإِعلام بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا، وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال والبحار وغير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا وانتفاع بني آدمم بذلك، فلما لم يبق لهم عودٌ إليها أزالها الله تعالى وذلك لخراب الدنيا وعمارة الآخرة {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار وشدة عذاب للمكذبين أرسلَ الله في ذلك اليوم الرهيب {الذين هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي الذين هم في الدنيا يخوضون في الباطل غافلون ساهون عما يراد بهم {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أي يوم يُدفعون إلى نار جهنم دفعاً بشدة وعنف قال في البحر: وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى(3/245)
أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعون بهم دفعاً إلى النار على وجوههم وزجاً في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار، فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها {هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي هذه نار جهنم التي كنتم تهزءون وتكذون بها في الدنيا {أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} أي وتقول لهم الزبانية تقريعاً وتوبيخاً: هل هذا الذي ترونه بأعينكم من لعذاب سحرٌ، أم أنتم اليوم عميٌ كما كنتم في الدنيا عمياً عن الخبر والإِيمان؟ قال أبو السعود: وقوله تعالى {أَفَسِحْرٌ هذا} توبيخ لهم وتقريع حيث كانوا يسمون القرآن الناطق بالحق سحراً فكأنه يل لهم: كنتم تقولون عن القرآن إنه سحر أفهذا العذاب ايضاً سحر أم سُدَّت أبصاركم كما سدَّت في الدنيا؟ {اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} أي قاسوا شدتها فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا، وهو توبيخ آخر {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} أي يتساوى عليكم الصبر والجزع لأنكم مخلدون في جهنم أبداً {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة من الكفر والتكذيب، ولا يظلم ربك أحداً. . ولما ذكر حال الكفرة الأشقاء ذكر حال المؤمنين السعداء على عادة القرآن الكريم في الجمع بين الترهيب والترغيب فقال {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} أي إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم في الآخرة في بساتين عظيمة ونعيم مقيم خالد {فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي متنعمين ومتلذذين بما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة وأصناف الملاذ من مآكل ومشارب، وملابس ومراكب، وغير ذلك من ملاذ الجنة {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم} أي وقد نجاهم ربهم من عذاب جهنم وصرف فيها من السرور ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم: كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنياً، لاتنغيص فيه ولا كدر، بسبب ما قدمتم من صالح الأعمال.
. ثم أخبر تعالى عن حالهم عند أكلهم وشربهم فقال {مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} أي جالسين على هيئة المضطجع على سرر من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت، مصطفة بعضها إلى جانب بعض، قال ابن كثير: {مَّصْفُوفَةٍ} أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] وفي الحديث «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنةً ما يتحول عنه ولا يملُّه، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه» {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أي وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حساناً من الحور العين، وهنَّ نساء بيض واسعات العيون من الحَوَر وهو شدة البياض، والعينُ جمع عيناء وهي كبير العين والبياضُ مع سعة العين نهاية الحسن والجمال {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ} أي كانوا مؤمنين وشاركهم أولادهم في الإِيمان {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي ألحقنا الأبناء بالآباء لتقرَّبهم أعينهم وإن لم يبلغوا أعمالهم قال ابن عباس: إن الله عزو جل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لترَّبهم عينه وتلا الآية قال الزمخشري: فيجمع الله لأهل الجنة أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين،(3/246)
وبمؤانسة الإِخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} أي وما نقصنا الآباء من ثواب عملهم شيئاً قال في البحر: المعنى أنه تعالى يُلحق المقصِّر بالمحسن ولا ينقص المسحن من أجره شيئاً {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أي كل إِنسان مرتهن بعمله لا يُحمل عليه ذنب غيره سواء كان أباً أو إِبناً وقال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم، وصار أهل الجنة إلى نعيمهم وقال الخازن: المراد بالآية الكافر أي كل كافر بما عمل من الشرك مرتهن بعمله في النار، والمؤمن لا يكون مرتهناً بعمله لقوله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} [المدثر: 3839] . . ثم ذكر ما وعدهم به من الفضل والنعمة فقال {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} أي وزدناهم فوق ما لهم من النعيم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويُشتهى {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي يتعاطون في الجنة كأساً من الخمر، يتجاذبها بعضهم من بعض تلذذاً وتأنساً قال الألوسي: أي يتجاذبونها تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى في الدنيا لشدة سرورهم {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} أي لا يقع بينهم بسبب شربها هذيان حتى يتكلموا بساقط الكلام، ولا يلحقهم إِثم كما يلحق شارب الخمر في الدنيا قال قتادة: نزّه الله خمر الآخرة عن قاذورات الكلام الفارغ الذي لا فائدة فيه، المتضمن للهذيان والفحش، ووصفها بحسن منظرها وطيب طعمها، فقال
{بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 4647] ثم قال تعالى {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} أي ويطوف عليهم للخدمة غلمان مماليك خصصهم تعالى لخدمتهم {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} أي كأنهم في الحسن، والبياض، والصفاء اللؤلؤ المصون في الصدف قال القرطبي: وهؤلاء الغلمان قي لهم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة، وليس في الجنة نصيب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم علىغاية النعيم {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أي اقبل أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، تلذذاً بالحديث، واعترافاً بالنعمة {قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي قال المسئولون: إنا كنا في دار الدنيا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم} أي فأكرمنا الله بالمغفرة والجنة، وأجرنا مما نخاف، وحمانا من عذاب جهنم النافذة في المسام نفوذ الريح الحارة الشديدة وهي التي تسمى {السموم} قال الفخر الرازي: والآية إشارة إلى أن أهل الجنة يعلمون ما جرى عليهم في الدنيا ويذكرونه، وكذلك الكافر لا ينسى ما كان له من النعيم في الدنيا، فتزاداد لذة المؤمن حيث يرى نفسه انتقلت من الضيف إلى السعة، ومن السجن إلى الجنة، ويزداد الكفار ألماًَ حيث يرى نفسه انتقلت من النعليم إلى الجحيم {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} أي قال أهل الجنة: إنا كنا في الدنيا نعبد الله ونتضرع إليه، فاستجاب الله لنا(3/247)
فأعطانا سؤالنا {إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} أي إنه تعالى هو المحسن، والمتفضل على عباده بالرحمة والغفران، وهو كالتعليل لما سبق، عن مسروق أن عائشة رضي الله تعالى عنها قرأت هذه الآية {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} فقالت: اللهم مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم.
اللغَة: {رَقٍّ} الرَّق بالفتح والكسر جلد رقيق يكتب فيه وقال أو عبيدة: الرقُّ الورق وفي الصحاح: الرقُّ بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيب {المسجور} الموقد ناراً يقال: سجرت النار أي أوقدتها {تَمُورُ} مار الشيء يمور موراً إذ تحرك واضطرب، وجاء وذهب، قال جرير:
وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
{يُدَعُّونَ} يدفعون بشدة عنف، والدَّع: الدفع بشدة وإهانة {أَلَتْنَاهُمْ} أنقصناهم {رَهَينٌ} محبوس {السموم} لريح الحارة النافذة في المسام
التفسِير: {والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} أقسم تعالى بجل الطور الذي كلَّم الله عليه وسمى، وأقسم بالكتاب الذي أنزله على خاتم رسله وهو القرآن العظيم المكتوب {فِي رَقٍّ} أي في أديمٍ من الجلد الرقيق {مَّنْشُورٍ} أي مبسوط غير مطوي وغير مختوم عليه قال القرطبي: أقسم الله تعالى بالكتاب المسطور أي المكتوب وهو القرآن يقرأه المؤمنون من المصاحف، ويقرأه الملائكة من اللوح المحفوظ، وقيل يعني بالكتاب سائر الكتب المنزلة على الأنبياء لأن كل كتاب في رقٍّ ينشره أهله لقراءته، والرقُّ ما رٌقّق من الجلد ليكتب فيه {والبيت المعمور} أي وأُقسم بالبيت المعمور الذي تطوف به الملائكة الأبرار، وهو لأهل السماء كالكعبة المشرفة لأهل الأرض، وفي حديث الإِسراء «ثم رفع إِليَّ البيت المعمور، فقلت يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك، إِذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم» وقال ابن عباس: هو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة أي مقابلها وحذاءها تعمره الملائكة، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه {والسقف المرفوع} أي والسماء العالية المرتفعة، الواقفة بقدرة الله بلا عمد، سمَّى السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت ودليله {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] وقال ابن عباس: هو العرش وهو صف الجنة {والبحر المسجور} أي والبحر المسجور الموقد ناراً يوم القايمة كقوله {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] أي أضرمت حتى تصير ناراً ملتهبة تتأجج تحيط بأهل الموقف {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} هذا جواب القسم أي إن عذاب الله لنازل بالكفارين لا محالة قال ابن الجوزي: أقسم تعالى بهذه الأشياء الخمسة للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن عذاب المشركين حق {مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} أي ليس له دافع يدفعه عنهم قال أبو حيان: والواو الأولى للقسم وما بعدها للعطف، والجملة المقسم عليها هي {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} وفي فإضافته إِلى الرب وإِضافته لكاف الخطاب أمانٌ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن العذاب واقع بمن كذبه، ولفظ واقع أشد من كائن، كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حلَّ به {يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً} أي تتحرك السماء وتضطرب اضطراباً شديداً من هول ذلك اليوم {وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً} أي تنسف نسفاً عن وجه الأرض فتكون هباءً منثوراً كقوله
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] قال الخازن: والحكمة في مور السماء وسير الجبال، الإِنذارُ والإِعلام بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا، وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال والبحار وغير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا وانتفاع بني آدمم بذلك، فلما لم يبق لهم عودٌ إليها أزالها الله تعالى وذلك لخراب الدنيا وعمارة الآخرة {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار وشدة عذاب للمكذبين أرسلَ الله في ذلك اليوم الرهيب {الذين هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي الذين هم في الدنيا يخوضون في الباطل غافلون ساهون عما يراد بهم {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أي يوم يُدفعون إلى نار جهنم دفعاً بشدة وعنف قال في البحر: وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعون بهم دفعاً إلى النار على وجوههم وزجاً في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار، فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها {هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي هذه نار جهنم التي كنتم تهزءون وتكذون بها في الدنيا {أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} أي وتقول لهم الزبانية تقريعاً وتوبيخاً: هل هذا الذي ترونه بأعينكم من لعذاب سحرٌ، أم أنتم اليوم عميٌ كما كنتم في الدنيا عمياً عن الخبر والإِيمان؟ قال أبو السعود: وقوله تعالى {أَفَسِحْرٌ هذا} توبيخ لهم وتقريع حيث كانوا يسمون القرآن الناطق بالحق سحراً فكأنه يل لهم: كنتم تقولون عن القرآن إنه سحر أفهذا العذاب ايضاً سحر أم سُدَّت أبصاركم كما سدَّت في الدنيا؟ {اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} أي قاسوا شدتها فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا، وهو توبيخ آخر {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} أي يتساوى عليكم الصبر والجزع لأنكم مخلدون في جهنم أبداً {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة من الكفر والتكذيب، ولا يظلم ربك أحداً. . ولما ذكر حال الكفرة الأشقاء ذكر حال المؤمنين السعداء على عادة القرآن الكريم في الجمع بين الترهيب والترغيب فقال {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} أي إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم في الآخرة في بساتين عظيمة ونعيم مقيم خالد {فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي متنعمين ومتلذذين بما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة وأصناف الملاذ من مآكل ومشارب، وملابس ومراكب، وغير ذلك من ملاذ الجنة {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم} أي وقد نجاهم ربهم من عذاب جهنم وصرف فيها من السرور ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم: كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنياً، لاتنغيص فيه ولا كدر، بسبب ما قدمتم من صالح الأعمال.
. ثم أخبر تعالى عن حالهم عند أكلهم وشربهم فقال {مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} أي جالسين على هيئة المضطجع على سرر من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت، مصطفة بعضها إلى جانب بعض، قال ابن كثير: {مَّصْفُوفَةٍ} أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] وفي الحديث «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنةً ما يتحول عنه ولا يملُّه، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه» {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أي وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حساناً من الحور العين، وهنَّ نساء بيض واسعات العيون من الحَوَر وهو شدة البياض، والعينُ جمع عيناء وهي كبير العين والبياضُ مع سعة العين نهاية الحسن والجمال {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ} أي كانوا مؤمنين وشاركهم أولادهم في الإِيمان {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي ألحقنا الأبناء بالآباء لتقرَّبهم أعينهم وإن لم يبلغوا أعمالهم قال ابن عباس: إن الله عزو جل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لترَّبهم عينه وتلا الآية قال الزمخشري: فيجمع الله لأهل الجنة أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإِخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} أي وما نقصنا الآباء من ثواب عملهم شيئاً قال في البحر: المعنى أنه تعالى يُلحق المقصِّر بالمحسن ولا ينقص المسحن من أجره شيئاً {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أي كل إِنسان مرتهن بعمله لا يُحمل عليه ذنب غيره سواء كان أباً أو إِبناً وقال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم، وصار أهل الجنة إلى نعيمهم وقال الخازن: المراد بالآية الكافر أي كل كافر بما عمل من الشرك مرتهن بعمله في النار، والمؤمن لا يكون مرتهناً بعمله لقوله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} [المدثر: 3839] . . ثم ذكر ما وعدهم به من الفضل والنعمة فقال {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} أي وزدناهم فوق ما لهم من النعيم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويُشتهى {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي يتعاطون في الجنة كأساً من الخمر، يتجاذبها بعضهم من بعض تلذذاً وتأنساً قال الألوسي: أي يتجاذبونها تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى في الدنيا لشدة سرورهم {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} أي لا يقع بينهم بسبب شربها هذيان حتى يتكلموا بساقط الكلام، ولا يلحقهم إِثم كما يلحق شارب الخمر في الدنيا قال قتادة: نزّه الله خمر الآخرة عن قاذورات الكلام الفارغ الذي لا فائدة فيه، المتضمن للهذيان والفحش، ووصفها بحسن منظرها وطيب طعمها، فقال
{بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 4647] ثم قال تعالى {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} أي ويطوف عليهم للخدمة غلمان مماليك خصصهم تعالى لخدمتهم {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} أي كأنهم في الحسن، والبياض، والصفاء اللؤلؤ المصون في الصدف قال القرطبي: وهؤلاء الغلمان قي لهم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة، وليس في الجنة نصيب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم علىغاية النعيم {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أي اقبل أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، تلذذاً بالحديث، واعترافاً بالنعمة {قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي قال المسئولون: إنا كنا في دار الدنيا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم} أي فأكرمنا الله بالمغفرة والجنة، وأجرنا مما نخاف، وحمانا من عذاب جهنم النافذة في المسام نفوذ الريح الحارة الشديدة وهي التي تسمى {السموم} قال الفخر الرازي: والآية إشارة إلى أن أهل الجنة يعلمون ما جرى عليهم في الدنيا ويذكرونه، وكذلك الكافر لا ينسى ما كان له من النعيم في الدنيا، فتزاداد لذة المؤمن حيث يرى نفسه انتقلت من الضيف إلى السعة، ومن السجن إلى الجنة، ويزداد الكفار ألماًَ حيث يرى نفسه انتقلت من النعليم إلى الجحيم {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} أي قال أهل الجنة: إنا كنا في الدنيا نعبد الله ونتضرع إليه، فاستجاب الله لنا فأعطانا سؤالنا {إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} أي إنه تعالى هو المحسن، والمتفضل على عباده بالرحمة والغفران، وهو كالتعليل لما سبق، عن مسروق أن عائشة رضي الله تعالى عنها قرأت هذه الآية {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} فقالت: اللهم مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم.(3/248)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
المنَاسَبَة: لما تقدم إِقسام الله تعالى على وقوع العذاب الكافرين، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين، أمر تعالى رسوله بالتذكير، إِنذاراً للكافرين وتبشيراً للمؤمنين، وختم السورة الكريمة ببيان عاقبة المكذبين، وحفظ الله ورعايته لرسوله الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
اللغَة: {رَيْبَ المنون} حوادث الدهر وصروفه، والمنون هو الدهر قال أبو ذؤيب:
أمنَ المنونِ وريْبة تتوجَّع ... والدَّهر ليس بمعتب من يجزع
والمنون أيضاً الموتُ من اللمنِّ بمعنى القطع بأنه يقطع الأعمار {أَحْلاَمُهُمْ} عقولهم جمع حُلم وهو العقل {المصيطرون} المسيطر: المتسلط على الشيء {كِسْفاً} قطعة يقال: كسف بسكون السين وكسفة أي قطعة وجمعه كسف بفتح السين {مَّرْكُومٌ} متجمع ومتراكم بعضه فوق بعض.
التفسِير: {فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} أي فذكّر يا محمد بالقرآن قومك وعظهم به، فما أنت بإِنعام الله عليك بالنبوة وإكرامه لك بالرسالة {بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} أي لست كاهناً تخبر بالأمور الغيبية من غير وحي، ولا مجنوناً كما زعم المشركون، إِنما تنطق بالوحي. . ثم أنكر عليهم مزاعمهم الباطلة في شأن الرسول فقال {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} أي بل أيقول المشركون هو(3/248)
شاعر ننتظر به حوادث الدهر وصروفه حتى يهلك فنستريح منه؟ قال الخازن: وريبُ المنون حوادث الدهر وصروفه، وغرضهم أنه يهلك ويموت كما هلك من كان قبله من الشعراء، والمنون اسم الموت وللدهر وأصله القطع، سيما بذلك لأنهما يقطعان الأجل {قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين} أي قل لهم يا محمد: انتظروا بي الموت فإِني منتظر هلاككم كما تنتظرون هلاكي، وهو تهكم بهم مع التهديد والوعدي {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ} ؟ أي أم تأمرهم عقولهم بهذا الكذب والبهتان؟ قال الخازن: وذلك أن عظماء قريش كانوا يوصفون بالأحلام والعقول، فأزرى الله بعقولهم حين لم تثمر لهم معرفة الحق من الباطل، وهو تهكم آخر بالمشركين {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي بل هم قوم مجاوزون الحد في الكفر والطغيان، والمكابرة والعناد {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} أي أم يقولون إن محمداً اختلق القرآن وافتراه من عند نفسه قال القرطبي: والتقوُّل تكلف القول، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر، يقال: قوَّلتني ما لم أقل أي أدعيته عليَّ، وتقوَّل عليه أي كذب عليه {بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ} أي ليس الأمر كما زعموا بل لا يصدقون بالقرآن استكباراً وعناداً ثم ألزمهم تعالى الحجة فقال {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} أي فليأتوا بكلامٍ مماثلٍ للقرآن في نظمه وحسنه وبيانه، إن كانوا صادقين في قولهم إن محمداً افتراه، وهو تعجيزٌ لهم مع التوبيخ {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي هل خُلقوا من غير ربٍ ولا خالق؟ قال ابن عباس: من غير ربٍ خلقهم وقدَّرهم {أَمْ هُمُ الخالقون} أي أم هم الخالقون لأنفسهم، حتى تجرءوا فأنكروا وجود الله جل وعلا؟ {أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض} أي أم هم خلقوا السموات والأرض؟ وإِنما خصَّ السمواتِ والأرض بالذكر من بين سائر المخلوقات لعظمها وشرفها، ثم بيَّن تعالى السبب في إِنكارهم لوحدانية اله فقال {بَل لاَّ يُوقِنُونَ} أي بل لا يصدقون ولا يؤمنون بوحدانية الله وقدرته على البعث ولذلك ينكرون الخالق قال الخازن: ومعنى الآية هل خُلقوا من غير شيءٍ خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون، لأن تعلق الخلق بالخالق ضروري، فإِن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق، أم هم الخالقون لأنفسهم؟ وذلك في البطلان أشدُّ، لأن ما لا وجود له كيف يخلق؟ فإِذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن له خالقاً فليؤمنوا به، وليوحدوه، وليْعبدوه، ولْيوقنوا أنه ربهم وخالقهم {أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ} ؟ أي أعندهم خزائن رزق الله ورمته حتى يعطوا النبوة من شاءوا ويمنعوها عمن شاءوا؟ قال ابن عباس: {خَزَآئِنُ رَبِّكَ} المطر والرزقُ وقال عكرمة: النبوة {أَمْ هُمُ المصيطرون} ؟ أي أم هم الغالبون القاهرون حتى يتصرفوا في الخلق كما يشاءون؟ لا بل الله عَزَّ وَجَلَّ هو الخالق المالك المتصرف وقال عطاء {أَمْ هُمُ المصيطرون} أم هم الأرباب فيفعلون ما يشاءون ولا يكونون تحت امر ولا نهي؟ {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} ؟ أي أم لهم مرقى ومصعد(3/249)
إلى السماء يستمعون فيه كلام الملائكة والوحي فيعلمون أنهم على حقٍّ فهم به مستمسكون؟ {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي فليأت من يزعم ذلك بحجة بينة واضحة على صدق استماعه كما أتى محمد بالبرهان القاطع.
. ثم وبخهم تعالى على ماهو أشنع وأقبح من تلك المزاعم الباطلة وهو نسبتهم إلى الله البنات، وجعلهم لله جل وعلا ما يكرهون لأنفسهم فقال {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} ؟ أي كيف تجعلون لله البنات مع كراهتكم لهن وتجعلون لأنفسكم البنين؟ أهذا هو المنطق والإِنصاف؟ وقال القرطبي: سفَّه أحلامهم توبيخاً لهم وتقريعاً والمعنى أتضيفون إلى الله البنات مع أنفتكم منهن، ومن كان عقله هكذا لا يُستبعد منه إِنكار البعث وقال أبو السعود: تسفيهٌ لهم وتركيكٌ لعقولهم، وإِيذانٌ بأن من هذا رأيه لا يكاد يُعد من العقلاء، فضلاً عن الترقي إلى عالم الملكوت، والاطلاع على الأسرار الغيبية، والالتفات إلى الخطاب لتشديد الإِنكار والتوبيخ {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً} أي هل تسألهم يا محمد أجراً على تبليغ الرسالة وتعليم أحكام الدين؟ {فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} أي فهم بسبب ذلك الأجر والغُرم الثقيل الذي أوجبته عليهم مجهدون ومتعبون فلذلك يزهدون في اتباعك، ولا يدخلون في الإِسلام؟ فإن العادة أن من كلف إِنساناً مالاً وضربَ عليه جُعلاً يسير مثقلاً وغارماً بسببه فيكرهه ولا يسمع قوله ولا يمتثله {أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ؟ أي أعندهم علم الغيب حتى يعلموا أنَّ ما يخبرهم به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أمور الآخرة والحشر والنشر باطلٌ فلذلك يكتبون هذه المعلومات عن معرفةٍ ويقين؟ قال قتادة: هو ردٌّ لقولهم {شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} والمعنى أعَلموا أن محمداً يموتُ قبلهم حتى يحكموا بذلك؟ وقال ابن عباس: أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيهن ويُخبرون الناس بما فيه؟ ليس الأمر كذلك فإِنه لا يعلم أحدٌ من أهل السموات والأرض الغيب إِلا الله {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} ؟ أي أيريد هؤلاء المجرمون أن يتآمروا عليك يا محمد؟ قال المفسرون: والآية إِشارة إلى كيدهم في دار الندوة وتآمرهم على قتل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال تعالى
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] {فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون} أي فالذين جحدوا رسالة محمد هم المجزيون بكيدهم لأن ضربب ذلك عائد عليهم، ووباله راجع على أنفسهم كقوله {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] قال الصاوي: وأوقعٍ الظاهر {فالذين كَفَرُواْ} موقع المضمر تشنيعاً وتقبيحاً عليهم بتسجيل وصف الكفر {أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله} ؟ أي لهم إله خالق رازق غير الله تعالى حتى يلجأوا إليه وقت الضيف والشدة؟ ويستنجدوا به لدفع الضُّرِّ والعذاب عنهم؟ {سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه وتقدَّس الله عما يشركون به من الأوثان والأصنام قال الإِمام الجلال: والاستفهام ب «أم» في مواضعها الخمسة عشر للتوبيخ والتقريع والإِنكار. . ثم أخبر تعالى عن شدة طغيانهم وفرط عنادهم فقال {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً} أي لو عذبناهم بسقوط قطع من السماء نزلت عليهم لم ينتهوا ولم يرجعوا، ولقالوا في هذا النازل عناداً واستهزاءً: إنه سحاب مركوم {يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} أي إنه سحاب(3/250)
متراكم بعضُه فوق بعض قد سقط علينا قال أبو حيان: كانت قريشٌ قد اقترحت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما اقترحت من قولهم {أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإِسراء: 92] فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عياناً حسب اقتراحهم لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه ويقولوا: هو سحابٌ مركوم أي سحاب تراكم بعضه فوق بعض ممطرنا، وليس بكسفٍ ساقطٍ للعذاب {فَذَرْهُمْ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ} أي اتركهم يا محمد يتمادون في غيهم وضلالهم، حتى يلاقوا ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة الذي يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم ويسلب ألبابهم {يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} أي يوم لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا ولا يدفع عنهم شيئاً من العذاب {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} أي ولا هم يُمنعون من عذاب الله في الآخرة {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} أي وإن للذين كفروا عذاباً شديداً في الدنيا قبل عذاب الآخرة قال ابن عباس: هو عذاب القبل وقال مجاهد: هو الجوعن والقحط سبع سنين {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن العذاب نازل بهم {واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي اصبرْ يا محمد على قضاء ربك وحكمه، فيما حمَّلك به من إعباء الرسالة {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي فإِنك بفحظنا وكلاءتنا نحرسك ونرعاك {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أي ونزَّه ربك عما لا يليق به من صفات النقص حين تقوم من منامك ومن كل مجلس بأن تقول: سبحان الله وبحمده قال ابن عباس: أي صلِّ للهِ حين تقومُ من منامك {وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ} أي ومن الليل فاذكره واعبده بالتلاوة والصلاة والناسُ نيام كقوله
{وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإِسراء: 79] {وَإِدْبَارَ النجوم} أي وصلِّ له في آخر الليل حين تدبر وتغيب النجوم بضوء الصبح قال ابن عباس: هما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر وفي الحديث «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» .
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - جناس الاشتقاق {تَمُورُ السمآء مَوْراً} [الطور: 9] و {تَسِيرُ الجبال سَيْراً} [الطور: 10] .
2 - الإِهانة والتوبيخ {اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} [الطور: 16] وبين قوله {اصبروا} وقوله {أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} طباق السلب وهو من المحسنات البديعية.
3 - التشبيه المرسل المجمل {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} [الطور: 24] حذف منه وجه الشبه فهو مجمل.
4 - الاستعارة التبعية {رَيْبَ المنون} شبهت حوادث الدهر بالريب الذي هو الشك بجامع التحير وعدم البقاء على حالة واحدة في كلٍ منهما واستعير لفظ الريب لصروف الدهر ونوائبه بطريق الاستعارة التبعية.
5 - الأسلوب التهكمي {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ} ؟ هذا بطريق التهكم والسخرية بعقولهم.
6 - الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع لهم {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} ؟ .
7 -(3/251)
أسلوب الفرض والتقدير {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً} أي لو رأوا ذلك لقالوا ما قالوا.
8 - السجع الرصين غير المتكلف مثل {والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ} [الطور: 13] ومثل {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} [الطور: 78] وهلم جراً.
فَائِدَة: عن جبير بن مطعم قال: قدمتُ المدينة لأسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أسارى بدر، فوافيتُه يقرأ في صلاة المغرب {والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} [الطور: 12] فلما قرأ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} [الطور: 78] فكأنما صُدع قلبي، فأسلمتُ خوفاً من نزول العذاب، فلما انتهى إلى هذه الآية {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ} كاد قلبي أن يطير.(3/252)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
اللغَة: {هوى} هوى يهوي إذا سقط إلى أسفل {مِرَّةٍ} المِرَّة بكسر الميم القوة قال قطرب: تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل: ذو مرَّة {تدلى} التدلي: الامتداد من أعلى إلى أسفل يقال: تدلّى الغصن إِذا امتد نحو الأسفل {قَابَ} قدر قال في البحر: القابُ والقاد والقيد: المقدار {ضيزى} جائرة مائلة عن الحق يقال: ضاز في الحكم أي جار، وضازه حقه أي يخسفه قال الشاعر:
ضازت بنو أسدٍ بحكمهم ... إِذْ يجعلون الرأس كالذَنب
{اللمم} الصغائر من الذنوب قال الزجاج: أصل اللَّمم ما يعمله الإِنسان المرَّة بعد المرة ولا يقيم عليه يقال: مافعلتُه إِلا لمماً ولِماماً {أَجِنَّةٌ} جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن سمي جنيناً لاستتاره.
التفسِير: {والنجم إِذَا هوى} أي أقسمُ بالنجم وقت سقوطه من علو قال ابن عباس: أقسم(3/254)
سبحانه بالنجوم إذا انقضَّت في إِثر الشياطين حين استراقها السمع وقال الحسن: المراد في الآية النجوم إِذا انتثرت يوم القيامة كقوله {وَإِذَا الكواكب انتثرت} [الإنفطار: 2] قال ابن كثير: الخالق يُقسم بِما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يُقسم إِلا بالخالق {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} أي ما ضلَّ محمدٌ عن طريق الهداية، ولا حاد عن نهج الاستقامة {وَمَا غوى} أي وما اعتقد باطلاً قط بل هو في غاية الهدى والرشد قال أبو السعود: والخطاب لكفار قريش، والتعبير بلفظ {صَاحِبُكُمْ} للإِيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله، فإِن طول صحبتهم له، ومشاهدتهم لمحاسن أوصافه العظيمة مقتضيةٌ ذلك {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي لا يتكلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن هوى نفسي ورأي شخصي {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} أي لا يتكلم إلا عن وحيٍ من الله عزَّ وجل قال البيضاوي: أي ما القرآن إلا وحيٌ يوحيه الله إليه {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} أي علَّمه القرآن ملكٌ شديدٌ قواه وهو جبريل الأمين قال المفسرون: ومما يدل على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط وحملها على جناحه حتى بلغ بها السماء ثم قلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين، وكان هبوطه بالوحي على الأنبياء أو صعوده في أسرع من رجعه الطرف {ذُو مِرَّةٍ فاستوى} أي ذو حصافة في العقل، وقوةٍ في الجسم، فاستقرَّ جبريل على صورته الحقيقية {وَهُوَ بالأفق الأعلى} أي وهو بأفق السماء حيث تطلع الشمس جهة المشرق قال ابن عباس: المراد بالأفق الأعلى مطلع الشمس قال الخازن: كان جبريل يأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في وصورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء قبله، ومرة في السماء، فأما التي في الأرض فبالأفق الأعلى أيجانب المشرق حيث كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحراء فطلع عليه جبريل من ناحية المشرق وفتح جناحيه فسدَّ ما بين المشرق والمغرب، فخرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مغشياً عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمَّه إلى نفسه وجعل يسمح الغبار عن وجهه وهو قوله {ثُمَّ دَنَا فتدلى} وأما التي في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحدٌ من الأنبياء على صورته الملكية التي خُلق عليها إلا نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {ثُمَّ دَنَا فتدلى} أي ثم اقترب جبريل من محمد وزاد في القرب منه {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} أي فكان منه على مقدار قوسين أو أقل قال الألوسي: والمراد إِفادة شدة القرب فكأنه قيل: فكان قريباً منه {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} أي فأوحى جبريل إلى عبد الله ورسوله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أوحى إليه من أوامر الله عَزَّ وَجَلَّ {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} أي ما كذب قلب محمد ما رآه ببصره من صورة جبريل الحقيقية قال ابن مسعود: رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناحٍ منهما قد سدَّ الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما اللهُ به عليم {أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى} ؟ أي أفتجادولنه يا معشر المشركين على ما رأى ليلة الإِسراء والمعراج؟ قال في البحر:(3/255)
كانت قريش حين أخبرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمره في الإِسراء كذبوا واستخفوا حتى وصف لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيت المقدس، والجمهور على أن المرئي مرتين هو جبريل، وعن ابن عباس وعكرمة أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى ربه بعيني رأسه، وأنكرت ذلك عائشة وقالت إنه رأى جبريل في صورته مرتين ثم قال أبو حيان: والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جريل بدليل قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} فإنه يقتضي مرة متقدمة {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} أي رأى الرسول جبريل في صورته الملكية مرةً أُخرى {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} أي عند سدرة المنتهى التي هي في السماء السابعة قرب العرش قال المفسرون: والسشدرة شجرة النَّبق تنبع من أصلها الأنهار، وهي عين يمين العرش، وسميت سدرة المنتهى لأنه ينتهي إليها علم الخلائق وحميع الملائكة، ولا يعلم أحدٌ ما وراءها إلا الله جل وعلا وفي الحديث
«صُعد بي إلى السماء السابعة، ورفعت إليَّ سدرة المنتهى، فإِذا نبقها أي ثمرها مثل قلال هجر، وإِذا أوراقها كآذان الفيلة. .» {عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} أي عند سدرة المنتهى الجنة التي تأوي إليها الملائكة وأرواح الشهداء والمتقين {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} أي رآه وقت ما يغشى السدرة ما يغشى من العجائب قال الحسن: غشيها نور رب العالمين فاستنارت وقال ابن مسعود: غشيها فراش من ذهب وفي الحديث
«لما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيَّرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها» قال المفسرون: رأى عليه السلام شجرة سدرة المنتهى وقد غشيتها سبحات أنوار الله عَزَّ وَجَلَّ، حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إليها، وغشيتها الملائكة أمثال الطيور يعبدون الله عندها، يجتمعون حولها مسبِّحين وزائرين كما يزور الناس الكعبة وفي الحديث «رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة ملكاً قائماً يسبح لله تعالى» {مَا زَاغَ البصر} أي ما صال بصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المقام وفي تلك الحضرة يميناً وشمالاً {وَمَا طغى} أي وما جاوز الحدَّ الذي رأى قال القرطبي: أي لم يمدَّ بصره إلى غير ما رأى من الآيات، وهذا وهذا وصف أدب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذلك المقام إذ لم يلتفت يميناً ولا شمالاً وقال الخازن: لما تجلَّى رب العزة وظهر نوره، ثبت صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذلك المقام العظيم الذي تحار فيه العقول، وتزلُّ فيه الأقدام، وتميل فيه الأبصار {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} أي والله لقد رأى محمد ليلة المعراج عجائب ملكوت الله، رأى سدة المنتهى، والبيت المعمور، والجنة والنار، ورأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السموات له ستمائة جناحٍ، ورأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سدَّ الأفق، وغير ذلك من الآيات العظام قال الفخر: وفي الآية دليلٌ على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى ليلة المعراج آياتِ الله ولم(3/256)
يرَ الله كما قال البعض، ووجهه أن الله ختم قصة المعراج برؤية الآيات، وقال في الإِسراء {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} [الإِسراء: 1] ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظم ما يمكن ولأخبر تعالى به {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى} أي أخبرونا يا معشر الكفار عن هذه الآلهة التي تعبدونها «اللات والعزة ومناة» هل لها من القدرة والعظمة التي وُصف بها رب العزة شيء حتى زعم أنها آلهة؟ قال الخازن: هذه أسماء أصنام اتخذوها آهلة يعبدونها، واشتقوا لها أسماء من أسماء الله عَزَّ وَجَلَّ فقالوا من الله اللات، ومن العزيز العُزَّى، وكانت اللات بالطائف، والعُزَّى بغطفان وقد حطمها خالد بن الوليد، ومناة صنم لخزاعة يعبده أهل مكة {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} ؟ توبيخٌ وتقريع أي ألكم يا معشر المشركين النوع المحبوب من الأولاد وهو الذكر، وله تعالى النوع المذموم بزعمكم وهو الأنثى؟ {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} أي تلك القسمة قسمة جائزة غير عادلة حيث جعلتم لربكم ما تكرهونه لأنفسكم قال الرازي: إنهم ما قالوا لنا البنون وله البنات، وإنما نسبوا إلى الله البنات وكانوا يكرهونهن كما قال تعالى {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62] فلما نسبوا إلى الله البنات حصل من تلك النسبة قسمة جائرة {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم} أي ما هذه الأوثان إِلا أسماء مجردة لا معنى تحتها لأنها لا تضر ولا تنفع، سميتموها آلهة أنتم وآباؤكم وهي مجرد تسميات ألقيت على جمادات {مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أي ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس} أي ما يتبعون في عبادتها إلا الظنون والأوهام، وما تشتهيه أنفسهم مما زينه لهم الشيطان {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} أي والحال أنه قد جاءهم من ربهم البيان الساطع، والبرهان القاطع على أن الأصنام ليست بآلهة، وأن العبادة لا تصلح إِلا لله الواحد القهار قال ابن الجوزي: وفيه تعجيبٌ من حالهم إذ لم يتركوا عبادتها بعد وضوح البيان {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى} أي ليس للإِنسان كل ما يشتهي حتى يطمع في شفاعة الأصنام قال الصاوي: والمراد بالإِنسان الكافر، وهذه الآية تجر بذيلها على من يلتجىء لغير الله طلباً للفاني، ويتبع هوى نفسه فيما تطلبه فليس له ما يشتهي، واتباعُ الهوى هوان {فَلِلَّهِ الآخرة والأولى} أي فالملك كله لله يعطي من يشاء ويمنعم من يشاء، لأنه مالك الدنيا والآخرة، وليس الأمر كما يشتهي الإنسان، بل هو تعالى يعطي من اتبع هداه وترك هواه.
. ثم أكَّد هذا المعنى بقوله {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات} أي وكثير من الملائكة الأبرار الأطهار المنبثين في السموات {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} أي أن الملائكة مع علو منزلتهم ورفعة شأنهم لا تنفع شفاعتهم أحداً إلا بإِذن الله، فكيف تشفع الأصنام مع حقارتها؟! {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى} أي إِلا من بعد أن يأذن تعالى في الشفاعة لمن يشاء من أهل التوحيد والإِيمان ويرضى عنه كقوله تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28] قال ابن كثير: فإِذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة الأصنام والأنداد عند الله تعالى؟ ثم أخبر تعالى عن ضلالات المشركين فقال {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} أي(3/257)
لا يصدقون بالبعث والحساب {لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى} أي ليزعمون أنهم إناثٌ وأنهم بناتُ الله {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي لا علم لهم بما يقولون أصلا، لأنهم لم يشاهدوا خلق الملائكة، ولا جاءهم عن الله حجة أو برهان {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي ما يتبعون في هذه الأقوال الباطلة إلا الظنون والأوهام {وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} أي وإِن الظنَّ لا يجدي شيئاً، ولا يقوم أبداً مقام الحق {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين الذين استنكفوا عن الإِيمان والقرآن {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا} أي وليس له همٌ إلا الدنيا وما فيها من النعليم الزائل، والمتعة الفانية قال أبو السعود: والمراد النهيُّ عن دعوة المعرض عن كلام الله وعدم الاعتناء بشأنه، فإن من أعرض عما ذكر، وانهمك في الدنيا بحيث صارت منتهى همته وقاصرى سعيه، لا تزيده الدعوة إِلا عناداً وإِصراراً على الباطل {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم} أي ذلك نهاية علمهم وغاية إدراكهم أن آثروا الدنيا على الآخرة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} أي هو عالم بالفريقين: الضالين والمهتدين ويجازيهم بأعمالهم {وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له كل ما في الكون خلقاً وملكاً وتصرفاً ليس لأحدٍ من ذلك شيء أصلاً {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ} أي ليجازي المسيء بإساءته {وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} أي وليجازي المحسن بالجنة جزاء إحسانه قال ابن الجوزي: والآية إِخبارٌ عن قدرته وسعة ملكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ} لأنه إِذا كان أعلم بالمسيء وبالمحسن جازى كلاً بما يستحقه، وإنما يقدر على مجازاة الفريقين إذا كان واسع الملك.
. ثم ذكر تعالى صفات المتقين المحسنين فقال {الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم} أي يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم {والفواحش} أي ويبتعدون عن الفواحش جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحها عقلاً وشرعاً كالزنى ونكاح زوجة الأب لقوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإِسراء: 32] وقوله {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً} [النساء: 22] {إِلاَّ اللمم} أي إلا ما قلَّ وصغر من الذنوب قال القرطبي: وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله كالقبلة والغمزة والنظرة وفي الحديث «إن الله عَزَّ وَجَلَّ كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطقُ، والنفسُ تتمنى وتشتهي، والفرج يصدِّق ذلك أو يكذبه» فإذا اجتنب العبد كبائر الذنوب غفر الله بفضله وكرمه الصغائر لقوله تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] يعني الصغائر {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} أي هو تعالى غفار الذنوب ستار العيوب، يغفر لمن فعل ذلك ثم تاب قال ابن كثير: أي رحمته وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب(3/258)
منها قال البيضاوي: ولعله عقَّب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} أي هو جل وعلا أعلم بأحوالكم منكم قبل أن يخلقكم، ومن حين أن خلق أباكم آدم من التراب {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} أي ومن حين أن كنتم مستترين في أرحام أُمهاتكم، فهو تعالى يعلم التقيَّ والشقي، والمؤمن والكافر، والبرِّ والفاجر، علم ما تفعلون وإلى ماذا تصيرون {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} أي لا تمدحوها على سبيل الإِعجاب، ولا تشهدوا لها بالكمال والتقى، فإن النفس خسيسة إِذا مُدحت اغترت وتكبَّرت قال أبو حيان: أي لا تنسبوها إِلى الطهارة عن المعاصي، ولا تثنوا عليها، فقد علم الله منكم الزكيَّ والتقي قبل إخراجكم من صلب آدم، وقبل إخراجكم من بطون أُمهاتكم {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} أي هو تعالى العالم بمن أخلص العمل، واتقى ربه في السر والعلن.(3/259)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى في الآيات السابقة سفاهات المشركين وضلالاتهم في عبادتهم للأصنام، وميَّز بين المؤمنين والمجرمين، ذكر هنا نوعاً خاصاً من أهل الإِجرام، وختم السورة الكريمة ببيان ما حلَّ بالمكذبين من أنواع العذاب والدمار، تذكيراً للمشركين بانتقام الله من أعدائه المكذبين لرسوله.
اللغَة: {وأكدى} قطع العطاء مأخوذ من الكُدية يقال لمن حفر بئراً ثم وجد صخرة تمنعه من إتمام الحفر قد أكدى، ثم استعمله العرب لمن أعطى ولم يتمم، ولمن طلب شيئاً فلم يبلغ آخره قال الحطيئة:(3/259)
فأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه ... ومن يبذل المعروف في الناس يُحمد
{وأقنى} أعطاه الكفاية من المال ورضَّاه بما أعطاه قال الجوهري: قني الرجل يقنى مثل غني يغنى أي أعطاه الله ما يُقتنى من المال والنشب، وأقناه الله رضَّاه {الشعرى} الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر {أَزِفَتِ} قربت قال كعب بن زهير:
بان الشباب وهذا الشيبُ قد أزفا ... ولا أرى لشبابٍ بائنٍ خلفا
والآزفة القيامة سيمت بذلك لقربها ودونها {سَامِدُونَ} لاهون ولاعبون، والسمودُ اللهو.
سَبَبُ النّزول: روي أن «الوليد بن المغيرة» جلس عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسمع وعظه، فتأثر قلبه بما سمع وكاد أن يُسلم، فعيَّره رجلٌ من المشركين وقال: تركت دين آبائك وضلَّلتهم وزعمت أنهم في النار؟! فقال الوليد: إِني خشيتٌ عذاب الله، فضمن له الرجل إِن هو أعطاه شيئاً من ماله، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله عَزَّ وَجَلَّ، فأعطاه بعض الذي ضمن له ثم بخل ومنعه الباقي فأنزل الله {أَفَرَأَيْتَ الذي تولى وأعطى قَلِيلاً وأكدى} الآيات.
التفسِير: {أَفَرَأَيْتَ الذي تولى} أي أخبرني يا محمد عن هذا الفاجر الأثيم الذي أعرض عن الإِيمان واتباع الهوى؟ {وأعطى قَلِيلاً وأكدى} أي وأعطى لصاحبه الذي عيَّره قليلاً من المال المشروط ثم بخل بالباقي قال مجاهد: نزلت في الوليد بن المغيرة {أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى} أي أعنده علمٌ بالأمور الغيبية حتى يعلم أن صاحبه يتحمل عنه العذاب؟ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى} أي لم يُخبر بما في التوراة المنزلة على موسى {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} أي وبما في صحف إبراهيم الذي تمَّم ما أُمر به من طاعة الله وتبليغ رسالته، على وجه الكمال والتمام قال الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفّى به كقوله تعالى {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي أن لا تحمل نفسٌ ذنب غيرها، ولا يؤاخذ أحدٌ بجريرة غيره، والآية ردٌّ على من زعم أنه يتحمل العذاب عن غيره كقوله تعالى {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ}
[العنكبوت: 12] {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} أي وأنه ليس للإِنسان إلا عمله وسعيه قال ابن كثير: أي كما لا يُحمل عليه وزرُ غيره، كذلك لا يحصل له الأجر إِلا ما كسب هو لنفسه {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} أي وأن عمله سيُعرض عليه يوم القيامة، ويراه في ميزانه قال الخازن: وفي الآية بشارة للمؤمن، وذلك أن الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غماً {ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى} أي ثم يُجزى بعمله الجزاء الأتم الأكمل، وهو وعيدٌ للكافر ووعدٌ للمؤمن {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى} إي إليه جل وعلا المرجع والمآب والمصير فيعاقب ويثيب. . ثم شرع تعالى في بيان آثار قدرته فقال {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} أي هو الذي(3/260)
خلق الفرح والحزن، والسرور والغم، فأضحك في الدنيا من أضحك، وأبكى من أبكى قال مجاهد: أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أي خلق الموت والحياة فهو جل وعلا القادر على الإِماتة والإِحياء لا غيره، ولهذا كرر الإِسناد «هو» لبيان أن هذا من خصائص فعل الله {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} أي أوجد الصنفين الذكر والأنثى من أولاد آدم ومن كل حيوان قال الخازن: والغرض أنه تعالى هو القادر على إيجاد الضدين في محل واحد: الضحك والبكاء، والإِحياء والإِماتة، والذكر والأنثى، وهذا شيء لا يصل إليه فهم العقلاء ولا يعلمونه، وإنما هو بقدرة الله تعالى وخلقه لا بفعل الطبيعة، وفيه تنبيه على كمال قدرته، لأن النطفة شيء واحد خلق خلق الله منها أعضاء مختلفة، وطباعاً متباينة، وخلق منها الذكر والأنثى، وهاذ من عجيب صنعته وكمال قدرته، ولهذا قال {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} أي خلق الذكر والأنثى من نطفة إذا تدفقت من صلب الرجل، وصُبّت في رحم المرأة {وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى} أي وأن عليه جل وعلا إِعادة خلق النَّاس للحساب والجزاء، وإِحياؤهم بعد موتهم قال في البحر: لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ فيها بقوله تعالى {عَلَيْهِ} كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} أي أغنى من شاء، وأفقر من شاء وقال ابن عباس: أعطى فأرضى، أغنى الإِنسان ثم رضاه بما أعطاه {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} أي هو ربُّ الكوكب المضيء المسمَّى بالشعرى الذي كانوا يعبدونه قال أبو السعود: أي هو رب معبودهم وكانت خزاعة تعبدها سنَّ لهم ذلك رجلٌ من أشرافهم هو «أبو كبشة» {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى} أي أهلك قوم عاد القدماء الذين بُعث لهم نبيُّ الله «هود» عليه السلام، وكانوا من أشد الناس وأقواهم، وأعتاهم على الله وأطغاهم، فأهلكهم الله بالريح الصرصر العاتية قال البيضاوي: سميت عاداً الأولى أي القدماء لأنهم أُولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه السلام {وَثَمُودَ فَمَآ أبقى} أي وثمود دمَّرهم فلم يُبق منهم أحداً {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ} أي وقوم نوح قبل عادٍ وثمود أهلكناهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى} أي كانوا أظلم من الفريقين، وأشد تمدراً وطغياناً ممن سبقهم، قال في البحر: كانوا في غاية العتو والإِيذاء لنوح عليه السلام، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك، ولا يتأثرون بشيء مما يدعوهم إليه قال قتادة: دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، كلما هلك قرن نشأ قرن، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إلى نوح ليحذره منه ويقول له: يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذٍ فإِياك أن تصدقه، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على بغض نوح {والمؤتفكة أهوى} أي وقرى قوم لوط أهواها فأسقطها علىلأرض بعد أن انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، وذلك أن جبريل رفعها إلى السماء ثم أهوى بها {فَغَشَّاهَا مَا غشى} أي فغطَّاها من فنون العذاب ما غطَّى، وفيه تهويلٌ للعذاب وتعميمٌ لما أصابهم منه قال في البحر:(3/261)
والمؤتفكة هي مدائن قوم لوط، سميت بذلك لأنها انقلبت بأهلها، رفعها جبريل عليه السلام ثم أهوى بها إلى الأرض، ثم أمطرت عليهم حجارة من سجيل منضود فذلك قوله {فَغَشَّاهَا مَا غشى} {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى} أي فبأي نعم الله الدالة على وحدانيته وقدرته تتشكك أيها الإِنسان وتكذب!! {هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى} أي هذا هو محمد رسول الله منذر كسائر الرسل ومن جنس المنذرين الأولين وقد علمتم ما حلَّ بالمكذبين {أَزِفَتِ الآزفة} أي دنت الساعة واقترتب القيامة قال القرطبي: سميت آزفة لدنوها وقرب قيامها {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ} أي لا يقدر على كشفها وردها إِذا غشيت الخلق بأهوالها وشدائدها إلا الله تعالى {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ} ؟ استفهامٌ للتوبيخ أي أفمن هذا القرآن تعجبون يا معشر المشركين سخرية واستهزاءً؟ {وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ} أي وتضحكون عند سماعه، ولا تبكون من زواجره وآياته؟ وقد كان حقكم أن تبكوا الدم بدل الدمع حزناً على ما فرطتم {وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} أي وأنتم لاهون غافلون؟ {فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} أي فساجدوا لله الذي خلقكم وأفردوه بالعبادة، ولا تبعدوا اللات والعزى، ومناة والشعرى، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا يليق السجود والعبادة إلاَّ له جلا وعلا.
البَلاَغة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الإِبهام للتعظيم والتهويل {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} [النجم: 10] ومثله {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} [النجم: 16] وكذلك {فَغَشَّاهَا مَا غشى} .
2 - الجناس {والنجم إِذَا هوى ... وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 13] فالأول هو بمعنى خرَّ وسقط والثاني بمعنى هوى النفس.
3 - الطباق بين {أَضْحَكَ وأبكى} وبين {أَمَاتَ وَأَحْيَا} وبين {ضَلَّ وِ اهتدى} وبين
{الآخرة والأولى} [النجم: 25] وبين {وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ} وهي من المحسنات البديعية.
4 - المقابلة {لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [النجم: 31] كما فيه إطناب في تكرار لفظ يجزي وكلاهما من المحسنات البديعية.
5 - الاستفهام التوبيخي مع الإِزراء بعقولهم {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 2122] .
6 - الجناس الناقص بين {أغنى. . وأقنى} لتغير بعض الحروف.
7 - جناس الاشتقاق {أَزِفَتِ الآزفة} .
9 - عطف العام على الخاص {فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} .
10 - مراعاة الفواصل ورءوس الآيات، مما له أجمل الوقع على السمع مثل {أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} [النجم: 1921] ؟ ومثله {أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ} ؟ ويسمى بالسجع.
تنبيه: كانت الأصنام التي عبدها المشركون كثيرة تثرب من ثلاثمائة وستين صنماً ومعظمها(3/262)
حول الكعبة وقد حطمها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند فتحه لمكة، وأشهر هذه الأصنام «اللات، والعُزَّى، ومناة» وقد أرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عام الفتح خالد بن الوليد ليحطم العزَّى فحطمها وهو يقول:
يا عزُّ كفرانك لا سبحانك ... إِني رأيتُ الله قد أهانك
وانتهت بفتح مكة عبادة الأوثان والأصنام، ودخل الناس في دين الإِسلام أفواجاً أفواجاً.(3/263)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
للغَة: {الأجداث} جمع جدث وهو القبر {مُّهْطِعِينَ} مسرعين يقال: أهطع في سيره أي أسرع {مُّنْهَمِرٍ} انهمر الماء نزل بقوة عزيراً {وَدُسُرٍ} الدُّسر: المسامير التي تُشدُّ بها السفينة جمع دِسار ككتاب وكُتب قال في الصحاح: الدِّسار واحد الدُسرُ وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ويقال هي المسامير {مُّدَّكِرٍ} متعظ خائف وأصله مذتكر قلبت التاء دالاً ثم أدغمت الذال فيها فصارت مدّكر {صَرْصَراً} الصرصر: الشديدة الصوت مع البرد مأخوذ من صرير الباب وهو تصويته {أَعْجَازُ} جمع عجز وهو مؤخر الشيء {مُّنقَعِرٍ} المنقعر: المنقلع من أصله يقال: قعرت الشجرة قعراً قلعتها من أصلها فانقعرت {وَسُعُرٍ} جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة قال الشاعر:
تُخالُ بها سُعراً إِذا هزَّها ... {أَشِرٌ} الأشر: البطر ورجل أشر أي بطر أبطرته النعمة.(3/265)
التفسِير: {اقتربت الساعة وانشق القمر} أي دنت القيامة وقد انشق القمر {وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ} أي وإِن ير كفار قريش علامة، واضحة ومعجزة ساطعة، تدل على صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرضوا عن الإِيمان {وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} أي ويقولوا هذا سحرٌ دائم، سحر به محمداً أعيننا قال المفسرون: إِن كفار مكة قالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن كانت صادقاً فشقَّ لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالإِيمان إن فعل، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربَّه أن يعطيه ما طلبوا، فانشقَّ القمر نصف على جبل الصفا، ونصفٌ على جبل قيقعان المقابل له، حتى رأوا حراء بينهما، فقالوا: سحرنا محمد، ثم قالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم!! فقال أبو جهل: اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي فإِن أخبروا بانشقاقه فهو صحيح، وإِلا فقد سحر محمد أعيننا، فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر فقال أبو أبو جهل والمشركون: هذا سحرٌّ مستمر أي دائم فأنزل الله {اقتربت الساعة وانشق القمر وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} قال الخازن: وانشقاقٌ القمر من آيات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الظاهرة، ومعجزاته الباهرة، يدعل عليه ما أخرجه الشيخان عن أنس «أن أهل مكة سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه يُريهم آية، فأراهم انشقاق القمر مرتين» وما روي عن ابن مسعود قال «انشق القمر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شقتين فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اشهدوا» وما روي عن جبير بن مطعم قال «انشق القمر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فصار فرقتين، فقالت قريش: سحر محمد أعيننا فقال بعضهم: لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فكاتنوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم»
فهذه الأحاديث الصحيحة، وقد وردت بهذه المعجزة العظيمة، مع شهادة القرآن العظيم بذلك، فإنه أدل دليل وأقوى مثبتٍ له وإمكانه لا يشك فيه مؤمن، وقيل في معنى الآية، ينشق القمر يوم القيامة، وهذا قول باطل لا يصح، وشاذ لا يثبت، لإِجماع المفسرين على خلافه، ولأن الله ذكره بلفظ الماضي {وانشق القمر} وحمل الماضي على المستقبل بعيد {وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} أي وكذبوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما عاينوا من قدرة الله تعالى في انشقاق القمر، واتبعوا ما زين لهم الشيطان من الباطل {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} أي وكل أمرٍ من الأمور منتهٍ إلى غاية يستقر عليها لا محالة إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر قال مقاتل: لكل حديثٍ منتهى وحقيقة ينتهي إِليها وقال قتادة: إِن الخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر، وكل أمرٍ مستقر بأهله {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ولقد جاء هؤلاء الكفار من أخبار الأمم الماضية المكذبين للرسل، ما فيه واعظ لهم عن التمادي في الكفر والضلال {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} أي هذا القرآن حكمة بالغة، بلغت النهاية في الهداية والبيان {فَمَا تُغْنِ النذر} أي أيَّ شيءٍ تُغنى النُذُر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على سمعه وقلبه؟! قال المفسرون: المعنى لقد جاءهم القرآن وهو حكمة تامة قد بلغت الغاية، فماذا تنفع الإِنذارات والمواعيد لقومٍ أصموا آذانهم عن سماع كلام الله؟ كقوله تعالى {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر(3/266)
عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المجرمين وانتظرهم {يَوْمَ يَدْعُ الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ} أي يوم يدعو إٍسرافيل إلى شيءٍ منكر فظيع، تنكره النفوس لشدته وهوله، وهو يوم القيامة وما فيه من البلاء والأهوال {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلةً أبصارهم لا يستطيعون رفعها من شدة الهول {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} أي يخرجون من القبور {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} أي كأنهم في انتشارهم وسرعة إِجابتهم للداعي جرادٌ منتشر في الآفاق، لا يدرون أين يذهبون من الخوف والحيرة قال ابن الجوزي: وإِنما شبههم بالجراد المنتشر، لأن الجراد لا جهة له يقصدها، فهم يخرجون من القبور فزعين ليس لأحدٍ منهم جهة يقصدها، والداعي هو إِسرافيل {مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} أي مسرعين مادّي أعناقهم إِلأى الداعي لا يتلكئون ولا يتأخرون {يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي يقول الكافرون هذا يوم صعبٌ شديد قال الخازن: وفيه إشارة إِلى أنَّ ذلك اليوم يومٌ شديد على الكفارين لا على المؤمنين كقوله تعالى {عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 10] . . ثم ذكر تعالى وقائع الأمم المكذبين وما حلَّ بهم من العذاب والنكال تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تحذيراً لكفار مكة فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} أي كذب قبل قومك يا محمد قومُ نوح {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر} أي فكذبوا عبدنا نوحاً وقالوا إِنه مجنون، وانتهروه وزجروه عن دعوى النبوة بالسب والتخويف والوعيد بقولهم
{لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} [الشعراء: 116] قال في البحر: لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون أي أنه يقول ما لا يقبله عاقل وذلك مبالغة في تكذيبهم، وإنما قال {عَبْدَنَا} تشريفاً له وخصوصية بالعبودية {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} أي فدعا نوح ربه وقال يا ربّ إني ضعيف عن مقاومة هؤلاء المجرمين، فانتقم لي منهم وانتصر لدينك قال أبو حيان: وإنما دعا عليهم بعدما ئيس منهم وتفاقم أمرهم، وكان الواحد من قومه يخنقه إِلى أن يخر مغشياً عليه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} أي فأرسلنا المطر من السماء منصباً بقوة وغزارة قال أبو السعود: وهو تمثيلٌ لكثرة الامطار وشدة انصبابها {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} أي جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة بالماء {فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي فالتقى ماء السماء وماء الأرض على حالٍ قد قدَّرها الله في الأزل وقضاها بإِهلاك المكذبين غرقاً قال قتادة: قضي عليهم في أم الكتاب إِذا كفروا أن يُغرقوا {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أي وحملنا نوحاً على السفينة ذات الألواح الخشبية العريضة المشدودة بالمسامير قال في البحر: وذات الألواح والدُّسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليه السلام، ويفهم من هذين الوصفين أنها «السفينة» فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوبعنه ونحوه: قميصي مسرودة من حديد أي درع، وهذا من فصيح الكلام وبديعه، ولو جمعت بين الصفة والموصوف لم يكن بالفصيح، والدُّسُر: المسامير {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي تسير على وجه الماء بحفظنا وكلاءتنا وتحت رعايتنا {جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أي أغرقنا قوم نوح انتصاراً لعبدنا نوح لأنه كان قد كُذِّب وجُحد فضله قال الألوسي: أي فعلنا ذلك جزاء لنوح(3/267)
لأنه كان نعمة أنعمها الله على قومه فكفروها، وكذلك كلُ نبيٍ نعمةٌ من الله تعالى على أمته {وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً} أي تركنا تلك الحادثة «الطوفان» عبرة {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي فهل من معتبر ومتعظ؟ {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} استفهام تهويل وتعجيب أي فكيف كان عذابي وإِنذاري لمن كذب رسلي، ولم يتعظ بآياتي؟ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} أي والله لقد سهلنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ، لما اشتمل عليه من أنواع المواعظ والعبر {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي فهل من متعظٍ بمواعظه، معتبرٍ بقصصه وزواجره؟ مقال الخازن: وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به، لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده، بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير، والعربي والعجمي قال سعيد بن جبير: يرسناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كُتب الله تعالى يُقرأ كلُّه ظاهراً إلا القرآن، وبالجملة فقد جعل الله القرآن مهيئاً ومسهلاً لمن أراد حفظه وفهمه أو الاتعاظ به، فهو رأس سعادة الدنيا والآخرة {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي كذبت عادٌ رسولهم هوداً فكيف كان إنذاري لهم بالعذاب؟ ثم شرع في بيان ما حلَّ بهم من العذاب الفظيع المدمر فقال {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} أي أرسلنا عليهم ريحاً عاصفة باردة شديدة الهبوب والصوت قال ابن عباس: الصرصر: الشديدة البرد وقال السدي: الشديدة الصوت {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} أي في يومٍ مشئوم دائم الشؤم، استمر عليهم بشؤمه فلم يبق منهم أحدٌ إِلا هلك فيه قال ابن كثير: استمر عليهم نحسه ودماره، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي {تَنزِعُ الناس} أي تقلع الريح القوم ثم ترمي بهم على رؤسهم فتدقُّ رقابهم وتتركهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} أي كأنهم أُصول نخلٍ قد انقلعت من مغارسها وسقطت على الأرض، شبهوا بالنخل لطولهم وضخامة أجسامهم فتبقى أجسامهم بلا رءوس كعجز النخلة الملقاة على الأرض {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} تهويلٌ لما حلَّ بهم من العذاب وتعجبٌ من أمره أي كيف كان عذابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن هائلاً فظيعاً؟ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ؟ كرره للتنبيه على فضل الله على المؤمنين بتيسير حفظ القرآن أي ولقد سهلنا القرآن للحفظ والفهم، فهل من متعظٍ ومعتبر بزواجر القرآن؟ ثم أخبر تعالى عن قوم ثمود المكذبين لرسولهم صالح عليه السلام فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} أي كذبت ثمود بالإِنذارات والمواعظ التي أنذرهم بها نبيهم صالح {فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ} أي أنتَّبع إِنساناً مثلنا من آحاد الناس، ليس من الأشراف ولا العظماء، ونحن جماعة كثيرون؟ قال في البحر: قالوا ذلك حسداً منهم واستبعاداً أن يكون نوع البشر بفضل بعضُه بعضاً هذا الفصل، فقالوا: أنكون جمعاً ونتبع واحداً منا؟ ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى على من رضيه {إِنَّآ إِذاً لَّفِي(3/268)
ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} أي إنا إِذا ابتعناه لفي خطأ وذهابٍ عن الحقِّ واضح، وجنون دائم قال ابن عباس: سُعُر أي جنون من قولهم ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} استفهام إِنكاري أي هل خصَّ بالوحي والرسالة وحده دوننا، وفينا من هو أكثر منه مالاً وأحسن حالاً؟ قال الإِمام الفخر: وفي الآية إِشارة إلى ما كانوا ينكرونه بطريق المبالغة، وذلك لأن الإِلقاء إِنزالٌ بسرعة، فكأنهم قالوا: الملك جسيم والسماء بعيدة فكيف ينزل عليه الوحي في لحظة؟ وقولهم «عليه» إنكارٌ آخر كأنهم قالوا: ما أُلقي عليه ذكرٌ أصلاً، وعلى فرض نزوله فلا يكون عليه من بيننا وفينا من هو فوقه في الشرف والذكاء؟ وقولهم {أَأُلْقِيَ} بدلاً من قولهم «أألقى الله» إشارة إِلى أن الإِلقاء من السماء غير ممكن فضلاً عن أن يكون من الله تعالى {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي بل هو كاذب في دعوى النبوة، متجاوز في حد الكذب، متكبرٌ بطِرٌ يريد العلو علينا، وإِنما وصفوه بأنه {أَشِرٌ} مبالغة منهم في رفض دعواه كأ، هم قالوا نه كذب لا لضرورةٍ وحاجةٍ إلى الخلاص كما يكذب الضعيف، وإنما تكبَّر وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد أن تتبعوه فكذب على الله، فلا يلتفت إِلى كلامه لأنه جمع بين رذيلتين: الكذب والتكبر، وكلٌّ منهما مانع من اتباعه، قال تعالى تهديداً لهم وردّاً لبهتانهم {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر} أي سيعلمون في الآخرة من هو الكذَّاب الأشر، هل هو صالح عليه السلام أم قومه المكذبون المجرمون؟ قال الألوسي: المراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون، لكنْ أورد ذلك مورد الإِبهام إيماءً إِلى أنه مما لا يكاد يخفى {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ} أي مخرجوا الناقة من الصخرة الصماء محنة لهم واختباراً كما شاءوا وطلبوا قال ابن كثيكر: أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء، من صخرة صماء طبق ما سألوا لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به {فارتقبهم واصطبر} أي فانتظرهم وتبصَّرْ ما يصنعون وما يُصنع بهم، واصبر على أذاهم فإِن الله ناصرك عليهم {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي وأعلِمْهم أنَّ الماء الذي يمرُّ بواديهم مقسومٌ بين ثمود وبين الناقة كقوله تعالى
{لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] قال ابن عباس: إِذا كان يوم شربهم لا تشرب الناقةُ شيئاً من الماء وتسقيهم لبناً وكانوا في نعيم، وإِذا كان يوم الناقة شربت الماءك له فلم تُبق لهم شيئاً، وإنما قال تعالى {بَيْنَهُمْ} تغليباً للعقلاء {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} أي كل نصيب وحصة من الماء يحضرها من كانت نوبته، فإِذا كان يوم الناقة حضرت القوم شربها، وإِذا كان يومهم حضروا شربهم {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} أي فنادت قبيلة ثمود أشقى القوم واسمه «قدار بن سالف» لقتل الناقة فتناول الناقة بسيفه فقتلها غير مكترث بالأمر العظيم {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فكيف كان عقابي وإِنذاري لهم؟ ألم يكن فظيعاً شديداً؟! {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي أهلكناهم بصيحة واحدة صاح بها جريل عليه السلام فلم تبق منه عين تطْرف {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} أي فصاروا هشيماً متفتتاً كيابس الشجر إِذا بلى وتحطَّم وداسته الأقدام قال الإِمام الجلال: المحتظر هو الذي يجعل لغنمه حظيرةً من(3/269)
يابس الشجر والشوك يحفظهن فيها من الذئاب والسباع، وما سقط من ذلك فداسته فهو الهشيم {وَلَقَد يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي يسرناه للحفظ والاتعاظ فه من معتبر؟(3/270)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى المكذبين من قوم «عاد وثمود» ذكر هنا قوم لوط وقوم فرعون وما حل بهم من العذاب والدمار، تذكيراً لكفار مكة بانتقام الله من أعدائه وأعداء رسله، وختم السورة الكريمة ببيان سنة الله في عقاب الكفرة المجرمين.
اللغَة: {حَاصِباً} الحاصب: الحجارة وقيل: هي الريح الشديد التي تثير الحصباء وهي الحصى {بَطْشاً} عقابنا الشديد {الزبر} الكتب السماوية جمع زبور وهو الكتاب الإِلهي {أدهى} أفطع من الداهية وهي الأمر المنكر العظيم {سُعُرٍ} خسرانٍ وجنون {سَقَرَ} اسم من أسماء جهنم أعاذنا الله منها.
سَبَبُ النّزول: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: جاء مشركموا قريشٍ يخاصمون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في القدر فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .
التفسِير: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر} أي كذبوا بالإِنذارات التي أنذرهم بها نبيهم لوط عليه السلام {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} أي أرسلنا عليهم حجارة قذفوا بها من السماء قال ابن كثير: أمر تعالى جبريل فحمل مدائنهم حتى وصل بها إِلى عنان السماء، ثم قلبها عليهم وأرسلها وأُتبعت بحجارةٍ من سجيلٍ منضود، والحاصب هي الحجارة {إِلاَّ آلَ لُوطٍ} أي غير لوطٍ وأتباعه المؤمنين {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} أي نجيناهم من الهلاك قُبيل الصبح وقت السَّحر {نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي إِنعاماً منَّا(3/270)
عليهم نجيناهم من العذاب {كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ} أي مثل ذلك الجزاء الكريم، نجزي من شكر نعمتنا بالإِيمان والطاعة {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} أي ولقد خوفهم لوط عقوبتنا الشديدة، وانتقامنا منهم بالعذاب {فَتَمَارَوْاْ بالنذر} أي فتشككوا وكذبوا بالإِنذار والوعيد {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} أي طلبوا منه أن يسلّم لهم أضيافه وهم الملائكة ليفجروا بهم بطريق اللواطة {فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} أي أعمينا أعينهم وأزلنا أثرها حتى فقدوا أبصارهم قال المفسرون: لما جاءت الملائكة إلى لوط في صورة شبابٍ مردٍ حسان، أضافهم لوط عليه السلام، فجاء قومه يُهرعونن إِليه لقصد الفاحشة بهم، فأعلق لوط دونهم الباب، فجعلوا يحاولون كسر الباب، فخرج عليهم جبريل فضرب أعينهم بطرف جناحه فانطمست أعينهم وعموا {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فذوقوا عذابي وإِنذاري الذي أنذركم به لوط {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} أي جاءهم وقت الصبح عذابٌ دائم متصل بعذاب الآخرة قال الصاوي: وذلك أن جبريل قلع بلادهم فرفعها ثم قلبها بهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل، واتصل عذاب الدنيا بعذاب الآخرة فلا يزول عنهم حتى يصلوا إِلى النار {فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي فذوقوا أيها المجرمون عذابي الأليم، وإِنذاري لكم على لسان رسولي {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ} أي ولقد يسرنا القرآن للحفظ والتدبير فهل من متعظٍ ومعتبر؟ قال المفسرون: حكمة تكرار ذلك في كل قصة، التنبيهُ على الاتعاض والتدبير في أنباء الغابرين، وللإِشارة إِلى أن تكذيب كل رسولٍ مقتضٍ لنزول العذاب كما كرر قوله
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] تقريراً للنعم المختلفة المعدودة، فكلما ذكر نعمةً وبَّخ على التكذيب بها {وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النذر} أي جاء فرعون وقومه الإِنذارات المتكررة فلم يعتبروا قال أبو السعود: صُدّرت قصتهم بالقسم المؤكد لإِبراز كمال الاعتناء بشأنها، لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها، وهو ما لاقوه من العذاب، وفرعون رأس الطغيان {كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا} أي كذَّبوا بالمعجزات التسع التي أعطيها موسى {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} أي فانتقمنا منهم بإِغراقهم في البحر، وأخذناهم بالعذاب أخذ إِلهٍ غالب في انتقامه، قادرٍ على إِهلاكهم لا يعجزه شيء. . ثم خوَّف تعالى كفار مكة فقال {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ} ؟ الاستفهام إِنكاري للتقريع والتوبيخ أي أكفاركم يا معشر العرب خيرٌ من أولئكم الكفار الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم فرعون، حتَّى لا أعذبهم؟ قال القرطبي: استفهام إنكار ومعناه النفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم {أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر} أي أم لكم يا كفار قريش براءة من العذاب في الكتب السماوية المنزلة على(3/271)
الأنبياء؟ {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أي بل أيقولون نحن جمعٌ كثير، واثقون بكثرتنا وقوتنا، منتصرون على محمد؟ قال تعالى رداً عليهم {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} أي سيهزم جمع المشركين ويولون الأدبار منهزمين قال ابن الجوزي: وهذا مما أخبر الله به نبيه من علم الغيب، فكات الهزيمةُ يوم بدر {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} أي ليس هذا تمام عقابهم بل القيامة موعد عذابهم {والساعة أدهى وَأَمَرُّ} أي أعظم داهيةً وأشدُّ مرارةً من القتل والأسر {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} أي إِن المجرمين في حيرةٍ وتخبطٍ في الدنيا، وفي نيرانٍ مسعَّةر في الآخرة قال ابن عباس: في خسرانٍ وجنون {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} أي يوم يُجرُّون في النار على وجوههم عقاباً وإِذلالاً لهم {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} أي يقال لهم: ذوقوا أيها المكذبون عذاب جهنم قال أبو السعود: وسقر علمٌ لجهنم ولذلك لم يُصرف {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي إِنا خلقنا كل شيءٍ مقدَّراً مكتوباً في اللوح المحفوظ من الأزل {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} أي وما شأننا في الخلق والإِيجاد إِلا مرة واحدة كلمح البصر في السرعة نقول للشيء: كن فيكون قال ابن كثير: أي إِنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إِلى تأكيد بثانية، فيكون ذلك موجوداً كلمح البصر لا يتأخر طرفة عين {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ} أي ووالله لقد أهلكنا أشباهكم ونظراءكم في الكفر والضلال من الأمم السالفة {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي فهل من يتذكر ويتعظ؟ {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر} أي وجميع ما فعلته الامم المكذبة من خير وشر مكتوب عليهم، مسجل في كتب الحفظة التي بأيدي الملائكة قال ابن زيد: {فِي الزبر} أي في دواوين الحفظة {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} أي وكل صغيرٍ وكبير من الأعمال مسطورٌ في اللوح المحفوظ، مثبتٌ فيه {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} أي في جنات وأنهار قال القرطبي: يعني أنهار الماء، والخمر، والعسل، واللبن {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي في مكانٍ مرضي، ومقام حسن {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} أي عند ربٍ عظيم جليل، قادرٍ في ملكه وسلطانه، لا يعجزه شيء، وهو الله رب العالمين.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الاستعارة التمثيلية {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء} [القمر: 11] شبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء، وانشق بها أديم الخضراء بطريق الاستعارة التمثيلية.
2 - جناس الاشتقاق {يَدْعُ الداع} .
3 - الكناية {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13] كناية عن السفينة التي تحوي الأخشاب والمسامير.
4 - التشبيه المرسل والمجمل {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] ومثله {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} [القمر: 31] .
5 - صيغة المبالغة {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر: 25] أي كثير الكذب عظيم البطر لأن فعَّال وفعل للمبالغة.(3/272)
6 - الإطناب بتكرار اللفظ {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى} لزيادة التخويف والتهويل.
7 - المقابلة بين المجرمين والمتقين {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} و {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} .
8 - الطباق بين {صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} .
9 - السجع المرصَّع غير المتكلف الذي يزيد في جمال اللفظ وموسيقاه إقرأ مثلاً قوله تعالى {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} الخ.(3/273)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
اللغَة: {بِحُسْبَانٍ} الحُسبان بضم الحاء مصدر مثل الغُفران والكُفران ومعناه الحساب {الأَنَامِ} الخلق وكلُّ ما دبَّ على وجه الأرض {العصف} ورق الزرع الأخضر إِذا يبس {الريحان} كل نبات طيب الريح، سمي ريحاناً لرائحته الطيبة {مَّارِجٍ} المارج: اللهب الذي يعلو النار قال الليث: هو الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد {الجوار} جمع جارية وهي السفينة سميت جارية لأنها تمشي(3/275)
على سطح الماء {الأعلام} الجبال جمع علم وهو الجبل الطويل قال الشاعر: «إِذا قطعن علماً بدا علمٌ» {تَنفُذُواْ} النفوذ: الخروج من الشي بسرعة {شُوَاظٌ} : اللهب الذي لا دخان له {الدهان} الجلد الأحمر {آنٍ} نهاية في الحرارة.
