القدسي:
«يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيدُ، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغْفرُ» فالزيادة في الحسنات من باب الفضل، والمعاملة بالمثل في السيئات من باب العدل {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين إِن ربي هداني إِلى الطريق القويم وأرشدني إِلى الدين الحق دين إِبراهيم {دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أي ديناً مستقيماً لا عوج فيه هو دين الحنيفية السمحة الذي جاء به إِمام الحنفاء إِبراهيم الخليل {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي وما كان إِبراهيم مشركاً، وفيه تعريضٌ بإِشراك من خالف دين الإِسلام لخروجه عن دين إِبراهيم {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي} أي قل يا محمد إِنَّ صلاتي التي أعبد بها ربي {وَنُسُكِي} أي ذبحي {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} أي حياتي ووفاتي وما أقدّمه في هذه الحياة من خيرات وطاعات {للَّهِ رَبِّ العالمين} أي ذلك كله لله خالصاً له دون ما أشركتم به {لاَ شَرِيكَ لَهُ} أي لا أعبد غير الله {وبذلك أُمِرْتُ} أي بإِخلاص العبادة لله وحده أُمرتُ {وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} أي أولُّ من أقرَّ وأذعنَ وخضع لله جلّ وعلا {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً} تقريرٌ وتوبيخ للكفار، وسببها أنهم دعوة إِلى عبادة آلهتهم والمعنى: قل يا محمد أأطلب رباص غير الله تعالى؟ {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} أي والحال هو خالق ومالك كل شيء فكيف يليق أن أتخذ إِلهاً غير الله؟ {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} أي لا تكون جناية نفسٍ من النفوس إِلا عليها {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي لا يحمل أحدٌ ذنب أحد، ولا يؤاخذ إِنسانٌ بجريرة غيره {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} وهذا وعيدٌ وتهديد أي مرجعكم إِليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم ويميز بين المحسن والمسيء {وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض} أي جعلكم خلفاً للأمم الماضية والقرون السالفة يخلف بعضكم بعضاً قال الطبري: أي استخلفكم بعد أن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية فجعلكم خلائف منهم في الأرض تخلفونهم فيها {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي خالف بين أحوالكم في الغنى والفقر، والعلم والجهل، والقوة والضعف وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ} أي ليختبر شكركم على ما أعطاكم قال ابن الجوزي: أي ليختبركم فيظهر منكم ما يكون به الثواب والعقاب {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إِن ربك سريع العقاب لمن عصاه وغفور رحيم لمن أطاعه، قال في التسهيل: جمع بين الخوف والرجاء، وسرعة العقاب إِما في الدنيا بتعجيل الأخذ أو في الآخرة لأن كل ما هو آتٍ قريب.
البَلاَغَة: 1 - {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} السُّبل استعارة عن البدع والضلالات والمذاهب المنحرفة.
2 - {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً} التنكير لإِفادة العموم والشمول.(1/400)
3 - {وَبِعَهْدِ الله} الإِضافة للتشريف والتعظيم.
4 - {يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا} وضع الظاهر مكان الضمير {عَنْهَا} لتسجيل شناعة وقباحة طغيانهم.
5 - {قُلِ انتظروا} الأمر للتهديد والوعيد.
6 - {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا ... } الآية اشتمل هذا الكلام على النوع المعروف من علم البيان باللَّف وأصل الكلام: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً لم تكن مؤمنةً قبلُ إيمانُها بعدُ، ولا نفساً لم تكسب في إِيمانها خيراً قبلُ ما تكسبه من الخير بعد، إِلا أنه لفّ الكلامين فجعلهما كلاماً واحداً بلاغة واختصاراً وإِعجازاً، أفاده صاحب الانتصاف.
7 - {ظَهَرَ} و {بَطَنَ} طباق وبين {الحسنة} و {السيئة} طباق كذلك وهو من المحسنات البديعية.
8 - {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} قال الشريف الرضي: ليس هناك على الحقيقة أحمال على الظهور وإِنما هي أثقال الآثام والذنوب فهو من الاستعارة اللطيفة.
فَائِدَة: وحّد تعالى {سَبِيلِهِ} لأن الحق واحد وجمع {السبل} لأن طرق الضلالة كثيرة ومتشعبة.
تنبيه: قال الحافظ ابن كثير: كثيراً ما يقرن تبارك وتعالى في القرآن بين هاتين الصفتين {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} كقوله تعالى {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} [الحجر: 49 - 50] إِلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب، فتارةً يدعو عباده إِليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إِليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهما لينجع في كلٍ بحسبه.(1/401)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
اللغَة: {حَرَجٌ} ضيق يقال: حَرج المكانُ أو الصدرُ إِذا ضاق {بَيَاتاً} قال الراغب: البَيَاتُ والتبيتُ: قصدُ العدو ليلاً {قَآئِلُونَ} من القيلولة وهي النوم وسط النهار، والقائلة: الظهيرة {مَذْءُوماً} مذموماً يقال ذأمه أي ذمه وحقَّره {مَّدْحُوراً} مطروداً يقال دحره أي طرده وأبعده {سَوْءَاتِهِمَآ} السوأة: العورة سميت بذلك لأن الإِنسان يسوءه ظهورها {طَفِقَا} شرعاً وأخذا يقال: طفِق يطفق إِذا ابتدأ وأخذ {يَخْصِفَانِ} يرقعان ويلزقان {رِيشاً} لباساً تتجملون به وأصل الريش: المالُ والجمال ومنه ريش الطير لأنه زينةٌ له وجمال {قَبِيلُهُ} جنوده وأصل القبيل: الجماعةُ سواءً(1/404)
كانوا من أصلٍ أو أصول شتى {فَاحِشَةً} الفاحشة هي الشيء الذي تناهى قبحه والمراد بها هنا الطوافُ حول البيت عراةً وكل أمرٍ قبيح يسمى فاحشة، والفحشاء ما اشتد قبحه من الذنوب كالفاحشة.
التفِسير: {المص} تقدم في أول سورة البقرة الكلام عن الحروف المقطّعة وأن الحكمة في ذكرها بيان «إِعجاز القرآن» بالإِشارة إِلى أنه مركب من أمثال هذه الحروف ومع ذلك فقد عجز بلغاؤهم وفصحاؤهم وعباقرتهم عن الإِتيان بمثله وروي عن ابن عباس معناه: أنا الله أعلم وأَفْصِل، وقال أبو العالية: الألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والصاد مفتاح اسمه صادق {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي هذا كتاب أنزله الله إِليك يا محمد وهو القرآن {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} أي لا يضقْ صدرك من تبليغه خوفاً من تكذيب قومك {لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي لتنذر بالقرآن من يخاف الرحمن، ولتذكر وتعظ به المؤمنين لأنهم المنتفعون به {اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} أي اتبعوا أيها الناس القرآن الذي فيه الهدى والنور والبيان المنزّل إِليكم من ربكم {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} أي ولا تتخذوا أولياء من دون الله كالأوثان والرهبان والكُهّان تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يشرعون لكم {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تتذكّرون تذكراً قليلاً قال الخازن: أي ما تتعظون إِلا قليلاً {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي وكثير من القرى أهلكناها والمراد بالقرية أهلُها {فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً} أي جاءها عذابنا ليلاً {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} أي جاءهم العذاب في وقت القيلولة وهي النوم في وسط النهار قال أبو حيان: وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أشق وأفظع لأنه يكون على غفلةٍ من المهلكين {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم حين شاهدوا العذاب ورأوا أماراته {إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي إِلا اعترافهم بظلمهم تحسراً وندامة، وهيهات أن ينفع الندم {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي لنسألن الأمم قاطبة هل بلّغكم الرسل وماذا أجبتم؟ والمقصودُ من هذا السؤال التقريع والتوبيخ للكفار {وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} أي لنسألنَّ الرسل أيضاً هل بلّغوا الرسالة وأدوا الأمانة؟ قال في البحر: وسؤال الأمم تقريرٌ وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة نكالاً وعذاباً، وسؤال الرسل تأنيسٌ يعقب الأنبياء كرامة وثواباً {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} أي فلنخبرنهم بما فعلوا عن علمٍ منا قال ابن عباس: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} أي ما كنا غائبين عنهم حتى يخفى علينا شيء من أحوالهم قال ابن كثير: يخبر تعالى عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير: وجليل وحقير، لأنه تعالى الشهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} أي والوزن للأعمال يوم القيامة كائن بالعدل ولا يظلم ربك أحداً {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أي فمن رجحت موازين أعماله بالإِيمان وكثرة الحسنات {فأولئك هُمُ المفلحون} أي الناجون غداً من العذاب الفائزون(1/405)
بجزيل الثواب {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي ومن خفت موازين أعماله بسبب الكفر واجتراح السيئات {فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم} أي خسروا أنفسهم وسعادتهم {بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} أي بسبب كفرهم وجحودهم بآيات الله، قال ابن كثير: والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل: الأعمال وإِن كانت أعراضاً إِلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً يروى هذا عن ابن عباس، وقيل: يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة، وقيل: يوزن صاحب العمل كما في الحديث
«يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة» والكل صحيح فتارةً توزن الأعمال، وتارةً محالها، وتارة يوزن فاعلها والله أعلم أقول: لا غرابة في وزن الأعمال ووزن الحسنات والسيئات بالذات، فإِذا كان العلم الحديث قد كشف لنا عن موازين للحر والبرد، واتجاه الرياح والأمطار، أفيعجز القادر على كل شيء عن وضع موازين لأعمال البشر؟ {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض} أي جعلنا لكم أيها الناس في الأرض مكاناً وقراراً قال البيضاوي: أي مكناكم من سكناها وزرعها والتصرف فيها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب وسائر ما تكون به الحياة {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي ومع هذا الفضل والإِنعام قليل منكم من يشكر ربه كقوله {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} أي خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوَّر ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم، وإِنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له لأنه أبو البشر {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} أي ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم تكريماً له ولذريته {فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} أي سجد الملائكة كلهم أجمعون إِلا إِبليس امتنع من السجود تكبراص وعناداً، والاستثناء منطقع لأنه استثناء من غير الجنس وقد تقدم قول الحسن البصري: لم يكن إِبليسُ من الملائكة طرفة عين {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} أي قال تعالى لإِبليس أيُّ شيء منعك أن تدع السجود لآدم؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} أي قال إِبليس اللعين أنا أفضل من آدم وأشرف منه فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ ثم ذكر العلة في الامتناع فقال {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} أي أنا أشرف منه لشرف عنصري على عنصره، لأنني مخلوق من نار والنار أشرف من الطين، ولم ينظر المسكين لأمر من أمره بالسجود وهو الله تعالى قال ابن كثير: نظر اللعين إِلى أصل العنصر ولم ينظر إِلى التشريف والتعظيم وهو أن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياساً فاسداً فأخطأ قبّحه الله في قياسه في دعواه أن النار أشرف من الطين، فإِن الطين من شأنه الرزانة والحلم، والنار من شأنها الإِحراق والطيش، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإِصلاح والنار محل العذاب ولهذا خان إِبليس عنصره فأورثه الهلاك والشقاء والدمار قال ابن سيرين: أول من قاس إِبليس فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إِبليس {قَالَ فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي اهبط من الجنة فما يصح ولا يستقيم ولا ينبغي أن تستكبر عن طاعتي وأمري وتسكن(1/406)
دار قدسي {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} أي الذليلين الحقيرين قال الزمخشري: وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبسه الله الذل والصغار فمن تواضع لله رفعه ومن تكبّر على الله وضعه {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} استدرك اللعين فطلب من الله الإِمهال إِلى يوم البعث لينجو من الموت لأن يوم البعث لا موت بعده فأجابه تعالى بقوله {قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} قال ابن عباس: أنظره إِلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم وكان طلب الإِنظار إِلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه ويؤيده الآية الأخرى
{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 37 - 38] {قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} أي فبسبب إِغوائك وإِضلالك لي لأقعدنَّ لآدم وذريته على طريق الحق وسبيل النجاة الموصل للجنة كما يقعد القُطّاع للسابلة {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} أي آتي عبادك من كل جهة من الجهات الأربع لأصدّهم عن دينك قال الطبري: معناه لآتينهم من جميع وجوه الحق والباطل، فأصدهم عن الحق وأحسّن لهم الباطل قال ابن عباس: ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} أي مؤمنين مطيعين شاكرين لنعمك {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} أي اخرج من الجنة مذموماً معيباً مطروداً من رحمتي {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} اللام موطئة للقسم أي لمن أطاعك من الإِنس والجن لأملأنَّ جهنم من الأتباع الغاوين أجمعين، وهو وعيد بالعذاب لكل من انقاد للشيطان وترك أمر الرحمن {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} أي وقلنا يا آدم اسكن مع زوجك حواء الجنة بعد أن أُهبط منها إبليس وأخرج وطرد {فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} أي كلا من ثمارها من أي مكان شئتما {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} أباح لهما الأكل من جميع ثمارها إِلا شجرة عيّنها لهما ونهاهما عن الأكل منها ابتلاءً وامتحاناً فعند ذلك حسدهما الشيطان وسعى في الوسوسة والمكر والخديعة {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} أي ألقى لهما بصوتٍ خفي لإِغرائهما بالأكل من الشجرة {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا} أي ليظهر لهما ما كان مستوراص من العورات التي يقبح كشفها {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} وهذا توضيح لوسوسة اللعين أي قال في وسوسته لهما: ما نهاكما ربكما عن الأكل من الشجرة إِلا كراهية أن تكونا مَلكَين أو تصبحا من المخلّدين في الجنة {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما وقد يُخْدع المؤمن بالله قال الألوسي: وإِنما عبّر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحداً في فعلٍ يجدُّ فيه {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} أي خدعهما بما غرهما به من القسم بالله قال ابن عباس: غرهما باليمين وكان آدم يظن أنه لا يحلف أحدٌ بالله كاذباً فغرهما بوسوسته وقسمه لهما {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} أي فلما أكلا من الشجرة ظهرت عوراتهما قال الكلبي: تهافت عنهما لباسهما فأبصر كلٌ منهما عورة صاحبه فاستحيا {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن(1/407)
وَرَقِ الجنة} أي أخذا وشرعا يلصقان ورقة على ورقة ليستترا به بعد أن كانت كسوتهما من حلل الجنة قال القرطبي: أي جعلا يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به ومنه خصف النعل وعن وهب ابن منبه قال: كان لباس آدم وحواء نوراً على فروجهما لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا فلما أصاب الخطيئة بدت لهما سوآتهما {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} أي ناداهما الله بطريق العتاب والتوبيخ قائلاً: أَلم أحذركما من الأكل من هذه الشجرة وأخبركما بعداوة الشيطان اللعين؟ روى أنه تعالى قال لآدم: ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحةٌ عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى وعزتك ولكنْ ما ظننتُ أن أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً قال: فوعزتي لأهبطنَّك إِلى الأرض ثم لا تنال العيش إِلا كدّاً {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} اعترفا بالخطيئة وتابا من الذنب وطلبا من الله المغفرة والرحمة قال الطبري: وهذه الآية هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه {قَالَ اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الخطاب لآدم وحواء وإِبليس ولهذا جاء بصيغة الجمع أي اهبطوا من سماء القدس إِلى الأرض حال كون بعضكم عدواً لبعض، فالشيطان عدوٌ للإِنسان، والإِنسان عدوٌ للشيطان كقوله
{إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} [فاطر: 6] {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} أي لكم في الأرض موضع استقرار وتمتع وانتفاع إلى حين انقضاء آجالكم {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} أي في الأرض تعيشون وفيها تُقبرون ومنها تُخرجون للجزاء كقوله {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} [طه: 55] ثم ذكر تعالى ما امتنَّ به على ذرية آدم من اللباس والرياش والمتاع فقال {يابنيءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً} أي أنزلنا عليكم لباسين: لباساً يستر عوراتكم، ولباساً يزينكم وتتجملون به قال الزمخشري: الريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته {وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ} أي ولباس الورع والخشية من الله تعالى خير ما يتزين به المرء فإِن طهارة الباطن أهم من جمال الظاهر قال الشاعر:
وخيرُ لباس المرء طاعةُ ربه ... ولا خير فيمن كان الله عاصياً
{ذلك مِنْ آيَاتِ الله} أي إِنزال اللباس من الآيات العظيمة الدالة على فضل الله ورحمته على عباده {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يذكرون هذه النعم فيشكرون الله عليها {يابنيءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان} أي لا يغوينكم الشيطان بإضلاله وفتنته {كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة} أي كما أغوى أبويكم بالأكل من الشجرة حتى أخرجهما من الجنة {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ} أي ينزع عنهما اللباس لتظهر العورات، ونسب النزع إِليه لأنه المتسبب، وهذا هدف اللعين أن يهتك الستر عن الإِنسان ويعريه من جميع الفضائل الحسيّة والمعنوية {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} أي(1/408)
إن الشيطان يبصركم هو وجنوده من الجهة التي لا تبصرونه منها، فهو لكم بالمرصاد فاحذروا كيده ومكره لأن العدو إِذا أتى من حيث لا يُرى كان أشدَّ وأخوف {إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي جعلنا الشياطين أعواناً وقرناء للكافرين {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} أي وإذا فعل المشركون فاحشة وهي الفعلة المتناهية في القبح كالطواف حول البيت عراة {قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا} أي اعتذروا عن ذلك الفعل القبيح بتقليد الآباء {والله أَمَرَنَا بِهَا} أي أمرنا بالتجرد من الثياب إِذ كيف نطوف في ثيابٍ عصينا فيها الله! وهذا افتراء على ذي الجلال قال البيضاوي: احتجوا بأمرين: تقليد الآباء، والافتراء على الله سبحانه، فأعرض عن الأول لظهور فساده، وردَّ الثاني بقوله {قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} أي قل لهم يا محمد: الله منزّه عن النقص لا يأمر عباده بقبائح الأفعال ومساوئ الخصال {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أتكذبون على الله وتنسبون إِليه القبيح دون علمٍ ونظرٍ صحيح؟ {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط} أي بالعدل والاستقامة {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي توجهوا بكليتكم إِليه عند كل سجود {وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي واعبدوه مخلصين له العبادة والطاعة قال ابن كثير: أي أمركم بالاستقامة في عبادته وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات وبالإِخلاص لله في العبادة فإِن الله تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، وأن يكون خالصاً من الشرك {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} أي كما بدأكم من الأرض تعودون إِليها {فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} أي هدى فريقاً منكم وأضلَّ فريقاً منكم وهو الفعال لما يريد لا يُسأل عما يفعل {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله} هذا تعليل للفريق الذين حقت عليهم الضلالة أي اتخذوا الشياطين نصراء من دون الله {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} أي يظنون أنهم على بصيرة وهداية.
البَلاَغَة: 1 - {حَرَجٌ مِّنْهُ} أي ضيق من تبليغه فهو على حذف مضاف مثل {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] .
2 - {مِّن رَّبِّكُمْ} التعرض لوصف الربوبية مع الإِضافة لضمير المخاطبين لمزيد اللطف بهم وترغيبهم في امتثال الأوامر.
3 - {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} بين {ثَقُلَتْ} و {خَفَّتْ} طباقٌ وكذلك بين {بَيَاتاً} و {قَآئِلُونَ} لأن البيات معناه ليلاً و {قَآئِلُونَ} معناه نهاراً وقت الظهيرة.
4 - {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} هو على حذف مضاف أي خلقنا أباكم وصورنا أباكم.
5 - {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} استعار الصراط المستقيم لطريق الهداية الموصلإلى جنان النعيم.
6 - {وَيَآءَادَمُ} فيه إيجاز بالحذف أي وقلنا يا آدم.
7 - {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} عبَّر عن الأكل بالقرب مبالغة في النهي عن الأكل منها.(1/409)
8 - {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا} أكد الخبر بالقسم وبإِنَّ واللام لدفع شبهة الكذب وهو من الضرب الذي يسمى «إنكارياً» لأن السامع متردّد.
9 - {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ} بين الجملتين طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: سميت العورة سوأة لأن كشفها يسوء صاحبها قال العلماء: في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور وأنه مستهجنٌ في الطباع ولذلك سميت سوأة أقول: إن الآية قد أوضحت هدف إبليس اللعين {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ} فمن دعا إلى تعري المرأة وشجَّع على ذلك كما هو حال من يزعم التقدمية ويدعو المرأة إلى نزع الحجاب بدعوة الحرية والمساواة فإنما هو عدوٌ للمرأة ومن أنصار وأعوان إبليس لأن الهدف واحد، وهي دعوة مكشوفة غايتها التفسخُ والانحلال الخلقي، وليست التقدمية بالتكشف والتعري وإنما هي بصيانة الشرف والعفاف ولله در القائل:
يا ابنتي إن أردتِ آيةَ حسنٍ ... وجمالاً يزينُ جسماً وعقلاً
فانبذي عادة التبرج نبذاً ... فجمالُ النفوسِ أسمى وأَعْلى
يصنع الصَّانعون ورداً ولكنْ ... رودةُ الروضِ لا تُضارع شكلاً(1/410)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة آدم عليه السلام، وذكر ما امتن به على بنيه وما أنعم به عليهم من اللباس الذي يستر العورات، أمر هنا بأخذ الزينة والتجمل في المناسبات وعند إرادة الصلاة، ثم ذكر أحوال الآخرة وانقسام الناس إلى طوائف: «أهل الجنة، وأهل النار، وأهل الأعراف» ومآل كل فريق من سعادة أو شقاء في دار العدل والجزاء.
اللغَة: {زِينَتَكُمْ} الزينة: ما يتزين به المرء ويتجمل من ثياب وغيرها {الفواحش} جمع فاحشة وهي ما تناهي قبحه من المعاصي {البغي} الظلم والاستطالة على الناس {سُلْطَاناً} حجة وبرهاناً {سَمِّ الخياط} ثقب الإِبرة {مِهَادٌ} فراش يمتهده الإِنسان {غَوَاشٍ} أعطي جمع غاشية قال ابن عباس: هي اللحف {الأعراف} السور المضروب بين الجنة والنار جمع عرف مستعار من عرف الديك {بِسِيمَاهُمْ} بعلامتهم.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة وتقول: من يعيرني تَطْوافاً تجعله على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضُه أو كلّه ... فما بدا منه فلا أُحلّه
فنزلت هذه الآية {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وأذن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألاّ يطوف بالبيت عُريان.
التفِسير: {يابنيءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي البسوا أفخر ثيابكم وأطهرها عند كل(1/411)
صلاة أو طواف {وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} أي لا تسرفوا في الزينة والأكل والشرب بما يضر بالنفس وامال {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} أي المعتدين حدود الله فيما أحلَّ وحرّم {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} أي قل يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراةً ويحرمون على أنفسهم ما أحللت لهم من الطيبات، من حرّم عليكم التجمل بالثياب التي خلقها الله لنفعكم من النبات، والمستلذات من المآكل والمشارب! والاستفهام للإِنكار والتوبيخ {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} أي هذه الزينة والطيبات في الدنيا مخلوقة للمؤمنين وإن شاركهم فيها الكفار، وستكون خالصة لهم يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد لأن الله حرم الجنة على الكافرين {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي نبيّن ونوضح الآيات التشريعية لقوم يتدبرون حكمة الله ويفقهون تشريعه {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} أي قل لهم يا محمد ما حرّم الله إلا القبائح من الأشياء التي تفاحش قبحها وتناهى ضررها، سواء ما كان منها في السر أو في العلن {والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق} أي وحرّم المعاصي كلها والعدوان على الناس {وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} أي تجعلوا له شركاء في عبادته بدون حجة أو برهان {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي تفتروا على الله الكذب في التحليل والتحريم {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي لكل أمة كذبت رسلها مدة مضروبة لهلاكها قال في البحر: هذا وعيد للمشركين بالعذاب إذا خالفوا أمر ربهم {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي فإِذا جاء وقت هلاكهم المقدر لهم لا يتأخر عنهم برهة من الزمن ولا يتقدم كقوله
{وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} [الكهف: 59] والساعة مثلٌ في غاية القلة من الزمان {يابنيءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} المراد ببني آدم جميع الأمم والمعنى إن يجئْكمُ رسلي الذين أرسلتهم إليكم يبينون لكم الأحكام والشرائع {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي فمن اتقى منكم ربه بفعل الطاعات وترك المحرمات فلا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَآ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي وأما من كذب واستكبر عن الإِيمان بما جاء به الرسل فأولئك في نار جهنم ماكثون لا يخرجون منها أبداً {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} الاستفهام للإِنكار أي من أقبح وأشنع ممن تعمّد الكذب على الله أو كذّب بآياته المنزلة؟ {أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب} أي يصيبهم حظهم في الدنيا مما كُتب لهم وقُدر من الأرزاق والآجال قال مجاهد: ما وُعدوا به من خير أو شر {حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي جاءت ملائكة الموت تقبض أرواحهم {قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله أدعوهم ليخلصوكم من العذاب، والسؤال للتبكيت والتوبيخ {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} أي قال الأشقياء المكذبون لقد غابوا عنا فلا نرجوا نفعهم ولا(1/412)
خيرهم {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} أي أقروا واعترفوا على أنفسهم بالكفر والضلال، وإِنما قالوا ذلك على سبيل التحسر والاعتراف بما هم عليه من الخبيبة والخسران {قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن الجن والإنس فِي النار} أي يقول الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء المكذبين بآياته: ادخلوا مع أمم أمثالكم من الفجرة في نار جهنم من كفار الأمم الماضية من الإِنس والجن {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} أي كلما دخلت طائفة النار لعنت التي قبلها لضلالها بها قال الألوسي: يلعن الأتباع القادة يقولون: أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى، والمراد أن أهل النار يلعن بعضهم بعضاً كقوله تعالى {يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} [العنكبوت: 25] {حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً} أي تلاحقوا واجتمعوا في النار كلهم {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا} أي قال الأتباع للقادة والرؤساء الذين أضلوهم يا ربنا هؤلاء هم الذين أضلونا عن سبيلك وزينوا لنا طاعة الشيطان {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار} أي أذقهم العذاب مضاعفاً لأنهم تسببوا في كفرنا ونظير هذه الآية
{رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: 67 - 68] {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} أي لكلٍ من القادة والأتباع عذاب مضاعف أما القادة فلضلالهم وإضلالهم، وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} أي لا تعلمون هوله ولهذا تسألون لهم مضاعفة العذاب {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي قال القادة للأتباع: لا فضل لكم علينا في تخفيف العذاب فنحن متساوون في الضلال وفي استحقاق العذاب الأليم {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي فذوقوا عذاب جهنم بسبب إجرامكم، قالوه لهم على سبيل التشفي لأنهم دعوا عليهم بمضاعفة العذاب {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا} أي كذبوا بإياتنا مع وضوحها واستكبروا عن الإِيمان بها والعلم بمقتضاها {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء} أي لا يصعد لهم عمل صالح كقوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] قال ابن عباس: لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء، وقيل: لا تُفتَّح لأرواحهم أبواب السماء إذا قبضت أرواحهم ويؤيده حديث «إن العبد الكافر إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا يجيئه ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة فلا يمر على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة؟ حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له. .» الحديث {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} أي لا يدخلون يوم القيامة الجنة حتى يدخل الجمل في ثقب الإِبرة، وهذا تمثيل لاستحالة دخول الكفار الجنة كاستحالة دخول الجمل على ضخامته في ثقب الإِبرة على دقته مبالغة في التصوير {وكذلك نَجْزِي المجرمين} أي ومثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي أهل العصيان والإِجرام {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} أي لهم فراش من النار من تحتهم {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أي ومن فوقهم أغطية من النار {وكذلك نَجْزِي الظالمين} أي ومثل ذلك(1/413)
الجزاء الشديد نجزي كل من ظلم وتعدّى حدود الله، ولما ذكر تعالى وعيد الكافرين وما أعده لهم في الآخرة أتبعه بذكر وعد المؤمنين وما أعدّ لهم فقال {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي والذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أي لا نكلف أحداً بما هو فوق طاقته أو بما يعجز عنه بل بما هو في وسعه والجملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر قال في البحر: وفائدته التنبيه على أن ذلك العمل في وسعهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم ما فيها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هذا هو الخبر أي هؤلاء المؤمنون السعداء هم المستحقون للخلود الأبدي في جنات النعيم لا يُخرجون منها أبداً {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} أي طهرنا قلوبهم من الحسد والبغضاء حتى لا يكون بينهم إلا المحبة والتعاطف كما ورد في الحديث
«يدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غلٌ» وصيغة الماضي تفيد التحقق والتثبت {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} أي تجري أنهار الجنة من تحت قصورهم زيادة في نعيمهم {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله} أي وفقنا لتحصيل هذا النعيم العظيم ولولا هداية الله تعالى وتوفيقه لما وصلنا إلى هذه السعادة {لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} أي والله لقد صدقنا الرسل فيما أخبرونا به عن الله عَزَّ وَجَلَّ {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي وتناديهم الملائكة أن هذه هي الجنة التي أعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا قال القرطبي: ورثتم منازلها بعملكم، ودخولكم إِياها برحمة الله وفضله وفي الحديث «لن يُدخل أحداً منكم عملهُ الجنة. .» {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ} هذا النداء إنما يكون بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وعبَّر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه أي ينادي أهلُ الجنة أهلَ النار يقولون: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا على ألسنة رسله من النعيم والكرامة حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من الخزي والهوان والعذاب حقاً؟ قال أهل النار مجيبين: نعم وجدناه حقاً قال الزمخشري: وإِنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً بحالهم، وشماتةً بأهل النار، وزيادة في غمهم لمجرد الإِخبار والاستخبار {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} أي أعلن معلنٌ ونادى منادٍ بين الفريقين بأن لعنة الله على كل ظالم بالله ثم وصفه بقوله {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي الذين كانوا في الدنيا يمنعون الناس عن اتباع دين الله ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها أحد {وَهُمْ بالآخرة كَافِرُونَ} أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة مكذبون جاحدون {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} أي بين الفريقين حجاب وهو السور الذي ذكره بقوله {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} [الحديد: 13] يمنع من وصول أهل النار للجنة، وعلى هذا السور رجال يعرفون كلاً من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم أي بعلامتهم التي ميّزهم الله بها قال قتادة: يعرفون أهل النار بسواد وجوههم وأهل الجنة ببياض وجوههم {وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} أي ونادى أصحاب الأعراف أهل الجنة حين(1/414)