التفسِير: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} أي الله الرحمنُ علَّم القرآن، ويسَّره للحفظ والفهم قال مقاتل: لما نزل قوله تعالى {اسجدوا للرحمن} [الفرقان: 60] قال كفار مكة، وما الرحمن؟ فأنكروه وقالوا لا نعرف الرحمن فقال تعالى {الرحمن} الذين أنكروه هو الذي {عَلَّمَ القرآن} وقال الخازن: إن الله عَزَّ وَجَلَّ عدَّد نعمه على عباده، فقدَّم أعظمها نعمة، وأعلاها رتبة، وهو القرآن العزيز لأنه أعظم وحي الله إلى أنبيائه، وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه، وأكثره ذكراً، وأحسنه في أبواب الدين أثراً، وهو سنام الكتب السماوية المنزَّلة على أفضل البرية {خَلَقَ الإنسان} أي خلق الإِنسان السميع البصير الناطق، والمرادُ بالإِنسان الجنسُ {عَلَّمَهُ البيان} أي ألهمه النطق الذي يستطيع به أن يُبين عن مقاصده ورغباته ويتميَّز به عن سائر الحيوان قال البيضاوي: والمقصودُ تعداد ما أنعم الله به على الإِنسان، حثاً على شكره، وتنبيهاً على تقصيرهم فيه، وإنما قدَّم تعليم القرآن على خلق الإِنسان، لأنه أصل النعم الدينية فقدَّم الأهم {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} أي الشمس والقمر يجريان بحساب معلوم في بروجهما، وبتنقلان في منازلهما لمصالح العباد قال ابن كثير: أي يجريان متعاقبين بحساب مقنَّن لا يختلف ولا يضطرب {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} أي والسماء خلقها عالية محكمة البناء رفيعة القدر والشأن، وأمر بالميزان عند الأخذ والإِعطاء لينال الإِنسان حقه وافياً {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} أي لئلا تبخسوا في الميزان {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} أي اجعلا الوزن مستقيماً بالعدل والإِنصاف {وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} أي لا تطففوا الوزن ولا تُنقصوه كقوله تعالى {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي والأرض بسطها لأجل الخلق، ليستقروا عليها، وينتفعوا بما خلق الله على ظهرها قال ابن كثير: أي أرساها بالجبال الشامخات لتستقر بما على وجهها من الأنام وهم الخلائق، المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم في سائر أرجائها {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي فيها من أنواع الفواكه المختلفة الألوان والطعوم والروائح {والنخل ذَاتُ الأكمام} أي وفيها النخل التي يطلع فيها أوعية الثمر قال ابن كثير: أفرد النخل بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً، والأكمام هي أعية الطلع كما قال ابن عباس، وهو الذي يطلع فيه القنو، ثم ينشق عنه العنقود فيكون بُسراً ثم رُطباً، ثم ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه {(3/276)
والحب ذُو العصف} أي والنجمُ والشجر ينقادان للرحمن فيما يريده منهما، هذا بالتنقل بالبروج، وذاك بإخراج الثمار {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} أي وفيها أنواع الحب كالحنطة والشعير وسائر ما يُتغذى به، ذو التبن الذي هو غذاء الحيوان {والريحان} أي وفيها كل مشموم طيب الريح من النبات كالورد، والفُلْ، والياسمين وما شاكلها قال في البحر: ذكر تعالى الفاكهة أولاً ونكَّر لفظها لأن الانتفاع بها نفسها، ثم ثنَّى بالنخل فذكر الأصل ولم يذكر ثمرها وهو التمر، لكثرة الانتفاع بها من ليفٍ، وسعف، وجريدٍ، وجذوع، وجُمَّار، وثمر، ثم ذكر الحب الذي هو قوام عيش الإِنسان وهو البشر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق، ووصفه بقوله {ذُو العصف} تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم به من الحب، وما يقوت بهائمهم من ورقه وهو التبنُ، وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ليحصل ما به يُتفكه، وما به يُتقوَّت، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة، ولما عدَّد نعمه خاطب الإِنس والجن بقوله {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله يا معشر الإِنس والجن تكذبان؟ أليست نعم الله علكيم كثيرة لا تُحصى؟ عن ابن عمر
«أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكتوا، فقال: مالي أسمع الجنَّ أحسن جواباً لربها منكم؟ ما أتيتُ على قول الله تعالى {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا: لا بشيءْ من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» . ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار} أي خلق أباكم آدم من طين يابسٍ يسمع له صلصلة أي صوتٌ إِذا نُقر قال المفسرون: ذكر تعالى في هذه السورة أنه خلق آدم {مِن صَلْصَالٍ كالفخار} وفي سورة الحجر {مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] أي من طين أسود متغير، وفي الصافات {مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11] أي يلتصق باليد، وفي آل عمران {كَمَثَلِءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] ولا تنافي بينهما، وذلك لأن الله تعالى أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء فصار طيناً لازباً أي متلاصقاً يلصق باليد، ثم تركه حتى صار حمأً مسنوناً أي طيناً أسود منتناً، ثم صوَّره كما تُصوَّر الأواني ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة كالفخار إِذا نُقر صوَّت، فالمذكور ههنا آخر الأطوار {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} أي وخلق الجنَّ من لهبٍ خالصً لا دخان فيه من لنار قال ابن عباس: {مِن مَّارِجٍ} أي لهبٍ خالص لا دخال فيه وقال مجاهد: هو اللهب المختلط بسواد النار، وفي الحديث
«خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارجٍ من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم» {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله يا مشعر الإِنس والجن تكذبان؟ قال أبو حيان: والتكرار في هذه الفواصل للتأكيد والتنبيه والتحريك، وقال ابن قتيبة: إن هذا التكرار إِنما هو لاختلاف النعم، فكلما ذكر نعمةً كرر قوله {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وقد ذُكرت هذه الآية إِحدى وثلاثين مرة، والاستفهام فيها للتقريع والتوبيخ {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} أي هو جل وعلا ربُّ مشرق الشمس والقمر، وربُّ مغربهما، ولمّا ذكر الشمس والقمر في قوله {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} ذكر هنا أنه رب مشرقهما ومغربهما {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي(3/277)
نعم الله التي لا تحصى تكذبان؟ {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ} أي أرسل البحر الملح والبحر العذب يتجاوران يلتقيان ولا يمتزجان {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} أي بينهما حاجزٌ من قدرة الله تعالى لا يطغى أحدهما على الآخر بالممازجة قال ابن كثير: والمراد بالبحرين: الملح والحلو، فالملح هذه البحار، والحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس، وجعل الله بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا فيفسد كل واحد منهما الآخر {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله تكذبان؟ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أي يُخرج لكم من الماء اللؤلؤ والمرجان، كما يخرج من التراب الحب والعصف والريحان، قال الألوسي: واللؤلؤ صغار الدُر، والمرجان كباره قاله ابن عباس، وعن ابن مسعود أن المرجان الخرز الأحمر، والآية بيانٌ لعاجئب صنع الله حيث يخرج من الماء الملح أنواع الحلية كالدر والياقوت والمرجان، فسبحان الواحد المنَّان {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمة من نعم الله تكذبان؟ {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} أي وله جل وعلا السفن المرفوعات الجارياتُ في البحر كالجبال في العظم والضخامة قال القرطبي: {كالأعلام} أي كالجبال، والعلمُ الجبل الطويل، فالسفن في البحر كالجبال في البر، ووج الامتنان بها أن الله تعالى سيَّر هذه السفن الضخمة التي تشبه الجبال على وجه الماء، وهو جسم لطيف مائع يحمل فوقه هذه السفن الكبار المحمَّلة بالأرزاق والمكاسب والمتاجر من قطر إلى قطر، ومن إقليم إِلى إقليم قال شيخ زاده: واعلم أن أصول الأشياء أربعة: الترابُ، والماءُ والهواءُ، والنارُ، فبيَّن تعالى بقوله {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ} أن التراب أصلٌ لمخلوق شريف مكرَّم، وبيَّن قوله {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} أن النار أيضاً أصلٌ لمخلوق آخر عجيب الشأن، وبيَّن بقوله {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أن الماء أيضاً أصل لمخلوق له قدرٌ وقيمة، ثم ذكر أن الهواء له تأثير عظيم في جري السفن المشابهة للجبال فقال {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} وخصَّ السفن بالذكر لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه، هم معترفون بذلك حيث يقولون: «لك الفُلك ولك المُلك» وإِذا خافوا الغرق دعوا الله تعالى خاصة
{مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان؟ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} أي كل من على وجه الأرض من الإِنان والحيوان هالك وسيموت {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} أي ويبقى ذات الله والواحد الأحد، ذو العظمة والكبرياء والإِنعام والإِكرام كقوله {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] قال ابن عباس: الوجهُ عبارة عن الله جل وعلا الباقي الدائم قال القرطبي: ووجه النعمة في فناء الخلق التسويةُ بينهم في الموت ومع الموت تستوي الأقدام، والموتُ سبب النقلة من دار الفناء إِلى دار الثواب والجزاء {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تكذبان {يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض} أي يفتقر إِليه تعالى كمن السموات والأرض، ويطلبون منه العون والرزق بلسان المقال أو بلسان الحال {كُلَّ(3/278)
يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} أي كل ساعة ولحظة هو تعالى في شأن من شئون الخلق، يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين قال المفسرون: هي شئونٌ يُبديها ولا يبتديها أي يظهرها للخلق ولا ينشئها من جديد لأن القلم جفَّ على ما كان وما سيكون إِلى يوم القيامة، فهو تعالى يرفع من يشاء ويضع من يشاء، ويشفي سقيماً ويمرض سليماً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غيباً ويغني فقيراً قال مقاتل: إن الآية نزلت في اليهود قالوا: إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئاً، فردَّ الله عليهم بذلك {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان أيها الإِنس والجان؟ {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} أي سنحاسبكم على أعمالكم يا معشر الإِنس والجنِّ قال ابن عباس: هذا وعيدٌ من الله تعالى للعباد، وليس بالله تعالى شغل وهو فارغ قال في البحر: أي ننظر في أموركم يوم القيامة، لا أنه تعالى كان له شغل فيفرغ فيه، وجرى هذا على كلام العرب يقول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك أي سأتجرد للانتقام منك من كل ما شغلني وقال البيضاوي: أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة، وفيه تهديد مستعارٌ من قولك لمن تهدده: سأفرغ لك، فإن المتجرد للشيء يكون أقوى عليه، وأجدَّ فيه، والثقلان: الإِنسُ والجنُّ سميا بذلك لثقلهما على الأرض {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا} أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السمواتِ والأرض هاربين من الله، فارين من قضائه فأخرجوا منها، وخلصوا أنفسكم من عقابه، والأمر للتعجيز {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} أي لا تقدرون على الخروج إِلا بقوةٍ وقهر وغلبة، وأنَّى لكم ذلك؟ قال ابن كثير: معنى الآية أنكم لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره، بل هو محيطٌ بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر حيث الملائكة محدقةٌ بالخلائق سبع صوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب إِلا بسلطان أي إِلا بأمر الله وإِرادته
{يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر} [القيامة: 10] ؟ وهذا إِنما يكون في القيامة لا في الدنيا بدليل قوله تعالى بعده {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟ تقدم تفسيره {يُرْسَلُ(3/279)
عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} أي يرسل عليكما يوم القيامة لهب النار الحامية {وَنُحَاسٌ} أي ونحاسٌ مذاب يصبُّ فوق رءوسكم قال مجاهد: مجاهد هو الصفر المعروف يصب على رءوسهم يوم القيامة وقال ابن عباس: {نحاسٌ} هو الدخان الذي لا لهب فيه، وقول مجاهد أظهر {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} أي فلا ينصر بعضكم بعضاً، ولا يخلصه من عذاب الله قال ابن كثير: ومعنى الآية لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكةُ وزبانية جهنم، بإِرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا فلا تجدون لكم ناصراً {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فَإِذَا انشقت السمآء} أي فإِذا انصدعت يوم القيامة لتنزل الملائكة منها لتحيط بالخلائق من كل جانب {فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} أي فكانت مثل الورد الأحمر من حرارة النار، ومثل الأديم الأحمر أي الجلد الأحمر قاله ابن عباس: وذلك من شدة الهول، ومن رهبة ذلك اليوم العظيم {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} أي ففي ذلك اليوم الرهيب يوم تنشق السماء، لا يُسأل أحد من المذنبين من الإِنس والجن عن ذنبه، لأن للمذنب علامات تدل على ذنبه كاسوداد الوجوه، وزرقة العيون قال الإِمام الفخر: لا يُسأل أحد عن ذنبه فلا يقال له: أنتَ المذنب أو غيرك؟ ولا يقال: من المذنب منكم؟ بل يعرفون بسواد وجوههم وغيره {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} أي يُعرف يوم القيامة أهل الإِجرام بعلامات تظهر عليهم وهي ما تغشاهم من الكآبة والحزن قال الحسن: سواد الوجه وزرقة الأعين كقوله تعالى {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} [طه: 102] وقوله {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} أي فتأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعور مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في جهنم قال ابن عباس: يُؤخذ بناصية المجرم وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب ثم يلقى في النار {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون} أي يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: هذه النار التي أخبرتم بها فكذبتم قال ابن كثير: أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها، ها هي حاضرةٌ تشاهدونها عياناً {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} أي يترددون بين نار جهنم وبين ماءٍ حار بلغ النهاية في الحرارة قال قتادة: يطوفون مرةً بين الحميم، ومرة بين الجحيم، والجحيم النارُ، والحميم الشارب الذي انتهى حره {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله تكذبان يا معشر الإنس والجان؟(3/280)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أحوال أهل ال نار، ذكر ما أعدَّه للمؤمنين من الأبرار من الجنان والولدان والحور الحسان، ليتميز الفارق الهائل بين منازل المجرمين ومراتب المتقين، على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب.
اللغَة: {أَفْنَانٍ} جمع فنن وهو الغضن قال الشاعر يصف حمامة:
ربَّ ورقاءَ هتوفٍ في الضُحى ... ذاتِ شدوٍ صدحَت في فنن
ذكر إِلفاً ودهراً حالياً ... فبكت شوقاً فهاجت حزني
{وَإِسْتَبْرَقٍ} ما غلظ من الديباج وخشُن {وَجَنَى} الجنى: ما يُحجتنى من الشجر ويقطف {يَطْمِثْهُنَّ} الطمثُ: الجماع المؤدي إِلى خروج دم البكر ثم أطلق على كل جماع، ومعنى {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد قال الفراء: الطمث الافتضاض وهو النكاح بالتدمية {مُدْهَآمَّتَانِ} سوداوان من شدة الخضرة، والدهمةُ في اللغة السواد {نَضَّاخَتَانِ} فوارتان بالماء لا تنقطعان {عَبْقَرِيٍّ} طنافس جمع عبقرية أي طنفسة ثخينة فيها أنواع النقوش قال الفراس: العبقري الطنافس الثخان منها وقال أبو عبيد: كل ثوبٍ وشي عند العرب فهو عبقري منسوب إِلى أرضٍ يعمل فيها الوشي قال ذو الرمة:
حتى كأن رياض القف ألبسها ... من وشي عبقر تجليل وتنجيد
التفسِير: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} أي وللعبد الذي يخاف قيامه بين يدي ربه للحساب جنتان: جنةٌ لسكنه، وجنةٌ لأزواجه وخدهة، كما هي حال ملوك الدنيا حيث يكون له قصرٌ ولأزواجه قصر قال القرطبي: وإِنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من وجهة إِلى جهة وقال(3/281)
الزمخشري: جنة الفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي وفي الحديث «جنتان من قضة آنيتُهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إِلى ربهم عَزَّ وَجَلَّ إِلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثم وصف تعالى الجنتين فقال {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} أي ذواتا أغصان متفرعة وثمار متنوعة قال في البحر: وخصَّ الأفنان وهي الغصون بالذكر لأنهما لا تورق وتمثر، ومنها تمتد الظلال وتُجنى المثار {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذكبان يا معشر الإِنس والجن {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي في كل واحدة من الجنتين عين جارية، تجري بالماء الزلال كقوله تعالى {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية: 12] قال ابن كثير: أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان، فتثمر من جميع الألوان قال الحسن: تجريان بالماء الزلال إِحداهما التسنيم، والأخرى السلسبيل {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} أي فيهما من جميع أنواع الفواكه والثمار صنفان: معروفٌ، وغريب لم يعرفوه في الدنيا قال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرةٌ حلوة ولا مرة إِلا وهي في الجنة حتى الحنظل، إِلا أنه حلو، وليس في الدنا مما في الآخرة إلآَ الأسماء {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره قال الفخر الرازي: إِن قوله تعالى {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} و {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} و {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} كلها أوصافٌ للجنتين المذكورتين، وإنما فصل بين الأغصان والفواكه بذكر العينين الجاريتين على عادة المتنعمين، فإِنهم إِذا دخلوا البستان لا يبادرون إِلى أكل الثمار، بل يقدمون التفرج على الأكل، مع أن الإِنسان في بستان الدنيا لا يأكل حتى يجوع ويشتهي شهوة شديدة فكيف في الجنة!! فذكر تعالى ما يتم به النزة وهو خضرة الأشجار، وجريان الأنهار، ثم ذكر ما يكون بعد النزهة وهو أكل الثمار، فسبحان من يأتي بالآيات بأحسن المعاني في أبين المباني {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} أي مضطجعين في جنان الخلد على فرشٍ وثيرة بطائنها من ديباج وهو الحرير السميك المزين بالذهب، وهذا يدل على نهاية شرفها لأن البطانة إِذا كانت بها الوصف فما بالك بالظهارة؟ قال ابن مسعود: هذه البطائن فيكف لو رأيتم الظواهر؟ وقال ابن عباس: لما سئل عن الآية: ذلك مما قال الله تعالى
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} أي ثمرها قريب يناله القاعد والقائم والنائم، بخلاف ثمار الدنيا فإِنها لا تنال إِلا بكدٍ وتعب قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجتنيها وليُ الله إِن شاء قائماً، وإِن شاء قاعداً، وإِن شاء مضطجعاً {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف} أي في تلك الجنان نساء قاصرات الطرف قصرن أعينهن على أزواجهن فلا يرين غيرهم، م كما هو حال المخدَّرات العفائف {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} أي لم يمسهنَّ ولم يجامعهن أحدٌ قبل أزواجهنَّ لا من الإِنس ولا من الجن، بل هنَّ أبكار عذارى قال الألوسي: وأصلُ الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمثٌ، ثم أُطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم، ثم على كل جماع وإِن لم يكن فيه خروج دم {فَبِأَيِّ(3/282)
آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} أي كأنهن يشبهن الياقوت والمرجان في صفائهن وحمرتهن قال قتادة: كأنهن في صفاء الياقوت وحمرة المرجان، لو أدخلت في الياقوت سلكاً ثم نظرت إِليه لرأيته من ورائه وفي الحديث «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبيعن حلة من حرير، حتى يُرى مخُّها» {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إِلا أن يُحسن إِليه في الآخرة قال أبو السعود: أي ما جزاء الإِحسان في العمل، إِلا الإِحسان في الثواب والغرضُ أنَّ من قدم المعروف والإِحسان استحق الإِنعام والإِكرام {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} أي ومن دون تلك الجنتين في الفضيلة والقدر جنتان أخريان قال المفسرون: الجنتان الأوليان للسابقين، والأخريان لأصحاب اليمين ولا شك أن مقام السابقين أعظم وأرفع لقوله تعالى
{فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 811] {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا معشر الإِنس والجن؟ {مُدْهَآمَّتَانِ} أي سوداوان من شدة الخضرة والريّ قال الألوسي: والمراد أنها شديدتا الخضرة، والخضرةُ إِذا اشتدت ضربت إِلى السواد وذلك من كثرة الريّ بالماء {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي فوارتان بالماء لا تنقطعان وقال ابن مسعود وابن عباس: تنْضَخُ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كزخ المطر {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} أي في الجنتين من أنواع الفواكه كلها وأنواع النخل والرمان، وإِنما ذكر النخل والرمان تنبيهاً على فضلهما وشرفهما على سائر الفواكه ولأنهما غالب فاكهة العرب قال الألوسي: ثم إِن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} أي في تلك الجنان نساء صالحات كريمات الأخلاق، حِسان الوجوه {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} أي هنَّ الحورُ العين المخدرات المستورات لا يخرجن لكرامتهن وشرفهن، قد قصرن في خدورهن في خيام اللؤلؤ المجوَّف، قال أبو حيان: والنساء تُمدح بذلك إِذ ملازمتهن البيوت تدل على صيانتهن قال الحسن: ليس بطوَّافات في الطرق، وخيامٌ الجنة بيوت اللؤلؤ، وفي الحديث «إنَّ في الجنة خيمةً من لؤلؤةٍ مجوفة، عرضها ستون ميلاً، في كل زوايةٍ منها أهلٌ ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون» {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تقدم تفسيره {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} أي لم يجامعهن ولم يغشهن أحد قبل أزواجهم لا من الإِنس ولا من الجن قال في التسهيل: الجنتان المذكورتان أولاً للسابقين، والجنتان المذكورتان ثانياً لأصحاب اليمين، وانظر(3/283)
كيف جعل أوصاف الجنتين الأوليين أعلى من أوصاف الجنتين اللتين بعدهما، فقال هناك {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} وقال هنا {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} والجريُ أشدُّ من النضح، وقال هناك {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} وقال هنا {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} والأول أعم وأشمل، وقال في صفة الحور هناك {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} وقال هنا {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} وليس كل حُسْنٍ كحسن الياقوت والمرجان فالوصف هناك أبلغ، وقال هناك في وصف الفرش {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وهو الديباج وقال هنا {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} ولا شك أن الفرش المعدَّة للاتكاء أفضل من فضل الخباء {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعم الله الجليلة تكذبان يا مشعر الإِنس والجن؟ {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} أي مستندين على وسائد خضر من وسائد الجنة {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} أي وطنافس ثخينة مزخرفة، محلاَّة بأنواع الصور والزينة قال الصاوي: وهي نسبة إِلى «عبقر» قرية بناحية اليمن، يُنسج فيها بسط منقوشة بلغت النهاية في الحسن، فقرَّب الله لنا فرش الجنتين بتلك البسط المنقوشة {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي فبأي نعمةٍ من نعم الله تعالى تكذبان يا معشر الإِنس والجن {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ} أي تنزه وتقدَّس الله العظيم الجليل، وكثرت خيراته وفاضت بركاته {ذِي الجلال والإكرام} أي صاحب العظمة والكبرياء، والفضل والإِنعام قال في البحر: لما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله
{ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27] ختم نعم الآخرة بقوله {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} وناسب هناك ذكر البقاء والديمومة له تعالى بعد ذكر فناء العالم، وناسب هنا ذكر البركة وهي النماء والزيادة عقب امتنانه على المؤمنين في دار كرامته وما آتاهم من الخير والفضل في دار النعيم.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيا يلي:
1 - المقابلة اللطيفة بين {والسمآء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] وبين {والأرض وَضَعَهَا} [الرحمن: 10] وكذلك المقابلة بين {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار} [الرحمن: 14] {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 15] .
2 - التشبيه المرسل المجمل {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} [الرحمن: 24] أي الجبال في العظم.
3 - المجاز المرسل {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] أي ذاته المقدسة وهو من باب إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.
4 - الاستعارة التمثيلية {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} [الرحمن: 31] شبَّه انتهاء الدنيا وما فيها من تدبير شئون(3/284)
الخلق ومجيء الآخرة وبقاء شأن واحد وهو محاسبة الإِنس والجن بفراغ من يشغله أمور فتفرَّغ لأمرٍ واحد، والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن وإِنما هو على سبيل التمثيل.
5 - الأمر التعجيزي {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ. . فانفذوا} [الرحمن: 33] فالأمر هنا للتعجيز.
6 - التشبيه البليغ {فَإِذَا انشقت السمآء فَكَانَتْ وَرْدَةً} [الرحمن: 37] أي كالوردة في الحمرة حذف وجه الشبه وأداة التشبيه فصار بليغاً.
7 - الجناس الناقص {وَجَنَى الجنتين} لتغير الشكل والحروف، ويسمَّى جناس الاشتقاق.
8 - الإِيجاز بحذف الموصوف وإِبقاء الصفة {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف} أي نساءٌ قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إِلى غيرهم.
9 - السجع المرصَّع غير المتكلف كأنه حبات در منظومة في سلكٍ واحد إقرأ قوله تعالى {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 14] وأمثاله في السورة كثير.
فَائِدَة: تسمى سورة الرحمن «عروس القرآن» لما ورد «لكل شيء عروسٌ، وعروسُ القرآنِ سورةُ الرحمن» .(3/285)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
اللغَة: {رُجَّتِ} زلزلت وحرّكت تحريكاً شديداً {بُسَّتِ} فُتِّت حتى صارت كالدقيق المبسوس {هَبَآءً} الهباء ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة {ثُلَّةٌ} جماعة من ثللت الشيء أي قطعته قاله الزجاج فمعنى ثُلة كمعنى فرقة وزناً ومعنى {مَّوْضُونَةٍ} منسوجة محكمة النسج كأن بعضها أُدخل في بعض قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة ... تُساق مع الحيّ عسيراً فعيراً
{يُصَدَّعُونَ} صُدع القوم الخمر لحقهم الصُداع في رءوسهم منها {يُنزِفُونَ} يسكرون فتذهب عقولهم {مَّخْضُودٍ} خُضد شوكه أي قُطع قال أمية بن أبي الصلت:
إن الحدائقَ في الجنان ظليلةٌ ... فيها الكواعبُ سِدْرها مخْضود
{طَلْحٍ} الطلح: شجر الموز {مَّنضُودٍ} متراكب بضعه فوق بعض {عُرُباً} جمع عروب وهي(3/287)
المتحببة إِلى زوجها {سَمُومٍ} ريح حارة تدخل في مسام البدن {يَحْمُومٍ} اليحموم الشديد السواد {الحميم} الماء المغلي {الهيم} الإِبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها.
التفسِير: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} أي إِذا قامت القيامة التي لا بد من وقوعها، وحدثت الداهية الطامة التي ينخلع لها قلب الإِنسان، كان من الأهوال ما لا يصفه الخيال قال البيضاوي: سميت واقعة لتحقق وقوعها وقال ابن عباس: الواقعة اسم من أسماء القيامة كالصاخة والآزفة والطامة، وهذه الأشياء تقتضي عظم شأنها {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي لا يكون عند وقوعها نفس كاذبة تكذِّب بوقوعها كحال المكذبين اليوم، لأن كل نفسٍ تؤمن حنيئذٍ لأنها ترى العذاب عياناً كقوله تعالى {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ} [غافر: 84] {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي هي خافضة لأقوام رافعةٌ لآخرين، تخفض أعداء الله في النار، وترفع أولياء الله في الجنة قال الحسن: تخفض أقواماً إِلى الجحيم وإِن كانوا في الدنيا أعزة، وترفع آخرين إِلى أعلى عليين وإن كانوا في الدنيا وضعاء. . ثم بيَّن تعالى متى يكون ذلك فقال {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً} أي زلزلت زلزالاً عنيفاً، واضطربت اضطراباً شديداً، بحيث ينهدم كل ما فوقها من بناء شامخ، وطودٍ راسخ قال المفسرون: تُردُّ كما يرجُّ الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها من بناء، وينكسر كل ما فيها من جبال وحصون {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} أي فتُتت تفتيتاً حتى صارت كالدقيق المبسوس وهو المبلول بعد أن كانت شامخة {فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} أي فصارت غباراً متفرقاً متطايراً في الهواء، كالذي يُرى في شعاع الشمس إِذا دخل النافذة فهذا هو الهباء، والمنبثُّ المتفرق، وهذه الآية كقوله تعالى {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] وقوله {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ: 20] {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً} أي وكنتم أيها الناس أصنافاً وفرقاً ثلاث «أهل اليمين، وأهل الشمال، وأهل السبق» فأما السابقون فهم أهل الدرجات العُلى في الجنة، وأما أصحاب اليمين فيهم سائر أهل الجنة، وأما أصحاب الشمال فهم أهل النار، وهذه مراتب الناس في الآخرة قال ميمون بن مهران: اثنان في الجنة وواحد في النار، ثم فصَّلهم تعالى بقوله {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة} ؟ استفهام للتفخيم والتعظيم أي هل تدري أيُّ شيء أصحاب الميمنة؟ من هم وما هي حالهم وصفتهم؟ إنهم الذين يؤتون صحائفهم في أيمانهم، فهو تعجيبٌ لحالهم، وتعظيم لشأنهم في دخولهم الجنة وتنعمهم بها {وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة} ؟ أي هل تدري من هم؟ وما هي حالهم وصفتهم، إنهم الذين يؤتون صحائفهم بشمالهم، ففيه تعجب لحالهم في دخولهم النار وشقائهم قال القرطبي: والتكرير في {مَآ أَصْحَابُ الميمنة} و {مَآ أَصْحَابُ المشأمة} للتفخيم والتعجيب كقوله
{الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 12] وقوله {القارعة مَا القارعة} [القارعة: 12] وقال(3/288)
الألوسي: والمقصود التفخيم في الأول، والتفظيع في الثاني، وتعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفطاعة كأنه قيل: فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال، وأصحاب المشأمة في غاية سوء الحال {والسابقون السابقون} هذا هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة أي والسابقون إِلى الخيرات والحسنات، هم السابقون إِلى النعيم والجنات، ثم أثنى عليهم بقوله {أولئك المقربون} أي أولئك هم المقربون من الله، في جواره، وفي ظل عرشه، ودار كرامته {فِي جَنَّاتِ النعيم} أي هم في جنات الخلد يتنعمون فيها قال الخازن: فإن قلت: لم أخَّر ذكر السابقين وكانوا أولى بالتقديم على أصحاب اليمين؟ قلت: فيه لطيفة وذلك أنَّ الله ذكر في أول السورة الأمور الهائلة عند قيام الساعة تخويفاً لعباده، فإِما محسنٌ فيزداد رغبةً في الثواب، وإِمّا مسيء فيرجع عن إِساءته خوفاً من العقاب، فلذلك قدَّم أصحاب اليمين ليسمعوا ويرغبوا، ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا، ثم ذكر السابقين وهم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ليجدوا ويجتهدوا {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} أي السابقون المقربون جماعة كثيرة من الأمم السالفة {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} أي وهم قليلٌ من هذه الأمة قال القرطبي: وسمُّوا قليلاً بالإِضافة إلى من كان قبلهم، لأن الأنبياء المتقدمين كانوا كثرة، فكثر السابقون إِلى الإيمان منهمن فزادوا على عدد من سبق إِلى التصديق من أمتنا، قال الحسن: سابقوا من مضى أكثر من سابقينا ثم تلا الآية وقيل: إن المراد بقوله {والسابقون السابقون} أول هذه الأمة، والآخرون والمتأخرون من هذه الأمة، فيكون كلا الفريقين من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} أي جالسين على أسرَّة منسوجة بقضبان الذهب، مرصعَّة بالدر والياقوت قال ابن عباس: {مَّوْضُونَةٍ} أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به {مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} أي حال كونهم مضطجعين على تلك الأسرَّة شأن المنعَّمين المترفين {مُتَقَابِلِينَ} أي وجوه بضعهم إلى بعض، ليس أحد وارء أحد، وهذا أدخل في السرور، وأكمل في أدب الجلوس {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} أي يدور عليهم للخدمة أطفال في نضارة الصبا، لا يموتون ولا يهرمون قال أبو حيان: وُصفوا بالخلد وإِن كان كل من في الجنة مخلداً ليدل على أنهم يبقون دائماً في سنِّ الولدان، لا يتحولون ولا يكبرون كما وصفهم جل وعلا {بِأَكْوَابٍ} أي بأقداح كبيرة مستديرة لا عُرى لها {وَأَبَارِيقَ} جمع إِبريق أي وبأباريق لها عُرى تبرق من صفاء لونها {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} أي وكأسٍ من خمرٍ لذلة جارية من(3/289)
العيون قال ابن عباس: لم تعصر كخمر الدنيا بل هي من عيون سارحة قال القرطبي: والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون، ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصرٍ وتكلف ومعالجة {لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي لا تنصدع رءوسهم من شربها {وَلاَ يُنزِفُونَ} أي ولا يسكرون فتذهب بعقولهم فتذهب بعقولهم كخمر الدنيا قال ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السُّكرُ والصُّداع، والقيءُ، والبول، وقد ذكر تعالى خمر الجننة ونزَّهها عن هذه الخصال الذميمة {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي ولهم فيها فاكهة كثيرة يختارون ما تشتهيه نفوسهم لكثرتها وتنوعها {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} أي ولحم طيرٍ مما يحبون ويشتهون قال ابن عباس: يخطر على قلب أحدهم لحم الطير فيطير حتى يقع بين يديه على ما اشتهى مقلياً أو مشوياً وفي الحديث
«إنك لتنظر إِلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً» قال الرازي: وقدَّم الفاكهة على اللحم لأن أهل الجنة يأكلون لا عن جوع بل للتفكه، فميلهم إِلى الفاكهة أكثر كحال الشبعان في الدنيا فلذلك قدمها {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} أي ولهم مع ذلك النعيم نساء من الحور العين، الواسعات العيون، في غاية الجمال والبهاء، كأنهن اللؤلؤ في الصفاء والنقاء، الذي لم تمسه الأيدي قال في التسهيل: شبههن باللؤلؤ في البياض، ووصفه بالمكنون لأنه أبعد عن تغيير حسنه، وحين «سألت» أم سلمة «رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن هذا التشبيه قال» صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي « {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جعلنا لهم ذلك كله جزاءً لعملهم الصالح في الدنيا. . ثم أخبر تعالى عن مال نعيمهم في الجنة فقال {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} أي لا يطرق آذانهم فاحشٌ الكلام، ولا يلحقهم إِثمٌ ما يسمعون قال ابن عباس: لا يسمعون باطلاً ولا كاذباً {إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} أي إلا قول بعضهم لبعضٍ سلاماً سلاماً، يُحيي به بعضهم بعضاً ويفشون السلام فيما بينهم قال في البحر: والظاهر أنه استثناء منقطع لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم وقال أبو السعود: والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلمون سلاماً بعد سلام، أو لا يسمع كلٌ منهم إِلا سلام الآخر بدءاً أو ردّاً.
. ثم شرع في تفصيل أحوال الصنف الثاني وهم أصحاب اليمين فقال {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} ؟ استفهام للتعظيم والتعجيب من حالهم أي ما أدراك من هم، وما هي حالهم؟ {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} أي هم تحت أشجار النبق الذي قطع شوكه قال المفسرون: والسِّدرُ: شجر النبق، والمخضود الذي خُضد أي قُطع شوكه، وفي الحديث «أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: إن الله تعالى ذكر في الجنة شجرة تؤذي صاحبها، فقال: وما هي؟ قال: السدر فإِن له شوكاً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أليس اللهُ يقول {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} ؟ خضَدَ اللهُ شوكه فجعل مكان كل شوكةٍ ثمرة، وإِن الثمرة من ثمره تفتَّق عن اثنين وسبعين(3/290)
لوناً من الطعام، ما فيها لونٌ يشبه الآخر» {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} هو شجر الموز ومعنى {مَّنضُودٍ} أي متراكم قد نُضد بالحمل من أسفله إِلى أعلاه {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} أي وظل دائم باقٍ لا يزول ولا تنسخه الشمس، لأن الجنة ظل كلها لا شمس فيها {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} [الإِنسان: 13] وفي الحديث «إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} » وقال الرازي: ومعنى {مَّمْدُودٍ} أي لا زوال له فهو دائم {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد: 35] أي دائم، والظلُّ ليس ظل الأشجار، بل ظل يخلقه الله تعالى {وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ} أي وماءٍ جارٍ دائماً لا ينقطع يجري في غير أخدود قال القرطبي: كانت العرب أصحاب بادية، والأنهار في بلادهم عزيزة، لا يصلون إِلىلماء إِلا بالدلو والرشاء، فوعدوا بالجنة بأسباب النزهة وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار وجريانها {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} أي وفاكهةٍ كثيرة متنوعة، ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم، لا تنقطع كما تنقطع ثمار الدنيا في الشتاء، وليست ممنوعة عن أحد، قال ابن عباس: لا تنقطع إِذا جُنيت، ولا تمتنع من أحدٍ إِذا أراد أخذها وفي الحديث «ما قُطعت ثمرةٌ من ثمار الجنة إِلا عاد مكانها أخرى» {وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أي عالية وطيئة ناعمة وفي الحديث «ارتفاعها كما بين السماء والأرض، ومسيرة ما بينهما خمس مائة عام» قال الألوسي: ولا تستبعد هذا من حيث العروجُ والنزولُ، فالعالم عالم آخر فوق طور عقلك تنخفض للمؤمن إِذا أراد الجلوس عليها ثم ترتفع به، والله على كل شيء قدير {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً} أي خلقنا نساء الجنة خلقاً جديداً، وأبدعناهن إِبداعاً عجيباً، قال في التسهيل: ومعنى إنشاء النساء أن الله تعالى يخلقهن في الجنة خلقاً آخر في غاية الحسن بخلاف الدنيا، فالعجوز ترجع شابة، والقبيحة ترجع جميلة قال ابن عباس: يعني الآدميات العجائز الشمط خلقهن الله بعد الكبر الهرم خلقاً آخر {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} أي فجعلناهن عذارى، كلما أتاهنَّ أزواجهن وجدوهنَّ أبكاراً {عُرُباً} جمع عروب وهي المتحببة لزوجها العاشقة له قال مجاهد: هنَّ العاشقات لأزواجهن المتحببات لهن اللواتي يشتهين أزواجهن {أَتْرَاباً} أي مستويات في السنِّ مع أزواجهن، في سنّ أبناء ثلاث وثلاين، عن أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت:
«سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله تعالى {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً} فقال يا أم سلمة: هنَّ اللواتي قُبضن في الدنيا عجائز، شُمطاً عُمشاً، رُمصاً، جعلهن الله بعد الكِبر أتراباً على ميلادٍ واحد في الاستواء» وفي الحديث «أن امرأة عجوزاً جاءت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت يا رسول الله: أُدع الله أن يُدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان إِن الجنة لا تدخلها(3/291)
عجوز، فولَّت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، فإن الله تعالى يقول {إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} » {لأَصْحَابِ اليمين} أي أنشأنا هؤلاء النساء الأبكار لأصحاب اليمين ليستمتعوا بهنَّ في الجنة، ثم قال تعالى {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} أي هم جماعة من الأولين من الأمم الماضية، وجماعة من المتأخرين من أُمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال في البحر: ولا تنافي بين هذه الآية {وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} وبين الآية التي سبقتها وهي قوله {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} لأن الثانية في السابقين فلذلك قال {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} وهذه في أصحاب اليمين ولذلك قال {وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} . . ثم شرع تعالى في بيان الصنف الثالث وهم أهل النار فقال {وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال} استفهام بمعنى التهويل والتفظيع والتعجيب من حالهم أي وأصحابُ الشمال وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم ما أصحاب الشمال؟ أي ما حالهم وكيف مآلهم؟ ثم فصَّل تعالى حالهم فقال {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} أي في ريح حارة من النار تنفذ في المسام، وماءٍ شديد الحرارة {وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} أي وفي ظلٍ من دخان أسود شديد السواد {لاَّ بَارِدٍ} أي ليس هذا الظل بارداً يستروح به الإِنسان من شدة الحر {وَلاَ كَرِيمٍ} أي وليس حن المنظر يُسرُّ به من يستفيء بظله قال الخازن: إِن فائدة الظل ترجع إِلى أمرين: أحدهما: دفع الحر، والثاني: حسن المنظر وكون الإِنسان فيه مكرماً، وظلُّ أهل النار بخلاف هذا لأنهم في ظل من دخان أسود حار. . ثم بيَّن تعالى سبب استحقاقهم ذلك فقال {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} أي لأنهم كانوا في الدنيا منعَّمين، مقبلين على الشهوات والملذات {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} أي وكانوا يداومون على الذنب العظيم وهو الشرك بالله قال المفسرون: لفظ الإَصرار يدل على المداومة على المعصية، والحنثُ هو الذنب الكبير والمراد به هنا الكفر بالله كما قاله ابن عباس {وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي هل سنبعث بعد أن تصبح أجسادنا تراباً وعظاماً نخرة؟ وهذا استبعادٌ منهم لأمر البعث وتكذيب له {أَوَ آبَآؤُنَا الأولون} ؟ تأكيدٌ للإِنكار ومبالغة فيه أي وهل سيبعث آباؤنا الأوائل بعد أن بليت أجسامهم وتفتَّتت عظامهم؟ {قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} أي قل لهم يا محمد: إن الخلائق جميعاً السابقين منهم واللاحقين، سيجمعون ويحشرون ليوم الحساب الذي حدَّده الله بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر
{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} [هود: 103104] {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} أي ثم إنكم يا معشر كفار مكة، الضالون عن الهدى، المكذبون بالبعث والنشور، لآكلون من شجر الزقوم الذي ينبت في أصل الجحيم {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} أي فمالئون بطونكم من تلك الشجرة الخبيثة لغلبة الجوع عليكم {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم} أي فشاربون عليه الماء الحار الذي اشتد غليانه {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} أي فشاربون شرب الإِبل العطاش قال ابن عباس: الهيمُ الإِبل(3/292)
العطاش التي لا تروى لداء يصيبها وقال أبو السعود: إنه يسلط على أهل النار من الجوع ما يضطرهم إِلى أكل الزقوم الذي هو كالمُهل، فإِذا ملأوا منه بطونهمه وهو في غاية الحرارة والمرارة سُلِّط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم وهي الإِبل التي بها الهيام وهو داء يصيبها فتشرب ولا تروى {هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين} أي هذه ضيافتهم وكرامتهم يوم القيامة، وفيه تهكم بهم قال الصاوي: والنُزُل في الأصل ما يهيأ للضيف أول قدومه من التحف والكرامة، فتسمية الزقوم نُزلاً تهكم بهم.(3/293)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الأشقياء المجرمين وأحوالهم في نار جهنم، ذكر هنا الأدلة والبراهين على قدرة الله ووحدانيته في بديع خلقه وصنعه، لتقوم الحجة على المنكر المكذب بوجود الله، وختم السورة الكريمة بالتنويه بذكر أهل السعادة، وأهل الشقاوة، والسابقين إِلى الخيرات، ليكون ذلك كالتفصيل لما ورد في أول السورة من الإِجمال، والإِشادة بذكر مآثر المقربين في البدء والمآل.
اللغَة: {تَفَكَّهُونَ} تفكَّه بالشيء تمتَّع به، ورجلٌ فَكه منبسط النفس غير مكترث بشيء {المزن} السحاب جمع مُزْنة قال الشاعر:(3/293)
ونحن كماء المُزن ما في نصابها ... كَهَامٌ ولا فينا يُعدُّ بخيل
{تُورُونَ} أورى النار من الزناد قدحها {لِّلْمُقْوِينَ} المسافرين يقال أقوى الرجل إِذا دخل القواء وهو القفر، والقوى الجوع قال الشاعر:
وإِني لأختار القوى طاوي الحشا ... محافظةً من أن يُقال لئيم
{مُّدْهِنُونَ} المدهن: الذي ظاهرة خلاف باطنة، كأنه شُبّه بالدهن في سهولة ظاهره ومنه المداهنة {مَدِينِينَ} مجزيين ومحاسبين من الدين بمعنى الجزاء {فَرَوْحٌ} الرُّوح بفتح الراء الاستراحة {رَيْحَانٌ} الريحان: كل مشموم طيب الريح من النبات.
التفسِير: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ} أي نحن خلقناكم أيها الناسُ من العدم، فهلاَّ تصدقون بالبعث؟ فإِن من قدر على البدء قادرٌ على الإِعادة {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} أي أخبروني عمَّا تصبُّونه من المنيّ في أرحام النساء {أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} ؟ أي هل أنتم تخلقون هذا المنيَّ بشراً سوياً، أم نحن بقدرتنا خلقناه وصوَّرناه؟ {قال القرطبي: وهذا احتجاج على المشركين وبيانٌ للآية الأولى والمعنى إِذا أقررتم بأنا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} أي نحن قضينا وحكمنا عليكم بالموت وساوينا بينكم فيه قال الضحاك: ساوى فيه بين أهل(3/294)
السماء والأرض، سواء في الشريف والوضيع، والأمير والصعلوك {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي وما نحن بعاجزين {على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي على أن نهلككم ونستبدل قوماً غيركم يكونون أطوع لله منكم كقوله تعالى {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي ولسنا بعاجزين أيضاً أن نعيدكم يوم القيامة في خلقةٍ لا تعلمونها ولاتصل إِليها عقولكم، والغرضُ أن الله قادر على أن يهلكهم وأن يعيدهم وأن يبعثهم يوم القيامة، ففي الآية تهديد واحتجاج على البعث {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} أي ولقد عرفتم أن الله أنشأكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، فخلقكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة {فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} أي فهلا تتذكرون بأن الله قادر على إعادتكم كما قدر على خلقكم أول مرة؟ {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم: 67] ؟} {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} هذه حجة أخرى على وحدانية الله وقدرته أي أخبروني عن البذر الذي تلقونه في الطين {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} ؟ أي أأنتم تنبتونه وتنشئونه حتى يكون فيه السنبل والحبُّ أم نحن الفاعلون لذلك؟ فإِذا أقررتم أن الله هو الذي يخرج الحبَّ وينبت الزرع، فكيف تنكرون إِخراجه الأموات من الأرض؟ {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} أي لو أردنا لجعلنا هذا الزرع هشيما متكسراً لا ينتفع به في طعام ولا غيره قال القرطبي: والحُطام الهشيم الهالك الذي لا يُنتفع به في مطعم ولا غذاء، فنبههم بذلك على أمرين: أحدهما: ما أولاهم به من النعم في زرعهم ليشكروه الثاني: ليعتبروا في أنفسهم فكما أنه تعالى يجعل الزرع حُطاماً إِذا شاء، كذلك يهلكهم إِذا شاء ليتعظوا فينزجروا {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي فظللتم وبقيتم تتفجعون وتحزنون على الزرع مما حلَّ به وتقولون {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي إنا لمحمَّلون الغرم في إِنفاقنا حيث ذهب زرعنا وغرمنا الحبَّ الذي بذرناه {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي بل نحن محرومون الرزق، غرمنا قيمة البذر، وحُرمنا خروج الزرع {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ} أي أخبروني عن الماء الذي تشربونه عذباً فراتاً لتدفعوا عنكم شدة العطش {أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون} أي هل أنتم الذين أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون له بقدرتنا؟ قال الخازن: ذكَّرهم تعالى نعمته عليهم بإِنزال المطر الذي لا يقدر عليه إِلا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي لو شئنا لجعلناه ماءٌ مالحاً شديد الملوحة لا يصلح لشرب ولا لزرع قال ابن عباس: {أُجَاجاً} شديد الملوحة وقال الحسن: مُرّاً زُعافاً لا يمكن شربه {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} أي فهلاّ تشكرون ربكم على نعمه الجليلة عليكم؟! وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شرب الماء قال
«الحمد لله الذي سقانا عذباً فُراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أُجاجاً بذنوبنا» {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} أي أخبروني عن النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون} أي هل أنتم خلقتم(3/295)
شجرها أم نحن الخالقون المخترعون؟ قال ابن كثير: وللعرب شجرتان: إِحداهما المرخُ، والأُخرى العُفار، إِذا أُخذ منهمنا غصنان أخضران، فحُك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار، وقيل: أراد جميع الشجر الذي توقد منه النار، لما روي عن ابن عباس أنه قال: ما من شجرة ولا عود إِلا وفيه النار سوى العُناب {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} أي جعلنا نار الدنيا تذكيراً للنار الكبرى «نار جهنم» إِذا رآها الرائي ذكر بها نار جهنم، فيخشى اللهَ ويخاف عقابه وفي الحديث «ناركم هذه التي توقدون جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم، فقالوا يا رسول الله: إِنْ كانت لكافية!! فقال: والذي نفسي بيده لقد فضّلت عليها بتسعة وتسعين جزءاً، كلهن مثل حرها»
{وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ} أي ومنفعقةً للمسافرين قال ابن عباس: {المقوين} المسافرين، وقال مجاهد: للحاضر والمسافر، المستمتعين بالنار من الناس أجمعين قال الخازن: والمقوي النازلُ في الأرض القواء وهي الأرض الخالية البعيدة عن العمران والمعننى أنه ينتفع بها أهل البوادي والسُفَّار، فإِن منفعتهم أكثر من المقيم، فإِنهم يوقدون النار بالليل لتهرب السباع ويهتدي بها الضال إِلى غير ذلك من المنافع وهو قول أكثر المفسرين. . ولما ذكر دلائل القدرة والوحدانية في الإِنسان، والنبات، والماء، والنار، أمر رسوله بتسبيح الله الواحد القهار فقال {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} أي فنزِّه يا محمد ربك عما أضافه إليه المشركون من صفات العجز والنقص وقل: سبحان من خلق هذه الأشياء بقدرته، وسخَّرها لنا بحكمته، سبحانه ما أعظم شأنه، وأكبر سلطانه! {عدَّد سبحانه وتعالى نعمه على عباده، فبدأ بذكر خلق الإٍنسان فقال {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} ثم بما به قوامه ومعيشته وهو الزرع فقال {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ثم بما به حياته وبقاؤُه وهو الماء فقال {أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ} ثم بما يصنع به طعامه، ويصلح به اللحوم والخضار وهو النار فقال {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} فيا له من إله كريم، ومنعمٍ عظيم} ! ثم شرع بالقسم على جلال القرآن ورفعته، وعلو شأنه ومنزلته، وأنه تنزل العزيز الحكيم فقال {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} اللام لتأكيد الكلام وتقويته، وزيادة «لا» كثير في كلام العرب ومشهور قال الشاعر:
تذكرتُ ليلى فاعترتني صبابةٌ ... وكادَ نياطُ القلب لا يتقطَّع
اي كاد يتقطع قال القرطبي: «لا» صلة في قول أكثر المفسرين والمعنى «فأقسم» بدليل قوه بعده {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} أي فأقسم بمنازل النجوم وأماكن دورانها في أفلاكها وبروجها {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ(3/296)
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أي وإِن هذا القسم العظيم جليل، لو عرفتم عظمته لآمنتم وانتفعتم به، لما في المقسم به من الدلالة على عظيم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة، ومن مقتضيات رحمته تعالى أن لا يترك عباده سُدى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} هذا هو المقسم عليه، والمعنى أقسم بمواقع النجوم إِن هذا القرآن وقرآن كريم، ليس بسحرٍ ولا كهانة وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم مجيد، جعله الله معجزة لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو كثير المنافع والخيرات والبركات {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} أي في كتاب مصونٍ عند الله تعالى، محفوظ عن الباطل وعن التبديل والتغيير قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ، وقال مجاهد: هو المصحف الذي بأيدينا {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} أي لا يمس ذلك الكتاب المكنون إِلا المطهرون، وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة من الشرك والذنوب والأحداث، أو لا يمسُّه إِلا من كان متوضئاً طاهراً قال القرطبي المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا وهو الأظهر لقول ابن عمر «لا تمسَّ القرآن إلا وأنت طاهر» ولكتاب رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعمرو بن حزم
«وألاَّ يمسَّ القرآن إِلا طاهر» {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} أي منزَّلمن عند الله جل وعلا. . ثم لمَّا عظم أمر القرآن ومجَّد شأنه وبخ الكفار فقال {أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} أي أفبهذا القرآن يا معشر الكفار تكذبون وتكفرون؟ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي وتجعلونن شكر رزقكم أنكم تكذبون برازقكم، وهو المنعم المتفضل عليكم؟ {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} أي فهلاَّ إِذا بلغت الروح الحلقوم عند معالجة سكرات الموت {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أي وأنتم في ذلك الوقت تنظرون إِلى المحتضر وما يكابده من شدائد وأهوال {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} أي ونحن بعلمنا واطلاعنا أقرب إلى الميت منكم ولكنْ لا تعلمون ذلك، ولا تبصرون ملائكتنا الذين حضروه لقبض روحه قال ابن كثير: ومعنى الآية ملائكتنا أقرب إِليه منكم ولكن لا ترونهم كما قال تعالى {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي فهلاَّ إن كنتم غير مجزيين بأعمالكم كما تزعمون {تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي تردون نفس هذا الميت إلى جسده بعد ما بلغت الحلقوم قال ابن عباس: {غَيْرَ مَدِينِينَ} أي غير محاسبين ولا مجزيين قال الخازن: أجاب عن قوله {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} وعن قوله {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}(3/297)
بجواب واحد وهو قوله {تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ومعنى الآية: إِن كان الأمر كما تقولون أنه لا بعث ولا حساب، ولا إله يجازي، فهلاّ تردون نفس من يعزُّ عليكم إِذا بلغت الحلقوم؟ وإِذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر إِلى غيركم وهو الله تعالى فآمنوا به. . ثم ذكر تعالى طبقات الناس عند الموت وعند البعث، وبيَّن درجاتهم في الآخرة فقال {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} أي فأما إِن كان هذا الميت من المحسنين السابقين بالدرجات العلا، فله عند ربه استراحة ورزق حسن وجنة واسعة يتنعم فيها قال القرطبي: والمراد بالمقربين السابقون المذكورون في أول السورة {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} أي وأما إِن كان المحتضر من السعداء أهل الجنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} أي فسلامٌ لك يا محمد منهم، لأنهم في راحةٍ وسعادة ونعيم {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين} أي وأما إِن كان المحتضر من المنكرين للبعث، الضالين عن الهدى والحق {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} أي فضيافتهم التي يُكرمون بها أول قدومهم، الحميمُ الذي يصهر البطون لشدة حرارته قال في التسهيل: النُزل أول شيءٍ يُقدم للضيف {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي ولهم إِصلاءٌ بنار جهنم وإِذاقة لهم من حرها {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} أي إن هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من جزاء السابقين، والسعداء، والأشقياء لهو الحقُّ الثابت الذي لا شك فيه ولا ريب، وهو عين اليقين الذي لا يمكن إِنكاره {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} أي فنزِّه ربك عن النقص والسوء، وعمَّا يصفه به الظالمون، لما نزلت هذه الآية الكريمة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اجعلوها في سجودكم» .
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - جناس الاشتقاق {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] والجناس الناقص في قوله {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} .
2 - الطباق بين {الميمنة. . والمشأمة} وبين {الأولين. . والآخرين} وبين {خَافِضَةٌ. . رَّافِعَةٌ} وفي إِسناد الخفض والرفع إِلى القيامة مجاز عقلي، لأن الخافض والرافع على الحقيقة هو الله وحده، يرفع أولياءه ويخفض أعداءه، ونسب إِى القيامة مجازاً كقولهم «نهاره صائم» .
3 - التشبيه المرسل المجمل {حُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 2223] أي كأمثال اللؤلؤ في بياضه وصفائه، حذف منه وجه الشبه فهو مرسل مجمل.
4 - التفخيم والتعظيم {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] كرره بطريق الاستفهام تفخيماً.
5 - التفنن بذكر أصحاب الميمنة ثم بذكر أصحاب اليمين، وكذلك بذكر المشئمة وذكر أصحاب الشمال {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة} [الواقعة: 8] {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين} [الواقعة: 27] .
6 - تأكيد المدح بما شبه الذم {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الواقعة: 2526] لأن(3/298)
السلام ليس من جنس الغو والتأثيم، فهو مدح لهم بإِفشاء السلام، وهذا كقول القائل «لا ذنب لي إلا محبتُك» .
7 - التهكم والاستهزاء {هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين} [الواقعة: 56] أي هذا العذاب أول ضيافتهم يوم القيامة ففيه سخرية وتهكم بهم لأن النزل هو أول ما يقدم للضيف من الكرامة.
8 - الالتفات من الخطاب إِلى الغيبة {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون} [الواقعة: 51] ثم قال بعد ذلك ملتفتاً عن خطابهم {هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين} [الواقعة: 56] وذلك للتحقير من شأنهم، والأصل هذا نزلكم.
9 - الجملة الاعتراضية وفائدتها لفت الأنظار إِلى أهمية القسم {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} جاءت الجملة الاعتراضية {لَّوْ تَعْلَمُونَ} بين الصفة والموصوف للتهويل من شأن القسم.
10 - توافق الفواصل في الحرف الأخير مما يزيد في رونق الكلام وجماله مثل {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 28 30] ومثل {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} [الواقعة: 5455] ويسمى هذا بالسجع المرصَّع وهو من المحسنات البديعية.
لطيفَة: المناسبة بين المقسم به وهو النجوم وبين المقسم عليه وهو القرآن {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أن النجوم جعلها الله ليهتدي بها الناس في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يُهتدى بها في ظلمات الجهل والضلالة، وتلك ظلمات حسية، وهذه ظلمات معنوية، فالقسم جاء جامعاً بين الهدايتين: الحسية للنجوم، والمعنوية للقرآن، فهذا وجه المناسبة والله أعلم.(3/299)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
اللغَة: {سَبَّحَ للَّهِ} نزَّه الله ومجَّده وقدَّسه {العزيز} القوي الغالب على كلي شيء {الأول} السابق على جميع الموجودات {الآخر} الباقي بعد فنائها {يَلِجُ} يدخل {يَعْرُجُ} يصعد {الظاهر} بوجوده ومصنوعاته وآثاره {الباطن} بكنه ذاته عن إِدارك الأبصار له {الحسنى} المثوبة الحسنة والمراد بها الجنة {انظرونا} انتظرونا {نَقْتَبِسْ} نستضيء ونهتدي بنوركم {سُورٍ} حاجز بين الجننة والنار {الغرور} الشيطان وكل من خدع غيره فهو غار وغرور.(3/301)
التفسِير: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} أي مجَّد اللهَ ونزَّهه عن السوء كلُّ ما في الكون من إِنسان، وحيوان، ونبات قال الصاوي: والتسبيحُ تنزيهُ المولى عن كل ما لا يليق به قولاً، وفعلاً، واعتقاداً، من سبح في الأرض والماءِ إِذا ذهب وأبعد فيهما، وتسبيحُ العقلاء بلسان المقال، وتسبيح الجماد بلسان الحال أي أن ذاتها دالة على تنزيه صانعها عن كل نقص، وقيل بلسان المقال أيضاً {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإِسراء: 44] وقال الخازن: تسبيحُ العقلاء تنزيهُ الله عَزَّ وَجَلَّ عن كل سوء، وعما لا يليق بجلاله، وتسبيحُ غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه، فقيل: تسبيحه دلالته على صانعه، فكأنه ناطق بتسبيحه، وقيل: تسبيحه بالقول يدل عليه قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإِسراء: 44] أي قولهم، والحقُّ ألأن التسبيح هو القولُ الذي لا يصدر إِلا من العاقل العارف بالله تعالى، وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان: أحدهما: أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني: أن جميع الموجودات بأسرها منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن حملنا التسبيح على القول كان المراد بقوله {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} الملائكةُ والمؤمنون العارفون بالله، وإِن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي، فجميع أجزاء السموات وما فيها من شمس، وقمر، ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبالٍ، وبحار، وشجر، ودواب وغير ذلك كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال عظمة الله، منقادةٌ له يتصرف فيها كيف يشاء، فإِن قيل: قد جاء في بعض فواتح السور {سَبَّحَ للَّهِ} بلفظ الماضي، وفي بعضها {يُسَّبح للهِ} بلفظ المضارع فما المراد؟ قلت: فيه إشارة إلى كون جميع الأشياء مسبحاً لله أبداً، غير مختص بوقت دون وقت، بل هي كانت مسبحة أبداً في الماضي، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي وهو الغالب على أمره الذي لا يمانعه ولا ينازعه شيء، الحكيمُ في أفعاله الذي لا يفعل إِلا تقتضيه الحكمة والمصلحة. . ثم ذكر تعالى عظمته وقدرته فقال {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو جلا وعلا المالك المتصرف في خلقه، يحيي من يشاء، ويُميت من يشاء قال القرطبي: يميتُ الأحياء في الدنيا، ويحيي الأموات للبعث والنشور {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولفظُ {قَدِيرٌ} مبالغة في القادر لأن «فعيل» من صيغ المبالغة {هُوَ الأول والآخر} أي ليس لوجوده بداية، ولا لبقائه نهاية {والظاهر والباطن} أي الظاهرُ للعقول بالأدلة والبراهين الدالة على وجوده، الباطنُ الذي لا تدركه الأبصار، ولا تصلُ العقول إِلى معرفة كنه ذاته وفي الحديث
«أنت الأولُ فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» قال شيخ زاده: وقد فسَّر صاحب الكشاف «الباطن» بأنه غير المدرك بالحواسِ وهو تفسير بحسب التشهي يؤيد مذهبه من استحالة رؤية الله في الآخرة، والحقُّ أنه تعالى ظاهرٌ بوجوده،(3/302)
باطنٌ بكنهه، وأنه تعالى جامعٌ بين الوصفين أزلاًَ وأبداً {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالمٌ بكل ذرةٍ في الكون، لا يعزب عن عمله شيء في الأرض ولا في السماء {هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي خلقهما في مقدار ستة أيام ولو شاء لخلقهما بلمح البصر، وهو تحقيقٌ لعزته، وكمال قدرته، كما أن قوله {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض} تحقيق لحكمته، وكمال علمه {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} استواءً يليق بجلاله من غير تمثيلٍ ولا تكييفٍ {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي يعلم ما يدخل في الأرض من مطر وأموات، وما يخرج منها من معادن ونبات وغير ذلك {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي وما ينزل من السماء من الأرزاق، والملائكة، والرحمة، والعذاب، وما يصعد فيها من الملائكة والأعمال الصالحة كقوله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} أي هو جل وعلا حاضرٌ مع كل أحدٍ بعلمه وإِحاطته قال ابن عباس: هو عالمٌ بكم أينما كنتم قال ابن كثير: أي هو رقيبٌ عليكم، شهيدٌ على أعمالكم، حيث كنتم وأين كنتم، من برٍّ وبحر، في ليلٍ أو نهار، في البيوت أو القفار، الجميع في علمه على السواء، يسمع كلامكم ويرى مكانكم، ويعلم سرَّكم ونجواكم {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب على أعمال العباد، مطلع علىك ل صغيرة وكبيرة {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض} كرره للتأكيد والتمهيد لإِثبات الحشر والنشر أي هو المعبود على الحقيقة، المتصرف في الخلق كيف يشاء {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي إِليه وحده مرجع أمور الخلائق في الآخرة فيجازيهم على أعمالهم {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} أي هو المتصرف في الكون كيف يشاء، يقلِّب الليل والنهار بحكمته وتقديره، ويدخل كلاً منهما في الآخر، فتارة يطول الليل ويقصر النهار، وأُخرى بالعكس {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي هو العالم بالسرائر والضمائر، وما فيها من النوايا والخفايا، ومن كانت هذه صفته فلا يجوز أن يُعبد سواه.
. ثم لما ذكر دلائل عظمته وقدرته، أمر بتوحيده وطاعته فقال {آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي صدِّقوا بأن الله واحد وأن محمداً عبده ورسوله {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي وتصدّقوا من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف ليها، فهي في الحقيقة لله لا لكم قال في التسهيل: يعني أن الأموال التي بأيديكم إنماهي أموال الله لأنه خلقها، ولكنه متَّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء فلا تمنعوها من الإِنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه، والمقصود التحريضُ على(3/303)
الإِنفاق والتزهيد في الدنيا ولهذا قال بعده {فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أي فالذين جمعوا بين الإِيمان الصادق والإِنفاق في سبيل الله ابتغاء وجهه الكريم لهم أجر عظيم وهو الجننة قال أبو السعود: وفي الآية من المبالغات ما لا يخفى، حيث جعل الجملة اسمية {فالذين آمَنُواْ} وأعيد ذكرُ الإِيمان والإِنفاق {آمَنُواْ وَأَنفَقُواْ} وكرر الإِسناد {لَهُمْ} وفخَّم الأجر بالتنكير ووصفه بالكبير {لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} استفهام للإِنكار والتوبيخ أي أيُّ عذرٍ لكم في ترك الإِيمان بالله؟ {والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ} أي والحالُ أن الرسول صلى الل عليه وسلم يدعوكم للإِيمان بربكم وخالقكم، بالبراهين القاطعة، والحجج الدامغة {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} أي وقد أخذ الله ميثاقكم وهو العهد المؤكد بما ركز في العقول من الأدلة الدالة على وجود الله قال أبو السعود: وذلك بنصب الأدلة والتمكين من النظر وقال الخازن: أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم وأعلمكم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، وقيل: أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} شرطٌ حذف جوابه أي إِن كنتم مؤمنين في وقت من الأوقات فالآن أحرى الأوقات لقيام الحجج والبراهين عليكم. . ثم ذكر تعالى بعض الأدلة الدالة على وجوب الإيمان فقال {هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي هو تعالى الذي ينزّل على محمد القرآن العظيم، المعجز في بيانه، الواضح في أحكامه قال القرطبي: يريد بالآيات البينات القرآن وقيل: المعجزات أي لزمكم الإِيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما معه من المعجزات، والقرآنُ أكبرها وأعظمها {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} أي ليخرجكم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ في الرأفة والرحمة بكم، حيث أنزل الكتب وأرسل الرسل لهدايتكم، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} ؟ أيْ أيُّ شيءٍ يمنعكم من الإِنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم، وأنتم تموتون وتخلّفون أموالكم وهي صائرة إِلى الله تعالى؟ قال الإِمام الفخر: المعنى إِنكم ستموتون فتورثون، فهلاَّ قدمتموه في الإِنفاق في طاعة الله!! وهذا من أبلغ الحث على الإِنفاق في سبيل الله {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ} أي لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل الأعداء مع رسول الله قبل فتح مكة، مع من أنفق ماله وقاتل بعد فتح مكة قال المفسرون: وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة الإِسلام إِلى الجهاد والإِنفاق كانت أشد، ثم أعز الله الإِسلام بعد الفتح وكثَّر ناصريه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً {أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ} أي أعظم أجراً، وأرفع منزلة من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا لإِعلاء كلمة الله قال الكلبي: نزلت في «أبي بكر» لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق ماله في سبيل الله، وذبَّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} أي وكلاً ممن آمن وأنفق قبل الفتح، ومن آمن وأنفق بعد الفتح،(3/304)
وعده الله الجنة مع تفاوت الدرجات {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عالمٌ بأعمالكم، مطلع على خفاياكم ونواياكم، ومجازيكم عليه، وفي الآية وعدٌ ووعيد {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله ابتغاء رضوانه {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي يعطيه أجره على إنفاقه مضاعافً {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وله مع المضاعفة ثواب عظيم كريم وهو الجننة قال ابن كثير: أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة، ولما نزلت هذه الآية قال
«ابو الدحداح الأنصاري» يا رسول الله: وإنَّ الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإِني قد أقرضت ربي حائطي أي بستاني وله في ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه هي وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح قالت: لبيك، قال اخرجي فقد أقرضته ربي عَزَّ وَجَلَّ، فقالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها «. ثم أخبر تعالى عن المؤمنين الأبرار، وما يتقدمهم من الأنوار وهم على الصراط فقال {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} أي اذكر يوم ترى أنوار المؤمنين والمؤمنات تتلألأ من أمامهم ومن جميع جهاتهم ليستضيئوا بها على الصراط، وتكون وجوههم مضيئة كإِضاءة القمر في سواد الليل {بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي ويقا لهم: أبشروا اليوم بجنات الخلد والنعيم، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} أي الفوز الذي لا فوز بعده لأنه سبب السعادة الأبدية، روي أن نور كل أحدٍ على قدر إِيمانه، وأنهم متفاوتون في النور، فمنهم من يضيء نوره ما قرب من قدميه، ومنهم من يُطفأ نوره مرة ويظهر مرة قال الزمخشري: وإِنما قال {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم.
. ولما شرح حال المؤمنين يوم القيامة، أتبع ذلك بشرح حال المنافقين فقال {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي انتظرونا لنستضيء من نوركم قال المفسرون: إن الله تعالى يعطي المؤمنين نوراً يوم القيامة على قد أعمالهم يمشون به على الصراط، ويترك الكافرين والمنافقين بلا نور، فيستضيء المنافقون بنور المؤمنين، فبينما هم يمشون إِذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة، فبقوا في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم فيقولون للمؤمنين: انتظرونا لنستضيء بنوركم {قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً} أي فيقول لهم المؤمنون سخريةً واستهزاءً بهم: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هناك قال أبو حيان: وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو إِقناطٌ لهم {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} أي فضرب بين المؤمنين والمنافقين بحاجزٍ له باب، يحجز بين أهل الجنة وأهل النار {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} أي في باطن السور الذي هو جهة المؤمنين الرحمةُ وهي الجنة، وفي ظاهره وهو جهة الكافرين العذاب وهو النارُ قال ابن كثير: هو سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين، فإِذا انتهى إليه المؤمنون دخوله من بابه، فإِذا استكملوا دخولهم أعلق الباب(3/305)
وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} أي ينادي المنافقون المؤمنين: ألم نكن معكم في الدنيا، نصلي كما تصلون، ونصوم كما تصومون، ونحضر الجمعة والجماعات، ونقاتل معكم في الغزوات؟ {قَالُواْ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي قال لهم المؤمنون: نعم كنتم معنا في الظاهر ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} انتظرتم بالمؤمنين الدوائر {وارتبتم} أي شككتم في أمر الدين {وَغرَّتْكُمُ الأماني} أي خدعتكم الأماني الفارغة بسعة رحمة الله {حتى جَآءَ أَمْرُ الله} أي حتى جاءكم الموتُ {وَغَرَّكُم بالله الغرور} أي وخدعكم الشيطان الماكر بقوله: إن الله عفو كريم لا يعذبكم قال قتادة: ما زالوا على خُدعةٍ من الشيطان حتى قذفهم الله في نار جهنم قال المفسرون: الغرور بفتح الغين الشيطان لأنه يغر ويخدع الإنسان قال تعالى {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} [فاطر: 56] {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} أي ففي هذا اليوم العصيب لا يقبل منكم بدلٌ ولا عوضٌ يا معشر المنافقين، ولا من الكفارين الجاحدين بالله وآيات وفي الحديث «إن الله تعالى يقول للكافر: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟! فيقول: نعم يا ربّ، فيقول الله تبارك وتعالى: قد سألتك ما هو ايسرُ من ذلك في ظهر أبيك آدم، أن لا تشرك بي فأبيتَ إلا الشرك» {مَأْوَاكُمُ النار} أي مقامكم ومنزلكم نار جهنم {هِيَ مَوْلاَكُمْ} أي هو عونكم وسندكم وناصركم لا ناصر لكم غيرها، وهو تهكم بهم {وَبِئْسَ المصير} أي وبئس المرجع والمنقلب نار جهنم.
قال بعض العلماء: «السعيد من لا يغتر بالطمع ولا يركن إِلى الخدع، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل» .(3/306)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى اغترار المنافقين والكافرين بالحياة الدنيا، نبَّه المؤمنين ألا يكومنوا مثلهم، أو مثل مأهل الكتاب بالاغترار بدار الفناء، ثم ضرب مثلاً للحاية الدنيا وبهرجها الخادع الكاذب، وختتم السورة الكريمة ببيان فضيلة التقوى والعمل الصالح، وأرشد المؤمنين إلى مضاعفة الأجر والنور باتباعهم هدي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
اللغَة: {يَأْنِ} يحن يقال: أني يأْني مثل رمى يرمي أي حال، قال الشاعر:
ألم يأنِ لي يا قلب أن أترك الجهلا ... وأن يُحدث الشيب المبينُ لنا عقلاً
{تَخْشَعَ} تذل وتلين {الأمد} الأجل أو الزمان {يَهِيجُ} هاج الزرع إِذا جف ويبس بعد خضرته ونضارته {حُطَاماً} فُتاتاً يتلاشى بالرياح {قَفَّيْنَا} ألحقنا وأتبعنا {كِفْلَيْنِ} مثنى كقل وهو النصيب.
سَبَبُ النّزول: لما قدم المؤمنون المدينة، أصابوا من لين العيش وفاهيته، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا ونزلت هذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} قال ابن مسعود: «ما كان إِسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إِلا أربع سنوات» .
التفسِير: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} أي أما حان للمؤمنين أن ترقَّ(3/307)
قلوبهم وتلين لمواعظ الله؟ {وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} أي ولما نزل من آيات القرآن المبين؟ {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أعطاهم الله التوراة والإِنجيل {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي فطال عليهم الزمن الذي بينهم وبين أنبيائهم، حتى صلبت قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة قال ابن عباس: {قست قلوبهم} مالوا إِلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن وقال أبو حيان: أي صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعمة والغرض أن الله يحذِّر المؤمنين أن يكونوا مع القرآن كاليهود والنصارى حين قست قلوبهم لما طال عليهم الزمان {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي وكثير من أهل الكتاب خارجون عن طاعة الله، رافضون لتعليم دينهم، من فرط قسوة القلب قال ابن كثير: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الزمن بدَّلوا كتاب الله الذي بأيديهم، ونبذوه وراء ظهروهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد {اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي اعلموا يا معشر المؤمنين أن الله يحيي الأرض القاحلة المجدبة بالمطر، ويخرج منها النبات بعد يبسها، وهو تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر وتلاوة القرآن، كما تحيا الأرض المجدبة بالغيث الهتان قال ابن عباس: يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتةً منيبة، وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة قال في البحر: ويظهر أنه تمثيلٌ لتليين القلوب بعد قسوتها، ولتأثير ذكر الله فيها، فكما يؤثر الغيب في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلةً يظهر فيها أثر الخشوع والطاعات {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات} أي وضحنا لكم الحجج والبراهين الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تعقلوا وتتدبروا ما أنزل الله في القرآن {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً} أي الذين تصدقوا بأموالهم على الفقراء ابتغاء وجه الله، والذين أنفقوا في سبيل الله وفي وجوه البر والإِحسان طيبة بها نفوسهم {يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي يضاعف لهم ثوابهم بأن تكتب الحسنة بعشر أمثالها، ولهم فوق ذلك ثواب حسن جزيل وهو الجنة قال المفسرون: أصل {المصدقين} المتصدقين أدغمت التاء في الصاد فصارت المصدّقين، ومعنى القرض الحسن هو التصدق عن طيب النفس، وخلوص النية للفقير، فكأن الإِنسان بإِحسانه إِلى الفقير قد أقرض اللهَ قرضاً يستحق عليه الوفاء في دار الجزاء {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} أي صدَّقوا بوحدانية الله ووجوده، وآمنوا برسله إِيماناً راسخاً كاملاً، لا يخالجه شك ولا ارتياب {أولئك هُمُ الصديقون والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ} أي أولئك الموصوفون بالإِيمان بالله ورسله، هم الذين جمعوا أعلى المراتب فحازوا درجة الصديقية والشهادة في سبيل الله قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صدِّيقٌ وشهيد {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي لهم في الآخرة الثواب الجزيل، والنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم} أي والذين(3/308)
جحدوا بوحدانية الله وكذبوا بآياته أولئك هم المخلدون في دار الجحيم قال البيضاوي: فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار، ومن حيث أن الصيغة تشعر بالاختصاص {أولئك أَصْحَابُ الجحيم} والصحبة تدل على الملازمة.
. ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين، ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخر فقال {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ} أي اعلموا يا معشر السامعين أن هذه الحياة الدنيا ما هي إِلا لعبٌ يُتعب الناس فيها أنفسهم كإِتعاب الصبيان أنفسهم باللعب {وَلَهْوٌ} أي وشغل للإِنسان يشغله عن الآخرة وطاعة الله {وَزِينَةٌ} أي وزينة يتزين بها الجهلاء كالملابس الحسنة، والمراكب البهية، والمنازل الرفيعة {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} أي ومباهاة وافتخار بالأحساب والأنساب والمال والولد كما قال القائل:
أرى أهل القُصور إِذا أُميتوا ... بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إِلا مباهاةً وفخراً ... على الفقراء حتى في القبور
{وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد} أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد قال ابن عباس: يجمع المال من سخط الله، ويتباهى به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهو ظلماتٌ بعضها فوق بعض {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} أي كمثل مطرٍ غزير أصاب أرضاً، فأعجب الزُرَّاع نباتُه الناشىء عنه {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} أي ثم ييبس بعد خضرته ونُضرته فتراه مصفر اللون بعد أن كان زاهياً ناضراً {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} أي ثم يتحطم ويتكسر بعد يبسه وجفافه فيصبح هشيماً تذره الرياح كذلك حال الدنيا قال القرطبي: والمراد بالكفار هنا الزُرَّاع لأنهم يغطون البذر، ومعنى الآية أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إِليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيماً كأن لم يكن، وإِذا أعجب الزراع فهو في غاية الحسن {وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ} أي والجزاء في الآخرة إِما عذاب شديد للفجار، وإِما مغفرة من الله ورضوانٌ للأبرار {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} أي وليست الحياة الدنيا في حقارتها وسرعة انقضائها إِلا متاعٌ زائل، ينخدع بها الغافل، ويغتبر بها الجاهل قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغُرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إِذا دعتك إِلى طلب رضوا الله وطلب الآخرة، فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
. ولما حقَّر الدنيا وصغَّر أمرها، وعظَّم الآخرة وفخَّم شأنها، حثَّ على المساعة إِلى نيل مرضاة الله، التي هي سبب للسعادة الأبدية في دار الخلود والجزاء فقال {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي تسابقوا أيها الناس وسارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم قال أبو حيان: وجاء التعبير بلفظ {سابقوا} كأنهم في ميدان سباق يجرون إِلى غاية مسابقين إِليها، والمعنى سابقوا إلى سبب المغفرة(3/309)
وهو الإِيمان، وعملُ الطاعات {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض} أي وسارعوا إِلى جنةٍ واسعة فسيحة، عرضها كعرض السموات السبع من الأرض مجتمعة قال السدي: إِن اله تعالى شبَّه عرض الجنة بعرض السموات السبع والأرضين السبع، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها، فذكر الرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك وقال البيضاوي: إِذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول، {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} أي هيأها الله وأعدها للمؤمنين المصدّقين بالله ورسله قال المفسرون: وفي الآية دلالة على أن الجنة مخلوقة وموجودة لأن ما لم يُخلق بعد لا يوصف بأنه أُعدَّ وهُيءَ {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} أي ذلك الموعود به من المغفرة والجنة هو طاء الله الواسع، يتفضل به على من يشاء من عبادة من غير إيجاب {والله ذُو الفضل العظيم} أي ذو العطاء الواسع والإِحسان الجليل {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض} أي ما يحدث في الأرض مصيبةً من المصائب كقحطٍ، وزلزلةٍ، وعاهة في الزروع، ونقصٍ في الثمار {وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} أي من الأمراض، والأوصاب، والفقر، وذهاب الاولاد {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} أي إِلاَّ ويه مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلقها ونوجدها قال في التسهيل: المعنى أن الأمور كلها مقدَّرة في الأزل، مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل ن تكون، وفي الحديث
«إن الله يكتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء» {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي إن إثبات ذلك على كثرته سهلٌ هيّنٌ على الله عَزَّ وَجَلَّ وإِن كان عسيراً على العباد. . ثم بيَّن تعالى لنا الحكمة في إعلامنا عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر فقال {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ} أي أثبت وكتب ذلك كي لا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم الدنيا {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} أي ولكي لا تبطروا بما أعطاكم الله من زهرة الدنيا وتعميمها قال المفسرون: والمراد بالحزن الحزنُ الذي يوجب القنوط، وبالفرح الفرحُ الذي يورث الأشر والبطر، ولهذا قال ابن عباس: «ليس من أحدٍ إِلا وهو يحزن ويفرح، ولكنَّ المؤمن يجعل مصيبته صبراً، وغنيمته شكراً» ومعنى الآية: لا تحزنوا حزناً يخرجكم إِلى أن تهلكوا أنفسكم، ولا تفرحوا فرحاً شديداً يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا، ولهذا قال بعض العارفين: «من عرف سرَّ الله في القدر هانت عليه المصائب» وقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «ما أصابتني مصيبة إِلا وجدت فيها ثلاث نعم: الأولى: أنها لم تكن في ديني، الثانية: أنها لم تكن أعظم مما كانت، الثالثة: أن الله يعطي عليها الثواب العظيم والأجر الكبير {وَبَشِّرِ الصابرين الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون} [البقرة: 155157] {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي لا يحب كل متكبر معجبٍ بما أعطاه الله من حظوظ الدنيا، فخور به على الناس. . ثم بيَّن تعالى أوصاف هؤلاء المذمومين فقال {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} أي يبخلون بالإِنفاق في سبيل الله، ولا يكفيهم ذلك حتى يأمروا الناس بالبخل ويرغبوهم في الإِمساك {وَمَن يَتَوَلَّ} أي ومن يعرض عن(3/310)
الإِنفاق {فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} أي فإِن الله مستغنٍ عنه وعن إِنفاقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا يضره الإِعراض عن شكره، ولا تنفعه طاعة الطائعني، وفيه وعيدٌ وتهديد {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات} اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد بعثنا رسلنا بالحجج القواطع والمعجزات البينات {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} أي وأنزلنا معهم الكتب السماوية التي فيها سعادة البشرية، وأنزلنا القانون الذي يُحكم به بين الناس، وفسَّر بعضهم الميزان بأنه العدلُ وقال ابن زيد: وهو ما يُوزن به ويُتعامل {لِيَقُومَ الناس بالقسط} أي ليقوم الناس بالحق والعدل في معاملاتهم {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي وخلقنا وأوجدنا الحديد فيه بأس شديد، لأن آلات الحرب تُتخذ منه، كالدروع، والرماح، والتروس، والدبابات وغاير ذلك {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي وفيه منافع كثير للناس كسكك الحراثة، والسكين، والفأس وغير ذلك وما من صناعةٍ إِلا والحديدُ آلة فيها قال أبو حيان: وعبَّر تعالى عن إيجاده بالإِنزال كما قال
{وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] لأن الأوامر وجميع القضايا والأحكام لما كانت تُلقى من السماء جعل الكل نزولاً منها، وأراد بالحديد جنسه من المعادن قاله الجمهور {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} عطفٌ على محذوف مقدر أي وأنزلنا الحديد ليقاتل به المؤمنون أعداءهم ويجاهدوا لإِعلاء كلمة الله، وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وسائر الأسلحة مؤمناً بالغيب قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه، ثم قال تعالى {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي قادر على الانتقام من أعدائه بنفسه، عزيزٌ أي غالب لا يُغالب فهو غني بقدرته وعزته عن كل أحد قال البيضاوي: أي قويٌ على إِهلاك من أراد إِهلاكه، عزيزٌ لا يفتقر إِلى نصرة أحد، وإِنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا الثواب وقال ابن كثير: معنى الآية أنه جعل الحديد رادعاً لمن أبى الحقَّ وعانده بعد قيام الحجة عليه، ولهذا أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة ثلاث عشرة سنة تُوحى إِليه السور، ويقارعهم بالحجة والبرهان، فلما قامت الحجة على من خالف أمر الله، شرع الله الهجرة وأمر المؤمنين بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب، ولهذا قال عليه السلام «بُعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي، وجعل الذي والصِّغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم» ثم قال تعالى {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو قوي عزيز ينصر من شاء من غير احتياج منه إِلى الناس، وإِنمام شرع الجهاد ليبلو بعضهم ببعض {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب} لما ذكر بعثة الرسل ذكر هنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام، وأبا الأنبياء إِبراهيم عليه السلام وبيَّن أنه جعل في نسلهما النبوة والكتب السماوية أي وباللهِ لقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم وجعلنا النبوة في نسلهما، كما أنزلنا الكتب الأربعة ويه «التوراة والزبور والإِنجيل والقرآن» على ذريتهما، وإِنما خصَّ نوحاً وإِبراهيم بالذكر تشريفاً لهما وتخليداً لمآثرهما الحميدة {فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي فمن ذرية نوح وإِبراهيم أناس مهتدون، وكثيرٌ منهم عصاٌ خارجون عن الطاعة وعن الطريق المستقيم {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا} أي ثم(3/311)
أتبعنا بعدهم برسلنا الكرام، أرسلناهم رسولاً بعد رسول، موسى، وإِلياس، وداود، وسليمان، ويونس وغيرهم {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ} أي وجعلناه بعد أولئك الرسل لأن كان آخر الأنبياء من بني إِسرائيل {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} أي وأنزلنا عليه الإِنجيل الذي فيه البشارة بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي وجعلنا في قلوب أتباعه الحواريين الشفقة واللين قال في التسهيل: هذا ثناء من اله عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف تعالى أصحاب سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنهم
{رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي ورهبانيةً ابتدعها القسسُ والرهبان وأحدثوها من تلقاء أنفسهم، ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها قال أبو حيان: والرهبانيةُ رفضُ النساء وشهوات الدنيا، واتخاذ الصوامع ومعنى {ابتدعوها} أي أحدثوها من عند أنفسهم {إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله} أي ما أمرناهم إِلا بما يرضي الله، والاستثناء منقطع والمعنى ما كتبان عليهم الرهبانية، ولكنه فعلوها من تلقاء أنفسهم ابتغاء رضوان الله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي فما قاموا بها حقَّ القيام، ولا حافظوا عليها كما ينبغي قال ابن كثير: وهذا ذمٌ لهم من وجهين: أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به اللهُ والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وفي الحديث «لكل أمة رهبانية، ورهبانةي أمتي الجهاد في سبيل الله» {فَآتَيْنَا الذين آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي فأعطينا الصالحين من أتباع عيسى الذين ثبتوا على العهد وآمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثوابهم مضاعفاً {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي وكثير من النصارى خارجون عن حدود الطاعة منتهكون لمحارم الله كقوله تعالى {إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [التوبة: 34] {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ} أي يا من صدقتم بالله اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ودوموا واثبتوا على الإِيمان {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} أي يعطكم ضعفين من رحمته {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} أي ويجعل لكم في الآخرة نوراً تمشون به على الصراط {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي ويغفر لكم ما أسلفتم من المعاصي {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله} أي إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بهم، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة فيهم، فلا في قوله {لِّئَلاَّ} زائدة والمعنى ليعلم المفسرون: إن أهل الكتاب كانوا يقولون الوحي والرسالة فينا، والكتابُ والشرع ليس إِلا لنا، والله خصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين، فردَّ الله عليهم بهذه الآية الكريمة {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} أي وأن أمر النبوة والهداية والإِيمان بيد الرحمن يعطيه لمن يشاء من خلقه {والله ذُو الفضل العظيم} أي والله واسع الفضل والإِحسان.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 -(3/312)
الطباق بين {يُحْيِي وَيُمِيتُ} وبين {الأول والآخر} وبين {الظاهر والباطن} .
2 - المقابلة بين {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} وبين {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}
[الحديد: 4] .
3 - رد العجز على الصدر {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} [الحديد: 6] وهو وما سبقه من المحسنات البديعية.
4 - حذف الإِيجاز {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] حذف منه جملة «ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل» وذلك لدلالة الكلام عليه ويسمى هذا الحذف بالإِيجاز.
5 - الاستعارة اللطيفة {لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [الحديد: 9] أي ليخرجكم من ظلمات الشرك إِلى نور الإِيمان، فاستعار لفظ {الظلمات} للكفر والضلالة ولفظ {النور} للإِيمان والهداية وقد تقدم.
6 - الاستعارة التمثيلية {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [الحديد: 11] مثَّل لمن ينفق ماله ابتغاء وجه الله مخلصاً في عمله بمن يُقرض ربه قرضاً واجب الوفاء بطريق الاستعارة التمثيلية.
7 - الأسلوب التهكمي {مَأْوَاكُمُ النار هِيَ مَوْلاَكُمْ} [الحديد: 15] أي لا ولي لكم ولا ناصر إِلا نار جهنم وهو تهكم بهم.
8 - المقابلة اللطيفة بين قوله {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} وقوله {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} [الحديد: 13] .
9 - التشبيه التمثيلي {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً. .} لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
10 - الجناس الناقصس {أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} لتغير الشكل وبعض الحروف.
11 - السجع المرصَّع كأنه الدر المنظوم {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} وقوله تعالى {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} [الحديد: 13] وهو كثير في القرآن.(3/313)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
اللغَة: {تَحَاوُرَكُمآ} المحاورة: المراجعة في الكلام من حار الشيء يحور إِذا رجع يرجع ومنه الدعاء المأثور «نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر» قال عنترة في فرسه:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي
{يُظَاهِرُونَ} الظهار مشتق من الظهر يقال: ظاهر من امرأته إِذا حرمها على نفسه بقوله: أنتِ عليَّ كظهر أُمي {مُنكَراً} المنكر: كل ما قبَّحه الشرع وحرَّمه ونفَّر منه، وهو خلاف المعروف {يُحَآدُّونَ} المحادَّة: المعادة والمخالفة في الحدود والأحكام وهي مثل المشاقة قال الزجاج: المحادَّة أن تكون في حدٍّ يخالف حد صاحبك، وأصلها الممانعة {كُبِتُواْ} الكبتُ: القهر والإِذلال(3/315)
والخزي يقال: كبته أي قهره وأخزاه {نجوى} النجوى: الكلام بين اثنين فأكثر سراً، تناجى القوم تحدثوا فيما بينهم سراً {حَسْبُهُمْ} كافيهم.
سَبَبُ النّزول: أروي «أن» خولة بن ثعلبة «امرأة» أوس بن الصامت «أراد زوجها مواقعتها يوماً فأبت، فغضب وظاهر منها، فأتت رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالت يا رسول الله: إن أوساً ظاهر مني بعد أن كبرت سني، ورقَّ عظمي، وإنَّ لي منه صبيةً صغاراً، إِن ضممتُهم إِليه ضاعوا، وإِن ضممتهم إِليَّ جاعوا فما ترى!! فقال لها: ما أراك إِلا قد حرمت عليه، فقالتْ يا رسول الله: واللهِ ما ذكر طلاقاً وهو أو ولدي وأحبُّ الناس إِليَّ، فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعيد قوله: ما أراك إِلا قد حرمتِ عليه، هي تكرر قولها، فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزل قول الله تعالى {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله. .} » الآيات.
ب وروى البخاري «عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي وسع سمعُه الأصواتَ، لقد جاءت المجادلة خولة بنت ثعلبة فكلمت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنا في جانب البيت أسمع كلامها ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول يا رسول الله: أبلى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إِذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إِني أشكو إِليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات» .
التفسِير: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} «قد» لا تدخل إِلا على الأفعال، وإِذا دخلت على الماضي أفادت التحقيق، وإِذا دخلت على المضارع أفادتم التقليل كقولك: قد يجودُ البخيلُ، وقد ينزل المطر والمعنى: حقاً لقد سمع الله قول المرأة التي تراجعك وتحاورك في شأن زوجها قال الزمخشري: ومعنى سماعه تعالى لقولها إِجابة دعائها، لا مجرد عمله تعالى بذلك، وهو كقول المصلي: سمع اللهُ لمن حمده {وتشتكي إِلَى الله} أي وتتضرع إِلى الله في تفريضج كربتها {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} أي واللهُ جلَّ وعلا يسمع حديثكما ومراجعتكما الكلام، ماذا قالت لك، وماذا رددت عليها {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع بمن يناجيه ويتضرع إِليه، بصير بأعمال العباد، وهو كالتعليل لما قبله، وكلاهما من ضيع المبالغة أي مبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات.
. ثم ذمَّ تعالى الظهار وبيَّن حكمه وجزاء فاعله فقال {الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أي الذين يقولون لنسائهم: أنتن كظهور أمهاتنا يقصدون بذلك تحرمهن عليهم كتحريم أمهاتهن، لسن في الحقيقة أمهاتهم وإِنما هنَّ زوجاتهم قال الإِمام الفخر: الظهار هو عبارة عن قول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، يقصد عُلُوّي عليك حرامٌ كعلوي على أمي، والعربُ تقول في الطلاق: نزلتُ عن أمرأتي أي طلقتها، فغرضهم من هذه اللفظة تحريم معاشرتها(3/316)
تشبيهاً بالأم وقوله {مِنكُمْ} توبيخٌ للعرب وتهجينٌ لعادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصةً دون سائر الأمم {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} أي ما أمهاتهم في الحقيقة إِلاَّ الوالدات اللات ولدنهم من بطونهم وفي المثل «ولدك من دمَّى عقبيك» وهو تأكيد لقوله {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} زيادة في التوضيح والبيان {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} أي والحال إِن هؤلاء المظاهرين ليقولون كلاماً منكراً تننكره الحقيقة وينكره الشرع، وهو كذبٌ وزورٌ وبهتان {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغ في العفو والمغفرة لمن تاب وأناب قال في التسهيل: أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور، فالمنكر هو الذي لا تعرف له حقيقة، والزور هو الكذب، وإِنما جعله كذباً لأن المظاهر يجعل امرأته كأمه. وهي لا تصير كذلك أبداً والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء: أحدها قوله {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} فإِن ذلك تكذيب للمظاهر والثاني أنه سمَّاه منكراً والثالث أنه سماه زوراً والرابع قوله تعالى {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} فإِنَّ العفو والمغفرة لا تقع إِلا عن ذنب، والذنب مع ذلك لازمٌ للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة. . ثم بيَّن تعالى طريق الكفارة عن هذا القول الشنيع فقال {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} أي يظاهرون من زوجاتهم بتشبيههنَّ بالأمهات {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أي يعودون عمَّا قالوا، ويندمون على ما فرط منهم، ويرغبون في إعادة أزواجهم إِليهم {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} أي فعليهم إِعتاقُ رقبةٍ عبداً كان أو أمةً من مقبل أن يعاشر زوجته التي ظاهر منها أو يجامعها، والتَّماسُّ كنابةٌ عن الجماع ودواعيه من التقبيل واللمس عند الجمهور قال الخازن: المرادُ من التماسِّ المجامعةُ فلا يحل للمظاهر وطءُ امرأته التي ظاهر منها ما لم يُكفِّر وقال القرطبي: لا يجوز للمظاهر الوطءُ قبل التكفير، فإِن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولايسقط عنه التكفير، وعن مجاهد تلزمه كفارتان {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي ذلكم هو حكم الله فيمن ظاهر ليتعظ به المؤمنون، حتى تتركوا الظهار ولا تعودوا إليه {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عالم بظواهر الأمور وبواطنها ومجازيكم بها، فحافظوا على حدود ما شرع لكم من الأحكام {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} أي فمن لم يجد الرقبة التي يعتقها فعليه صيام شهرين متواليين من قبل الجماع قال المفسرون: لو أفطر يوماً منها انطقع التتابع ووجب عليه أن يستأنفها {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} أي فمن لم يستطع الصيام لكبرٍ أو مرمض، فعليه أن يُطعم ستين مسكيناً ما يشبعهم {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي ذلك الذي بيناه من أحكام الظهار من أجل أن تصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} أي وتلك هي أوامرُ اله وحدوده فلا تعتدوها {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وللجاحدين والمكذبين بهذه الحدود عذاب مؤلم موجع قال الألوسي: أطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظاً وزجراً.
. {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ} ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده، ذكر المحادين المخالفين لها فقال {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} أي يخالفون أمر الله ورسوله، ويعادون الله ورسوله قال أبو السعود: أي(3/317)
يعادونهما ويشاقونهما لأن كلاً من المتعاديين في حدٍّ وجهة غير حدِّ الآخر وجهته، وإِنما ذكرت المحادَّة هنا دون المعاداة والمشاقّة لمناسبة ذكر «حدود الله» فكان بينهما من حسن الموقع ما لا غاية وراءه {كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي خُذلوا وأهينوا كما خُذل من قبلهم من المنافقين والكفار الذين حادُّوا الله ورسله وأُذلوا وأُهينوا {وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي والحال أنا قد أنزلنا آياتٍ واضحات، فيها الحلال والحرام، والفرائض والأحكام {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي وللكافرين الذين جحدوها ولم يعملوا بها عذاب شديد يهينهم ويذهب عزَّهم قال الصاوي: وقد نزلت هذه الآية في كفار مكة يوم الأحزاب حين أرادوا التحزب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمقصودُ بها تسلية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبشارته مع المؤمنين بأن أعدائهم المتحزبين سيذلون ويخذلون ويفرق جمعهم فلا تخشوا بأسهم {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} أي اذكر ذلك اليوم الرهيب حين يحشر الله المجرمين كلهم في صعيد واحد {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عملوا} أي فيخبرهم بما ارتكبوا في الدنيا من جرائم وآثام {أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ} أي ضبطه الله وحفظه عليهم في صحائف أعمالهم، بينما هم نسوا تلك الجرائم لاعتقادهم أن لا حساب ولا جزاء {والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي وهو جل وعلا مطَّلع وناظر لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء. . ثم بيَّن تعالى سعمة علمه، وإحاطته بجميع الأشياء، وأنه تعالى يرى الخلق ويسمع كلامهم ويرى مكانهم حيث كانوا وأين كانوا فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} أي ألم تعلم أيها السامع العاقل أن الله مطَّلع على كل ذرةٍ في الكون، لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه سرٌّ ولا علانية، ما يقع من حديثٍ وسرٍّ بين ثلاثة أشخاص إِلا كان الله رابعهم بعلمه ومشاركاً لهم فيما يتحدثون ويتهامسون به في خفية عن الناس.
{وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} أي ولا يقع مناجاةٌ وحديث بالسر بين خمسة أشخاص إِلا كان الله معهم بعلمه حتى يكون هو سادسهم {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ} أي ولا أقلَّ من ذلك العدد ولا أكثر منه إِلاّ واللهُ معهم يعلم ما يجري بينهم من حديثٍ ونجوى، والغرض: أنه تعالى حاضر عباده، مطَّلع على أحوالهم وأعمالهم، وما تهجس به أفئدتهم، لا يفخى عليه شيء من أمور العباد، ولهذا ختم الآية بقوله {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي ثم يخبرهم تعالى بما عملوا من حسن وسيء ويجازيهم عليه يوم القيامة، لأنه عالم بكل شيء من الأشياء قال المفسرون: ابتدأ الله هذه الآيات بالعلم بقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ} واختتمها بالعلم بقوله {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لينبه إِلأى إِحاطة علمه جل وعلا بالجزيئات والكليات، وأنه لا يغيب عنه شيء في الكائنات لأنه قد أحاط بكل شيء علماً، قال ابن كثير: وقد حكى غير واحد الإِجماع على أن المراد بالمعية في هذه الآية {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} معية علمه تعالى، ولا شك في إِرادة ذلك، فسمعه مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطَّلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء. . ثم أخبر تعالى عن أحوال اليهود والمافقين فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى} قال القرطبي: نزلت في(3/318)
اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فشكوا ذلك إِلأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} أي ثم يرجعون إِلى المناجاة التي نهُوا عنها قال أبو السعود: والهمزة {أَلَمْ تَرَ} للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع {ثُمَّ يَعُودُونَ} للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة {وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} أي ويتحدثون فيما بينهم بما هو إِثم وعدوان ومخالفة لأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن حديثهم يدور حول المكمر والكيد بالمسلمين، قال أبو حيان: بدأ بالإِثم لعمومه، ثم بالعُدوان لعظمته في النفوس إِذ هي ظُلامات العباد، ثم ترقَّى إِلى ما هو أعظم وهو معصية الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وفي هذا طعنٌ على المنافقين إِذ كان تناجيهم في ذلك {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} أي وإِذا أحضروا عندك يا محمد حيَّوك بتحيةٍ ظالمةٍ لم يشرعها الله ولم يأذن فيها، وهي قولهم «السامُ عليكم» أي الموت عليكم قال المفسرون:
«كان اليهود يأتون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقولون: السامُ علكيم بدلاً من السلام عليكم، والسامُ الموتُ وهو ما أرادوه بقولهم، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لهم: وعلكيم لا يزيد عليها، فسمعتهم عائشة يوماً فقالت: بل عليكم السماُ واللعنة، فلما انصرفوا قال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مهلاً يا عائشة، إِن الله يكره الفُحش والتفحش فقال يا رسول الله: أما سمعتَ ما قالوا؟ فقال لها: أما سمعتِ ما قلت لهم؟ إِني قلت لهم: وعليكم، فيستجيب الله لي فيهم، ولا يستجيب لهم فيَّ» {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} اي ويقولون فيما بينهم، هلاَّ يعذبنا الله بهذا القول لو كان محمداً نبياً؟ فلو كان نبياً حقاً لعذبنا الله على هذا الكلام قال تعالى رداً عليهم {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} أي يكفيهم عذاباً أن يدخلوا نار جهنم ويصلوا حرها {فَبِئْسَ المصير} أي بئست جهنم مرجعاً ومستقراً لهم قال ابن العربي: كانوا يقولون: لو كان محمد نبياً لما أمهلنا الله بسبَه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليمٌ لا يعاجل العقوبة لمن سبَّه فكيف من سبَّ نبيه!! وقد ثبت في الصحيح «لا أحد أصبر على الأذى من الله، يدعون له الصاحبة والولد وهو يعاقبهم ويرزقهم» فأنزل الله تعالى هذا كشفاً لسرائرهم، وفضحاً لبواطنهم وتكريماً لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأما إمهالهم في الدنيا فمن كراماته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ربه لكونه بعث رحمةً للعالمينِ. . ثم نهى تعالى المؤمنين عن التناجي بما هو إِثم ومعصية فقال {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} أي إِذا تحدثتم فيما بينكم سراً فلا تتحدثوا بما فيه إِثم كالقبيح من القول، أو بما هو عدوان على الغير، أو مخالفة ومعصية لأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى} أي وتحدثوا بما فيه خيرٌ وطاعة وإحسان قال القرطبي: نهى تعالى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود، وأمرهم أن يتناجوا بالطاعة والتقوى والعفاف عما نهى الله عنه {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وخافوا الله بامتثالكم أوامره واجتنابكم نواهيه، الذي سيجمعكم للحساب، ويجازي كلاً بعمله {إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ} أي(3/319)
ليست النجوى بالإِثم والعدوان إِلا من تزيين الشيطان، ليُدخل به الحزن على المؤمنين قال ابن كثير: أي إِنما يصدر هذا من المتناجين عن تزيين الشيطان وتسويله {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي وليس هذا التناجي بضارٍ للمؤمنين شيئاً إِلآ بمشيئة الله وإرادته {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي وعلى الله وحدجه فليعتمد ولْيثق المؤمنون، ولا يبالوا بنجوى المنافقين فإن الله يعصمهم من شرهم وكيدهم، وفي الحديث «إِذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإِن ذلك يحزنه» .(3/320)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
المنَاسَبَة: لما نهى تعالى عباده المؤمنين عمَّا يكون سبباً للتباغض والتنافر، أمرهم بما يصير سبباً لزيادة المحبة والمودَّة، وهو التوسع في المجالس بأن يفسح بعضهم لبعض، ثم حذَّر من موالاة أعداء الله، وختم السورة الكريمة ببيان أوصاف المؤمنين الكاملين.
اللغَة: {تَفَسَّحُواْ} توسَّعوا يقال: فسح له في المجلس أي وسَّع له، منه مكان فسيح اي واسع {انشزوا} انهضوا وارتفعوا يقال: نشز ينشُز إِذا تنحَّى من مجلسه وارتفع منه، وأصله من النَّشز(3/320)
وهو ما ارتفع من الأرض {جُنَّةً} بضم الجيم وقاية {استحوذ} استولى وغلب على عقولهم {الأذلين} الأذلاء المغمورين في الذل والهوان.
سَبَبُ النّزول: أعن مقاتل قال: «كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناسٌ من أهل بدر فيهم» ثابت بن قيس «وقد سُبقوا إِلى المجلس، فقاموا حيال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أرجلهم ينتظرون أن يوسَّع لهم فلم يفسحوا لهم، فشقَّ ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لمن حوله من غير أهل بدر قم يا فلان، فم يا قلان، بعدد الواقفين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وطعن المنافقون في ذلك وقالوا: ما عدل هؤلاء، قوم أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه!! فأنزل الله تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ. .} » الآية.
ب عن ابن عباس قال: «إن الناس سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأكثروا عليه حتى شقَّ ذلك عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأراد الله أن يخفّف عن نبيه ويثبِّطهم عن ذلك فأنزل الله {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً. .} الآية فلما نزلت جبن كثير من المسلمين وكفَّوا عن المسألة.
ج قال السدي:» كان «عبد الله بن نبتل» المنافق يجالس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حجرةٍ من حجراته إِذ قال يدخل عليكم الآن رجلٌ قلبه قلبُ جبار وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق العينين فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل فعلت، فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبُّوه فأنزل الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} «.
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ} نداءٌ من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصفٍ وألطف عبارة أي يا من صدَّقتم الله ورسوله وتحليتم بالإِيمان الذي هو زينة الإِنسان {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا} أي إِذا قال لكم أحد توسعوا في المجالس سواءً كان مجلس الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو غيره من المجالس فتوسعوا وافسحوا له {يَفْسَحِ الله لَكُمْ} أي يوسِّع لكم ربكم في رحمته وجنته قال مجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأُمروا أن يفسح بعضهم لبعض قال الخازن: أمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتساوى الناس في الأخذ من حظهم من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي الحديث» لايقيمنَّ أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكنْ توسَّعوا وتفسَّحوا يفسح اللهُ لكم «قال الإِمام الفخر: وقوله {يَفْسَحِ الله لَكُمْ} مطلٌ(3/321)
في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه في المكان، الرزق، والصدر، والقبر، والجنة، واعلم أن الآية دلت على أن كل من وسَّع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسَّع عليه خيرات الدنيا والآخرة وفي الحديث
«لايزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه» {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} أي وإِذا قيل لكم أيها المؤمنون انهضوا من المجلس وقوموا لتوسّعوا لغيركم فارتفعوا منه وقوموا قال ابن عباس: معناه إِذا قيل لكم ارتفعوا فارتفعوا قال في البحر: أُمروا أولاً بالتفسح في المجلس، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إِذا أُمروا، وألا يجدوا في ذلك غضاضة {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة أعلى المراتب، ويمنحهم أعلى الدرجات الرفيعة في الجنة قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليسبعالم درجات وقال القرطبي: بيّن في هذه الآية أن الرفعة عند الله بالعلم والإِيمان، لا بالسبق إِلى صدور المجالس، وفي الحديث «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء» فأعظمْ بمنزلةٍ هي واسطةٌ بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي خبير بمن يستحق الفضل والثواب ممن لا يستحقه {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول} أي إِذا أردتم محادثته سراً {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أي فقدموا قبلها صدقة تصدَّقوا بها على الفقراء قال الألوسي: وفي هذا الأمر تعظيم لمقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونفعٌ للفقراء، وتمييزٌ بين المخلص والمنافق، وبين محب الدنيا ومحب الآخرة {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} أي تقديم الصدقاتن قبل مناجاته أفضل لكم عند الله لما فيه من امتثال أمر الله، وأطهر لذنوبكم {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فإِن لم تجدوا ما تتصدقون به فإِن الله يسامحكم ويعفو عنكم، لأنه لم يكلف بذلك إِلا القادر منكم {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} عتابٌ للمؤمنين رقيقٌ رفيق أي أخفتم أيها المؤمنون الفقر إِذا تصدقتم قبل مناجاتكم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ والغرضُ: لا تخافوا فإِن الله يرزقكم لأنه غني بيده خزائن السموات والأرض، وهو عتاب لطيف كما بينا، ثم نسخ(3/322)
تعالى الحكم تيسيراً على المؤمنين فقال {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} أي فإِذا لم تفعلوا ما أُمرتم به وشقَّ ذلك عليكم، وعفا الله عنكم بأن رخَّص لكم مناجاته من غير تقديم صدقة {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} أي فاكتفوا بالمحافظة على الصلاة ودفع الزكاة المفروضة {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في جميع أحوالكم {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي محيطٌ بأعمالكم ونياتكم قال المفسرون: نسخ الله ذلك تخفيفاً على العباد حتى قال ابن عباس: ما كان ذلك إِلا ساعةً من نهار ثم نسخ قال القرطبي: نسختْ فرضيةُ الزكاة هذه الصدقة، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: «آية في كتاب الله لم يعمل بها على أحد قبلي ولا بعدي، كان عندي دينار فتصدقت به ثم ناجيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخ فضعيفٌ لأن الله تعالى قال {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} وهذا يدل على أن أحداً لم يتصدق بشيء {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم} تعجيبٌ للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أمر المنافقين الذين اتخذوا اليهود المغضوب عليهم أولياء، يناصحونهم وينقلون إِليهم أسرار المؤمنين!! قال الإِمام الفخر: كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله
{مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] وكانوا ينقلون إِليهم أسرار المؤمنين {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} أي ليس هؤلاء المنافقون من المسلمين ولا من اليهود، بل هم مذبذبون بين ذلك كقوله تعالى {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} [النساء: 43] قال الصاوي: أي ليسوا من المؤمنين الخلَّص، ولا من الكافرين الخُلَّص، لا ينتسبون إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي ويحلفون بالله كاذبين يقولون: والله إِنا لمسلمون، وهم يعملون أنهم كذبة فجرة قال أبو السعود: والصيغةُ مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا، فإِن الحلف على ما يُعلم أنه كذبٌ في غاية القبح {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي هيأ لهم تعالى بسبب نفاقهم عذاباً في نهاية الشدة والألم، وهو الدرك الأسفل في جهنم
{إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء: 145] {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بئس ما فعلوا وبئس ما صنعوا {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي جعلوا أيمانهم الكاذبة الفاجرة وقايةً لأنفسهم وسترةً لها من القتل قال في التسهيل: أصل الجُنَّة ما يُستتر به ويُتقى به المحذور كالترس، ثم استعمل هنا بطريق الاستعارة لأنهم كانوا يظهرون الإِسلام ليعصموا دماءهم وأموالهم {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي فمنعوا الناس عن الدخول في الإِسلام، بإِلقاء الشبهات في قلوب الضعفاء والمكر والخداع بالمسلمين {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي فلهم عذاب شديد في غاية الشدة والإِهانة {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً} أي لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم في الآخرة، ولن تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله {أولئك أَصْحَابُ النار(3/323)
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم أهل النار لا يخرجون منها أبداً {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} أي يحشرهم يوم القيامة جميعاً للحساب والجزاء {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} أي فيحلفون لله تعالى كما يحلفون لكم اليوم في الدنيا كذباً أنهم مسلمون قال بان عباس: هو قولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ} أي يظنون أن حلفهم في الآخرة ينفعهم وينجيهم من عذابها كما نفعهم في الدنيا بدفع القتل عنهم قال أبو حيان: والعجب منهم كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على علاَّم الغيوب، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم، والمقصود أنهم تعودوا الكذب حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كان في الدنيا {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} أي ألا فانتبهوا أيها الناس إِن هؤلاء هم البالغون في الكذب الغاية القصوى حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله} أي استولى على قلوبهم الشيطان وغلب عليهم تملَّك نفوسهم حتى أنساهم أن يذكروا ربهم {أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ} أي أولئك هم أتباع الشيطان وأعوانه وأنصاره {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} أي أتباع الشيطان وجنوده هم الكاملون في الخسران والضلالة، لأنهم فوَّتوا على أنفسهم النعيم الدائم وعرضوها للعذاب المقيم {إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} أي يعادون الله ورسوله ويخالفون أمرهما {أولئك فِي الأذلين} أي أولئك في جملة الأذلاء المبعدين من رحمة الله {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} أي قضى الله وحكم أن الغلبة لدينه ورسله وعباده المؤمنين {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو تعالى قويٌ على نصر رسله وأوليائه، غالبٌ على أعدائه، لا يُقهر ولا يُغلب قال مقاتل: لما فتح الله مكة والطائف وخيبر للمؤمنين قالوا: نرجو أن يُظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن سلول: أتظنون أن الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟! والله إِنهم لأكثر عدداً، وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت {تَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} أي لا يمكن أن ترى أيها السامع جماعة يصدقون بالله وباليوم الآخر يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وخالف أمرهما، لأن من أحبَّ الله عادى أعداءه، ولا يجتمع في قلب واحد حبٌّ الله وحبُّ أعدائه، كما لا يجتمع النور والظلام قال المفسرون: غرضُ الآية النهي عن مصادقة ومحبة الكفرة والمجرمين، ولكنها جاءت بصورة إِخبارٍ مبالغةً في النهي والتحذير قال الإِمام الفخر: المعنى أنه لا يجتمع الإِيمان مع حبِّ أعداء الله، وذلك لأن من أحبَّ أحداً امتنع أن يحب عدوه، لأنهما لا يجتمعان في القلب، فإِذا حصل في القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإِيمان {وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي ولو كان هؤلاء المحادُّون لله ورسوله أقرب الناس إِليهم، كالآباء، والأبناء، والإِخوان، والعشير، فإِن قضية الإِيمان بالله تقتضي معاداة أعداء الله قال في البحر: بدأ بالآباء لأن طاعتهم واجبة على الأولاد، ثم بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ثم بالإِخوان لأنهم بهم التعاضد، ثم بالعشيرة لأن بهم التناصر والمقاتلة والتغلب على(3/324)
الأعداء كما قال القائل:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
قال ابن كثير: نزلت {وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ} في «أبي عبيدة» قتل أباه الجراح يوم بدر، {أَوْ أَبْنَآءَهُمْ} في الصِّديق همَّ بقتل انبه «عبد الرحمن بن أبي بكر» {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} في مُصعب بن عمير قتلا أخاه عُبيد بن عمير يومئذٍ {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} في حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، قتلوا عُتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة يوم بدر {أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} أي أثبت الإِيمان ومكنه في قلوبهم، فهي مؤمنةٌ موقنةٌ مخلصة {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي وقوَّاهم بنصره وتأييده قال ابن عباس: نصرهم على عدوهم، سمى ذلك النصر روحاً لأن به يحيا أمرهم {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي ويدخلهم في الآخرة بساتين فسيحة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ما كثين فيها أبد الآبدين {رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} أي قبل الله أعمالهم فرضي عنهم، ونالوا ثوابه فرضوا بما أعطاهم، وإِنما ذكر رضوانه عليهم بعدد دخولهم الجنة لأنه أعظم النعم، وأجل المراتب قال ابن كثير: وفي الآية سر بديع وهو أنهم لما سخطوا على الألقاب والعشائر في الله تعالى، عوَّضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم {أولئك حِزْبُ الله} أي أولئك جماعة الله وخاصته وأولياؤه {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} أي هم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، وهذا في مقابلة قوله تعالى {أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} .
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - صيغة المبالغة في {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] وفي {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وفي {على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] .
2 - الإِطناب بذكر الأُمهات {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} [المجادلة: 2] زيادةً في التقرير والبيان.
3 - الطباق {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ} [المجادلة: 7] لأن معنى أدنى أقل فصار الطباق بينها وبين أكثر.
4 - عطف الخاص على العام تنبيهاً على شرفه {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} فإن {والذين أُوتُواْ العلم} دخلوا في المؤمنين أولاً ثم خصوا بالذكر ثانياً تعظيماً لهم.
5 - الاستعارة {فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} استعار اليدين لمعنى قبل أي قبل نجواكم.
6 - الاستفهام والمراد منه التعجيب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم. .} .
7 - الجناس الناقص بين {يَعْلَمُونَ} و {يَعْمَلُونَ} لتغير الرسم.
8 - المقابلة بين {أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} وبين {أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ. .} الآية.(3/325)
9 - تحلية الجملة بفنون المؤكدات مثل: «ألا، وإِنَّ، وهم» في قوله {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} .
10 - توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل {الخاسرون، الكاذبون، خالدون، يعملون} .
لطيفَة: روى الإِمام أحمد عن أبي الطفيل أن «نافع بن عبد الحارث» لقي عمر بن الخطاب بعسفان وكان عمر استعمله على مكة فقال عمر: من استخلفت على أهل البوداي؟ فقال: استخلفت عليهم: «ابن أبزى» فقال: ومن ابن أبزى؟ فقال: رجلٌ من موالينا فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال يا أمير المؤمنين: إنه قارىءٌ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاضٍ، فقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أما إِن نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إِن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين» .(3/326)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
اللغَة: {الحشر} الجمع، وسمي يوم القيامة يوم الحشر لأنه يوم اجتماع الناس للحساب والجزاء ومنه {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ} [النمل: 17] أي جمع له الجنود {قَذَفَ} ألقى وأنزل بشدة {الجلاء}(3/328)
الخروج من الوطن مع الأهل والولد {شَآقُّواْ} عادوا وخالفوا {لِّينَةٍ} بكسر اللام النخلة القريبة من الأرض، الكريمة الطيبة، سميت لينة لجودة ثمرها وأنشد الأخفش:
قد شجاني الحمامُ حين تغنَّى ... بفراق الأحباب من فوقِ لينة
{أَوْجَفْتُمْ} الوجيف: سرعة السير يقال: أوجف البعير إِذا حثَّه وحمله على السير السريع {دُولَةً} بضم الدال الشيء الذي يتداول من الأموال، وينتقل من يد إلى يد {خَصَاصَةٌ} فقر واحتياج {غِلاًّ} حِقداً وضغينة.
سَبَبُ النّزول: لما نقض اليهود «بنو النضير» العهد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حاصرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر بقطع نخيلهم وإِحراقه إِهانةً لهم وإِرعاباً لقلوبهم، فقالوا يا محمد: ألست تزعم أنك نبيٌ؟ وأنك تنهى عن الفساد؟ فما بالك تأمر بقطع الأشجار وتحريقها؟ فأنزل الله تعالى {مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله. .} الآية.
التفسِير: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي نزَّه الله تعالى ومجَّده وقدَّسه جميع ما في السموات والأرض من ملك، وإِنسان، وجماد، وشجر كقوله تعالى {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإِسراء: 44] قال ابن كثير: يخبر تعالى أن جميع ما في السموات والأرض يبسح له ويُمجده ويقدِّسه ويُوحِّده {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي وهو العزيز في ملكه، الحكيمُ في صنعه {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ} بيانٌ لبعض أثار قدرته تعالى الباهرة وعزته الظاهرة أي هو جلَّ وعلا الذي أخرج يهود بني النضير من مساكنهم بالمدينة المنورة {لأَوَّلِ الحشر} أي في أول مرة حُشروا وأخرجوا فيها من جزيرة العرب، إِذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك قال البيضاوي: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة صالح «بني النضير» على ألاَّ يكونوا معه ولا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: إنه النبي المنعوتُ في التوراة بالنصرة لا تُردُّ له راية، فلما هُزم المسلمون يوم أُحد ارتابوا ونكثوا، وخرج «كعب بن الأشرف» في أربعين راكباً إِلى مكة وحالفوا «أبا سفيان» فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «محمد بن مسلمة» أخا كعبٍ من الرضاعة فقتله غيلةً، ثم صبَّحهم بالكتائب وحاصرهم، حتى صالحوه على الجلاء، فجلا أكثرهم إلى الشام، ولحقت طائفة بخيبر، فذلك قوله {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر} قال الألوسي: ومعنى {لأَوَّلِ الحشر} أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي اول ما حُشروا وأُخرجوا، ونبَّه بلفظ {أول} على أنهم لم يصبهم جلاءٌ قبله {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن يخرجوا من أوطانهم وديارهم بهذا الذل والهوان، لعزتهم ومنعتهم، وشدة بأسهم، حيث كانوا أصحاب حصون وعقار، ونخيلٍ وثمار {وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله} أي وظنوا أن حصونهم الحصينة تمنعهم من بأس الله، وتدفع عنهم عذابه وانتقامه قال البيضاوي: والأصل أن يُقال: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم(3/329)
من بأس الله، وتغييرُ النظم بتقديم الخبر وإٍسناد الجملة إِلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بكونها حصينة، بحيث ظنوا أنه لا يخرجهم منها أحد لأنهم في عزة ومنعة {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} أي فجاءهم بأسُ الله وعذابه من حيث لم يكن في حسابهم، ولم يخطر ببالهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} أي وألقى في قلوب بني النظير الخوف الشديد، مما أضعف قوتهم، وسلبهم الأمن والطمأنينة، حتى نزلوا على حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي الحديث
«نُصرت بالرعب من مسيرة شهر» {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين} أي يهدمون بيوتهم بأيديهم من الداخل، وأيدي المؤمنين من الخارج قال المفسرون: كانوا بنو النضير قبل إِجلائهم عن ديارهم يخربون بيوتهم فيقلعون العُمد، وينقضون السقوف، وينقبون الجدران، لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضاً، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب من ظاهرها ليقتحموا حصونهم {فاعتبروا ياأولي الأبصار} أي فاتعظوا بما جرى عليهم يا ذوي العقول والألباب {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء} أي ولولا أن الله تعالى قضى عليهم بالخروج من أوطانهم مع الأهل والأولاد {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا} أي لعذبهم في الدنيا بالسيف كما فعل بإِخوانهم بني قريظة {وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار} أي ولهم مع عذاب الدنيا عذاب جهنم المؤبد {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} أي ذلك الجلاء والعذاب بسبب أنهم خالفوا الله وعادوه وعصوا أمره، وارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم، ونقضٍ للعهود في حق رسوله {وَمَن يُشَآقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} أي ومن يخالف أمر الله، ويعادِ دينه فاللهُ ينتقم منه لأن عذابه شديد، وعقابه أليم {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] . . ثم أخبر تعالى أن كل ما جرى من المؤمنين من قطع النخيل، وإِحراق بعض الأشجار المثمرة، فإنما كان بأمر الله وإِرادته فقال {مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله} أي ما قطعتم أيها المؤمنون من شجرة نخيل، أو تركتموها كما كانت قائمة على سوقها فبأمر الله وإِرادته ورضاه {وَلِيُخْزِيَ الفاسقين} أي وليغيظ اليهود ويذلهم، بقطع أشجارهم ونخيلهم قال الرازي: المعنى إِنما أذن تعالى في ذلك حتى يزداد غيظ الكفار، وتتضاعف حسرتهم، بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعزَّ أموالهم قال المفسرون: لما حصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بني النضير، كان بعض الصحابة قد شرع يقطع ويحرق في نخيلهم، إِهانةً لهم وإِرعاباً لقلوبهم، فقالوا: ما هذا الإِفساد يا محمد؟ إِنك كنت تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة {وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أي وما أعاد الله وردَّه غنيمة على رسوله من أموال يهود بني النضير {فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} أي لم تسيِّروا إِليه خيلكم ولا ركابكم، ولا تعبتم في تحصيله قال القرطبي: يقال: وجف البعير وجيفاً إِذا أسرع السير، وأوجفه صاحبه إِذا حمله على السير السريع، والركاب، ما يُركبُ من الإِبل، والمعنى: لم تقطعوا إِليها شُقةً، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإِنما كانت من المدينة على ميلين، فافتتحها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلحاً، وأجلاهم عنها وأخذ أموالهم، فجعلها الله(3/330)
لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصة يضعها حيث شاء {ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ} أي ولكنه تعالى من سنته أن ينصر رسله بقذف الرعب في قلوب أعدائه، من غير أن يقاسوا شدائد الحروب {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو تعالى قادر على كل شيءٍ، لا يُغالب ولا يُمانع ولا يعجزه شيء.
. ثم بيَّن تعالى حكم الفيء عامةً وهو ما يغنمه المسلمون بدون حرب فقال {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} أي ما جعله الله غنيمةً لرسوله بدون قتال من أموال الكفار قال ابن عباس: هي قريظة، والنضير، وفدك، وخيبر {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} أي فحكمها أنها لله تعالى بضعها حيث يشاء، ولرسوله يصرفها على نفسه وعلى مصالح المسلمين {وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين} أي ولأقرباء الرسول من بني هاشم وعبد المطلب، ولليتامى الذين مات آباؤهم، وللمساكين ذوي الحاجة والفقر {وابن السبيل} أي وللغريب المنقطع في سفره قال في التسهيل: لا تعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال، فإِن آية الأنفال في حكم الغنيمة التي تؤخذ بالقتال وإِيجاف الخيل والركاب، فتلك يؤخذ منها الخمس ويقسم الباقي على الغانمين، وأما هذه ففي «حكم الفيء» وهو ما يؤخذ من الكفار من غير قتال فلا تعارض بينهما ولا نسخ، وقد قرر الفقهاء الفرق بين الغنيمة والفيء، وأنَّ حكمهما مختلف، فالغنيمة ما أُخذت بالقتال، والفيءُ ما أُخذ صلحاً، وانظر كيف ذكر هنا لفظ الفيء {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ} وذكر في الأنفال لفظ الغنيمة {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} [الأنفال: 41] ! { {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ} أي لئلا ينتفع بهذا المال ويستأثر به الأغنياء دون الفقراء، مع شدة حاجة الفقراء للمال قال القرطبي: أي فعلنا ذلك كيلا يتقاسمه الرؤساء والأغنياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إِذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرياعُ ثم يصطفي منها أيضاً ما يشاء قال المفسرون: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قسم أموال بني النضير على المهاجرين فإِنهمه كانوا حنيئذٍ فقراء، ولم يُعط الأنصار منها شيئاً فإِنهم كانوا أغنياء، فقال بعض الأنصار: لنا سهمنا من هذا الفيء فأنزل الله هذه الآية {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} أي ما أمركم به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فافعلوه، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإِنه إِنما يأمر بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شرٍّ وفساد قال المفسرون: والآية وإِن نزلت في أموال الفيء، إِلا أنها عامة في كل ما أمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو نهى عنه من واجبٍ، أو مندوب، أو مستحب، أو محرم، فيدخل فيها الفيء وغيره، عن ابن مسعود أنه قال: «لعن اللهُ الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيِّرات خلق الله» فبلغ ذل امرأةً من بني أسد يُقال لها «أم يعقوب» وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت: ما حديثٌ بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا} {وذكرته له، فقال ابن مسعود: وما لي لا ألعنُ من لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في كتاب الله تعالى؟ فقالت المرأةُ: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته} فقال: إن كنتِ قرأتيه(3/331)
لقد وجدتيه، أما قرأتِ قول الله عَزَّ وَجَلَّ {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} ؟ {واتقوا الله} أي خافوا ربكم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً} أي فإِن عقابه أليم وعذابه شديد، لمن عصاه وخالف ما أمره به {إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} هذا متعلقٌ بما سبق من حكم الفيء كأنه يقول: الفيءُ والغنائم لهؤلاء الفقراء المهاجرين الذين ألجأهم كفار مكة إِلى الهجرة من أوطانهم، فتركوا الديار والأموال، ابتغاء مرضاة الله ورضوانه {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي قاصدين بالهجرة إِعلاء كلمة الله ونصرة دينه {أولئك هُمُ الصادقون} أي هؤلاء الموصوفون بالصفات الحميدة هم الصادقون في إِيمانهم قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال، والأهلين والأوطان، حباً لله ورسوله، حتى إِن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليُقيم به صُلبه من الجوع.
. ثم مدح تعال الأنصار وبيَّن فضلهم وشرفهم فقال {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ} أي والذين اتخذوا المدينة منزلاً وسكناً وآمنوا قبل كثيرٍ من المهاجرين وهم الأنصار قال القرطبي: أي تبوءوا الدار من قبل المهاجرين، واعتقدوا الإِيمان وأخلصوه، والتبوء: التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِليهم {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} أي يحبون إِخوانهم المهاجرين ويواسونهم بأموالهم قال الخازن: وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم، وأشركوهم في أموالهم {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ} أي ولا يجد الأنصار حزازةً وغظياً وحسداً مما أعطي المهاجرون من الغنيمة دونهم قال المفسرون: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قسم أماول بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إِلا ثلاثة منهم، فطبت أنفس الأنصار بتلك القسمة {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي يفضلون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الحاجة الفاقة إِليه، فإِيثارهم ليس عن غنى عن المال، ولكنه عن حاجة وفقر، وذلك غاية الإِيثار {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} أي ومن حماه الله وسلم من البخل فقد أفلح ونجح، والشُحُّ هو البخل الشديد مع الجشع والطمع، وهو غريزة في النفس ولذلك أضيف إِليها، قال ابن عمر: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إِنما الشحُّ أن تطمع عنيه فيما ليس له وفي الحديث
«واتقوا الشُحَّ فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم علىأن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين المستحقين للإِحسان والفضل، وهم التابعون لهم بإِحسان إلى يوم القيامة {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا(3/332)
بالإيمان} أي يدعون لهم قائلين: يا ربنا اغفر لنا ولإِخواننا المؤمنين الذين سبقونا بالإِيمان قال أبو السعود: وصفهم بالسبق بالإِيمان اعترافاً بفضلهم، لأن أخوة الدين عندهم أعزُّ وأشرف من النسب {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} أي ولا تجعل في قلوبنا بغضاً وحسداً لأحدٍ من المؤمنين {رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغٌ في الرأفة والرحمة فاستجب دعاءنا، قال ابن كثير: وما أحسن ما استنبط الإِمام مالك من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الغنيمة شيء لعدم اتصافه بأوصاف المؤمنين، وقال شيخ زادة: بيَّن تعالى أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين بالرحمة والدعاء، فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء فقد كان خارجاً عن جملة أقسام المؤمنين بمقتضى هذه الآيات، وقد روي عن الشعبي أنه قال: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا أصحاب موسى وسئلت النصارى فقالوا: أصحاب عيسى، وسئلت الرافضة من شرُّ أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحابُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُمروا بالاستغفار لهم فسبُّوهم، فالسيف عليهم مسلول إِلى يوم القيامة. . اللهم ارزقنا محبة أصاحب نبيك الكريم.(3/333)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أوصاف المؤمنين الصادقين، أعقبه بذكر أوصاف المنافقين المخادعين، الذين تركوا نصرة المؤمنين وصادقوا اليهود وحالفوهم على حرب المسلمين، ثم ذكر البون الشاسع بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، وأنهم لا يستوون في الحال ولا المآل، وختم السورة الكريمة بذكر بعض أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا.
اللغَة: {شتى} متفرقة تشتَّت جمعهم أي تفرق {خَاشِعاً} ذليلاً خاضعاً {مُّتَصَدِّعاً} مشتققاً تصدَّع البنيان أي تشقق {القدوس} المنزَّه عن كل نقص وعيب {المؤمن} المصدّق لرسله بالمعجزات {المهيمن} الرقيب على كل شيء {العزيز} القويُ الغالب {الجبار} العظيم القاهر، صاحب العظمة والجبروت {المتكبر} المبالغ في الكبرياء والعظمة {البارىء} المبدع المخترع {المصور} خالق الصور.
التفسِير: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ} تعجيبٌ من الله تعالى لرسوله من حال المنافقين أي ألا تعجب يا محمد من شأن هؤلاء المنافقين الذين أظهروا خلاف ما أضمروا؟ {يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} أي يقولون ليهود بني قريظة والنضير الذين كفروا برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} أي لئن أخرجتم من المدينة لنخرجنَّ معكم منها قال في التسهيل: نزلت في عبد الله بن أُبي بن سلول وقوم من المنافقين، بعثوا إِلى بني النضير وقالوا لهم: اثبتوا في حصونكم فإِنا معكم كيف ما تقلبت حالكم، وإِنما جعل المنافقين إِخوانهم لأنهم كفار مثلهم {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً} أي ولا نطيع أمر محمد في قتالكم، ولا نسمع من أحدٍ إِذا أمرنا بخذلانكم {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} أي ولئن قاتلكم أحد لنعاوننكم على عدوكم ونكون بجانبكم {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما قالوه ووعدوهم به. . ثم أخبر الله عن حال المنافقين بالتفصيل فقال {لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} أي لئن أخرج اليهود لا يخرج المنافقون معهم {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ} أي ولئن قوتل اليهود لا ينصرهم المنافقون ولا يقاتلون معهم قال القرطبي: وفي هذات دليل على صحة نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جهة أمر الغيب، لأنه أُخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم كما أخبر عنه القرآن {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} أي ولئن جاءوا لنصرتهم وقاتلوا معهم على سبيل الفرض والتقدير فسوف ينهزمون، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين قال الإِمام الفخر: أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا فإِن المنافقين لا يخرجون معهم وقد كان الامر كذلك، فإِن بن النضير لما أُخرجوا لم يخرج معهم المنافقون وقُوتلوا كذلك فما نصروهم وأما قوله تعالى {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} لهذا على سبيل الفرض والتقدير أي بتقدير أنهم أرادوا نصرتهم لا بدَّ وأ، يتركوا تلك النصرة وينهزموا {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي(3/334)
صُدُورِهِمْ مِّنَ الله} أي لأنتم يا معشر المسلمين أشدُّ خوفاً وخشيةً في قلوب المنافقين من الله، فإِنهم يرهبون ويخافون منكم أشدَّ من رهبتهم من الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أي ذلك الخوف منكم بسبب أنهم لا يعلمون عظمة الله تعالى حتى يخشوه حقَّ خيشته قال القرطبيك أي لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته.
. ثم أخبر تعالى عن اليهود والمنافقين بأنهم جبناء من شدة الهلع، وأنهم لا يقدرون على قتال المسلمين إِلا إِذا كانوا متحصنِّين في قلاعهم وحصونهم فقال {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} أي لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين إِلا إِذا كانوا في قرى محصَّنة بالأسوار والخنادق {أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ} أي أو يكونوا من وراء الحيطان ليتستروا بها، لفرط جبنهم وهلعهم {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي عداوتهم فيما بينهم شديدة {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} أي تظنهم مجتمعين على أمرٍ ورأي في الصورة ذوي ألفةٍ واتحاد، وهم مختلفون غاية الاختلاف لأن أراءهم مختلفة، وقلوبهم متفرقة قال قتادة: أهل الباطل مختلفةٌ آراؤهم، مختلمفة أهواءهم، مختلفةٌ شهادتهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أي ذلك التفرق والشتات هو انتفاء عقولهم، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً} أي صفةُ بني النضير فيما وقع لهم من الجلاء والذل، كصفةِ كفار مكة فيما وقع لهم يوم بدر من الهزيمة والأسرار قال البيضاوي: أي مثل اليهود كمثل أهل بدر، أو المهلكين من الأمم الماضية في زمان قريب {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي ذاقوا سوء عاقبة إِجرامهم في الدنيا {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ولهم عذاب شديد موجعٌ في الآخرة {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر} أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال، كمثل الشيطان الذي أغرى الإِنسان بالكفر ثم تخلى عنه وخذله {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ} أي فلما كفر الإِنسان تبرأ منه الشيطان وقال {إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} أي أخاف عذاب الله وانتقامه إن كفرتُ به قال في التسهيل: هذا مثلُ، مثَّل، مثَّل اللهُ للمنافقين الذين أغووا يهود بني النضير ثم خذلوهم بعد ذلك بالشيطان الذي يُغوي ابن آدم ثم يتبرأ منهن والمراد بالشيطان والإِنسان هنا الجنس، وقولُ الشيطان {إني أَخَافُ الله} كذبٌ منه ورياءٌ لأنه لو خاف الله لامتثل أمره وما عصاه {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا} أي فكان عاقبة المنافقين واليهود، مثل عاقبة الشيطان والإِنسان، حيث صارا إِلى المؤبدة {وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين} أي وذلك عقاب كل ظالم فاجر، منتهكٍ لحرمات الله والدين. . ولمَّا ذكر صفات كلٍ من المنافقين واليهود وضرب لهم الأمثال، وعظ المؤمنين بموعظةٍ حسنة، تحذيراً من أن يكونوا مثل من تقدم ذكرهم فقال {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} أي خافوا الله واحذروا عقابه، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ(3/335)
مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي ولتنظر كلُّ نفسٍ ما قدَّمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة قال ابن كثير: انظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادم وعرضكم على ربكم، وسُمي يوم القيامة غداً لقرب مجيئه
{وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} [النحل: 77] والتنكير فيه للتفخيم والتهويل {واتقوا} كرَّره للتأكيد ولبيان منزلة التقوى التي هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله} [النساء: 131] {الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أي ولا تكونوا يا معشر المؤمنين كالذين تركوا ذكر الله ومراقبته وطاعته، فأنساهم حقوق أنفسهم والنظر لها بما يصلحها قال أبو حيان: وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب، تركوا عبادة الله وامتثال أوامره، فعوقبوا على ذلك بأن أنساهم حظَّ أنفسهم، حتى لم يقدموا له خيراً ينفعها {أولئك هُمُ الفاسقون} أي أولئك هم الفجرة الخارجون عن طاعة الله {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} أي لا يتساوى يوم القيامة الأشقياء والسعداء، أهل النار وأهل الجنة في الفضل والرتبة {أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون} أي أصحاب الجنة هم الفائزون بالسعادة الأبدية في دار النعيم، وذلك هو الفوز العظيم. . ثم ذكر تعالى روعة القرآن، وتأثيره على الصمِّ الراسيات من الجبال فقال {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله} أي لو خلقنا في الجبل عقلاً وتمييزاً كما خلقنا للإِنسان، وأنزلنا عليه هذا القرآن، بوعده ووعيده، لخشع وخضع وتشقق، خوفاً من الله تعالى، ومهابةً له وهذا تصويرٌ لعظمة قدر القرآن، وقوة تأثيره، وأنه بحيث لو خوطب به جبلٌ على شدته وصلابته لرأيته ذليلاً متصدعاً من خشية الله، والمراد منه توبيخ الإِنسان بأنه لا يتخشع عند تلاوة القرآن، بل يعرض عما فيه من عجائب وعظائم، فهذه الآية في بيان عظمة القرآن، ودناءة حال الإِنسان وقال في البحر: والغرضُ توبيخ الإِنسان على قوسة قلبه، وعدم تأثره بهذا الذي لو أُنزل على الجبلُ لتخشَّع وتصدَّع، وإِذا كان الجبل على عظمته وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع، فابن آدم كان أولى بذلك، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي وتلك الأمثال نفصّلها ونوضحها للناس لعلهم يتفكرون في آثار قدرة الله ووحدانتيه فيؤمنون. . ثم لما وصف القرآن بالرفعة والعظمة، أتبعه بشرح عظمة الله وجلاله فقال {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي هو جلَّ وعلا الإِله المعبود بحقٍ لا إِله ولا رب سواه {عَالِمُ الغيب والشهادة} أي عالم السر والعلن، يعلم ما غاب عن العباد مما لم يبصروه، وما شاهدوه وعلموه {هُوَ الرحمن الرحيم} أي هو تعالى ذو الرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ} كرر اللفظ اعتناءً بأمر التوحيد أي لا معبود ولا رب سواه {الملك} أي المالك لجميع المخلوقات، المتصرف في خلقه بالأمر والنهي، والإِيجاد والإِعلام {القدوس} أي المنزَّه عن القبائح وصفات الحوادث قال في التسهيل: القُدُّوسُ مشتقٌ من التقديس وهو التنزه عن صفات المخلوقين، وعن كل نقص وعيب، والصيغة(3/336)
للمبالغة كالسبُّوح، وقد ورد أن الملائكة تقول في تسبيحها: «سبُّوح قُدُّوس، ربُّ الملائكة والروح» {السلام} أي الذي سلم الخلق من عقابه، وأمنوا من جوره
{وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] وقال البيضاوي: أي ذو السلامة من كل نقص وآفة، وهو مصدر وصف به للمبالغة {المؤمن} أي المصدِّق لرسله بإِظهار المعجزات على أيديهم {المهيمن} أي الرقيبُ الحافظ لكل شيء وقال ابن عباس: الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء {العزيز} أي القادر القاهر الذي لا يُغلب ولا يناله ذل {الجبار} أي القهار العالي الجناب الذي يذل له من دونه قال ابن عباس: هو العظيم الذي إِذا أراد أمراً فعله، وجبروتُ الله عظمته {المتكبر} أي الذي له الكبرياء حقاً ولا تليق إِلا به وفي الحديث القدسي {العظمة إِزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي} قال الإِمام الفخر: واعلم أن المتكبر في وصفة الناس صفة ذم، لأن المتكبر هو الذي يُظهر من نفسه الكِبْر، وذلك نقصٌ في حق الخلق، لأنه ليس له كبر ولا علوٍ، بل ليس له إِلا الذلة والمسكنة، فإِذا أظهر العلو كان كاذباً فكان مذموماً في حق الناس، وأما الحقُّ سبحانه فله جميع أنواع العلو والكبرياء، فإِذا أظهر فقد أرشد العباد إِلى تعريف جلاله وعظمته وعلوه، فكان ذلك في غاية المدح في حقه جل وعلا، ولهذا قال في آخر الآية {سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله وتقدَّس في جلاله وعظمته، عمَّا يلحقون به من الشركاء والأنداد {هُوَ الله الخالق البارىء} أي هو جل وعلا الإِله الخالق لجميع الأشياء، الموجد لها من العدم، المنشىء لها بطريق الاختراع {المصور} أي المبدع للأشكال على حسب إرادته {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} [آل عمران: 6] قال الخازن: أي الذي يخلق صورة الخلق على ما يريده {لَهُ الأسمآء الحسنى} أي له الأسماء الرفعية الدالة على محاسن المعاني {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض} أي ينزهه تعالى عن صفات العجز والنقص جميع ما في الكون بلسان الحال أو المقال قال الصاوي: ختم السورة بالتسبيح كما ابتدأها به إشارة إلى أنها المقصود الأعظم، والمبدأ والنهاية، وأن غاية المعرفة بالله تنزيه عظمته عما صورته العقول {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي العزيز في ملكه، الحكيم في خلقه وصنعه.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - طباق السلب {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله} [الحشر: 2] .
2 - المقابلة اللطيفة بين {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} وبين {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] .
3 - وضع الضمير بين المبتدأ والخبر لإِفادة الحصر {أولئك هُمُ الصادقون} [الحشر: 8] .
4 - الاستعارة اللطيفة {تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] شبَّه الإِيمان المتمكن في نفوسهم، بمنزلٍ ومستقريٍ للإِنسان نل فيه وتمكَّن منه حتى صار منزلاً له، وهو ومن لطيف الاستعارة.(3/337)
5 - الاستفهام الذي يراد به الإِنكار والتعجيب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ. .} الآية.
6 - الطباق بين جميعاً وشتى في قولهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} .
7 - التشبيه التمثيلي {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر. .} وجه الشبه منتزع من متعدد.
8 - الكناية اللطيفة {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} كنَّى عن القيامة بالغد لقربها.
9 - الطباق بين {الغيب. . والشهادة} وبين {الجنة. . والنار} الخ.
لطيفَة: أخرج الشيخان عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «جاء رجلٌ إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: إني مجهود أي اشتد بي الجوع والفاقة فأرسل إِلى بعض نسائه يسألها هل عند شيء؟ فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إِلا الماء، ثم أرسل إِلى أُخرى فقال مثل ذلك، وقلن كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من يضيفه هذه الليلة ي رَحِمَهُ اللَّهُ؟ فقام رجل من الأنصار يقال له» أبو طلحة «فقال أنا يا رسول الله!! فانطلق به إِلى رحله أي إلى منزله فقا لها: هذا ضيف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا تدخري عنه شيئاً وأكرميه، فقالت: ما عندي إلا قوتُ الصبيان، فقال علّليهم بشيء ونوِّميهم، فإِذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل ثم قومي إِلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه، فقعلت فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين، فلما أصبح غدا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما نظر إِليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تبسم، ثم قال: لقد عجب الله من صنيعكما الليلة بصاحبكما وأنزل الله {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. .} » [الحشر: 9] الآية.(3/338)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
اللغَة: {أَوْلِيَآءَ} أصدقاء وأحباء جمع وليّ وهو الصديق والناصر والمعين {يَثْقَفُوكُمْ} يظفروا بكم ويتمكنوا منكم، وأصل الثقف الحذقُ في إِدراك الشيء وفعله، ومنه قولهم «رجلٌ ثقِف لقف» ثم استعمل في الظفر والإِدراك مطلقاً {أُسْوَةٌ} قدوة يقتدى به {أَرْحَامُكُمْ} جمع رحم وهو في الأصل رحم المرأة، واشتهر في القرابة حتى صار كالحقيقة فيها {ظَاهَرُواْ} أعانوا {عِصَمِ} جمع عِصْمة وهي ما يعتصم ويتمسك به الإِنسان من حبلٍ أو عقد والمراد به هنا عقد النكاح {الكوافر} جمع كافرة وهي التي لا تؤمن بالله.
سَبَبُ النّزول: «لما تجهز رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لفتح مكة، كتب» حاطب بن أبي بلتعة «إِلى أهل مكة يخبرهم بذلك وقال لهم: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد أن يغزوكم فخذوا حذركم، ثم أرسل الكتاب مع ظعينةٍ إي امرأةٍ مسافرة فنزل الوحي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخبره بذلك، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علياً، والزبير، والمقداد وقال:» انطلقوا حتى تأتوا «روحة خاخ» فإِن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به «فخرجنا حتى أتينا الروضة فإِذا نحن بالظعينة، فقلنا لها أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقال لها: لتخرجنَّ الكتاب أو لنلقينَّ الثياب فأخرجته من عِقاصها، فأتينا به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإِذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إِلى أناسٍ من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما هذا يا حاطب؟ فقال يا رسول الله: لا تعجل عليَّ إِني كنت أمرءاً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قراباتٌ يجمون بها أهلهم وأموالهم بمكة، فأحببت إِذ فاتني ذلك في النسب فيهم أن اتخذ يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلتُ ذلك كفراً وارتداداً عن ديني، فقال عمر، عني يا رسول الله أضربُ عنق هذا المنافق! {فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} فنزلت {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ. .} » الآية.
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} أي يا معشر المؤمنين، يا من صدقتم بالله ورسوله، لا تتخذوا الكفار الذين هم أعدائي وأعداؤكم أصدقاء وأحباء، فإنَّ من علامة الإِيمان بغض أعداء الله لا مودتهم وصداقتهم قال في التسهيل: نزلت عتاباً لحاطب وزجراً عن أن يفعل أحد مثل فعله، وفيها مع ذلك تشريفٌ له لأن الله شهد له بالإِيمان في قوله {ياأيها الذين آمَنُواْ} {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} أي تحبونهم وتودونهم وتصادقونهم مع أنهم أعداء ألداء لكم قال القرطبي: أي تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم {وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الحق} أي والحال أنهم كافرون بدينكم وبقرآنكم الذي أنزله الله عليكم بالحق الواضح {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} أي يخرجون محمداً مكة ظلماً وعدواناً كما يخرجون أيضاً منها المؤمنين قال في البحر:(3/341)
وقدَّم الرسول تشريفاً له ولأنه الأصلُ للمؤمنين، ومعنى إِخراجهم أنهم ضيقوا عليهم وآذوهم حتى خرجوا منها مهاجرين إِلى المدينة {أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ} أي من أجل أنكم آمنتم بالله الواحد الأحد كقوله
{وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد} [البروج: 8] {إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي} شرطٌ حذف جوابه أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيل الله طلباً لرضوانه فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء قال الألوسي: وجوابُ الشرط محذوف دلَّ عليه ما تقدم كأنه قيل: لا تتخذوا أعدائي إِن كنتم أوليائي {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} أي تسرون إِليهم بالنصيحة وأنا العالم بسريرتكم وعلانيتكم، لا يخفى عليَّ شيءٌ من أحوالكم؟ والغرض منه التوبيخُ والعتاب {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} أي ومن يصادق أعداء الله، ويفش أسرار الرسول، فقد حاد عن طريق الحق والصواب. . ثم أخبر تعالى المؤمنين بعداوة الكفار الشديدة لهم، المستحكمة في قلوبهم فقال {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً} أي إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم، يُظهروا ما في قلوبهم من العداوة الشديدة لكم {ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء} أي يمدوا إِليكم أيديهم بالضرب والقتل، وألسنتهم بالشتم والسب {وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} أي وقد تمنوا أن تكفروا لتكونوا مثلهم قال الزمخشري: وإِنما أورده بذكر الماضي {وَوَدُّواْ} بعد أن ذكر جواب الشرط بلفظ المضارع {لَوْ تَكْفُرُونَ} لأنهم أرادوا كفرهم قبل كل شيء كقوله تعالى {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً} [النساء: 89] {لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ} أي لن تفيدكم قراباتكم ولا أولادكم الذين توالون الكفار من أجلهم يوم القيامة شيئاً، فلن يجلبوا لكم نفعاً، ولن يدفعوا عنكم ضُرّاً قال الصاوي: هذه تخطئةٌ لحاطب في رأيه كأنه قال: لا تحملكم قراباتكم وأولادكم الذين بمكة، على خيانة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين، ونقل أخبارهم وموالاة أعدائهم، فإِنه لا تنفعكم الأرحام ولا الأولاد الذين عصيتم الله من أجهلم {يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} أي في ذلك اليوم العصيب، يحكم الله بين المؤمنين والكافرين، فيدخل المؤمنين جنات النعيم، ويدخل المجرمين دركات الجحيم {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي مطلَّع على جميع أعمالكم فيجازيكم عليها {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ والذين مَعَهُ} أي قد كان لكم يا معشر المؤمنين قُدوة حسنةٌ في الخليل إِبراهيم ومن معه من المؤمنين {إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي حين قالوا للكفار إِننا متبرءون منكم ومن الأصنام التي تعبدونها من دون الله {كَفَرْنَا بِكُمْ} أي كفرنا بدينكم وطريقتكم {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً} أي وظهرت بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاء إِلى الأَبد ما دمتم على هذه الحالة {حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ} أي إِلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده، وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك والأوثان قال المفسرون: أمر الله المؤمنين أن يقتدوا بإِبراهيم الخليل عليه السلام وبالذين معه في عداوة المشركين والتبرؤ منهم، لأن الإِيمان يقتضي مقاطعة أعداء الله وبغضهم {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} أي إِلا في استغفار إِبراهيم لأبيه فلا تقتدوا(3/342)
به، فإِنه إنما استغفر لأبيه المشرك رجاء السلامة
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] {وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ} هذا من تتمة كلام إبراهيم لأبيه أي ما أدفع عنك من عذاب الله شيئاً إن أشركت به، ولا أملك لك شيئاً غير الاستغفار {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} أي علك اعتمدنا في جميع أمورنا {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} أي وإِليك رجعنا وتبنا {وَإِلَيْكَ المصير} إي وإِليك المرجع والمعاد في الدار الآخرة قال المفسرون: إن إبراهيم وعد أباه بالاستغفار كما في سورة مريم قال: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47] واستغفر له بالقول فعلاً كما في سورة الشعراء {واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} [الشعراء: 86] وكلُّ هذا كان رجاء إسلامه، ثم رجع عن ذلك لمَّا تيقَّن كفره ما في سورة التوبة {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا بعذاب لا نطيقه وقال مجاهد: أي لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذابٍ من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك {واغفر لَنَا} أي اغفر لنا ما فرط من الذنوب {رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي أنت يا الله الغالب الذي لا يذل من التجأ إِليه، الحكيم الذي لا يفعل إِلا ما فيه الخير والمصلحة، وتكرار النداء للمبالغة في التضرع والجؤار. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي لقد كان لكم في إِبراهيم ومن معه من المؤمنين قدوةٌ حسنة في التبرؤ من الكفار قال أبو مسعود: والتكريرُ للمبالغة في الحثِّ على الاقتداء به عليه السلام ولذلك صُدِّر بالقسم {لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} أي لمن كان يرجو ثواب الله تعالى، ويخاف عقابه في الآخرة {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} أي ومن يُعرض عن الإِيمان وطاعة الرحمن، فإِن الله مستغنٍ عن أمثاله وعن الخلق أجمعين، وهو المحمود في ذاته وصفاته {عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} أي لعلَّ الله جل وعلا يجعل بينكم وبين الذين عاديتموهم من أقاربكم المشركين محبةً ومودة، محبةً بعد البغضاء، وألفة بد الشحناء قال في التسهيل: لما أمر الله المسلمين بعداوة الكفار ومقاطعتهم، على ما كان بينهم وبين الكفار من القرابة والمودة، وعلم الله صدقهم آنسهم بهذه الآية، ووعدهم بأن يجعل بينهم مودة أي محبة، وهذه المودة كملت في فتح مكة فإِنه أسلم حينئذٍ سائر قريش، وجمع الله الشمل بعد التفرق وقال الرازي: وعسى وعدٌ من الله تعالى وقد تحقق تعالى ما وعدهم به من اجتماع كفار مكة بالمسلمين، ومخالطتهم لهم حين فتح مكة {والله قَدِيرٌ} أي قادر لا يعجزه شيء، يقدر على تقليب القلوب وتغيير الأحوال {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرةُ والرحمة، لمن تاب إِليه وأناب {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ} أي لا ينهاكم عن البر بهؤلاء الذين لم يحاربوكم لأجل دينكم، ولم يخرجوكم من أوطانكم كالنساء والصبيان، ولفظة {أَن تَبَرُّوهُمْ} في موضع جر ب «عن» أي(3/343)
لا ينهاكم جلَّ وعلا عن البر والإِحسان لهؤلاء {وتقسطوا إِلَيْهِمْ} أي تعدلوا معهم {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أي يحب العادلين في جميع أمورهم وأحكامهم قال ابن عباس: نزلت في خزاعة، وذلك أنهم صالحوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً، فرخًّص الله في برهم والإِحسان إِليهم.
. وروي «عن أسماء بن أبي بكر أنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش حين عاهدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعني في صلح الحيبية فأتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقلت يا رسول الله: إن أمي قدمتْ هي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم صِلي أمك» فأنزل الله {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين} الآية {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ} أي إِنما ينهاكم الله عن صداقة ومودة الذين ناصبوكم العداوة، وقاتلوكم لأجل دينكم، وأعانوا أعداءكم على إِخراجكم من دياريكم، أن تتولَّوهم فتتخذوهم أولياء وأنصاراً وأحباباً {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} أي ومن يصادق أعداء الله ويجعلهم أنصاراً وأحباباً، فأولئك هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن} أي اختبروهنَّ لتعلموا صدق إِيمانهنَّ قال المفسرن: «كان صلح الحديبية الذي جرى بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكفار مكة قد تضمن أن من أتى أهل مكة من المسلمين لم يُردَّ إِليهم، ومن أتى المسلمين من أهل مكة يعني المشركين رُدَّ إِليهم، فجاءت» أم كلثوم «بنت عقبة بن أبي مُعيط مهاجرة إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فخرج في أثرها أخواها» عُمارمة «و» الوليد «فقالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: رُدَّها عليان بالشرط، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كان الشرطُ في الرجال لا في النساء»
فأنزل الله الآية، قال ابن عباس: كانت المرأة تُستخلف أنها ما هاجرت بغضاً لزوجها، ولا طمعاً في الدنيا، وأنها ما خرجت إِلا حسباً لله ورسوله، ورغبةً في دين الإِسلام {الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} أي الله أعلم بصدقهن في دعوى الإِيمان، لأنه تعالى المطّلع على قلوبهن، والجملة اعتراضية لبيان أن هذا الامتحان بالنسبة للمؤمنين، وإِلا فالله عالمٌ بالسرائر لا تخفى عليه خافية {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} أي فإِن تحققتم بإِيمانهن بعد امتحانهن فلا تردوهنَّ إِلى أزواجهن الكفار {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي لا تحل المؤمنية للمشرك، ولا يحل للمؤمن نكاح المشركة قال الألوسي: والتكرير للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة بين المؤمنة والمشرك {وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} أي أعطوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا عليهن من المهور قال في البحر: أمر أن يُعطى الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إِذا أسملت، فلا يجمع عليه خُسران الزوجة والمالية {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي ولا حرج ولا إِثم عليكم أن تتزوجوا هؤلاء المهاجرات إِذا دفعتم لهن مهورهنَّ قال الخازن: أباح الله للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إِلى دار الإِسلام وِإِن كان لهن أزواج كفار لأن الإِسلام فرَّق بينهن وبين أزواجهنَّ الكفار، وتقع الفرقة بانقضاء عدتها {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} أي ولا تتمسكوا بعقود زوجاتكم الكافرات، فليس بينكم وبينهن عصمة ولا علاقة(3/344)
زوجية قال القرطبي: المراد بالعصمة هنا النكاحُ، يقول: من كانت له امرأةٌ كافرة بمكة فلا يعتد بها فليس امرأته، فقد انقطعت عصمتها لاختلاف الدراين، {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} أي اطلبوا يا أيها المنون ما أنفقتم من المهر إِذا لحقتْ أزواجكم بالكفار، وليطلبوا هم أي المشركون ما أنفقوا على أزواجهم المهاجرات قال ابن العربي: كان من ذهب من المسلمات مرتداتٍ إِلى الكفار يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إِذا جاءت أحدى الكافرات مسلمةً مهاجرة: ردُّوا إِلى الكفار مهرها، وكان ذلك نَصَفاً وعدلاً بين الحالتين {ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} أي ذلك هو شرعُ الله وحكمه العادل بينكم وبين أعدائكم {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بمصالح العباد، حكيم في تشريعه لهم، يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار} أي وإن فرَّت زوجة أحدٍ من المسلمين ولحقت بالكفار {فَعَاقَبْتُمْ} أي فغزوتم وعنمتم وأصبتم من الكفار غنيمة {فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ} أي فأعطوا لم فرَّت زوجته، مثل ما أنفق عليها من المهر، من الغنيمة التي بايديكم قال ابن عباس: يعني إن لحقت امرأة رجلٍ من المهاجرين بالكفار، أمر له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُعطى مثل ما أنفق من الغنيمة قال القرطبي: لما نزلت الآية السابقة {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} قال المسلمون: رضينا بما حكم اللهُ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزلت هذه الآية {واتقوا الله} أي وراقبوا اللهَ في أقوالكم وأفعالكم، واحذروا عذاب وانتقامه إن خالفتم أوامره {الذي أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي الذي آمنتم وصدقتم بوجوده، فإن من مستلزمات الإِيمان تقوى الرحمن.