رأوهم أن سلامٌ عليكم أي قالوا لهم: سلام {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أي لم يدخل أصحاب الأعراف الجنة وهم يطمعون في دخولها {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} قال المفسرون: أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فليسوا من أهل الجنة ولا من أهل النار، يحبسون هناك على السور حتى يقضي الله فيهم فإذا نظروا إلى أهل الجنة سلّموا عليهم، وإذا نظروا إلى أهل النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، سألوا الله ألاّ يجعلهم معهم قال أبو حيان: وفي التعبير بقوله {صُرِفَتْ} دليل على أن أكثر أحوالهم النظر إلى أهل الجنة وأن نظرهم إلى أصحاب النار ليس ن قِبَلهم بل هم محمولون عليه والمعنى أنهم إذا حُملوا على صرف أبصارهم ورأوا ما عليه أهل النار من العذاب استغاثوا بربهم من أن يجعلهم معهم {ونادى أَصْحَابُ الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي من أهل النار وهم رؤساء الكفرة {قَالُواْ مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} أي أيُّ شيء نفعكم جمعكم للمال واستكباركم عن الإِيمان؟ والاستفهام للتوبيخ {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} أي هؤلاء المؤمنون الضعفاء الذين كنتم في الدنيا تسخرون منهم وتحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة، والاستفهام استفهام تقرير وتوبيخ وشماتة يوبخونهم بذلك {ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} أي يقولون للمؤمنين ادخلوا الجنة رغم أنوف الكافرين قال الألوسي: هذا من كلام أصحاب الأعراف يقولون لأهل الجنة المشار إليهم: دوموا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} يخبر تعالى عن المحاورة بين أهل النار وأهل الجنة بعد استقر بكلٍ من الفريقين القرار واطمأنت به الدار، وعن استغاثتهم بهم عند نزول عظيم البلاء من شدة العطش والجوع والمعنى ينادونهم يوم القيامة أغيثونا بشيء من الماء لنكن به حرارة النار والعطش أو مما رزقكم الله من غيره من الأشربة فقد قتلنا العطش {قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} أي منع الكافرين شراب الجنة وطعامها قال ابن عباس: ينادي الرجل أخاه وأباه فيقول: قد احترقت فأفض عليَّ من الماء! فيقال لهم أجيبوهم فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين، ثم وصف تعالى الكافرين بقوله {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} أي هزءوا من دين الله وجعلوا الدين سخرية ولعباً {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} أي خدعتهم بزخارفها العاجلة وشهواتها القاتلة وهذا شأنها مع أهلها تغرُّ وتضر، وتخدع ثم تصرع {فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا} أي ففي هذا اليوم نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا فلم يخطر ببالهم ولم يهتموا به قال الألوسي: الكلام خارجٌ مخرج التمثيل أي نتركهم في النار وننساهم مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي ينبغي ألا يُنسى وقال ابن كثير: أي يعاملهم معاملة من نسيهم لأنه تعالى لا يشذّ عن علمه شيءٌ ولا ينساه {وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} أي وكما كانوا منكرين لآيات الله في الدنيا، يكذبون بها ويستهزءون، ننساهم في العذاب.(1/415)
البَلاَغَة: 1 - {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} مجاز مرسل علاقته المحلية لأن المراد بالمسجد هنا الصلاة والطواف، ولما كان المسجد مكان الصلاة أطلق ذلك عليه.
2 - {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء} كناةي عن عدم قبول العمل، فلا يقبل لهم دعاء أو عمل.
3 - {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} فيه تشبيه ضمني أي لا يدخلون الجنة بحالٍ من الأحوال إلا إِذا أمكن دخول الجمل في ثقب الإِبرة، وهو تمثيلٌ للاستحالة.
4 - {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} قال صاحب البحر: هذه استعارة لما يحيط بهم من النار من كل جانب كقوله {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] .
5 - {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} بين «ظهر» و «بطن» طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
فَائِدَة: يروى أن الرشيد كان له طبيبٌ نصراني حاذق فقال ذلك الطبيبُ لأحد العلماء: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلمُ علمان: علم الأبدان وعلم الأديان فقال له العالم: قد جمع الله تعالى الطبَّ كله في نصف آية من كتابه قال وما هي؟ قال قوله تعالى {وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} فقال النصراني: ولا يُؤثر عن رسولكم شيء في الطب فقال العالم: قد جمع رسولنا الطب في ألفاظ يسيرة قال وما هي؟ قال قوله «ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه» الحديث فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً.(1/416)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حال الكفار الأشقياء وخسارتهم الفادحة في الآخرة، ذكر هنا أنه لا حجة لأحد فقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لهداية البشرية، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء فبدأ بنوح عليه السلام شيخ الأنبياء ثم أعقبه بذكر هودٍ عليه السلام وموقف المشركين من دعوة الرسل الكرام.
اللغة: {تَأْوِيلَهُ} عاقبة أمره وما يئول إليه من آل يئول إذا صار إليه {استوى} الاستواء: العلوّ والاستقرار قال الجوهري: استوى على ظهر الدابة استقرّ: واستوى إلى السماء قصد، واستوى الشيءُ إذا اعتدل {يُغْشِي} يغطيّ {حَثِيثاً} سريعاً والحثُّ: الإِعجال والسرعة {تَبَارَكَ} تفاعل من البركة وهي الكثرة والاتساع قال الأزهري: تبارك أي تعالى وتعاظم وارتفع {تَضَرُّعاً} تذللاً واستكانة وهو إظهار الذل الذي في النفس مع الخشوع {وَخُفْيَةً} سراً {بُشْراً} مبشرة بالمطر {أَقَلَّتْ} حملت {نَكِداً} العِسر القليل {آلاء} [النجم: 55] الآلاء النِّعَم واحدها «لَى» كمِعَى.
التفِسير: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} أي ولقد جئنا أهل مكة بكتاب هو القرآن العظيم {فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ} أي هداية معانيه ووضحنا أحكامه على علم منا حتى جاء قيّماً غير ذي عوج {هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي هداية ورحمة وسعادة لمن آمن به {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي ما ينتظر أهل مكة إلا عاقبة ما وُعدوا به من العذاب والنكال قال قتادة: تأويله عاقبتُه {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} هو يوم القيامة {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ} أي يقول الذين ضيّعوا وتركوا العمل به في الدنيا {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} أي جاءتنا الرسل بالأخبار الصادقة وتحقق لنا صدقهم فلم نؤمن بهم ولم نتبعهم قال الطبري: أقسم المساكين حين حل بهم العقاب أن رسل الله قد بلّغتهم الرسالة ونصحتْ لهم(1/417)
وصدَقَتْهم حين لا ينفعهم ولا ينجيهم من سخط الله كثرةُ القيل والقال {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ} أي هل لنا اليوم شفيع يخلصنا من هذا العذاب؟ استفهام فيه معنى التمني {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} أو هل لنا من عودة إلى الدنيا لنعمل صالحاً غير ما كنا نعمله من المعاصي وقبيح الأعمال؟ قال تعالى ردّاً عليهم {قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي خسروا أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدنيا بالنفيس الباقي من الآخرة، وبطل عنهم ما كانوا يزعمونه من شفاعة الآلهة والأصنام، ثم ذكر تعالى دلائل القدرة والوحدانية فقال {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي إن معبودكم وخالقكم الذي تعبدونه هو المنفرد بقدرة الإِيجاد الذي خلق السماوات والأرض في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا قال القرطبي: لو أراد لخلقها في لحظة ولكنه أراد أن يعلِّم العبادَ التثبت في الأمور {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيلٍ ولا تحريف كما هو مذهب السلف وكما قال الإِمام مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: الاستواء معلوم، والكَيْف مجهول، والإِيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة وقال الإِمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ: أخبارُ الصفات تُمرُّ كما جاءت بلا تشبيه ولا تعطيل فلا يقال: كيف؟ ولِمَ؟ نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء، وكما شاء بلا حدٍّ ولا صفةٍ يبلغها واصف أو يحدها حادُّ، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيهما ونكِلُ الكيفية في الصفات إلى علم الله عَزَّ وَجَلَّ وقال القرطبي: لم ينكر أحدٌ من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقةً وإِنما جهلوا كيفية الساتواء فإِنه لا تُعلم حقيقته {يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} أي يغطي الليل على النهار فيذهب بضوئه ويطلبه سريعاً حتى يدركه {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ} أي الجميع تحت قهره ومشيئته وتسخيره {بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} أي له الملك والتصرف التام في الكائنات {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} أي تعظّم وتمجّد الخالق المبدع رب العالمين {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} أي أدعوا الله تذللاً وسراً بخشوع وخضوع {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي لا يحب المعتدين في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت وفي الحديث
«إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً» {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} أي لا تفسدوا في الأرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها الله ببعثة المرسلين {وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً} أي خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته {إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} أي رحمته تعالى قريبة من المطيعين الذين يمتثلون أوامره ويتركون زواجره {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي يرسل الرياح مبشرة بالمطر قال في البحر: ومعنى بين يدي رحمته أي أمام نعمته وهو المطر الذي هو من أجلّ النعم وأحسنها أثراً على الإِنسان {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً} أي حتى إذا حملت الرياح سحاباً مثقلاً بالماء {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} أي سقنا السحاب إلى أرض ميتة مجدبة لا نبات فيها {فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات} أي أنزلنا في ذلك البلد الميت الماء فأخرجنا بذلك الماء من كل أنواع الثمرات {كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي مثل هذا الإِخراج نُخرج الموتى من(1/418)
قبورهم لعلكم تعتبرون وتؤمنون قال ابن كثير: وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله المثل ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها ولها قال لعلكم تذكّرون {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي الأرضُ الكريمةُ التربة يخْرج النبات فيها وافياً حسناً غزير النفع بمشيئة الله وتيسيره، وهذا مثل للمؤمن يسمع الموعظة فينتفع بها {والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} أي والأرض إذا كانت خبيثة التربة كالحرّة أو السبخة لا يخرج النبات فيها إلا بعسر ومشقة وقليلاً لا خير فيه، وهذا مثلٌُ للكافر الذي لا ينتفع بالموعظة قال ابن عباس: هذا مثلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر، فالمؤمن طيّب وعمله طيب كالأرض الطيبة ثمرها طيب، والكافر خبيثٌ وعملهُ خبيث كالأرض السبخة المالحة لا ينتفع بها {كذلك نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} أي كما ضربنا هذا المثل كذلك نبيّن وجوه الحجج ونكررها آية بعد آية، وحجة بعد حجة لقوم يشكرون الله على نعمه، وإنما خصّ الشاكرين بالذكر لأنهم المنتفعون بسماع القرآن قال الآلوسي: أي مِثلَ هذا التصريف البديع نردِّد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها لقومٍ يشكرون نعم الله تعالى، وشكرُها بالتفكر والاعتبار بها {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} اللام جواب قسمٍ محذوف أي والله أرسلنا نوحاً، ونوحٌ شيخ الأنبياء لأنه أطولهم عمراً وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس، ولم يلق نبيٌّ من الأذى مثل نوح {فَقَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي وحدّوا الله ولا تشركوا به فما لكم إلهٌ مستحقٌ للعبادة غيره {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إن أشركتم به ولم تؤمنوا فأنا أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم هو يوم القيامة {قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي قال الأشراف والسادة من قومه إنا لنراك يا نوح في ذهابٍ عن طريق الحق والصواب واضح جلي قال أبو حيان: ولم يجبه من قومه إلا أشرافُهم وسادتهم وهم الذين يتعاصون على الرسل لانغماس عقولهم بالدنيا وطلب الرياسة، وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} أي ما أنا بضال ولكنْ أنا مرسل إليكم من عند ربكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أنا أبلغكم ما أرسلني الله به إليكم وأقصد صلاحكم وخيركم وأعلم من الأمور الغيبية أشياء لا علم لكم بها قال ابن كثير: وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغاً فصيحاً ناصحاً عالماً بالله لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ} أي لا تعجبوا من هذا فإِن هذا(1/419)
ليس بعجيب أن يوحي الله إلى رجل منكم رحمة بكم ولطفاً وإِحساناً إليكم {لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي ليخوفكم هذا الرسول من العذاب إن لم تؤمنوا ولتتقوا ربكم وتنالكم الرحمة بتقواه {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك} أي كذبوا نوحاً مع طول مدة إقامته فيهم فأنجاه الله والمؤمنين معه في السفينة {وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} أي أهلكنا المكذبين منهم بالغرق {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} أي عميت قلوبهم عن الحق فهم لا يبصرونه ولا يهتدون له قال ابن عباس: عميتْ قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} أي وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودا وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن {قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي قال لهم رسولهم وحّدوا الله فليس لكم إله غيره {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون عذابه؟ {قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} أي قال السادة والقادة منهم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} أي نراك في خفة حلم وسخافة عقل وإننا لنظنك من الكاذبين في ادعائك الرسالة {قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} أي ليس بي كما تزعمون نقص في العقل ولكني مرسل إليكم بالهداية من رب العالمين {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} أي أبلغكم أوامر الله وأنا ناصح لكم فيما أدعوكم إليه، أمينٌ على ما أقول لا أكذب فيه قال الزمخشري: وفي أبلغكم أوامر الله وأنا ناصح لكم فيما أدعوكم إليه، أمينٌ على ما أقول ولا أكذب فيه قال الزمخشري: وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام مِمَّنْ نسبَهم إلى السفاهة والضلالة - بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم وترك المقابلة - أدبٌ حسنٌ وخُلُق عظيم، وتعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء ويسبلون أذياهم على ما يكون منهم {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} أي لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولاً من أنفسكم لينذركم لقاء الله ويخوفكم عذابه {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي اذكروا نعمة الله حين استخلفكم في الأرض بعد إهلاك قوم نوح {وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً} أي زاد في أجسامكم قوةً وضخامة {فاذكروا آلآءَ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي اذكروا نعم الله عليكم كي تفلحوا وتفوزوا بالسعادة {قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أي أجئتنا يا هود تتوعدنا بالعذاب كي نعبد الله وحده ونهجر عبادة الآلهة والأصنام ونتبرأ منها؟ {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي فأتنا بما تعدنا به من العذاب فلن نؤمن لك إن كنت من الصادقين في قولك {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} أي قد حلّ بكم عذاب وغضب من الله {أتجادلونني في أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أي أتخاصمونني في أصنام لا تضر ولا تنفع ما أنزل الله بعبادتها من حجة أو برهان {فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} أي فانتظروا نزول العذاب إني من المنتظرين لما يحل بكم وهذا غاية الوعيد والتهديد {فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} أي أنجينا هوداً والذين معه من المؤمنين رحمة منا لهم {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي استأصلناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} أي كذبوا ولم يؤمنوا فاستحقوا العذاب قال أبو السعود: أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أبداًَ فأهلكهم الله بالريح العقيم.(1/420)
البَلاَغَة: 1 - {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} الآية على قلة ألفاظها جمعت معاني كثيرة استوعبت جميع الأشياء والشئون على وجه الاستقصاء حتى قال ابن عمر: من بقي له شيء فليطلبه وهذا الأسلوب البليغ يسمى «إيجاز قِصَر» ومداره على جمع الألفاظ القليلة للمعاني الكثيرة.