. ولما فتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكة جداء نساء أهل مكمة يُبايعنه على الإِسلام، كما بايعه الرجال فنزلت {ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً} أي إِذا جحاء إلِيك النساء المؤمنات للبيعة فبايعْهُنَّ على هذه الأمور الستة الهامة، وفي مقدمتها عدم الإِشراك الله جلَّ وعلا {وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ} أي ولا يرتكبن جريمة السرقة ولا جريمة الزنى، التي هي من أفحش الفواحش {وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} أي ولا يئدن البنات كما كان يفعله أهل الجاهلية خوف العار أو خشية الفقر، قال ابن كثير: وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإِملاق أو العار، ويعمُّ قتله وهو جنينٌ كما يفعله بعض النساء الجاهلات، تُطرح نفسها لئلا تحبل، إمّا لغرضٍ فاسد أو ما أشبهه {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} أي لا تنسب إِلى زوجها ولداً لقيطاً ليس منه تقول له: هذا ولدي منك قال المفسرون: كانت المرأة إِذا خافت مفارقة زوجها لها لعدم الحمل، التقطت ولداً ونسبته له ليبقيها عنده، فالمراد بالآية اللقيط، وليس المراد الزنى لتقدمه في النهي صرحياً قال ابن عباس: لا تُلحق بزوجها ولداً ليس منه، وقال الفراء: كانت المرأة تلتقطُ المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك،(3/345)
وإنما قال {يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} لأن الولد إِذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أي ولا يخالفن أمرك فيما أمرتهنَّ به من معروف، أو نهيتهن عن منكر، بل يسمعن ويطعن {فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ} أي فبايعهن يا محمد على ما تقدم من الشروط، واطلب لهنَّ من الله الصفح والغفران لما سلف من الذنوب {الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي واسع المغفرة وعظيم الرحمة قال أبو حيان: «كانت» بيعة النساء «في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا، بعدما فرغ من بيعة الرجال، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الصفا وعمر أسفل منه، يبايعهنَّ بأمره ويبلغهنَّ عنه، وما مست يده عليه السلام يد امرأةٍ أجنبيةٍ قطٌّ، وقالت» أسماء بنتُ السكن «: كنتُ في النسوة المبايعات، فقلت يا رسول الله: أُبسط يدك نبايعك، فقال لي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» إني لا أصافح النساء، لكنْ أخذُ عليهنَّ ما أخذ اللهُ عليهنَّ «وكانت» هند بنت عُتبة «وهي التي شقت بطن حمزة يوم أحد متنكرة في النساء، فلما قرأ عليهن الآية {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ} قالت وهي متنكرة يا رسول الله: إِن أبا سفيان رجل شحيح، وإِين لأصيب الهنة أي القليل وبعض الشيء من ماله، لا أدري أيحل لي ذلك أملا؟ فقال أبو سفيا: ما أصبتٍ من شيءٍ فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال، فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعرفها فقال لها: وإِنك لهنٌ بنتُ عتبة؟ قالت نعم فاعفُ عما سلف يا نبي َّ الله، عفا الله عنك، فلما قرأ {وَلاَ يَزْنِينَ} قالت: أو تزني الحُرة؟ فلما قرأ {وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فلأنتم وهم أعلم وكان بانها حنظلة قد قُتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما قرأ {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} قالت هند: والله إِن البهتان لأمرٌ قبيح، ولا يأمر اللهُ إِلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فلما قرأ {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قالت: واللهِ ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء»
وأخرج الإِمام أحمد «عن» أميمة بنت رقيقة «أخت السيدة خديجة وخالة فاطمة الزهراء قالت: أتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نساءٍ لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن (ألاَّ نشرك بالله شيئاً) الآية وقال:» فيما استطعتنَّ وأطقتُنَّ «فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا يا رسول الله: ألا تصافحنا؟ قال:» إني لا أصافح النساء، إِنما قولي لامرأةٍ واحدة قولي لمائة امرأة « {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} أي لا تصادقوا يا معشر المؤمنين الكفرة أعداء الدين، ولا تتخذوهم أحباء وأصدقاء توالونهم وتأخذون بآرائهم، فإِنهم قوم غضب الله عليهم ولعنهم قال الحسن البصري: هم اليهود لقوله تعالى {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] وقال أبن عباس: هم كفار قريش لأن كلكافر عليه غضبٌ من الله، والظاهر أن الآية عامة كما قال ابن كثير: يعني اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة} أي أولئك الفجار الذيبن يئسوا من ثواب الآخرة ونعيمها {كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور} أي كما يئس(3/346)
الكفار المكذبون بالبعث والنشور، من أمواتهم أن يعودوا إِلى الحياة مرة ثانية بعد أن يموتوا، فقد كانوا يقولون إِذا مات لهم قريب أو صديق: هذا آخر العهد به، ولن يبعث أبداً.
. ختم تعالى السورة الكريمة بمثل ما فتحها به وهو النهي عن موالاة الكفار أعداء الله، وهو بمثابة التأكيد للكلام، وتناسق الآيات في البدء والختام، وهو من البلاغة في مكان.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق في قوله {وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ} لأن الإِخفاء يطابق الإِعلان.
2 - العتاب والتوبيخ {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ} الآية.
3 - تقديم ما حقه التأخير لإِفادة الصيغة للحصر {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير} ، والأصل توكلنا عليك، وانبنا إِليك. . الخ.
4 - صيغة المبالغة {قَدِيرٌ، غَفُورٌ، رَّحِيمٌ} وهو كثير في القرآن ومثله {عليم حكيم} .
5 - طباق السلب {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} ثم قال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله} الآية.
6 - الجملة الاعتراضية {الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} للإِشارة إِلى أن للإِنسان الظاهر والله يتولى السرائر.
7 - العكسُ والتبديلُ {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وهو من أنواع البديع.
8 - الكناية اللطيفة {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} كنَّى بذلك عن اللقيط، وهي من لطائف الكنايات.
9 - التشبيه المرسل المجمل {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور} كما أنه فيه من المحسنات البديعية ما يسمى رد العجز عل الصدر، حيث ختم السورة بمثل ما ابتدأها ليتناسق البدء مع الختام.(3/347)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
اللغَة: {سَبَّحَ} التسبيح تمجيد الله وتنزيهه عما لا يليق به من صفات النقص {العزيز} الغالب الذي لا يُغلب {الحكيم} الذي يضع الأشياء في مواضعها ويفعل ما تقتضيه الحكمة {مَقْتاً} بغضاً قال الزمخشري: المقتُ: أشدُّ البغض وأبلغه وأفحشه {مَّرْصُوصٌ} المتماسك المتلاصق بعضه ببعض قال الفراء: رصصتُ البناء إِذا لائمتُ بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة {زاغوا} مالوا عن الهدى والحق {البينات} المعجزات الواضحات.
سَبَبُ النّزول: روي أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحبَّ الأعمال إِلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا!! فلما فرض الله الجهاد كرهه بضعهم فأنزل الله {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} .
التفسير: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي نزَّه اللهَ وقدَّسه ومجَّده جميعٌ ما في السمواتِ والأرض من مَلَك، وإنسان، ونبات، وجماد {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإِسراء: 44] قال الإِمام الفخر: أي شهد له بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السموات والأرض {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي وهو الغالب في ملكه، الحكيم في(3/349)
صنعه، الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} أي يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله لم تقولون بألسنتكم شيئاً ولا تفعلونه؟ ولأي شيءٍ تقولون نفعل ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟ وهو استفهام على جهة الإِنكار والتوبيخ قال ابن كثير: هذا إنكارٌ لعى من يَعِد وعداً، أو يقول قولاً لا يفي به، وفي الصحيحين «آية المنافق ثلاثٌ: إِذا وعد أخلف، وإِذا حدَّث كذب، وإِذا ائتمن خان» ثم أكَّد الإِنكار عليهم بقوله {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله} أي عظُم فعلكم هذا بغضاً عند ربكم {أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} أي أن تقولوا شيئاً ثم لا تفعلونه، وأن تَعشدوا بشيء ثم لا تفون بهن قال ابن عباس: كان ناسٌ من المؤمنين قبل أن يُفرض الجهاد يقولون: لوددنا أنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ َّ دلنا على أحبِّ الأعمال إِليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإِيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناسٌ من المؤمنين وشقَّ عليهم أمره فنزلت الآية وقيل: هو أن يأمر الإِنسان أخاه بالمعروف ولا يأتمر به، وينهاه عن المنكر ولا ينتهي عنه كقوله تعالى {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ؟ ثم أخبرهم تعالى بفضيلة الجهاد في سبيل الله فقال {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} أي يحب المجاهدين الذين يصفُّون أنفسهم عند القتال صفاً، ويثبتون في أماكنهم عند لقاء العدو {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} أي كأنهم في تراصِّهم وثبوتهم في المعركة، بناءٌ قد رُصَّ بعضه ببعض، وأُلصق وأُحكم حتى صار شيئاً واحداً قال القرطبي: ومعنى الآية أنه تعالى يحب منيثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء، وهذا تعليمٌ من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم.
. ولما ذكر تعالى أمر الجهاد، بيَّن أنَّ موسى وعيسى أمرا بالتوحيد، وجاهدوا في سبيل الله وأوذيا بسبب ذلك فقال {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي} ؟ أي واذكر يا محمد لقومك قصة عبده وكليمه «موسى بن عمران» حين قال لقومه بين إِسرائيل: لمَ تفعلون ما يؤذيني؟ {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} أي والحال أنكم تعلمون علماً قطعياً بما شاهدتموه من المعجزات الباهرة أني رسولُ اللهِ إلِيكم، وتعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟ وفي هذا تسليةٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما أصابه من كفار مكة {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} أي فلما مالوا عن الحقِّ، أمال الله قلوبهم عن الهدى {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} أي واللهُ لا يوفق للخير والهدى من كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الله قال الرازي: وفي هذا تنبيهٌ على عظم إِيذاء الرسل، حتى إِنه يؤدي إِل الكفر وزيغ القلوب عن الهدى. . ثم ذكر تعالى قصة عيسى عليه السلام فقال {وَإِذْ(3/350)
قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم} أي واذكر يا محمد لقومك هذه القصة أيضاً حين قال عيسى لبني إِسرائيل إِني رسول اللهِ أرسلت إِليكم بالوصف المذكور في التوراة قال القرطبي: ولم يقل «يا قوم» كما قال موسى، لأنه لا نسب له فيهم فيكونون قومه فإِنه لم يكن له فيهم أب {مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} أي حال كوني مصدِّقاً ومعترفاً بأحكام التوراة، وكُتب الله وأنبيائه جميعاً، ولم آتكم بشيء يخالف التوراة حتى تنفروا عني {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} أي وجئت لأبشركم ببعثة رسولٍ يأتي بعدي يسمى «أحمد» قال الألوسي: وهذا الاسم الكريم علمٌ لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال حسان:
صلَّى الإِلهُ ومن يحفُّ بعرشه ... والطّيبون على المبارك «أحمد»
وفي الحديث «لي خمسة أسماءٍ: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناسُ على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب» ومعنى العاقب الذي لا نبيَّ بعده، وروي أن الصحابة قالوا يا رسول الله أخبرنا عن نفسك! فقال: دعوةُ أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أُمي حين حملت بي كأنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام {فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات} أي فلما جاءهم عيسى بالمعجزات الواضحات، ومن إِحياء الموتى، وإِبراء الأكمه والأبرص، ونحو ذلك من المعجزات الدالة على صدقه في دعوى الرسالة {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي قالوا عن عيسى: هذا ساحرٌ جاءنا بهذا السحر الواضح، والإِشارة بقولهم «سحر» إِلى المعجزات التي ظهرت على يديه عليه السلام، قال المفسرون: بشَّر كلُّ نبي قومه بنبيِّنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإِنما أفرد تعالى ذكر عيسى بالبشارة في هذا الموضع لأن آخر نبيٍ قبل نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فبيَّن تعالى أن البشارة به عمَّت جميع الأنبياء واحداً بعد واحد حتى انتهت إِلى عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إِسرائيل {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام} استفهامٌ بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن يدعوه ربه إِلى الإِسلام على لسان نبيه، فيجعل مكان إجابته إفترءا الكذب على الله بتسمية نبيه ساحراً، وتسمية آيات الله المنزلة سحراً {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي لا يوفق ولا يرشد إِلى الفلاح والهدى من كان فاجراً ظالماً {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يريد المشركومن بأن يطفئوا دين الله وشرعه المنير بأفواههم قال الفخر الرازي: وإِطفاء نور الله تعالى تهكمٌ بهم في إرادتهم إِبطال الإِسلام بقولهم في القرآن إِنه ساحر، شبُهت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، وفيه تهكم وسخريةٌ بهم {والله مُتِمُّ نُورِهِ} أي واللهُ مظهرٌ لدينه، بنشره في الآفاق، وإِعلائه على الأديان، كما جاء في الحديث
«إنَّ
الله
روى(3/351)
لي الأرض، فرأيت مشارقها مغاربها، وإِن مُلك أُمتي سيبلغ ما زُوي لي منها. .» الحديث والمراد أنَّ هذا الدين سينتشر في مشارق الدنيا ومغاربها {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} أي ولو كره ذلك الكافرون المجرمون، فإِنَّ الله سيعز شأن هذا الدين رغم أنف الكافرين قال في حاشية البيضاوي: كان كفار مكة يكرهون هذا الدين الحق، من أجل توغلهم في الشرك والضلال، فكان المناسب إِذلالهم وإِرغامهم بإِظهار ما يكرهونه من الحق، وليس المراد من إِظهاره ألا يبقى في العالم من يكفر بهذا الدين، بل المرادُ أن يكون أهلهُ عالين غالبين على سائر أهل الأديان بالحجة والبرهان، والسيف واللسان، إِلى آخر الزمان {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق} أي هو جلَّ وعلا بقدرته وحكمته بعث رسوله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن الواضح، والدين الساطع {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي ليعليه على سائر الأديان المخالفة له، من يهودية ونصرانية وغيرهما {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} أي ولو كره ذلك أعداءُ الله، المشركون بالله غيره قال أبو السعود: ولقد أنجز الله وعده بإِعزاز دين الإِسلام، حيث جعله بحث لم يبق دينٌ من الأديان، إِلا وهو مغلوب مقهور بدين الإِسلام.(3/352)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
المنَاسَبَة: لما بيَّن تعالى أن المشركين يريدون إِطفاء نور الله، أمر المؤمنين بمجاهدة أعداء الدين، ودعاهم إِلى التضحية بالمال والنفس والجهاد في سبيل الله، وبيَّن لهم أنها التجارة الرابحة لمن أراد سعادة الدارين.
اللغَة: {تُنجِيكُم} تخلّصكم وتنقذكم {الحواريون} الأصفياء والخواص من أتباع عيسى، وهم الذين ناصروا المسيح عليه السلام {أَيَّدْنَا} قوَّينا وساندنا {ظَاهِرِينَ} غالبين بالحجة والبرهان.
سَبَبُ النّزول: روي أن بعض الصحابة قالوا يا نبيِّ الله: لوددنا أن نعلم أيَّ التجارات أحبَّ إِلى الله فنتجر فيها!! فنزلت {ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ؟(3/352)
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ} أي يا من صدقتم الله ورسوله وآمنتم بربكم حقَّ الإِيمان، هل أدلكم على تجارة رابحة جليلة الشأن؟ والاستفهام للتشويق {تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي تخلِّصكم وتنقذكم من عذاب شديد مؤلمن. . ثم بيَّن تلك التجارة ووضحها فقال {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} إيماناً صادقاً، لا يشوبه شكٌ ولا نفاق {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} أي وتجاهدون أعداء الدين بالمال والنفس، لإِعلاء كلمة الله قال المفسرون: جعل الإِيمان والجهاد في سبيله «تجارة» تشبيهاً لهما بالتجارة، فإِنها عبارة عن مبادلة شيء بشيء، طمعاً في الربح، ومن آمن وجاهد بماله ونفسه فقد بذل ما عنده وما في وسعه، لنيل ما عند ربه من جزيل ثوابه، والنجاة من أليم عقابه، فشبَّه هذا الثواب والنجاة من العذاب بالتجارة لقوله تعالى {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] قال الإِمام الفخر: ولاجهاد ثلاثةُ أنواع: 1 جهادٌ فيما بينه وبين نفسه، وهو قهرُ النفس ومنعُها عن اللذات والشهوات. 2 وجهادٌ فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع منهم ويشفق عليهم ويرحمهم 3 وجهادُ أعداء اله بالنفس والمال نصرةً لدين الله {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما أمرتكم به من الإِيمان والجهاد في سبيل الله، خيرٌ لكم من كل شيء في هذه الحياة، إن كان عندكم فهمٌ وعلم {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} هذا جواب الجملة الخبرية {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} لأن معناها معنى الأمر أي آمنوا بالله وجاهدوا في سبيله فإِذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم اي يسترها عليكم، ويمحها بفضله عنكم {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي ويدخلكم حدائق وبساتين، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي ويسكنكم في قصور رفعية في جنات الإِقامة {ذَلِكَ الفوز العظيم} أي ذلك الجزاء المذكور هو الفوز العظيم الذي لا فوز وراءه، والسعادة الدائمة الكبيرة التي لا سعادة بعدها {وأخرى تُحِبُّونَهَا} أي ويمنُّ عليكم بخصلةٍ أُخرى تحبونها وهي {نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي أن ينصركم على أعدائكم، ويفتح لكم مكة وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم {وَبَشِّرِ المؤمنين} أي وبشِّر يا محمد المؤمنين، بهذا الفضل المبين قال في البحر: لما ذكر تعالى ما يمنحهم من الثواب في الآخرة، ذكر لهم ما يسرُّهم في العاجلة، وهي ما يفتح الله عليهم من البلاد، فهذه هي خير الدنيا موصولٌ بنعيم الآخرة {ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله} أي انصروا دين الله وأعلما منارة {كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} أي كما نصر الحواريون دين الله حين قال لهم عيسى بن مريم {مَنْ أنصاري إِلَى الله} أي من ينصرني ويكون عوني لتبليغ دعنة الله، ونصرة دينه؟ {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله} أي قال أتباع عيسى وهم المؤمنون الخُلُّص من خاصته المستجيبون لدعوته نحن أنصار دين الله قال البيضاوي: والحواريون أصفاؤه وهم أول من آمن به، مشتقٌ من الحور وهو البياض، وكانوا اثني عشر رجلاً وقال الرازي: والتشبيه في الآية محمول على المعنى أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله {فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني(3/353)
إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} أي فانقسم بنو إِسرائيل إِلى جماعتين: جماعةٌ آمنت به وصدَّقته، وجماعةٌ كفرت وكذبت برسالة عيسى {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ} أي فقوينا المؤنين على أعدائهم الكافرين {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} أي حتى صاروا غالبين عليهم بالحجة والبرهان قال ابن كثير: لما بلَّغ عيسى بن مريم رسالة ربه، اهتدت طائفة من بني إِسرائيل بما جاءهم به، وضلَّت طائفة فجحدوا نبوته، ورموه وأُمه بالعظائم، وهم اليهود عليهم لغة الله، وغلت فيه طائفةٌ من أتباعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، وافترقوا فيه فرقاً وشيعاً، فمنهم من زعم أن ابنُ الله، ومنهم من قال إِنه ثالث ثلاثة «الأب والابن وروح القدس» ومنهم من قال: إِنه اللهُ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فنصر الله المؤمنين على من عاداهم من فرق النصارى.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يأتي:
1 - أسلوب التوبيخ {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ؟ وهي «ما» الاستفهامية حذفت ألفها تخفيفاًن والغرض من الاستفهام التوبيخ.
2 - الإِطناب بتكرار ذكر اللفظ لبيان غاية قبح ما فعلوه {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وبين {تَقُولُواْ. . وتفعلوا} طباقٌ.
3 - التشبيه المرسل المفصَّل {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4] أي في المتانة والتراص.
4 - الاستعارة اللطيفة {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} [الصف: 8] استعار نور الله لدينه وشرعه المنير، وشبَّه من أراد إِبطال الدين بمن أراد إِطفاء الشمس بفمه الحقير، على طريق الاستعارة التمثيلية، وهذا من لطيف الاستعارات.
5 - الاستفهام للترغيب والتشويق {هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ} ؟ .
6 - الطباق {فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ. . وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} .
7 - السجع المرصَّع كأنه حبات در منظومة في سلك واحد مثل {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [الصف: 5] {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف: 6] {قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المؤمنين} وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: إِنما قرنت قصة موسى وعيسى في هذه السورة لأنهما من أنبياء بني إِسرائيل، وهما من أعظم أنبيائهم ومن أولي العزم الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز بالثناء والتبجيل.(3/354)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
اللغَة: {الأميين} العرب المعاصرين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُمُّوا بذلك لاشتهارهم بالأمية وهي عدم القراءة والكتابة {يُزَكِّيهِمْ} من التزكية وهي التطهير من دنس الشرك والمعاصي {أَسْفَاراً} جمع سفر وهو الكتاب الكبير قال الشاعر:
زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيِّدها إِلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعيرُ إِذا غدا ... بأوساقه أو راحَ ما في الغرائر
{هادوا} تدينوا باليهودية {انفضوا} تفرقوا وانصرفوا.
سَبَبُ النّزول: عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «بينما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخطب يوم الجمعة قائماً، إذْ قدمت عيرٌ من المدينة، فابتدرها أصحابُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم وأبو بكر وعمر، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} الآية.
التفِسير: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي ينزِّه الله ويمجده ويقدِّسه كلُّ شيء في الكومن من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، وصيغةُ المضارع {يُسَبِّحُ} لإِفادة التجدد والاستمرار، فهو تسبيحٌ دائم على الدوام {الملك} أي هو الإِله المالك لكل شيء، والمتصرف في خلقه بالإِيجاد والإِعدام {القدوس} أي المقدَّس والمنزَّه عن النقائص، المتصف بصفات الكمال {العزيز الحكيم} أي العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} أي هو جل وعلا برحمته وحكمته الذي بعث في العرب رسولاً من جملتهم، أمياً مثلهم لا يقرأ ولا يكتب قال المفسرون: سُمي العرب أميّيين لأنهم لا يقرأون ولا يكتبون، فقد اشتهرت فيهم الأمية كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» نحن أمةٌ، لا نكتب ولا نحسب «الحديث والحكمةُ في اقتصاره على ذكر الأميين، مع أنه رسولٌ إِلى كافة الخلق، تشريفُ العرب حيث أُضيف صلوات الله عليهم إِليهم، وكفى بذلك شرفاً للعرب {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} أي يقرأ عليهم آيات القرآن {وَيُزَكِّيهِمْ} أي ويطهرهم من دنس الكفر والذنوب قال ابن عباس: أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإِيمان {وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة} أي ويعلمهم ما يتلى من الآيات والسنة النبوية المطهرة {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي(3/356)
ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي وإِنَّ الحال والشأن أنهم كانوا من قبل إِرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِليهم لفي ضلالٍ واضح، عن النهج القويم، والصراط المستقيم قال ابن كثير: بعث الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على حين فترةٍ من الرسل، وطموسٍ من السُّبُل، وقد اشتدت الحاجة إِليه، فقد كان العرب متمسكين بدين إِبراهيم الخليل فبدلوه وغيَّروه، واستبدلوا بالتوحيد شركاً، وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها اللهُ، وكذلك كان أهل الكتاب قد بدَّلوا كتبهم وحرفوها، فبعث الله محمداً صالله عليه وسلم بشرع عظيم، شامل كامل، فيه الهداية والبيان لكل ما يحتاج الناس إِليه من أمر معاشهم ومعادهم، وجمع له تعالى جميع المحاسن، وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} أي وبعث الرسول إِلى قومٍ آخرين، لم يكونوا في زمانهم وسيجيئون بعدهم، وهم جميع من أسلم إِلى يوم القيامة، وفي الحديث عن أبي هريرة قال:
«كنا جلوساً عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزلت عليه سورة الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يده على سلمان ثم قال:» لو كان الإِيمان عند الثريا لناله رجالٌ من هؤلاء «قال مجاهد: في تفسير الآية: هم الأعاجم وكلُّ من صدَّق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير العرب {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي القويُ الغالب في ملكه، الحكيم، في صنعه {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} أي ذلك الشرف الذي امتاز به سيد البشر، وهو كونه معبوثاً إِلى كافة الناس، وما شرَّف الله به العرب من نزول القرآن بلغتهم، وإِرسال خاتم الرسل إِليهم، هو فضلُ اللهِ يعطيه لمن يشاء من خلقه {والله ذُو الفضل العظيم} أي هو جل وعلا ذو الفضل الواسع على جميع خلقه في الدنيا والآخرة. . ثم شرع تعالى في ذم اليهود الذين أكرمهم الله بالتوارة، فلم ينتفعوا بها ولم يطبقوها، وشَبههم بالحمار الذيب يحمل الأسفار فقال {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة} أي مثل اليهود الذين أعطوا التوراة، وكُلفوا العمل بما فيها {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أي ثم لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا بهديها ونورها {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} أي مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل الكتب النافعة الضخمة، ولا يناله منها إلا التعب والعناء قال القرطبي: شبههم تعالى والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها بالحمار يحمل كتباً، وليس له إِلاّ ثقل الحمل من غير فائدة، فهو يتعب في حملها ولا ينتفع بما فيها وقال في حاشية البيضاوي: ذمَّ تعالى اليهود بأنهم قراءُ التوراة، عالمون بما فيها، وفيها آياتٌ دالة على صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووجوب الإِيمان به، ولكنهم لم ينتفعوا بها، ووجه التشبيه حرمان الانتفاع بما هو أبلغ شيء في الانتفاع، مع الكدِّ التعب {بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} أي بئس هذا المثل الذي ضربناه لليهود، مثلاً(3/357)
للقوم الذين كذبوا بآيات الله، الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلا م {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي لا يوفق للخير، ولا يرشد للإِيمان من كان ظالماً فاسقاً قال عطاء: هم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيبهم للأنبياء، ثم كذَّب تعالى اليهود في دعوى أنهم أحباُ الله فقال {قُلْ ياأيها الذين هادوا} أي قل يا محمد لهؤلاء الذين تهودوا وتمسكوا بملة اليهودية {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} أي إن كنتم أولياء الله وأحباءه حقاً كما تدَّعون {فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي فتمنوا من الله أن يميتكم، لتنقلوا سريعاً إِلى دار كرامته المعدَّة لأوليائه، إِن كنتم صادقين في هذه الدعوة قال أبو السعود: كان اليهود يقولون:
{نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ويدَّعون أن الدار الآخرة لم عند الله، خالصة، ويقولون {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً} [البقرة: 11] فأمر الله رسوله أن يقول لهم إِظهاراً لكذبهم: إِن زعمتم ذلك فتمنوا الموت، لتنقلوا من د اء البلاء إِلى دار الكرامة، فإنَّ من أيقن بأنه من أهل الجنة، أحبَّ أن يتخلص إِليها من هذه الدار الي هي مقرُّ الأكدار، قال تعالى فاضحاً لهم، ومبيناً كذبهم {وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ} أي ولا يتمنون الموت بحالٍ من الأحوال، بسبب ما أسلفوه من الكفر والمعاصي وتكذيب محمد عليه السلام وفي الحديث «والذي نفسي بيده، لو تمنوا المتَ ما بقي على ظهرها يهودي إِلا مات» قال الألوسي: لك يتمنَّ أحدٌ الموت منهم، لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه السلام، فعلموا أنهم لو تمنوه لماتوا من ساعتهم، وهذه إِحدى المعجزات، وجاء في سورة البقرة نفيُ هذا التمني بلفظ {ولن} وهو من باب التفنن على القول المشهور {والله عَلِيمٌ بالظالمين} أي عالمٌ بهم وما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصي، وإِنما وضع الظاهر موضع الضمير «عليمٌ بهم» ذماً لهم، وتسجيلاً عليهم بأنهم ظالمون {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} أي قل لهم يا محمد: إن هذا الموت الذي تهربون منه، وتخافون أن تتمنوه حتى بلسانكم {فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} أي فإِنه آتيكم لا محالة، لا ينفعكم الفرار منه كقوله تعالى {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] لأنه قدرٌ محتوم، ولا يغني حذرٌ عن قدر {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} أي ثم ترجعون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيجازيكم على أعمالكم، وفيه وعيدٌ وتهديد. . ثم شرع تعالى في بيان أحكام الجمعة فقال {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} أي يا معشر المؤمنين المصدّقين بالله ورسوله، إِذا سمعتم المؤذن ينادي لصلاة الجمعة ويؤذن لها {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} أي فامضوا إِلى سماع خطبة الجمعة وأداء الصلاة، واتركوا البيع والشراء، اتركوا التجارة الخاسرة واسعوا إِلى التجارة الرابحة قال في التسهيل: والسعيُ في الآية بمعنى المشي لا بمعنى الجري لحديث «إِذا(3/358)
أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة» . وقال الحسن: واللهِ ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهُوا أن يأتوا الصلاة إِلا عليهم السكينة والوقار، ولكنه سعيٌ بالقلوب، والنية، والخشوع {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي ذلك السعي إِلى مرضا الله، وتركُ البيع والشراء، خيرٌ لكم وأنفع من تجارة الدنيا، فإِن نفع الآخرة أجلٌّ وأبقى {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن كنتم من أهل العلم القويم، والفهم السليم {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} أي فإِذا أديتم الصلاة وفرغتم منها {فانتشروا فِي الأرض} أي فتفرقوا في الأرض وانبثوا فيها للتجارة وقضاء مصالحكم {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} أي واطلبوا من فضل الله وإِنعامه، فإن الرزق بيده جلَّ وعلا هو المنعم المتفضل، الذي يُضيع عمل العامل، ولا يخيّب أمل السائل {واذكروا الله كَثِيراً} أي واذكروا ربكم ذكراً كثيراً، باللسان والجنان، لا وقت الصلاة فحسب {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي كي تفوزوا بخير الدارين قال سعيد بن جبير: ذكرُ الله طاعته، فمن أطاع اللهَ فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكرٍ ولو كان كثير التسبيح.
. ثم أخبر تعالى أنَّ فريقاً من الناس يؤثرون الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، ويفضلون العاجل على الآجل فقال {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} هذا عتابٌ لبعض الصحابة الذين انصرفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتركوه قائماً يخطب يوم الجمعة، والمعنى: إِذا سمعوا بتجارة رابحة، أو صفقةٍ قادمة، أو شيء من لهو الدنيا وزينتها، تفرقوا عنك يا محمد وانصرفوا إِليها، وأعاد الضمير إِلى التجارة دون اللهو {انفضوا إِلَيْهَا} لأنها الأهم المقصود {وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} أي وتركوا الرسول قائماً على المنبر يخطب قال المفسرون: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائماً على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عيرٌ من الشام بطعام قدم بها «دحية الكلبي» وكان أصاب أهل المدنية جوعٌ وغلاء سعر وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سروراً بها، فلما دخلت العير كذلك انفضَّ أهل المسجد إِليها، وتركوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائماً على المنبر، ولم يبق معه إِلا اثني عشر رجلاً قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم فنزلت الآية قال ابن كثير: وينبغي أن يعلم أن هذه القصة كانت لمَّا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة كما هو الحال في العيدين، كما روى ذلك أبو داود {قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} أي قل لهم يا محمد: إنَّ ما عند الله من الثواب والنعيم، خير مما أصبتموه من اللهو والتجارة {والله خَيْرُ الرازقين} أي خير من رزق وأعطى، فاطلبوا منه الرزق، وبه استعينوا لنيل فضله وإِنعامه.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - التشبيه التمثيلي {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} لأن وجه الشبه منتزع من متعدد أي مثلهم في عدم الانتفاع بالتوراة، كمثل الحمار الذي يحمل على ظهره الكتب العظيمة ولا يكون له منها إِلا التعب والعناء.(3/359)
2 - طباق السلب {فتمنوا الموت. . ولا يتمنونه أبداً} .
3 - الطباق بين {الغيب والشهادة} وهو من المحسنات البديعية.
4 - التفنن بتقديم الأهم في الذكر {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} لأن المقصود الأساسي هو التجارة فقدمها ثم قال {قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} فقدَّم اللهو على التجارة لأن الخسارة بما لا نفع فيه أعظم، فقدَّم ما هو أهم في الموضعين.
5 - المجاز المرسل {وَذَرُواْ البيع} أطلق البيع وقصد جميع أنواع المعاملة من بيع وشراء وإِجارة وغيرها.
تنبيه: يوم الجمعة سمي بذلك لاجتماع المسلمين فيه للصلاة، وقد كان يسمى في الجاهلية «يوم العروبة» ومعناه الرحمة كما قال السهيلي، وأول من سمَّاه جمعة «كعب بن لؤي» وأول من صلى بالمسلمين الجمعة «أسعد بن زرارة» صلى بهم ركعتين وذكَّرهم، فسميت الجمعة حين اجتمعوا إِليه، فهي أول جمعة في الإِسلام.
فَائِدَة: كان «عراك بن مالك» إِذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: «اللهم إني أحببتُ دعوتك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين» .
لطيفَة: التعبير بقوله تعالى {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} فيه لطيفة، وهي أنه ينبغي للمسلم أن يقوم إِلى صلاة الجمعة بعزيمة وهمة، وجد ونشاط، لأن لفظ السعي يفيد الجد والعزم، ولهذا قال الحسن البصري: والله ما هو سعيٌ على الأقدام، ولكنه سعيٌ بالنيبة والقلوب.(3/360)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
اللغَة: {جُنَّةً} وقاية وسُترة يحفظون بها أنفسهم وأموالهم وفي الحديث «الصوم جُنَّة» أي وقاية من عذاب الله {طُبِعَ} ختم عليها بالكفر، والطبعُ: الختم {يُؤْفَكُونَ} يصرفون عن الحق إِلى الضلال، من الإِفك وهو الصَّرف {لَوَّوْاْ} عطفوا وحرَّكوا يقال: لوَّى رأسه إِذا حرَّكه وأداره {يَنفَضُّواْ} يتفرقوا {تُلْهِكُمْ} تشغلكم، واللهو: ما لا خير فيه ولا فائدة من القول أو العمل.
سَبَبُ النّزول: روي أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غزا: «بني المُصطلق» فازدحم الناسُ على ماءٍ فيه، فكان ممن ازدحم عليه «جهجاه بن سعيد: أجبير لعمر بن الخطاب، و» سنان الجُهني «حليفٌ لعبد الله بن سلول رأس المنافقين فلطم الجهجاهُ سناناً، فغضب سنان وصرخ ياللأنصار، وصرخ جهجاه يا للمهاجرين، فقال» عبد الله بن سلول «أو قد فعلوها! {والله ما مثلنا ومثل هؤلاء يعني المهاجرين إِلا كما قال الأول» سمِّنْ كلبك يأكلك «، أما واللهِ لئن رجعنا إِلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذل يعني بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحبه ثم قال لقومه: إِنما يقيم هؤلاء المهاجرين بالمدينة بسبب معونتكم وإِنفاقكم عليهم، ولو قطعتم ذلك عنهم لفروا عن بلدكم، فسمعه» زيد بن أرقم «فأخبر بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبلغ ذلك ابن سلول فحلف أنه ما قال من ذلك شيئاً وكذَّب زيداً، فنزلت السورة إِلى قوله تعالى {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل. .} الآيات.
التفسِير: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون} أي إِذا أتاك يا محمد المنافقون وحضروا مجلسك كعبد الله بن سلول وأصحابه {قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} أي قالوا بألسنتهم نفاقاً ورياءً: نشهد بأنك يا محمد رسولُ الله، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قال أبو السعود: أكَّدوا كلامهم بإِنَّ واللام {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} للإِيذان بأنَّ شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم، وخلوص اعتقادهم، ووفور رغبتهم ونشاطهم {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} أي واللهُ جل وعلا يعلم أنك يا محمد رسولُه حقاً، لأنه هو الذي أرسلك، والجملةُ اعتراضية جيء بها لدفع توهم تكذيبهم في دعوة رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لئلا يتوهم السامع أن قولهم {إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} كذبٌ في حدِّ ذاته قال في التسهيل: وقوله {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ليس من كلام المنافقين، وإِنما هو من كلام الله تعالى، ولو لم يذكره لكان يوهم(3/362)
أن قوله {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} إِبطالٌ للراسلة، فوسَّطه بين حكاية المنافقين وبين تكذيبهم ليزيل هذا الوهم وليحقق الرسالة ثم قال تعالى {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} أي يشهد بكذب المنافقين فيما أظهروه من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم، لأنَّ من قال بلسانه شيئاً واعتقد خلافه فهو كاذب، والإِظهار في موضع الإِضمار {إِنَّ المنافقين} لذمهم وتسجيل هذه الصفة القبيحة عليهم، كما جاءت الصيغة مؤكدة بإِنَّ واللام زيادةً في التقرير والبيان {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي اتخذوا أيمانهم الفاجرة وقاية وسُترةً يستترون بها من القتل قال الضحاك: هي حلفهم بالله إنهم مسلمون {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي فمنعوا الناسَ عن الجهادِ، وعن الإِيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال الطبري: أي أعرضوا عن دين الله الذي بعث به نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشريعته التي شرعها لخلقه وقال ابن كثيرك إِن المنافقين اتقوا الناس بالإِيمان الكاذبة، فاغترَّ بهم من لا يعرف جليَّة أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون، وهي في الباطن لا يألون الإِسلام وأهله خبالاً، فحصل بذلك ضررٌ كبير على كثير من الناس {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي قبح عملهم وصنيعهم لأنهم يظهرون بمظهر الإِيمان، وهم من أهل النفاق والعصيان، فبئست أعمالهم الخبيثة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة قال الصاوي: وساءَ كبئس في إرادة الذم، وفيها معنى التعجب وتعظيم أمرهم عند السامعين {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا} أي ذلك الحلف الكاذب والصدُّ عن سبيل الله، بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم قال أبو السعود: أي نطقوا بكلمة الشهادة عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عن شياطينهم المجرمين، وما فيه من الإِشارة بالبعيد» ذلك «للإِشعار ببعد منزلته في الشر {فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} أي ختم على قلوبهم فلا يصل إِليها هدى ولا نور {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} أي فهم لا يعرفون الخير والإِيمان، ولا يفرقون بين الحسن والقبيح، لختم الله على قلوبهم {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} أي وإِذا رأيتَ هؤلاء المنافقين، أعجبتك هيئاتهم ومناظرهم، لحسنها ونضارتها وضخامتها {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} أي وإِن يتكلموا تُصغ لكلامهم، لفصاحتهم وذلاقة لسانهم قال ابن عباس: كان ابن سلول رأس المنافقين جسيماً، وفصيحاً، ذلق اللسان، فإِذا قال سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قوله، وكذلك كان أصحابه إِذا حضروا مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعجب الناس بيهاكلهم {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} أي يشبهون الأخشاب المسنَّدة إِل الحائط، في كونهم صوراً خالية عن العلم والنظر، فهم أشباحٌ بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام قال أبو حيان: شُبّهوا بالخشب لعزوب أفهامهم، وفراغ قلوبهم من الإِيمان، والجملة التشبيهية وصفٌ لهم بالجبن والخور، ولهذا قال {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي يظنون لجبنهم وهلعهم كل نداء وكل صوت، أنهم يرادون بذلك، فهم دائماً في خوفٍ ووجل من أن يهتك الله أستارهم، ويكشف أسرارهم قال ابن كثير: كلما وقع أمر أو خوفٌ يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم قال مقاتل: إِذا سمعوا نشدان ضالة، أو صياحاً بأي وجه كان، طارت عقولهم، وظنوا(3/363)
ذلك إيقاعاً بهم {هُمُ العدو فاحذرهم} أي هم الأعداء الكاملون في العداوة لك وللمؤمنين وإِن أظهروا الإِسلام، فاحذروهم ولا تأمنهم على سرّ، فإِنهم عيونٌ لأعدائك {قَاتَلَهُمُ الله} جملة دعائية أي أخزاهم الله ولعنهم، وأبعدهم عن رحمته {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي كيف يصرفون عن الهدى إِلى الضلال؟ ويكف تضل عقولهم مع وضوح الدلائل والبراهين} ؟ وفيه تعجيب من جلهلهم وضلالهم، وانصرافهم عن الإِيمان بعد قيام البرهان، روى الإِمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«إنَّ للمنافقين علامات يُعرفون بها: تحيتُهم لعنة، وطعامهم نُهبة، وغنيمتُهم غلول، لا يقربون المساجد إِلا هُجراً، ولا يأتون الصلاة إِلا دُبُراً، مستكبرين لا يألفون ولا يُؤْلفون، خشبٌ بالليل، صُخبٌ بالنهار» {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} أي وإِذا قيل لهولاء المنافقين: هلُمُّوا إِلى رسول الله حتى يطلب لكم المغفرة من الله {لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ} أي حركوها وهزوها استهزاءاً واستكباراً {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} أي وتراهم يعرضون عمَّا دُعوا إِليه، وهم متكبرون عن استغفار رسول الله صلى الله عليه سلم لهم، وجيء بصيغة المضارع ليدل على استمرارهم على الإِعراض والعناد قال المفسرون: لمَّا نزلت الآيات تفضح المنافقين وتكشف الأستار عنهم، مشى إِليهم أقربائهم من المؤمنين، وقالوا لهم: ويلكم لقد افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم، فأتوا رسول الله وتوبوا إِليه من النفاق واسألوه يستعغفر لكم، فأبوا وحركوا رءوسهم سخريةً واستهزاءً فنزلتم الآية، ثم جاءوا إِلى «ابن سلول» وقالوا له: امض إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واعترفْ بذنبك يستغفر لك، فلوَّى رأسه إِنكاراً لهذا الرأي ثم قال هلم: لقد أشرتم عليَّ بالإِيمان فآمنتُ، وأشرتم عليَّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلتُ، ولم يبق لكم إِلاَّ أن تأمروني بالسجود لمحمد!! ثم بيَّن تعالى عدم فائدة الاستغفار لهم، لأنهم مردوا على النفاق فقال {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي يتساوى الأمر بالنسبة لهم، فإِنه لا ينفع استغفارك لهم شيئاً، لفسقهم وخروجهم عن طاعة الله ورسوله قال الصاوي: والآية للتيئيس من إِيمانهم أي إن استغفارك يا محمد وعدمه سواء، فهم لا يؤمنون لسبق الشقاوة لهم {لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} أي لن يصفح الله عنهم لرسوخهم في الكفر، وإِصرارهم على العصيان، ثم علَّله بقوله {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} أي لا يوفق الإِيمان، من كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الرحمن. . ثم زاد تعالى في بيان قبائحهم وجرائمهم فقال {هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} أي هم الفجرة الذين قالوا لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن محمد قال في البحر: والإِشارة إِلى ابن سلول ومن وافقه من قومه، سفَّه أحلامهم في أنهم ظنوا أن رزق المهاجرين بأيديهم، ما علموا أن ذلك بيد الله تعالى، وقولهم {على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله} هو على سبيل الهزء، إذ لو كانوا مقرين برسالته ما صدر منهم ما صدر، والظاهر أنهم لم ينطقوا بنفس ذلك اللفظ، ولكنه تعالى عبَّر به عن رسوله إكراماً له وإِجلالاً {وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض} أي هو تعالى(3/364)
بيده مفاتيح الرزق يعطي من يشاء ويمنع عن من يشاء، ولا يملك أحدٌ أن يمنع فضل الله عن عباده {ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} أي ولكنَّ المنافقين لا يفهمون حكمة الله وتدبيره، فلذلك يقولون ما يقولون من مقالات الكفر والضلال.
. ثم عدَّد تعالى بعض قبائحهم وأقوالهم الشنيعة فقال {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة} أي يقولون لئن رجعنا من هذه الغزوة غزوة بني المصطلق وعدنا إِلى بلدنا «المدينة المنورة» {لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} أي لنخرجنَّ منها محمداً وصحبه، والقائل هو ابن سلول، وعن بالأعز نفسه وأتباعه، وبالأذل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن معه قال المفسرون: «لما قال ابن سلول ما قال ورجع إِلى المدينة، وقف له ولده» عبد الله «على باب المدينة واستلَّ سيفه، فجعل الناسُ يمرون به، فلما جاء أبوه قال له ابنه: وراءك، والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول: إنَّ رسول الله هو الأعزُّ، وأنا الأذل فقالها: ثم جاء إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فإن كنت فاعلاً فمرني فأنا أحمل إِليك رأسه! {فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقيى معنا» {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي لله جل وعلا القوة والغلبة ولمن أعزه وأيده من رسوله والمؤمنين لا لغيرهم، والصيغة تفيد الحصر قال القرطبي: توهموا أنًَّ العزة بكثرة الأموال والأتباع، فبيَّن الله أن العزة والمنعة لله ولرسوله وللمؤمنين {ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ المنافقين لفرط جهلهم وغرورهم لا يعلمون أن العزة والغلبة لأوليائه دون أعدائه {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله} لما ذكر قبائح المنافقين، نهى المؤمنين عن التشبيه بهم في الاغترار بالأموال والأولاد والمعنى: لا تشغلكم أيها المؤمنون الأموال والأولاد عن طاعة الله وعبادته، وعن أداء ما افترضه عليكم من الصلاة، والزكاة، والحج، كما شغلت المنافقين قال أبو حيان: أي لا تشغلكم أموالكم بالسعي في نمائها، والتلذذ بجمعها، ولا أولادكم بسروركم بهم، وبالنظر في مصالحهم، عن ذكر الله وهو عام في الصلاة، والتسبيح، والتحميد، وسائر الطاعات {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون} أي ومن تشغله الدنيا عن طاعة الله وعبادته، فأولئك هم الكاملون في الخسران، حيث آثروا الحقير الفاني على العظيم الباقي، وفضلوا العاجل على الآجل {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} أي وأنفقوا في مرضاة الله، من بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت} أي قبل أن يحلَّ الموتُ بالإِنسان، ويصبح في حالة الاحتضار {فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي فيقول عند تيقنه الموت، يا ربِّ هلاَّ أمهلتني وأخرت موتي إِل زمنٍ قليل} ! {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} أي فأتصدق وأحسن عملي، وأصبح تقياً صالحاً قال ابن كثير: كلُّ مفرطٍ يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ليستدرك ما فات، ولكن ههيات {وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ} أي ولن(3/365)
يمهل الله أحداً أياً كان إِذا انتهى أجله، ولن يزيد في عمره، وفيه تحريضٌ على المبادرة بأعمال الطاعات، حذراً أن يجيء الأجل وقد فرَّط ولم يستعد للقاء ربه {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي مطلع وعالم بأعمالكم من خير أو شر، ومجازيكم عليها.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من الفصاحة والبيان نوجزها فيا يلي:
1 - التأكيد بالقسم وإِنَّ واللام {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} زيادة في التقرير والبيان.
2 - الجملة الاعتراضية {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} جاءت معترضة بين الشرط وجوابه لبيان أنهم ما قالوا ذلك عن اعتقاد، ولدفع توهم تكذيبهم في دعواهم الشهاد بالرسالة، والأصلُ {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله. . والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} فجاءت الجملة اعتراضية بينهما.
3 - الاستعارة {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} فإِن أصل الجنَّة ما يُسستر به ويُتقى به المحذور كالترس، ثم استعمل هنا استعارة لأنهم كانوا يظهرون الإِسلام ليعصموا دماءهم وأموالهم.
4 - الطباق بي {آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا} وبين {الأعز مِنْهَا الأذل} وهو من المحسنات البديعية.
5 - التشبيه المرسل المجمل {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} وهو من روائع التشبيه.
6 - طباق السلب {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} .
7 - الجملة الدعائية {قَاتَلَهُمُ الله} وهي دعاءٌ عليهم باللعنة والخزي والهلاك.
8 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات، وهو كثيكر في القرآن يزيد في رونق الكلام.
تنبيه: النفاق لم يكن بمكة وإِنما كان بها الكفر، ولم يظهر النفاق إِلا بالمدينة المنورة حين عزَّ الإِسلام وكثر أنصاره، وقد كان المنافقون يظهرون الإِسلام لصون دمائهم وأموالهم كما قال الشاعر:
وما انتسبوا إِلى الإِسلام إِلاّ ... لصون دمائهم أن لا تُسالا
فَائِدَة: العزةُ غير الكبر، ولا يحل للمسلم أن يُدلُّ نفسه، فالعزة معرفة الإِنسان بحقيقة نفسه، والكبر جهل الإِنسان بنفسه، قيل للحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إن الناس يزعمون أن فيك كبراً وتيهاً فقال: ليس بتيه ولكنه عزة المسلم ثم تلا الآية {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .
لطيفَة: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: «من كان له مال يبلغه حج بيت ربه، أو تجب عليه فيه زكاةٌ فلم يفعل، سال الرجعة عند الموت، فقال رجلٌ يا ابن عباس: اتق الله فإِنما يسأل الرجعة الكفار!! فقال: سأتلو عليكم بذلك قرآناً {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ. .} الآية.(3/366)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
اللغَة: {صَوَّرَكُمْ} التصوير: التخطيط والتشكيل الذي يكون به صورة وهيئة يتميز بها عن غيره {نَبَأُ} النبأ: الخبر الهام {وَبَالَ} الوبال: العقوبة والنكال {زَعَمَ} ظنَّ، والزعمُ هو القول بالظن ومنه قولهم «زعموا مطيةُ الكذب» قال شريح: «لكل شيءٍ كنيةٌ، وكنيةُ الكذب زعموا» {التغابن} الغبنُ ومعناه: النقص يقال: غبنه غبناً إِذا أخذ الشيء منه بدون قيمته، وسمي يوم القيامة يوم التغابن، لأنه يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإِيمان، وغبن المؤمن بتقصيره في الإِحسان.
التفسِير: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي ينزه الله تعالى ويمجده جميع ما في السموات والأرض من مخالوقات، تنزيهاً دائماً مستمراً بدون انقطاع، وصيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد} أي له جل وعلا المُلك التام والتصرف الكامل في خلقه، وهو المستحق للثناء وحده، لأن جميع النعم منه سبحانه وتعالى، وقدَّم الجار والمجرور فيهما لإِفادة حصر الملك والحمد فيه سبحانه {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر على كل شيء، يغني ويفقر، ويعز ويذل، وإِذا أراد شيئاً فإِنما يقول له كن فيكون، وهو كالدليل لما تقدم من أنَّ الملك والحمد له سبحانه {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} هذا تفصيلٌ لبعض آثار قدرته أي هو الذي خلقكم أيها الناس بهذا الشكل البديع المحكم، فكان يجب على كل واحدٍ منكم الإِيمان به، لكنْ منكم من كفر بربه، ومنكم من آمن وصدَّق بخالقه قال الطبري: أي منكم كافرٌ بخالقه وأنه هو الذي(3/368)
خلقه، ومنكم مصدِّق به موقنٌ أنه خالقه وبارئه، وقدَّم الكافر على المؤمن، لكثر الكفار وقلة المؤمنين {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} [الأنعام: 116] {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي عالمٌ بأحوالكم، مطَّلعٌ على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من شئونكم وسيجازيكم عليها،. . ثم فصَّل تعالى آثار قدرته ودلائل وحدانيته فقال {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} أي خلقهما بالحكمة البالغة، المتضمنة لمصالح الدنيا والدين، لا عبثاً ولا لهواً {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي خلقكم في أحسن صورة وأجمل شكل، فأتقن وأحكم خلقكم وتصويركم كقوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] فإِن من نظر في شكل الإِنسان وهيئته وتناسب أعضائه، علم أن صورته أحسن صورة بالنسبة لسائر أنواع الحيوان، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب على وجهه {وَإِلَيْهِ المصير} أي وإليه تعالى وحده المرجع والمآب، فيجازي كلاً بعمله {يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض} أي يعلم ما في الكائنات من أجرامٍ ومخلوقات {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه من نواياكم وأعمالكم {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي عالم بما في الصدور من الأسرار والخفايا، فكيف تخفى عليه أعمالكم الظاهرة؟ قال في البحر: نبَّه تعالى بعلمه بما في السمواتِ والأرض، ثم بعلمه بما يخفيه العباد وما يعلنونه، ثم بعلمه بما أكنَّته الصدور، على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء، لا من الكليات ولا من الجزيئات، فابتدأ بالعلم الشامل، ثم بسرِّ العباد وعلانيتهم، ثم بما تنطوي عليه صدروهم، وهذا كله في معنى الوعيد، إِذ هو تعالى المجازي عليه بالثواب والعقاب.
. ثم ذكَّرهم تعالى بما حلَّ بالكفار قبلهم فقال {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} أي ألم يأتكم يا معشر قريش خبر كفار الأمم الماضية كقوم عاد وثمود، ماذا حلَّ بهم من العذاب والنكال!! {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي فذاقوا العقوبة الوخيمة على كفرهم في الدنيا {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وهلم في الآخرة عذاب شديد موجع {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي ذلك العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة، بسبب أنه جاءتهم رسلهم بالمعجزات الواضحات، والبراهين الساطعات، الدالة على صدقهم {فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} ؟ أي فقالوا على سبيل الاستغراب والتعجب: أرسلٌ من البشر يصيرون هداةً لنا قال الرازي: أنكروا أن يكون الرسول بشراً، ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً، وذلك لقلة عقولهمك وسخافة أحلامهم {فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ} أي فكفروا بالرسول، وأعرضوا عن الإِيمان واتباع هدى الرحمن {واستغنى الله} أي استغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم قال الطبري: أي استغنى اللهُ عنهم، وعن إِيمانهم به وبرسله {والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي غنيٌّ عن خلقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، لأنه مستغنٍ عن العالمين. . ثم أخبر تعالى عن إِنكارهم للبعث بعد(3/369)
تكذيبهم للرسالة فقال {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ} أي ادَّعى كفار مكة وظنوا أن الله لن يبعثهم من قبورهم بعد موتهم أبداً {قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} أي قل لهم يا محمدا: ليس الأمر كما زعمتم، وأقسم بري لتخرجن من قبوركم أحياء ولتبعثنَّ {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} أي ثم تخبرنَّ بجميع أعمالكم، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، وتُجزون بها {وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي وذلك البعث والجزاء، سهلٌ هينٌ على الله، لأن الإِعادة أسهل من الابتداء قال الرازي: أنكروا البعث بعد أن صاروا تراباً، فأخبر تعالى أن إِعادتهم أهونُ في العقول من إنشائهم. . ولما بالغ في الإِخبار عن البعث، وذكر أحوال الأمم المكذبة، أمر بالاعتصام بالإِيمان والتمسك بالقرآن فقال {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا} أي فصدِّقوا بالله وبرسوله وبهذا القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنه النور الوضاء، المبدّد للشبهات، كما يبدد النور الظلمات {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي لاتخفى عليه خافية من أعمالكم {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} أي واذكروا ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة الذي يجمع الله فيه الخلائق كلها في صعيد واحد للحساب والجزاء قال ابن كثير: سمُي «يوم الجمع» لأن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كقوله تعالى
{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103] {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} أي ذلك هو اليوم الذي يظهر فيه غبن الكافر وخسارته بتركه الإِيمان، وذلك أن المؤمنين اشتروا الجنة بترك الدنيا، واشترى الكفار النار بترك الآخرة، فظهر غبن الكافرين قال الخازن: وأصله من الغبن وهو أخذ الشيء بدون قيمته، والمغبونُ من غُبن أهله ومنازله في الجنة، وذلك لأن كل كافر له أهلٌ ومنزل في الجنة لو أسلم، فيظهر يومئذٍ غبن كل كافرٍ بتركه الإِيمان، ويظهر غبن كل مؤمن بتقصيره في الإِحسان {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} أي ومن يصدِّق بالله ويعمل عملاً صالحاً، يمح الله تعالى عنه ذنوبه {وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي ويدخله جنات النعيم، التي تجري من تحت أشجارها وقصورها أنهارُ الجنة {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي مقيمين في تلك الجنات أبد الحياة، لا يموتون لا يُخرجون منها {ذَلِكَ الفوز العظيم} أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه، والسعادة التي لا سعادة بعدها {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} أي والذين جحدوا بوحدانيته الله وقدرته، وكذبوا بالدلائل الدالة على البعث وبآيات القرآن الكريم {أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا} أي أولئك مآلهم جهنم، ما كثين فيها أبداً {وَبِئْسَ المصير} أي وبئست النار مرجعاً ومستقراً لأن الكفر والضلال. . ثم أخبر تعالى بأن كل ما يحدث في الكون بقضائه وإِرادته فقال {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي ما أصاب أحداً مصيبةٌ في نفسه أو ماله أو ولده، إِلا بقضاء الله وقدره {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} أي ومن يصدِّق بالله ويعلم أن كل حادثة بقضائه وقدره، يهدِ قلبه للصبر والرضا ويثبته على الإِيمان قال ابن عباس: يهدِ قلبه لليقين، حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، ما أخطأه لم يكن ليصيبه وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى(3/370)
بها ويُسلم لقضاء الله {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو الله تعالى عالمٌ بكل الأشياء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء قال القرطبي: أي لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلَّم لأمره، ولا كراهة من كرهه ولم يرض بقضائه {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في كل ما شرع لكم من الأوامر والنواهي، وكرَّر الأمر للتأكيد ولبيان أن طاعة الرسول واجبة كطاعة الله {فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} أي فإِن أعرضتم عن إجابة الرسول فيما دعاكم إِليه من الهداية والإِيمان، فليس عليه ضرر إِنما ضرر ذلك عليكم، إِذ ليس على الرسول إِلا تبليغ الرسالة وقد أدى ما عليه، والله ينتقم ممن عصاه وخالف أمره {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي اللهُ جل وعلا لا معبود سواه، ولا خالق غيره، عليه الاعتماد وإِليه المرجع والمآب {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي فعليه وحده توكلوا أيها المؤمنون في جميع أموركم قال الصاوي: وهو تحريضٌ وحثٌّ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على التوكل على الله، والالتجاء إِليه، وفيه تعليمٌ للأمة ذلك، بأن يلتجئوا إِلى إِلى الله ويثقوا بنصره وتأييده {ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم} أي يا معشر المؤمنين إِن بعض الزوجات والأولاد أعداء لكم، يصدونكم عن سبيل الله، وثبطونكم عن طاعة الله، فاحذروا أن تستجيبوا لهم وتطيعوهم قال المفسرون: إِن قوماً أسلموا وأرادوا الهجرة، فثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، فلم يهاجروا إلا بعد مدة، فلما أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فندموا وأسفوا وهمُّوا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم فنزلت الآية الكريمة، والآية نعم كلَّ من انشغل عن طاعة الله بالأزواج والأولاد {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ} أي وإِن عفوتم عنهم في تثبيطكم عن الخير، وصفحتم عما صدر منهم، وغفرتم لهم زلاتهم {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فإن الله واسع المغفرة عظيم الرحمة، يعاملكم بمثل ما عاملتم {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} أي ليست الأموالُ والأولادُ إِلاّ اختباراً وابتلاءً من الله تعالى لخلقه، ليعلم من يطيعه ومن يعصيه، وقدَّم المال لأن فتنته أشدُّ {والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي وما عند الله من الأجر والثواب أعظم من متاعِ الدنيا، فلا تشغلكم الأموال والأولاد عن طاعة الله، والآية ترغيبٌ في الآخرة وتزهيدٌ في الدنيا، وفي الأموال والأولاد التي فتن الناسُ بها {فاتقوا الله مَا استطعتم} أي ابذلوا أيها المؤمنون في طاعة الله جهدكم وطاقتكم، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا تطيقون قال المفسرون: هذا في المأمورات وفضائل الأعمال يأتي الإِنسان منها بقدر طاقته، وأما في المحظورات فلا بدَّ من اجتنابها بالكلية ويدل عليه ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال:
«إِذا أمرتكم بأمرٍ فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» {واسمعوا وَأَطِيعُواْ} أي واسمعوا ما توعظون به، وأطيعوا فيما تُؤْمرون به وتُنهون عنه {وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} أي وأنفقوا في سبيل الله من أموالكم، يكنْ خيراً لأنفسكم {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون} أي ومن سلم من البخل والطمع الذي تدعو إِليه النفس، فقد فاز بكل مطلوب {إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} أي إِذا تصدقتم في سبيل الله عن طيب نفس،(3/371)
فإن الله يضاعف لكم الأجر والثواب، وفي تصوير الصدقة بصورة القرض تلطفٌ بليغ في الإِحسان إِلى الفقراء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي ويمحُ عنكم سيئاتكم {والله شَكُورٌ حَلِيمٌ} أي شاكرٌ للمحسن إِحسانه، حليمٌ بالعباد حيث لا يعالجهم بالعقوبة مع كثرة ذنوبهم {عَالِمُ الغيب والشهادة} أي هو تعالى العالم بما غاب وحضر، لا تخفى عليه خافية {العزيز الحكيم} أي الغالب في ملكه الحكيم في صنعه.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق في الاسم مثل {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} وكذلك بين {الغيب والشهادة} والطباق في الفعل مثل {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} وهو من المحسنات البديعية.
2 - تقديم الجار والمجرور لإِفادة الحصر {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد} أي له وحده الملك والحمد.
3 - الإستعارة اللطيفة {والنور الذي أَنزَلْنَا} أطلق على القرآن النور بطريق الاستعارة، فإِن القرآن يزيل الشبهات، كما يزيل النور الظلمات.
4 - المقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً. .} الآية وبين {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار خَالِدِينَ فِيهَا} الآية.
5 - الجناس الناقص {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} لاختلاف الحركات في الشكل.
6 - جناس الاشتقاق {أَصَابَ. . مُّصِيبَة} و {يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} .
7 - الإِطناب بتكرار الفعل زيادة في التأكيد واعتناءً بشأن الطاعة {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} .
8 - صيغة المبالغة {والله شَكُورٌ حَلِيمٌ} لأن فعنل وفعيل من صيغ المبالغة.
9 - الاستعارة التمثيلية {إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} شبَّه الإِنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء، بمن يُقرض الله قرضاً واجب الوفاء وذلك بطريق التمثيل، وهو من لطيف الاستعارة وبديع العبارة.
10 - السجع المرصَّع لتوافق الفواصل مثل {والله شَكُورٌ حَلِيمٌ} {عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم} .(3/372)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
اللغَة: {العدة} المدة التي تحتبس فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها {أَحْصُواْ} اضبطوا بطريق العَدَد {حَسْبُهُ} كافية {وُجْدكم} طاقتكم ووسعكم {ارتبتم} شككتم {كَأِيِّن} كثير {عَتَتْ} تكبرت وتجبرت وأعرضت {نُّكْراً} منكراً شنيعاً وفظيعاً {خُسْراً} خساراً وهلاكاً.
سَبَبُ النّزول: أروى البخاري أن عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتغيَّظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال: ليراجِعْها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإِن بدا له أن يطلِّقها فليطلِّقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر بها الله عَزَّ وَجَلَّ.
ب وروي عن أنس قال طلّق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى {يا أيها(3/374)
النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فقيل له: راجعْها فإِنها صوَّامة قوَّامة، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة.
ج وروي أنه لما نزل قوله تعالى {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} {البقرة: 228] قال جماعة من الصحابة يا رسول الله: فما عدة لا قرء لها من صغر أو كِبَر فنزلت {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ. .} الآية.
التفسِير: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} الخطابُ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والحكم عام له ولأمته، وخصَّ هو بالنداء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعظيماً له، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا أي افعل أنت وقومك، فهو نداء على سبيل التكريم والتعظيم قال القرطبي: الخطابُ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خوطب بلفظ الجماعة {طَلَّقْتُمُ} تعظيماً وتفخيماً والمعنى: يا أيها النبي ويا أيها المؤمنون إِذا أردتم تطليق النساء {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي فطلقوهن مستقبلاتٍ لعدتهن، وذلك في الطهر، ولا تطلقوهن في الحيض قال مجاهد: أي طاهراً من غير جماع لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فليطلقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يُطلَّق لها النساء» قال المفسرون: وإِنما نُهي عن طلاق المرأة وقت الحيض لئلا تطول عليها العدة فتتضرر، ولأن حالة الحيض منفِّرة للزوج، تجعله يتسرع في طلاقها بخلاف ما إِذا كانت طاهراً، وكونه لم يجامعها في ذلك الطهر، لئلا يحصل من ذلك الوطء حملٌ، فتنتقل العدة من الحيض لوضع الحمل وفي ذلك ضرر ظاهر {وَأَحْصُواْ العدة} أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء كاملة لئلا تختلط الأنساب {واتقوا الله رَبَّكُمْ} أي خافوا الله ربَّ العالمين، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} أي لا تخرجوهن من مساكنهم، بعد فراقكم لهن إِلى أن تنقضي عدتهن {وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} أي ولا يخرجن من البيوت حتى تنقضي عدتهن، إِلا إِذا قارفت المطلقة عملاً قبيحاً كالزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها قال في التسهيل: نهى الله سبحانه وتعالى أن يُخرج الرجلُ المرأة المطلَّقة من المسكن الذي طلقها فيه، ونهاها هي أن تخرج باختيارها، فلا يجوز لها المبيت خارجاً عن بيتها، ولا أن تغيب عنه نهاراً إِلا لضرورة التصرف، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة، واختلف في الفاحشة التي تبيح خروج المعتدة فقيل: إِنها الزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها، وقيل إِنه سوء الكلام مع الأصهار وبذاءة اللسان فتخرج ويسقط حقها من السكنى، ويؤيده قراءة «إِلا أن يفحشن عليكم» {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} أي وهذه الأحكام هي شرائع الله ومحارمه {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي ومن يخرج عن هذه الأحكام، ويتجاوزها إِلى غيرها ولا(3/375)
يأتمر بها، فقد ظلم نفسه بتعريضها للعقاب، وأضرَّ بها حيث فوَّت على نفسه إِمكان إِرجاع زوجته إِليه قال الرازي: وهذا تشديدٌ فيمن يتعدى طلاق السنة، ومن يطلق لغير العدة {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أي لا تعرف أيها السامع ماذا يحدث اللهُ بعد ذلك الطلاق من الأمر؟ فلعل الله يقلّب قلبه من بغضها إِلى محبتها، ومن الرغبة عنها إِلى الرغبة فيها، فيجعله راغباً في زوجته بعدما كان كارهاً لها قال ابن عباس: يريد الندم على طلاقها، والمحبة لرجعتها في العدة {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي فإِذا شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي فراجعوهنَّ إِلى عصمة النكاح مع الإِحسان في صحبتهن كما أمر الله، أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن قال المفسرون: الإِمساك بالمعروف هو إِحسان العشرة وتوفية النفقة، من غير قصد المضارة في الرجعة لتطول عليها العدة، والفراق بالمعروف هو أداء الصَّداق، والمتعة عند الطلاق، والوفاء بالشروط مع توفية جميع حقوقها {وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} أي وأشهدوا عند الطلاق أو الرجعة، شخصين من أهل العدالة والاستقامة من تثقون في دينها وأمانتها قال في البحر: وهذا الإِشهاد مندوبٌ إِليه عند أبي حنيفة كقوله تعالى
{وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وعند الشافعية واجبٌ في الرجعة، مندوبٌ إِليه في الفرقة {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} أي اشهدوا بالحق دون تحيز لأحد، خالصاً لوجه الله تعالى من غير تبديل ولا تغيير، ودون مراعاةٍ للمشهود له أو المشهود عليه {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} أي هذا الذي شرعناه من الأحكام، إِنما ينتفع ويتعظ به المؤمن الذي يخشى الله، ويخاف الحساب والعقاب في الدار الآخرة {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} أي ومن يراقب الله ويقف عند حدوده، يجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يعلمه قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجلٌ فقال: إِنه طلَّق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إِليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب أحموقته ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس!! والله تعالى يقول {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} وإِنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك وقال المفسرون: الآية عامة وقد
«نزلت في» عوف بن مالك الأشجعي «أسر المشركون ابنه، فأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشكا إِليه الفاقة وقال: إن العدوَّ أسر ابني وجزعتْ أمه فما تأمرني؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له: اتق الله واصبر، وآمرك وإِياها أن تستكثروا من قول» لا حول ولا قوة إِلا بالله «ففعل هو وامرأته، فينا هو في بيته إِذ قرع ابنه الباب، ومعه مائة من الإِبل غفل عنها(3/376)
العدو فاستاقها» فنزلت {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} أي ومن يعتمد على الله، ويثقْ به فيما أصابه ونابه، فإِن الله كافيه قال الصاوي: أي من فوَّض إِليه أمره كفاه ما أهمَّه، والأخذُ بالأسباب لا ينافي التوكل، لأنه مأمور به ولكنْ لا يعتمد على تلك الأسباب، وفي الحديث «لو توكلتم على الله حقَّ توكله لزرقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً» {إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ} أي نافذُ أمره في جميع خلقه، يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء قال في التسهيل: وهذا حضُّ على التوكل وتأكيدٌ له، لأن العبد إِذا خلقه، يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء قال في التسهيل: وهذا حضٌ على التوكل وتأكيدٌ له، لأ، العبد إِذا تحقق أن الأمور كلها بيد الله، توكَّل على الله وحده ولم يعوِّل على سواه {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} أي قد جعل اله لكل أمرٍ من الأمور، مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً، حسب الحكمة الأزلية قال القرطبي: أي جعل لكل شيءٍ من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إِليه. . ثم بيَّن سبحانه حكم المطلَّقة التي لا تحيض لصغرها أو لكبر سنها فقال {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم} أي والنسوة اللواتي انقطع حيضهن لكبر سنهنَّ، إِن شككتم وجهلتم كيف عدتهن؟ فهذا حكمهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ} أي فعدةُ الواحدة منهن ثلاثة أشهر، كل شهرٍ يقوم مقام حيضة {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} أي وكذلك اللواتي لم يحضن لصغرهن عدتهن ثلاثة أشهر {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي والمرأة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل، سواءً كانت مطلقة، أو متوفى عنها زوجها {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} أي ومن يخضى الله في أقواله وأفعاله، ويجتنب ما حرَّم الله عليه، يسهِّل عليه أمره ويوفقه لكل خير {ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} أي ذلك هو حكم الله وشرعه الحكيم، أنزله عليكم أيها المؤمنون لتأتمروا به، وتعملوا بمقتضاه {وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرا} أي ومن يتَّق ربه يمح عنه ذنوبه، ويضاعف له الأجر والثواب قال الصاوي: كرر التقوى لعلمه سبحانه وتعالى أن النساء ناقصات عقلٍ ودين، فلا يصبر على أمورهن إِلا أهل التقوى وقال في البحر: لمَّا كان الكلام في أمر المطلقات، وكنَّ لا يطلَّقن إِلا عن بغض أزواجهنَّ لهنَّ، وقد ينسب الزوج إِليها ما يشينها وينفِّر الخُطَّاب عنها، فلذلك تكرر الأمر بالتقوى، وجاء مبرزاً في صورة شرط وجزاء {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل} الآية {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} أي أسكنوا هؤلاء المطلقات في بعض مساكنكم التي تسكنونها، على قدر طاقتكم ومقدرتكم، فإِن كان موسراً وسَّع عليها في المسكن والنفقة، وإِن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة {وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ} أي ولا تضيقوا عليهن في السكنى والنفقة، حتى تضطروهن إِلى الخروج أو الافتداء {وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ} أي وإِن كانت المطلَّقة حاملاً {فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي فعلى الزوج أن ينفق عليها ولو طالت مدة الحمل حتى تضع حملها {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أي فإِذا ولدت ورضيت أن ترضع له ولده {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي فعلى الرجل أن يدفع لها أجر الرضاعة، لأن الأولاد ينسبون(3/377)
إِلى الآباء قال في التسهيل: والمعنى إِن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم، فآتوهنَّ أجرة الرضاع وهي النفقة وسائر المؤن {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي وليأمر كلٌ منهما صاحبه بالخير، من المسامحة والرفق والإِحسان، قال القرطبي: أي وليْقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل، والمعروف منها: إِرضاعُ الولد من غير أجرة، والمعروف منه: توفيرُ الأجرة عليها للإِرضاع {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي تضايقتم وتشددتم، وعسر الاتفاق بين الزوجين، فأبى الزوج أن يدفع أن يدفع لها ما تطلب، وأبت الزوجة أن ترضعه بأنقص من ذلك الأجر {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} أي فليستأجر لولده مرضعةً غيرها وهو خيرٌ بمعنى الأمر أي فليسترضعْ لولده مرضعةً أُخرى قال أبو حيان: وفيه عتابٌ للأم لطيف كما تقول لمن تطلب منه حاجة فيتوانى عنها: سيقضيها غيرك، تريد أنها لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم قال الضحاك: إِن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإِن لم يقبل أُجبرت أمه على الرضاع بالأجر {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} هذا بيانٌ لقدر الإِنفاق والمعنى: لينفقْ الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير، على قدر وسعة وطاقته، قال في التسهيل: وهو أمرٌ بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله، فلا يكلف الزوج ما لا يطيق، ولا تُضيَّع الزوجة بل يكون الحال معتدلاً، وفي الآية دليلٌ على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس يسراً وعسراً {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ومن ضُيّق عليه رزقه فكان دون الكفاية {فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله} أي فلينفق على مقدار طاقته، وعلى قدر ما آتاه الله من المال {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا} أي لا يكلف الله أحداً إِلا قدر طاقته واستطاعته، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني قال أبو السعود: وفيه تطييبٌ لقلب المعسر، وترغيبٌ له في بذل مجهوده، وقد أكد ذلك الوعد بقوله {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي سيجعل الله بعد الضيق الغنى، وبعد الشدة السعة والرخاء، وفيه بشارة للفقراء بفتح أبواب الرزق عليهم.
. ثم حذَّر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده، وضرب الأمثال بالأمم السابقة فقال {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ} أي وكثير من أهل قرية من الأمم السالفة {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} أي طغت وتمردت على أوامر الله وأوامر رسله {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} أي فجازيناها على عصيانها وطغيانها بأنواع العذاب الأليم، من الجوع والقحط وعذاب الاستئصال {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً} أي عذاباً منكراً عظيماً يفوق التصور {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي فذاقت عاقبة كفرها وطغيانها وتمردها على أوامر الله {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} أي وكانت نتيجة بغيها الهلاك والدمار، والخسران الذي ما بعده خسران. . ولّما ذكر ما حلَّ بالأمم الطاغية، أمر المؤمنين بتقوى الله، تحذيراً من عقابه لئلا يصيبهم ما أصاب أولئك المجرمين فقال {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي هيأ الله لهم في الآخرة عذاب جهنم الشديد المؤبد {فاتقوا الله ياأولي الألباب} أي فخافوا الله واحذروا بطشه وانتقامه يا أصحاب العقول السليمة {الذين آمَنُواْ} أي أنت يا معشر المؤمنين الذي صدقتم بالله ورسوله {قَدْ أَنزَلَ الله(3/378)
إِلَيْكُمْ ذِكْراً} أي قد أنزل الله إِليكم وحياً يتلى وهو القرآنُ الحكيم {رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ} أي وأرسل إِليكم رسولاً وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرأ عليكم آياتِ الله، واضحات جليات، تبيِّن الحلال والحرام وما تحتاجون إِليه من الأحكام قال في البحر: والظاهر أن الذكر هو القرآن، وأن الرسول هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور} أي ليخرج المؤمنين المتقين، من الضلالة إِلى الهدى، ومن ظلمة الكفر والجهل إِلى نور الإِيمان والعلم {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً} أي ومن يُصدق بالله ويعمل بطاعته {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي يدخله في الآخرة جنات النعيم، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي ماكثين في تلك الجنات جنان الخلق أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} أي قد طيَّب الله رزقهم في الجنة ووسَّعه لهم، لأن نعيمها دائم لا ينقطع قال الطبري: أي وسَّع لهم في الجنات الرزق، وهو ما رزقهم من المطاعم والمشارب وسائر ما أعدَّ لأوليائه فيها فطيَّبه لهم، وفي الآية معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب.
. ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وعظيم سلطانه وجلاله فقال {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} أي اللهُ العظيم الكبير هو الذي خلق بقدرته سبع سمواتٍ طباقاً، ومن الأرض كذلك خلق سبع أرضين بعضها فوق بعض بدون فتوق بخلاف السموات {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} أي يتنزل وحيُ الله ويجري أمره وقضاؤه بين السموات والأرضين {لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لتعلموا أن من قدر على خلق ذلك قادر على كل شيءٍ {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} أي ولتعلموا أنه تعالى عالم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ} وكذلك {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} .
2 - الإِظهار في موضع الإِضمار للتهويل {وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} .
3 - الالتفات لمزيد الاهتما {لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ورد بطريق الخطاب والأصل أن يكون بطريق الغائب «لا يدري» .
4 - إيجاز الحذف {واللائي لَمْ يَحِضْنَ} حذف منه الخبر أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً.(3/379)
5 - تكرار الوعيد للتفظيع والترهيب {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} الآية.
6 - المجاز المرسل {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ} يراد بها أهل القرية من باب تسمية الحال باسم المحل.
7 - الاستعارة اللطيفة {لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور} استعار الظلمات للضلال والكفر، واستعار النور للهدى والإيمان، وهو من روائع البيان، وجلال تعبير القرآن.
8 - السجع المرصَّع كأنه الدر والياقوت مثل {قد جعل الله لكل شيء قدراً. . يجعل له من أمره يُسراً. . ويُعظم له أجراً. . وكان عاقبةُ أمرهها خُسراً} الخ وهو من المحسنات البديعية.(3/380)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
اللغَة: {تَحِلَّةَ} تحليل اليمين بالكفارة {صَغَتْ} مالت عن الحقِّ وزاغت، وأصغى الإِناء أماله {قَانِتَاتٍ} مطيعات من القنوت وهو ملازمة الطاعة مع الخضوع {نَّصُوحاً} خالصة صادقة، والتوبةُ النَّصوح هي التي لا عودة بعدها إِلى الذنب، سميت نصوحاً لما فيها من الصدق والإِخلاص يقال: هذا عسلٌ ناصح إِذا خلص من الشمع {اغلظ} من الغلظة وهي الشدة {أَحْصَنَتْ} عفَّت وصانت نفسها عن مقارنة الفاحشة.
سَبَبُ النّزول: أروي «أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقسم بين نسائه، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في زيارة أبويها فأذن لها، فلما خرجت أرسل إِلى جاريته» مارية القبطية «فعاشرها في بيت حفصة، فرجعت فوججتها في بيتها، فغارت غيرةً شديدة، وقالت: أدخلتها بيتي في(3/382)
غيابي وعاشرتها على فراشي؟ {ما أراك فعلت هذا إِلا لهواني عليك} فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مسترضياً لها: إِني حرمتها عليَّ ولا تخبري بذلك أحداً، فلما خرج من عندها قرعت فحصة الجدار الذي بينها وبين عائشة وكانتا متصافيتين وأخبرتها بسرِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فغضب رسول الله وحلفت ألا يدخل على نسائه شهراً واعتزلهن» فأنزل الله {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ. .} الآية.
ب وروي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يدخل على زوجه» زينب «رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فيشرب عندها عسلاً، فاتفقت عائشة وحفصة على أن تقول له كل واحد إِذا دنا منها: أكلتَ معافير وهو طعام حلٌ كريه الريح فلما مرَّ على حفصة قالت له ذلك، ثم دخل على عائشة فقالت له مثل ذلك وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يكره أن توجد منه رائحة كريهة فقال عليه السلام: لا ولكني شربت عسلاً عند زينب ولن أعود له وحلف» فنزلت {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ. .} الآيات.
التفسِير: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} الخطاب بلفظ النبوة مشعرٌ بالتوقير والتعظيم، والتنويه بمقامه الرفيع الشريف، فلم يخاطبه باسمه العلم كما خاطب سائر الرسل بقوله «يا إِبراهيم، يا نوحٌ، يا عيسى بن مريم» وإنما خاطبه بلفظ النبوة أو الرسالة، وذلك أعظم دليلٍ وبرهانٍ على أنه صلوات الله عليه أفضل الأنبياء والمرسلين ومعنى الآية: يا أيها الموحى إِليه من السماء، المنبأ بواسطة الأمين جبريل عليه السلام، لما تمنع نفسك ما أحلَّ الله لك من النساء؟! قال المفسرون: إِن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خلا بأم ولده «مارية» في بيت حفصة وعلمت بذلك فقال لها: اكتمي عليَّ وقد حرمت مارية على نفسي فنزلت الآية {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} وفي افتتاح العتاب من حسن التلطف ما لا يخفى، فقد عاتبه على إِتعاب نفسه والتضييق عليها من أجل مرضاة أزواجه، كأنه يقول: لا تتعب نفسك في سبيل أزواجك، وأزواجك يسعين في مرضاتك، فأرح نفسك من هذا العناء {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} ؟ أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحلَّ الله لك؟(3/383)
قال في التسهيل: يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإنما تركه لرائحته {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي والله واسع المغفرة، عظيم الرحمة، حيث سامحك في امتناعك عن مارية، وإِنما عاتبك رحمة بك، وفي هذه إشارة إِلى أن عتابه في ذلك إِنما كان كرامةً له، وإِنما وقع العتاب لتضييقه عليه السلام على نفسه، وامتناعه مما كان له فيه أُنسٌ ومتعة، وبئس ما قاله الزمخشري في أن هذا كان منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زلة لأنه حرَّم ما أحل الله له الخ فإِن هذا القول قلة أدب مع مقام النبوة، وجهل بصفات المعصوم، فلم يكن منه صلوات الله عليه تحريمٌ للحلال كما زعم حتى تعبتر مخالفة ومعصية، وإِنما امتنع عن بعض إِمائه تطييباً لخاطر بعض أزواجه، فعاتبه الله تعالى عليه رفقاً به، وتنويهاً بقدره، وإِجلالاً لمنصبه عليه السلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، جرياً على ما أُلف من لطف الله تعالى به {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي قد شرع الله لكم يا معشر المؤمنين ما تتحللون به من أيمانكم وذلك بالكفارة {والله مَوْلاَكُمْ} أي واللهُ وليْكم ونارصكم {وَهُوَ العليم الحكيم} أي وهو العليم بخلقه الحكيم في صنعه، فلا يأمر ولا ينهى إِلا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
. ثم شرع تعالى في بيان القصة التي حدثت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع بعض زوجاته فقال {وَإِذْ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً} أي واذكر حين أسرَّ النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى زوجاته حفصة خبراً واستكتمها إِياه قال ابن عباس: هو ما أسرَّ إِلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه، كما أخبرها بأن الخلافة بعده تكون في أبي بكر وعمر، وطلب منها ألا تخبر بذلك أحداً {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي فلما أخبرت بذلك السرِّ عائشة وأفشته لها {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} أي وأطلع الله نبيه بواسطة جبريل الامين على إفشائها للسرِّ {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} أي أعلمها وأخبرها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببعض الحديث الذي أفشته معاتباً لها، ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وكرماً، فإِن من عادة الفضلات التغافل عن الزلات، والتقصير في اللوم والعتاب قال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من شيم الكرام قال الخازن: المعنى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم مارية على نفسه، وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كره أن ينتشر ذلك في الناس {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي فلما أخبر الرسول حفصة بأنها قد أفشت سرِّه {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا} أي قالت: من أخبرك يا رسول الله بأني أفيشتُ سرك؟ قال أبو حيان: ظنت حفصة أن عائشة فضحتها وكانتك قد استكتمتها فقالت من أنبأك هذا على سبيل التثبيت، فأخبرها أن الله جل وعلا هو الذي نبأه به فسكتت وسلَّمت {قَالَ نَبَّأَنِيَ العليم الخبير} أي فقال عليه السلام: أخبرني بذلك ربُّ العزة، العليم بسرائر(3/384)
العباد، الخبير الذي لا تخفى عليه خافية {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله} الخطاب لحفصة وعائشة، خاطبهما بطريق الالتفات ليكون أبلغ من معاتبتهما وحملهما على التوبة مما بدر منهما من الإِيذاء لسيد الأنبياء، وجوابه محذوف تقديره أي إِن تبتما كان خيراً لكما من التعاون على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالإِيذاء {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي فقد زاغت ومالت قلوبكما عما يجب عليكما من الإِخلاص لرسول الله، بحب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي وإِن تتعاونا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما يسوءه، من الوقيعة بينه وبين سائر نسائه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ} أي فإنَّ الله تعالى هو وليُّه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منكما {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أي وجبريل كذلك وليه وناصره، والصالحون من المؤمنين قال ابن عباس: أراد بصالح المؤمنين أبا بكر وعمر فقد كانا عوناً له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عليهما قال في التسهيل: معنى الآية: إِن تعاونتما عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما يسوءه من إِفراط الغيرة، وإِفشاء سره ونحو ذلك، فإِنَّ له من ينصره ويتولاه، وقد ورد في الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: ما يشقُّ عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهنَّ فإنَّ الله معك وملائكته وجبريل، وأبو بكر وعمر معك فنزلت الآية موافقة لقول عمر {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أي والملائكة الأبرار بعد حضرة الله، وجبريل، وصالح المؤمنين أعوانٌ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على من عاداه، فماذا يفيد تظاهر أمرأتين على من هؤلاء أعوانه وأنصارهُ؟! أفرد {جِبْرِيلُ} بالذكر تعظيماً له، وإِظهاراً لمكانته عند الله تعالى فيكون قد ذُكر مرتين: مرةً بالإِفراد، ومرةً في العموم، ووسَّط {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} بين جبريل والملائكة تشريفاً لهم، واعتناءً بهم، وإِشادةً بفضل الصلاح، وختم الآية بذكر {الْمَلاَئِكَةُ} أعظم المخلوقات وجعلهم ظهراء للنبي عليه السلام ليكون أفخم بالنبي صلوات الله عليه، وعظم مكانته، والانتصار له، إِذ هم بمثابة جيشٍ جرارس، يملأ القفار، نصرةً للنبي المختار، فمن ذا الذي يستطيع أن يناوىء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد ذلك؟ ثم خوَّف تعالى نساء النبي بقوله {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} قال المفسرون: {عسى} من الله واجبٌ أي حقٌّ واجب على الله إِن طلقكنَّ رسوله {أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} أي أن يعطيه عليه السلام بدلكُنَّ زوجاتٍ صالحاتٍ خيراً وأفضل منكنَّ قال القرطبي: هذا وعدٌ من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه نساءً خيراً منهن، والله عاملٌ بأنه لا يطلقهن، ولكنْ أخبر عن قدرته، على أن رسوله لو طلقهن، لأبدله خيراً منهن، تخويفاً لهنَّ.
. ثم وصف تعالى هؤلاء الزوجات اللواتي سيبدله بهنَّ فقال {مُسْلِمَاتٍ} أي خاضعات مستسلماتٍ لأمر الله تعالى وأمر رسوله {مُّؤْمِنَاتٍ} أي مصدقاتٍ بالله وبرسوله {قَانِتَاتٍ} أي مطيعات لما يُؤمرن به، مواظباتٍ على الطاعة {تَائِبَاتٍ} أي تائباتٍ من الذنوب، ولا يصررن على معصية {عَابِدَاتٍ} أي متعدباتٍ لله تعالى يكثرن العبادة، كأنَّ العدباة امتزجت بقلوبهن حتى صارت(3/385)
سجيةً لهن {سَائِحَاتٍ} أي مسافراتٍ مهاجراتٍ إِلى الله ورسوله {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أيم منهنَّ ثيباتٍ، ومنهم أبكاراً قال ابن كثير: قسمهن إِلى نوعين ليكون ذلك أشهى إِلى النفس، فإنَّ التنوع يبسط النفس، وإِنما دخلت واو العطف على هنا {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} للتنويع والتقسيم، ولو سقطت لاختل المعنى، لأن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان، فتدبر سرَّ القرآن. . ولما وعظ نساء الرسول موعظةً خاصة، أتبع ذلك بموعظةٍ للمؤمنين فقال {ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} أي يا من صدقتم بالله ورسوله وأسلمتم وجوهكم لله، احفظوا أنفسكم، وصونوا أزواجكم وأولادكم، من نارٍ حامية مستعرة، وذلك بترك المعاصي وفعل الطاعات، وبتأديبهم وتعليمهم قال مجاهد: أي اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله وق لالخازن: أي مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر، وعلموهم وأدبوهم حتى تقوهم بذلك من النار، والمراد بالأهل النساءُ والأولاد وما ألحق بهما {وَقُودُهَا الناس والحجارة} أي حطبها الذي تُسعَّر به نار جهنم هو الخلائق والحجارة قال المفسرون: أرد بالحجارة حجارة الكبريت، لأنها أشد الأشياء حراً، وأسرع اتِّقاداً، وعنى بذلك أنها مفرطة الحرارة، تتقد بما ذكر، لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه قال ابن مسعود: حطبها الذي يلقى فيها بنو آدم، وحجارةٌ من كبريت، أنتن من الجيفة {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ} أي على هذه النار زبانيةٌ غلاظ القلوب، لا يرحمون أحداً، مكلفون بتعذيب الكفار قال القرطبي: المراد بالملائكة الزبانية، وهم غلاظ القولب لا يرحمون إِذا استرحموا، لأنهم خلقوا من الغضب، وحُبّب إِليهم عذاب الخلق كما حُبب لبني آدم أكل الطعام والشراب {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ} أي لا يعصون أمر الله بحالٍ من الأحوال {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي وينفِّذون الأوامر بدون إِمهال ولا تأخير.
. ثم يقال للكفار عند دخولهم النار {ياأيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم} أي لا تعتذروا عن ذنوبكم وإِجرامكم، فلا ينفعكم اليوم الاعتذار، لأنه قد قُدّم إِليكم الإِنذار والإِعذار {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إِنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة، ولا تظلمون شيئاً كقوله تعالى {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} [غافر: 17] ثم دعا المؤمنين إِلى التوبة الصادقة الناصحة فقال {ياأيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} أي توبوا إِلى الله من ذنوبكم توبةً صادقةً خالصة، بالغةً في النصح الغاية القصوى، سئل عمر عن التوبة النصوح فقال: هي أن يتوب ثم لا يعود إِلى الذنب، كما لا يعود اللبن إِلى الضَّرْع قال العلماء: التوبة النصوح هي التي جمعت ثلاثة شروط: الإِقلاع عن الذنب، والندم على ما حدث، والعزم على عدم العودة إِليه، وإِن كان الحق(3/386)
لآدمي زيد شرط رابع وهو: ردٌّ المظالم لأصحابها {عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي لعل الله يرحمكم فيمحو عنكم ذنوبكم قال المفسرون: «عسى» من الله واجبة بمنزلة التحقيق، وهذا إِطماعٌ من الله لعباده في قبول التوبة، تفضلاً منه وتكرماً، لأن العظيم إِذا وعد وَفَّى، وعادة الملوك أنهم إِذا أرادوا فعلا قالوا «عسى» فهو بمنزلة المحقق {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي ويدخلكم في الآخرة حدائق وبساتين ناضرة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} أي يوم لا يفصح الله النبي وأتباعه المؤمنين أمام الكفار، بل يعزهم ويكرمهم قال أبو السعود: وفيه تعريضٌ بمن أخزاهم اللهُ تعالى من أهل الكفار والفسوق {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} أي نور هؤلاء المؤمنين يضيء لهم على الصراط، ويسطع أمامهم وخلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، كإِضاءة القمر في سواد الليل {يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} أي يدعون الله قائلين: يا ربنا أكمل علينا هذا النور وأدمه لنا، ولا تتركنا نتخبط في الظلمات قال ابن عباس: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين، يدعون ربهم به إِشفاقاً حتى يصلوا إِلى الجنة {واغفر لَنَآ} أي وامح عنا ما فرط من الذنوب {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي إنك أنت القادر على كل شيء، من المغفرة والعقاب، والرحمة والعذاب. . ثم أمر تعالى بجهاد أعداء الله من الكفرة والمنافقين فقال {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين} أي جاهد الكفار بالسيف والسِّنان، والمنافقين بالحجة والبرهان، لأن المنافقين يظهرون الإِيمان، فيهم مسلمون ظاهراً فلذلك لم يؤمر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقتالهم {واغلظ عَلَيْهِمْ} أي وشدِّد عليهم في الخطاب، ولا تعاملهم بالرأفة واللين، إِرعاباً وإِذلالاً لهم، لتنكسر صلابتهم وتلين شكيمتهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي ومستقرهم في الآخرة جهنم {وَبِئْسَ المصير} أي وبئست جهنم مستقراً ومصيراً للمجرمين.
. ثم ضرب الله تعالى مثلاً للكفار في عدم انتفاعهم بصلة القرابة أو المصاهرة أو النكاح، لأن الأسباب لكها تنقطع يوم القيامة ولا ينفع إِلا العمل الصالح فقال {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ} أي مثلَّل تعالى للكفار في عدم استفادتهم بقرابة المؤمنين، بحال امرأة نوحٍ وامرأة لوط {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أي كانتا في عصمة نبيين عظيمين هما «نوح و» لوط «عليهما السلام، وإِنما وصفهما بالعبودية تشريفاً وتكريماً لهما بإِضافتهما إِليه تعالى {فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً} أي فخانت كل واحدة زوجها بالكفر وعدم الإِيمان، فلم يدفعا عن امرأتيهما(3/387)
مع نبوتهما شيئاً من عذاب الله {وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} أي وتقول لهما خزنة النار يوم القيامة: ادخلا نار جهنم مع سائر الداخلين، من الكفرة المجرمين قال القرطبي: ضرب تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني في الآخرة أحدٌ عن قريبٍ ولا نسيب، إِذا فرَّق بينهما الدين، كما لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب الله {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ} وهذا مثلٌ آخر للمؤمن في عدم تضرره ببقاء قريبه على الكفر إِذا كان هو مؤمناً قال أبو السعود: أي جعل حالها مثلاً لحال المؤمنين في أن وصلة الكفر لا تضرهم، حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله» فرعون «وهي في أعلى غرف الجنة قال المفسرون: واسمها» آسية بنت مزاحم «آمنت بموسى عليه السلام، فبلغ ذلك فرعون فأمر بقلتها، فنجَّاها الله من شره، فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا ربِّ العالمين {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة} أي حين دعت ربها قائلةً: يا ربِّ اجعل لي قصراً مشيداً بجوار رحمتك في جنة النعيم قال بعض العلماء: ما أحسن هذا الكلام فقد اختارت الجار قبل الدار حيث قالت {ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة} فهي تطمع في جوار الله قبل طمعها في القصور، وفي الآية دليل على إِيمانها وتصديقها بالبعث {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أي وأنقذني من كفر فرعون وطغيانه {وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} أي وأنقذني من الأقباط، أتباع فرعون الطاغين، قال الحسن: لما دعت بالنجاة نجَّاها الله تعالى أكرم نجاة، فرفعها إِلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ} أي ومريم ابنة عمران مثلٌ آخر في الإِيمان {التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي حفظت فرجها وصانته عن مقارنة الفواحش، فهي عفيفةٌ شريفة طاهرة، لا كما زعم اليهود عليهم لعنة الله، أنها زنت وأن ولدها عيسى ابن زنى {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} أي فنفخ رسولنا جبريل في فتحة جيبها، فوصل أثر ذلك إِلى فرجها فحملت بعيسى قال ابن كثير: إن الله بعث جبريل فتمثل لها في صورة بشر، وأمره أن ينفخ بفيه في جيب درعها، فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} أي وآمنت بشرائع الله القدسية، وكتبه السماوية {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} أي وكانت من القوم المطيعين، العابدين لله عَزَّ وَجَلَّ، وهو ثناءٌ عليها بكثرة العبادة والطاعة، والخشوع، وفي الحديث
«كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إِلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بن خوليد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» .
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين حرَّم وأحلَّ {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ} وبين {عَرَّفَ. . وَأَعْرَضَ} وبين {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} وكلها من المسحنات البديعية التي تزيد في جمال الكلام.(3/388)
2 - الإلتفات من الغيبة إِلى الخطاب {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله} زيادةً في اللوم والعتاب.
3 - صيغ المبالغة {العليم الخبير} {نَّصُوحاً} {ظَهِيرٌ} {قَدِيرٌ} الخ.
4 - ذكر العام بعد الخاص {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ} فقد خصَّ جبريل بالذكر تشريفاً، ثم ذكره ثانية مع العموم اعتناءً بشأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووسَّط صالح المؤمنين بين الملائكة المقربين.
5 - المجاز المرسل {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} ذكر المسبِّب وأراد السبب أي لازموا على الطاعة لتقوا أنفسكم وأهليكم من عذاب الله.
6 - المقابلة بين مصير أهل الإِيمان ومصير أهل الطغيان {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} و {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} .
7 - التغليب {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} غلَّب الذكور على الإِناث.
8 - السجع المرصَّع كأنه اللؤلؤ والمرجان، وهو كثير في القرآن فتدبره بإِمعان.(3/389)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
اللغَة: {طِبَاقاً} بعضها فوق بعض، من طابق النعل بالنعل إِذا قطعه بقدره وجعله فوقه {فُطُورٍ} شقوق وخروق، من فطر بمعنى شق قال الشاعر:
بنى لكمو بلا عَمدٍ سماءً ... وسوَّاها فما فيها فُطور
{حَسِيرٌ} كليل من الحسور وهو الإِعياء يقال حسر البعير إِذا كلَّ وانقطع قال الشاعر:
نظرتُ إِليها بالمحصب من منى ... فعاد إِليَّ الطَّرف وهو حسير(3/391)
{شَهِيقاً} صوتاً منكراً كصوت الحمير {تَمَيَّزُ} تتقطع وينفصل بعضها من بعض، وأصلها تتميَّز حذفت احدى التاءين تخفيفاً {مَنَاكِبِهَا} أطرافها ونواحيها، وأصل المنكب: الجانب ومنه منكب الرجل {لَّجُّواْ} تمادوا وأصروا {تَمُورُ} ترتج وتضطرب {زُلْفَةً} قريباً منهم {غَوْراً} غائراً ذهباً في الأرض.
التفسِير: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} أي تمجَّد وتعالى اللهُ العلي الكبير، المفيض على المخلوقات من فنون الخيرات، الذي بقبضة قدرته ملك السموات والأرض، يتصرف فيهما كيف يشاء قال ابن عباس: بيده الملك، يعزُّ من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وهو القادر على كل شيء له القدرة التامة، والتصرف الكامل في كل الأمور، من غير منازع ولا مدافع. . ثم بيَّن تعالى آثار قدرته، وجليل حكمته فقال {الذي خَلَقَ الموت والحياة} أي أوجد في الدنيا الحياة والموت، فأحيا من شاء وآمات من شاء، وهو الواحد القهار، وإِنما قدم الموت لأنه أهيب في النفوس وأفزع قال العلماء: ليس الموت فناءاً وانقطاعاً بالكلية عن الحياة، وإِنما هو انتقال من دار إِلى دار، ولهذا ثبت في الصحيح أن الميت يسمع، ويرى، ويُحسُّ وهو في قبره كما قال عليه السلام «إنَّ أحدكم إِذا وضع في قبره وتولَّىعنه أصحابه وإِنه ليسمع قرع نعالهم» الحديث وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم لكنهم لا يجيبون» فالموتُ هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقتها للجسد {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي ليمتحنكم ويختبركم أيها الناس فيرى المحسن منكم من المسيء قال القرطبي: أي يعاملكم معالمة المختبر، فإن الله تعالى عالم بالمطيع والعاصي أزلاً {وَهُوَ العزيز} أي الغالبُ في انتقامه ممن عصاه {الغفور} لذنوب من تاب وأناب إِليه {الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات طِبَاقاً} أي لست ترى أيها السامع في خلق الرحمن البديع من نقص أو خلل، أو اختلاف أو تنافر، بل هي في غاية الإِحكام والإِتقان، وإِنما قال {فِي خَلْقِ الرحمن} ولم يقل «فيهن» تعظيماً لخلقهن، وتنبيهاً على باهر قدرة الله {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} ؟ أي فكرّر النظر في السموات وردّده في خلقهن المحكم، هل ترى من شقوق وصدوع؟ {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي ثم ردِّد النظر مرةً بعد أُخرى، وانظر بعين الاعتبار في هذه السموات العجيبة، مرةً بعد مرة {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً} أي يرجع إِليك بصرك خاشعاً ذليلاً، لم ير ما تريد {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي وهو كليلٌ متعب قد بلغ الغاية في الإِعياء قال الإِمام الفخر: المعنى إِنك إِذا كررت نظرك لم يرجع إِليك بصرك بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل رجع خاسئاً مبعداً لم ير ما يهوى مع الكلال والإِعياء وقال القرطبي: أي ارددك طرفك وقلّب البصر في السماء {كَرَّتَيْنِ} أي مرةً بعد أخرى، يرجع إِليك البصر خاشعاً صاغراً، متباعداً عن أن يرى شيئاً من ذلك العيب والخلل، وإنما أمر بالنظر كرتين، لأن(3/392)
الإِنسان إِذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه، ما لم ينظر إِليه مرة أخرى، والمراد بالكرتين التكثير بدليل قوله {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} وهو دليلٌ على كثرة النظر.
. ثم بيَّن تعالى ما زين به السماء من النجوم الزاهرة والكواكب الساطعة فقال {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} أي خلق سبع سمواتٍ متطابقة، بعضها فوف بعض، كل سماء كالقبة للأُخرى {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} اللام لام القسم و {قد} للتحقيق والمعنى والله لقد زينا السماء القريبة منكم أيها الناس بكواكب مضيئة ساطعة، هي السماء الأولى أقرب السموات إِلى الأرض قال المفسرون: سميت الكواكب مصابيح لإِضاءتها بالليل إضاء السراج {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} أي وجعلنا لها فائدةً أُخرى وهي رجم أعدائكم الشياطين، الذين يسترقون السمع قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاثٍ: زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها في البر والبحر وقال الخازن: فإِن قيل: كيف تكون زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وكونها زينة يقتضي بقاءها، وكونها رجوماً يقتضي زوالها، فيكف الجمع بين هاتين الحالتين؟ فالجواب أنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب، بل يجوز أن تنفصل من الكواكب شعلة وتُرمى الشياطين بتلك الشعلة وهي الشهب، ومثلها كمثل قبسٍ يؤخذ من النار وهي على حالها، أقول: ويؤيده قوله تعالى {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] فعلى هذا، الكواكب لا يرجم بها؛ وإِنما يكون الرجم بالشهب {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} أي وهيأنا وأعددنا للشياطين في الآخرة بعد الإِحراق بالشهب في الدنيا العاذب المستعر، وهو النار الموقدة {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} أي وللكافرين بربهم عذاب جهنم أيضاً، فليس العذاب مختصاً بالشياطين بل هو لكل كافر بالله من الإِنس والجن {وَبِئْسَ المصير} أي وبئست النار مرجعاً ومصيراً للكافرين. . ثم وصف تعالى جهنم وما فيها من العذاب والأهوال والأغلال فقال {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا} أي إِذا قذفوا وطرحوا في جهنم كما يطرح الحطبُ في النار العظيمة {سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً} أي سمعوا لجهنم صوتاً منكراً فظيعاً كصوت الحمار، لشدة توقدها وغليانها قال ابن عباس: الشهيقُ لجهنم عند إِلقاء الكفار فيها، تشهق إِليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزفرُ زفرة لا يبقى أحدٌ إِلا خاف {وَهِيَ تَفُورُ} أي وهي تغلي بهم كما يغلي المرجل القدر من شدة الغضب ومن شدة اللهب قال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحبُّ القليل في الماء الكثير {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} أي تكاد جهنم تتقطع وينفصل بعضها من بعض، من شدة غيظها وحنقها على أعداء الله {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} أي كلما طرح فيها جماعةٌ من الكفرة {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ} أي سألتهم الملائكة الموكلون على جنهم وهم الزبانية سؤال توبيخ وتقريع {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} أي ألم يأتكم رسولٌ ينذركم ويخوفكم من هذا اليوم الرهيب؟ قال المفسرون: وهذا السؤال زيادة لهم في الإِيلام، ليزدادوا حسرةً فوق حسرتهم، وعذاباً فوق عذابهم {قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} أي أجابوا نعم لقد جاءنا رسول منذر، وتلا علينا(3/393)
آيات الله، ولكننا كذبناه وأنكرنا رسالته {وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ} أي وقلنا إِمعاناً في التكذيب وتمادياً في النكير: ما أنزل الله شيئاً من الوحي على أحدٍ قال الرازي: هذا اعترافٌ منهم بعدل الله، وإِقرار بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل الكرام، ولكنهم كذبوا الرسل وقالوا ما نزَّل الله من شيء {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ} هذا من تتمة كلام الكفار أي ما أنتم يا معشر الرسل إِلا من بعدٍ عن الحق، وضلال واضح عميق {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} أي وقال الكفار: لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو كنا نسمع سماع طالب للحق، ملتمسٍ للهدى {مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير} أي ما كنا نستوجب الخلود في جهنم {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} أي فأقروا بإِجرامهم وتكذيبهم للرسل {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} أي فبعداً وهلاكاً لأهل النار قال ابن كثير: عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، والجملة دعائية أي أبعدهم الله من رحمته وسحقهم سحقاً.
. ثم لما ذكرحال الأشقياء الكفار أتبعه بذكر حال السعداء الأبرار فقال {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} أي يخافون ربهم ولم يروه، ويكفُّون عن المعاصي طلباً لمرضاة الله {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي لهم عند الله مغفرةٌ عظيمة لذنوبهم، وثواب جزيل لا يعلم قدره غير الله تعالى {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} الخطاب لجميع الخلق أي أخفوا قولكم وكلامكم أيها الناس أو أعلنوا وأظهروه، فسواءٌ أخفيتموه أو أظهرتموه فإنَّ الله يعلمه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي لأنه تعالى العالم بالخفايا ولنوايا، يعلم ما يخطر في القلوب، وما توسوس به الصدور قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيخبره جبريل بما قالوا، فقال بعضهم لبعض: أسرُّوا قولكم حتى لا يسمع إِله محمد، فأخبره الله أنه لا تخفى عليه خافية {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} ؟ أي ألا يعلم الخالق مخلوقاته؟ كيف لا يعلم من خلق الأشياء وأوجدها سرَّ المخلوق وجهره؟ {وَهُوَ اللطيف الخبير} أي والحال أنه اللطيف بالعباد، الذي يعلم دقائق الأمور وغوامضها، الخبير الذي لا يعزب عن علمه شيء، فلا تتحرك ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفسٌ إِلا وعنده خبرها.
. ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته، وآثار فضله وأمتنانه على العباد فقال {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} أي الله جل وعلا جعل لكم الأرض لينةً سهلة المسالك {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي فاسلكوا أيها الناس في جوانبها وأطرافها قال ابن كثير: أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وتردّدوا في أقاليمها وأرجائها للمكاسب والتجارات {وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} أي وانتفعوا بما أنعم به جل وعلا عليكم من أنواع الكسب والرزق قال الألوسي: كثيراً ما يُعبر عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم، وفي الآية دليل على ندب التسبب والكسب، وهو لا ينافي التوكل، فقد مرَّ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بقومٍ فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون فقال: بل أنتم المتواكلون، إِنما المتوكل رجلٌ ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عَزَّ وَجَلَّ {وَإِلَيْهِ النشور} أي وإِليه تعالى المرجع بعد الموت والفناء، للحساب والجزاء. . ثم توعّد تعالى كفار مكة المكذبين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن(3/394)
يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض} أي هل أمنتم يا معشر الكفار ربكم العليَّ الكبير أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم في مجاهلها، بعد ما جعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها؟ {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أي فإِذا بها تضطرب وتهتز بكم هزاً شديداً عنيفاً قال الرازي: والمراد أنَّ الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فيذهبون، والأرضُ فوقهم تمور فتلقيهم إِلى أسفل سافلين {أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} أي أم أمنتم الله العليَّ الكبير أن يرسل عليكم حجارة من السماء، كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل؟ {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي فستعلمون عند معاينة العذاب، كيف يكون إِنذاري وعقابي للمكذبين!! وفيه وعيد وتهديدٌ شديد، وأصلها {نذيري} و {نكيري} حذفت الياء مراعاةً لرءوس الآيات {وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي ولقد كذب كفار الأمم السابقة رسلهم، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وأمثالهم، وهذا تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتهديد لقومه المشركين {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أي فكيف كان إنكاري عليهم بنزول العذاب؟ ألم يكن في غاية الهول والفظاعة؟ ثم لما حذَّرهم ما عسى أن يحل بهم من الخسف وإِرسال الحاصب، نبَّههم على الاعتبار بالطير، وما أحكم الله من خلقها، وعن عجز آلهتهم المزعومة عن خلق شيءٍ من ذلك فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} أي أولم ينظروا نظر اعتبار الى الطيور فوقهم، باسطاتٍ أجنحتهن في الجو عند طيرانها وتحلقيها، {وَيَقْبِضْنَ} أي ويضممنها إِذا ضربن بها جنوبهن وقتاً بعد وقت؟ ولما كان الغالب هو فتح الجناحين فكأنه هو الثابت عبَّر عنه بالإِسم {صَافَّاتٍ} وكان القبض متجدداً عبَّر عنه بالفعل {وَيَقْبِضْنَ} قال في التسهيل: فإِن قيل: لِمَ لم يقل «قابضات» على طريقة {صَافَّاتٍ} ؟ فالجواب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران، كما أن مدَّ الأطراف هو الأصل في السباحة، فذكره بصيغة اسم الفاعل {صَافَّاتٍ} لدوامه وكثرته، وأما قبضُ الجناحين فإِنما يفعله الطائر قليلاً للاستراحة والاستعانة، فلذلك ذكره بلفظ الفعل لقلته {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن} أي ما يمسكهن في الجو عن السقوط في حال البسط والقبض، إِلا الخالق الرحمن الذي وسعت رحمته كل ما في الأكوان قال الرازي: وذلك أنها مع ثقلها وضخامة أجسامها، لم يكن بقاؤها في جو الهواء إِلا بإِمساك الله وحفظه، وإِلهامها الى كيفية البسط والقبض المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} أي يعلم كيف يخلق، وكيف يبدع العجائب، بمقتضى عمله وحكمته.
. ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم لما لا ينفع ولا يسمع فقال {أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن} ؟ أي من هذا الذي يستطيع أن يدفع عنكم الله من الأنصار والأعوان؟! قال ابن عباس: أي من ينصركم مني إِن أردتُ عذابكم؟ {إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ} أي ما الكافرون في اعتقادهم أن آلهتهم تنفع أو تضرُّ إِلا في جهل عظيم، وضلال مبين، حيث ظنوا الأوهام حقائق، فاعتزوا بالأوثان والأصنام {أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} ؟ أي من هذا الذي يرزقكم غير الله إِن منع الله عنكم رزقه؟ والخطاب في الآيتين للكفار على وجه التوبيخ(3/395)
والتهديد، وإِقامة الحجة عليهم {بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي بل تمادوا في الطغيان، وأصرّوا على العصيان، ونفروا عن الحق والإِيمان. . ثم ضرب تعالى مثلاً للكافر والمؤمن فقال: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ؟ أي هل من يمشي منكساً رأسه، لا يرى طريقه فهو يخبط خبط عشواءً، مثل الأعمى الذي يتعثر كل ساعة فيخرّ لوجهه، هل هذا أهدى أم من يمشي منتصب القامة، ويرى طريقه ولا يتعثر في خطواته، لأنه يسير على طريق بيّن واضح؟ قال المفسرون: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر كالأعمى الماشي على غير هدى وبصيرة، لا يهتدي الى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه، والمؤمن كالرجل السويّ الصحيح البصر، الماشي على الطريق المستقيم فهو آمن من لخبط والعثار، هذا مثلهما في الدنيا، وكذلك يكون حالهما في الآخرة، المؤمن يحشر يمشي سوياً على صراطٍ مستقيم، والكافر يحشر يمشي على وجهه إِلى دركات الجحيم قال قتادة: الكافر أكبَّ على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه، والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله على الطريق السويّ يوم القيامة وقال ابن عباس: هو مثلٌ لمن سلك طريق الضلالة ولمن سلك طريق الهدى.
. ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة، ليعرفوا قبح ما هم عليه من الكفر والإِشراك فقال {قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} أي قل لهم يا محمد: الله جل وعلا هو الذي أوجدكم من العدم، وأنعم عليكم بهذه النعم «السمع والبصر والعقل» وخصَّ هذه الجوارح بالذكر لأنها أداة العلم والفهم {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي قلَّما تشكرون ربكم على نعمه التي لا تُحصى قال الطبري: أي قليلاً ما تشكرون ربكم على هذه النعم التي أنعمها عليكم {قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض} أي خلقكم وكثَّركم في الأرض {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وإِليه وحده مرجعكم للحساب والجزاء {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي متى يكون الحشر والجزاء الذي تعدوننا به؟ إِن كنتم صادقين فيما تخبروننا به من مجيء الساعة الحشر، وهذا استهزاء منهم {قُلْ إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله} أي قل لهم يا محمد: علم وقت قيام الساعة ووقت العذاب عند الله تعالى لا يعمله غيره {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي وما أنا إِلا رسولٌ منذر أخوفكم عذاب الله امتثالاً لأمره. . ثم أخبر تعالى عن حال المشركين في ذلك اليوم العصيب فقال {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} أي فلما رأوا العذاب قريباً منهم، وعاينوا أهوال القيامة {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} أي ظهرت على وجوههم آثار الاستياء، فعلتها الكآبة والغم والحزن، وغشيها(3/396)
الذل والانكسار، قال افي البحر: أي ساءت رؤية العذاب وجوههم، وظهر فيها السوء والكآبة، كمن يساق الى القتل {وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} أي وقالت لهم الملائكة توبيخاً وتبكيتاً: هذا الذي كنتم تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاءً وتكذيباً {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذي يتمنون هلاكك: أخبروني إِن أماتني الله ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا بتأخير آجالنا {فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فمن يحميكم من عذاب الله الأليم، ووضع لفظ {الكافرين} عوضاً عن الضمير «يجيركم» تشنيعاً وتسجيلاً عليهم بالكفر قال المفسرون: كان الكفار يتمنون هلاك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمين، فأمره الله أن يقول لهم: إِن أهلكني الله بالإِماتة وأهلك من معي، فأي راحةٍ وأي منفعة لكم فيه، ومن الذي يجيركم من عذاب الله إِذا نزل بكم؟ هل تظنون أن الأصنام تخلصكم وتنقذكم من العذاب الأليم؟ {قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} أي قل لهم: آمنا بالله الواحد الأحد، وعليه اعتمدنا في جميع أمورنا، لا على الأموال والرجال {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي فسوف تعلمون عن قريب من هو في الضلالة نحن أم أنتم؟ وفيه تهديد للمشركين {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} أي قل لهم يا محمد: أخبروني إِذا صار الماء غائراً ذاهباً في أعماق الأرض، بحيث لا تستطيعون إِخراجه {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} أي فمن الذي يخرجه لكم حتى يكون ظاهراً جارياً على وجه الأرض؟ هل يأتيكم غير الله به؟ فلم تشركون مع الخالق الرازق غيره من الأصنام والأوثان؟
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {الموت.
. والحياة} وبين {وَأَسِرُّواْ أَوِ اجهروا} وبين {صَافَّاتٍ. . وَيَقْبِضْنَ} لأن المعنى صافات وقابضات.
2 - وضع الموصول للتفخيم والتعظيم {الذي بِيَدِهِ الملك} أي له الملك السلطان، والتصرف في الأكوان.
3 - الإِطناب بتكرار الجملة مرتين زيادة في التذكير والتنبيه {فارجع البصر. . ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} وكذلك {مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير. . فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} .
4 - الاستفهام الإِنكاري للتقريع والتوبيخ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ؟
5 - المقابلة {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} قابله بقوله {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ} وهو من المحسنات البديعية.
6 - الاستعارة المكنية {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} شبَّه جهنم في شدة غليانها ولهبها بإِنسان شديد الغيظ والحنق على عدوه يكاد يتقطع من شدة الغيظ، وحذف المشبه به ورمز إِليه بشيء من لوازمه وهو الغيظ الشديد بطريق الاستعارة المكنية.
7 - الاستعارة التمثيلية {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ(3/397)
مُّسْتَقِيمٍ} هذا بطريق التمثيل للمؤمن والكافر، فالمؤمن من يمشي سوياً على صراط مستقيم، والكافر يمشي مكباً على وجهه إِلى طريق الجحيم، ويا لها من استعارة رائعة!!
8 - السجع المرصَّع مراعاة لرءوس الآيات مثل {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} ؟ {بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} ومثل {إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ} {فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} الخ.(3/398)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
اللغَة: {يَسْطُرُونَ} يكتبون، سَطَر العلمَ كتبه بالقلم {مَمْنُونٍ} مقطوع يقال: مننتُ الحبل إذا قطعته {عُتُلٍّ} العُتل: الغليظ الجافي، السريع إلى الشر، مأخوذ من العَتل وهو الجر {خُذُوهُ فاعتلوه} [الدخان: 47] قال في الصحاح: عَتلت الرجل إذا جذبته جذباً عنيفاً {زَنِيمٍ} الزنيمُ: الملصق بالقوم وليس منهم، وهو الدعيُّ الذي لا يعرف أبوه قال الشاعر:(3/400)
زنيمٌ ليس يُعرف من أبوه ... بغيُّ الأم ذو حَسبٍ لئيم
{صَارِمِينَ} صرم الشيء قطعه، وصرم النخلة قطع ثمرها {حَرْدٍ} قصد وعزم {زَعِيمٌ} كفيل وضمين {مَكْظُومٌ} مملوءٌ غيظاً وغماً.
التفسِير: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} نون حرف من الحروف المقطعة، ذكر للتنبيه على إِعجاز القرآن. . أقسم تعالى بالقلم الذي يكتب الناس به العلوم والمعارف، فإِن القلم أخو اللسان ونعمة من الرحمن على عباده والمعنى: أُقسم بالقلم وما يكتبه الكاتبون على صدق محمد وسلامته مما نسبه إِليه المجرمون من السفه والجنون، وفي القسم بالقلم والكتابة إِشادة بفضل الكتابة والقراءة، فالإِنسان من بين سائر المخلوقات خصه الله بمعرفة الكتابة ليفصح عما في ضميره {الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 45] وحسبك دليلاً على شرف القلم أن الله أقسم به في هذه السورة تمجيداً لشأن الكتابين، ورفعاً من قدر أهل العلم، ففي القلم البيان كما في اللسان، وبه قوام العلوم والمعارف قال ابن كثير: والظاهر من قوله تعالى {والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} أنه جنس من القلم الذي يكتب به، وهو قسم منه تعالى لتنبيه خلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} أي لست يا محمد بفضل الله وإنعامه عليك بالنبوة بمجنون، كما يقول الجهلة المجرمون، فأنت بحمد الله عاقل لا كما قالوا {ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] قال ابن عطية: هذا جواب القسم، وقوله {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} اعتراض كما تقول للإِنسان: أنت بحمد الله فاضل {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي وإنّ لك لثوابا على ما تحملت من الأذى في سبيل تبليغ دعوة الله غير مقطوع ولا منقوص {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} أي وإِنك يا محمد لعلى أدب رفيع جم وخلق فاضل كريم، فقد جمع الله فيك الفضائل والكمالات. . يا له من شرف عظيم، لم يدرك شأوه بشر، فرب العزة جل علا يصف محمداً بهذا الوصف الجليل {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقد كان من خلقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العلم والحلم، وشد الحياء، وكثرة العبادة والسخاء، والصبر والشكر، والتواضع والزهد، والرحمة والشفقة، وحسن المعاشرة والأدب، إلى غير ذلك من الخلال(3/401)
العلية، والأخلاق المرضية ولقد أحسن القائل:
إذا الله أثنى بالذي هو أهله ... عليك فما مقدار ما تمدح الورى؟
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} أي فسوف ترى يا محمد، ويرى قومك ومخالفوك كافر مكة إذا نزل به العذاب {بِأَييِّكُمُ المفتون} أي أيكم الذي فتن بالجنون؟ هل أنت كما يفترون، أم هم بكفرهم وانصرافهم على الهدى؟ قال القرطبي: والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان، ومعظم السورة نزل في «الوليد بن المغيرة» و «أبي جهل» وقد كان المشركون يقولون: إن بمحمد شيطاناً، وعنوا بالمجنون هذا، فقال الله تعالى سيعلمون غداً بأيهم المجنون أي الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} أي هو سبحانه العالم بالشقي المنحرف عن دين الله وطريق الهدى {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي وهو العالم بالتقي المهتدي إِلى الدين الحق، وهو تعليل لما قبله وتأكيد للوعد والوعيد كأنه يقول: إنهم هم المجانين على الحقيقة لا أنت، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها، ولا استعملوها فيما ينجيهم ويسعدهم {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} أي فلا تطع رؤساء الكفر والضلال الذين كذبوا برسالتك وبالقرآن، فيما يدعونك إليه قال الرازي: دعاه رؤساء أهل مكة إلى دين آبائه، فنهاه الله أن يطعيهم، وهذا من الله إلهاب وتهييج للتشدد في مخالفتهم {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي تمنوا لو تلين لهم يا محمد، وتترك بعض ما لا يرضونه مصانعة لهم، فيلينوا لك ويفعلوا مثل ذلك في التسهيل: المداهنة: هي الملاينة والمداراة فيما لاينبغي، روي أن الكفار قالوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لو عبدت آلهتنا لعبدنا إلهك فنزلت الآية {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ} أي ولا تطع يا محمد كثير الحلق بالحق والباطل، الذي يكثر من الحلف مستهيناً بعظمة الله {مَّهِينٍ} أي فاجر حقير {هَمَّازٍ} أي مغتاب يأكل لحوم الناس بالطعن والعيب {مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ} أي يمشي بالنميمة بين الناس، وينقل حديثهم ليوقع بينهم وهو الفتان، وفي الحديث الصحيح «لا يدخل الجنة نمام» {مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} أي بخيل ممسك عن الإِنفاق في سبيل الله {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي ظالم متجاوز في الظلم والعدوان، كثير الآثام والإِجرام، وجاءت الأوصاف {حلاف، هماز، مشاء، مناع} بصيغة المبالغة للدلالة على الكثرة {عُتُلٍّ} أي جاف غليظ، قاسي القلب عديم الفهم {بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد تلك الأوصاف الذميمة التي تقدمت {زَنِيمٍ} أي ابن زنا، وهو أشد معايبه واقبحُها، أنه لصيق دعي ليس له نسب صحيح قال المفسرون: نزلت في «الوليد بن المغيرة» فقد كان داعياً في قريش وليس منهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة أي تبناه ونسبه لنفسه بعد أن كان لا يعرف له أب قال ابن عباس: لا نعلم أحداً وصفه الله بهذه العيوب غير هذا، فألحق به عاراً لا يفارقه أبداً، وإِنما ذُمَّ بذلك لأن النطفة إِذا خبثت خبث الولد، وروي أن الآية لما نزلت جاء الوليد إِلى أمه فقال لها: إن محمداً وصفني بتسع صفات، كلها ظاهرة فيَّ اعرفها غير التاسع منها يريد أنه {زَنِيمٍ} فإن لم تصدقيني ضربت عنقك بالسيف، فقال له: إن أباك كان عنيناً أي لا يستطيع معاشرة النساء فخفت على المال فمكنت راعياً من نفسي فأنت ابن ذلك الراعي، فلم يعرف أنه ابن زنا حتى(3/402)
نزلت الآية {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} أي لأن كان ذا مال وبنين قال في القرآن ما قال، وزعم أنه أساطير الأولين؟ وكان ينبغي أن يقابل النعمة بالشكر لا بالجحود والتكذيب {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} أي إذا قرئت آيات القرآن على ذلك الفاجر قال مستهزئاً ساخراً: إنها خارفات وأباطيل المتقدمين اختلقلها محمد ونسبها إِلى الله، قال تعالى رداً عليه متوعداً له بالعذاب {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} أي سنجعل له علامة على أنفه بالخطم عليه يعرف بها إِلى موته، وكنى بالخرطوم عن أنفه على سبيل الاستخفاف به، لأن الخرطوم للفيل والخنزير، فإِذا شبه أنف الإِنسان به كان ذلك غاية في الإِذلال والإِهانة كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر، قال ابن عباس: سنخطم أنفه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش، وقد خطم يوم بدر بالسيف قال الإِمام الفخر: لما كان الوجه أكرم موضع الجسد، والأنف أكرم موضع في الوجه لارتفاعه عليه، وذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأَنفَة، وقالوا في الذليل: رغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإِذلال والإِهانة، لأن السمة على الوجه شين، فكيف على أكرم موضع من الوجه!! ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الحديقة وما ابتلاهم تعالى به من إتلاف الزروع والثمار وضربه مثلاً لكفار مكة فقال {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة} أي إنا اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما اختبرنا أصحاب البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه، وكلفنا أهل مكة أن يشكروا ربه على النعم، كما كلفنا أصحاب الجنة أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم قال المفسرون: كان لرجل مسلم بقرب صنعاء بستان فيه من أنواع النخيل والزروع والثمار، وكان إذا جان وقت الحصاد دعا الفقراء فأعطاهم نصيباً وافراً منه وأكرمهم غاية الإِكرام فلما مات الأب ورثه أبناؤه الثلاثة فقالوا: عيالنا كثير والمال قليل ولا يمكننا أن نعطي المساكين كما كان يفعل أبونا، فتشاوروا فيما بينهم وعزموا على ألا يعطوا أحداً من الفقراء شيئاً، وأن يجنوا ثمرها وقت الصباح خفية عنهم، وحلفوا على ذلك، فأرسل الله تعالى ناراً على الحديقة ليلاً أحرقت الأشجار وأتلفت الثمار، فلما أصبحوا ذهبوا إِلى حديقتهم فلم يروا فيها شجراً ولا ثمراً، فظنوا أنهم أخطأوا الطريق، ثم تبين لهم أن بستانهم وحديقتهم وعرفوا أن الله تعالى عاقبهم فيها بنيتهم السيئة، فندموا وتابوا بعد أن فات الأوان {إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أي حين حلفوا ليقطعن ثمرها وقت الصباح، قبل أن يخرج اليهم المساكين {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} أي ولم يقولوا إن شاء الله حين حلفوا، كأنهم واثقون من الأمر {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ} أي فطرقها طارق من عذاب الله، وهم في غفلة عما حدث لأنهم كانوا نياماً، قال الكلبي: أرسل الله عليها ناراً من السماء(3/403)
فاحترقت وهم نائمون {فَأَصْبَحَتْ كالصريم} أي فأصبحت كالزرع المحصود إِذا أصبح هشيماً يابساً قال ابن عباس: أصبحت كالرماد الأسود، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم {فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ} أي نادى ب عضهم بعضاً حين أصبحوا ليمضوا على الميعاد إِلى بستانهم {أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ} أي اذهبوا مبكرين إلى ثماركم وزروعكم وأعنابكم إن كنتم حاصدين للثمار تريدون قطعها {فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} أي فانطلوا نحو البستان وهم يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين قائلين {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ} أي لا تدخلوا في هذا اليوم أحداً من الفقراء إلى البستان ولا تمكنوه من الدخول {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ} أي ومضوا على قصد وقدرة في أنفسهم يظنون أنه تمكنوا من مرادهم قال ابن عباس: {على حَرْدٍ} على قدرة وقصد وقال السدي: على حنق وغضب وقال الحسن: على فاقة وحاجة، وقول ابن عباس أظهر {فَلَمَّا رَأَوْهَا قالوا إِنَّا لَضَآلُّونَ} أي فلما رأوا حديقتهم سوداء محترقة، قد استحالت من النضارة والبهجة إلى السواد والظلمة، قالوا لقد ضللنا الطريق إليها وليست هذه حديقتنا قال أبو حيان: كان قولهم ذلك في أول وصولهم إليها، أنكروا أنها هي واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق، ثم وضح لهم أنها هي وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها فقالوا عند ذلك {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي لسنا مخطئين للطريق بل نحن محرومون، حرمنا ثمرها وخيرها بجنايتنا على أنفسنا {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} ؟ أي قال أعقلهم وأفضلهم رأياً: هلا تسبحون الله فتقولون «سبحان الله» أو «إن شاء الله» قال في البحر: نبههم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من التسبيح، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين، واقتفوا سنة أبيهم في ذلك، فلما غفلوا عن ذكر الله وعزموا على منع المساكين ابتلاهم الله وقال الرازي: إن القوم حين عزموا على منع الزكاة واغتروا بمالهم وقوتهم، قال الأوسط لهم توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب، فلما رأوا حالة البستان ذكرهم بالكلام الأول، فاشتغلوا بالتوبة ولكن بعد خراب البصرة {قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي فقالوا حينئذٍ: تنزه الله ربنا عن الظلم فيما فعل، بل نحن كنا الظالمين لأنفسنا في منعنا حق المساكين {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ} أي يلوم بعضهم بعضاً يقول هذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذاك: بل أنت، ويقول آخر: أنت الذي خوفتنا الفقر ورغبتنا في جمع المال، فهذا هو التلاوم {قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أي قالوا يا هلاكنا وتعاستنا إن لم يغفر لنا ربنا، فقد كنا عاصين وباغين في منعنا الفقراء، وعد التوكل على الله، فقال الرازي: والمراد أنهم استعظموا جرمهم {عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ} أي لعل الله يعطينا أفضل منها بسبب توبتنا واعترافنا بخطيئتنا {إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} أي فنحن راجون لعفوه، طالبون لإِحسانه وفضله.
. ساق تعالى هذه(3/404)
القصة ليعلمنا أن مصير البخيل ومانع الزكاة إِلى التلف، وأنه يضن ببعض ماله في سبيل الله فيهلك كل ماله مصحوباً بغضب الله، ولذلك عقب تعالى بعد ذكر هذه القصة بقوله {كَذَلِكَ العذاب وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي مثل هذا العذاب الذي نزل بأهل الجننة ينزل بقريش، ولعذاب الآخرة أعظم وأشد من عذاب الدنيا لو كان عندهم فهم وعلم، قال ابن عباس: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إِلى بدر، وحلفوا ألا يرجعوا إلى مكة حتى يقتلوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، ويشربوالخمور، وتضرب القينات المغنيات على رءوسهم، فأخلف الله ظنهم، فقلتوا وأُسروا وانهزموا كأهل هذه الجننة لما خرجوا عازمين على الصرام فخابوا. . ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين المتقين بعد أن ذكر حال المجرمين من كفار مكة فقال {إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم} أي إن للمتقين في الآخةر حدائق وبساتين ليس فها إلا النعيم الخالص، الذي لا يشوبه كدر ولا منغص كما هو حال الدنيا {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين} ؟ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أفنساوي بين المطيع والعاصي، المحسن والمجرم؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ؟ تعجب منهم حيث أنهم يسوُّون المطبع بالعاصي، والمؤمن بالكافر، فإن مثل هذه لا يصدر عن عاقل {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} ؟ أي هل عندكم كتاب منزل من السماء تقرءون وتدرسون فيه {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} هذه الجملة مفعول لتدرسون أي تدرسون في هذا الكتاب أن لكم ما تشتهون وتطلبون؟ وهذا توبيخ آخر للمشركين فيما كانوا يزعمونه من الباطل حيث قالوا: إن كان ثمة بعث وجزاء، فسنعطى خيراً من المؤمنين كما أعطينا في الدنيا قال الطبري: وهذا توبيخ لهؤلاء القوم وتقريع لهم فيما كانوا يقولون من الباطل، ويتمنون من الأماني الكاذبة {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلى يَوْمِ القيامة} أي هل لكم عهود ومواثيق مؤكدة من جهتنا ثابتة إلى يوم القيامة؟ {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} هذا جوابه أي إن لكم الذي تريدونه وتحكمون به؟ قال ابن كثير: المعنى أمعكم عهود ومواثيق مؤكدة أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون {سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} أي سل يا محمد هؤلاء المكابرين أيهم كفيل وضامن بهذا الذي يزعمون؟ وفيه نوع من السخرية والتهكم بهم، حيث يحكمون بأمور خارجة عن العقول، يرفضها المنطق وتأباها العدالة {أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ} أي أم لهم شركاء وأرباب يكلفون لهم بذلك، فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم قال في التسهيل: وهذا تعجيز للكفار والمراد إن كان لكم شركاء يقدرون على شيء، فأتوا بهم وأحضروهم حتى نرى حالهم.
. ولما أبطل مزاعمهم وسفه أحلامهم، شرع في بيان أهوال الآخةر وشدائدها فقال {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} أي اذكر يا محمد لقومك ذلك اليوم العصيب الذي يكشف فيه عن أمر فظيع شديد في غاية الهول والشدة، قال ابن عباس: هو يوم القيامة يوم كرب وشدة قال القرطبي: والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها موضع الشدة كقول الراجز:(3/405)
قد كشفت عن ساقها فشدوا ... وجدَّت الحرب بكم فجدوا
{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} أي ويدعى الكفار للسجود لرب العالمين فلا يستطيعون لأن ظهر أحدهم يصبح طبقاً واحداً، وفي الحديث «يسجد لله كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً» {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلة متواضعة أبصارهم لا يستطيعون رفعها {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي تغشاهم وتلحقهم الذلة والهوان {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ} أي والحال أنهم كانوا في الدينا يدعو إلى السجود وهم أصحاء الجسم معافون فيأبون قال الإِمام الفخر: لا يدعون إلى السجود تعبداً وتكليفاً، ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا، ثم إنه تعالى يسلب عنهم القدرة على السجود ويحول بينهم وبين الاستطاعة حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه، حين دعوا إليه في الدنيا وهم سالمو الأطراف والمفاصل {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث} أي اتركني يا محمد ومن يكذب بهذا القرآن لأكفيك شره وأنتقم لك منه!! وهذا منتهى الوعيد {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} أي سنأخذهم بطريق الاستدراج بالنعم، إلى الهلاك والدمار، من حيث لا يشعرون قال الحسن: كم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه قال الرازي: الاستدراج أن يستنزله إليه درجة درجة حتى يورطه فيه، فكلما أذنبوا ذنباً جدَّد الله لهم نعمة وأنساهم الاستغفار، فالاستدراج إنما حصل لهم من الإِنعام عليهم، لأنهم يحسبونه تفضيلاً لهم على المؤمنين، وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي أُمهلهم وأُطيل في اعمارهم ليزدادوا إثماً {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي إن انتقامي من الكفارين قوي شديد وفي الحديث
«إن الله ليملي للظالم حتى إِذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وإنما سمي إِحسانه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد، فما وقع لهم من سعة الأرزاق، وطول الأعمار، وعافية الأبدان، إحسانٌ في الظاهر، وبلاء في الباطن، لأن المقصود معاقبتهم وتعذيبهم به {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} أي أتسألهم يا محمد غرامة مالية على تبليغ الرسالة، فهم معرضون عن الإِيمان بسبب ذلك التكليف الثقيل ببذلهم المال؟ والغرض توبيخهم في عدم الإِيمان فإن الرسول لا يطلب منهم شيئاً من الأجر قال الخازن: المعنى أتطلب منهم أجراً فيثقل عليهم محمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم عن الإِيمان {أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي أم ههل عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه الغيب، فهم ينقلون منه أنهم خير من أهل الإِيمان، فلذلك أصروا على الكفر والطغيان؟ وهو استفهام على سبيل الإِنكار والتوبيخ {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي فاصبر يا محمد على أذاهم، وامض لما أُمرت به من تبليغ رسالة ربك {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} أي ولا تكن في الضجر والعجلة، كيونس بن متى عليه السلام، لما غضب على قومه لأنهم لم يؤمنوا فتركهم وركب البحر ثم التقمه الحوت،(3/406)
وكان من أمره ما كان {إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أي حين دعا ربه في بطن الحوت وهو مملوء غماً وغيظاً بقوله {لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي لولا أن تداركته رحمة الله {لَنُبِذَ بالعرآء وَهُوَ مَذْمُومٌ} أي لطرح في الفضاء الواسع الخالي من الأشجار والجبال، وهو ملام على ما ارتكب، ولكن الله أنعم عليه بالتوفيق للتوبة فلم يبق مذموماً {فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} أي فاصطفاه ربه واختاره لنفسه فجعله من المقربين قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه {وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} أي ولقد كاد الكفار من شدة عداوتهم لك يا محمد أن يصرعوك بأعينهم ويهلكوك، من قولهم نظر إلي نظراً كاد يصرعني قال ابن كثير: وفي الآية دليل على أن العين وإصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عَزَّ وَجَلَّ، ويؤيده حديث «لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين» {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أي حين سمعوك تقرأ القرآن، ويقولون من شدة بعضهم وحسدهم لك، إن محمداً مجنون، قال تعالى رداً عليهم {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي وما هذا القرآن المعجز إلا موعظة وتذكير للإِنس والجن، فكيف ينسب من نزل عليه إلى الجنون؟! ختم تعالى السورة ببيان عظمة القرآن، كما بدأها ببيان عظمة الرسول، ليتناسق البدء مع الختام في أروع بيان وأجمل ختام.
البَلاَغَة: تمضنت السورة الكريمة وجوهاً من الفصاحة والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - الجناس الناقص بين لفظي {مَجْنُونٍ} و {مَمْنُونٍ} لا ختلاف الحرف الثاني.
2 - الوعيد والتهديد {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ المفتون} وحذف المفعول للتهويل.
3 - صيغ المبالغة في {حَلاَّفٍ، هَمَّازٍ، مَّشَّآءٍ، مَّنَّاعٍ} وكذلك في {أَثِيمٍ. . وزَنِيمٍ} .
4 - الاستعارة القائمة {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} استعار الخرطوم للأنف لأن أصل الخرطوم للفيل، واستعارته لأنف الإِنسان تجعله في غاية الإِيداع لأن الغرض الاستهانة به والاستخفاف.
5 - الطباق بين {المسلمين والمجرمين} وبين {ضَلَّ. . والمهتدين} وهو من المحسنات البديعية.
6 - جناس الاشتقاق {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ} .
7 - التقريع والتوبيخ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} ؟ والجمل التي بعدها.
8 - التشبيه المقلوب بجعل المشبه به مشبهاً والعكس {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين} ؟ لأن الأصل أفنجعل المجرمين كالمسلمين في الأجر والمثوبة؟ فقلب التشبيه ليكون أبلغ وأروع.
9 - الكناية الرائقة الفائقة {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} كناية عن شدة الهول، وتفاقم الخطب يوم القيامة.(3/407)
10 - السجع المرصع المحبوك، كأنه الدر المنظوم إقرأ الآيات الكريمة {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} الخ وتدبر روعة القرآن!!(3/408)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
اللغَة: {الحاقة} القايمة سيمت حاقة لأنها حقٌّ مقطوع بوقوعها {صَرْصَرٍ} شديدة الصوت والبرد {حُسُوماً} متتابعة لا تنقطع من الحسم وهو القطع قال الشاعر:
«فدارت عليهم فكانت حُسوماً» ... {رَّابِيَةً} زائدة في الشِّدة والعذاب {وَاهِيَةٌ} ساقطة القوة، ضعيفة متراخية من قولهم: وهي البناء اذا ضعف وتداعى للسقوط {هَآؤُمُ} اسم فعل أمر بمعنى خذوا {قُطُوفُهَا} جمع قطف وهو ما(3/410)
يجتنى من الثمر ويقطف {غِسْلِينٍ} صديد أهل النار قال الكلبي: هو ما يسيل من أهل النار من القيح والصديد والدم إذا عذبوا فهو {غِسْلِينٍ} فعلين من الغسل {الوتين} عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه ويسمى الأبهر وفي الحديث «ما زالت أكلةُ خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري» {حَسْرَةٌ} ندامة عظيمة.
التفسير: {الحاقة} اسم للقيامة سميت بذلك لتحقق وقوعها، فهي حقٌ قاطع، وأمر واقع، لا شك فيه ولا جدال {مَا الحآقة} ؟ التكرار لتفخيم شأنها، وتعظيم أمرها، وكان الأصل أن يقال: ما هي؟ ولكنه وضع الظاهر موضع الضمير زيادة في التعظيم والتهويل {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة} ؟ وما أعلمك يا محمد ما هي القيامة؟ إنك لا تعلمها إذ لم تعاينها، ولم تر ما فيها من الأهوال، فإِنها من العظم والشدة بحيث لا يحيط بها وصف ولا خيال، وهذا على طريقة العرب فإنهم إِذا أرادوا تشويق المخاطب لأمرٍ أتوا بصغية الاستفهام يقولن: أتدري ماذا حدث؟ والآية من هذا القبيل زيادة في التعظيم والتهويل كأنه قال: إِنها شيء مريع وخطب فظيع. . ثم بعد أن عظَّم أمرها وفخَم شأنها، ذكر من كذَّب بها وما حلَّ بهم بسبب التكذيب، تذكيراً لكفار مكة وتخويفاً لهم فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة} أي كذب قوم صالح، وقوم هود بالقيامة، التي تقرع القلوب بأهوالها {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} أي فأمَّا ثمود قوم صالح فأُهلكوا بالصيحة المدمرة، التي جاوزت الحدَّ في الشدة قال قتادة: هي الصيحة التي خرجت عن حدِّ كل صيحة {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أي وأما قوم هود فأُهلكوا بالريح العاصفة ذات الصوت الشديد وهي الدَّبور وفي الحديث «نصرتُ بالصبا، وأُهلكت عادٌ بالدَّبور» {عَاتِيَةٍ} أي متجاوزة الحدَّ في الهبوب والبرودة، كأنها عتت على خزانها فلم يتمكنوا من ضبطها، قال ابن عباس: ما أرسل الله من ريح قط إِلا بمكيال، ولا أنزل قطرة قطُّ إِلا بمكيال، إِلا يوم نوحِ ويوم عاد، فإِن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل ثم قرأ {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} أي سلطها الله عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام متتابعة لا تفتر ولا تنقطع {فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى} أي فترى أيها المخاطب القوم في منازلهم موتى، لا حراك بهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أي كأنهم أصول نخلٍ متآكلة الأجواف قال المفسرون: كانت الريح تقطع رؤوسهم كما تقطع رءوس النخل، وتدخلْ من أفواههم وتخرج من أدبارهم حتى تصرعهم، فيصبحوا كالنخلة الخاوية الجوف {(3/411)
فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} ؟ أي فهل ترى أحداً من بقاياهم؟ أو تجد لهم أثراً؟ لقد هلكوا عن آخرهم كقوله تعالى {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} أي وجاء فرعون الجبار، ومن تقدَّمه من الأمم الطاغية التي كفرت برسلها {والمؤتفكات} أي والأمم الذين انقلبت بهم ديارهم قرى قوم لوط حيث جعل الله عاليها سافلها قال الصاوي: {المؤتفكات} أي المنقلبات وهي قرى قوم لوط، التي اقتلعها جبريل ورفعها على جناحه قرب السماء ثم قلبها، وكانت خمس قرى {بِالْخَاطِئَةِ} أي بالفعلة الخائطة المنكرة، وهي الكفر والعصيان {فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ} أي فعصى فرعون رسول الله موسى، وعصى قوم لوطٍ رسولهم لوطاً {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} أي فأخذهم الله أخذةً زائدةً في الشدة، على عقوبات من سبقهم، كما أن جرائمهم زادت في القبح والشناعة على سائر الكفار {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} أي لما تجاوز الماء حدَّه حتى علا كل شيء وارتفع فوقه حملناكم في السفينة {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} أي لنجعل تلك الحادثة عظةً للناس وعبرة، تدل على انتقام الله ممن كذَّب رسله {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أي وتحفظها وتذكرها أذن واعية للمواعظ، تنتفع بما تسمع قال القرطبي: والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حلَّ بهم من العذاب، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولهذا ختم الآية بقوله {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قال قتادة: الواعية هي التي عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عزّ وجّل.
. ولما ذكر قصص المكذبين، أتبعه بذكر أهوال القايمة وشدائدها فقال {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} أي فإِذا نفخ إِسرافيل في الصور نفخةً واحدة لخراب العالم قال ابن عباس: هي النفخة الأولى التي يحصل عنها خراب الدنيا {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} أي ورفعت الأرض والجبال عن أماكنها، فضرب بعضها ببعضٍ حتى تندق وتتفتَّت وتصير كثيباً مهيلاً {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} أي ففي ذلك الحين قامت القيامة الكبرى، وحدثت الداهية العظمى {وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} أي وانصدعت السماء فهي يومئذٍ ضعيفة مسترخية، ليس فيها تماسك ولا صلابة {والملك على أَرْجَآئِهَآ} أي والملائكة على أطرافها وجوانبها قال المفسرون: وذلك لأن السماء مسكن الملائكة، فاذا انقشت المساء وقفوا على أطرافها فزعاً مما داخلهم من هو ذلك اليوم، ومن عظمة ذي الجلال، الكبير المتعال {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} أي ويحمل عرض الرحمن ثمانية من الملائكة العظام فوق رءوسهم وقال ابن عباس: ثمانية صفوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} أي في ذلك اليوم الرهيب، تعرضون على ملك الملوك ذي الجلال للحساب والجزاء، لا يخفى عليه منكم أحدٌ، ولا يغيب عنه سرٌّ من أسراركم، لأنه العالم بالظواهر والسرائر والضمائر.
. ثم بيَّن تعالى حال السعداء(3/412)
والأشقياء في ذلك اليوم فقال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فأما من أُعطي كتاب أعماله بيمينه لأنه من السعداء {فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} أي فيقول ابتهاجاً وسروراً: خذوا اقرءوا ك تابي، والهاء في {كِتَابيَهْ} هاء السكت وكذلك في {حِسَابِيَهْ} و {مَالِيَهْ} و {سُلْطَانِيَهْ} قال الرازي: ويدل قوله {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} على أنه بلغ الغاية في السرور، لأنه لما أُعطي كتابه بيمينه، علم أنه من الناجين ومن الفائزين بالنعيم، فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} أي إِني أيقنت وتحققت بأني سألقى حسابي وجزائي يوم القيامة، فأعددت له العدة من الإِيمان، والعمل الصالح قال الحسن: إِن المؤمن أحسن الظنَّ بربه فأحسن العمل، وإِنَّ المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل وقال الضحاك: كل ظنٍ في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك. . قال تعالى مبيناً جزاءه {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي فهو في عيشة هنيئة مرضية، يرضى بها صاحبها، لما ورد في الصحيح «أنهم يعيشون فلا يموتون أبداً، ويصحون فلا يمرضون أبداً، وينعمون فلا يرون بؤساً أبداً» {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي في جنةٍ رفيعة القدر، وقصور عالية شاهقة {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} أي ثمارها قريبة، يتناولها القائم، والقاعد، والمضطجع قال في التسهيل: القطوف جمع قطف وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف كالنعقود، روي أن العبد يأخذها بفمه من شجرها وهو قائم أو قاعد أو مضطجع {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً} أي يقال لهم تفضلاً وإِنعاماً: كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنيئاً، بعيداً عن كل أذى، سالماً من كل مكروه {بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية} أي بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية يعني أيام الدنيا. . ولما ذكر حال السعداء أعقبه بذكر حال الأشقياء فقال {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} أي وأما من مأعطي كتابه بشماله وهذه علامة الشقاوة والخسران {فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} أي فيقول اذا رأى قبائح أعماله: يا ليتني لم أعط كتابي قال المفسرون: وذلك لما يحصل له من الخجل والافتضاح فيتمنى عندئذٍ أنه لم يعط كتاب أعماله، ويندم أشد الندم {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} أي ولم أعرف عظم حسابي وشدته، والاستفهام للتعظيم والتهويل {ياليتها كَانَتِ القاضية} أي يا ليت الموتة الأولى التي متُّها في الدنيا، كانت القاطعة لحياتي، فلم أبعث بعدها ولم أُعذب قال قتادة: تمنى الموت ولم يكن شيء عنده أكره من الموت، لأنه رأى تلك الحالة أشنع وأمرَّ ممَّا ذاقه من الموت {مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ} أي ما نفعني مالي الذي جمعته ولا دفع عني من عذاب الله شيئاً {هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أي زال عني ملكي وسلطاني، ونسبي وجاهي، فلا معين لي ولا مجير، ولا صديق ولا نصير {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} أي يقول تعالى لزبانية جهنم: خذوا هذا المجرم الأثيم فشدوه بالأغلال قال القرطبي: فيبتدره مائة ألف ملك، ثم تجمع يده الى عنقه، فذلك قوله تعالى: {فَغُلُّوهُ} {ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} أي ثم أدخلوه النار العظيمة المتأججة، ليصلى حرَّها {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} أي ثم أدخلوه في سلسلةٍ حديدية طولها سبعون ذراعاً قال ابن عباس: بذراع الملك، تدخل السلسلة من دبره، وتخرج من حلقه، ثم يجمع بين ناصيته(3/413)
وقدميه والسلسلة هي حلق منتظمة، كل حلقة منها في حلقة، يلف بها حتى لا يستطيع حراكاً.
. لمّا بيَّن العذاب الشديد بيَّن سببه فقال {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم} أي كان لا يصدق بوحدانية الله وعظمته قال في البحر: بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله، وهو تعليلٌ مستأنف كأن قائلاً قال: لم يعذِّب هذا العذاب البليغ؟ فأجيب إِنه كان لا يؤمن بالله {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} أي ولا يحُثُّ نفسه ولا غيره على إِطعام المسكين قال المفسرون: ذكر الحضَّ دون الفعل للتنبيه على أن تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بتارك الإِحسان والصدقة؟ {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ} أي فليس له في الآخرة صديق يدفع عنه العذاب، لأن الأصدقاء يتحاشونه، ويفرُّون منه {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} أي وليس له طعام إِلا صديد أهل النار، الذي يسيل من جراحاتهم {لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون} أي لا يأكله إِلا الآثمون المجرمون المرتكبون للخطايا والآثام قال المفسرون: {الخاطئون} جمع خاطىء وهو الذي يعتمد الذنب، والمخطىء الذي يفعل الشيء خطاأ دون قصد، ولهذا قال {الخاطئون} ولم يقل المخطئون. . ولما ذكر أحوال السعداء من أهل الجنة، ثم أحوال الأشقياء من أهل النار، ختم الكلام بتعظيم القرآن فقال {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} أي فأقسم بالمشاهدات والمغيبات، أُقسم بما ترونه وما لا ترونه، مما هو واقعٌ تحت الأبصار، وما غاب وخفي عن الأنظار، و {لا} في قوله {فَلاَ أُقْسِمُ} لتأكيد القسم وليست نافية قال الإِمام الفخر: والآية تدل على العموم والشمول، لأنها لا تخرج عن قسمين: مبصرٍ وغير مبصر، فشملت الخالق والخلق، والدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإِنس والجن، والنعم الظاهرة والباطنة قال قتادة: هو عام في جميع مخلوقاته جلاَّ وعلا، وقال عطاء: ما تبصرون من آثار القدرة، وما لا تبصرون من أسرار القدرة {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي إن هذا القرآن لكلام الرحمن، يتلوه ويقرأه رسولٌ كريم، هو محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم قال القرطبي: والرسول ههنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونسب القول إِليه لأنه تاليه ومبلغه عن الله تعالى {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} أي وليس القرآن كلام شاعر كما تزعمون، لأنه مباين لأوزان الشعر كلها، فليس شعراً ولا نثراً {قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} أي قلَّما تؤمنون بهذا القرآن قال مقاتل: يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله، بمعنى لا يؤمنون به أصلاً، والعرب تقول: قلَّما يأتينا يريدون لا يأتينا {وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ} أي وليس هو بقول كاهنٍ يدعي معرفة الغيب، لأن القرآن يغاير بأسلوبه سجع الكهان {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أي قلَّما تتذكرون وتتعظون {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} أي هو تنزيلٌ من ربِّ العزة جل وعلا كقوله تعالى
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين(3/414)
نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 192195] والغرض من الآية تبرئة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مما نسبه إِليه المشركون من دعوى السحر والكهانة، ثم أكَّد ذلك بأعظم برهان على أن القرآن من عند الله فقال {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل} أي لو اختلق محمد الأقوال، ونسب إِلينا ما لم نقله {لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} أي لانتقمنا منه بقوتنا وقدرتنا {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} أي ثم لقطعنا نياط قلبه حتى يموت قال القرطبي: والويتنُ عرق يتعلق به القلب، إِذا انقطع مات صاحبه والغرض أنه تعالى يعاجله بالعقوبة ولا يمهله، لو نسب إِلى الله شيئاً ولو قليلاً، فإِن تسمية الأقوال بالأقاويل للتصغير والتحقير {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أي فما يقدر أحد منكم أن يحجز بيننا وبينه، لو أردنا حينئذٍ عقوبته، ولا أن يدفع عنه عذابنا قال الخازن: المعنى إِن محمداً لا يتكلم الكذب علينا لأجلكم، مع علمه أنه لو تكلم لعاقبناه، ولا يقدر أحدٌ على دفع عقوبتنا عنه {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} أي وإِن هذا القرآن لعظةٌ للمؤمنين والمتقين الذين يخشون الله، وخصَّ المتقين بالذكر لأنهم المنتفعون به {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ} أي ونحن نعلم أن منكم من يكذب بهذا القرآن مع وضوح آياته، ويزعم أنه أساطير الأولين، وفي الآية وعيدٌ لمن كذب بالقرآن {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين} أي وإِنه لحسرة عليهم في الآخرة، لأنهم يتأسفون إِذا رأوا ثواب من آمن به {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} أي وإِنه لحقٌ يقينيٌ لا يحوم حوله ريب، ولا يشك عاقل أنه كلام رب العالمين {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} أي فنزَّه ربك العظيم عن السوء والنقائص، واشكره على ما أعطاك من النعم العظيمة، التي من أعظمها نعمة القرآن.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من الفصاحة والبيان نوجزها فيما يلي:
1 - الإِطناب بتكرار الاسم للتهويل والتعظيم {الحاقة مَا الحآقة} الخ.
2 - التفصيل بعد الإِجمال زيادة في البيان {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة} ثم فصله بقوله {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية وَأَمَا عَادٌ} الآية وفيه لفٌ ونشر مرتب.
3 - التشبيه المرسل المجمل {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} ذكرت الأداة وحذف وجه الشبه.
4 - الاستعارة اللطيفة الفائقة {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء} الطغيان من صفات الإِنسان، فشبه ارتفاع الماء وكثرته، بطغيان الإِنسان على الإِنسان بطريق الاستعارة.
5 - جناس الاشتقاق مثل {وَقَعَتِ الواقعة} ومثل {لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} .
6 - المقابلة البديعة {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} قابلها بقوله {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ. .} الخ وهي من المحسنات البديعية.(3/415)
7 - طباق السلب {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} .
8 - الكناية {لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} لفظ اليمين كناية عن القوة والقدرة.
9 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} ومثل {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} ويسمى في علم البديع السجع والمرصَّع والله أعلم.