2 - {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} وصفُ البلد بالموت استعارةٌ لجدبه وعدم نباته كأنه كالجسد الذي لا روح فيه من حيث عدم الانتفاع به.
3 - {كذلك نُخْرِجُ الموتى} أي مثل إخراج النبات من الأرض نخرج من الموتى من قبورهم فهو تشبيه «مرسل مجمل» ذكرت الأداة ولم يذكر وجه الشبه.
4 - {وَقَطَعْنَا دَابِرَ} قطع الدابر كنايةٌ لطيفةٌ عن استئصالهم جميعاً بالهلاك.
تنبيه: ذكر العلامة الألوسي عند قوله تعالى {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} عن الحسن البصري أنه قال: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وأنه سبحانه ذكر عبداً صالحاً فقال {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} [مريم: 3] ثم قال: وذكروا للدعاء آداباً كثيرة منها: أن يكون على طهارة، وأن يستقبل القبلة، وتخلية القلب من الشواغل، وافتتاحه واختتامه بالصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورفع اليدين نحو السماء، وإشراك المؤمنين فيه، وتحري ساعات الإِجابة كثلث الليل الأخير، ووقت إفطار الصائم، ويوم الجمعة وغير ذلك.(1/421)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
المنَاسََبة: لما ذكر تعالى في أول السورة قصة آدم، وما اتصل بها من آثار قدرته، وغرائب صنعته، الدالة على توحيده وربويته، وأقام الحجة الدامغة على صحة البعث بعد الموت، أتبع ذلك بقصص الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم، فذكر نوحاً وهوداً وأعقبه هنا بذكر قصة صالح وشعيب، وموقف المعاندين للرسل الكرام.
اللغَة: {نَاقَةُ} الناقة: الأنثى من الجمال، وعقر الناقة ضرب قوائمها بالسيف {عَتَوْاْ} استكبروا عتا عتواً أي استكبر والليلُ العاتي: الشديد الظلمة {جَاثِمِينَ} لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم كما يجثم الطائر {الرجفة} الطامة التي يرجف لها الإِنسان أي يتزعزع ويضطرب وأصل الرجف الاضطراب رجفت الأرض اضطربت {الغابرين} الباقين في عذاب الله، والغابر بمعنى الباقي ويجيء بمعنى الماضي والذاهب ومنه قول الأعشى: في الزمن الغابر فهو من الأضداد كما في الصحاح {يَغْنَوْاْ} يقيموا يقال غَنَى بالمكان إذا أقام به دهراً طويلاً {عِفُواْ} كثروا ونموا من عفا النبات إذا كثر.
التِفسير: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي وحّدوا الله ولا تشركوا به {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي معجزة ظاهرة جلية تدل على صحة نبوتي {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} هذا بيانٌ للمعجزة أي هذه الناقة معجزتي إليكم وإضافتها إلى الله للتشريف(1/422)
والتعظيم لأنها خلقت بغير واسطة قال القرطبي: أخرج لهم الناقة حين سألوه من حجر صلد {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} أي اتركوها تأكل من رزق ربها {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لا تتعرضوا لها بشيءٍ من السو أصلاً إكراماً لها لأنها آية الله، والعذاب الأليم هو ما حلَّ بهم حين عقروها {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ} أي خلفاء في الأرض قال الشهاب: لم يقل خلفاء عاد إشارة إلى أن بينهما زماناً طويلاً {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً} أي أسكنكم في أرض الحِجرْ تبنون ف سهولها قصوراً رفيعة {وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً} أي تنحتون الجبال لسكناكم قال القرطبي: اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم فإن الأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم {فاذكروا آلآءَ الله وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ} أي اذكروا نعم الله علكم واشكروه على ما تفضل به ولا تعيثوا في الأرض فساداً {قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} أي قال الأشراف المستكبرون من قوم صالح للمؤمنين المستضعفين من أتباع صالح عليه السلام {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ} أي أن الله أرسله إلينا وإِليكم، وهذا قالوه على سبيل السخرية والاستهزاء {قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي أجابوهم بالأسلوب الحكيم بالإِيمان برسالته قال أبو حيان: وعدولهم عن قولهم هو مرل إلى قولهم {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} في غاية الحسن إذْ أمر رسالته معلوم واضح مسلَّم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج أن يسأل عن رسالته {قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي قال المستكبرون نحن كافرون بما صدَّقتم به من نبوة صالح وإنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون إظهاراً لمخالفتهم إياهم ورداً لمقالتهم {فَعَقَرُواْ الناقة وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي نحروا الناقة واستكبروا عن امتثال أمر الله {وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} أي جئنا يا صالح بما تعدنا من العذاب الذي تخوفنا به إن كنت يا صالح حقاً رسولاً، قالوا ذلك استهزاء به وتعجيزاً {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أخذتهم الزلزلة الشديدة فصاروا في منازلهم هامدين موتى لا حِراك بهم قال في البحر: أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوتُ كل شيء له صوتٌ في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا {فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين} أي أدبر عنهم صالح بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم وقال على سبيل التفجع والتحسر عليهم: لقد بلّغنكم الرسالة وحذرتكم عذاب الله وبذلت وسعي في نصيحتكم ولكن شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم قال الزمخشري {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين} حكاية حال ماضية قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت - وكان قد نصحه حياً فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة -: يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني؟ {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} أي واذكر وقت أن قال لوط لقومه أهل سدوم على سبيل الإِنكار والتوبيخ: أتفعلون تلك الفعلة الشنيعة المتناهية في القبح التي ما عملها أحد قبلكم في زمن من الأزمان! والفاحشة هي إتيان الذكور في الأدبار، أنكر عليهم أولاً فعلها(1/423)
ثم وبخهم بأنهم أول من فعلها قال أبو حيان: ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه، ومركوزاً في العقول فحشه أتى به معرفاً بالألف واللام {الفاحشة} بخلاف الزنى فإنه قال فيه
{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [النساء: 22] فأتى به منكراً، والجملة المنفية {مَا سَبَقَكُمْ} تدل على أنهم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها، والمبالغة في {مِنْ أَحَدٍ} حيث زيدت مِنْ لتأكيد نفي الجنس، وفي الإِتيان بعموم {العالمين} جمعاً قال عمرو بن دينار: ما رؤي ذكرٌ على ما ذكر قبل قوم لوط {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء} هذا بيانٌ للفاحشة وهو توبيخٌ آخر أشنع مما سبق لتأكيده بإنَّ وباللام أي إنكم أيها القوم لتأتون الرجال في أدبارهم شهوة منكم لذلك الفعل الخبيث المكروه دون ما أحله الله لكم من النساء ثم أضرب عن الإِنكار إلى الإِخبار عنهم بالجال التي توجب ارتكاب القبائح واتباع الشهوات فقال {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} أي لا عذر لكم بل أنتم عادتكم الإِسراف وتجاوز الحدود في كل شيء قال أبو السعود: وفي التقييد بقوله {شَهْوَةً} وصفٌ لهم بالبهيمية الصِّرفة وتنبيهٌ على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النسال لاقضاء الشهوة {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي ما كان جوابهم للوطٍ إذ وبخهم على فعلهم القبيح إلا أن قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطاً وأتباعه المؤمنين من بلدتكم لأنهم أناس يتنزهون عما نفعله نحن من إتيان الرجال في الأدبار، قال ابن عباس ومجاهد: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي يتقذرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء، قالوا ذلك سخرية واستهزاءً بلوط وقومه وعابوهم بما يمدح به الإِنسان {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} أي أنجيناه من العذاب الذي حلّ بقومه وأهله المؤمنين إلا امرأته فلم تنج وكانت من الباقين وبالله كافرة فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين جاءهم العذاب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً} أي أرسلنا عليه نوعاً من المطر عجيباً هو حجارة من سجيل كما في الآية الأخرى
{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} [الحجر: 74] وشبه العذاب بالمطر المدرار لكثرته حيث أرسل إرسال المطر {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} أي انظر أيها السامع إلى عاقبة هؤلاء المجرمين كيف كانت؟ وإلى أي شيءٍ صارت؟ هل كانت إلا البوار والهلاك؟! {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي وأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً داعياً لهم إلى توحيد الله وعبادته قال ابن كثير: ومدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة وهي التي بقرب «معان» من طريق الحجاز وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أي معجزة تدل على صدقي {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان} أي أتموا للناس حقوقهم بالكليل الذي تكيلون به والوزن الذي تزنون به {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ} أي لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تُنْقصوهم إياها {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} أي لا تعملوا بالمعاصي بعد إصلاحها ببعثة الرسل {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي ما أمرتكم به من إخلاص العبادة لله(1/424)
وإيفاء الناس حقوقهم وترك الفساد في الأرض خير لكم إن كنتم مصدقين لي في قولي {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ بِهِ} أي لا تجلسوا بكل طريق تخوّفون من آمن بالقتل قال ابن عباس: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي تريدون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة بمعنى تصويرهم أن دين الله غير مستقيم كما يقول الضالون في هذا الزمان «هذا الدين لا ينطبق مع العقل» لأنه لا يتمشى مع أهوائهم الفاجرة {واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} أي كنتم قلة مستضعفين فأصبحتم كثرة أعزة فاشكروا الله على نعمته {وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} هذا تهديد لهم أي انظروا ما حلّ بالأمم السابقة حين عصوا الرسل كيف انتقم الله منهم واعتبروا بهم {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} أي إذا كان فريق صدقوني فيما جئتهم به وفريق لم يصدقوني فاصبروا حتى يفصل الله بحكمه العادل بيننا وهو خير الفاصلين قال أبو حيان: هذا الكلام من أحسن ما تلطّف به في المحاورة إذ برز المتحقق في صورة المشكوك وهو من بارع التقسيم فيكون وعدا للمؤمنين بالنصر ووعيداً للكافرين بالعقوبة والخسار {قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ} أي قال أشراف قومه المستكبرين عن الإِيمان بالله ورسله {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أقسموا على أحد الأمرين: إما إخراج شعيب وأتباعه وإما العودة إلى ملتهم أي إلى الكفر والمعنى لنخرجنك يا شعيب ومن آمن بك من بين أظهرنا أو لترجعن أنت وهم إلى ديننا قال شعيب مجيباً لهم {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} أي أتجبروننا على الخروج من الوطن أو العودة في ملتكم ولو كنّا كارهين لذلك؟ والاستفهام للإِنكار {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} أي إن عدنا إلى دينكم بعد أن أنقذنا الله منه بالإِيمان وبصّرنا بالهدى نكون مختلقين على الله أعظم أنواع الكذب، وهذا تيئيسٌ للكفار من العودة إلى دينهم {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا} أي لا ينبغي ولا يصح لنا أن نعود إلى ملتكم ودينكم إلا إذا شاء الله لنا الانتكاس والخذلان فيمضي فينا قضاؤه {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي وسع علمه كل الأشياء {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} أي اعتمادنا على الله وهو الكافي لمن توكل عليه {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} أي احكم بيننا وبينهم بحكمك الحق الذي لا جور فيه ولا ظلم وأنت خيرالحاكمين {وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} أي قال الأشراف من قومه الفجرة الكفرة: إذا اتبعتم شعيباً وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه إنكم إذاً لخاسرون لاستبدالكم الضلالة بالهدى قال تعالى {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي فأخذتهم الزلزلة العظيمة فأصبحوا ميّتين جاثمين على الركب {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} أي أهلك الله المكذبين كأنهم لم يقيموا في ديارهم منعَّمين {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين} إخبارٌ عنهم بالخسار بعد الهلاك والدمار {(1/425)
فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} قاله تأسفاً لشدة حزنه عليهم لأنهم لم يتبعوا نصحه {فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي كيف أحزن على من لا يستحق أن يُحزن عليه قال الطبري: أي كيف أحزن على قوم جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وأتوجع لهلاكهم.