تنبيه: روى الحفاظ ابن كثير عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: خرجت أتعرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني الى المسجد فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أعجب من تأليف القرآن، قال فقلت في نفسي: هذا والله شاعر كما قالت قريش، فقرأ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} فقلت: كاهن، فقرأ {وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} الخ السورة، قال: فوقع في قلبي الإِسلام كل موقع، حتى هداني الله تعالى له.(3/416)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
اللغَة: {المعارج} المصاعد والمدارج التي يرتقي بها الإِنسان جمع معرج وهو المصعد، والعروج الارتفاع إِلى السماء ومنه معراج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {المهل} النحاس المذاب {العهن} الصوف المنفوش {فَصِيلَتِهِ} الفصيلة: العشيرة الذي فصل عنهم وتولد منهم {لظى} اسم لجهنم سميت بذلك لأن نيرانها تتلظى أي تلتهب {الشوى} جمع شواة وهي جلدة الرأس قال الأعشى:(3/418)
قالت قتيلة ماله ... قد جللت شيباً شواته؟
{هَلُوعاً} كثير الجزع والضجر، قال أبو عبيدة: الهلوع هو الذي اذا مسَّه الخير لم يشكر، وإِذا مسَّه الضر لم يصبر {عِزِينَ} جماعات متفرقين جمع عزة وهي الجماعة المتفرقة قال الشاعر:
فجاءوا يَهْرعون إِليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا
{يُوفِضُونَ} يسرعون يقال: أوفض البعير اذا أسرع السير.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس أن النضر بن الحارث قال حين خوَّفهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من عذاب الله {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] فأنزل الله {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} .
التفسِيْر: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أي دعا داعٍ من كفار مكة لنفسه ولقومه عذاب واقع لا محالة قال المفسرون: السائل هو «النضر بن الحارث» من صناديد قريش وطواغيتها، لمَّا خوفهم رسول الله عذاب الله قال {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] فأهلكه الله يوم بدر، ومات شرب ميتة، ونزلت الآية بذمه {لِّلْكَافِرِينَ} أي دعا بهذا العذاب على الكفارين {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} أي لا رادَّ له إِذا أراد الله وقوعه، وهو نازل به لا محالة، سواءً طلبوه أو لم يطلبوه، وإِذا نزل العذاب فلن يرفع أو يُدفع {مِّنَ الله ذِي المعارج} أي هو صادر من الله العظيم الجليل، صاحب المصاعد التي تصعد بها الملائكة، وتنزل بأمره ووحيه، ثم فصَّل ذلك بقوله {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ} أي تصعد الملائكة الأبرار وجبريل الأمين الذي خصه الله بالوحي الى الله عَزَّ وَجَلَّ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} أي في يومٍ طوله خمسون ألف سنة من سني الدنيا قال ابن عباس: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ثم يدخلون النار للاستقرار قال المفسرون: الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في سورة السجدة {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] أن القايمة مواقف ومواطن، فيها خمسون موطناً كل موطن ألف سنة، وأن هذه المدة الطويلة تخف على المؤمن حتى تكون أخفَّ عليه من صلاة مكتوبة {فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} أي فاصبر يا محمد على استهزاء قومك وأذاهم ولا تضجر، فإِن الله ناصرك عليهم، وهذا تسليةٌ له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، لأن استعجال العذاب إِنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمره الله بالصبر قال القرطبي:: والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه، ولا شكوى لغير الله {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} أي إن هؤلاء المستهزئين يستبعدون العذاب ويعتقدون أنه(3/419)
غير نازل، لإِنكارهم للبعث والحساب {وَنَرَاهُ قَرِيباً} أي ونحن نراه قريباً لأن كل ما هو آتٍ قريب.
. ثم أخبر تعالى عن هول العذاب وشدته وعن أهوال يوم القيامة فقال {يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل} أي تكون السماء سائلة غير متماسكة، كالرصاص المذاب قال ابن عباس: كدردي الزيت أي كعكر الزيت {وَتَكُونُ الجبال كالعهن} أي وتكون الجبال متناثرة متطايرة، كالصوف المنفوش إِذا طيَّرته الريح قال القرطبي: العهن الصوف الأحمر أو ذو الألوان، شبَّه الجبال به في تلونها ألواناً، وأول ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً، ثم عهناً منفوشاً، ثم هباءً منثوراً. . هذه حال السماء والأرض في ذلك اليوم المفزع، أما حال الخلائق فهي كما قال تعالى {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} أي لا يسأل صديق صديقه، ولا قريب قريبه عن شأنه، لشغل كل إِنسانٍ بنفسه، وذلك لشدة ما يحيط بهم من الهول والفزع {يُبَصَّرُونَهُمْ} أي يرونهم ويعرفونهم، حتى يرى الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته، فلا يسأله ولا يكلمه بل يفر منه كقوله تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 3437] قال ابن عباس: {يُبَصَّرُونَهُمْ} أي يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون بينهم، ثم يفرُّ بعضهم من بعض {يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} أي يتمنى الكافر مرتكب جريمة الجحود والتكذيب لو يفدي نفسه من عذاب الله، بأعز من كان عليه في الدنيا من ابنٍ، وزوجةٍ، وأخٍ {وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ} أي وعشيرته التي كانت تضمه إِليها، ويتكل في نوائبه عليها، وليس هذا فحسب بل يتمنى لو يفتدي بجميع أهل الأرض {وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} أي وبجميع من في الأرض من البشر وغيرهم ثم ينجو من عذاب الله، ولكن هيهات أن ينجو المجرم من العذاب، أو ينقذه ذلك من شدة الكرب، وفادح الخطب، قال الإِمام الفخر: {ثُمَّ} لاستبعاد الإِنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده، وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه {كَلاَّ إِنَّهَا لظى} {كَلاَّ} أداة زجر وتعنيف أي لينزجر هذا الكافر الأثيم وليرتدع عن هذه الأماني، فليس ينجيه من عذاب الله فداء، بل أمامه جهنم، تتلظَّى نيرانها وتلتهب {نَزَّاعَةً للشوى} أي تنزعٍ بشدة حرها جلدة الرأس من الإِنسان كلما قلعت عادت كما كانت زيادة في التنكيل والعذاب، وخصَّها بالذكر لأنها أشد الجسم حساسيةً وتأثيراً بالنار {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} أي تنادي جهنم وتهتف بمن كذب بالرحمن، وأعرض عن الإِيمان، قال بان عباس: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح تقول: إِليَّ يا كافر، إِليَّ يا منافق، ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب {وَجَمَعَ فأوعى} أي وتدعو من جمع المال وخبأه وكنزه في الخزائن والصناديق، ولم يؤد منه حقَّ الله وحق المساكين قال المفسرون: والآية وعيدٌ شديد لمن يبخل بالمال، ويحرص على جمعه، فلا ينفقه في سبيل الخير، ولا يخرج منه حقك الله(3/420)
حقَّ المسكين، وقد كان الحسن البصري يقول: يا ابن آدم سمعتَ وعيدَ الله ثم أوعيت الدنيا جمعتها من حلالٍ وحرام!! ثم أخبر تعالى عن طبيعة الإِنسان، وما جبل عليه من الحرص الشديد على جمع حطام الدنيا فقال {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} أي إِن الإِنسان جبل على الضجر، لا يصبر على بلاء، ولا يشكر على نعماء قال المفسرون: الهلع: شدة الحرص وقلة الصبر، يقال: جاع فهلع، والمراد بالإِنسان العموم بدليل الاستثناء، والاستثناء معيار العموم، ثم فسَّره تعالى بقوله {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً} أي إِذا نزل به مكروه من فقر، أو مرضٍ، أو خوف، كان مبالغاً في الجزع مكثراً منه، واستولى عليه اليأس والقنوط {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} أي وإِذا أصابه خيرٌ من غنى، وصحة وسعة رزق كان مبالغاً في المنع والإِمساك، فهو إِذا أصابه الفقر لم يصبر، وإِذا أغناه الله لم ينفق قال ابن كيسان: خلق الله الإِنسان يحب ما يسره، ويهرب مما يكرهه، ثم تعبَّده بإِنفاق ما يحب والصبر على ما يكره {إِلاَّ المصلين} استثناهم من أفراد البشر الموصوفين بالهلع، لأن صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا، فلا يجزعون من شرها ولا يبخلون بخيرها {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} أي مواظبون على أداء الصلاة، لا يشغلهم عنها شاغل، لأن نفوسهم صفت من أكدار الحياة، بتعرضهم لنفحات الله {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} أي في أموالهم نصيبٌ معيَّن فرضه الله عليهم وهو الزكاة {لِّلسَّآئِلِ والمحروم} أي للفقير الذي يسأل وتكيفف الناس، والمحروم الذي يتعفف عن السؤال، فيُظن أنه غنيٌ فيحرم كقوله تعالى
{يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} [البقرة: 273] {والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين} أي يؤمنون بيوم الحساب والجزاء، ويصدِّقون بمجيئه تصديقاً جازماً لا يشوبه شك أو ارتياب، فيستعدون له بالأعمال الصالحة {والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} أي خائفون على أنفسهم من عذا بالله، يرجون الثواب ويخافون العقاب {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} أي لأن عذاب الله لا ينبغي أن يأمنه، إِنسان، إِلاَّ من آمنَّه الرحمن والأمور بخواتيمها. . إِنَّ هؤلاء المصدقين المشفقين قلَّما تزدهيهم الدنيا، أو يبطرهم نعيمها، أو يجزعون على ما فاتهم من حطامها، فسواءٌ عليهم أخسروا حظوظ الدنيا أم غنموا، إِذ أن لديهم من الكفر في جلال ربهم، وذكر معادهم، ما يشغلهم عن الجزع إِذا مسَّهم الشر، ويربأ بهم عن المنع إِذا مسهم الخير، ثم ذكر تعالى الفريق الخامس من الموفقين للخيرات وفعل الطاعات فقال {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أي أعفاء لا يرتكبون المحارم، ولا يتلوثون بالمآثم، قد صانوا أنفسهم عن الزنى والفواحش {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي يقتصرون على ما أحلَّ الله لهم من الزوجات المنكوحات، والرقيقات المملوكات {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} أي فإِنهم غير مؤاخذين لأن وضع الشهوة فيما أباح الله من الزوجات والمملوكات، حلالٌ يؤجر عليه الإِنسان، لما فيه من تكثير النسل والذرية {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون} أي فمن طلب لقضاء شهوته غير الزوجات والمملوكات، فقد تعدَّى حدود الله وعرَّض نفسه لعذاب الله قال الطبري: من التمس لفرجه منكحاً سوى زوجته أو ملك يمينه، ففاعلوا ذلك هم العادون، الذين تعدوا حدود ما أحل الله لهم، إِلى ما(3/421)
حرَّمه عليهم، فهم الملومون {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي يؤدون الأمانات، ويحفظون العهود، فإِذا ائتمنوا لم يخونوا، وإِذا عاهدوا لم يغدروا {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} أي يشهدون بالحق على القريب والبعيد، ولا يكتمون الشهادة ولا يغيرونها، بل يؤدونها على وجهها الكامل، بحيث تصان بها حقوق الناس ومصالحه، وخصَّها بالذكر مع اندراجها في الأمانات، تنبيهاً على فضلها لأن في إِقامتها إِحياء للحقوق، وفي تركها تضييع للحقوق {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} هذا هو الوصف الثامن من أوصاف المؤمنين الذين وفقهم الله إِلى تطهير نفوسهم من خلق الهلع المذموم أي يراعون شرائط الصلاة ويلتزمون آدابها، ولا سيما الخشوع والتدبر ومراقبة الله فيها، وإِلاَّ كانت حركات صورية لا يجني البعد ثمرتها، فإِن فائدة الصلاة أن تكف عن المحارم
{إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] ولما كانت الصلاة عمود الإِسلام بولغ في التوكيد فيها، فذكرت في أول الخصال الحميدة وفي آخرها، ليعلم مرتبتها في الأركان التي بني عليها الإِسلام، قال القرطبي: ذكر تعالى من أوصافهم في البدء {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} ثم قال في الختم {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} والدوام غير المحافظة، فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها، لا يخلون بها ولا يشتغلون عها بشيءٍ من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إِسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها وآدابها، ويحفوظها من الإِحباط باقتراف المآثم، فالدوام يرجع الى نفس الصلوات، والمحافظة ترجع الى أحوانها، وبعد أن ذكر تعالى أوصاف المؤمنين المتقين، ذكر مآلهم وعاقبتهم فقال {أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} أي أولئك المتصفون بتلك الأوصاف الجليلة، والمناقب الرفيعمة، مستقرون في جنات النعيم، التي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات، مع الإِنعام والتكريم بأنواع الملاذ والمشتهيات، لا تصافهم بمكارم الأخلاق {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} ؟ أي ما لهؤلاء الكفرة المجرمين، مسرعين نحوك يا محمد، ما دين أعناقهم إِليك، م مقبلين بأبصارهم عليك؟ قال المفسرون: كان المشركون يجتمعون حول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حلقاً حلقاً، يسمعون كلامه ويستهزئون به وبأصحابه، ويقولون: إِن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محد فلندخلنها قبلهم فنزلت الآية {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} أي جالسين عن يمينك وعن شمالك فرقاً فرقاً، وجماعات جماعاتٍ يتحدثون ويتعجبون؟ قال أبو عبيدة: عزين أي جماعات جماعات في تفرقة ومنه «مالي أراكم عزين؟ ألا تصفون كما تصفُّ الملائكة عند ربها» {أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} استفهام إِنكاري مع التقريع والتوبيخ أي أيطمع كل واحد من هؤلاء الكفار، أن يدخله الله جنات النعيم، وقد كذب خاتم(3/422)
المرسلين؟ {كَلاَّ} ردع وزجر أي ليس الأمر كما يطمعون، فإِنهم لا يدخلونها أبداً ثم قال {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أي خلقناهم من الأشياء المستقذرة، من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، فمن أين يتشرفون بدخول جنات النعيم قبل المؤمنين، وليس لهم فضل يستوجبون به دخول الجنة؟ وإِنما يستوجب دخول الجنة من أطاع الله قال القرطبي: كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم فقال تعالى {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أي من القذر فلا يليق بهم هذا التكبر {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب} أي فأقسم برب مشارق الشمر والقمر والكواكب ومغاربها {إِنَّا لَقَادِرُونَ على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ} أي قادرون على إهلاكهم، واستدالهم بقومٍ أفضل منهم وأطوع لله {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي ولسنا بعاجزين عن ذلك {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ} أي اتركهم يا محمد يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم، واشتغل أنت بما أُمرت به، وهو أمرٌ على جهة الوعيد والتهديد للمشركين {حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} أي حتى يلاقوا ذلك اليوم العصيب الرهيب، الذي لا ينفعهم فيه توبة ولا ندم {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً} ويخرجون من القبور إِلى أرض المحشر مسرعين {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أي كأنهم يسعون ويستبقون إِلى أصنامهم التي نصبوها ليعبدوها، شبَّه حالة إِسراعهم إِلى موقف الحساب، بحالة إسراعهم وتسابقهم في الدنيا، الى آلهتهم وطواغيتهم، وفي هذا التشبيه تهكم بهم، وتعريض بسخافة عقولهم، إِذ عبدوا ما لا يستحق العبادة، وتركوا عبادة الواحد الأحد {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أي خاضعة منكسرة أبصارهم إِلى الأرض لا يرفعونها خجلاً من الله {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي يغشاهم الذل والهوان من كل مكان، وعلى وجوههم آثار الذلة والانكسار {ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} أي هذا هو اليوم الذي وعدوا به في الدنيا وكانوا يهزءون ويكذبون، فاليوم يرون عقابهم وجزائهم!!
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {بَعِيداً.
. قَرِيباً} وبين {اليمين. . والشمال} وبين {المشارق والمغارب} .
2 - جناس الاشتقاق {سَأَلَ سَآئِلٌ} وكذلك {تَعْرُجُ المعارج} .
3 - ذكر الخاص بعد العام تنبيهاً لفضله وتشريفاً له {تَعْرُجُ الملائكة والروح} الورح هو جبريل.
4 - التشبيه المرسل المجمل {يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل وَتَكُونُ الجبال كالعهن} لحذف وجه الشبه.
5 - ذكر العام بعد الخاص {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. . وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} جاء بالعموم بعد الخصوص لبيان هو الموقف.
6 - المقابلة اللطيفة {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً} قابله بقوله {وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} .
7 - الاستفهام الإِنكاري للتقريع والتوبيخ {أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} ؟
8 -(3/423)
الكناية الفائقة الرائقة {كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} كناية عن المني القذر، مع النزاهة التامة في التعبير، وحسن الإِيقاظ والتذكير، بألطف عبارة وأبلغ إِشارة.
9 - التشبيه المرسل المجمل {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} وفي تشبيههم بذلك تهكم بهم، وتعريض بسخافة عقولهم، وتسجيل عليهم بالجهل المشين بالإِسراع في عبادة غير من يستحق العبادة،
10 - السجع المرصَّع كأنه الدر والياقوت مثل {كَلاَّ إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً للشوى تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى} الخ.
تنبيه: نبَّه تعالى بقوله {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} الآيات إِلى طبائع البشر، فبيَّن أنَّ الإِنسان يتسرع إِلى مشتهاه، اتباعاً لهواه، وأنه مفرط في الهلع والجزع، فإِن مسه خير شحت به نفسه، وإِن نزل به شر اشتد له قلقه، ثم استنثى من ذلك الخلق الذميم أصنافاً من البشر، وهم الذين جمعوا مع الإِيمان صالح الأعمال.(3/424)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
اللغَة: {استغشوا} غطوا غشَّاه أَي غطاه، والغشاء الغطاء {مِّدْرَاراً} غزيراً متتابعاً {أَطْوَاراً} أحوالاً مختلفة طوراً بعد طور قال الشاعر:
«والمرء يخلق طوراً بعد أطوار» ... {فِجَاجاً} واسعات جمع فج وهو الطريق الواسعة {كُبَّاراً} كبيراً بالغ الغاية في الكبر {دَيَّاراً} أحداً يدور أو يتحرك على ظهر الأرض {تَبَاراً} هلاكاً ودماراً.
التفسِيْر: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} أي بعثنا شيخ الأنبياء نوحاً عليه السلام إِلى سكان جزيرة العرب قال الألوسي: واشتهر أنه عليه السلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي بأن خوف قومك وحذرهم إن لم يؤمنوا من عذاب شديد مؤلم، وهو عذاب الطوفان في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة {قَالَ ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي فدعاهم إلى الله وقال لهم: إني لكم منذر، موضح لحقيقة الأمر، أُنذركم وأُخوفكم عذاب الله، فأمري واضح ودعوتي ظاهرة قال المفسرون: نوح عليه السلام أول نبي أرسل، ويقال له: شيخ(3/426)
المرسلين، لأنه أطولهم عمراً فقد مكث في قومه كما قص القرآن الكريم {أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] يدعوهم إلى الله، ومع طول هذه المدة لم يؤمن معه إلا قليل، وقد أفرد القرآن قصته في هذه السورة الكريمة التي تسمى «سورة نوح» من بدء الدعوة إِلى نهايتها، حيث أهلك الله قومه بالطوفان، وهو أحد الرسل الكبار من أولي العزم وهم خمسة «نوح، ابراهيم، موسى، عيسى، محمد» صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد شاع الكفر في زمانه وذاع، واشتهر قومه بعبادة الأوثان، واكثروا من البغي والظلم والعصيان، فبعث الله لهم نوحاً عليه اسلام وكان من خبرهم مع نبيهم ما قصه الله علينا في القرآن {أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ} أي فقال لهم: اعبدوا الله وحده، واتركوا محارمه، واجتنبوا مآثمه، وأطيعوني فيما أمرتكم به من طاعة الله، وترك عبادة الأوثان والأصنام {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي إنكم إن فعلتم ما أمرتكم به، يمحو الله عنكم ذنوبكم التي اقترفتموها، وإنما قال {مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي بعض ذنوبكم التي حصلت قبل الإِسلام، لأن الإِيمان يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده {وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي ويمد في أعماركم إن أطعتم ربكم، إلى وقت مقدر ومقرر في علم الله تعالى، مع التمتع بالحياة السعيدة، والعيش الرغيد قال المفسرون: المراد بتأخير الأجل هو التأخير بلا عذاب، أي يمهلهم في الدنيا بدون عذاب إلى انتهاء آجالهم، وأما العمر فهو محدود لا يتقدم ولا يتأخر {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] ولهذا قال بعده {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} أي إن عمر الإِنسان عند الله محدود، لا يزيد ولا ينقص، وإنما أضيف الأجل إلى الله سبحانه لأنه هو الذي كتبه وأثبته {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتم تعلمون ذلك لسارعتم إلى الإِيمان {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} أي قال نوح بعد أن بذل غاية الجهد، وضاقت عليه الحيل: يا رب إِني دعوت قومي إلى الإِيمان والطاعة، في الليل والنهار، من غير فتور ولا توانٍ {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً} أي فلم يزدهم دعائي لهم إلى الإِيمان إلا هرباً، وشروداً عن الحق، وإعراضاً عنه.
. ثم وصف نفورهم وصور إعراضهم أبلغ تصوير فقال {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} أي ك لما دعوتهم إلى الإِقرار بوحدانية الله والعمل بطاعته، ليكون سبباً في مغفرة ذنوبهم قال في التسهيل: ذكر المغفرة التي هي سبب عن الإِيمان، والعمل بطاعته، ليكون سبباً في مغفرة ذنوبهم قال في التسهيل: ذكر المغفرة التي هي سبب عن الإِيمان، ليظهر قبح إعراضهم عنه، فإنهم أعرضوا عن سعادتهم {جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ} أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا دعوتي {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} أي غطوا رؤوسهم ووجوههم بثابهم، لئلا يسمعوا كلامي أو يروني قال في البحر: والظاهر أن ذلك حقيقة، سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إِليه، وتغَطَّوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه، كراهة وبغضاً من سماع النصح ورؤية الناصح، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن المبالغة في إعراضهم عمَّا دعاهم إليه، فهم بمنزلة من سد سمعه، ومنع بصره {(3/427)
وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا} أي واستمروا على الكفر والطغيان، واستكبروا عن الإِيماتن استكباراً عظيماً، وفيه إشارة إلى فرط عنادهم، وغلوهم في الضلال {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} أي دعوتهم علناً على رؤوس الأشهاد، مجاهراً يدعوتي لهم دون خوف أو تحفظ {ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} أي أخبرتهم سراً وعلناً، خيفةً وجهراً، وسلكت معهم كل طريق في الدعوة إِليك قال المفسرون: والعطف بثُمَّ يشعر بأن الإِعلان والإِسرار الأخيرين، كانا طريقة ثالثة سلكها نوح في الدعوة، غير طريقة السر المحضة، وغير طريقة الجهر المحضة، فكان في الطريقة الثالثة يعلن لهم الدعوة مرة حيث يصلح الإِعلان، ويسرها لهم أخرى حيث يتوقع نفع الإِسرار، ثم وضح ما وعظهم به سراً وعلانية فقال {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} أم آمنوا بالله وتوبوا عن الكفر والمعاصي، فإن ربكم تواب رحيم، يغفر الذنب ويقبل التوب {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} أي ينزل المطر عليكم غزيراً متتابعاً، شديد الانسكاب {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أي يكثر أموالكم وأولادكم {وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} أي ويجعل لكم الحدائق الفسيحة، ذات الأشجار المظلمة المثمرة، ويجعل لكم الأنهار تجري خلالها. . أطمعهم نوح عليه السلام بالحصول على بركات السماء وبركات الأرض، إن هم آمنوا بالله الذي بيده مفاتح هذه الخزائن، وأتاهم من طريق القلب لتحريك العواطف، ولبيان أن ما هم في من انحباس الأمطار، وما حرموه من الرزق والذرية، إنما سببه كفرهم بالله الذي بيده وحده إرسال المطر، وإِغداق الرزق، والإِمداد بالأموال والبنين، وأنه لا ينبغي لهم أن يكفروا بهذا الإِله القادر، ويعبدوا آلهة أخرى اخترعوها، لا تضر ولا تنفع، ثم عاد فهزَّ نفوسهم هزاً، وعطفها نحو الإِيمان بأسلوب آخر من أساليب البيان فقال {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} أي ما لكم أيها القوم لا تخافون عظمة الله وسلطانه، ولا ترهبون له جانباً! {قال ابن عباس: اي ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته} {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} أي وقد خلقكم في أطوار مختلفة، وأدوار متباينة، طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، إلى سائر الأحوال العجيبة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
. ثم نبههم إلى دلائل القدرة والوحدانية، منبثة في هذا الكون الفسيح فقال {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً} أي ألم تشاهدوا يا معشر القوم عظمة الله وقدرته، وتنظروا نظر اعتبار، وتفكر وتدبر، كيف أن الله العظيم الجليل خلق سبع سموات سماء فوق سماء، متطابقة بعضها فوق بعض، وهي في غاية الإِبداع والإِتقان!! {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} أي وجعل القمر في السماء الدنيا، منوراً لوجه الأرض في ظلمة الليل قال الإِمام الفخر: القرم في السماء الدنيا وليس في السموات بأسرها، وهذا كما يقال: السلطان في العراق ليس المراد ان ذاته حاصلة في كل أنحائها، بل إن ذاته في حيز من جملة أنحاء العراق، فكذا ههنا وقال في البحر: والقمر في السماء الدنيا، وصح كون السموات ظرفاً للقمر لأنه لا يلزممن الظرف أن يملأ المظروف، تقول(3/428)
زيد في المدينة وهو في جزء منها {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} أي وجعل الشمس مصباحاً مضيئاً يستضيء به أهل الدنيا كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم، ولما كان نور الشمس أشدّ، وأتم، وأكمل في الانتفاع من نور القمر، عبر عن الشمس بالسراج لأنه يضيء بنفسه، وعبر عن القمر بالنور لأنه يستمد نوره من غيره، ويؤيده ما تقرر في علم الفلك من أن نور الشمس ذاتي فيها، ونور القمر عرضي مكتسب من نورها، فسبحان من أحاط بكل شيء علماً {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} بعد أن ذكر دليل الآفاق، ذكر هنا دليل الأنفس، وذلك لأن في ذكر هذه الأمور، دلالة واضحة على عظمة الله، وقدرته وباهر مصنوعاته والمعنى خلقكم وأنشأكم من الأرض كما يخرج النبات، وسلَّكم من تراب الأرض كما يسل النبات منها قال المفسرون: لما كان إخراجهم وإِنشاؤهم إنما يتم بتناولهم عناصر الغذاء الحيوانية والنباتية المستمدة من الأرض، كانوا من هذه الجهة متشابهين للنباتات التي تنمو بامتصاص غذائها من الأرض، فلذا سمى خلقهم وإنشاءهم إنباتاً، أو يكون ذلك إشارة إلى خلق آدم حيث خلق من تراب الأرض، ثم جاءت منه ذريته، فصح نسبتهم إلى أنهم أنبتوا من الأرض {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} أي يرجعكم إلى الأرض بعد موتكم فتدفنون فيها، ثم يخرجكم منها يوم البعث والحشر للحساب والجزاء، وأكده بالمصدر {إِخْرَاجاً} لبيان أن ذلك واقع لا محالة، وهذه الآية كقوله تعالى
{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} [طه: 55] {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً} أي جعلها فسيحة ممتدة ممهدة لكم، تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه قال في التسهيل: شبه الأرض بالبساط في امتدادها واستقرار الناس عليها، وأخذ بعضهم من الآية أنها غير كروية، وفي ذلك نظر وقال الألوسي: وليس الآية دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كروية، لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحاً، ثم إن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بلازم في الشريعة، لكن كريتها كالأمر اليقيني، ومعنى جعلها بساطاً أي تتقلبون عليها كالبساط {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} أي لتسلكوا في الأرض طرقاً واسعة في أسفاركم، وتنقُّلكم في أرجائها؟؟ ولما أصروا على العصيان، وقابلوه بأقبح الأقوال والأفعال، حكى عنهم ما قصه القرآن {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} أي إنهم بالغوا في تكذيبي وعصيان أمري {واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} أي واتَّبعوا اغنياءهم ورؤساءهم، الذين أبطرتهم الأموال والأولاد،(3/429)
فهلكوا وخسروا سعادة الدارين، فصاروا أسوة لهم في الخسار {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} أي ومكر بهم الرؤساء مكراً عظيماً متناهياً في الكبر قال الألوسي: {وكُبَّاراً} مبالغة في الكبر أي كبيراً في الغاية، وذلك احتيالهم في الدين، وصدهم الناس عنه، وإغراؤهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} أي لاتتركوا عبادة الأوثان والأصنام، وتعبدوا رب نوح {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} أي ولا تتركوا على جه الخصوص هذه الأصنام الخمسة وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً قال الصاوي: وهذه أسماء أصنام كانوا يعبدونها، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمهم عندهم، ولذا خصوها بالذكر، وهذا من شدة كفرهم، وفرط تعنتهم في المكر والاحتيال، فقد كانوا يلبسون ثوب المتنصح المخلص، ويسلكون في تثبيت الضعفاء على عبادة الآباء شتى الأساليب في المكر والخداع {وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً} أي وقد أضل كبراؤهم خلقاً وناساً كثيرين، بما زينوا لهم من طرق الغواية والضلال، ثم دعا عليهم بالضلال فقال {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً} أي ولا تزدهم يا رب على طغيانهم وعدوانهم، إلا ضلالاً فوق ضلالهم قال المفسرون: دعا عليهم لما يئس من إيمانهم بإِخبار الله له بقوله {لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] فاستجاب الله دعاءه وأغرقهم، ولهذا قال تعالى {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} أي من أجل ذنوبهم وإجرامهم، وإصرارهم على الكفر والطغيان، أُغرقوا بالطوفان وأدخلوا النيران قال في التسهيل: وهاذ من كلام الله تعالى إخباراً عن أمرهم، و {ما} في {مما} زائدة للتأكيد، وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضاً، ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار إنما كان بسبب خطاياهم وهي الكفر وسائر المعاصي {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً} أي لم يجدوا من ينصرهم أو يدفع عنهم عذاب الله قال أبو السعود: وفيه تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله تعالى، وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} أي لا تترك أحداً على وجه الأرض من الكافرين قال في التسهيل: و {دَيَّاراً} من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال: ما في الدار ديار أي ما فيها أحد.
. ثم علل ذلك بقوله {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} أي إنك إن أبقيت منهم أحداً، أضلوا عبادك عن طريق الهدى {وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} أي ولا يأتي من أصلابهم إلا كل فاجر وكافر قال الإِمام الفخر: فإِن قيل: كيف عرف نوح ذلك؟ قلنا بالاستقراء، فإِنه لبث فيهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً، فعرف طباعهم وجربهم، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول: يا بني إحذر فإِنه كذاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، فلذلك قال {وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} . . ولما دعا على الكفار أعقبه بالدعاء للمؤمنين فقال {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} بدأ بنفسه ثم بأبويه، ثم عمَّم لجميع المؤمنين والمؤمنات، ليكون ذلك أبلغ وأجمع {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} أي ولا تزد يا رب من جحد بآياتك وكذب رسلك، إلا هلاكاً وخساراً في الدنيا والآخرة.(3/430)
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {أَعْلَنْتُ. . وَأَسْرَرْتُ} وبين {جِهَاراً. . وإِسْرَاراً} وبين {لَيْلاً. . وَنَهَاراً} وبين {يُعِيدُكُمْ. . وَيُخْرِجُكُمْ} .
2 - المجاز المرسل {جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ} المراد رؤوس الأصابع فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء.
3 - الاستعارة التبعية {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} شبه إِنشاءهم وخلقهم في أدوار بالنبات الذي تخرجه الأرض، واشتق من لفظ البنات أنبتكم على طريق الاستعارة التعبية.
4 - ذكر المصدر للتأكيد مثل {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} و {أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} و {استكبروا استكبارا} ويسمى هذا في علم البديع بالإِطناب.
5 - ذكر الخاص بعد العام {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً} الآية وعكسه ذكر العام بعد الخاص {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} وكلاهما من باب الإِطناب، وهو من المحسنات البديعية.
6 - السجع المرصع مراعاة لرؤوس الآيات مثل {مِّدْرَاراً، أَنْهَاراً، وَقَاراً، أَطْوَاراً} الخ.
فَائِدَة: استدل العلماء على عذاب القبر بقوله تعالى {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} قالوا: المراد بها نار القبر وعذابه، لأنه تعالى عطف بالفاء، والفاء تفيد الترتيب مع التعقيب، ونار الآخرة لم يذوقوها بعد، فدل على أن المراد عذاب القبر، وهو استدلال لطيف.(3/431)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
اللغَة: {الرشد} الحق والصواب {جَدُّ} الجد لغة: العظمة والجلال والسلطان يقال: جد فلان في عيني أي عظم وجل، والجد: الحظُّ، وأبو الأب {حَرَساً} جمع حارس او اسم جمع كخدم يقال: حرس وحُراس، والحارس: الحافظ للشيء يرعاه ويرقبه {قِدَداً} متفرقة مختلفة جمع قدة قال الشاعر:
«إذ هم طرائق في أهوائهم قدد» ... {غَدَقاً} كثيراً واسعاً {القاسطون} الجائرون عن(3/433)
طريق الحق، يقال قسط الرجل إِذا جار {صَعَداً} شاقاً يعلو الإِنسان ويغلبه فلا يطيقه يقال: فلان في صعد من أمره أي في مشقة {يَسْلُكْهُ} يدخله {لِبَداً} متراكمين بعضهم فوق بعض يقال: تلبد الشيء أي تراكم بعضه فوق بعض {مُلْتَحَداً} ملجأ وحرزاً يتحصن به الإِنسان.
التفسِير: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن} أي قل يا محمد لقومك: إن ربي أوحى إلي جماعة من الجن استمعوا لتلاوتي للقرآن، فآمنوا به وصدقوه وأسلموا {فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} أي فقالوا لقومهم حين رجعوا إِليهم: إنا سمعنا قرآناً عجيباً، مؤثراً في حسن نظمه، وبلاغة أسلوبه، وما حواه من بديع الحِكَم والعظات و {عَجَباً} مصدر وصف به للمبالغة قال المفسرون: استمعوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يقرأ القرآن في صلاة الفجر، ولم يشعر بهم ولا باستماعهم، وإنما أخبر به الرسول بواسطة الوحي بدليل قوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} ويؤيده ما قصه الله على نبيه في سورة الأحقاف من خبرهم {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] والغرض من الإِخبار عن استماع الجن، توبيخ وتقريع قريش والعرب في كونهم تباطئوا عن الإِيمان، إذ كانت الجن خيراً منهم وأسرع إلى الإِيمان، فإنهم من حين ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا ورجعوا إلى قومهم منذرين، بخلاف العرب الذين نزل بلسانهم، فإنهم كذبوا واستهزءوا وهم يعلمون أنه كلام معجز، وأن محمداً أمي لا يقرأ ولا يكتب، وشتان ما بين موقف الإِنس والجن!! {يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ} أي يهدي هذا القرآن إلى الحق والرشاد والصواب فصدقنا به {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك، ولن نجعل الله شريكاً بعد اليوم من خلقه قال الخازن: وفي الآية دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا} أي تعالت عظمة ربنا وجلاله {مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً} أي ليس له زوجة ولا ولد، لأن الزوجة تتخذ للحاجة، والولد للاستئناس، والله تعالى منزه عن النقائص {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً} أي وأن الأحمق الجاهل فينا كان ينسب إلى الله ما لا يليق بجلاله وقدسيته ويقول قولاً شططاً بعيداً عن الحق وحدِّ الاعتدال قال مجاهد: السفيه هو إبليس دعاهم إلى عبادة غير الله {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} أي كنا نظن أن أحداً لن يكذب على الله تعالى لا من الإِنس ولا من الجن في نسبة الصاحبة والولد إليه، فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك قال الطبري: وإنما أنكر هؤلاء النفر من الجن أن تكون علمت أن أحداً يجترىء على الكذب على الله لما سمعت القرآن، لأنهم قبل أن يسمعوه وقبل أن يعلموا تكذيب الله للزاعمين لله الصاحبة والولد كانوا يحسبون أن إِبليس صادق، فما سمعوا القرآن أيقنوا أنه كان كاذباً في ذلك فسموه سفيهاً {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ(3/434)
الجن} أي كان خلائق من الإِنس يستجيرون برجال من الجن {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أي فزاد الإِنس الجن باستعاذتهم بهم إِثماً وطغياناً، وعتواً وضلالاً قال أبو السعود: كان الرجل إِذا أمسى في واد قفر وخالف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم، فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الإِنس والجن، فزاد الرجال الجن تكبراً وعتواً، فذلك قوله {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} أي وأن كفار الإِنس ظنوا كما ظننتم يا معشر الجن، أن الله لن يبعثُ أحداً بعد الموت، فقد أنكروا البعث كما أنكرتموهن أنتم {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} يقول الجن: وأنا طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها، فوجدانها قد ملئت بالملائكة الكثيرين الذين يحرسونها، وبالشهب المحرقة التي تقذف من يحاول الاقتراب منها {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} أي كنا قبل بعثة محمد نطرق السماء لنستمع إلى أخبارها ونلقيها إلى الكهان {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} أي فمن يحاول الآن استراق السمع، يجد شهاباً ينتظره بالمرصاد يحرقه ويهلكه {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض} أي لا نعلم نحن معشر الجن ما الله فاعل بسكان الأرض، ولا نعلم هل امتلاء السماء بالحرس والشهب لعذاب يريد الله أن ينزله بأهل الأرض؟ {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} أي أم لخير يريده الله بهم، بأن يبعث فيهم رسولاً مرشداً يرشدهم إلى الحق؟ وهذا من أدب الجن حيث نسبوا الخير إلى الله، ولم ينسبوا الشر إليه فقالوا {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} قال ابن كثير: وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك، وهذا هو الذي حملهم على تطلب السبب، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فرأوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء، فدنوا منه حرصاً على سماع القرآن ثم أسلموا {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي منا قوم صالحون أبرار، عاملون بما يرضي الله، ومنا قوم ليسوا صلحاء قال في التسهيل: وأرادوا بقولهم {دُونَ ذَلِكَ} أي الذي ليس صلاحهم كاملاً، أو الذين ليس لهم صلاح {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} أي كنا فرقاً شتى، ومذاهب مختلفة، فمنا الصالح ومنا الطالح، وفينا التقي والشقي {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} أي علمنا وأيقنا أن الله قادر علينا، وأننا في قبضته وسلطانه أينما كنا، لن نعجزه بهرب، ولن نتفلت من عقابه إذا أراد بنا سوءاً قال القرطبي: أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله، أنا في قبضته وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره.
. ثم عادوا إلى شكر الله تعالى على نعمة الإِيمان واهتدائهم بسماع آيات القرآن فقالوا {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى آمَنَّا بِهِ} أي لما سمعنا القرآن العظيم آمنا به وبمن أنزله، وصدقنا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في(3/435)
رسالته {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} أي فمن يؤمن بالله تعالى فلا يخشى نقصاناً من حسناته ولا ظلماً بزيادة سيئاته قال ابن عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته، لأن البخس النقصان، والرهق العدوان {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} أي وأنا بعد سماعنا القرآن منا من أسلم، وصدق برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومنا من جار عن الحق وكفر قال المفسرون: يقال قسط الرجل إذا جار، وأقسط إِذ عدل، اسم الفاعل من الأول قاسط، ومن الثاني مقسط ومنه {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين} [البقرة: 222] وأما القاسط فهو الظالم الجائر {فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً} أي فمن اعتنق الإِسلام واتبع الرسول عليه السلام، فأولئك الذين قصدوا الرشد، واهتدوا إلى طريق السعادة والنجاة {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} أي وأما الكافرون الجائرون عن طريق الحق والإِيمان، فسيكونون وقوداً لجهنم، توقد بهم كما توقد بكفار الإِنس. . وإلى هنا انتهى كلام الجن، مما يدعل على قوة إيمانهم، وصدقهم وإِخلاصهم، ثم قال تعالى مخبراً عن أهل مكة {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة} أي لو آمن هؤلاء الكفار، واستقاموا على شريعة الله {لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً} أي لبسطنا لهم في الرزق، ووسعنا عليهم في الدنيا، زيادة على ما يحصل لهم في الآخرة من النعيم الدائم، وبذلك يحوزون عز الدنيا والآخرة قال في التسهيل: الماء الغدق: الكثير، وذلك استعارة في توسيع الرزق، والطريقة هي الإِسلام وطاعة الله والمعنى: لو استقاموا على ذلك لوسع الله أرزاقهم فهو كقوله {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96] {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم به أيشركون أم يكفرون؟ {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} أي ومن يعرض عن طاعة الله وعبادته، يدخله ربه عذاباً شديداً شاقاً لا راحة فيه قال قتادة: {صَعَداً} عذاباً لا راحة فيه وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإِذا انتهى إِلى أعلاها حُدِر إلى جهنم {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} هذا من جملة الموحى به للرسول {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} والمعنى وأوحي إلى أن المساجد وبيوت العبادة هي مختصة بالله، فلا تعبدوا فيها غيره وأخلصوا له العبادة فيها قال مجاهد: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم، أشركوا بالله فيها، فأمر الله عَزَّ وَجَلَّ نبيه والمؤمنين أن يخلصوا الدعوة لله إذا دخلوا المساجد كلها {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} أي وأنه لما قام محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعبد ربه {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أي كاد الجن يركب بعضهم بعضاً من شدة الازدحام، حرصاً على سماع القرآن قال ابن عباس: كادوا ينقضون عليه لاستماع القرآن، وإنما وصفه تعالى بالعبودية، ولم يذكره باسمه زيادة في تشريفه وتكريمه عليه السلام {قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين طلبوا منك أن ترجع عن دينك: إنما أعبد ربي وحده، ولا أشرك مع الله غيره بشراً ولا صنماً قال الصاوي: سبب نزولها أن كفار قريش قالوا له: إنك جئت(3/436)
بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك وننصرك فنزلت {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} أي قل يا محمد في محاجَّة هؤلاء: إني لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً، ولا أجلب لكم نفعاً، وإنما الذي يملك هذا هو الله رب العالمين {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي قل لهم أيضاً: إنه لن ينقذني من عذاب الله أحد إن عصيته، ولن أجد لي نصيراً ولا ملجأًمنه، فكيف أجيبكم إلى ما طلبتم؟ قال قتادة: {مُلْتَحَداً} ملجأً ونصيراً {إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ} أي لا أجد ملجأً إلا إذا بلغت رسالة ربي، ونصحتكم وأرشدتكم كما أمرني الله فحينئذ يجيرني ربي من العذاب كقوله تعالى
{ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] قال ابن كثير: أي لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها عليَّ {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي ومن كذب الله ورسوله، ولم يؤمن بلقاء الله، وأعرض عن سماع الآيات وتدبر الرسالات، فإن جزاءه جهنم لا يخرج منها أبداً وإنما جمع {خَالِدِينَ} حملاً على معنى {مَنْ} لأن لفظها مفرد ومعناها جمع {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} أي حتى إذا رأى المشركون ما يوعدون من العذاب {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} أي فسيعلمون حنيئذ من هم أضعف ناصراً ومعيناً، وأقل نفراً وجنداً؟ هل هم؟ أم المؤمنون الموحدون؟ ولا شك أن الله ناصر عباده المؤمنين، فهم الأقوى ناصراً والأكثر عدداً، لأن الله معهم وملائكته الأَبرار {قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} ؟ أي قل لهم يا محمد: ما أدري هل هذا العذاب الذي وعدتم به قريب زمنه {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً} أي أم هو بعيد له مدة طويلة وأجل محدود؟ قال المفسرون: كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلما خوف المذكبين نار جهنم، وحذرهم أهوال الساعة، أظهروا الاسخفاف بقوله، وسألوه متى هذا العذاب؟ ومتى تقوم هذه الساعة؟ فأمره تعالى أن يقول لهم: لا أدري وقت ذلك، هل هو قريب أم بعيد؟ {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً} أي هو جل وعلا عالم بما غاب عن الأبصار، وخفي عن الأنظار، فلا يطلع على غيبه أحداً من خلقه {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} أي إلا من اختاره الله وارتضاه لرسالته ونبوته، فيظهره الله على ما يشاء من الغيب قال المفسرون: لا يطلع الله على غيبه أحداً إلا بعض الرسل، فإنه يطلعهم على بعض الغيب، ليكون معجزة لهم، فإن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإِخبار عن بعض المغيبات، كما قال عن عيسى
{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} أي فإنه تعالى يرسل من أمام الرسول ومن خلفه، ملائكة وحرساً يحفظونه من الجن، ويحرسونه في ضبط ما يلقيه تعالى إليه من علم الغيب قال الطبري: أي فإنه تعالى يرسل من أمامه ومن خلفه حرساً وحفظةً يحفظونه من الجن {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ} أي ليعلم الله علم ظهور فإنه تعالى عالم بما كان وما(3/437)
يكون أن رسله الكرام قد بلغوا عنه وحيه كما أوحاه إليهم محفوظاً من الزيادة والنقصان قال ابن كثير: المعنى أن الله يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعاً لا محالة {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي أحاط علمه بما عند الرسل، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم {وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي علم تعالى علم ضبط واستقصاء جميع الأشياء، المنبثَّة في الأرضين والسموات من القطر، والرمل، وورق الشجر، وزبد البحار، فلا يغيب عنه شيء، ولا يفخى عليه أمر، فكيف لا يحيط علماً بما عند رسله من رسالاته ووحيه، التي أمرهم بتبليغها إلى خلقه؟ وكيف يمكن لرسله أن يفرطوا في تلك الرسالات، أو يزيدوا أو ينقصوا أو يحرفوا فيها أو يغيروا، وهو تعالى محيط بها، محص لجميع الأشياء جليلها وحقيرها؟
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] .
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الوصف بالمصدر للمبالغة {قُرْآناً عَجَباً} أي عجيباً في حسن إيجازه، وروعة إعجازه.
2 - طباق السلب {فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} لأن الإِيمان نفي للشرك.
3 - جناس الاشتقاق {نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} لما بين اللفظتين من الاشتقاق اللطيف.
4 - الأسلوب الرفيع بنسبة الخير إلى الله، دون الشر أدباً مع الخالق {وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} ؟ وبين لفظ «الشر» و «الرشد» طباقٌ في المعنى.
5 - الطباق بين {الإنس. . والجن} وبين {ضَرّاً. . ورَشَداً} وبين {المسلمون والقاسطون} .
6 - الاستعارة اللطيفة {كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً} استعارة الطرائق للمذاهب المختلفة، وهو من لطيف الاستعارة.
7 - توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات مثل {أَحَداً، وَلَداً، رَّصَداً، رَشَداً، صَعَداً، عَدَداً} الخ وهو ما يسمى في علم البديع بالسجع المرصع والله أعلم.(3/438)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
اللغَة: {المزمل} المتلفف بثيابه يقال: تزمَّل بثوبه أي التف به وتغطَّى، وزمَّل غيره إِذا غطاه قال امرؤ القيس: كبير إناسٍ في بجادٍ مزمَّل {سَبْحَاً} تصرفاً وتقلباً في مهماتك، وأصل السَّبْح العومُ على وجه الماء، واستعير للتصرف والتقلب في شئون الحياة {أَنكَالاً} جمع نِكْلٍ وهو القيد الثقيل الذي يقيد به المجرم {كَثِيباً} الكثيب: الرمل المجتمع {مَّهِيلاً} سائلاً متناثراً منهاراً قال أهل اللغة: المهيل الذي إذا وطأته بالقدم زلَّ من تحتها، وإذا أخذ أسفله انهال، وأصله مهيول كمكيل أصله مكيول {وَبِيلاً} شديداً وخيم العاقبة.
التفسِير: {ياأيها المزمل} أي يا أيها المتلفف بثيابه، وأصله المتزمل وهو الذي تلفف وتغطى، وخطابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذا الوصف {ياأيها المزمل} فيه تأنيسٌ وملاطفة له عليه السلام قال السهيلي؛ إن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك معاتبته سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعلي حين غاضب فاطمة وقد نام ولصف بجنبه التراب قم أبا تراب، إشعاراً بأ، هـ ملاطفٌ له، وغير عاتب عليه، والفائدة الثانية، التنبيهُ لكل متزمل راقد ليله، لتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى، لأنه الاسم المشتق من الفعل، يشترك فيه المخاطب، وكل من اتصف بتلك(3/440)
الصفة، وسبب هذا التزمل ما روي في الصحيح «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما جاءه جبريل وهو في غار حراء في ابتداء الوحي رجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال: زملوني زملوني، لقد خشيت على نفسي، وأخبرها بما جرى، فنزلت {ياأيها المزمل} » أي يا أيها الذي تلفف بقطيفته، واضطجع في زاوية بيته، وقد أشبه من يُؤثر الراحة والسكون، ويحاول التخلص مما كُلف به من مهمات الأمور {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} أي دع التزمل والتلفف، وانشط لصلاة الليل، والقيام فيه ساعات في عبادة ربك، لتستعد للأمر الجليل، والمهمة الشاقة، ألا وهي تبليغ دعوة ربك للناس، وتبصيرهم بالدين الجديد. . ثم وضَّح المقدار الذي ينبغي أن يصرفه في عبادة الله فقال {نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي قم للصلاة والعبادة نصف الليل، أو أقل من النصف قليلاً، أو أكثر من النصف، والمراد أن تكون هذه الساعات طويلة بحيث لا تقل عن ثلث الليل، ولا تزيد على الثلثين قال ابن عباس: إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوله {قُمِ اليل} ثم نسخ بقوله تعالى {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وكان بين أول هذا الوجوب ونسخه سنة، وهذه هي السورة التي نسخه آخرها أولها، حيث رحم الله المؤمنين فأنزل التخفيف عليهم بقوله {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ} الآية {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} أي اقرأ القرآن أثناء قيامك في الليل قراءة تثبت وتؤده وتمهل، ليكون عوناً لك على فهم القرآن وتدبره، قال الخازن: لما أمره تعالى بقيام الليل أتبعه بترتيل القرآن، حتى يتمكن المصلي من حضور القلب، والتفكر والتأمل في حقائق الآيات ومعانيها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر بقلبه عظمة الله وجلاله، وعند ذكر الوعد والوعيد يحصل له الرجاء والخوف، وعند ذكر القصص والأمثال يحصل له الاعتبار، فسيتنير القلب بنور معرفة الله، والإِسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، فظهر بذلك أن المقصود من الترتيل، إنما هو حضور القلب عند القراءة، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقطِّع القراءة حرفاً حرفاً أي يقرأ القرآن بتمهل، ويخرج الحروف واضحة لا يمر بآية رحمةٍ إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذابٍ إلا وقف وتعوَّذ.
. ثم بعد أن أمره تعالى باطراح النوم، وقيام الليل، وتدبر القرآن وتفهمه، انتقل إلى بيان السبب في هذه الأوامر الثلاثة، ذات التكليف الصعب الشاق فقال {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} أي سننزل عليك يا محمد كلاماً عظيماً(3/441)
جليلاً، له هيبة وروعةٌ وجلال، لأنه كلام الملك العلاَّم قال الإِمام الفخر: والمراد من كونه ثقيلاً هو عِظَم قدره، جلالة خطره، وكل شيء نفس وعظم خطره فهو ثقيل، وهذا معنى قول ابن عباس: {قَوْلاً ثَقِيلاً} يعني كلاماً عظيماً، وقيل المراد ما في القرآن من الأوامر والنواهي، التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين، ووجه النظم عندي أنه لما أمره بصلاة الليل فكأنه قال: إنما أمرتك بصلاة الليل، لأنا سنلقي عليك قولاً عظيماً، ولا بد وأن تصيّر نفسك مستعدة لذلك القول العظيم، وذلك بصلاة الليل، فإن الإِنسان إذا اشتغل بعبادة الله في الليلة الظلماء، وأقبل على ذكره والتضرع بين يديه، استعدت نفسه لإِشراق وجلال الله فيها أقول: وهذا المعنى لطيف في الربط بين قيام الليل، وتلاوة القرآن، فإن الله تعالى كلَّف رسوله أن يدعو الناس إلى دين جديد، فيه تكاليف شاقة على النفس، وأن يكلفهم العمل بشرائعه وأحكامه، ولا شك أن مثل هذا التكليف، يحتاج إلى مجاهدة للنفس ومصابرة، لما فيه من حملهم على ترك ما ألفوه من العقائد، ونبذ ما ورثوه من أسلافهم من العادات، فأنت يا محمد معرَّضٌ لمتاعب كثيرة، وأخطار جمة في سبيل هذه الدعوة، وحمل الناس على قبولها، فكيف يمكنك أن تقوم بهذه المهمة الكبيرة، وأنت على ما أنت عليه من التزل والتلفف، والخلود إلى الراحة والسكون، والبعد عن المشاقِّ، ومجاهدة النفس بطول العبادة وكثرة التهجد، ودراسة آيات القرآن دراسة تفهم وتدبر؟ فانشط من مضجعك إِذاً، واسهر معظم ليلك في مناجاة ربك، استعداداً لتحمل مشاق الدعوة، والتبشير بهذا الدين الجديد، ويا لها من لفتةٍ كريمة، تيقَّظَ لها قلبُ النبي الكريم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فشمَّر عن ساعد الجد والعمل، وقام بين يدي ربه حتى تشققت قدماه.
. ثم بيَّن تعالى فضل إحياء الليل بالعبادة فقال {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل} أي إن ساعات الليل وأوقاته التي فيها التفرغ والصفاء، وما ينشئه المرء ويحدثه من طاعةٍ وعابدة، يقوم لها من مضجعه بعد هدأةٍ من الليل {هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} أي هي أشد على المصلي وأثقل من صلاة النهار، لأن الليل جعل للنوم والراحة، فقيامه على النفس أشد وأثقل، ومن شأن هذه الممارسة الصعبة أن تقوّي النفوس، وتشد العزائم، وتصلب الأبدان، ولا ريب أن مصاولة الجاحدين أعداء الله تحتاج إلى نفوس قوية، وأبدان صلبة {وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي أثبتُ وأبينُ قولاً، لأن الليل تهدأ فيه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات، فتكون النفس أصفى، والذهن أجمع، فإن هدوَّ الصوت في الليل، وسكون البشر فيه، أعون للنفس على التدبر والتفطن، والتأمل في أسرار القرآن ومقاصده {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} أي إن لك في النهار تصرفاً وتقلباً، واشتغالاً طويلاً في شئونك، فاجعل ناشئة الليل لتهجدك وعبادتك قال في التسهيل: السبحُ هنا عبارة عن التصرف في الأعمال والأشغل والمعنى: يكفيك النهار للتصرف في أشغالك، وتفرغ بالليل لعبادة ربك. . وربع أن قرر الخطاب الإِلهي هذه المقدمات التي هي بمثابة تمهيدٍ وبساطٍ للدعوة، انتقل إلى أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتبليغ الدعوة، وتعليمه كيفية السير فيها عملاً، بعد أن مهدها له نظراً فقال {واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أي استعن على دعوتك بذكر الله ليلاً ونهاراً، وانقطع إليه انقطاعاً تاماً في عبادتك وتوكلك عليه، ولا تعتمد في(3/442)
شأنٍ من شئونك على غيره تعالى قال ابن كثير: أي أكثر من ذكره وانقطع إليه جلا وعلا، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك مع إخلاص العبادة له {رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً} أي هو جل وعلا الخالق المتصرف بتدبير شئون الخلق، وهو المالك لمشارق الأرض ومغاربها، لا إله غيره ولا ربَّ سواه، فاعتمد عليه وفوّض أمورك إليه {واصبر على مَا يَقُولُونَ} أي اصبر على أذى هؤلاء السفهاء المكذبين فيما يتقولونه عليك من قولهم: «ساحر، شاعر، مجنون» فإن الل ناصرك عليهم {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} أي اتركهم ولا تتعرض لهم بأذى ولا شتيمة، قال المفسرون: الهجر الجميل هو الذي لا عتاب معه، ولا يشوبه أذى ولا شتم، وقد كان هذا قبل أن يؤمر بالقتال كما قال سبحانه {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأَنعام: 68] ثم أُمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتالهم وقتلهم، والحكمة في هذا أن المؤمنين كانوا بمكة قلة مستضعفين، فأمروا بالصبر وبالمجاهدة الليلية، حتى يُعدُّوا أنفسهم بهذه التربية الروحية على مناجزة الأعداء، وحتى يكثر عددهم فيقفوا في وجه الطغيان، أما قبل الوصول إلى هذه المرحلة فينبغي الصر والاقتصار على الدعوة باللسان.
. ثم قال تعالى متوعداً ومتهدداً صناديد قريش {وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة} أي دعني يا محمد وهؤلاء المكذبين بآياتي، أصحاب الغنى، والتنعم في الدنيا، والترف والبطر فأنا أكفيك شرهم قال الصاوي: المعنى اتركني أنتقم منهم، ولا تشفع لهم، وهذا من مزيد التعظيم له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإِجلال قدره {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي وأمْهِلهمْ زمناً يسيراً حتى ينالوا العذاب الشديد قال المفسرون: أمهلهم الله تعالى إلى أن هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة، فلما خرج منها سلَّط عليهم السنين المجدبة وهو العذاب العام، ثم قتل صناديدهم ببدر وهو العذاب الخاص. . ثم وصف تعالى ما أعده لهم من العذاب في الآخرة فقال {إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً} أي إنَّ لهم عندنا في الآخرة قيوداً عظيمة ثقيلة يقيدون بها، وناراً مستعرة هي نار الجحيم يحرقون بها قال في التسهيل: الأنكال جمع نِكْل وهو القيد من الحديد، وروي أنها قيود سودٌ من نار {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} أي وطعاماً كريهاً غير سائق، يغصُّ به الإِنسان وهو الزقوم والضريع قال ابن عباس: شوك من نار يعترض في حلقوهم لا يخرج ولا ينزل {وَعَذَاباً أَلِيماً} أي وعذاباً وجيعاً مؤلماً، زيادة على ما ذكر من النكال والأغلال. . ثم ذكر تعالى وقت هذا العذاب فقال {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال} أي يوم تتزلزل الأرض وتهتز بمن عليها اهتزازاً عنيفاً شديداً هي وسائر الجبال، وذلك يوم القيامة {وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً} أي وتصبح الجبال على صلابتها تلاً من الرمل سائلاً متناثراً، بعد أن كانت صلبة جامدة قال ابن كثير: أي تصير الجبال ككثبان الرمال، بعد ما كانت جحارة صماء، ثم إنها تُنسف نسفاً فلا يبقى منها شيء إلا ذهب كقوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} [طه: 105107] أي لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع. . ذكر تعالى العذاب(3/443)
المؤلم الذي أعده للمشركين، ومكانه وهو الجحيم، وآلاته وهي القيود وطعام الزقوم، ووقته وهو عند اضطراب الأرض وتزلزلها بمن عليها، وأراد بذلك تخويف المكذبين وتهديدهم بأنه تعالى سيعاقبهم بذلك كله، إن بقوا مستمرين في تكذيبهم لرسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ثم أعقبه بتذكيرهم بما حلَّ بالأمم الباغية التي قد خلت من قبلهم، وكيف عصت وتمردت فأنزل بها من أمره ما أنزل، وضرب لهم المثل بفرعون الجبار فقال {إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} أي بعثنا لكم يا أهل مكة محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاهداً على أعمالكم، يشهد عليكم بما صدر منكم من الكفر والعصيان {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} أي كما بعثنا إلى ذلك الطاغية فرعون الجبار، رسولاً من أولئك الرسل العظام «أولي العزم» وهو موسى بن عمران قال الخازن: وإِنما خصَّ فرعون وموسى بالذكر من بين سائر الأمم والرسل، لأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آذاه أهل مكة واستخفوا به لأنه وُلد فيهم، كما أن فرعون أزدرى بموسى وآذاه لأنه ربَّاه {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} أي فكذب فرعون بموسى ولم يؤمن به، وعصى أمره كما عصيتم يا معشر قريش محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذبتم برسالته {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} أي فأهلكناه إهلاكاً شديداً فظيعاً، خارجاً عن حدود التصور، وذلك بإِغراقه في البحر مع قومه قال أبو السعود: وفي الآية التنبيه على أنه سيحيق بهؤلاء ما حاق بأولئك لا محالة، و «الوبيلُ» الثقيل الغليظ من قولهم كلأٌ وبيل أي وخيم لا يستمرأ لثقله.
. وبعد أن ذكر الله أخذه لفرعون، وأن ملكه وجبروته لم يدفعا عنه العذاب، عاد فذكَّر كفار مكة بالقيامة وأهوالها ليبيّن لهم أنهم لن يفلتوا من العذاب كما لم يفلت فرعون مما حدث له فقال {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} أي كيف لا تحذون وتخافون يا معشر قريش عذاب يوم هائل إن كفرتم بالله ولم تؤمنوا به؟ وكيف تأمنون ذلك اليوم الرهيب الذي يشيب فيه الوليد من شدة هوله، وفظاعة أمره؟ قال الطبري: وإنما تشيب الولدان من شدة هوله وكربه، وذلك حين يقول الله لآدم: أخرج من ذريتك بعث النار، من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون، فيشيب هنالك كل وليد. . ثم زاد في وصفه وهوْله فقال {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} أي السماء متشققة ومتصدّعة من هول ذلك اليوم الرهيب العصيب {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي كان وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم واقعاً لا محالة، لأن الله لا يخلف الميعاد {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} أي إن هذه الآيات المخوّفة، التي فيها القوارع والزواجر، عظةٌ وعبرةٌ للناس {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي فمن شاء من الغافلين الناسين، أن يستفيد من هذه التذكرة قبل فوات الأوان، فليسلك طريقاً موصلاً إلى الرحمن، بالإِيمان والطاعة، فالأسبابُ ميسرة، والسبل معبَّدة، قال المفسرون: والغرض الحضُّ على الإِيمان وطاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، والترغيب في الأعمال الصالحة، لتبقى ذخراً في الآخرة. . ثم عادت الآيات الكريمة للحديث عمَّا بدأته في أول السورة من قيام الليل فقال تعالى {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ} أي إن(3/444)
ربك يا محمد يعلم أنك تقوم مع أصحابك للتهجد والعبادة أقل من ثلثي الليل، وتارة تقومون نصفه، وتارةً ثلثه كقوله تعالى
{كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 1718] {والله يُقَدِّرُ الليل والنهار} أي والله جلا وعلا هو العالم بمقادير الليل والنهار، وأجزائهما وساعاتهما، لا يفوته علم ما تفعلون من قيام هذه الساعات في غلس الظلام ابتغاء رضوانه، وهو تعالى المدبّر لأمر الليل والنهار {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي علم تعالى أنكم لن تطيقوا قيام الليل كله ولا معظمه، فرحمكم ورجع عليكم بالتخفيف قال الطبري: أي علم ربكم أن لن تطيقوا قيامه، فتاب عليكم بالتخفيف عنكم {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، وإنما عبَّر عن الصلاة بالقراءة، لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة قال ابن عباس: سقط عن أصحاب رسول الله قيام الليل وصارت تطوعاً، وبقي ذلك فرضاً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. . ثم بين تعالى الحكمة في هذا التخفيف فقال {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} أي علم تعالى أنه سيوجد فيكم من يعجزه المرضُ عن قيام الليل، فخفف عنكم رحمة بكم {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} أي وقوم آخرون يسافرون في البلاد للتجارة، يطلبون الرزق وكسب المال الحلال {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} أي وقوم آخرون وهم الغزاة المجاهدون، يجاهدون في سبيل الله لإِعلاء كلمته ونشر دينه، وكل من هذه الفرق الثلاثة يشقُّ عليهم قيام الليل، فلذلك خفف الله عنهم، ذكر تعالى في هذه الآية الأعذار التي تكون للعباد تمنعهم من قيام الليل، فمنها المرض، ومنها السفر للتجارة، ومنها الجهاد في سبيل الله، ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر من القرآن تأكيداً للتخفيف عنهم قال الإِمام الفخر: أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم، وأما المسافرون والمجاهدون فيهم مشغولون في النهار بالأعمال الشاقة، فلو لم يناموا في الليل لتواليت أسباب المشقة عليهم، فلذلك خفف الله عنهم وصار وجوب التهجد منسوخاً في حقهم {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي فصلوا ما تيسَّر لكم من صلاة الليل، واقرءوا في صلاتكم ما تيسر من القرآن {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} أي وأدوا الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل، والزكاة الواجبة عليكم إلى مستحقيها قال المفسرون: قلَّما يُذكر الأمر بالصلاة في القرآن، إلا ويُقرن معه الأمر بالزكاة، فإن الصلاة عماد الدين بين العبد وربه، والزكاة عماد الدين بينه وبين إِخوانه، والصلاة أعظم العبادات البدنية، والزكاة أعظم العبادات المالية {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} أي تصدقوا في(3/445)
وجوه البر والإِحسان ابتغاء وجه الله قال ابن عباس: يريد سائر الصدقات سوى الزكاة، من صلة الرحم، وقرى الضيف وغيرهما {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} أي أيَّ شيء تفعلوه أيها الناس من وجوه البر والخير تلقوا أجره وثوابه عند ربكم {هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} أي تجدوا ذلك الأجر والثواب يوم القيامة خيراً لكم مما قدمتم في الدنيا من صلح الأعمال، فإن الدنيا فانية والآخةر باقية، وما عند الله خيرٌ للأبرار {واستغفروا الله} أي اطلبوا مغفرة الله في جميع أحوالكم، فإن الإِنسان قلَّما يخلو من تقصير أو تفريط {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عظيم المغفرة، واسع الرحمة.
. ختم تعالى السورة بإِرشاد المنفقين المحسنين، إلى أن يطلبوا من الله الصفح والعفو، إذ ربما كانوا لم يخلصوا النية في الإِنفاق، أو لم يحسنوا العمل في الإِقراض، فيضعوا النفقة في غير مواضعها، أو ينفقوها فيما لهم فيه غرض وشهوة، وهو ختم يتناسق مع موضوع الإِنفاق، فسبحان منزل القرآن بأوضح بيان!!
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {انقص مِنْهُ. . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} وبين {المشرق. . والمغرب} وبين {الليل والنهار} .
2 - جناس الاشتقاق {أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً} .
3 - تأكيد الفعل بالمصدر مثل {رَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} {رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} زيادة في البيان والإِيضاح.
4 - الالتفات من الغيبة إلى الخطاب {إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً} ولو جرى على الأصل لقال إنا أرسلنا إليهم، والغرض من الالتفات التقريع والتوبيخ على عدم الإِيمان.
5 - المجاز المرسل {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} أراد به الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة.
6 - ذكر العام بعد الخاص {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ} عمَّم بعد ذكر الصلاة، والزكاة، والإِنفاق ليعم جميع الصالحات.
7 - الاستعارة التبعية {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} شبَّه الإِحسان إلى الفقراء والمساكين بإقراض رب العالمين، وهو من لطيف الاستعارة.
8 - السجع المرصَّع مثل {إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} الخ.(3/446)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
اللغَة: {المدثر} المتغطي بثيابه، تدثر: لبس الدثار وهو الثوب الذي فوق الشعار، والشعار الثوب الذي يلي الجسد، ومنه حديث «الأنصار شعار، والناس دثار» {الناقور} الصور الذي ينفخ فيه، والنقر في كلام العرب الصوت، سمي ناقوراً لأنه يخرج منه صوت عظيم رهقب، يفزع الناس منه ويموتون {عَبَسَ} قطب بين عينيه {بَسَرَ} كلح وجهه وتغير لونه قال الليث: عبس إذا قطب ما بين عينيه، فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل كلح، فإن اهتم في الأمر وفكر فيه قيل: بسر، فإن غضب مع ذلك قيل: بسل {أَسْفَرَ} أضاء وانكشف {الكبر} الدواهي وعظائم المصائب والعقوبات قال الراجز:(3/448)
يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر ... داهية الدهر وصمَّاء الغير
{قَسْوَرَةٍ} أسد، من القسر وهو القهر، سمي بذلك لأنه يقهر السباع، وقيل هو جماع الرماة الذين يتصيدون قال الأزهري: هو اسم جمع للرماة لا واحد له من جنسه قال لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندَّينا ... أتانا الرجال الصَّائدون القساور
سَبَبُ النّزول: روي أنه لما نزل قوله تعالى {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتوعدنا ويخوفنا بجهنم، ويخبر أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الجمع العظيم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم!! فقال «أبو الأسد الجمحي» : أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، واكفوني اثنين، فأنزل الله تعالى {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ... } الآية.
التفسِير: {ياأيها المدثر قُمْ فَأَنذِرْ} أي يا أيها المتغطي بقطيفته يريد النوم والراحة، قم من مضجعك قيام عزم وتصميم، وحذر الناس من عذاب الله إن لم يؤمنوا، خوطب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذا اللفظ «المدثر» مؤانسة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتلطفاً، كما خوطب بلفظ {المزمل} في السورة السابقة قال المفسرون: «كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعبد في غار حراء فجاءه جبريل بالآيات الكريمة {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ. .} [العلق: 1] الآيات وهي أول ما نزل عليه من القرآن، فرجع يرجف فؤاده فقال لخديجة: زملوني، زملوني فنزلت {ياأيها المزمل قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} » [المزمل: 12] الآيات ثم فتر الوحي فحزن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبينا هو يمشي سمع صوتاً من السماء، فرفع رأسه فإِذا الملك الذي جاءه بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فعراه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من رؤيته الرغب والفزع، فجاء إلى أهله فقال: دثروني، دثروني فأنزل الله {ياأيها المدثر قُمْ فَأَنذِرْ} قال القرطبي: وفي هذا النداء ملاطفة في الخطاب، من الكريم إلى الحبيب، إذ ناداه بوصفه ولم يقل «يا محمد» ليستشعر اللين والملاطفة من ربه، ومثله قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لحذيفة بن اليمان يوم الخندق: «قم يا نومان» {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي عظمربك، وخصه بالتمجيد والتقديس، وأفرده بالعظمة والكبرياء، فليس هناك من هو أكبر من الله قال الألوسي: أي اخصص ربك بالتنكير، وهو وصفه تعالى بالكبرياء والعظمة، اعتقاداً وقولاً، وإنما ذكرت هذه الجملة بعد الأمر بالإِنذار، تنبيهاً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على عدم الاكتراث بالكفار، فإن نواصي الخلائق بيد الجبار، فلا ينبغي أن يبالي الرسول بأحد من الخلق، ولا أن يرهب سوى الله، فإن كل كبير مقهور تحت عظمته تعالى وكبريائه {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي وثيابك فطهرها من النجاسات والمستقذرات، فإن المؤمن طيبٌ طاهر، لا يليق منه أن يحمل الخبيث، قال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه وقال ابن عباس: كنَّى بالثياب(3/449)
عن القلب والمعنى وقلبك فطهر من الإِثم والمعاصي واستشهد بقول غيلان
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
يقول العرب: فلان طاهر الثياب أو نقي الثياب، يريدون وصفه بالنقاء من المعايب وذميم الصفات، ويقولون: فلان دنس الثياب إذا كان موصوفاً بالأخلاق الذميمة قال الرازي: والسبب في حسن هذه الكناية، أن الثوب كالشيء الملازم للإِنسان، فلهذا السبب جعلوا الثوب كناية عن الإِنسان، فقالوا: المجدُ في ثوبه، والعفة في إزاره {والرجز فاهجر} أي اترك عبادة الأصنام والأوثان ولا تقربها قال ابن زيد: الرجز: الآلهة التي كانوا يعبدونها، فأمره أن يهجرها فلا يأتيها ولا يقربها وقال الإِمام الفخر: الرجز: اسم للقبيح المستقذر كالرجس قال تعالى {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] وقوله {والرجز فاهجر} كلام جامع لمكارم الأخلاق، كأنه قيل له: اهجر الجفاء، والسفه، وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين، والمراد بالهجر الأمر بالمداومة على ذلك الهجران، كما يقول المسلم: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] ليس معناه أنه ليس على الهداية، بل المراد ثبتنا على هذه الهداية {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} أي ولا تعط الناس عطاء وتستكثره، لأن الكريم يستقل ما يعطي وإن كان كثيراً، واعط عطاء من لا يخاف الفقر وقال ابن عباس: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها بمعنى: لا تعط شيئاً لتعطى أكثر منه، وسر النهي أن يكون العطاء خالياً عن انتظار العوض تعففاً وكمالاً، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق {وَلِرَبِّكَ فاصبر} أي اصبر على أذى قومك، ابتغاء وجه ربك. . ثم أخبر تعالى هن أهوال القيامة وشدائدها فقال: {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور} أي فإِذا نفخ في الصور، نفخة البعث والنشور، وعبر عن النفخ وعن الصور، بالنقر في الناقور لبيان هول الأمر وشدته، فإن النفر في كلام العرب معناه الصوت وإذا اشتد الصوت أصبح مفزعاً فكأنه يقول: إصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى عاقبة صبرك، ولهذا قال بعده {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} أي فذلك اليوم يوم شديد هائل، يشتد فيه الهول ويعسر الأمر عليهم، والإِشارة بالبعيد {فَذَلِكَ} للإِيذان ببعد منزلته في الهول والفظاعة {عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ} أي هو عسير على الكافرين، غير هين ولا يسير عليهم، لأنهم ينشاقون الحساب، وتسود وجوههم، ويحشرون زرقاً، ويفتضحون على رءوس الأشهاد، قال الصاوي: ودلت الآية على أنه يسير على المؤمنين، لأنه قيد عسرة بالكافرين، وفيها زيادة وعيد وغيظ للكافرين، وبشرى وتسلية للمؤمنين.
. ثم أخبر عن قصة ذلك الشقي الكافر «الوليد بن المغيرة» وقوله الشنيع في القرآن فقال {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أي دعني يا محمد وهذا الشقي، الذي خلقته في بطن أُمه وحيداً فريداً، لا ما له ولا ولاد، ولا حول له ولا مدد، ثم(3/450)
كفر بي وكذب بآياتي قال المفسرون: نزلت في «الوليد بن المغيرة» كان من أكابر قريش، ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش، وقد أنعم الله عليه بنعم الدنيا من المال والبنين، وأغدق عليه الرزق فكان ماله كالنهر الدافق، وكان للوليد بستان في الطائف لا ينقطع ثمره صيفاً ولا شتاء، فكفر بأنعم الله وبدلها كفراً، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء علهيا، وفيه نزل {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} وهو أسلوب بليغ في التهديد، كما نزلت فيه الآيات المتقدمة في سورة نون، {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ. .} إلى {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 1016] وهو الذي آذى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكاد له، فإن صناديد قريش لما برموا برسول الله، وضاقت عليهم الحيل في إسكاته، وإطفاء نور دعوته، لجأوا إلى الوليد فأشار عليهم بأن يلقبوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالساحر، ويأمروا عبيدهم وصبيانهم أن ينادوا بذلك في مكة، فجعلوا ينادون إن محمداً ساحر، فحزن لذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت الآيات الكريمة في معرض تهديده وتخويفه، ليكون ذلك أدعى للكسر من كبريائه ثم قال تعالى {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً} أي جعلت له المال الواسع المبسوط، من الإِبل، والخيل، والغنم، والبساتين النضرة قال البيضاوي: {مَّمْدُوداً} أي مبسوطاً كثيراً، وكان له الزرع والضرع والتجارة قال ابن عباس: كان ماله ممدوداً ما بين مكة والطائف وقال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفاً {وَبَنِينَ شُهُوداً} أي وأولاداً مقميمن معه في بلده، يحضرون معه المحافل والمجامع، يستأنس بهم ولا يتنغَّص عيشه لفراقهم قال المفسرون: كان له عشرة بنين لا يفارقونه سفراً ولا حضراً، وكان مستأنساً بهم وله بهم عز ومنعة، أسلم منهم ثلاثة: «خالد، وهشام، والوليد» .
. وبعد أن ذكر من مظاهر النعم المال والبنين عاد فعمم الخيرات الدنيوية التي أنعم بها الله عليه فقال {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} أي بسطت بين يديه الدنيا بسطاً، ويسرت له تكاليف الحياة، ومظاهر الجاه والعز والسيادة، فكان في قريش عزيزاً منيعاً، وسيداً مطاعاً {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي ثم بعد هذا العطاء الجزيل يطمع أن أزيد له في ماله وولده وقد كفر بي قال الفخر الرازي: لفظ {ثُمَّ} هنا للإِنكار والتعجب، كما تقول لصاحبك: أنزلتك داري، وأطعمتك وأكرمتك ثم أنت تشتمني! {أي ومع كل هذه الإِنعام والإِكرام فقد كفر وجحد، وبدل أن يشكر الوليد لربه هذا الإِحسان، ويقابله بالطاعة والإِيمان، عكس الأمر وقابله بالجحود والكفران {كَلاَّ} ردع وزجر أي ليرتدع هذا الفاجر الأثيم عن ذلك الطمع الفاسد، ثم علل ذلك بقوله {إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً} أي لأنه معاند للحق، جاحد بآيات الله، مكذب لرسوله، فكيف يطمع بالزيادة هذا الشقي العنيد؟ {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} أي سأكلفه وألجئه إلى عذاب صعب شاق لا يطاق، تضعف عنه قوته كما تضعف(3/451)
قوة من يصعد في الجبل قال القرطبي: {صَعُوداً} صخرة ملساء يكلف صعودها، فإذا صار في أعلاها حدر في جهنم، فيهوي ألف عام قبل أن يبلغ قرارها وفي الحديث «الصعود جبل من نار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً» {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} أي إنه فكر في شأن النبي والقرآن، وأجال رأية وذهنه الثاقب، ثم رتب وهيأ كلاماً في نفسه، ماذا يقول في القرآن؟ وبماذا يطعن فيه؟ قال تعالى دعاء عليه {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أي قاتله الله وأخزاه على تلك الكلمة الحمقاء التي أجالها في نفسه، حيث قال عن القرآن، إنه سحر، وقال عن محمد إنه ساحر، وفي الآية استهزاء به وتهكم، حيث قدر ما لا يصح تقديره، ولا يسوغ أن يقوله عاقل قال في البحر: يقول العرب عند استعظام الأمر والتعجب منه: قاتله الله، ومرادهم أنه قد بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعي عليه من حُسَّاده، والاستفهام في قوله {كَيْفَ قَدَّرَ} ؟ في معنى ما أعجب تقديره وما أغربه به؟ كقولهم أي رجل هذا؟ أي ما أعظمه؟ {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} كرر العبارة تأكيداً لذمه وتقبيحاً لحاله، ولغاية التهكم به، كأنه قال: قاتله الله ما أروع تفكيره، وأبدع رأيه الحصيف؟ حيث قال عن القرآن إنه سحر يؤثر؟ قال المفسرون: مر الوليد بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يصلي ويقرأ القرآن، فاستمع لقراءته وتأثر بها، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً، ما هو من كلام الإِنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: لقد صبأ والله الوليد، ولتصبأن قريش كلها} فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى جلس إلى جانب الوليد حزيناً، فقال له الوليد: ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟ {فقال: كيف لا أحزن وهذه قريش تجمع لك مالاً ليعينوك به على كبر سنك، ويزعمون أنك زيَّنت كلام محمد وصبأت لتصيب من فضل طعامه، وتنال من ماله} {فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالاً وولداً؟} وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموهن يخنف؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه كذبا قط؟ قالوا اللهم لا، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكر في نفسه ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرِّق بين الرجل وأهله وولده، وما هذا الذي يقوله إلا سحر يؤثر، فذلك قوله تعالى {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} الآيات تركنا الوليد يفكر ويقدر، ولنرجع إليه لنرى ماذا فعل بعد، قال تعالى {ثُمَّ نَظَرَ} أي أجال النظر مرة أُخرى متفكراً في شأن القرآن {ثُمَّ عَبَسَ} أي ثم قطب وجهه وكلحه ضيقاً بما يقول {وَبَسَرَ} اي وزاد في القبض(3/452)
والكلوح، كالمتهم المتفكر في أمر يدبره قال في التسهيل: البسور تقطيب الوجه وهو أشد من العبوس {ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر} أي ثم أعرض عن الإِيمان، وتكبر عن اتباع الهدى والحق {فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي فقال: ما هذا الذي يقوله محمد إلا سحر ينقله ويرويه عن السحرة {إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر} أي ليس هذا كلام الله، وما هو إلا كلام المخلوقين، يخدع به محمد القلوب، ويؤثر فيها كما يؤثر السحر بالمسحور قال الألوسي: هذا كالتأكيد للجملة الأولى، لأن المقصود منهما نفي كونه قرآنا أو من كلام الله تعالى، ولذلك لم يعطف عليها بالواو، وفي وصف إشكاله واستنباطه هذا القول السخيف استهزاء به، وإشارة إلى أنه عن الحق بمعزل، ويظهر من تتبع أحوال الوليد، أنه إنما قال ذلك عناداً وحمية جاهلية، لا جهلاً بحقيقة الحال، ألا ترى ثناءه على القرآن ونفيه عنه جمعي ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون!! {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أي سأدخله جهنم يتلظى حرها، ويذوق عذابها {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} ؟ استفهام للتهويل والتفظيع أي وما أعلمك أي شيء هي سقر؟ {لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ} أي لا تبقي على شيء فيها إلا أهلكته، ولا تترك أحداً من الفجار إلا أحرقته قال ابن عباس: لا تبقي من الدم والعظم واللحم شيئاً، فإذا أعيد خلقهم من جديد تعاود إحراقهم بأشد مما كانت وهكذا أبداً {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} أي تلوح وتظهر لأنظار الناس من مسافات بعيدة لعظمها وهو لها كقوله تعالى
{وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى} [النازعات: 36] قال الحسن: تلوح لهم من مسيرة خمسمائة عام حتى يروها عياناً فهي بارزة إلى أنظارهم، يرونها من غير استشراف ولا مدِّ أعناق {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أي خزنتها الموكلون عليها تسعة عشر ملكاً من الزبانية الأشداء كقوله تعالى {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] قال ابن عباس: «ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف انسان في قعر جهنم» قال الألوسي: روي عن ابن عباس أنها لما نزلت {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أُمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يعني محمداً يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدَّهم أي العدد الشجعان، أفيعجز كل عشرةٍ منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأشد الجمحي: وكان شديد البطش أنا أكفيكم سبعة عشر فأكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله {وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً} أي وما جعلنا خزنة النار إِلا من الملائكة الغلاظ الشداد، ولم نجعلهم من البشر حتى يصارعوهم ويغالبوهم {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي لم نجعل ذلك العدد إلاَّ سبباً لفتنة وضلال المشركين، حين استقلوا بعددهم واستهزءوا حتى قال أبو جهل:(3/453)
أفيعجز كل مائةٍ منكم أن يبطشوا بواحدٍ منهم ثم تخرجون من النار؟ قال الطبري: وإِنما جعل الله الخبر عن عدة خزنة جهنم فتنةً للكافرين، لتكذيبهم بذلك وقول بعضهم لأصحابه على سبيل الاستهزاء أنا أكفيكموهم {لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} أي ليتيقن أهل الكتاب من صدق محمد، وأن هذا القرآن من عند الله، إِذ يجدون هذا العدد في كتبهم المنزَّلة {وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً} أي ويزداد المؤمنون تصديقاً لله ورسوله، بما يشهدن من صدق أخبار نبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتسليم أهل الكتاب لما جاء في القرآن موافقاً للتوراة والإِنجيل {وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون} أي ولا يشك أهل الكتاب والمؤمنون في عددهم، وهذا تأكيدٌ لما قبله لأنه لما ذكر اليقين نفى عنهم الشك، فكان قوله {وَلاَ يَرْتَابَ} مبالغة وتأكيداً، وهو ما يسميه علماء البلاغة الإِطناب {وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} أي وليقول الذين في قلوبهم شك ونفاق والكافرون من أهل مكة: أيَّ شيء أراد الله بهذا القول العجيب، الذي هو مثل في الغرابة والبداعة؟ ولماذا يخوفنا بواسطته من سقر وخزنتها التسعة عشر؟ قال الرازي: إِثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي حصول الارتياب بعد ذلك، فالمقصود من إِعادة هذا الكلام هو أنه حصل لهم يقين جازم بحيث لا يحصل عقيبه البتة شك ولا ريب، وقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم من حال قريش أنه متى أخبرهم بهذا العدد العجيب فإِنهم يستهزئون به ويضحكون منه، ولذلك بيَّن تعالى الغاية من ذكر هذا الخبر أوضح بيان {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} أي مثل ما أضلَّ الله أبا جهل وأصحابه، يضلُّ الله عن الهداية والإِيمان من أراد إِضلاله، ويهدي من أراد هدايته، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} أي وما يعلم عدد الملائكة، وقوتهم وضخامة خلقهم، وكثرتهم إِلا الله رب العالمين، وفي الآية ردٌّ على أبي جهل حين قال: أما لربِّ محمد أعوان إِلاّ تسعة عشر؟ {وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ} أي وما هذه النار التي وصفها لكم الجبار، إِلا موعظة وتذكرة للخلق ليخافوا ويطيعوا {كَلاَّ والقمر} {كَلاَّ} كلمة ردع وزجر ثم أقسم الله تعالى بالقمر على أن سقر حق، والمعنى ليرتدع أولئك المستهزئون بالوحي والقرآن عن فعلهم وسوء صنيعهم،(3/454)
وأُقسم بالقمر {والليل إِذْ أَدْبَرَ} أي وأُقسم بالليل حين ولَّى بظلمته ذاهباً {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ} أي وبالصبح إِذا تبلَّج وأضاء، ونشر ضياءه على الأرجاء {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر} أي إِن جهنم لإِحدى الدواهي الكبيرة، والبلايا الخطيرة، فكيف يستهزئون بها ويكذبون؟ قال أبو حيان: أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفاً لها، وتنبيهاً على ما يظهر فيها من عجائب الله وقدرته، وقوام الوجود بإِيجادها، أقسم على أن جهنم إِحدى الدواهي العظيمة الي تلا نظضير لها وفي الآية إِيماء إلى أن الشمس والقمر مخلوقان لله، وأنهما في حركاتهمها وإدبارهما وإٍسفارهما، ونشوء الليل والنهار عنهما، مسخران لأمره تعالى، ساجدان بين يدي قدرته وقهره، فكيف يحسن بالبشر أن يعبدوهما ويكفروا بالإِله الذي خلقهما؟ ثم قال تعالى عن جهنم {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ} أي هي إِنذار للخلق ليتقوا ربهم {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} أي لمن أراد من العباد أن يتقرب الى ربه بفعل الخيرات أو يتأخر بفعل الموبقات قال في البحر: والمراد بالتقدم والتأخر: السبق الى الخير والتخلف عنه كقوله تعالى:
{فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] قال ابن عباس: من شاء اتبع طاعة الله، ومن شاء تأخر عنها بمعصيته {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي كل نفس محبوسة بعملها، مرهونةٌ عند الله بكسبها، ولا تفك حتى تؤدي ما عليها من الحقوق والعقوبات {إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} أي إِلا فريق السعداء المؤمنين، فإِنههم فكوا رقابهم وخلَّصوها من السجن والعذاب، بالإِيمان وطاعة الرحمن {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ المجرمين} أي هم في جناتٍ وبساتين لا يدرك وصفها، يسأل بعضهم بعضاً عن حال المجرمين الذين في النار، والسؤال لزيادة تبكيت أولئك المجرمين وتوبيخهم، وإِدخال الألم والحسرة على نفوسهم، يقولون لهم {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ؟ ما الذي أدخلكم جهنم، وجعلكم تذوقون سعيرها؟ قال في البحر: وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير، وإِلاّ فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار {قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} أي قال المجرمون مجيبين للسائلين: لم نكن من المصلين في الدنيا لرب العالمين {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين} أي ولم نكن نتصدق ونحسن إِلى الفقراء والمساكين قال ابن كثير: مرادهم في الآيتين: ما عبدنا ربنا، ولا أحسنا إِلى خلقه من جنسنا {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين} أي وكنا نتحدث بالباطل مع أهل الغواية والضلالة، ونقع معهم فيما لا ينبغي من الأباطيل قال في التسهيل: والخوض هو كثرة الكلام بما لا ينبغي من الباطل وشبهه {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين} أي نكذب بيوم القيامة، وبالجزاء والمعاد، وإِنما أخر التكذيب بيوم الدين تعظيماً له، لأنه أعظم جرائمهم وأفحشها {حتى أَتَانَا اليقين} أي حتى جاءنا الموت ونحن في تلك المنكرات والضلالات، قال تعالى معقباً على اعترافهم بتلك الجرائم {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} أي ليس لهم شافع ينقذهم من عذاب الله، ولو شفع لهم أهل الأرض ما قبلت شفاعتهم فيهم قال ابن كثير: من كان متصفاً بمثل هذه الصفات، فإِنه لا تنفعه بيوم القيامة شفاعة شافع فيه، لأن(3/455)
الشفاعة إنما تنجع إِذا كان المحل قابلاً، فأما من وافى الله كافراً فإِنه مخلد في النار أبداً.
. ولما ذكر تعالى قبائحهم وشنائعهم عاد بالتوبيخ والتقريع عليهم فقال {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} ؟ فما لهؤلاء المشركين معرضين عن القرآن وآياته، وما فيه من المواعظ البليغة والنصائح والإِرشادات؟ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} أي كأن هؤلاء الكفار حمر وحشية نافرة وشاردة {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} أي هربت ونفرت من الأسد من شدة الفزع قال في البحر: شبههم تعالى بالحمر النافرة مذمة لهم وتهجيناً وقال ابن عباس: الحمر الوحشية إِذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركون إِذا رأوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هربوا منه كما يهرب الحمار من الأسد ثم قال: والقسورة: الأسد {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} أي بل يطمع كل واحد من هؤلاء المجرمين أن ينزل عليه كتاب من الله كما أُنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويريد أن يتنزَّل عليه الوحي كما تنزَّل على الرسل والأنبياء، والغرض من الآية بيان إمعانهم في الضلالة وكأنه يقول: دع عنك ذكر إِعراضهم وغباوتهم ونفارهم نفار العجماوات مما فيه خيرهم وسعادتهم، واستمع لما هو أعجب وأغرب، وذلك طمع كل فردٍ منهم أن يكون رسولاً يوحى إِليه، وهيهات أن يصل الاشقياء إلى مراتب الأنبياء، ثم قال تعالى {كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة} أي ليرتدعوا وينزجروا عن مثل ذلك الطمع، بل الحقيقة أنهم قوم لا يصدقون بالبعث والحساب، ولا يؤمنون بالنعيم والعذاب، وهذا هو الذي أفسدهمه وجعلهم يعرضون عن مواعظ القرآن {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} كرَّر الردع والزجر لهم بقوله {كَلاَّ} ثم قال {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} أي إِنَّ هذا القرآن موظعة بليغة، كافية لاتعاظهم لو أرادوا لأنفسهم السعادة {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء اتعظ بما فيه، وانتفع بهداه {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} أي وما يتعظون به إِلا أن يشاء الله لهم الهدى فيتذكروا ويتعظوا، وفيه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وترويح عن قلبه الشريف، مما كان يخامره من إِعراضهم وتكذيبهم له {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة} أي هو جل وعلا أهلٌ لأن يتقى لشدة عقابه، وأهل لأن يغفر لمن آمن به وأَطاعه وفي الحديث عن أنس
«أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة} ثم قال» قال ربكم: أنا أهل أن أُتقى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إِلهاً فأنا أهلٌ أن أغفر له «.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {عَسِيرٌ. . ويَسِيرٍ} كما أن بين اللفظتين جناس الاشتقاق.
2 - المقابلة بين {والليل إِذْ أَدْبَرَ} وبين {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ} .
3 - الإِطناب بتكرار الجملة {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} زيادة في التوبيخ والتشنيع.
4 - جناس الاشتقاق {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور} .
5 -(3/456)
تقديم المفعول لإِفادة الاختصاص {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ والرجز فاهجر} .
6 - الطباق بين {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} وبين {يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} .
7 - أسلوب التقريع والتوبيخ بطريق الاستفهام {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} ؟
8 - التشبيه التمثيلي {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
9 - الإِيجاز بحذف بعض الجمل {يَتَسَآءَلُونَ عَنِ المجرمين مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ؟ أي قائلين لهم: ما سلككم في سقر، فحذف اعتماداً على فهم المخاطبين.
10 - الاستفهام للتهويل والتفخيم {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} ؟
11 - ذكر الخاص بعد العام {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين} خصَّه بالذكر مع أنه داخل في الخوض بالباطل مع الخائضين لبيان تعظيم هذه الذنب.
12 - السجع المرصَّع مثل {كَلاَّ والقمر والليل إِذْ أَدْبَرَ والصبح إِذَآ أَسْفَرَ إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر} ومثل {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين حتى أَتَانَا اليقين} الخ.(3/457)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
اللغَة: {بَنَانَهُ} البَنان: أطراف الأصابع أو الأصابع نفسها جمع بنانة قال النابغة:
بمخضَّبٍ رَخْصٍ كأنه بَنَانَهُ ... عَنمٌ يكاد اللطافة يُعْقد
{بَرِقَ} فزع وبُهت وتحيَّر، وأصله النظر إلى البرق فيدهش البصر قال ذو الرمة:
وَلو أنَّ لُقمان الحكيم تعرضتْ ... لِعينيه ميٌّ سافراً كاد يبرق
{وَزَرَ} ملجأ وحصن يتلجىء إليه {نَّاضِرَةٌ} حسنة مشرقة متهلّلة، والنُضرة: النعمة وجمال البشرة والإِشراقة الجميلة {بَاسِرَةٌ} شديدة الكلوحة والعبوس يقال: بَسرَ وجهه إِذا اشتد في عبوسه وكلاحته {فَاقِرَةٌ} الفاقرة: الداهية والأمر العظيم يقال: فَقَرته المصيبة أي كسرت فَقَار ظهره {يتمطى} يتبختر في مشيته اختيالاً وكبراً.
التفسِير: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} أي أقسم بيوم القيامة، يوم الحساب والجزاء {وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة} أي وأقسم بالنفس المؤمنة التقية، التي تلوم صاحبها على ترك الطاعات، وفعل الموبقات قال المفسرون: {لاَ} لتأكيد القسم، وقد اشتهر في كلام العرب زيادة {لاَ} قبل القسم لتأكيد الكلام، كأنه من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى قسم، وجوابُ القسم محذوف تقديره «(3/459)
لتبعثنَّ ولتحاسبنَّ» دل عليه قوله {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} ؟ . . أقسم تعالى بيوم القيامة لعظمة وهوله، وأقسم بالنفس التي تلوم صاحبها على التقصير في جنب الله، وتستغفر وتنيب مع طاعتها وإِحسانها قال الحسن البصري: هي نفس المؤمن، إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه: ماذا أردتُ بكلامي؟ وماذا أردتُ بعملي؟ وإن الكافر يمضي ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع، أي أيظن هذا الإِنسان الكافر، المكذب للبعث والنشور، أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرقها؟ قال المفسرون: نزلت هذه الآية في «عدي بن ربيعة» جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا محمد: حدثني عن يوم القيامة، متى يكون؟ وكيف أمره؟ فأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: لو عاينتُ ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن بك، كيف يجمع الله العظام؟ فنزلت هذه الآية، قال تعالى رداً عليه {بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نعيد أطراف أصابعه، التي هي أصغر أعضائه، وأدقها أجزاءً وألطفها التئاماً، فكيف بكبار العظام؟ وإنما ذكر تعالى البنان، وهي رءوس الأصابع لما فيها من غرابة الوضع، ودقة الصنع، لأن الخطوط والتجاويف الدقيقة التي في أطراف أصابع إنسان، لا تماثلها خطوطٌ أُخرى في أصابع شخص آخر على وجه الأرض، ولذلك يعتمدون على بصمات الأصابع في تحقيق شخصية الإِنسان في هذا العصر {بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} أي بل يريد الإِنسان بهذا الإِنكار أن يستمر على الفجور، ويقدم على الشهوات والآثام، دون وازع من خُلُق أو دين، وينطلق كالحيوان ليس له همٌ إلا نيل شهواته البهيمية، ولذلك ينكر القيامة ويكذب بها {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} أي يسأل هذا الكافر الفاجر على سبيل الاستهزاء والتكذيب متى يكون هذا اليوم يوم القيامة؟ قال الرازي: والسؤال هنا سؤال متعنت ومستبعد لقيام الساعة، ونظيره
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} [يونس: 48] ؟ ولذلك ينكر المعاد ويكذب بالبعث والنشور، والغرض من الآية {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} أن الإِنسان الذي يميل طبعه إلى الاسترسال في الشهوات، والاستكثار من اللذات، لا يكاد يُقر بالحشر والنشر، وبعث الأموات، لئلا تتنغص عليه اللذات الجسمانية، فيكون أبداً منكراً لذلك، قائلاً على سبيل الهزء والسخرية: أيَّان يومُ القيامة، قال تعالى رداً على هؤلاء المنكرين {فَإِذَا بَرِقَ البصر} أي فإِذا زاغ البصر وتحيَّر، وانبهر من شدة الأهوال والمخاطر {وَخَسَفَ القمر} أي ذهب ضوءه وأظلم {وَجُمِعَ الشمس والقمر} أي جمع بينهما يوم القيامة، وأُلقيا في النار ليكونا عذاباً على الكفار(3/460)
قال عطاء: يجمعان يوم القيامة ثم يُقذفان في البحر، فيكون نار الله الكبرى {يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر} أي يقول الفاجر الكافر في ذلك اليوم: أين المهرب؟ وأين الفرار والمنجى من هذه الكارثة الداهية؟ يقول قول الآيس، لعلمه بأنه لا فرار حنيئذٍ {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} ردعٌ له عن طلب الفرار، أي ليرتدع وينزجر عن ذلك القول، فلا ملجأ له، ولا مغيث من عذاب الله {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر} أي إلى الله وحده مصير ومرجع الخلائق قال الألوسي: إليه جل وعلا وحده استقار العباد، لا ملجأ ولا منجى لهم غيره ... والمقصود من الآيات بيان أهوال الآخرة، فاأبصار تنبهر يوم القيامة، وتخشع وتحار من شدة الأهوال؛ ومن عظم ما تشاهده من الأمور العظيمة، والإِنسان يطيش عقله، ويذهب رشده، ويبحث عن النجاة والمخلص، ولكن هيهات فقد جاءت القيامة وانتهت الحياة {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} أي يُخبر الإِنسان في ذلك اليوم بجميع أعماله، صغيرها وكبيرها، عظيمها وحقيرها، ما قدَّمه منها في حياته، ما أخره بعد مماته، من سنةٍ حسنة أو سيئة، ومن سمعة طيبةٍ أو قبيحة وفي الحديث «من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} أي بل هو شاهد على نفسه، وسوء عمله، وقبح صنيعه، لا يحتاج إلى شاهد آخر كقوله {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإِسراء: 14] والهاءُ في {بَصِيرَةٌ} للمبالغة كرواية وعلاَّمة قال ابن عباس: الإِنسان شاهد على نفسه وحده، يشهد عليه سمعُه، وبصره، ورجلاه، وجوارحه {وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} أي ولو جاء بكل معذرة ليبرِّر إجرامه وفجوره، فإنه لا ينفعه ذلك، لأنه شاهدٌ على نفسه، وحجةٌ بينه عليها قال الفخر: المعنى أن الإِنسان وإن اعتذر عن نفسه، وجادل عنها، وأتى بكل عذر وحجة، فإنه لا ينفعه ذلك لأنه شاهد على نفسه بما جنت واقترفت من الموبقات.
. وبعد هذا البيان انتقل الحديث إلى القرآن، وطريقة تلقي الوحي عن جبريل فقال تعالى مخاطباً رسوله {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي عليك بواسطة جبريل، لأجل أن تتعجل بحفظه مخافة أن يتفلَّت منك {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي إن علينا أن نجمعه في صدرك يا محمد وأن تحفظه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ} أي فإِذا قرأه عليك جبريل، فأنصت لاستماعه حتى يفرغ، ولا تحرك شفيتك أثناء قراءته {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي ثم إن علينا بيان ما أشكل عليك فهمه يا محمد من معاينة وأحكامه، قال ابن عباس: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك به لسانه وشفتيه، مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ. .} الآيات، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق واستمع، فإِذا(3/461)
ذهب قرأه كما وعد الله عَزَّ وَجَلَّ قال ابن عباس {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: فاستمعْ وأَنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قال: أن نبينه بلسانك وقال ابن كثير: كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبادر إلى أخذ القرآن، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عَزَّ وَجَلَّ أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن يبينه له ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوتُه، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه ثم عاد الحديث عن المكذبين بيوم الدين فقال تعالى مخاطباً كفار مكة {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة وَتَذَرُونَ الآخرة} أي ارتدعوا يا معشر المشركين، فليس الأمر كما زعمتم أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء، بل أنتم قومٌ تحبون الدنيا الفانية، وتتركون الآخرة الباقية، ولذلك لا تفكرون في العمل للآخرة مع أنها خيرٌ وأبقى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} لما ذكر تعالى أن الناس يؤثرون الدنيا ولذائذها الفانية على الآخرة ومسراتها الباقية، وصف ما يكون يوم القيامة من انقسام الخلق إلى فريقين: أبرار، وفجار والمعنى وجوه أهل السعادة يوم القيامة مشرقة حسنة مضيئة، من أثر النعيم، وبشاشة السرور عليها، كقوله تعالى {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} [المطففين: 24] {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي تنظر إلى جلال ربها، وتهيم في جماله، أعظم نعيم لأهل الجنة رؤية المولى جلا وعلا والنظر إلى وجهه الكريم بلا حجاب قال الحسن البصري: تنظر إلى الخالق، وحُقَّ لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق، وبذلك وردت النصوص الصحيحة {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} أي ووجوهٌ يوم القيامة عابسة كالحة، شديدة العبوس والكلوح، وهي وجوه الأشقياء أهل الجحيم {تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} أي تتوقع أن تنزل بها داهية عظمى، تقسم فقار الظهر، قال ابن كثير: هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة كالحة عابسة، تستيقن أنها هالكة، وتتوقع أن تحل بها داهية تكر فقار الظهر {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي} {كَلاَّ} ردعٌ وزجر عن إِيثار العاجلة أي ارتدعوا يا معشر المشركين عن ذلك، وتنبهوا لما بين أيديكم من الأهوال والمخاطر، فإن الدنيا دار الفناء، ولا بد أن تتجرعوا كأس المنية، وإِذا بلغت الروح {التراقي} أعالي الصدر، وشارف الإِنسان على الموت {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أي وقال أهله وأقرباؤه: من يرقيه ويشفيه ممَّا هو فيه؟ قال في البحر: ذكَّرهم تعالى بصعوبة الموت، وهو أول مراحل الآخرة، حين تبلغ الروح التراقي وهي عظام أعلى الصدر فقال أهله: من يرقي ويطب ويشفي هذا المريض؟ {وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق} أي وأيقن المحتضر أنه سيفارق الدنيا والأهل والمال، لمعاينته(3/462)
ملائكة الموت {والتفت الساق بالساق} أي والتفت إحدى ساقي المحتضر على الأخرى، من شدة كرب الموت وسكراته قال الحسن: هما ساقاه إذا التفتا في الكفن، وروي عن ابن عباس أن المراد اجتمعت عليه شدة مفارقة الدنيا، مع شدة كرب الآخرة، كما يقال: شمَّرت الحرب عن ساق، استعارة لشدتها {إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} أي إلى الله جل وعلا مساق العباد، يجتمع عنده الأبرار والفجار، ثم يُساقون إلى الجنة أو النار قال الخازن: أي مرجع العباد الى الله تعالى، يساقون إليه يوم القيامة ليفصل بينهم.
. ثم أخبر تعالى عن حال الجاحد المكذب فقال {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} أي لم يصدق بالقرآن، ولم يصل للرحمن قال أبو حيان: والجمهور على أ، ها نزلت في «أبي جهل» وكادت أن تصرح به في قوله {يتمطى} فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم، وكان يكثر منها {ولكن كَذَّبَ وتولى} أي ولكن كذب بالقرآن، وأعرض عن الإِيمان {ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى} أي ذهب يتبختر في مشيته، وذلك عبارة عن التنكير والخيلاء {أولى لَكَ فأولى} أي ويلٌ لك يا أيها الشقي ثم ويلٌ لك قال المفسرون: هذه العبارة في لغة العرب ذهبت مذهب المثل في التخويف والتحذير والتهديد، وأصلها أنها أفعل تفضيل من وليه الشيء إِذا قاربه ودنا منه أي وليك الشر وأوشك أن يصيبك، فاحذر وانتبه لأمرك ... روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ بيد أبي جهل ثم قال له: {أولى لَكَ فأولى ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} فقال أبو جهل: أتتوعدني يا محمد وتهددني؟ والله لا تستطيع أنتَ وربُك أن تفعلا بي شيئاً، والله إني لأعزُّ أهل الوادي، ثم لم يلبث أن قتل ببدر شر قتلة {ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} كرره مبالغة في التهديد والوعيد، كأنه يقول: إني أكرر عليك التحذير والتخويف، فاحذر وانتبه لنفسك، قبل نزول العقوبة بك.
. ولما ذكر في أول السورة إمكان البعث، ذكر في آخر السورة الأدلة على البعث والنشور فقال {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} ؟ أي أفيظن الإِنسان أن يُترك هملاً، من غير بعثٍ ولا حساب ولا جزاءٍ؟ وبدون تكليف بحيث يبقى كالبهائم المرسلة؟ لا ينبغي له ولا يليق به هذا الحُسبان {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى} الاستفهام للتقرير أي أما كان هذا الإِنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين، يراق ويُصب في الأرحام؟ والغرض بيان حقارة حاله كأنه يقول إنه مخلوق من المني الذي يجري مجرى البول {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى} أي ثم أصبح بعد ذلك قطعة من دم غليظ متجمد يشبه العلقة، فخلقه الله بقدرته في أجمل صورة، وسوَّى صورته وأتقنها في أحسن تقويم {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} أي فجعل من هذا الإِنسان صنفين، ذكراً وأنثى بقدرته تعالى، هذا هو أصل الإِنسان وتركيبه، فكيف يليق بمثل هذا الضعيف أن يتكبر على طاعة الله؟ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} أي أليس ذلك الإِله الخالق الحكيم، الذي أنشأ هذه الأشياء العجيبة، وأوجد الإِنسان من ماءٍ مهين، بقادرٍ على إعادة الخلق بعد فنائهم؟ بلى إنه على كل شيء قدير روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا قرأ هذه الآية قال:» سبحانك اللهم بلى «.(3/463)
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {قَدَّمَ. . وَأَخَّرَ} وكذلك بين {صَدَّقَ. . وكَذَّبَ} .
2 - الاستفهام الإِنكاري بغرض التوبيخ {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} ؟ ومثله {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} ؟ لأن الغاية التوبيخ والتقريع.
3 - استبعاد تحقق الأمر {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة} فالغرض من الاستفهام الاستبعاد والإِنكار.
4 - الجناس غير التام بين {بَنَانَهُ} و {بَيَانَهُ} لاختلاف بعض الحروف.
5 - المقابلة اللطيفة بين نضارة وجوه المؤمنين، وكلاحة وجوه المجرمين {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وبين {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ. .} الخ.
6 - الجناس الناقص بين لفظ {الساق} و {المساق} .
7 - المجاز المرسل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} عبر بالوجه عن الجملة فهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
8 - الالتفات {أولى لَكَ فأولى} فيه التفات من الغية إلى المخاطب تقبيحاً له وتشنيعاً.
9 - توافق الفواصل ويسمى في علم البديع السجع المرصَّع مثل {فَإِذَا بَرِقَ البصر وَخَسَفَ القمر وَجُمِعَ الشمس والقمر يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر} وهذا من خصائص القرآن، معجزة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.(3/464)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
اللغَة: {أَمْشَاجٍ} أخلاط جمع مشج ومشيج مثل شريف أو أشراف، يقال للشيء اذا خلط بغيره: مشيجٌ كخليط لفظاً ومعنى {مُسْتَطِيراً} منتشراً غاية الانتشار يقال: استطار الشيء انتشر {قَمْطَرِيراً} القمطرير: الشديد العصيب الذي يطول بلاؤه قال الأخفش: القمطرير أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء {وَدَانِيَةً} قريبة {وَذُلِّلَتْ} سخرت وقربت {سَلْسَبِيلاً} السلسبيل: الشراب اللذيذ الذي هو غاية في السلالة، والذي يسهل في الحلق لعذوبته وصفائه {سُندُسٍ} السندس: الرقيق من ثياب الحرير {إِسْتَبْرَقٌ} ثباب الحرير الغليظة ويسمى الديباج {أَسْرَهُمْ} الأسر في(3/466)
الاصل: الشد والربط، ثم أطلق على الخلق يقال: شدَّ أسره أي أحسن خلقه وأحكم تكوينه قال الأخطل:
من كل مجتنب شديد أسره ... سلس القياد تخاله مختالاً
التفسِير: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} أي قد مضى على الإِنسان وقت طويل من الزمان {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} أي كان من العدم، لم يكن له ذكر ولا وجود قال ابن كثير: يخبر تعالى عن الإِنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئاً يذكر لحقارته وضعفه قال المفسرون: {هَلْ أتى} بمعنى قد أتى كما تقول: هل رأيت صنيع فلان، وقد علمت أنه قد رآه، وتقول: هل أكرمتك، هل وعظتك؟ ومقصودك أن تقرره بأنك قد أكرمته ووعظته، والمرادُ بالإِنسان الجنس، وبالحين مدة لبثه في بطن أمه، والغرض من الآية تذكير الإِنسان بأصل نشأته، فقد كان شيئاً منسياً لا يفطن له، وكان في العدم جرثومة في صلب أبيه، وماءً مهيناً لا يعلم به إلا الذي يريد أن يخلقه، ومرَّ عليه حينٌ من الدهر كانت الكرة الأرضية خالية منه، ثم خلقه الله، وأبدع تكوينه وإِنشاءه، بعد أن كان مغموراً ومنسياً لا يعلم به أحد. . وبنعد أن قرر أن الإِنسان مرَّ عليه وقت لم يكن موجوداً، أخذ يشرح كيف أفاض عليه نعمة الوجود، واختبره بالتكاليف الشرعية بعد أن متَّعه بنعمة العقل والحواس فقال {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي نحن بقدرتنا خلقنا هذا الانسان من ماءٍ مهين وهو المنيُّ الذي ينطف من صلب الرجل، ويختلط بماء المرأة «البويضة الأنثوية» فيتكون منهما هذا المخلوق العجيب قال ابن عباس: {أَمْشَاجٍ} يعني أخلاط، وهو ماء الرجل وماء المرأة اذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، ومن حال إِلى حال {نَّبْتَلِيهِ} أي لنختبره باتلكاليف الشرعية، والأوامر الإِلهية، لننظر أيشكر أم يكفر؟ وهل يستقيم في سيره أم ينحرف ويزيغ؟ {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} أي فجعلناه من أجل ذلك عاقلاً مميزاً، ذا سمع وبصر، ليسمع الآيات التنزيلية، ويبصر الدلائل الكونية، على وجود الخالق الحكيم قال الإِمام الفخر: أعطاه تعالى ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، وهما كنايتان عن الفهم والتمييز، كما قال تعالى حاكياً عن إِبراهيم
{لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ} [مريم: 42] ؟ وقد يراد بهما الحاستان المعروفتان، وخصَّهما بالذكر لأنهما أعظم الحواسِّ وأشرفها {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} أي بيَّنا للإِنسان وعرَّفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر، ببعثة الرسل، وإِنزال الكتب. . أخبر تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة، بيَّن له سبيل الهدى والضلال، ومنحه العقل وترك له حرية الاختيار، ثم هو بعد ذلك إِما أن يشكر، أو يكفر، ولهذا قال بعده {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} أي إما أن يكون مؤمناً شاكراً لنعمة الله، فيسلك سبيل الخير والطاعة، وإِما أن يكون شقياً فاجراً، فيكفر بنعمة اله ويسلك سبيل الشر والفجور قال المفسرون: المراد هديناه السبيل ليكون إمَّا شاكراً وإِمّا كفوراً، فالله تعالى دلَّ الإِنسان على سبيل الشكر والكفر، وعلى الإِنسان أن يختار سلوك هذا أو ذاك، وهذه الآية الآية من جملة الآيات الكثيرة الدالة على أن(3/467)
للإِنسان إِرادةً واختياراً هما مناط التكليف، كقوله تعالى {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ} [الإِسراء: 18] إلى {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا} [الإِسراء: 19] وكقوله {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فلا إكراه لأحدٍ ولا إِجبار، وإِنما هو بمحض الإِرادة والاختيار. . ثم بعد هذا البيان الواضح، بيَّن ما أعدَّه للأبرار والفجار في دار القرار فقال {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً} أي هيأنا للكافرين المجرمين قيوداً تشدُّ بها أرجلهم، وأغلالاً تُغلُّ بها أيديهم إلى أعناقهم، وسعيراً أي ناراً موقدة مستعرة يحرقون بها كوله تعالى {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} [غافر: 7172] {إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} أي الذين كانوا في الدنيا أبراراً بطاعتهم الجبار، فإِنهم يشربون كأساً من الخمر، ممزوجة بأنفس أنواع الطيب وهو الكافور، قال المفسرون: الكافور طيبٌ معروف يستحضر من أشجار ببلاد الهند والصين، وهو من أنفس الطيب عند العرب، والمراد أن من شرب تلك الكأس وجد في طيب رائحتها، وفوحان شذاها كالكافور. قال بن عباس: الكافور اسم عين ماءٍ في الجنة يقال له عين الكافور تمتزج الكأس بماء هذه العين وتختم بالمسك فتكون ألذَّ شراب، ولهذا قال تعالى {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} أي هذا الكافور ويتدفق من عينٍ جارية من عيون الجنة يشرب منها عباد اله الأبرار، وصفهم بالعبودية تكريماً لهم وتشريفاً بإِضافتهم إِليه تعالى {عِبَادُ الله} والمراد بهم المؤمنون المتقون {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} أي يجروها حيث شاءوا من الدور والقصور قال الصاوي: المارد أنها سهلة لا تمتنع عليهم، ورد أن الرجل منهم يمشي في بيوته، ويصعد إلى قصوره وبيده قضيب يشير به الى الماء، فيجري معه حيثما دار في منازله، ويتبعه حيثما صعد إِلى أعلى قصوره.
. ولما ذكر ثواب الأبرار، بيَّن صفاتهم الجليلة التي استحقوا بها ذلك الأجر الجزيل فقال {يُوفُونَ بالنذر} أي يوفون بما قطعوه على أنفسهم من نذرٍ في طاعة الله، إِذا نذروا طاعةً فعلوها قال الطبري: النذرُ كلُّ منا أوجبه الإِنسان على نفسه من فعل، فإِذا نذروا بروا بوفائهم لله، بالنذور التي في طاعة الله، من صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة قال المفسرون: وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه، كان بما أوجبه الله عليه أوفى {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} أي ويخافون هول يومٍ عظيم كانت أهواله وشدائده من تفطر السموات، وتناثر الكواكب، ويتطاير الجبال، وغير ذلك من الأهوال ممتدة منتشرة فاشية، بالغة أقصى حدود الشدة والفزع، قال قتادة: استطار والله شرُّ ذلك اليوم حتى بلغ السموات السبع والأرض {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} أي ويطعمون الطعام مع شهوتهم له، وحاجتهم إِليه {مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} أي فقيراً لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ويتيماً مات أبوه وهو صغير، فعدم الناصر والكفيل، وأسيراً وهو من أُسر في الحرب من المشركين قال الحسن البصري: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(3/468)
يُؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول له: أحسن إِليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه. . نبَّه تعالى إِلى أن أولئك الأبرار مع حاجتهم إلى ذلك الطعام، في سدِّ جوعتهم وجوعة عيالهم، يطيبون نفساً عنه للبؤساء، ويؤثرونهم به على أنفسهم كقوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} أي إنما نحسن إِليكم ابتغاء مرضاة الله وطلب ثوابه {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} أي لا نبتغي من وراء هذا الإِحسان مكافأةً، ولا نقصد الحمد والثناء منكم قال مجاهد: أما والله ما قالوه بألستنهم، ولكن علم الله به في قلوبهم، فأثنى عليهم به، ليرغب في ذلك راغب {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} أي إنما نفعل ذلك رجاء أن يقينا الله هو يومٍ شديد، تعبس فيه الوجوه من فظاعة أمره، وشدة هوله، وهو يومٌ فمطرير أي شديد عصيب {فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم} أي حماهم الله ودفع عنهم شرَّ ذلك اليوم وشدته {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} أي وأعطاهم نضرةً في الوجه، وسروراً في القلب، والتنكير في {سُرُوراً} للتعظيم والتفخيم {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً} أي وأثابهم بسبب صبرهم على مرارة الطاعة والإِيثار بالمال، جنةً واسعة وألبسهم فيها الحرير كما قال تعالى {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] . . وفي الآية إيجازٌ، آخذٌ بأطراف الإِعجاز، فقد أشار تعالى بقوله {جَنَّةً} إلى ما يتمتع به أولئك الأبرار في دار الكرامة من أصناف الفواكة والثمار، والمطاعم والمشارب الهنية، فإن الجنة لا تسمَّى جنة إلا وفيها كل أسباب الراحة كما قال تعالى
{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71] وأشار بقوله {وَحَرِيراً} إلى ما يتمتعون به من أنواع الزينة واللباس، التي من أنفسها وأغلاها عند العرب الحرير، فقد جمع لهم أنواع الطعام والشراب واللباس، وهو قُصارى ما تتطلع له نفوس الناس. . ولما ذكر طعامهم ولباسهم وصف نعيمهم ومساكنهم فقال {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك} أي مضطجعين في الجنة على الأسرَّة المزيَّنة بفاخر الثياب والستور قال المفسرون: الأرائك جمع أريكة وهي السرير ترخى عليه الحجلة، والحجلة هي ما يسدل على السرير من فاخر الثياب والستور، وإِنما خصَّهم بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} أي لا يجدون فيها حراً ولا برداً، لأن هواءها معتدل فلا حرَّ ولا قرَّ، وإِنما هي نسمات تهبُّ من العرش تحيي الأنفاس {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا} أي ظلال الأشجار شفي الجنة قريبةٌ من الأبرار {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} أي أدنيت ثمارها منهم، وسهل عليهم تناولها قال ابن عباس: إِذا همَّ أن يتناول من ثمارها تدلَّت إِليه حتى يتناول منها ما يريد. . ولما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم، وصف بعد ذلك شرابهم فقال {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ} أي يدور عليهم الخدم بالأواني الفضية فيها الطعام والشراب على عادة أهل الترف والنعيم في الدنيا فيتناول كل واحدٍ منهم حاجته، وهذه الأواني هي الصّحاف بعضها من قضة وبعضها من ذهب كما قال تعالى {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} [الزخرف: 71] قال الرازي: ولا منافاة بين الآيتين، فتارةً يسقون(3/469)
بهذا، وتارة بذاك {وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ} أي وأكواب وهي كالأقداح رقيقة شفافة كالزجاج في صفائه قال في البحر: ومعنى {كَانَتْ} أن الله تعالى أوجدها بقدرته، فيكون تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها، وشفيف القوارير وصفائها {قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} أي هي جامعة بين صفاء الزجاج، وحسن الفضة قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إِلا الأسماء يعني أن ما في الجنة أسمى وأشرف وأعلى ولو أخذت فضةً من فضة الدنيا، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب، لم ير الماء من ورائها، ولكنَّ قوارير الجنة ببياض الفضة، مع صفاء القوارير {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} أي قدَّرها السُّقاة على مقدار حاجتهم، لا تزيد ولا تنقص، وذلك ألذُّ وأشهى قال ابن عباس: أتوابها على قدر الحاجة لا يفضلون شيئاً، ولا يشتهون بعدها شيئاً {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} أي يسقى هؤلاء الأبرار في الجنة كأساً من الخمر ممزوجةً بالزنجبيل، والعرب تستلذ من الشراب ما مزج بالزنجبيل لطيب رائحته قال القرطبي: فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة الطيب قال قتادة: الزنجبيل أسمٌ لعينٍ في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة {عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً} أي يشربون من عين في الجنة تسمى السلسبيل، لسهولة مساغها وانحدارها في الحلق قال المفسرون: السلسبيل: الماء العذب، السهل الجريان في الحلق لعذوبته وصفائه، وإِنما وصف بأنه سلسبيل، لأن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل، ولكن ليس فيه لذعته، فيشعر الشاربون بطعمه، لكنهم لا يشعرون بحرافته، فيبقى الشراب سلسبيلاً، سهل المساغ في الحلق.
. ثم وصف بعد ذلك خدم أهل الجنة فقال {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} أي ويدور على هؤلاء الأبرار، غلمانٌ ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين {مُّخَلَّدُونَ} أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء قال القرطبي: أي باقون على ما هم عليه من الشباب، والنضارة، والغضاضة، والحسن، لا يهرمون ولا يتغيرون، ويكونون على سن واحدة على مرِّ الأزمنة {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} أي إِذا نظرتهم منتشرين في الجنة لخدمة أهلها، خلتهم لحسنهم وصفاء ألوانهم وإِشراق وجوهم، كأنهم اللؤلؤ المنثور قال الرازي: هذا من التشبيه العجيب، لأن اللؤلؤ إِذا كان متفرقاً يكون أحسن في المنظر، لوقوع شعاع بعضه على بعض فيكون أروع وأبدع، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} أي وإِذا رأيت هناك ما في الجنة من مظاهر الأنس والسرور، رأيت نعيماً لا يكاد يوصف، وملكاً واسعاً عظيماً لا غاية له، كما في الحديث القدسي «أعددتُ لعبادي الصالحين، ما لاعينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطَر على قلب بشر» قال ابن كثير: وثبت في الصحيح أن «أقل أهل الجنة منزلةً من له قدر الدنيا عشرة أمثالها» فإِذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة، فما ظنك بمن هو أعلى منزلةً وأحظى عنده(3/470)
تعالى؟ ثم زاد تعالى في بيان وصف نعيمهم فقال {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} أي تعلوهم الثياب الفاخرة الخضراء، المزينة بأنواع الزينة، من الحرير الرقيق وهو السندس والحرير الثخين وهو الاستبرق فلباسهم في الجنة الحرير كما قال تعالى {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] قال المفسرون: السندس ما رقَّ من الحرير، والاستبرق ما غلظ من الحرير، وهذا لباس الأبرار في الجنة، وإِنما قال {عَالِيَهُمْ} لينبه على أن لهم عدة من الثياب، ولكنَّ الذي يعلوها هي هذه، فتكون أفضلها {وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} أي وألبسوا في الجنة أساور فضية للزينة والحلية وعبَّر بالماضي إشارةً لتحقق وقوعه قال الصاوي: فإن قيل: كيف قال هنا {أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفي سورة الكهف {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} [الكهف: 31] وفي سورة فاطر {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً} [فاطر: 33] فالجواب أنهم تارةً يلبسون الذهب فقط، وتارةً يلبسون الفضة، وتارةً يلبسون اللؤلؤ فقط على حسب ما يشتهون، ويمكن أن يجمع في يد أحدهم أسورة الذهب والفضة واللؤلؤ {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} أي سقاهم الله فوق ذلك النعيم شراباً طاهراً لم تدنسه الأيدي، وليس بنجس كخمر الدنيا قال الطبري: سُقي هؤلاء الأبرار شراباً طهوراً، ومن طُهْره أنه لايصير بولاً نجساً، بل رشحاً من أبدانهم كرشح المسك، روي أن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا، فإِذا أكل سقي شراباً طهوراً، فيصير رشحاً يخرج من جلده أطيبُ ريحاً من المسك الإِذخر {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} أي يقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم نعيمها، هذا مقابل أعمالكم الصالحة في الدنيا {وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} أي وكان عملكم مقبولاً مرضياً، جوزيتم عليه أحسن الجزاء، مع الشكر والثناء.
. مرَّ في الآيات السابقة أن الله تعالى أعدَّ للكافرين السلاسل والأغلال، كما هيأ للأبرار أرائك يتكئون عليها، وعليهم ثياب السندس والاستبرق، وفي معاصمهم أساور الفضة، وبين أيديهم ولدانٌ مخلدون كأنهم اللؤلؤ المنثور، يطوفون على أولئك الأبرار بصحاف الفضة وأكوابها الصافية النقية، وقد ملئت شراباً ممزوجاً بالنزجبيل والكافور، وكلٌّ ذلك للترغيب والترهيب، على طريقة القرآن في المقارنة بين أحوال الأبرار والفجار. . وبعد هذا الوضوح والبيان، كان المشركون يقابلون كل هذه الآيات بالصدِّ والإِعراض، والاستهزاء بالقرآن وبمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وكان الرسول يتألم ويحزن لموقف المعاندين، لذلك جاءت الآيات تشدُّ من عزيمته، وتسلِّية وتخفف عن قلبه الشريف آثار الهمِّ والضجر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً} أي نحن الذين أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن مفرقاً، لتذكرهم بما فيه من الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فلا تبتئس ولا تحزن ولا تضجر، فالقرآن حقٌ ووعده صدقٌ {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي اصبر يا محمد وانتظر لحكم ربك وقضائه، فلا بدَّ أن ينتقم منهم، ويقر عينك بإِهلاكهم، إِنْ عاجلاً أو آجلاً {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً} أي ولا تطع من هؤلاء الفجرة من كان {آثِماً} منغمساً في الشهوات، غارقاً في الموبقات {أَوْ كَفُوراً} أي ولا تطع من كان مبالغاً في الكفر والضلال، لا ينزجر ولا يرعوي، وصيغة {كفور} من صيغ المبالغة ومعناها المبالغ في الكفر والجحود قال المفسرون:(3/471)
نزلت في «عتبة بن ربيعة» و «الوليد بن المغيرة» قالا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِن كنت تريد النساء والمال فارجع عن هذا الأمر ونحن نكفيك ذلك، فقال عتبة: أنا أُزوجك ابنتي وأسوقها لك من غير مهر، وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فنزلت، والأحسنُ أنها على العموم لأن لفظها عام فهي تشمل كل فاسق وكافر {واذكر اسم رَبِّكَ} أي صلِّ لربك وأكثر من عبادته وطاعته {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي في أول النهار وآخره، في الصباح والمساء {وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ} أي ومن الليل فصلِّ له، متهجداً مستغرقاً في مناجاته {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} أي وأكثر من التهجد والقيام لربك في جناح الظلام والناس نيام كقوله تعالى
{وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإِسراء: 79] والمقصود أن يكون عابداً لله ذاكراً له في جميع الأوقات، في الليل والنهار، والصباح والمساء، بقلبه ولسانه، ليتقوى على مجابهة أعدائه. . وبعد تسلية النبي الكريم، عاد إِلى شرح أحوال الكفرة المجرمين فقال {إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة} أي إِن هؤلاء المشركين يفضلون الدنيا على الآخرة، وينهمكون في لذائذها الفانية {وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} أي ويتركون أمامهم يوماً عسيراً شديداً، عظيم الأهوال والشدائد، وهو يوم القيامة {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} أن نحن بقدرتنا أو جدناهم من العدم، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق، حتى كانوا أقوياء أشداء {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} أي ولو أردنا أهلكناهم، ثم بدلنا خيراً منهم يكونون أعبد لله وأطوع، وفي الآية تهديدٌ ووعيد {إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ} أي هذه الآيات الكريمة بمعناها الدقيق، ولفظها الرشيق، موعظة وذكرى، يتذكر بها العاقل، وينزجر بها الجاهل {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي فمن أراد الانتفاع والاعتبار وسلوك طريق السعادة، فليعتبر بآيات القرآن، وليستنر بنوره وضيائه، وليتخذ طريقاً موصلاً إلى ربه، بطاعته وطلب مرضاته، فأسباب السعادة ميسورة، وسبل النجاة ممهدة {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} أي وما تشاءون أمراً من الأمور، إِلا بتقدير الله ومشيئته، ولا يحصل شيء من الطاعة والاستقامة إِلا بإِذنه تعالى وإِرادته، قال ابن كثير: أي لا يقدر أحدٌ أن يهدي نفسه، ولا يدخل في الإِيمان، ولا يجر لنفسه نفعاً، إلا بمشيئة الله تعالى {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} أي عالم بأحوال خلقه، حكيم في تدبيره وصنعه، يعلم من يستحق الهداية فييسِّرها له، ومن يستحق الضلالة فيسهل له أسبابها، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي يدخل من شاء من عباده جنَّته ورضوانه حسب مشيئته وحكمته وهم المؤمنون {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي وأما المشركون الظالمون فقد هيأ لهم عذاباً شديداً مؤلماً في دار الجحيم، ختم السورة الكريمة ببيان مآل المتقين، ومآل الكفرة المجرمين.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {شَاكِراً. . وكَفُوراً} وبين {بُكْرَةً. . وَأَصِيلاً} وبين {شَمْساً. . وزَمْهَرِيراً} .
2 - اللف والنشر المشوش {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ} فإِنه قدَّم أولاً ذكر الشاكر ثم الكافر {(3/472)
شَاكِراً أو كَفُوراً} ثم عاد بالذكر على الثاني دون الأول ففيه لف ونشر غير مرتب.
3 - المجاز العقلي {يَوْماً عَبُوساً} إِسناد العبوس إِلى اليوم من إِسناد الشيء إِلى زمانه كنهاره صائم.
4 - الجناس غير التام {فَوَقَاهُمُ. . وَلَقَّاهُمْ} فبين وقاهم ولقاهم جناس.
5 - جناس الاشتقاق {وَيُطْعِمُونَ الطعام} .
6 - الطباق {يُحِبُّونَ. . وَيَذَرُونَ} .
7 - الايجاز بالحذف {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} أي يقال لهم: إِن هذا. . الخ.
8 - التشبيه البديع الرائع {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} أي كاللؤلؤ المنتثر.
9 - المقابلة اللطيفة {يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} قابل بين المحبة والترك وبين العاجلة والباقية.
10 - السجع المرصَّع مثل {لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً. . شَرَاباً طَهُوراً. . وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً. . آثِماً أَوْ كَفُوراً} الخ وهو من المحسنات البديعية.(3/473)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
اللغَة: {فُرِجَتْ} فتحت وشقت يقال: فرجت الشيء فانفرج أي فتحته فانفتح {كِفَاتاً} الكفت في اللغة: الضمُّ والجمع قال الشاعر:
فأنت اليوم فوق الأرض حيٌّ ... وأنت غداً تضمُّك في كفات
{شَامِخَاتٍ} عاليات مرتفعات، يقال: شمخ بأنفه إِذا رفعه كبراً {فُرَاتاً} عذباً شديد الحلاوة {بِشَرَرٍ} الشَّرر: ما تطاير من النار وتفرق جمع شررة.
التفسِير: {والمرسلات عُرْفاً} أي أُقسم بالرياح حين تهبٌّ متتابعة، يقفوا بعضها إِثر بعض، قال المفسرون: هي رياح العذاب التي يهلك الله بها الظالمين {فالعاصفات عَصْفاً} أي وأٌقسم بالملائكة الموكلين بالسحب يسوقونها حيث شاء الله، لتنشر رحمة الله المطر فتحيي به البلاد والعباد {فالفارقات فَرْقاً} أي وأقسم بالملائكة التي تفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام {فالملقيات ذِكْراً} أي وأقسم بالملائكة تنزل بالوحي، وتلقي(3/475)
كتب الله تبارك وتعالى إِلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {عُذْراً أَوْ نُذْراً} أي تلقي الوحي إِعذاراً من الله للعباد لئلا يبقى لهم حجة عند الله، أو إِنذاراً من الله للخلق بالنقمة والعذاب {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} أي وأُقسم بالرياح الشديدة الهبوب، إِذا أُرسلت عاصفة شديدة، قلعت الأشجار، وخربت الديار، وغيَّرت الآثار {والناشرات نَشْراً} هذا هو جواب القسم أي إِنَّ ما توعدون به من أمر القيامة، وأمر الحساب والجزاء، كائن لا محالة قال المفسرون: أقسم تعالى بخمسة أشياء، تنبيهاً على جلالة قدر المقسم به، وتعظيماً لشأن المقسم عليه، فأقسم بالرياح الي تحمل الرحمة والعذاب، وتسوق للعباد الخير أو الشر، وبالملائكة الأبرار، الذي يتنزلون بالوحي للإِعذار والإِنذار، أقسم على أن أمر القيامة حق لا شك فيه، وأن ما أوعد الله تعالى به المكذبين، من مجيء الساعة والثواب والعقاب، كائن لا محالة، فلا ينبغي الشك والامتراء. . ثم بيَّن تعالى وفصَّل وقت وقوع ذلك فقال {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} أي محيت النجوم وذهب نورها وضياؤها {وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ} أي شقت السماء وتصدَّعت {وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ} أي تطايرت الجبال وتناثرت حتى أصبحت هباءً تذروه الرياح كقوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} أي جعل للرسل وقتٌ وأجل، للفصل بينهم وبين الأمم، وهو يوم القيامة كقوله تعالى {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109] ؟ وأصل {أُقِّتَتْ} وُقِّتت من الوقت أي يجعل لها وقت محدد، قال الطبري: أي أُجّلت للاجتماع لوقتها يوم القيامة وقال مجاهد: هو الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} ؟ استفهامٌ لتعظيم ذلك اليوم، والتعجيب لما يقع فيه من الهول والشدة أي لأي يومٍ عظيم أُخرت الرسل؟ ثم قال {لِيَوْمِ الفصل} أي ليوم القضاء والفصل بين الخلائق، يوم يفصل الله بين الأنبياء وأممهم المكذبين بحكمه العادل {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} ؟ استفهام للتعظيم والتهويل أي وما أعلمك أيها الإِنسان بيوم الفصل وشدته وهوله؟ فإن ذلك اليوم أعظم من أن يعرف أمره إِنسان، أو يحيط به عقل أو وجدان، ووضع الظاهر {مَا يَوْمُ الفصل} مكان الضمير «ما هو» لزيادة تفظيع وتهويل أمره قال الإِمام الفخر: عجَّب العباد من تعظيم ذلك اليوم فقال: لأي يومٍ أُجّلت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل، وهي تعذيب من كذَّبهم، وتعظيم من آمن بهم، وظهورما كانوا يدعون الخلق إلى الإِيمان به، من الأهوال والعرض والحساب، ثم إِنه تعالى بين ذلك فقال {لِيَوْمِ الفصل} وهو يوم يفصل الرحمن بين الخلائق، ثم أتبع ذلك تعظيماً ثانياً فقال {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} أي وما أعلمك ما هو يوم الفصل وشدته ومهابته؟ وجواب الشرط {فَإِذَا النجوم} الخ محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره: وقع ما توعدون به، وجرى ما أخبركم به الرسل من مجيء القيامة، والحذف على هذه الصورة من أساليب الإِيجاز البياني الذي امتاز به القرآن {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك عظيم وخسار كبير في ذلك اليوم لأولئك المكذبين بهذا اليوم الموعود قال المفسرون: كرَّر هذه(3/476)
الجملة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} في هذه السورة عشرة مرات لمزيد الترغيب والترهيب، وفي كل جملة وردت إِخبارٌ عن أشياء عن أحوال الآخرة، وتذكير بأحوال الدنيا، فناسب أن يذكر الوعيد عقيب كل جملة منها بالويل والدمار للكفرة الفجار، ولما كان في سورة الإِنسان السابقة ذكر بعضاً من أحوال الكفار في الآخرة، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين هناك، جاء في هذه السورة بالإِطناب في وصف الكفار، والإِيجاز في وصف المؤمنين.
. ثم بعد أن أكد الخبر بيوم القيامة، وأنه حق كائن لا محالة، وبعد أن خوَّف المكذبين من شدة هول ذلك اليوم، وفظاعة ما يقع فيه، عاد فخوَّفهم من بطش الله وانتقامه بأسلوب آخر فقال {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} ؟ أي ألم نهلك السابقين بتكذيبهم للرسل، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود؟ {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} ؟ أي ثم ألحقنا بهم المتأخرين ممن كانوا مثلهم في التكذيب والعصيان، كقوم لوط وشعيب وقوم موسى «فرعون وأتباعه» ومن على شاكلتهم {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} أي مثل ذلك الإِهلاك الفظيع نفعل بهؤلاء المجرمين «كفار مكة» لتكذيبهم لسيد المرسلين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار لكل مكذب بالتوحيد والبنوة، والبعث والحساب {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} تذكير للمكذبين وتعجيب من غفلتهم وذهولهم عن أبسط الأمور المشاهدة، وهي أن من خلقهم من النطفة الحقيرة الضعيفة كان قادراً على إِعادة خلقهم للبعث والحساب والمعنى: ألم نخلقكم يا معشر الكفار من ماءٍ ضعيف حقير هو منيٌّ الرجل؟ وفي الحديث القدسي يقول الله عَزَّ وَجَلَّ
«ابن آدم أنَّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه» الحديث {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} أي فجعلنا هذا الماء المهين في مكان حريز وهو رحم المرأة {إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أي إِلى مقدار من الزمن محدَّد معيَّن، معلوم عند الله تعالى وهو وقت الولادة، {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون} أي فقدرنا على خلقه من النطفة، فنعم القادرون نحن حيث خلقناه في أحسن الصور، وأجمل الاشكال {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين بقدرتنا قال الصاوي: هذه الآية تذكير من الله تعالى للكفار بعظيم إِنعامه عليهم، وقدرته على ابتداء خلقهم، والقادرُ على الابتداء قادر على الإِعادة، ففيها ردٌّ على المنكرين للبعث. . ثم ذكَّرهم بنعمة إِيجادهم على الأرض حال الحياة، ومواراتهم في باطنها بعد الموت فقال {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً} ؟ ألأي ألم نجعل هذه الأرض التي تعيشون عليها كالأم لكم، تجمع الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها؟ قال المفسرون: الكفت: الجمع والضم، فالأرض تجمع وتضم إِليها جميع البشر، فهي كالأم لهم، الأحياء يسكنون فوق ظهرها في المنازل والدور، والأموات يسكنون في بطنها في القبور {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} [طه: 55] قال الشعبي: بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ(3/477)
شَامِخَاتٍ} أي وجعلنا في الأرض جبالاً راسخات عاليات مرتفعات لئلا تضطرب بكم {وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً} أي وأسقيناكم ماءً عذباً حلواً بالغ العذوبة، أنزلناه لكم من السحاب، وأخرجناه لكم من العيون والأنهار، لتشربوا منه أنتم ودوابكم، وتسقوا منه زرعكم وأشجاركم {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي انطلقوا إِلى عذاب جهنم الذي كنتم تكذبون به في دار الدنيا، وهذا الكلام تقوله لهم خزنة النار تقريعاً وتوبيخاً. . ثم وضَّح ذلك العذاب وفصَّله فقال {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} أي اذهبوا فاستظلوا بدخانٍ كثيف من دخان جهنم، يتفرع منه ثلاث شعب {لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب} أي لا يظل من يكون تحته، ولا يقيه حر الشمس كما هو حال الظل الممدود، ولا هو يدفع عنه أيضاً ألسنة النار المندلعة من كل جانب قال الطبري: لا هو يظلهم من حرها، ولا يكنهم من لهبها، وذلك أنه يرتفع من وقود جهنم الدخان، فإِذا تصاعد تفرَّق شعباً ثلاثة قال المفسرون: سمَّى العذاب ظلاً تهكماً واستهزاءً بالمعذبين، فالمؤمنون في ظلال وعيون، والمجرمون في سموم وحميم، وظلٍ من يحموم، واليحموم دخانٌ أسود قاتم، فكيف يصح أن يسمى ما هم فيه ظلاً إِلا على طريق التهكم والاستهزاء؟ ثم زاد تعالى في وصف جهنم وأهوالها فقال {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر} أي إِن جهنم تقذف بشرر عظيم من النار، كلُّ شرارةٍ منه كأنها القصر العظيم قال ابن كثير: يتطاير الشرر من لهبها كالحصون {كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ} أي كأن شرر جهنم المتطاير منها الإِبل الصفر في لونها وسرعة حركتها قال الرازي: شبَّه تعالى الشرر في العظم بالقصر، وفي اللون والكثرة وسرعة الحركة بالجمالات الصفر، وهذا التشبيه من روائع صور التشبيه، لأن الشرارة إِذا كانت مثل القصر الضخم، فكيف تكون حال تلك النار الملتهبة؟ أجارنا الله من نار جهنم بفضله ورحمته {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين بآيات الله {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} أي هذا اليوم الرهيب، الذي لا ينطق فيه أولئك المكذبون ولا يكتمون كلاماً ينفعهم، فهم في ذلك اليوم خرس بكم {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي ولا يقبل لهم عذرٌ ولا حجة فيما أتوا به من القبائح والجرائم، بل لا يؤذن لهم في أن يعتذروا، لأنه لا تسمع منهم تلك الحجج والأعذار ولا تقبل كقوله تعالى
{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الفصل جَمَعْنَاكُمْ والأولين} أي يقال لهم: هذا يوم الفصل بين الخلائق، الذي يفصل الله فيه(3/478)
بحكمه العادل بين السعداء والأشقياء، جمعناكم فيه مع من تقدمكم من الأمم لنحكم بينكم جميعاً {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} أي فإن كان لكم حيلة في الخلاص من العذاب فاحتالوا، وانقذوا أنفسكم من بطش الله وانتقامه إِن قدرتم، وهذا تعجيزٌ لهم وتوبيخ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك يومئذٍ للمكذبين بيوم الدين. . وبعد أن ذكر أحوال الأشقياء المجرمين، أعقبه بذكر أحوال السعداء المتقين فقال {إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ} أي الذين خافوا ربهم في الدنيا، واتقوا عذابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم يوم القيامة في ظلال الأشجار الوارقة، وعيون الماء الجارية، يتنعمون في دار الخلد، والكرامة، على عكس أولئك المجرمين المكذبين، الذين هم في ظلٍ من يحموم وهو دخان جهنم الأسود الذي لا يقي حراً، ولا يدفع عطشاً، ولا يجد المستظل به مما يشتهيه لراحته سوى شرر النار الهائل {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي وفواكه كثيرة متنوعة مما يستلذون ويستطيبون {كُلُواْ واشربوا هنيائا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ويقال لهم على سبيل الأنس والتكريم: كلوا أكلاً لذيذاً واشربوا شرباً هنيئاً، بسبب ما قدمتم في الدنيا من صالح الأعمال {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} أي إِنا مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من أحسن عمله، وأخلص نيته، واتقى ربه {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين بيوم الدين {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} أي يقال للكفار على سبيل التهديد والوعيد: كلوا من لذائذ الدنيا، واستمتعوا بشهواتها الفانية، كما هو شأن البهائم التي همُّها ملء بطونها ونيل شهواتها زماناً قليلاً الى منتهى آجالكم، فإِنكم مجرمون لا تستحقون الإِنعام والتكريم {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار يوم القيامة للمذكبين بنعم الله {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ} أي وإِذا قيل لهؤلاء المشركين صلُّوا لله، واخشعوا في صلاتكم لعظمته وجلاله، لا يخشعون ولا يصلون، بل يظلون على استكبارهم يصرون قال مقاتل: نزلت هذه الآية في ثقيف، امتنعوا عن الصلاة وقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: حطَّ عنا الصلاة فإِنا لا ننحني، إِنها مسبة علينا، فأبى وقال: لا خير في دينٍ لا صلاة فيه {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاكٌ ودمار يوم القيامة للمكذبين بأوامر الله ونواهيه {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ؟ أي فبأي كتابٍ وكلام بعد هذا القرآن المعجز الواضح يصدّقون إِن لم يؤمنوا بالقرآن؟ فإِذا كذبوا بالقرآن ولم يؤمنوا به، مع بلوغه الغاية في الإِعجاز، ونصوع الحجة، وروعة البيان، فبأي شيءٍ بعد ذلك يؤمنون؟ قال القرطبي: كرر قوله {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} عشر مراتٍ للتخويف والوعيد، وقيل: إِنه ليس بتكرار، لأنه أراد بكل قولٍ منه غير الذي أراده بالآخر، كأنه ذكر شيئاً فقال: ويلٌ لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئاً آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، وهكذا إِلى آخر السورة الكريمة.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - التأكيد بذكر المصدر زيادة في البيان وتقوية للكلام مثل {فالعاصفات عَصْفاً والناشرات نَشْراً فالفارقات فَرْقاً} وهو من المحسنات اللفظية.
2 - الطباق بين {عُذْراً. . ونُذْراً} وبين {أَحْيَآءً. . أَمْواتاً} وبين {الأولين. . والآخرين}(3/479)
وكلها من المحسنات البديعية.
3 - وضع الظاهر مكان الضمير، والمجيء بصيغة الاستفهام {لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الفصل وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} ؟ لزيادة تفظيع الأمر وتهويله.
4 - الاستفهام التقريري {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} ؟ ومثله {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} ؟
5 - الجناس غير التام بين لفظتي {مَّهِينٍ} و {مَّكِينٍ} .
6 - التشبيه المرسل المجمل {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر} والمرسل المفصل {كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ} .
7 - المقابلة بين نعيم الأبرار وعذاب الفجار {إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ واشربوا هنيائا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} قابل ذلك بقوله {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} .
8 - أسلوب التهكم {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ} سمَّى العذاب ظلاً تهكماً وسخرية بهم.
9 - المجاز المرسل {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ} أطلق الركوع وأراد به الصلاة فهو من باب اطلاق البعض وإِرادة الكل أي وإِذا قيل لهم صلوا لا يصلون.
10 - توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ. . إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} الخ ويسمى بالسجع المرصَّع وهو من المحسنات البديعية.(3/480)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
اللغَة: {سُبَاتاً} السبتُ في اللغة: القطعُ، سمي الليل سُباتاً لأنه يقطع العمل والحركة {وَهَّاجاً} الوهَّاج: المتقد المتلألىء من قولهم: وَهجت النار إِذا أضاءت {ثَجَّاجاً} شديد الأنصباب يقال: ثجَّ إِذا سال بكثرة وفي الحديث «أفضلُ الحج: العجُّ والثَجُّ» العجُّ: رفع الصوت بالتلبية، والثجُّ: إِراقة الدماء وذبحُ الهدايا {كَوَاعِبَ} جمع كاعب وهي التي برز نهدها مع ارتفاع يسير {دِهَاقاً} مملوءة يقال: أدهقتُ الكأسَ أي ملأتها قال الشاعر
أتانا عامرٌ يبغي قِرانا ... فأتْرعنا له كأساً دِهاقاً
التفسِير: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} ؟ أي عن أيّ شيءٍ يسأل هؤلاء الجاحدون بعضهم بعضاً؟ وأصل {عَمَّ} عنْ ما، أدغمت الميم في النون وحذفت الف {ما} الاستفهامية، وليس المراد هنا مجرد الاستفهام وإِنما المراد تفخيم الأمر وتعظيمه، وقد كان المشركون يتساءلون عن البعث فيما بينهم، ويخوضون فيه إِنكاراً واستهزاءً فجاء اللفظ بصيغة الاستفهام للتفخيم والتهويل وتعجيب السامعين من أمر المشركين، ثم ذكر تعالى ذلك الأمر الخطير فقال {عَنِ النبإ العظيم} أي يتساءلون عن الخبر العظيم الهام وهو أمر البعث {الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} أي الذي اختلفوا فيه ما بين شاكٍّ في(3/482)
وقوعه، ومكذب منكرٍ لحصوله {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} ردعٌ وزجر أي ليرتدعْ أولئك المكذبون عن التساؤل عن البعث، فيسعلمون حقيقة الحال، حيث يرون البعث أمراً واقعاً، ويرون عاقبة استهزائهم {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} تأكيد للوعيد مع التهويل أي سيعلمون ما يحل بهم من العذاب والنكال. . ثم أشار تعالى إِلى الأدلة الدالة على قدرته تعالى، ليقيم الحجة على الكفار فيما أنكروه من أمر البعث، وكأنه يقول: إِن الإِله الذي قدر على إِيجاد هذه المخلوقات العظام، قادرٌ على إِحياء الناس بعد موتهم فقال {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً} أي ألم نجعل هذه الأرض التي تسكنونها ممهدة للاستقرار عليها، والتقلب في أنحائها؟ جعلناها لكم كالفراش والبساط لتستقروا على ظهرها، وتستفيدوا من سهولها الواسعة بأنواع المزروعات؟ {والجبال أَوْتَاداً} أي وجعلنا الجبال كالأوتاد للأرض تثبيتها لئلا تميد بكم كما يثبت البيت بالأوتاد قال في التسهيل: شبَّهها بالأوتاد لأنها تمسكُ الأرض أن تميد {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} أي وجعلناكم أيها الناس أصنافاً ذكوراً وإِناثاً، لينتظم أمر النكاح والتناسل، ولا تنقطع الحياة عن ظهر هذا الكوكب الأرضي {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي وجعلنا النوم راحة لأبدانكم، قاطعاً لأشغالكم، تتخلصن به من مشاق العمل بالنهار {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً} أي جعلنا الليل كاللباس يغشاكم ويستركم بظلامه، كما يستركم اللباس، وتغطيكم ظلمته كما يغطى الثوبُ لاَبسه قال في التسهيل: شبهه بالثياب التي تُلبس لأنه سترٌ عن العيون {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} أي وجعلنا النهار سبباً لتحصيل المعاش، تتصرفون فيه لقضاء حوائجكم قال ابن كثير: جعلناه مشرقاً مضيئاً ليتمكن الناس من التصرف فيه، بالذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} أي وبنينا فوقكم أيها الناس سبع سمواتٍ محكمة الخلق بديعة الصنع، متينةً في إِحكامها وإِتقانها، لا تتأثر بمرور العصور والأزمان، خلقناها قدرتنا لتكون كالسقف للأرض كقوله تعالى
{وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] وقوله {والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} أي وأنشأنا لكم شمساً منيرة ساطعة، يتوهج ضوءها ويتوقد لأهل لأهل الأرض كلهم، دائمة الحرارة والتوقد قال المفسرون: الوهَّاج المتوقد الشديد الإضاءة، الذي يضطرم ويلتهب من شدة لهبه وقال ابن عباس: المنير المتلألىء {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً} أي وأنزلنا من السحب التي حان وقت إِمطارها ماءً دافقاً منهمراً بشدةٍ وقوة قال في التسهيل: المعصرات هي السحب، مأخوذةٌ من العصر لأن السحاب ينعصر فينزل منه الماء، شبهت السحابة التي حان وقت إِمطارها بالجارية التي قد دنا حيضها {لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} أي لنخرج بهذا الماء أنواع الحبوب والزروع، التي تنبت في الأرض غذاءً للإِنسان والحيوان {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} أي وحدائق وبساتين كثيرة الأشجاروالأغصان، ملتفةً بعضها على بعض لكثرة أغصانها وتقارب أشجارها. . ذكر(3/483)
تعالى هذه الأدلة التسع على قدرته تعالى، كبرهانٍ واضح على إمكان البعث والنشرو، فإن من قدر على هذه الأشياء قادرٌ على البعث والإِحياء ولهذا قال بعده {إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً} أي إن يوم الحساب والجزاء، ويوم الفصل بين الخلائق، له وقت محدودٌ معلوم في علمه تعالى وقضائه، لا يتقدم ولا يتأخر {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} [هود: 103104] قال القرطبي: سمي يوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين خلقه، وقد جعله وقتاً وميعاداً للأولين والآخرين {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} أي يكون ذلك يوم أن ينفخ في الصور نفخة القيام من القبور، فتحضرون جماعات جماعات، وزمراً زمراً للحساب والجزاء، ثم ذكر تعالى أوصاف ذلك اليوم الرهيب فقال {وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً} أي تشققت السماء من كل جانب، حتى كان فيها صدوعٌ وفتوحٌ كالأبواب في الجدران، من هول ذلك اليوم كقوله تعالى {إِذَا السمآء انشقت} [الإِنشقاق: 1] وعبَّر بالماضي {وَفُتِحَتِ} لتحقق الوقوع {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً} أي ونسفت الجبال وقلعت من أماكنها، حتى أصبح يخيَّل إِلى الناظر أنها شيء وليست بشيء، كالسراب بظنه الرائي ماءً وليس بماء قال القرطبي: صارت الجبال بعد نسفها هباءً منبثاً لعين الناظر، كالسراب الذي يظنه من يراه ماءً وهو في الحقيقة هباء {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} أي إِن جهنم تنتظر وتترقب نزلاءها الكفار، كما يترصد الإِنسان ويترقب عدوه ليأخذه على حين غرة قال المفسرون: المرصاد المكان الذي يرصد فيه الراصد العدو، وجهنم تترصَّد أعداء الله لتعذبهم بسعيرها، وهي مترقبة ومتطلعة لمن يمرُّ عليها من الكفار الفجار لتلتقطهم إِليها {لِّلطَّاغِينَ مَآباً} أي هي مرجع ومأوى ومنزل للطغاة المجرمين {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} أي ماكثين في النار دهوراً متتابعةً لا نهاية لها قال القرطبي: أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب أي الدهور وهي لا تنقطع، كلما مضى حقب جاء حقب، لأن أحقاب الآخرة لا نهاية لها قال الربيع وقتادة: هذه الأحقاب لا انقضاء لها ولا انقطاع {لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً} أي لا يذوقون في جهنم بدورةً تخفف عنهم حرَّ النار، ولا شراباً يسكِّنُ عطشهم فيها {إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً} أي إِلاّ ماءً حاراً بالغاً الغاية في الحرارة، وغساقاً أي صديداً يسيل من جلود أهل النار {جَزَآءً وِفَاقاً} أي يعاقبهم الله بذلك جزاءً موافقاً لأعمالهم السيئة {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} أي لم يكونوا يتوقعون الحساب والجزاء، ولا يؤمنون بلقاء الله، فجازاهم الله بذلك الجزاء العادل {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} أي وكانوا يكذبون بآيات الله الدالة على البعث وبالآيات القرآنية تكذيباً شديداً {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} أي وكل ما فعلوه من جرائم وآثام ضبطناه في كتاب لنجازيهم عليه {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} أي فذوقوا يا معشر الكفار فلن نزيدكم على استغاثتكم إِلاَّ عذاباً فوق عذابكم قال المفسرون: ليس في القرآن على أهل النار آية هي(3/484)
أشد من هذه الآية، كلما استغاثوا بنوعٍ من العذاب أغيثوا بأشد منه.