البَلاَغَة: 1 - {نَاقَةُ الله} الإضافة للتشريف والتكريم.
2 - {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء} التنكير للتقليل والتحقير أي لا تمسوها بأدنى سوء.
3 - {أَتَأْتُونَ الفاحشة} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ والتشنيع.
4 - {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يسمى هذا النوع في علم البديع التعريض بما يوهم الذم ولذلك قال ابن عباس: عابوهم بما يُمدح به.
5 - {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} إظهار الاسم الجليل للمبالغة في التضرع وتقديم الجار والمجرور لإِفادة الحصر.
6 - بين لفظ {مُؤْمِنُونَ} و {كَافِرُونَ} طباقٌ.
فَائِدَة: الذي عقر الناقة هو «قُدار بن سالف» وإنما نسب الفعل إليهم جميعاً في قوله تعالى {فَعَقَرُواْ الناقة} لأنه كان برضاهم وأمرهم، والراضي بالعمل القبيح شريك في الجريمة.(1/426)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
المنَاسََبََة: لما ذكر تعالى قصص الأنبياء (نوح، هود، صالح، لوط، شعيب) وما حلَ بأقوامهم من العذاب والنكال حين لم تُُجْد فيهم الموعظة"، ذكر تعالى هنا سنته الإِلهية في الانتقام ممن كذّب أنبياءه وذلك بالتدرج معهم بالبأساء والضراء، ثم بالنعمة والرخاء، ثم بالبطش بهم إن لم يؤمنوا ثم أعقب ذلك بقصة موسى مع الطاغية فرعون وفيها كثير من العبر والعظات.
اللغَة: {البأسآء} شدة الفقر {الضرآء} الضرُّ والمرض {عَفَوْاْ} كثروا ونموا {بَغْتَةً} فجأة {َمَلَئِهِ} أشراف قومه {أَرْجِهْ} أخّرْ {صَاغِرِينَ} أذلاء {تَلْقَفُ} تبتلع وتلتقم {يَأْفِكُونَ} الإِفك: الكذب {أَفْرِغْ} الإِفراغ: الصبُّ أي اصببه علينا.
التفِسير: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ} في الكلام حذف أي وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبه أهلها {إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء} أي عاقبتاهم بالبؤس والفقر، والمرض وسوء الحال {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا من ذنوبهم {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة} أي ثم أبدلناهم بالفقر والمرض، الغنى والصحة {حتى عَفَوْاْ} أي حتى كثروا ونموا {وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء} أي أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا كفراناً لها: هذه عادة الدهر وقد مسّ آباءنا مثل ذلك من المصائب ومن الرخاء وليست بعقوبة من الله فلنبق على ديننا، والغرضُ أن الله ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه فما فعلوا، ثم بالحسنة ليشكروا فما فعلوا، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب ولهذا(1/427)
قال تعالى {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي أخذناهم بالهلاك والعذاب فجأةً من حيث لا يدرون {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا} أي ولو أن أهل تلك القرى الذين كَذَّبوا وأُهلكوا آمنوا بالله ورسله واتقوا الكفر والمعاصي {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء} أي لوسّعنا عليهم الخير من كل جانب وقيل: بركاتُ السماء المطرُ، وبركات الأرض الثمارُ، قال السدي: فتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق {والأرض ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي ولكنْ كذّبوا الرسل فعاقبناهم بالهلاك بسوء كسبهم {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ} الهمزة للإِنكار أي هل أمن هؤلاء المكذبون أن يأتيهم عذابنا ليلاً وهم نائمون غافلون عنه؟ {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} ؟ أم هل أمنوا أن يأتيهم عذابنا ونكالنا نهاهراً جهاراً وهم يلهون ويشتغلون بما لا يُجدي كأنهم يلعبون؟ {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} أي أفأمنوا استدارجه إياهم بالنعمة حتى يهلكوا في غفلتهم؟ فإنه لا يأمن ذلك إلا القوم الذين خسروا عقولهم وإنسانيتهم فصاروا أخسَّ من البهائم قال الحسن البصري: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفقٌ خائفٌ وجلٌ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو مطمئن آمن {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ} أي أولم يتضح ويتبيّن للذين يخلفون الأرض بعد هلاك أهلها الذين كانوا يعمرونها قبلهم، والمراد بها كفار مكة ومن حولهم {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي لو أردنا لأهلكناهم بسبب ذنوبهم كما أهلكنا من قبلهم قال في البحر: أي قد علمتم ما حلّ بهم أفما تحذرون أن يحل بكم ما حلّ بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي ونختم على قلوبهم فلا يقبلون موعظةً ولا تذكيراً سماع منتفع بهما {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا} أي تلك القرى المذكورة نقصُّ عليك يا محمد بعض أخبارها وما حصل لأهلها من الخسف والرجفة والرجم بالحجارة ليعتبر بذلك من يسمع وما حدث أهولُ وأفظع {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي جاءتهم بالمعجزات والحجج القاطعات {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} أي ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل لتكذيبهم إياهم قبل مجيئهم بالمعجزات وبعد مجيئهم بها فحالهم واحد في العتو والضلال قال الزمخشري: أي استمروا على التكذيب من لدنْ مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرّين لا يرعوون مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم نطبع على قلوب الكافرين فلا يكاد يؤثر فيهم النُّذر والآيات، وفيه تحذير للسامعين {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أي ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء للعهد بل وجدناهم خارجين عن الطاعة والامتثال قال ابن كثير: والعهد الذي أخذه هو ما فطرهم عليه وأخذه عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم فخالفوه وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بِآيَاتِنَآ} أي ثم بعثنا من بعد الرسل المتقدم ذكرهم موسى بن عمران بالمعجزات الباهرات والحجج الساطعات {إلى فِرْعَوْنَ(1/428)
وَمَلَئِهِ} أي أرسلناه إلى فرعون - ملك مصر في زمن موسى - وقومه {فَظَلَمُواْ بِهَا} أي كفروا وجحدوا بها ظلماً وعناداً {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} أي انظر أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين كيف أغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه، وهذا أبلغُ في النكال لأعداء الله، وأشفى لقلوب أولياء الله {وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} أي إني رسولٌ إليك من الخالق العظيم رب كل شيء وخالقه ومليكه {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق} أي جديرٌ بي وحقٌ عليَّ أن لا أخبر عن الله إلا بما هو حقٌ وصدق لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} أي جئتكم بحجة قاطعة من الله تشهد على صدقي فخلِّ واترك سبيل بني إسرائيل حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطنُ آبائهم قال أبو حيان: ولما كان فرعون قد ادعى الربوبية فاتحه موسى بقوله {إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطلٌ لا محقٌ، ولما كان قوله {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق} أردفها بما يدل على صحتها وهو قوله {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ولما قرّر رسالته فرَّع عليها تبليغ الحكم وهو قوله {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي قال فرعون لموسى: إن كنت جئت بآية من ربك كما تدّعي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك، قال ذلك على سبيل التعجيز لموسى {فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أي فإِذا بها حية ضخمة طويلة قال ابن عباس: تحولت إلى حية عظية فاغرة فاها مسرعةً نحو فرعون {مُّبِينٌ} أي ظاهر لا متخيَّل {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي أخرجها من جيبة فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً عجيباً يغلب نورها نور الشمس قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض {قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي قال الأشراف منهم وهم أصحاب مشورته إن هذا عالمٌ بالسحر ماهرٌ فيه، وقولهم {عَلِيمٌ} أي بالغٌ الغاية في علم السحر وخدعه وفنونه {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} أي يخرجكم من أرض مصر بسحره {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي بأي شيء تأمرون أن نفعل في أمره؟ وبأي شيء تشيرون فيه؟ قال القرطبي: قال فرعون: فماذا تأمرون وقيل: هو من قول الملأ أي قالوا لفرعون وحده {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} كما يُخاطب الجبارون والرؤساء: ما ترون في كذا {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} أي أخَّر أمرهما حتى ترى رأيك فيهما وأرسلْ في أنحاء البلاد من يجمع لك السحرة {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} أي يأتوك بكل ساحرٍ مثله ماهر في السحر، وكان رؤساء السحرة بأقصى صعيد مصر {وَجَآءَ السحرة فِرْعَوْنَ قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} في الكلام محذوفٌ يدل عليه السياق وهو أنه بعث إلى السحرة وطلب أن يُجمعوا له فلما جاءوا فرعون قالوا: إنَّ لنا لأجراً عظيماً إن نحن غلبنا موسى وهزمناه وأبطلنا سحره؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} أي قال فرعون: نعم لكم الأجر(1/429)
وأزيدكم على ذلك بأن أجعلكم من المقربين أي من أعزّ خاصتي وأهل مشورتي قال القرطبي: زادهم على ما طلبوا {قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} أي قال السحرة لموسى: اختر إمّا أن تُلقي عصاك أو نلقي نحن عصيّنا قال الزمخشري: تخييرهم إيّاه أدبٌ حسن كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يخوضوا في الجدال هذا ما قاله الزمخشري، والأظهر أنهم قالوا ذلك من باب الاعتزاز بالنفس وتوهم الغلبة وعدم الاكتراث بأمر موسى كما يقول المعتد بنفسه: أبدأ أو تبدأ {قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس} أي قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقوا العصيّ والحبال سحروا أعين الناس أي خيلوا إليهم ما لا حقيقة له كما قال تعالى
{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] {واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} أي أفزعوهم وأرهبوهم إرهاباً شديداً حيث خيلوها حياتٍ تسعى وجاءوا بسحر عظيم يهابه من رآه قال ابن اسحاق: صُفَّ خمسة عشر ألف ساحر مع كل ساحرٍ حبالُه وعصيُّه وفرعون في مجلسه مع أشراف مملكته فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد ثم ألقى رجل منهم ما في يده من العصيّ والحبال فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي أوحينا إليه بأن ألق عصاك فألقاها فإذا هي تبتلع بسرعة ما يزوّرونه من الكذب قال ابن عباس {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} لا تمر بشيء من حبالهم وخشبهم التي ألقوها إلا التقمته {فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ثبت وظهر الحق لمن شهده وحضره، وبطل إفك السحر وكذبه ومخايله {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ} أي غُلب فرعونُ وقومهُ في ذلك المجمع العظيم وصاروا ذليلين {وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} أي خرّوا ساجدين معلنين إيمانهم بربّ العالمين لأن الحق بهرهم قال قتادة: كانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} أي قال فرعون الجبار للسحرة آمنتم بموسى قبل أن تستأذنوني؟ والمقصود بالجملة التوبيخ {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا} أي صنيعكم هذا حيلةٌ احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد لتخرجوا منها القبط وتسكنوا بني إسرائيل، قال هذا تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإِيمان {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي فسوف تعلمون ما يحلُّ بكم، وهذا وعيد وتهديد ساقه بطريق الإِجمال للتهويل ثم عقّبه بالتفصيل فقال {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} أي لأقطعنَّ من كل واحد منكم يده ورجله من خلاف قال الطبري: ومعنى {مِّنْ خِلاَفٍ} هو أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى، أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى فيخالف بين العضوين في القطع {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أي ثم أصلبكم جميعاً تنكيلاً لكم ولأمثالكم، والصلب التعليق على الخشب حتى الموت {قالوا إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} إنّا راجعون إلى الله بالموت لا محالة فلا نخاف مما تتوعدنا به ولا نبالي بالموت وحبذا الموت في سبيل الله {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا} أي ما تكره منا ولا تعيب علينا إلا إيماننا بالله وآياته!!(1/430)
كقوله
{وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد} [البروج: 8] قال الزمخشري: أرادوا وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها وهو الإِيمان {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي أفضْ علينا صبراً يغمرنا عند تعذيب فرعون إيانا وتوفنا على ملة الإِسلام غير مفتونين {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} أي قال الأشراف لفرعون: أتترك موسى وجماعته ليفسدوا في الأرض بالخروج عن دينك وترك عبادة آلهتك!! وفي هذا إغراءٌ لفرعون بموسى وقومه وتحريضٌ له على قتلهم وتعذيبهم {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} أي قال فرعون مجيباً لهم: سنقتل أبناءهم الذكور ونستبقي نساءهم للاستخدام كما كنا نفعل بهم ذلك وإنّا عالون فوقهم بالقهر والسلطان {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا} أي قال موسى لقومه تسليةً لهم حين تضجروا مما سمعوا: استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما ينالكم من أذاهم واصبروا على حكم الله {إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي الأرض كلها الله يعطيها من أراد من عباده، أطمعهم في أن يورثهم الله أرض مصر {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} أي النتيجة المحمودة لمن اتقى الله {قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} أي أوذينا من قبل أن تأتينا بالرسالة ومن بعدما جئتنا بها يعنون أن المحنة لم تفارقهم فهم في العذاب والبلاء قبل بعثة موسى وبعد بعثته {قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي لعل ربكم أن يهلك فرعون وقومه ويجعلكم تخلفونهم في أرضهم بعد هلاكهم وينظر كيف تعملون بعد استخلافكم من الإِصلاح والإِفساد، والغرضُ تحريضهم على طاعة الله، وقد حقق الله رجاء موسى فأغرق فرعون وملّك بن إسرائيل أرض مصر قال في البحر: سلك موسى طريق الأدب مع الله وساق الكلام مساق الرجاء.
البَلاَغَة: 1 - {بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة} بين لفظ الحسنة والسيئة طباقٌ وكذلك بين لفظ {الضرآء والسرآء} .
2 - {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء} شبّه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول فهو من باب الاستعارة أي وسعنا عليهم الخير من جميع الأطراف.
3 - {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى} تكررت الجملة والغرض منها الإِنذار ويسمى هذا في علم البلاغة الإطناب ومثلها {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله} قال أبو السعود: تكريرٌ للنكير لزيادة التقرير، ومكرُ الله استعارة لاستدراجه العبد وأخذه من حيث لا يحتسب.
4 - {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} أكد الجملة بإن واللام لإِزالة الشك من نفوس السحرة ويسمى هذا النوع من أضرب الخبر إنكارياً.
5 - {فَوَقَعَ الحق} فيه استعارة استعير الوقع للثبوت والحصول والله أعلم.(1/431)
تنبيه: لما عجز فرعون عن دفع الحجة بالبرهان عدل إلى البطش والفتك بالسنان، وهكذا حال كل ضال مبتدع إذا أعيته الحجة مال إلى التهديد والوعيد.(1/432)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
المنَاَسَبَة: لما كان قصة الكليم مع الطاغية فرعون مملوءة بالعبر والعظات لذلك استطردت الآيات في الحديث عنهم فتحدثت عمّا حلَّ بقوم فرعون ن البلايا والنكبات، وما ابتلاهم الله به من القحط والجدب، والطوفان والجراد وغير ذلك من المصائب نتيجة إِصرارهم على الكفر وتكذيبهم بآيات الله، ثم ذكرت أنواع النعم التي أنعم الله بها على بني إِسرائيل ومن أعظمها إِهلاك عدوهم وقطعهم البحر مع السلامة والأمان.
اللغَة: {السنين} جمع سَنَة وهي الجدبُ والقحطُ {يَطَّيَّرُواْ} يتشاءموا والأصل يتطيّروا مأخوذٌ من الطِّيرة وهي زجر الطير ثم استعمل في التشاؤم {الطوفان} السيل المتلف المدمِّر {القمل} السوس وهي حشرات صغيرة تكون في الحنطة وغيرها تفسد الحبوب {الرجز} العذاب، والرجس بالسين: النجس وقد يستعمل بمعنى العذاب {اليم} البحر {يَعْكُفُونَ} عكف على الشيء أقام عليه ولزمه {مُتَبَّرٌ} مهلكٌ والتبار: الهلاك {صَعِقاً} مغشياً عليه يقال: صَعِق الرجل إِذا أُغمي عليه.
التفِسير: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين} اللام موطئة لقسم محذوف أي والله لقد ابتلينا واختبرنا فرعون وأتباعه بالجدب والقحط {وَنَقْصٍ مِّن الثمرات} أي وابتليناهم بإِذهاب الثمار من كثرة الآفات قال المفسرون: كانت النخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون وترقُّ قلوبهم فإن الشدة تجلب الإِنابة والخشية ورقة القلب، ثم بيّن تعالى أنهم مع تلك المحن والشدائد لم يزدادوا إِلا تمرداً وكفراً فقال {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه} أي إذا جاءهم الخِصْب والرّخاء قالوا هذه لنا وبسعدنا ونحن مستحقون لذلك {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} أي وإِذا جاءهم الجدب والشدة تشاءموا بموسى ومن معه من المؤمنين أي قالوا: هذا بشؤمهم قال تعالى رداً عليهم {ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} أي إِن ما يصيبهم من خير أو شر بتقدير الله وليس بشؤم موسى قال ابن عباس: الأمر من قِيَل الله ليس شؤمهم إلاّ من قِيَله وحكمه {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أن ما لحقهم من القحط والشدائد من عند الله بسبب معاصيهم لا من عند موسى {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي قال قوم فرعون لموسى: أي شيء تأتينا به يا موسى من المعجزات لتصرفنا عما نحن عليه فلن نؤمن لك قال الزمخشري: فإن قلت كيف سموها آية ثم قالوا {لِّتَسْحَرَنَا بِهَا} قلت: ما سموها آية لاعتقادهم أنها آية وإِنما قصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي قال تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان} أي أرسلنا عليهم المطر الشديد حتى عاموا فيه وكادوا يهلكون قال ابن عباس: الطوفان كثرة الأمطار المغرقة المتلفة(1/433)
للزروع والثمار {والجراد} أي وأرسلنا عليهم كذلك الجراد فأكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم {والقمل} وهو السوس حتى نخر حبوبهم وتتّبع ما تركه الجراد وقيل: هو القمل المشهور كان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيمصه {والضفادع} جمع ضفدع حتى ملأت بيوتهم وطعامهم وإِذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إلى فمه {والدم} أي صارت مياههم دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه دماً {آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ} أي علامات ظاهرات فيها عبرٌ وعظاتٌ ومع ذلك استكبروا عن الإِيمان {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} أي استكبروا عن الإِيمان بها لغلوهم في الإِجرام {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز} أي وحين نزل بهم العذاب المذكور {قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي ادع لنا ربك ليكشف عنا البلاء بحق ما أكرمك به من النبوة قال الزمخشري: أي أسعفنا إلى ما تطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إِسْرَآئِيلَ} اللام لام القسم أي والله لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن فيه يا موسى لنصدقنَّ بما جئت به ولنطلقنَّ سراح بني إِسرائيل، وقد كانوا يستخدمونهم في أرذل الأعمال {فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ} أي فلما كشفنا بدعاء موسى عنهم العذاب إلى حدٍّ من الزمان هم واصلون إِليه ولا بدَّ قال ابن عباس: هو وقت الغَرق {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي إذا هم ينقضون عهودهم ويصرّون على الكفر {فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم} أي فانتقمنا منهم بالإِغراق في البحر {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} أي بسبب تكذيبهم بآيات الله وإِعراضهم عنها وعدم مبالاتهم بها {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} أي وأورثنا بني إِسرائيل الذين كانوا يُستذلون بالخدمة أرض الشام وملّكناهم جميع جهاتها ونواحيها: مشارقها ومغاربها {التي بَارَكْنَا فِيهَا} بالخيرات وكثرة الثمرات {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ} أي تمَّ وعد الله الصادق بالتمكين لبني إِسرائيل في الأرض ونصره إياهم على عدوهم قال الطبري: وكلمتُه الحسنى هي قوله جل ثناؤه
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص: 5] الآية {بِمَا صَبَرُواْ} أي بسبب صبرهم على الأذى {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} أي خرّبنا ودمّرنا القصور والعمارات التي كان يشيدها فرعون وجماعته وما كانوا يعرشون من الجنّات والمزارع، وإلى هنا تنتهي قصة فرعون وقومه ويبتدئ الحديث عن بني إِسرائيل وما أغدق الله عليهم من النعم الجسام، وأراهم من الآيات العظام، تسليةً لرسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مما رآه منهم قال تعالى {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر} أي عبرنا ببني إِسرائيل البحر وهو بحر القُلْزم عند خليج السويس الآن {فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} أي مروا على قوم يلازمون على عبادة أصنام لهم {قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} أي اجعل لنا صنماً نعبده كما لهم أصنام يعبدونها قال ابن عطية: الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يُتقرب به إلى الله وإلا فبعيدٌ أن يقولوا لموسى اجعل لنا إلهاً نُفرده بالعبادة {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أي إِنكم قوم تجهلون عظمة الله وما يجب أن ينزّه عنه من(1/434)
الشريك والنظير قال الزمخشري: تعجَّبَ من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى، والمعجزة الكبرى فوصفهم بالجهل المطلق وأكّده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} أي هالك مدمَّر ما هم فيه من الدين الباطل وهو عبادة الأصنام {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي باطل عملهم مضمحلٌ بالكلية لأنهم عبدوا ما لا يستحق العبادة {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} أي أأطلب لكم معبوداً غير الله المستحق للعبادة والحال أنَّ الله فضَّلكم على غيركم بالنعم الجليلة! {قال الطبري: فضلَّكم على عالمي دهركم وزمانكم {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} أي واذكروا يا بني إِسرائيل النعم التي سلفت مني إِليكم حين أنجيتكم من قوم فرعون يذيقونكم أفظع أنواع العذاب وأسوأه ثم فسره بقوله {يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} أي يذبحون الذكور ويستبقون الإِناث لامتهانهن في الخدمة {وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي وفي هذا العذاب اختبار وابتلاء من الله لكم عظيم فنجاكم منه أفلا تشكرونه؟ {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي وعدنا موسى لمناجاتنا بعد مضي ثلاثين ليلة وأكملناها بعشر ليالٍ فتمت المناجاة بعد أربعين ليلة قال الزمخشري: روي أن موسى وعد بني إِسرائيل وهو بمصر إِن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتابٍ من عند الله فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتمَّ الثلاثين أنكر خلوف فمه «تغير رائحته» فتسوّك فأوحى الله تعالى إِليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك} فأمره تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي} أي كن خليفتي فيهم إِلى أن أرجع {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} أي وأصلحّ أمرهم ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض بمعصيتهم لله {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} أي ولما جاء موسى للوقت الذي وعدناه فيه وناجاه ربه وكلمة من غير واسطة {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي أرني ذاتك المقدسة أنظر إِليها قال القرطبي: اشتاق إِلى رؤية ربه لما أسمعه كلامه فسأل النظر إِليه {قَالَ لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أي أجابه ربه لن تستطيع رؤيتي في الدنيا فإن هذه البنية البشرية لا طاقة لها بذلك ولكنْ سأتجلّى لما هو أقوى منك وهو الجبل فإن ثبت الجبل مكانه ولم يتزلزل فسوف تراني أي تثبت لرؤيتي وإِلاّ فلا طاقة لك {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً} أي فلما ظهر من نور الله قدر نصف أنملة الخنصر أندك الجبل وتفتّت وسقط موسى مغشياً عليه من هول ما رأى قال ابن عباس: ما تجلّى منه سبحانه للجبل إِلا قدر الخنصر فصار تراباً وخرَّ موسى مغشياً عليه وفي الحديث: فساخ الجبل {فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} أي فلما صحا من غشيته قال تنزيهاً لك يا رب وتبرئة أن يراك أحدٌ في الدنيا تبتُ إِليك من سؤالي رؤيتك في الدنيا وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك {قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى(1/435)
الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} أي اخترتك على أهل زمانك بالرسالة الإِلهية وبتكليمي إِياك بدون واسطة {فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ} أي خذ ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة {وَكُنْ مِّنَ الشاكرين} واشكر ربك على ما أعطاك من جلائل النعم قال أبو السعود: والآية مسوقة لتسليته عليه السلام من عدم الإِجابة إِلى سؤال الرؤية كأنه قيل: إِن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما لم أعط أحداً من العالمين فاغتنمها وثابرْ على شكرها {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ} أي كتبنا له كل شيء كان أبو إِسرائيل محتاجين إِليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام مبيّنة للحلال والحرام كلُّ ذلك في ألواح التوراة {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} أي ليتعظوا بها ويزد جروا وتفصيلاً لكل التكاليف الشرعية {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} أي خذ التوراة بجدٍّ واجتهادٍ شأن أولي العزم {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي وأمر بني إِسرائيل بالحث على اختيار الأفضل كالأخذ بالعزائم دون الرخص فالعفو أفضل من القصاص، والصبر أفضل من الانتصار كما قال تعالى
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] قال ابن عباس: أُمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أُمر به قومه {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} أي سترون منازل الفاسقين - فرعون وقومه - كيف أقفرت منهم ودُمِّر لفسقهم لتعتبروا فلا تكونوا مثلهم، فإِن رؤيتها وهي خالية عن أهلها موجبة للاعتبار والانزجار {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي سأمنع المتكبرين عن فهم آياتي فلا يتفكرون) ولا يتدبرون بما فيها، وأطمس على قلوبهم عقوبةً لهم على تكبرهم قال الزمخشري: وفيه إِنذار للمخاطبين من عاقبة الذين يُصرفون عن آيات الله لتكبرهم وكفرهم بها لئلا يكونوا مثلهم فيسلك بهم سبيلهم {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} أي وإِن يشاهدوا كل آية قرآنية من الآيات المنزلة عليهم أو يرَوْا كل معجزة ربانية لا يصدقوا بها {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي وإِن يروا طريق الهدى والفلاح لا يسلكوه {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي وإِن يروا طريق الضلال والفساد سلكوه كقوله
{فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] {ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي ذلك الانحراف عن هَدْي الله وشرعه بسبب تكذيبهم بآيات الله {وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} أي وغفلتهم عن الآيات التي بها سعادتهم حيث لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي جحدوا بما أنزل الله {وَلِقَآءِ الآخرة} أي وكذبوا بلقاء الله في الآخرة أي لم يؤمنوا بالبعث بعد الموت {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت أعمالهم الخيرية التي عملوها في الدنيا من إِحسانٍ وصلة رحم وصدقة وأمثالها وذهب ثوابها لعدم الإِيمان {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي هل يُثابون أو يعاقبون إِلما بما عملوا في الدنيا؟ {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} قال الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى عن ضلال من ضلَّ من بني إِسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامريُّ من الحليّ، فشكّل لهم منه عجلاً جداً لا روح فيه وقد احتال بإِدخال الريح فيه حتى صار يسمع له خُوار أي صوتٌ كصوت البقر ومعنى {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد ذهاب موسى إِلى الطور لمناجاة ربه {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي كيف عبدوا العجل واتخذوه إِلهاً مع أنه ليس فيه شيء(1/436)
من صفات الخالق الرازق، فإنه لا يملك قدرة الكلام ولا قدرة هدايتهم إِلى سبيل السعادة فكيف يتخذ إِلهاً؟ {اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} أي عبدوا العجل واتخذوه إِلهاً فكانوا ظالمين لأنفسهم حيث وضعوا الأشياء في غير موضعها، وتكرير لفظ {اتخذوه} لمزيد التشنيع عليهم {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} أي ندموا على جنايتهم واشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} أي تبينوا ضلالهم تبيناً جلياً كأنهم أبصروه بعيونهم {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} أي لئن لم يتداركنا الله برحمته ومغفرته {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} أي لتكوننَّ من الهالكين قال ابن كثير: وهذا اعترافٌ منهم بذنبهم والتجاءٌ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
البَلاَغَة: 1 - {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة} بين لفظ الحسنة والسيئة طباقً كما أن بين لفظ {طَائِرُهُمْ} و {يَطَّيَّرُواْ} جناس الاشتقاق وكلاهما من المحسنات البديعية.
2 - {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ} عدل عن الماضي إِلى المضارع لاستحضار الصورة في ذهن المخاطب ومثله {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} والأصل ما صنعوا وما عرشوا.
3 - {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أتى بلفظ تجهلون ولم يقل: جهلتم إِشعاراً بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماضٍ ولا مستقبل.