. ولما ذكر تعالى أحوال الأشقياء أهل النار، ذكر بعدها أحوال السعداء الأبرار فقال {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} أي إِن للمؤمنين الأًَبرار الذين أطاعوا ربهم في الدنيا، موضع ظفر وفوز بجنات النعيم، وخلاص من عذاب الجحيم، ثم فسَّر هذا الفوز فقال {حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً} أي بساتين ناضرة فيها من جميع الأشجار والأزهار، وفيها كروم الأعناب الطيبة المتنوعة من كل ما تشتهيه النفوس {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} أي ونساءً عذارى نواهد قد برزت أَثْداؤهنَّ، وهنَّ في سنٍ واحدة قال في التسهيل: الكواعب جمع كاعب وهي الجارية التي خرج ثديها {وَكَأْساً دِهَاقاً} أي وكأساً من الخمر ممتلئةً صافية قال القرطبي: المرادُ بالكأس الخمرُ كأنه قال: وخمراً ذات دِاهقٍ أي مملوءة قد عُصرت وصُفِّيت {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً} أي لا يسمعون في الجنة كلاماً فارغاً لا فائدة فيه، ولا كذباً من القول لأن الجنة دار السلام، وكل ما فيها سالمٌ من الباطل والنقص {جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً} أي جازاهم الله بذلك الجزاء العظيم، تفضلاً منه وإِحساناً كافياً على حسب أعمالهم {رَّبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن} أي هذا الجزاء صادرٌ من الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} أي لا يقدر أحدٌ أن يخاطبه في دفع بلاء، أو رفع عذاب في ذلك اليوم، هيبةً وجلالاً {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} أي في ذلك اليوم الرهيب يقف جبريل والملائكة مصطفين خاشعين {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} أي لا يتكلم أحد منهم إِلاّ من أذن الله له بالكلام والشفاعة ونطق بالصواب قال الصاوي: وإِذا كان الملائكة الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من الله لا يقدرون أن يشفعوا إِلا بإِذنه، فكيف يملك غيرهم؟ {ذَلِكَ اليوم الحق} أي ذلك هو اليوم الكائن الواقع لا محالة {فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً} أي فمن شاء أن يسلك إِلى ربه مرجعاً كريماً بالإِيمان والعمل الصالح فلْيفعلْ، وهو حثٌ وترغيب {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} الخطاب لكفار قريش المنكرين للبعث أي إنا حذرناكم وخوفناكم عذاباً قريباً وقوعه هو عذاب الآخرة، سمَّاه قريباً لأن كل ما هو آتٍ قريب {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي يوم يرى كل إِنسان ما قدَّم من خير أو شر مثبتاً في صحيفته كقوله تعالى
{وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً} [الكهف: 49] {وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً} أي ويتمنى الكافر أنه لم يخلق ولم يُكلَّف ويقول: يا ليتني كنت تراباً حتى لا أحاسب ولا أعاقب قال المفسرون: وذلك حين يحشر الله الحيوان يوم القيامة فيقتصُّ للجمّاء من القرناء، وبعد ذلك يصيّرها تراباً، فيتمنى الكافر أن لو كان كذلك حتى لا يعذب.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الإِطناب بتكرار الجملة للوعيد والتهديد {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} .
2 -(3/485)
الإِيجاز بحذف الفعل لدلالة المتقدم عليه {عَنِ النبإ العظيم} أي يتساءلون عن النبأ العظيم.
3 - التشبيه البليغ {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً والجبال أَوْتَاداً} ؟ أصل الكلام جعلنا الأرض كالمهاد الذي يفترشه النائم، والجبال كالأوتاد التي تثبت الدعائم، فحذف أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً، ومثله {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً} أي كاللباس في الستر والخفاء.
4 - المقابلة اللطيفة بين {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً} وبين {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} قابل بين الليل والنهار، والراحة والعمل، وهو من المحسنات البديعية.
5 - التشبيه البليغ {فَكَانَتْ أَبْوَاباً} أي كالأبواب في التشقق والانصداع، فحذفت الأداة ووجه الشبه فأصبح بليغاً
6 - الأمر الذي يراد به الإِهانة والتحقير {فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} وفيه أيضاً التفات من الغيبة إِلى الخطاب زيادة في التوبيخ والإِهانة.
7 - الطباق بين {بَرْداً. . وحَمِيماً} .
8 - ذكر العام بعد الخاص {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} الروح وهو «جبريل» داخل في الملائكة، فقد ذكر مرتين مرة استقلالاً، ومرة ضمن الملائكة، تنبيهاً على جلالة قدره.
9 - السجع المرصَّع مثل {أَلْفَافاً، أَفْوَاجاً، أَبْوَاباً، مَآباً، أَحْقَاباً} وهو من المحسنات البديعية.(3/486)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
اللغَة: {وَاجِفَةٌ} خائفة فزعة يقال: وجف القلبُ وجيفاً إِذا خفق واضطرب من شدة الفزع {الحافرة} الرجوع إِلى الحالة التي كان عليها يقال: رجع فلان في حافرته أي رجع من حيث جاء قال الشاعر:
أحافرةً على صَلع وشيب ... معاذّ اللهِ من سَفَهٍ وعار
{الساهرة} وجه الأرض، والعربُ تسمي وجه الأرض والفلاة ساهرة لأنه يُسهر عليها {سَمْكَهَا} السَّمك: العلُوُّ والارتفاع، وبناءٌ ممسوك أي عال مرتفع {أَغْطَشَ} أظلم يقال: غطش الليلُ وأغطشه اللهُ أي صار مظلماً وأظلمه الله {دَحَاهَا} بسطها وسوَّاها قال ازيد بن عمرو:
دّحاها فلما استوت شدَّها ... بأيدٍ وأرسى عليها الجبالا
{الطآمة} الداهية العظمى التي لا تستطاع قال الشاعر:
إِنَّ بعض الحُبِّ يعمي ويُصمُّ ... وكذاكَ البُغضُ أدهى وأطمُّ
التفسِير: {والنازعات غَرْقاً} أي أُقسمُ بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعاً بالغاً أقصى الغاية في الشدة والعسر {والناشطات نَشْطاً} أي وأُقسمُ بالملائكة التي تنزع أرواح المؤمنين بسهولةٍ ويسر، وتسلُّها سلاً رفيقاً قال ابن مسعود: إِن ملكَ الموت وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السَّفود سيخ الحديد الكثير الشُعب من الصوف المبتلّ، فتخرج نفس الكافر كالغريق في الماء، وينزع روح المؤمن برفق ولين، ويقبضها كما ينشط العِقال من يد البعير قال ابن كثير: أقسم سبحانه بالملائكة(3/488)
حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلَّته من نشاط {والسابحات سَبْحاً} أي وأقسم بالملائكة التي تنزل بأمر الله ووحيه من السماء كالذي يسبح في الماء، مسرعين لتنفيذ أمر الله {فالسابقات سَبْقاً} أي الملائكة التي تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة {فالمدبرات أَمْراً} أي الملائكة تدبّر شئون الكون بأمره تعالى، في الرياح، والأمطار، والأرزاق، والأعمار، وغير ذلك من شئون الدنيا، أقسم سبحانه بهذه الأصناف الخمسة على أن القيامة حق، وجواب القسم محذوف تقديره: لتبعثنَّ ولتحاسبنَّ، وقد دل عليه قوله {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة} أي يوم ينفخ في الصُّور النفخة الأولى التي يرتجف ويتزلزل لها كل شيء، تتبعها النفخة الثانية وهي نخفة القيام من القبور قال ابن عباس: الراجفة والرادفة هما النفختان الأولى والثانية، أما الأولى فتميت كل شيء بإذن الله تعالى، وأما الثانية فتحيي كل شيء بإذن الله تعالى. . ثم ذكر تعالى حالة المكذبين وما يلقونه من الشدائد والأهوال فقال {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} أي قلوب الكفار في ذلك اليوم خائفة وجدلة مضطربة {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} أي أبصار أصحابها ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة} أي يقولون في الدنيا استهزاءً واستبعاداً للبعث: إِنكم تبعثون قالوا منكرين متعجبين: أنردُّ بعد موتنا إِلى أول الأمر، فنعود أحياء كما كنا قبل المرت؟ والعرب تقول: رجع فلان في حافرته أي رجع من حيث جاء {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} أي هل إذا صرنا عظاماً بالية متفتتة سنرد ونبعث من جديد؟ {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} أي إِن كان البعث حقاً، وبعثنا بعد موتنا فسوف نكون من الخاسرين لأننا من أهل النار، قال تعالى {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي فإِنما هي صحية واحدة، يُنفخ فيها في الصور للقيام من القبور {فَإِذَا هُم بالساهرة} أي فإِذا الخلائق جميعاً على وجه الأرض بعدما كانوا في بطنها.
. ثم ذكر تعالى قصة موسى مع فرعون تسليةً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتحذيراً لقومه أن يحل بهم ما حلَّ بالطغاة المكذبين من قوم فرعون فقال {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} أسلوب تشويق وترغيب لسماع القصة أي هل جاءك يا محمد خبر موسى الكليم؟ {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس طُوًى} أي حين ناجاه ربه بالوادي المطهَّر المبارك المسمَّى {طُوًى} في أسفل جبل طور سيناء، قائلاً له {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} أي إِذهب إِلى فرعون الطاغية الجبار، الذي جاوز الحدَّ في الظلم والطغيان {فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} ؟ أي هل لك رغبةٌ وميلٌ إِلى أن تتطهر من الذنوب والآثام؟ {وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} أي وأرشدك إِلى معرفة ربك وطاعته فتتقيه وتخشاه؟ قال الزمخشري: ذكر الخشية لأنها ملاك الأمر، من خشي الله أتى منه كل خير، وبدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العَرض كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرفيق الرقيق ليستدعيه بالتلطف، ويستنزله بالمداراة من عتوه كما في قوله تعالى {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} [طه: 44] {فَأَرَاهُ الآية الكبرى} في الكلام محذوف أي فذهب(3/489)
موسى إِليه ودعاه وكلَّمه، فلما امتنع عن الإِيمان أراه المعجزة الكبرى، وهي قلب العصا حيةً تسعى قال القرطبي: أراه العلامة العظمى وهي المعجزة قال ابن عباس: هي العصا {فَكَذَّبَ وعصى} أي فكذب فرعون نبيَّ الله موسى، وعصى أمر الله بعد ظهور تلك المعجزة الباهرة {ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى} أي ولّى مدبراً هارباً من الحية، يُسرع في مشيه من هول ما رأى {فَحَشَرَ فنادى} أي فجمع السحرة والجنود والأتباع، ووقف خطيباً في الناس {فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} أي فقال لهم بصوت عال: أنا ربكم المعبود العظيم الذي لا ربَّ فوقي {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى} أي فأهلكه الله عقوبةً له على مقالته الأخيرة {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} والأولى هي قوله {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى} أي إِن فيما ذكر من قصة فرعون وطغيانه، وما حلَّ به من العذاب والنكال، لعظة واعتباراً لمن يخاف الله عَزَّ وَجَلَّ ويخشى عقابه. . ولما انتهى الحديث عن قصة الطاغية فرعون، رجع إِلى منكري البعث من كفار قريش فنبههم إِلى آثار قدرته، ومظاهر عظمته وجلاله فقال {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء} ؟ الاستفهام للتقريع والتوبيخ والمعنى هل أنتم يا معشر المشركين أشقُّ وأصعب خلقاً أم خلق السماء العظيمة البديعة؟ فإِن من رفع السماء على عظمها، هيِّن عليه خلقكم وإِحياؤكم بعد مماتكم، فكيف تنكرون البعث؟ قال الرازي: نبههم على أمرٍ يُعلم بالمشاهدة، وذلك لأن خلق الإِنسان على صغره وضعفه، إِذا أضيف إِلى خلق السماء على عظمها وعظم أحوالها يسير، وإِذا كان كذلك فإِعادتهم سهلة فيكف ينكرون ذلك؟ كقوله تعالى
{لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] {بَنَاهَا} أي رفعها عاليةً فوقكم محكمة البناء، بلا عمد ولا أوتاد، ثم زاد في التوضيح والبيان فقال {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} أي رفع جرمها وأعلى سقفها فوقكم فجعلها مستويةً لا تفاوت فيها ولا شقوق ولا فطور قال ابن كثير: أي جعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء، مكلَّلة بالكواكب في الليلة الظلماء {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أي جعل ليلها مظلماً حالكاً، ونهارها مشرقاً مضيئاً قال ابن عباس: أظلم ليلها وأنار نهارها {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} أي والأرض بعد خلق السماء بسطها ومهَّدها لسكنى أهلها {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} أي أخرج من الأرض عيون الماء المتفجرة، وأجرى فيها الأنهار، وأنبت فيها الكلأ والمرعى مما يأكله الناس والأَنعام {والجبال أَرْسَاهَا} أي والجبال أثبتها في الأرض، وجعلها(3/490)
كالأوتاد لتستقر وتسكن بأهلها {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي فعل ذلك كله، فأنبع العيون، وأجرى الأنهار، وأنبت الزرع والأشجار، كل ذلك منفعةً للعباد وتحقيقاً لمصالحهم ومصالح أنعامهم ومواشيهم، قال الرازي: أراد بمراعاها ما يأكله الناسُ والأنعام، بدليل قوله {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} وانظر كيف دلَّ بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام والأنعام من العشب، والشجر، والحب، والثمر، والعصف، والحطب، واللباس والدواء، حتى الملح والنار، فالملح متولد من الماء، والنارُ من الأشجار. . ولما ذكر تعالى خلق السموات والأرض، وما أبدع فيهما من عجائب الخلق والتكوين، ليقيم الدليل على إِمكان الحشر عقلاً، أخبر بعد ذلك عن وقوعه فعلاً فقال {فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى} أي فإِذا جاءت القيامة وهي الداهية العظمى، التي تعمُّ بأهوالها كل شيء، وتعلو على سائر الدواهي قال ابن عباس: هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل أمرٍ هائل مفظع {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى} أي في ذلك اليوم يتذكر الإِنسان ما علمه من خير أو شر، ويراه مدوَّناً في صحيفة أعماله {وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى} أي أظهرت جهنم للناظرين فرآها الناسُ عياناً، باديةً لكل ذي بصر. . وبعد أن وصف حال القيامة وأهولها، ذكر انقسام الناس إِلى فريقين: أشقياء وسعداء فقال {فَأَمَّا مَن طغى} أي جاوز الحدَّ في الكفر والعصيان {وَآثَرَ الحياة الدنيا} أي فضَّل الحياة الفانية على الآخرة الباقية، وانهمك في شهوات الحياة المحرَّمة، ولم يستعد لآخرته بالعمل الصالح {فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى} أي فإِنَّ جهنم المتأججة هي منزله ومأواه، لا منزل له سواها {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أي وأمَّا من خاف عظمة ربه وجلاله، وخاف مقامه بين يديْ ربه يوم الحساب، لعلمه ويقينه بالمبدأ والمعاد {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} أي وزجر نفسه عن المعاصي والمحارم، وكفَّها عن الشهوات التي تؤدي بها إِلى المعاطب {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} أي فإِن منزله ومصيره هي الجنة دار النعيم، ليس له منزل غيرها.
. ثم ذكر تعالى موقف المكذبين بالقيامة، المستهزئين بأخبار الساعة فقال {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا} أي يسألك يا محمد هؤلاء المشركون عن القيامة متى وقوعها وقيامُها؟ قال المفسرون: كان المشركون يسمعون أنباء القيامة، ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل «طامة، وصاخة، وقارعة» فيقولون على سبيل الاستهزاء: متى يوجدها الله ويقيمها، ومتى تحدث وتقع؟ فنزلت الآية {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} أي ليس علمها إِليك حتى تذكرها لهم، لأنها من الغيوب التي استأثر الله بعلمها، فلماذا يسألونك عنها ويُلحّون في السؤال؟ {إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ} أي مردُّها ومراجعها إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين، لا يعلمه أحد سواه {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} أي ما واجبك يا محمد إِلا إِنذار من يخاف القيامة، لا الإِعلام بوقتها، وخصَّ الإِنذار بمن يخشى، لأنه هو الذي ينتفع(3/491)
بذلك الإِنذار {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أي كأن هؤلاء الكفار يوم يشاهدون القيامة وما فيها من الأهوال، لم يلبثوا في الدنيا إِلا ساعة من نهار، بمقدار عشيةٍ أو ضحاها. قال ابن كثير: يستقصرون مدة الحياة الدنيا، حتى كأنها عندهم عشية يوم، أو ضحى يوم. . ختم تعالى السورة الكريمة، بما أقسم عليه في أولها من إِثبات «الحشر، والبعث» فكان ذلك كالدليل والبرهان على مجيء القيامة والساعة، وليتناسق البدء مع الختام.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين الآخرة والأولى في قوله {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى} لأن المراد كلمتيه الشنيعتين الأولى والأخيرة، والطباق كذلك بين {عَشِيَّةً. . وضُحَاهَا} .
2 - جناس الاشتقاق في قوله {تَرْجُفُ الراجفة} .
3 - المقابلة بين قوله {السمآء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} وبين {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} وكذلك المقابلة بين {فَأَمَّا مَن طغى وَآثَرَ الحياة الدنيا} وبين {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النفس عَنِ الهوى} الآيات.
4 - أسلوب التشويق {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} ؟ فإِن المراد منه التشويق الى معرفة القصة.
5 - الطباق بين {الجنة. . الجحيم} وبين {السمآء. . والأرض} الوارد في الآيات.
6 - التشبيه المرسل المجمل {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} .
7 - الاستعارة التصريحية {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} شبَّه أكل الناس برعي الأنعام، واستعير الرعي للإِنسان بجامع أكل الإِنسان والحيوان من النبات، ففيه استعارة لطيفة.
8 - توافق الفواصل في الحرف الأخير مثل {ضُحَاهَا، دَحَاهَا، مَرْعَاهَا، أَرْسَاهَا} وهو من المحسنات الدبيعية ويمسى السجع.(3/492)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
اللغَة: {عَبَسَ} كلح وجهه وقطَّب {تصدى} تتعرض له وتصغي لكلامه {سَفَرَةٍ} السفرة: الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد جمع سافر مثل كاتب كَتَبة {فَأَقْبَرَهُ} جعل له قبراً وأمر أن يُقْبر {قَضْباً} القضبُ: كل ما يقطع من البقول فينبت أصلهُ مثل البرسيم «الفصة» والباقلاء، والكُرَّاث وغيرها {غُلْباً} كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان جمع غلباء {أَبّاً} الأبُّ: المرعى وكل ما أنبتت الأرض مما تأكله البهائم كالكلأ والعشب {الصآخة} الصيحة التي تصمُّ الآذان لشدتها {مُّسْفِرَةٌ} مشرقة مضيئة {غَبَرَةٌ} غبار ودخان {قَتَرَةٌ} سواد وظلمة.
سَبَبُ النّزول: روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان مشغولاً مع صناديد قريش يدعوهم إِلى الإِسلام، وكان يطمع في إِسلامهمه رجاء أن يسلم أتباعهم، فبينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مشتغل بمن عنده من وجوه قريش، جاء إِليه «عبد الله بن أُم مكتوم» وهو أعمى، فقال يا رسول الله: علمني مما علَّمك الله، وكرَّر ذلك وهو لا يعلم أن الرسول مشغول مع هؤلاء إِنما أتباعه العميان والسَّفلة والعبيد، فعبس وجهه وأقبل على القوم يكلمهم فأنزل الله {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى} الآيات.
التفسِير: {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى} أي كلح وجهه وقطَّبه وأعرض عنه كارهاً، لأنْ جاءه الاعمى يسأل عن أمور دينه قال الصاوي: إِنما أتى بضمائر الغيبة {عَبَسَ وتولى} تطلفاً به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإِجلالاً له، لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى من الشدة الصعوبة واسم الأعمى «عبد الله بن أُم مكتوم» وكان بعد نزول آيات العتاب إِذا جاءه يقول له: «مرحباً بمان عاتبني فيه ربي، ويبسط له رداءه» {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} أي وما يُعلمك ويخبرك يا محمد لعلَّ هذا الأعمى الذي عبستَ في وجهه، يتطهر من ذنوبه بما يتلقاه عنك من العلم والمعرفة! { {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى} أي أويتعظ بما يسمع فتنفعه موعظتك} { {أَمَّا مَنِ استغنى} أي أما من استغنى عن اللهِ وعن الإِيمان، بما له من الثروة والمال {فَأَنتَ لَهُ تصدى} أي فأنت تتعرَّض له وتصغي لكلامه، وتهتم بتبليغه دعوتك {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى} أي ولا حرج عليك أن لا يتطهر من دنس الكفر والعصيان،(3/494)
ولست بمطالب بهدايته، إنما عليك البلاغ قال الألوسي: وفيه مزيد تنفيرٍ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن مصاحبتهم، فإِن الإِقبال على المدبر مخلٌّ بالمروءة كما قال القائل:
واللهِ لو كرهتْ كفي مُصاحبتي ... يوماً لقلتُ لها عن صُحْبتي بيْني
{وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى} أي وأمَّا من جاءك يسرع ويمشي في طلب العلم للهِ ويحرص على طلب الخير {وَهُوَ يخشى} أي وهو يخاف الله تعالى ويتقي محارمه {فَأَنتَ عَنْهُ تلهى} أي فأنت يا محمد تتشاغل عنه، وتتلهى بالانصراف عنه إِلى رؤساء الكفر والضلال} ! {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي لا تفعل بعدم اليوم مثل ذلك، فهذه الآيات موعظة وتبصرة للخلق، يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها العقلاء {فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء من عباد الله اتعظ بالقرآن، واستفاد من إِرشاداته وتوجهاته، قال المفسرون: كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد هذا العتاب، لا يعبس في وجه فقير قط، ولا يتصدى لغني أبداًن وكان الفقراء في مجلسه أمراء، وكان إِذا دخل عليه «ابن أم مكتوم» يبسط له رداءه ويقول: مرحباً بما عاتبني فيه ربي.
ز
ثم بعد هذا البيان أخبر عن جلالة قدر القرآن فقال {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} أي هو في صحفٍ مكرمة عند الله {مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} أي عالية القدر والمكانة، منزهة عن أيدي الشياطين، وعن كل دنسٍ ونقص {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} أي بأيدي ملائكة جعلهم الله سفراء بينه وبين رسله {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} أي مكرمين معظمين عند الله، أتقياء صلحاء {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] ثم ذكر تعالى قبح جريمة الكافر، وإِفراطه في الكفر والعصيان مع كثرة إِحسان الله إِليه فقال {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} أي لعن الكافر وطرد من رحمة الله، ما أشدَّ كفره بالله مع كثرة إِحسانه إِليه وأياديه عنده؟ قال الألوسي: والآية دعاءٌ عليه بأشنع الدعوات وأفظعها، وتعجيبٌ من إِفراطه في الكفر والعصيان، وهذا في غاية الإِيجاز والبيان {مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ} أي من أي شيء خلق الله هذا الكافر حتى يتكبر على ربه؟ ثم وضَّح ذلك فقال {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أي من ماءٍ مهين حقير بدأ خلقه، فقدَّره في بطن أمه أطواراً من نطفة ثم من علقة إِلى أن تمَّ خلقه قال ابن كثير: قدَّر رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ أو سعيد {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} أي ثم سهَّل له طريق الخروج من بطن أمه قال الحسن البصري: كيف يتكبر من خرج من سبيل البول مرتين؟ يعني الذكر والفرج {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي ثم أماته وجعل له قبراً يُوارى فيه إِكراماً له، ولم يجعله ملقى للسباع والوحوش والطيور قال الخازن: وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} أي ثم حين يشاء الله إِحياءه، يحييه بعد موته للبعث والحساب والجزاء، وإِنما قال {إِذَا شَآءَ} لأن وقت البعث غير معلوم لأحد، فهو إِلى مشيئة الله تعالى، متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ} أي ليرتدع وينزجر هذا الكافر عن تكبره وتجبره، فإِنه لم يؤد ما فرض عليه، ولم يفعل ما كلفه به ربه من الإِيمان والطاعة. . ولما ذكر خلق الإِنسان، ذكر بعده رزقه، ليعتبر بما أغدق الله عليه من أنواع النعم، فيشكر ربه ويطيعه فقال {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} أي فلينظر هذا الإِنسان الجاحد نظر(3/495)
تفكر واعتبار، إلى أمر حياته، كيف خلقه بقدرته، ويسره برحمته، وكيف هيأ له أسباب المعاش، وخلق له الطعام الذي به قوام حياته؟! ثم فصَّل ذلك فقال {أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً} أي أنا بقدرتنا أنزلنا الماء من السحاب على الأرض إِنزالاً عجيباً {ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} أي شققنا الأرض بخروج النبات منها شقاً بديعاً {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً} أي فأخبر بذلك الماء أنواع الحبوب والنباتات: حباً يقتات الناس به ويدخرونه، وعنباً شهياً لذيذاً، وسائر البقول مما يؤكل رطباً {وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} أي وأخرجنا كذلك أشجار الزيتون والنخيل، يخرج منها الزيت والرطب والتمر {وَحَدَآئِقَ غُلْباً} أي وبساتين كثيرة الأشجار، ملتفة الأغصان {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} أي وأنواع الفواكه والثمار، كما أخرجنا ما تراعاه البهائم قال القرطبي: الأبُّ ما تأكله البهائم من العشب {مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي أخرجنا ذلك وأنبتناه ليكون منفعة ومعاشاً لكم أيها الناس ولأنعامكم قال ابن كثير: وفي هذه الآيات امتنانٌ على العباد وفيها استدلال بإِحياء النبات من الأرض الهامدة، على إِحياء الأجسام بعدما كانت عظاماً باليةً وأوصالاً متفرقة.
. ثم ذكر تعالى بعد ذلك أهوال القيامة فقال {فَإِذَا جَآءَتِ الصآخة} أي فإِذا جاءت صحية القيامة التي تصخ الآذان حتى تكاد تصمها {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ} أي في ذلك اليوم الرهيب يهرب الإِنسان من أحبابه، من أخيه، أمه، وأبيه، وزوجته، وأولاده لاشتغاله بنفسه قال في التسهيل: ذكر تعالى فرار الإِنسان من أحبابه، ورتبهم على مرابتهم في الحنو والشفقة، فبدأ بالأقل وختم بالأكثر، لأن الإِنسان أشدُّ شفقةً على بنيه من كل من تقدم ذكره {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي لكل إِنسان منهم في ذلك اليوم العصيب، شأنٌ يشغله عن شأن غيره، فإِنه لا يفكر في سوى نفسه، حتى إِن الأنبياء صلوات الله عليهم ليقول الواحد منهم يومئذٍ «نفسي نفسي» . . ولما بيَّن تعالى حال القيامة وأهوالها، بيَّن بعدها حال الناس وانقسامهم في ذلك اليوم إِلى سعداء وأشقياء، فقال في وصف السعداء: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} أي وجوه في ذلك اليوم مضيئة مشرقة من البهجة والسرور {ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} أي فرحة مسرورة بما رأته من كرامة الله ورضوانه، ومستبشرة بذلك النعيم الدائم {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي ووجوه في ذلك اليوم عليها غبارٌ ودخان {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي تغشاها وتعلوها ظلمةٌ وسواد {أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} أي أولئك الموصوفون بسواد الوجوه، هم الجامعون بين الكفر والفجور، قال الصاوي: جمع الله تعالى إِلى سواد وجوههم الغَبرة كما جمعوا الكفر إِلى الفجور.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الالتفات من الغيبة إِلى الخطاب زيادة في العتاب {عَبَسَ وتولى} .
. ثم قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} ؟ فالتفت تنبيهاً للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى العناية بشأن الأعمى.(3/496)
2 - جناس الاشتقاق بين {يَذَّكَّرُ. . والذكرى} .
3 - الكناية الرائقة {ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ} كنَّى بالسبيل عن خروجه من فرج الأم،
4 - أسلوب التعجب {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} ؟ تعجبٌ من إِفراط كفره، مع كثرة إِحسان الله إِليه.
5 - الطباق بين {تصدى} وبين {تلهى} لأن المراد بهما تتعرض وتنشغل.
6 - التفصيل بعد الإِجمال {مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ} ثم فصَّل ذلك وبيَّنه بقوله {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} .
7 - المقابلة اللطيفة بين السعداء والأشقياء {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} قابلها بقوله {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} .
8 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات، وهو من المحسنات البديعية ويسمى السجع مثل {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} ومثل {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ. .} الخ.
لطيفَة: اقتبس بعض الأدباء من قوله تعالى {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} ؟ هذين البيتين:
يتمنى المء في الصيف الشِّتا ... فإِذا جاء الشِّتا أنكره
فهو لا يرضى بحالٍ واحدٍ ... قُتِل الإِنسانُ ما أكفره؟(3/497)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
اللغَة: {انكدرت} تناثرت {العشار} جمع عشراء وهي الناقة التي مرَّ على حملها عشرة أشهر {كُشِطَتْ} نُزعت وقلعت يقال: كشطت جلد الشاة أي نزعته وسلخته عنها {الخنس} الكواكب المضيئة التي تخنس نهاراً وتختفي عن البصر جمع خانس {الكنس} النجوم التي تغيب يقال: كنس إِذا دخل الكناس وهو المكان الذي تأوي إِليه الظباء {عَسْعَسَ} أقبل بظلامه قال الخليل: عسعس الليلُ: إِذا أقبل أو أدبر فهو من الأضداد قال الشاعر:
حتَّى إِذا الصُبْحُ لها تنفَّسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
التفسِير: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} هذه الآيات بيانٌ لأهوال القيامة وما يكون فيها من الشدائد والكوارث، وما يعتري الكون والوجود من مظاهر التغايير والتخريب والمعنى: إِذا الشمس لُفَّت ومحُي ضوءُها {وَإِذَا النجوم انكدرت} أي وإِذا النجوم تساقطت من مواضعها وتناثرت {وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} أي وإِذا الجبال حركت من أماكنها، وسُيّرت في الهواء حتى صارت كالهباء كقوله تعالى {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] {وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ} أي وإِذا النوق الحوامل تركت هملاً بلا راعٍ ولا طالب، وخصَّ النوق بالذكر لأنها كرائم أموال العرب {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} أي وإِذا الوحوش جُمعت من أوكارها وأجحارها ذاهلةً من شدة الفزع {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} أي وإِذا البحار تأججت ناراً، وصارت نيراناً تضطرم وتلتهب {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} أي وإِذا النفوس قُرنت بأشباهها، فقرن الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح قال الطبري: يُقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، وبين الرجل السوء مع الرجل السُّوء في النار {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ} أي وإِذا البنت التي دفنت وهي حية سئلت توبيخاً لقالتها: ما هو ذنبها حتى قتلت؟ قال في التسهيل: الموءدة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حيَّةً من كراهته لها أو غيرته عليها، فتسأل يوم القيامة {بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} ؟ على وجه التوبيخ لقاتلها {وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ} أي وإِذا صحف الأعمال نشرت وبسطت عند الحساب {وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ} أي وإِذا السماء أزيلت ونزعت من مكانها كما ينزع الجلد عن الشاة {وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ} أي وإِذا نار جهنم أوقدت وأُضرمت لأعداء الله تعالى {وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ} أي وإِذا الجنة أدنيت وقربت من المتقين {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} أي عملت كل نفسٍ ما أحضرتْ من خيرٍ أو شر، وهذه الجملة {عَلِمَتْ نَفْسٌ} هي جواب ما تقدم من أول السورة {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} إِلى هنا، والمعنى إِذا حدثت تلك الأمور العجيبة الغريبة، علمت حنيئذٍ كل نفسٍ ما قدمته من صالح أو طالح. . ثم أقسم تعالى على صدق القرآن، وصحة رسالة محمد عليه السلام فقال {فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس} أي فأقسم قسماً مؤكداً بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار، وتظهر بالليل {الجوار الكنس} أي التي(3/499)
تجري وتسير مع الشمس والقمر ثم تستتر وقت غروبها، كا تستتر الظباء في كناسها مغاراتها قال القرطبي: النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل، وتنكس وقت غروبها أي تستتر، كما تنكس الظباء في المغار وهو الكناس {والليل إِذَا عَسْعَسَ} أي وأقسم بالليل إِذا أقبل بظلامه حتى غطَّى الكون {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} أي وبالصبح إِذا أضاء وتبلَّج، واتَّسع ضياؤه حتى صار نهاراً واضحاً {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا هو المقسم عليه أي إن هذا القرآن الكريم، لكلامُ الله المنزَّل بواسطة ملك عزيز على الله هو جبريل كقوله تعالى
{نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193194] قال المفسرون: أراد بالرسول «جبريل» وأضاف القرآن إِليه لأنه جاء به، وهو في الحقيقة قول الله تعالى، ومما يدل على أن المراد به جبريل قوله بعده {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} أي شديد القوة، صاحب مكانة رفيعة، ومنزلة سامية عند الله جلا وعلا {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} أي مطاعٍ هناك في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة الأبرار، مؤتمن على الوحي الذي ينزل به على الأنبياء {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} أي وليس محمد الذي صاحبتموه يا معشر قريش، وعرفتم صدقه ونزاهته ورجاحة عقله بمجنون كما زعمتم قال الخازن: أقسم تعالى على أن القرآن نزل به جبريل الأمين، وأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس بمجنون كما يزعم أهل مكة، فنفى عنه تعالى عنه الجنون، وكون القرآن من عند نفسه {وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين} أي وأقسمُ لقد رأى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جبريل في صورته الملكية التي خلقه الله عليها بجهة الأفق الأعلى البيّن من ناحية المشرق حيث تطلع الشمس قال في البحر: وهذه الرؤية بعد أمر غار حراء، حين رأى جبريل على كرسي بين السماء والأرض، في صورته له ستمائة جناح قد سدَّ ما بين المشرق والمغرب {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ} أي وما محمد على الوحي ببخيل يقصِّر في تبليغه وتعليمه، بل يبلغ رسالة ربه بكل أمانةٍ وصدق {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} أي وما هذا القرآن بقول شيطان ملعون كما يقول المشركون {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} أيْ فأيَّ طريقٍ تسلكون في تكذيبكم للقرآن، واتهامكم له بالسحر والكهانة والشعر، مع وضوح آياته وسطوع براهنيه؟ وهذا كما تقول لمن ترك الطريق المستقيم: هذا الطريق الواضح فأين تذهب؟ {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إِلا موعظة وتذكرة للخلق أجمعين {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} أي لمن شاء منكم أن يتبع الحق، ويستقيم على شريعة الله، ويسلك طريق الأبرار {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين} أي وما تقدرون على شيء إِلا بتوفيق الله ولطفه، فاطلبوا من الله التوفيق إِلى أفضل طريق.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الجناس الناقص بين {الخنس} و {الكنس} .
2 -(3/500)
الاستعارة التصريحية {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} شبَّه إِقبال النهار وسطوع الضياء بنسمات الهواء العليل التي تحيي القلب، واستعار لفظ التنفس لإِقبال النهار بعد الظلام الدامس، وهذا من لطيف الاستعارة وأبلغها تصويراً حيث عبر عنه بتنفس الصبح.
3 - الكناية اللطيفة {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} كنى عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلفظ {صَاحِبُكُمْ} .
4 - الطباق بين لفظ {الجحيم سُعِّرَتْ. . والجنة} .
5 - الجناس غير التام بين {أَمِينٍ. . ومَكِينٍ} .
6 - توافق الفواصل رغاية لرءوس الآيات مثل {كُوِّرَتْ، سُيِّرَتْ، سُجِّرَتْ، سُعِّرَتْ} ومثل {الخنس، الكنس، عَسْعَسَ، تَنَفَّسَ} الخ.(3/501)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
اللغَة: {انفطرت} انشقت، والفطرُ: الشقُّ ومنه فاطر نابُ البيعر {انتثرت} تساقطت وتهاوت {بُعْثِرَتْ} قُلبت يقال: بعثرت المتاع قلبته ظهراً لبطن {غَرَّكَ} خدعك {سَوَّاكَ} جعل أعضاءك سليمة سويّة {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها ويذوقون لهبها وحرَّها.
التفسِير: {إِذَا السمآء انفطرت} أي إِذا المساء انشقت بأمر الله لنزول الملائكة كقوله تعالى {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] {وَإِذَا الكواكب انتثرت} أي وإِذا النجوم تساقطت وتناثرت، وزالت عن بروجها وأماكنها {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} أي وإِذا البحار فتح بعضها إِلى بعض، فاختلط عذبها بمالحها، وأصبحت بحراً واحداً {وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ} أي وإِذا القبور قلبت، ونش ما فيها من الموتى، وصار ما في بطنها ظاهراً على جهها {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} هذا هو الجواب أي علمت عندئذٍ كل نفس ما أسلفت من خير أو شر، وما قدمت من صالح أو طالح قال الطبري: ما قدمت من علم صالح، وما أخرت من شيء سنَّه فعمل به بعده ثم بعد ذكر أحوةال الآخرة وأهوالها، انتقلت الآيات لتذكير الإِنسان الغافل الجاهل بما أمامه من أهوال وشدائد فقال تعالى {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} أيْ أيُّ شيءٍ خدعك برك الحليم الكريم، حتى عصيته وتجرأت على مخالفة أمره، مع إِحسانه إِليك وعطفه عليك؟ وهذا توبيخ وعتاب كأنه قال: كيف قابلتَ إِحسان ربك بالعصيان، ورأفته بك بالتمرك والطغيان {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60] ؟ ثم عدَّد نعمه عليه فقال {الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} أي الذي أوجدك من العدم، فجعلك سوياً سالم الأعضاء، تسمع وتعقل وتبصر {فَعَدَلَكَ} أي جعلك معتدل القامة منتصباً في أحسن الهيئات والأشكال {في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} أي ركبك في أي صورة شاءها واختارها لك من الصور الحسنة العجيبة ولم يجعل في الشكل كالبهيمة كقوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . . ثم وبَّخ المشركين على تكذيبهم بيوم الدين فقال {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين} أي ارتدعوا يا أهل مكة، ولا تغتروا بحلم الله، بل أنتم تكذبون بيوم الحساب والجزاء {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} أي والحالُ أن عليكم ملائكة حفظة يضبطون أعمالكم ويراقبون تصرفاتكم قال القرطبي: أي عليكم رقباء من الملائكة {كِرَاماً كَاتِبِينَ} أي كراماً على الله، يكتبون أقوالكم وأعمالكم {يَعْلَمُونَ مَا(3/503)
تَفْعَلُونَ} أي يعملون ما يصدر منكم من خير وشر، ويسجلونه في صحائف أعمالكم، لتجازوا به يوم القيامة. . ثم بيَّن تعالى انقسام الخلق يوم القيامة إِلى أبرار وفجار، وذكر مآل كلٍ من الفريقين فقال {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} أي إِن المؤمنين الذين اتقوا ربهم في الدنيا، لفي بهجة وسرور لا يوصف، يتنعمون في رياض الجنة بما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهم مخلدون في الجنة {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} أي وإِن الكفرة الفجار، الذين عصوا ربهم في الدنيا، لفي نار محرقةٍ، وعذاب دائم مقيم في دار الجحيم {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين} أي يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ} أي وليسوا بغائبين عن جهنم، بعيدين عنها لايرونها، بل هي أمامهم يَصْلَونَ ويذوقون سعيرها ولا يخرجون منها أبداً.
{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} تعظيمٌ له وتهويل أي ما أعلمك ما هو يوم الدين؟ وأيُّ شيءٍ هو في شدته وهوله؟ {ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} ؟ كرر ذكره تعظيماً لشأنه، وتهويلاً لأمره كقوله {الحاقة مَا الحآقة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة} [الحاقة: 13] ؟ كأنه يقول: إِن يوم الجزاء من شدته بحيث لا يدري أحدٌ مقدار هوله وعظمته، فهو فوق الوصف والبيان {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} أي هو ذلك اليوم الرهيب الذي لا يستطيع أحد أن ينفع أحداً بشيء من الأشياء، ولا أن يدفع عنه ضراً {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أي والأمر في ذلك اليوم لله وحده لا ينازعه فيه أحد.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {قَدَّمَتْ} و {أَخَّرَتْ} وهو من المحسنات البديعية.
2 - المقابلة اللطيفة بين الأبرار والفجار {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} فقد قابل الأقرار بالفجار، والنعيم بالجحيم وفيه أيضاً من المحسنات البديعية ما يسمى بالترصيع.
3 - الاستعارة المكنية {وَإِذَا الكواكب انتثرت} شبَّه الكواكب بجواهر قطع سلكها فتناثرت متفرقة، وطوى ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الانتثار على طريق الاستعارة المكنية.
4 - الاستفهام للتوبيخ والإِنكار {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} ؟
5 - التنكير في كلٍ من لفظة {نَعِيمٍ} و {جَحِيمٍ} للتعظيم والتهويل.
6 - الإِطناب بإِعادة الجملة {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين} ؟ لتعظيم هول ذلك اليوم وبيان شدته كأنه فوق الوصف الخيال.
7 - السجع المرصَّع وهو من المحسنات البديعية مثل {إِذَا السمآء انفطرت وَإِذَا الكواكب انتثرت} ومثل {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} ومثل {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} .
لطيفَة: روي أن الخليفة «سليمان بن عبد الملك» قال لأبي حازم المزني: ليت شعري أين مصيرنا يوم القيامة؟ وما لنا عند الله؟ فقال له: أعرضْ عملك على كتاب الله تجد ما لك عند الله {فقال: وأين أجد ذلك في كتاب الله} ! قال: عند قوله تعالى {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} قال سليمان: فإين إِذاً هي رحمة الله؟ فأجابه بقوله {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] .(3/504)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
اللغَة: {لِّلْمُطَفِّفِينَ} جمع مُطفّف وهو الذي ينقص في الكيل والوزن، والتطفيف: النقصان وأصله من الطفيف وهو الشيء اليسير، لأن المطفّف لا يكاد يسرف في الكيل والوزن إِلا الشيء اليسير {رَانَ} غطَّى وغثَّى كالصدأ يغشى السيف، وأصله الغلبة يقال: رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبته قال الشاعر:
«وكمْ رانَ من ذنبٍ على قلب فاجر» ... {رَّحِيقٍ} أجود الخمر وأصفاه وفي الصحاح: الرحيق صفوة الخمر وقال الأخفش: هو الشراب الذي لا غش فيه قال الحسن:
بَرَدى يُصفِّق بالرحيقِ السَّلْسَلِ ... {فَكِهِينَ} معجبين متلذين {يَتَغَامَزُونَ} يشيرون إِليهم بالأعين استهزاءً {ثُوِّبَ} جوزي {تَسْنِيمٍ} عنيٌ عالية شرابها أشرف شراب، وأصل التسنيم الارتفاع ومنه سنام البعير.
سَبَبُ النّزولك عن ابن عباس قال «لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة، كانوا من أخبث الناس كيلاً فأنزل اله عَزَّ وَجَلَّ {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك» .
التفسِير: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} أي هلاك وعذاب ودمار، لأولئك الفجار الذين ينقصون المكيال والميزان، ثم بيَّن أوصافهم القبيحة بقوله {الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ} أي إِذا أخذوا الكيل من الناس أخذوه وافياً كاملاً لأنفسهم {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أي وإِذا كالوا للناس أو وزنوا لهم، ينقصون الكيل والوزن قال المفسرون: نزلت في رجلٍ يُعرف ب «أبي جهينة» كان له صاعان، يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر، وهو وعيدٌ لكل من طفَّف الكيل والوزن، وقد أهلك الله قوم شعيب لبخسهم المكيال والميزان، وفي الحديث «ولا طففوا الكيل إِلاّ منعوا النبات وأُخذوا بالسنين» {أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} أي ألا يعلم ويستقين أولئك المطففون أنهم سيبعثون ليوم عصيب، شديد الهول، كثير الفزع؟! {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} أي يوم يقفون(3/506)
في المحشر حفاةً عراةً، خاشعين خاضعين لرب العالمين قال في البحر: وفي هذا الإِنكار والتعجيب، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس لله خاضعين، ووصفهُ برب العالمين، دليلٌ على عظم هذا الذنب وهو التطفيف، وفي الحديث عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} حتى يغيب أحدهم في رشحه إِلى أنصاف أُذنيه. . ثم ذكر تعالى مآل الفجار، ومآل الأبرار فقال {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ} أي ليرتدع هؤلاء المطففون عن الغفلة عن البعث والجزاء، فإِن كتاب أعمال الأشقياء الفجار، لفي مكان ضيّق في أسفل سافلين {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} استفهام للتعظيم والتهويل أي هل تعلم ما هو سجين؟ {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} أي هو كتاب مكتوبٌ كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى، أُثبتت فيه أعمالهم الشريرة قال ابن كثير: {سِجِّينٌ} مأخوذ من السجن وهو الضيق، ولما كان مصير الفجار إِلى جهنم وهي أسفل سافلين، وهي تجمع الضيق والسفول، أخبر تعالى أنه كتاب مرقوم أي مكتوبٌ مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين {الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين} أي يكذبون بيوم الحساب والجزاء {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي وما يكذب بيوم الحساب والجزاء ألا كل متجاوز الحد في الكفر والضلال، مبالغ في العصيان والطغيان، كثير الآثام، ثم وضّح من إِجرامه فقال {إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} أي إِذا تليت عليه آيات القرآن، الناقطة بحصول البعث والجزاء، قال عنها: هذه حكايات وخرافات الأوائل، سطروها وزخرفوها في كتبهم {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي ليرتدع هذا الفاجر عن ذلك القول الباطل، فليس القرآن أساطير الأولين، بل غطَّى على قلوبهم ما كسبوا من الذنوب، فطمس بصائرهم فصاروا لا يعرفون الرشد من الغي قال المفسرون: الرَّان هو الذنب على الذنب حتى يسودَّ القلب {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} أي ليرتدع هؤلاء المكذبون عن غيهم وضلالهم، فيهم في الآخرة محجوبون عن رؤية المولى جل وعلا فلا يرونه قال الشافعي: وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عَزَّ وَجَلَّ وقال مالك: لما حجب أعداءه لم يروه، تجلَّى لأوليائه حتى رأوه {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم} أي ثم إِنهم مع الحرمان عن رؤية الرحمن، لدخلو الجحيم وذائقو عذابها الأليم {ثُمَّ يُقَالُ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي ثم تقول لهم خزنة جهنم على وجه التقريع والتوبيخ: هذا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا
{أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] ؟ . . وبعد الحديث عن حال الفجار، ذكر تعالى نعيم الأبرار فقال {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ} {كَلاَّ} ردعٌ وزجر أي ليس الأمر كما يزعمون من مساواة الفجار بالأبرار، بل كتابه في سجين، وكتاب الأبرار في عليين، وهو مكان عالٍ مشرَّف في أعلى(3/507)
الجنة، قال في التسهيل: ولفظ {عليين} للمبالغة، وهو مشتق من العلو لأنه سبب في ارتفاع الدرجات في الجنة، أو لأنه في مكان عليٍّ رفيع فقد روي أنه تحت العرش {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} تفخيمٌ وتعظيم لشأنه أي وما أعلمك يا محمد ما هو عليون؟ {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ المقربون} أي كتابٌ الأبرار كتابٌ مسطَّر، مكتوب فيه أعمالهم، وهو في عليين في أعلى درجات الجنة، يشهده المقربون من الملائكة قال المفسرون: إِن روح المؤمن إِذا قُبضت صُعد بها إِلى العرش، فيخرج لهم رقٌّ فيكتب فيه ويختم عليه بالنجاة من الحساب والعذاب يشهده المقربون {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} أي إِن المطيعين لله في الجنات الوارفة، والضلال الممتدة يتنعمون {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} أي هم على السرر المزينة بفاخر الثياب والستور، ينظرون إِلى ما أعدَّ الله لهم من أنواع الكرامة والنعيم في الجنة {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أي إِذا رأيتهم تعرف أنهم أهل نعمة، لما ترى في وجوههم من النور والبياض والحسن، ومن بهجة السرور ورونقه {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} أي يُسقون من خمرٍ في الجنة، بيضاء طيبة صافية، لم تكدرها الأيدي، قد ختم على تلك الأواني فلا يفك ختمها إِلا الأبرار {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي آخر الشراب تفووح منه رائحة المسك {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} أي وفي هذا النعيم والشراب الهنيء، فليرغب بالمبادرة إِلى طاعة الله، وليتسابق المتسابقون قال الطبري: التنافسُ مأخوذ من الشيء النفيس الذي يحرص عليه الناس، وتشتهيه وتطلبه نفوسهم والمعنى فليستبقوا في طلب هذا النعيم، ولتحرص عليه نفوسهم {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} أي يمزج ذلك الرحيق من عينٍ عالية رفيعة، هي أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه تسمى «التسنيم» ولهذا قال بعده {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون} أي هي عينٌ في الجننة يشر منها المقربون صرفاً، وتمزج لسائر أهل الجنة قال في التسهيل: تسنيم أسمٌ لعين في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، ويمزج منه الرحيق الذي يشرب منه الأبرار، فدل ذلك على أن درجة المقربين فوق درجة الأبرار.
. ولما ذكر تعالى نعيم الأبرار، أعقبه بذكر مآل الفجار، تسليةً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم فقال {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} أي أن المجرمين الذين من طبيعتهم الإِجرام وارتكاب الآثام، كانوا في الدنيا يضحكون من المؤمنين استهزاءً بهم قال في التسهيل: نزلت هذه الآية في صناديق قريش كأبي جهل وغيره، مرَّ بهم علي بن أبي طالب وجماعة من المؤمنين، فضحكوا منهم واستخفوا بهم {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} أي وإِذا مرَّ هؤلاء المؤمنين بالكفار، غمز بعضهم بعضاً بأعينهم سخرية واستهزاءً بهم قال المفسرون: كان المشركون إِذا مرَّ بهم أصحاب رسول الله، تغامزوا بأعينهم عليهم احتقاراً لهم وازدراءً يقولون: جاءكم ملوك الدنيا، يسخرون منهم لإِيمانهم واستمساكهم بالدين {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} أي وإِذا انصرف المشركون ورجعوا إلى(3/508)
منازلهم وأهليهم، رجعوا متلذيين يتفكهون بذكر المؤمنين والاستخفاف بهم قال في البحر: أي رجعوا متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم استخفافاً بأهل الإِيمان {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ} أي وإِذا رأى الكفار المؤمنين قالوا: إِن هؤلاء لضالون لإِيمانهم بمحمد، وتركهم شهوات الحياة قال تعالى رداً عليهم {وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} أي وما أُرسل الكفار حافظين على المؤمنين، يحفظون أعمالهم ويشهدون برشدهم أو ضلالهم، وفيه تهكم وسخرية بالكفار كأنه يقول: أنا ما أرسلتهم رقباء، ولا وكلتهم بفحظ أعمال عبادي المؤمنين، حتى يرشدوهم إِلى مصالحهم، فلم يشغلون أنفسهم فيما لا يعنيهم؟ {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} أي ففقي هذا اليوم يوم القيامة يضحك المؤمنون من الكفار، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، جزاءً وفاقاً {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} أي والمؤمنون على أسرَّة الدر والياقوت، ينظرون إِلى الكفار ويضحكون عليهم قال القرطبي: يقال لأهل النار وهم في النار اخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإِذا رأوها قد فتحت أقبلوا إِليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إِليهم على الأرائك، فإِذا انتهوا إِلى أبوابها أغلقت دونهم، فيضحك منهم المؤمنون {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي هل جوزي الكفار في الآخرة بما كنوا يفعلونه بالمؤمنين من السخرية والاستهزاء؟ نعم.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - التنكير للتهويل والتفخيم {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} .
2 - الطباق بي {يَسْتَوْفُونَ} و {يُخْسِرُونَ} .
3 - المقابلة بين حال الفجار والأبرار {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار. .} الخ و {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ. .} الخ.
4 - التفخيم والتعظيم لمراتب الأبرار {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} ؟
5 - جناس الاشتقاق {فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} .
6 - الإِطناب بذكر أوصاف ونعيم المتقين {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} .
7 - التشبيه البليغ {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي كالمسك في الطيب والبهجة، فحذف منه الأداة ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
8 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل {يَضْحَكُونَ، يَنظُرُونَ، يَكْسِبُونَ، يَفْعَلُونَ} الخ.(3/509)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
اللغَة: {كَادِحٌ} الكدح: الجد والاجتهاد وجهد النفس في العمل قال الشاعر:
ومضتْ بشاشةُ كل عيشٍ صالح ... وبقيتُ أكدحُ للحياةِ وأنصب
{يَحُورَ} يرجع يقال: حار يحور إِذا رجع ومنه حديث «أعوذ بك من الحور بعد الكور» أي الرجوع إِلى النقصان بعد الزيادة {الشفق} الحمرة التي تكون بعد مغيب الشمس {وَسَقَ} جمع وضم ولف {اتسق} اجتمع وتكامل وتم نوره {مَمْنُونٍ} مقطوع.
التفسِير: {إِذَا السمآء انشقت} هذه الآيات بيان لأهوال القيامة، وتصويرٌ لما يحدث بين يدي الساعة من كوارث وأهوال يفزع لها الخيال والمعنى: إِذا تشققت السماء وتصدَّعت مؤذنة بخراب الكون قال الألوسي: تنشق لهول يوم القيامة {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وانقادت لحكمه وحُقَّ لها أن تسمع وتطيع وأن تنشق من أهوال القيامة {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ} أي وإِذا الأرض زادت سعة بإِزالة جبالها وآكامها، وصارت مستوية لا بناء فيها ولا وهاد ولا جبال {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أي رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز والمعادن وتخلت عنهم قال القرطبي: أخرجت أماتها وتخلت عنهم، وألقت ما في بطنها من الكنوز والمعادن كما تلقى الحامل ما في بطنها من الحمل، وذلك يؤذن بعظم الهول {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي واستمعت لأمر ربها وأطاعت، وحٌقَّ لها أن تسمع وتطيع. . وجواب {إِذَا} محذوف ليكون أبلغ في التهويل أي إِذا حدث كل ما تقدم، لقي الإِنسان من الشدائد والأهوال، ما لا يحيط به الخيال. . ثم أخبر تعالى عن كدِّ الإِنسان وتعبه في هذه الحياة، وأنه يلقى جزاءه عند الله فقال {ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} الخطاب عام لكل إِنسان أي أنت يا ابن آدم جاهدٌ ومجدٌّ بأعمالك التي عاقبتها الموت، والزمانُ يطير وأنت في كل لحظة تقطع شوطاً من عمرك القصير، فكأنك سائر مسرعٌ إِلى الموت، ثم تلاقي ربك فيكافئك على عملك، إِن كان خيراً فخيرٌ، وإشن كان شراً فشرٌّ قال في البحر: كادحٌ أي جاهد في عملك من خير وشر طول حياتك إِلى لقاء ربك، فملاقٍ جزاء كدحك من ثوابٍ وعقاب. . ثم ذكر تعالى انقسام الناس إِلى سعداء وأشقياء وإِلى من يأخذ كتابه بيمينه، ومن يأخذ كمتابه بشماله فقال {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فأما من أعطي كتاب أعماله بيمينه، وهذه علامة السعادة {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} أي فسوف يكون حسابه سهلاً هيناً، يُجازي على حسناته،(3/511)
ويُتجاوز عن سيئاته، وهذا هو العرضُ كما جاء في الحديث الصحيح {وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي ويرجع إلى أهله في الجنة مبتهجاً مسروراً بما أعطاه الله من الفضل والكرامة {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} أي وأمَّا من أعطي كتاب أعماله بشماله من وراء ظهره، وهذه علامة الشقاوة {فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً} أي يصيح بالويل والثبور، ويتمنى الهلاك والموت {ويصلى سَعِيراً} أي ويدخل ناراً مستعرة، يقاسي عذابها وحرَّها {إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أي لأنه كان في الدنيا مسروراً مع أهله، غافلاً لاهياً، لا يفكر في العواقب، ولا تخطر بباله الآخرة قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء في الدنيا، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، ووصف أهل النار بالسرور بالدنيا والضحك فيها، فأعقبهم به الحزن الطويل {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} أي إنه ظنَّ أن لن يرجع إِلى ربه، ولن يحييه الله بعد موته للحساب والجزاء، فلذلك كفر وفجر {بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} أي بلى سيعيده الله بعد موته، ويجازيه على أعماله كلها خيرها وشرها، فإِنه تعالى مطلع على العباد، لا تخفى عليه خافية من شئونهم {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق} {لاَ} لتأكيد القسم أي فأقسم قسماً مؤكداً بحمرة الأفق بعد غروب الشمس {والليل وَمَا وَسَقَ} أي وبالليل وما جمع وضمَّ إِليه، وما لفَّ في ظلمته من الناس والدواب والأنعام، فكلٌ يأوي إِلى مكانه وسربه، ولهذا امتن تعالى على العباد فقال
{وَجَعَلَ الليل سَكَناً} [الأنعام: 96] فإِذا جاء النهار انتشروا، وإِذا جاء الليل أوى كل شيء إِلى مأواه {والقمر إِذَا اتسق} أي وأقسمُ بالقمر إِذا تكامل ضوءه ونوره، وصار بدراً ساطعاً مضيئاً {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} هذا جواب القسم أي لتلاقُنَّ يا مشعر الناس أهوالاً وشدائد في الآخرة عصيبة قال الألوسي: يعني لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض، وهي الموتُ وما بعده من مواطن القيامة وأهولها وقال الطبري: المراد أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالاً {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} استفهام يقصد به التوبيخ أي فيما لهؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله، ولا يصدّقون بالعبث بعد الموت، بعد وضوح الدلائل وقيام البراهين على قوعه؟ {وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ} أي وإِذا سمعوا آيات القرآن، لم يخضعوا ولم يسجدوا للرحمن؟ {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ} أي بل طبيعة هؤلاء الكفار التكذيب والعناد والجحود، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته {والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} أي والله أعلم بما يجمعون في صدورهم من الكفر والتكذيب قال ابن عباس: {يُوعُونَ} أي يضمرون من عداوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين {فَبَشِّرْهُمْ(3/512)
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فبشرهم على كفره وضلالهم بعذاب مؤلم موجع، واجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم قال في التسهيل: ووضع البشارة في موضع الإِنذار تهكم بالكفار {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي لكنْ الذين صدَّقوا الله ورسوله، وجمعا بين الإِيمان وصالح الأعمال {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي لهم ثوابٌ في الآخرة غير منقوص ولا مقطوع، بل هو دائم مستمر.
ختم تعالى السورة الكريمة ببيان نعيم الأبرار، بعد أن ذكر مآل الفجار، وهو توضيح لما أجمله في أول السورة من ملاقاة كل عامل لجزائه في قوله {ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ} .
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين لفظ {السمآء} و {الأرض} .
2 - المقابلة بين {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وبين {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ} .
3 - الكناية {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} كنَّى به عن الشدة والأهوال التي يلقاها الإِنسان.
4 - الجناس الناقص بين كلمتي {وَسَقَ} و {اتسق} .
5 - الأسلوب التهكمي {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} استعمال البشارة في موضع الإِنذار تهكم وسخرية بالكفار.
6 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} ومثل {فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق والليل وَمَا وَسَقَ والقمر إِذَا اتسق لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} ويسمى وهو من المحسنات البديعية.(3/513)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
اللغَة: {الأخدود} الشق العظيم المستطيل في الأرض كالخندق، وجمعه أخاديد {قُتِلَ} لُعن أشدَّ اللعن {نَقَمُواْ} عابوا وكرهوا {بَطْشَ} البطش: الأخذ بشدة {يُبْدِىءُ} يخلق ابتداءً بقدرته {المجيد} العظيم الجليل المتعالي.
التفسِير: {والسمآء ذَاتِ البروج} أي وأُقسم بالسماء البديعة ذات المنازل الرفيعة، التي تنزلها الكواكب أثناء سيرها قال المفسرون: سميت هذه المنازل بروجاً لظهروها، وشبهت بالصور لعلوها وارتفاعها لأنها منازل للكواكب السيارة {واليوم الموعود} أي وأُقسم باليوم الموعود وهو يوم القيامة، الذي وعد الله به الخلائق بقوله {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} [النساء: 87] {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} أي وأُقسم بمحمد والأنبياء الذين يشهدون على أممهم يوم القيامة، وبجميع الأمم والخلائق الذين يجتمعون في أرض المحشر للحساب كقوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] وقيل: الشاهد هذه الأمة، المشهود سائر الأمم ودليله {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود} هذا هو جواب القسم، والجملة دعائية أي قاتل الله ولعن أصحاب الأخدود، الذين شقوا الأرض طولاً وجعلوها أخاديد، وأضرموا فيها النار ليحرقوا بها المؤمنين قال القرطبي: الأخدودُ الشقُّ العظيم المستطيل في الأرض كالخندق وجمعه أخاديد، ومعنى {قُتِلَ} أي لعن، قال ابن عباس: كل شيءٍ في القرآن {قُتِلَ} لهو لعن. . ثم فصَّل تعالى المراد من الأخدود فقال {النار ذَاتِ الوقود} أي النار العظيمة المتأججة، ذات الحطب واللهب، التي أضرمها الكفار في تلك الأخاديد لإِحراق المؤمنين قال أبو السعود: وهذا وصف لها بغاية العظم، وارتفاع اللهب، وكثرة ما فيها من الحطب، والقصدُ وصف النار بالشدة والهول. . ثم بالغ تعالى في وصف المجرمين فقال {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ} أي حين هم جلوس حول النار.(3/515)
يتشفون بإِحراق المؤمنين فيها، ويشهدون ذلك الفعل الشنيع والغرضُ تخويف كفار قريش، فقد كانوا يعذبون من أسلم من قومهم، ليرجعوا عن الإِسلام، فذكر الله تعالى قصة «أصحاب الأخدود» وعيداً للكفار، وتسليةً للمؤمنين المعذبين، ثم قال تعالى {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد} أي وما كان لهم ذنب ولا انتقموا منهم، إِلا لأنهم آمنوا بالله العزيز الحميد الغالب الذي لا يُضام من لاذَ بجانبه، الحميد في جمعي أقواله وأفعاله، والغرضُ أن سبب البطش بهم، وتحرقيهم بالنار، لم يكن إِلا إيمانهم بالله الواحد الأحد، وهذا ليس بذنب يستحقون به العقوبة، ولكنه الطغيان والإِجرام {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} أي هذا الإله الجليل المالك لجميع الكائنات، المستحق للمجد والثناء قال في البحر: وإِنما ذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به، وهي كونه تعالى {عَزِيزاً} أي غالباً قادراً يُخشى عقابه {حَمِيداً} أي منعماً يجب له الحمد على نعمه {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} أي وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له، إِنما ذكر ذلك تقريراً لأن ما نقموه منهم هو الحقُّ الذي لا ينقمه إِلا مبطلٌ منهمك في الغيّ {والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي هو تعالى مطلَّع على أعمال عباده، لا تخفى عليه خافية من شئونهم، وفيه وعدٌ للمؤمنين، ووعيدٌ للمجرمين.
. ثم شدَّد تعالى النكير على المجرمين الذين عذبوا المؤمين فقال {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} أي عذبوا وأحرقوا المؤمنين والمؤمنات بالنار ليفتنوهم عن دينهم {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} أي ثم لم يرجعوا عن كفرهم وطغيانهم {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} أي فلهم عذاب جهنم المخزي بكفرهم، ولهم العذاب المحرق إِحراقهم المؤمنين. . ولما ذكر مصير المجرمين أعقبه بذكر مصير المؤمنين فقال {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي الذين جمعوا بين الإِيمانت الصادق والعمل الصالح {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي لهم البساتين والحدائق الزاهرة، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة قال الطبري: هي أنهار الخمر واللبن والعسل {ذَلِكَ الفوز الكبير} أي ذلك هو الظفر العظيم بغاية المطلوب، الذي لا سعادة ولا فوز بعده. . ثم أخبر تعالى عن انتقامه الشديد من أعداء رسله وأوليائه فقال {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أي إِن انتقام اله وأخذه الجبابرة والظلمة، بالغ الغاية في الشدة قال أبو السعود: البطش الأخذ بعنف، وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، وهو بطشه بالجبابرة والظلمة وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ} أي هو جل وعلا الخالق القادر، الذي يبدأ الخلق من العدم، ثم يعيدهم أحياء بعد الموت {وَهُوَ الغفور الودود} أي وهو الساتر لذنوب عباده المؤمنين، اللطيف المحسن إِلى أوليائه، المحبُّ لهم قال ابن عباس: يودُّ أولياءه كما يودُّ أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة {ذُو العرش} أي(3/516)
صاحب العرش العظيم، وإنما أضاف العرش إلى الله وخصَّه بالذكر، لأن العرش أعظم المخلوقات، وأوسعُ من السمواتِ السبع، وخلقُه بهذا الوصف يدل على عظمة خالقه {المجيد} أي هو تعالى المجيدُ، العالي على جميع الخلائق، المتصف بجميع صفات الجلال والكمال {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} أي يفعل ما يشاء، ويحكم ما ريد، لا معقب لحكمه ولا رادَّ لقضائه قال القرطبي: أي لا يمتنع عليه شيء يريده. روي أن أبا بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إِليك الطبيبُ؟ قال: نعم، قالوا: فماذا قال لك؟ قال قال لي: (ِإِني فعَّالٌ لما أريد) {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود} ؟ استفهامٌ للتشويق أي هل بلغك يا محمد خبر الجموع الكافرة، الذين تجنَّدوا لحرب الرسل والأنبياء؟ هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وما أنزل عليهم من النقمة والعذاب؟ قال القرطبي: يؤنسه بذلك ويسليه، ثم بيَّن تعالى من هم فقال {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أي هم فرعون وثمود، أولي البأس والشدة، فقد كانوا اشد بأساً، وأقوى مراساً من قومك، ومع ذلك فقد أخذهم الله تعالى بذنوبهم {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ} أي لم يعتبر كفار قريش بما حلَّ بأولئك الكفرة المكذبين، بل هم مستمرون في التكذيب فهم أشد منهم كفراً وطغياناً {والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ} أي والله تعالى قادرٌ عليهم، لا يفوتونه ولا يعجزونه، لأنهم في قبضته في كل حينٍ وزمان {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} أي بل هذا الذي كذبوا به، كتابٌ عظيم شريف، متناهٍ في الشرف والمكانة، قد سما على سائر الكتب السماوية، في إِعجازه ونظمه وصحة معانيه {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} أي هو في اللوح المحفوظ الذي في السماء، محفوظٍ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل.
البَلاَغَة: تضمنت السورة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بي {يُبْدِىءُ. . وَيُعِيدُ} .
2 - جناس الاشتقاق {وَشَاهِدٍ. . وَمَشْهُودٍ} .
3 - تأكيد المدح بما يشبه الذم {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد} كأنه يقول: ليس لهم جريمة إِلا إِيمانهم بالله، وهذا من أعظم المفاخر والمآثر.
4 - المقابلة بين مصير المؤمنين ومصير المجرمين {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} الآية قابلة قوله {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جَنَّاتٌ. .} الخ.
5 - أسلوب التشويق لاستماع الققصة {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود} ؟
6 - صيغة المبالغة مثل {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} {العزيز الحميد} وأمثال ذلك.
7 - توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات مثل {واليوم الموعود وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود النار ذَاتِ الوقود. .} الخ وهو من المحسنات البديعية ويسمى بالسجع والله أعلم.(3/517)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
اللغَة: {الطارق} مأخوذ من الطرق بمعنى الضرب بشدة ومنه المطرقة، وكل ما جاء بليل يسمى طارقاً {دَافِقٍ} مصبوب بقوة وشدة يقال: دفق الماء دفقاً إِذا انصبَّ بدفع وشدة {الترآئب} عظام الصدر جمع تربية مثل فصيلة وفصائل قال امرؤ القيس:
«تَرائبُها مصقولةٌ كسجنجل» ... {الرجع} المطر سمي به لرجوعه إِلى الأرض مراراً {الصدع} النبات الذي تنشق عنه الأرض {رُوَيْداً} قليلاً أو قريباً.
التفسِير: {والسمآء والطارق} أي أٌقسم بالسماء وبالكواكب النيرة، التي تظهر ليلاً وتختفي نهاراً قال المفسرون: سُمي النجم طارقاً لأنه إِنما يظهر بالليل ويختفي بالنهار، وكلُّ ما يجيء ليلاً فهو طارق {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق} استفهام للتفخيم والتعظيم أي وما الذي أعلمك يا محمد ما حقيقة هذا النجم؟ ثم فسره بقوله {النجم الثاقب} أي النجم المضيء الذي يثقب الظلام بضيائه قال الصاوي: قد كثر منه تعالى في كتابه المجيد ذكرُ الشمس والقمر والنجوم، لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها، ومغاربها عجيبة دالة على انفراد خالقها بالكمالات، لأن الصّنعة تدل على الصانع {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} هذا جواب القسم أي ما كلُّ نفسٍ إِلا عليها حافظ من الملائكة، يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خيرٍ وشر كقوله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10 11] قال ابن كثير: أي كلُّ نفسٍ عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات. . ثم أمر تعالى بالنظر والتفكر في خلق الإِنسان، تنبيهاً على إِمكان البعث والحشر فقال {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ} ؟ أي فلينظر الإِنسان في أول نشأته نظرة تكفرٍ واعتبار، من أي شيءٍ خلقه الله؟ {خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} أي خلق من المنيّ المتدفق، الذي ينصب بقوةٍ وشدة، يتدفق من الرجل والمرأة فيتكون منه الولد بإِذن الله {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب} أي يخرج هذا الماء من بين الصلب وعظم الصدر، من الرجل والمرأة {إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} أي إِن الله تعالى الذي خلق الإِنسان ابتداءً، قادر على إِعادته بعد موته قال بن كثير: نبه تعالى الإِنسان على ضعف أصله الذي خلق منه، وأرشده إِلى الاعتراف بالمعاد، لأن من قدر على البداءة، فهو قادر على الإِعادة بطريق الأول {يَوْمَ تبلى السرآئر} أي يوم تمتحن القلوب وتختبر، ويُعرف ما بها من العقائد والنيات، ويميز بين ما طاب منها وما خبث {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ} أي فليس للإِنسان في ذلك الوقت قوة تدفع عنه العذاب، ولا ناصر ينصره ويجيره، قال في التسهيل: لما كان دفع المكاره في الدنيا إِما بقوة الإِنسان، أو بنصرة غيره له، أخبره الله تعالى أنه يعدمها يوم القيامة، فلا قوة له في نفسه، ولا أحد ينصره من الله.(3/519)
ولما ذكر تعالى أمر المبدأ والمعاد، عاد فأقسم على صدق هذا الكتاب المعجز فقال {والسمآء ذَاتِ الرجع} أي أُقسم بالسماء ذات المطر، الذي يرجع على العباد حيناً بعد حين قال ابن عباس: الرَّجع المطرُ ولولاه لهلك الناس وهلكت مواشيهم {والأرض ذَاتِ الصدع} أي وأُقسم بالأرض التي تتصدع وتنشق، فيخرج منها النبات والأشجار والأزهار قال ابن عباس: هو انصداعها عن النبات والثمار. . أقسم سبحانه وتعالى بالسماء التي تفيض علينا الماء، والأرض التي تخرج لنا الثمار والنبات، والسماء للخلق كالأب، والأرض لهم كالأم، ومن بينهما تتولد النعم العظيمة، والخيرات العميمة، التي بها بقاء الإِنسان والحيوان {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أي إِن هذا القرآن لقولٌ فاصل بين الحق والباطل، قد بلغ الغاية في بيانه وتشريعه وإِعجازه {وَمَا هوَ بالهزل} أي ليس فيه شيءٌ من اللهو والباطل والعبث، بل هو جدٌّ كله، لأنه كلام أحكم الحاكمين، فجديرٌ بقارئه أن يتعظ بآياته، ويستنير بتوجيهاته وإِرشاداته {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} أي إِن هؤلاء المشركين كفار مكة يعملون المكايد لإِطفاء نور الله، وإِبطال شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَأَكِيدُ كَيْداً} أي وأجازيهم على كيدهم بالإِمهال ثم النكال، حيث آخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر كقوله تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] قال أبو السعود: أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث استدرجهم من حيث لا يعلمون {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} أي لا تستعجل في هلاكهم والانتقام منهم، وأُمهلهم قليلاً فسوف ترى ما أصنع بهم، وهذا منتهى الوعيد والتهديد.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الاستفهام للتفخيم والتعظيم {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق} ؟
2 - الطباق بين {السمآء والأرض} وبين {الفصل والهزل} .
3 - جناس الاشتقاق {يَكِيدُونَ كَيْداً} .
4 - الإِطناب بتكرار الفعل مبالغة في الوعيد {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} .
5 - الكناية اللطيفة {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب} كنَّى بالصلب عن الرجل، وبالترائب عن المرأمة، وهذا من لطيف الكنايات.
6 - السجع الرصين الذي يزيد في جمال الأسلوب ورشاقته ونضارته مثل {والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع} ومثل {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بالهزل} وهو من المحسنات البديعية.(3/520)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
اللغَة: {غُثَآءً} الغُثاء: ما يقذف به السيل على جانب الوادي ن الحشائش والأوراق والنباتات {أحوى} أسود مأخوذ من الحُوة وهي السواد أو السمرة {يَصْلَى} يدخل ويقاسي حرّها يقال: أصليتُه ناراً وجعلته يذوق حرها.(3/521)
التفسِير: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} أي نزِّه يا محمد ربك العلي الكبير عن صفات النقص، وعما يقوله الظالمون، مما لا يليق به سبحانه وتعالى من النقائص والقبائح، وفي الحديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا قرأ هذه الآية قال: «سبحانه ربي الأعلى» . ثم ذكر من أوصافه الجليلة، ومظاهر قدرته الباهرة، ودلائل وحدانيته وكماله فقال {الذي خَلَقَ فسوى} أي خلق المخلوقات جميعها، فأتقن خلقها، وأبدع صنعها، في أجمل الأشكال، وأحسن الهيئات قال في البحر: أي خلق كل شيء فسواه، بحيث لم يأت متفاوتاً، بل متناسباً على إحكام وإتقان، للدلالة على أنه صادر من عالم حكيم {والذي قَدَّرَ فهدى} أي قدَّر في كل شيء خواصه ومزاياه بما تجلُّ عنه العقول والأفهام، وهدى الإِنسان لوجه الانتفاع بما أودعه فيها، وهدى الإِنعام إلى مراعيها، ولو تأملت ما في النباتات من الخواص، وما في المعادن من المزايا والمنافع، واهتداء الإِنسان لاستخراج الأدوية والعقاقير النافعة من النباتات، واستخدام المعادن في صنع المدافع والطائرات، لعلمتَ حكمةَ العلي القدير، الذي لولا تقديره وهدايته لكنا نهيم في دياجير الظلام كسائر الأنعام قال المفسرون: إِنما حذف المفعول لإِفادة العموم أي قدَّر لكل مخلوق وحيوان ما يصلحه، فهداه إِليه وعَرَّفه وجه الانتفاع به {والذي أَخْرَجَ المرعى} أي أنبت ما ترعاه الدواب، من الحشائش والأعشاب {فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى} أي فصيِّره بعد الخضرة أسود بالياً، بعد أن كان ناضراً زاهياً، ولا يخفى ما في المرعى من المنفعة بعد صيرورته هشيماً ياسباً، فإنه يكون طعاماً جيداً لكثير من الحيوانات، فسبحان من أحكم كل شيء و {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] !! وبعد أن ذكر دلائل قدرته ووحدانيته، ذكر فضله وإنعامه على رسوله فقال {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} أي سنقرئك يا محمد هذا القرآن العظيم فتحفظه في صدرك ولا تنساه {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أي لكن ما أراد الله نسخه فإنك تنساه. . وفي هذه الآية معجزة له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، لأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه السلام، وكونه يحفظ هذا الكتاب العظيم من غير دراسة ولا تكرار ولا ينساه أبداً، من أعظم البراهين على صدق نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال ابن كثير: هذا إخبار من الله تعالى ووعدٌ لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} أي هو تعالى عالم بما يجهر به العباد وما يخفونه من الأقوال والأفعال، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وَنُيَسِّرُكَ لليسرى} أي ونوفقك للشريعة السمحة البالغة اليسر، التي هي أيسر وأسهل الشرائع السماوية، وهي شريعة الإِسلام {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى} أي فذكر يا محمد بهذا القرآن حيث تنفع الموعظة والتذكرة كقوله
{فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] قال ابن كثير: ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا فتنة لبعضهم» وقال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله «؟ {سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى} أي سينتفع بهذه الذكرى والموعظة من يخاف الله تعالى {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} أي ويرفضها(3/522)
ويبتعد عن قبول الموعظة الكافر المبالغ في الشقاوة {الذى يَصْلَى النار الكبرى} أي الذي يدخل نار جهنم المستعرة، العظيمة الفظيعة قال الحسن: النار الكبرى نارُ الآخرة، والصغرى نارُ الدنيا {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا الحياة الطيبة الكريمة، بل هو دائم في العذاب والشقاء {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} أي قد فاز من طهَّر نفسه بالإِيمان، وأخلص عمله للرحمن {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} أي وذكر عظمة ربه وجلاله، فصلى خشوعاً وامتثالا لأمره {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا} أي بل تفضلون أيها الناس هذه الحياة الفانية على الآخرة الباقية، فتشتغلون لها وتنسون الآخرة {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} أي والحال أن الآخرة خيرٌ من الدنيا وأبقى، لأن الدنيا فانية، والآخرة باقية، والباقي خيرٌ من الفاني، فكيف يؤثر عاقلٌ ما يفنى على ما يبقى؟ وكيف يهتم الغرور، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلود؟ قرأ ابن مسعود هذه الآية فقال لأصحابه: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قالوا: لا، قال: لأن الدنيا أحضرت وعجلت لنا بطعامها، وشرابها، ونسائها، ولذاتها، وبهجتها، وإن الآخرة غُيبتْ وزُويت عنا، فأحببنا العاجل، وتركنا الآجل {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} أي إن هذه المواعظ المذكورة في هذه السورة، مثبتة في الصحف القديمة المنزلة على إِبراهيم وموسى عليهما السلام، فهي مما توافقت فيه الشرائع، وسطرته الكتب السماوية، كما سطره هذا الكتاب المجيد.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق {لاَ يَمُوتُ. . وَلاَ يَحْيَا} وكذلك {الجهر. . وَمَا يخفى} .
2 - جناس الاشتقاق {نُيَسِّرُكَ لليسرى} و {ذَكِّرْ. . والذكرى} .
3 - المقابلة بين {سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى} وبين {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى} .
4 - حذف المفعول ليفيد العموم في قوله {خَلَقَ فسوى} وفي {قَدَّرَ فهدى} لأن المراد خلق كل شيء فسواه، وقدر كل شيء فهداه.
5 - السجع غير المتكلف وهو كثير في القرآن مثل {أَخْرَجَ المرعى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: صحف موسى غير التوراة، وقد رود أنه أعطي عشر صحف وكانت كلها عبراً، قال أبو ذر: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن صحف موسى ما كانت؟ قال: كانت عبراً كلها (عجبتُ لمن أيقن بالموت كيف يفرح {عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك} عجبتُ لمن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها كيف يطمئن إليها {عجبت لمن أيقن بالقَدَر ثم ينصب} عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل!!)(3/523)