4 - {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} فيه التفات من الغيبة إِلى الخطاب للمبالغة في الحض على نهج سبيل الصالحين، والأصل أن يقال: سأريهم.
5 - {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} هذا من باب الكناية فهو كناية عن شدة الندم لأن النادم يعض على يده غماً.
6 - بين لفظ {مَشَارِقَ} و {مَغَارِبَ} طباقٌ.
تنبيه: مذهب أهل السنة قاطبة على أن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة وأنكرت المعتزلة ذلك واستدلوا بالآية الكريمة {لَن تَرَانِي} وليس لهم في هذه الآية متمسك بل هي دليلٌ لأهل السنة والجماعة على إمكان الرؤية، لأنها لو كانت مُحالاً لم يسألها موسى فإِن الأنبياء عليهم السلام يعلمون ما يجوز على الله وما يستحيل، ولو كانت الرؤية مستحيلة لكان في الجواب زجرٌ وإِغلاظ كما قال تعالى لنوح {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46] فهذا المنع من رؤية الله إِنما هو في الدنيا لضعف البنية البشرية عن ذلك قال مجاهد: إِن الله قال لموسى: لن تراني، لأنك لا تطيق ذلك ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد، فإِن استقرو أطاق الصبر لهيبتي أمكن أن تراني أنت، وإِن لم يُطق الجبل فأحرى ألاّ تطيق أنت فعلى هذا جعل الله الجبل مثالاً لموسى ولم يجعل الرؤية مستحيلة على الإِطلاق، وقد صرح بوقوع الرؤية في الآخرة كتابُ الله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] فلا ينكرها إلا مبتدع.
َفَائِدَة: لما سمع الكليم موسى كلام الله اشتاق إِلى رؤيته، لأن التلذذ بسماع كلام الحبيب يزيد(1/437)
في الشوق إِليه والحنين وقد أحسن من قال:
وأفرحُ ما يكونُ الشوقُ يوماً ... إِذا دنتِ الدّيارُ من الديار
لطيفَة: السعادة والشقاوة بيد الله فموسى بن عمران ربّاه فرعون فكان مؤمناً، وموسى السامري ربّاه جبريل وكان كافراً، فلم تنفع تربية الأمين لموسى السامري، ولم تضر تربية اللعين لموسى الكليم عليه السلام، وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى:
إِذا المرءُ لم يُخْلَقْ سعيداً من الأزَل ... فقدْ خابَ من ربَّى وخابَ المُؤمَّلُ
فموسى الّذي ربّاهُ جبريلُ كافرٌ ... وموسًى الذي ربّاه فِرْعونُ مُرْسَل(1/438)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن قصة موسى عليه السلام مع بني إِسرائيل - وما أغدق الله عليهم من النعم، وما قابلوها به من الجحود والعصيان، وقد ذكرت الآيات قصة {أَصْحَابَ القرية} [يس: 13] واعتداءهم يوم السبت بالاصطياد فيه وكيف أن الله تعالى مسخهم قردة، وفي ذكل عبرة للمعتبرين.
اللغَة: {أَسِفاً} الأسف: شهدة الحزن أو الغضب يقال هو أسِفٌ وأسيف {ابن أُمَّ} أصلها ابن أمي وهي استعطاف ولين {تُشْمِتْ} الشماتة: السرور بما يصيب الإنسان من مكروه وفي الحديث «وأعوذ بك ن شماتة الأعدء» ;لرَّجْفَةُ} الزلزلة الشديدة {هُدْنَآ} تبنا يقال: هاد يهودُ إِذا تاب ورجع فهو هائد قال الشاعر: إني امرؤٌ مما جنيتُ هائد {إِصْرَهُمْ} التكاليف الشاقة وأصل الإِصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحِرَاك {الأغلال} جمع غُل وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد {عَزَّرُوهُ} وقّروه ونصروه {أَسْبَاطاً} جمع سبط وهو ولد الولد أو ولد البنت ثم أطلق على كل قبيلة من بني إِسرائيل {تَأَذَّنَ} آذن من الإِيذانُ بمعنى الإِعلام {يَسُومُهُمْ} يذيقهم {خَلَفَ} بسكون اللام من يخلف غيره بالسوء والشر وأمّا بفتح اللام فهو يخلف غيره بالخير ومنه قولهم: «جعلك الله خير خلف لخير سلف»
التفِسير: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أي ولما رجع وسى من المناجاة {غَضْبَانَ} مما فعلوه من عبادة العجل {أَسِفاً} أي شديد الحزن {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدي}(1/439)
أي بئس ما فعلتموه بعد غيبتي حيث عبدتم العجل {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أي أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور؟ والاستفهام للإِنكار {وَأَلْقَى الألواح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} أي طرح الألواح لما عراه من شدة الغضب، وفرط الضجر غضباً لله من عبادة العجل، وأخذ بشعر رأس أخيه هارون يجره إليه ظناً منه أنه قصَّر في كفهم عن ذلك وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه قال ابن عباس: لّما عاين قومه وقد عكفوا على العجل ألقى الألواح فكسرها غضباً لله وأخذ برأس أخيه يجره إليه {قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} أي قال هارون يا ابن أمي - وهو نداء استعطاف وترفق - إن القوم استذلوني وقهروني وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك فأنا لم أقصر في نصحهم {فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} أي لا تُسئْ إليَّ حتى يُسرَّ الأعداء بي ويشمتوا بإهانتك إليَّ ولا تجعلني في عداد الظالمين بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير قال مجاهد: {الظالمين} أي الذين عبدوا العجل {قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} لما تحقق لموسى براءة ساحة هارون عليه السلام من التقصير طلب عند ذلك المغفرة له ولأخيه فقال {اغفر لِي وَلأَخِي} الآية قال الزمخشري: استغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه مما عسى أن يكون فرط منه في حين الخلافة، وطلب ألاّ يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة {إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا} أي إن الذين عبدوا العجل - ذكر البقر - واتخذوه إلهاً سيصيبهم غضب شديد من الرحمن، وينالهم في الدنيا الذل والهوان قال ابن كثير: أما الغضب الذي نال بني إسرائيل فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة حتى قتلَ بعضُهم بعضاً، وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلاً وصَغَاراً في الحياة الدنيا {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين} أي كما جازينا هؤلاء بإِحلال الغضب والإِذلال كذلك نجزي كل من افترى الكذب على الله قال سفيان بن عُيينة: كلُّ صاحب بدعة ذليل {والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وآمنوا} أي عملوا القبائح والمعاصي ثم تابوا ورجعوا إلى الله من بعد اقترافها وداموا على إيمانهم وأخلصوا فيه {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إنَّ ربك يا محمد من بعد تلك التوبة لغفور لذنوبهم رحيم بهم قال الألوسي: وفي الآية إعلامٌ بأنَّ الذنوب وإن جلّتْ وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجلُّ، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له:
يا ربِّ إنْ عَظُمتْ ذنوبي كثرةً ... فلقد علمتُ بأنَّ عفوكَ أعظمُ
إن كانَ لا يَرْجوكَ إلا محسنٌ ... فبمنْ يلوذُ ويستجيرُ المجرمُ
{وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} أي سكن غضب موسى على أخيه وقومه {أَخَذَ الألواح} أي ألواح التوراة التي كان ألقاها {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} أي وفيما نُسخ فيها وكُتب هداية للحق(1/440)
ورحمة للخلق بإرشادهم إلى ما فيه سعادة الدارين {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي هذه الرحمة للذين يخافون الله ويخشون عقابه على معاصيه {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا} أي اختار موسى من قومه سبعين رجلاً ممن لم يعبدوا العجل للوقت الذي وعده ربه الإِتيان للاعتذار عن عبادة العجل {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي فلما رجف بهم الجبل وصعقوا {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} أي قال موسى على وجه التضرع والإِستسلام لأمر الله: لو شئت يا ربِّ أن تهلكنا قبل ذلك لفعلتَ فإِنَّ عبيدك وتحت قهرك وأنت تفعل ما تشاء {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ} ؟ أي أتهلكنا وسائر بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء السبعون في قولهم: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] ؟ والاستفهام استفهام استعطاف وتذلل فكأنه يقول: لا تعذبنا يا ألله بذنوب غيرنا قال الطبري في رواية السدي: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعداً فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً على عينه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإِنك قد كلمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارهم لو شيئت أهلكتَهم من قبل وإياي «أقول: إذا كان هذا قول الأخيار من بني إسرائيل فكيف حال الأشرار منهم؟ نعوذ بالله من خبق اليهود {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} أي ما هذه الفتنة التي حدثت لهم إلا محنتك وابتلاؤك تمتحن بها عبادك {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ} أي تضل بهذه المحمة من تشاء إضلاله وتهدي من تشاء هدايته {أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا} أي أنت يا رب متولي أمورنا وناصرنا وحافظنا فاغفر لنا ما قارفناه من المعاصي وارحمنا برحمتك الواسعة الشاملة {وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} أي أنت خير من صفح وستر، تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة} هذا من جملة دعاء موسى عليه السلام أي حقّقْ وأثبتْ لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} أي تبنا ورجعنا إليك من جميع ذنوبنا {قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} أي قال تعالى أما عذابي فأصيب به من أشاء من عبادي وأما رحمتي فقد عمَّتْ خلقي كهلم قال أبو السعود: وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصبغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمة مقتضى الذات، وأما العذاب فبمقتضى معاصي العباد {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} أي سأجعل هذه الرحمة خاصة في الآخرة بالذين يتقون الكفر والمعاصي ويعطون زكاة أموالهم ويصدّقون بجميع الكتب والأنبياء {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي} أي هؤلاء الذين تنالهم الرحمة هم الذين يتبعون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ النبيَّ العربي الأمي أي الذي لا يقرأ ولا يكتب قال البيضاوي: وإنما سمّاه رسولاً بالإِضافة إلى الله تعالى، ونبياً بالإضافة إلى العباد {الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} أي الذي يجدون نعته وصفته في التوراة والإِنجيل قال ابن كثير: هذه صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كتب الأنبياء، بشروا أممهم(1/441)
ببعثته وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم {يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر} أي لا يأمر إلا بكل شيء مستحسن ولا ينهي إلا عن كل شيء قبيح {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} أي يحل لهم ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة بشؤم ظلمهم ويُحرّم عليهم ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة التي تشبه الأغلال كقتل النفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب والقصاص من القاتل عمداً كان القتل أو خطأً وشبه ذلك {فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} أي فالذين صدقوا بمحمد وعظّموه ووقّره ونصروا دينه {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ} أي واتبعوا قرآنه المنير وشرعه المجيد {أولئك هُمُ المفلحون} أي هم الفائزون بالسعادة السرمدية {قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} هذا بيان لعموم رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لجميع الخلق أي قل يا محمد للناس إني رسولٌ من عند الله إلى جميع أهل الأرض {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} أي المالك لجميع الكائنات {لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي لا ربَّ ولا معبود سواه فهو الإِله القادر على الإِحياء والإِفناء {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي صدّقوا بآيات الله وصدقوا برسوله المبعوث إلى جميع خلقه {النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ} أي آمنوا بالنبي الأمي صاحب المعجزات الذي لا يقرأ ولا يكتب المصدق بالكتب التي أنزلها الله عليه وعلى غيره من الأنبياء {واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي اسلكوا طريقة واقتفوا أثره رجاء اهتدائهم إلى المطلوب {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي ومن بنى إسرائيل جماعة مستقيمون على شريعة الله يهدون الناس بكلمة الحق لا يجورون قال الزمخشري: لما ذكر تعالى الذين تزلزلوا منهم من الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين: عبادة العجل، وطلب رؤية الله، ذكر أن منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق ويدلونهم ويرشدونهم على الاستقامة {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} أي وفرقنا بني إسرائيل فجعلناهم قبائل شتّى اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من أولاد يعقوب قال أبو حيان: أي فرقناهم وميّزناهم أسباطاً ليرجع أمر كل سبط أي» قبيلة «إلى رئيسة ليخفَّ أمرهم على موسى لئلا يتحاسدوا فيقع الهرج، ولهذا فجّر لهم اثنتي عشرة عيناً لئلا يتنازعوا ويقتتلوا على الماء، وجعل لكل سبطٍ نقيباً ليرجعوا في أمورهم إليه {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} أي حين استولى عليهم العطش في التيه {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ الحجر} أي أوحينا إليه أن يضرب الحجر بعصاه فضربه {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} أي انفجرت من الحجر اثنتا عشرة عيناً من الماء بعدد الأسباط {فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} أي قد عرف كل سبطٍ وجماعة منهم عينهم الخاصة بهم قال الطبري: لا يدخل سبطٌ على غيره في شربه {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام} أي جعلنا الغمام يكنّهم من حر الشمس ويقيهم من أذاها قال الألوسي: وكان الظلُّ يسير بسيرهم ويسكن بإقامتهم {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى} أي وأكرمناهم بطعام شهي هو {المن} وهي شيء حلوٌ ينزل على الشجر(1/442)
يجمعونه ويأكلونه و {والسلوى} وهو طائر لذيذ اللحم يسمى السُمَّاني كلُّ ذلك من إفضال الله وإنعامه عليهم دون جهدٍ منهم {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لهم كلوا من هذا الشيء الطيب اللذيذ الذي رزقناكم إياه {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} في الكلام محذوف تقديره: فكفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك ولكنْ ظلموا أنفسهم حيث عرّضوها بالكفر لعذاب الله {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} أي واذكر لهم حين قلنا لأسلافهم اسكنوا بيت المقدس وكلوا من مطاعمها وثمارها من أي جهة ومن أي مكان شتئم منها {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي وقولوا حين دخولكم: يا ألله حُطَّ عنا ذنوبنا {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم} أي نمح عنكم جميع الذنوب التي سلفت منكم {سَنَزِيدُ المحسنين} أي وسنزيد من أحسن عمله بامتثال أمر الله وطاعته فوقَ الغفران دخولَ الجنان {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ} أي غيَّر الظالمون منهم أمر الله بقولهم كلاماً لا يليق حيث قالوا بدل {حِطَّةٌ} حنظة في شعيرة وبدل أن يدخلوا ساجدين خشوعاً لله دخلوا يزحفون على أستاهم،» أدبارهم «سخرية واستهزاء بأوامر الله {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} أي فأرسلنا عليهم عذاباً من السماء بسبب ظلمهم وعدوانهم المستمر سابقاً ولاحقاً قال أبو السعود: والمراد بالعذاب» الطاعون «روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفاً {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} أي واسأل يا محمد اليهود عن أخبار أسلافهم وعن أمر القرية التي كانت بقرب البحر وعلى شاطئه ماذا حلَّ بهم لما عصوا أمر الله واصطادوا يوم السبت؟ ألم يمسخهم الله قردة وخنازير؟ قال ابن كثير: وهذه القرية هي (أيلة) وهي على شاطئ بحر القلزم {إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت} أي يتجاوزون حدّ الله فيه وهو اصطيادهم يوم السبت {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} أي حين كانت الحيتان» الأسماك «تأتيهم يوم السبت - وقد حُرّم عليهم الصيدُ فيه - كثيرةً ظاهرةً على وجه الماء {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} أي وفي غير يوم السبت وهي سائر الأيام لا تأتيهم بل تغيب عنهم وتختفي {كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي مثل ذلك البلاء العجيب نختبرهم ونمتحنهم بإظهار السمك لهم على وجه الماء في اليوم المحرَّم عليهم صيده وإخفائها عنهم في اليوم الحلال بسبب فسقهم وانتهاكهم حرمات الله قال القرطبي: روي أنها كانت في زمن داود عليه السلام وأن إبليس أوحى إليهم فقال: إنما نُهيتُم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض فكانوا يسوقوا الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد ويحتالون في صيدها {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} قال ابن كثير: يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحظور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها قالت للمنكرة {تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ} أي لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة(1/443)
من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم؟ {قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ} أي قال الناهون: إنما نعظهم لنعذر عند الله بقيامنا بواجب النصح والتذكير {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي ينزعون عمَّاهم فيه من الإِجرام قال الطبري: أي لعلهم أن يتقوا الله فينيبوا إلى طاعته ويتوبوا من معصيتهم إيّاه وتعدّيهم الاعتداء في السبت {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي فلما تركوا ما ذكّرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عن قبول النصيحة إعراضاً كلياً {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء} أي نجينا الناهين عن الفساد في الأرض {وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي وأخذنا الظالمين العصاة بعذابٍ شديد وهم الذين ارتكبوا المنكر {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بسبب فسقهم وعصيانهم لأمر الله {فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} أي فلما استعصوا وتكبروا عن ترك ما نهو عنه {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي مسخناهم إلى قردة الخنازير، والمعنى أنهم عُذبوا أولاً بعذاب شديد فلما لم يرتدعوا وتمادوا في الطغيان مسخوا قردة وخنازير، والحاصل أن أصحاب القرية انقسموا ثلاث فرق: فرقةٌ عصتْ فحلَّ بها العذاب، وفرقة نهت ووعظت فنجاها الله من العذاب، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تُقارف المعصية وقد سكت عنها القرآن قال ابن عباس: ما أدري ما فعل بالفرقة الساكتة أنجوا أم هلكوا؟ قال عكرمة: فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا لأنهم كرهوا ما فعله أولئك، فكساني حلة {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب} أي واذكر يا محمد حين أعلم ربك ليسلطنَّ على اليهود إلى قيام الساعة من يذيقهم أسوأ العذاب بسبب عصيانهم ومخالفتهم أمر الله واحتيالهم على المحارم، وقد سلّط الله عليهم بختنصّر فقتلهم وسباهم، وسلّط عليهم النصارى فأذلوهم وضربوا عليهم الجزية، وسلَّط عليهم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فطهَّر الأرض من رجسهم وأجلاهم عن الجزيرة العربية، وسلّط عليهم أخيراً» هتلر «فاستباح حماهم وكاد أن يبيدهم ويفنيهم بالقتل والتشريد في الأرض، ولا يزال وعد الله بتسليط العذاب عليهم سارياً إلى أن يقتلهم المسلمون في المعركة الفاصلة إن شاء الله ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي سريع العقاب لمن عصاه وغفورٌ رحيم لمن أطاعه {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً} أي فرّقناهم في البلاد طوائف وفرقاً ففي كل بلدة فرقة منهم، وليس لهم إقليم يملكونه حتى لا تكون لهم شركة، وما اجتمعوا في الأرض المقدسة في هذه الأيام إلا ليذبحوا بأيدي المؤمنين إن شاء الله كما وعد بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قال:
«لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود. .» الحديث أخرجه مسلم ثم بيّن تعالى أنهم ليسوا جميعاً فجاراً بل فيهم الأخيار وفيهم الأشرار فقال {مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} أي منهم من آمن وهم قلة قليلة ومنهم من انحطّ عن درجة الصلاح بالكفر والفسوق وهم الكثرة الغالبة {وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي اختبرناهم بالنعم والنقم والشدة والرخاء لعلهم يرجعون عن الكفر والمعاصي {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} قال ابن كثير: أي خلف من بعد ذلك الجيل الذي فيهم الصالح والطالح خلْفٌ آخر لا خير فيهم ورثوا الكتاب(1/444)
وهو التوراة عن آبائهم {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} أي يأخذون ذلك الشيء الدنيء من حطام الدنيا من حلال وحرامٍ ويقولون متجحين: سيغفر الله لنا ما فعلناه، وهذا اغترار منهم وكذب على الله {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} أي يرجون المغفرة وهم مصرّون على الذنب كلما لاح لهم شيء من حطام الدنيا أخذوه لا يُبالون من حلالٍ كان أو حرام {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يؤخذ عليهم العهد المؤكد في التوراة أن يقولوا الحق ولا يكذبوا على الله؟ فكيف يزعمون أنه سيغفر لهم مع إصرارهم على المعاصي وأكل الحرام؟ {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} في هذا أعظم التوبيخ لهم أي والحال أنهم درسوا ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله {والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي والآخرة خير للذين يتقون الله بترك الحرام {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ؟ الاستفهام للإِنكار أي فلا ينزجرون ويعقلون؟ والمراد أنهم لو كانوا عقلاء لما آثروا الفانية على الباقية {والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة} أي يتمسكون في أمور دينهم بما أنزله الله ويحافظون على أداء الصلاة في أوقاتها {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} أي لا نضيع أجرهم بل نجزيهم على تمسكهم وصلاحهم أفضل وأكرم الجزاء.
البَلاَغَة: 1 - {وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} شبّه الغضب بإِنسان يرعد ويزبد ويزمجر بصوته آمراً بالانتقام ثم اختفى هذا الصوت وسكت، ففي الكلام «استعارة مكنية» ويا له من تصوير لطيف يستشعر جماله كل ذي طبع سليم وذوقٍ صحيح.
2 - بين لفظ «تضل» و «تهدي» طباقٌ وكذلك بين لفظ «يحيي» و «يميت» .
3 - {يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة، وهي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم يؤتى بما يقابلها على الترتيب.
4 - {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال} استعار الإِصر والأغلال للأحكام والتكاليف الشاقة.
5 - {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} التفات من الغيبة إلى الخطاب زيادة في التوبيخ والتأنيب.
فَائِدَة: الخَلَف بفتح اللام من يخلف غيره بالخير، والخَلْف بسكون اللام من يخلف غيره في الشر ومنه قوله تعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} [مريم: 59] وهذه الآية {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} والله أعلم.(1/445)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
المنَاسَبَة: لما حكى تعالى عن بني إسرائيل عصيانهم وتمردهم على أوامر الله، حكى هنا ما عاقبهم به من اقتلاع جبل الطور وسحقهم به إن لم يعملوا بأحكام التوراة، ثم ذكر تعالى مثلاً لعلماء السَّوْء في قصة الذي انسلخ عن آيات الله طمعاً في حطام الدنيا وضرب له مثلاً بالكلب اللاهث في حالتَيْ التعب والراحة، وكفى به تصويراً لنفسية اليهود في تكلالبهم على الدنيا وعبادتهم للمال.
اللغَة: {نَتَقْنَا} النتق: الجذب بقوة قال أبو عبيدة: أصل النتق قلعُ الشيء من موضعه والرمي به {ظُلَّةٌ} الظلةُ: كل ما أظلّك من سقفٍ أو سحابةٍ أو جناح حائط والجمع ظُلُلً وظِلاَل {وظنوا} علموا أو أيقنوا {انسلخ} الانسلاخُ: الخروجُ يقال لكل من فارق شيئاً بالكلية انسلخ منه وانسلخت الحية من جلدها أي خرجت منه {أَخْلَدَ} مال إلى الشيء وركن إليه وأصله اللزوم يقال أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإِقامة به ومنه الخلود في الجنة {يَلْهَث} قال الجوهري: لهثَ الكلبُ يَلْهَثُ إذا أخرج لسانه من التعب أو العطشِ {ذَرَأْنَا} خلقنا {يُلْحِدُونَ} الإِلحاد: الميلُ عن القصد والاستقامة يقال ألحد في الدين ولحد فهو ملحد لانحرافه عن تعاليم الدين.
التفسِير {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} أي اذكر حين اقتلعنا جبل الطور ورفعناه فوق رءوس بني إسرائيل {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي كأنه سقيفة أو ظلة غمام {وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي أيقنوا أنه ساقط عليهم إن(1/446)
لم يمثتلوا الأمر قال المفسرون: روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رءوسهم وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلاّ ليقعنَّ عليكم فلما نظروا إلى الجبل خرَّ كل واحد منهم ساجداً خوفاً من سقوطه ثم قال تعالى {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} أي وقلنا لهم خذوا التوراة بجد وعزيمة {واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي اذكروا ما فيه بالعمل واعملوا به لتكونوا في سلك المتقين {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} قال الطبري: أي واذكر يا محمد إذْ استخرج ربك أولاد آدم من أصلاب آبائهم فقرّرهم بتوحيده وأشهد بعضَهم على بعض بذلك قال ابن عباس: مسح الله ظهر آدم فاستخرج منه كلَّ نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة. {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} أي وقرّرهم على ربوبيته ووحدانيته فأقروا بذلك والتزموا {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} أي لئلا تقولوا يوم الحساب إنا كنا عن هذا الميثاق والإِقرار بالربوبية غافلين لم ننبه عليه {أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ} أي ولكيلا تقولوا يوم القيامة أيضاً نحن ما أشركنا وإنما قلدنا آباءنا واتبعنا منهاجهم فنحن معذورون {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} أي أفتهلكنا بإشراك من أشرك من آبائنا المضلّين بعد اتباعنا منهاجهم على جهلٍ منا بالحق؟ {وكذلك نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي وكما بينا الميثاق نبيّن الآيات ليتدبرها الناس وليرجعوا عما هم عليه من الإِصرار على الباطل وتقليد الآباء {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذيءَاتَيْنَاهُءَايَاتِنَا فانسلخ} أي واتقل يا محمد على اليهود خبر وقصة ذلك العالم الذي علمناه علم بعض كتب الله فانسلخ من الآيات كما تنسلخ الحية من جلدها بأن كفر بها وأعرض عنها {مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين} أي فلحقه الشيطان واستحوذ عليه حتى جعله في زمرة الضالين الراسخين في الغَواية بعد أن كان من المهتدين قال ابن عباس: هو «بلعم بن باعوراء» كان عنده اسم الله الأعظم وقال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى إلى ملك «مَدْيَنَ» داعياً إلى الله فرشاه الملك وأعطاه المُلْك على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل وأضل الناس بذلك {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ} أي لو شئنا لرفعناه إلى منزل العلماء الأبرار ولكنه مال إلى الدنيا وسكن إليها وآثر لذتها وشهواتها على الآخرة واتبع ما تهواه نفسه فانحط أسفل سافلين {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} أي فمثله في الخسة والدناءة كمثل الكلب إن طردته وزجرته فسعى لَهَث، وإن تركته على حاله لَهَث، وهو تمثيل بادي الروعة ظاهر البلاغة {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي هذا المثل السيء هو مثلٌ لكل من كذّب بآيات الله، وفيه(1/447)
تعريضٌ باليهود فقد أوتوا التوراة وعرفوا صفة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة {فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي اقصص على أمتك ما أوحينا إليك لعلهم يتدبرون فيها ويتعظون {سَآءَ مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي بئس مثلاً مثلُ القوم المكذبين بآيات الله {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} أي وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتعداها {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون} أي من هداه الله فهو السعيد الموفق، ومن أضله فهو الخائب الخاسر لا محالة، والغرضُ من الآية بيان أن الهداية والإضلال بيد الله {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} أي خلقنا لجهنم ليكونوا حطباً لها خلقاً كثيراً كائناً من الجن والإِنس، والمراد بهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} أي لهم قلوب لا يفهمون بها الحق {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} أي لا يبصرون بها دلائل قدرة الله بصر اعتبار {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ} أي لا يسمعون بها الآيات والمواعظ سماع تدبر واتعاذ، وليس المراد نفي السمع والبصر بالكلية وإنما المراد نفيها عما ينفعها في الدين {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} أي هم كالحيوانات في عدم الفقه والبصر والاستماع هم أسوأ حالاً من الحيوانات فإنها تدرك منافعها ومضارها وهؤلاء لا يميزون بين المنافع والمضار ولهذا يُقْدمون على النار {أولئك هُمُ الغافلون} أي الغارقون في الغفلة {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا} أي لله الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها لإِنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها فسمّوه بتلك الأسماء {وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ} أي اتركوا الذين يميلون في أسمائه تعالى عن الحق كما فعل المشركون حيث اشتقوا لآلهتهم أسماء منها كاللات من الله، والعُزَّى من العزيز، ومناة من المنّان {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي سينالون جزاء ما عملوا في الآخرة {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي ومن بعض الأمم التي خلقنا أمة مستمسكة بشرع الله قولاً وعملاً يدعون الناس إلى الحق وبه يعملون ويقضون قال ابن كثير: والمراد في الآية هذه الأمة المحمدية لحديث
«لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خَذَلَهم ولا من خَالفَهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وهذه الطائفة لا تختص بزمان دون زمان بل هم في كل زمان وفي كل مكان، فالإِسلام دائماً يعلو ولا يُعلى عليه وإن كثر الفُسَّاق وأهل الشر فلا عبرة فيهم ولا صَوْلة لهم، وفي الحديث بشارة عظيمة لهذه الأمة المحمدية بأن الإِسلام في علوّ شرف وأهله كذلك إلى قرب الساعة {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} أي والذين كذبوا بالقرآن من أهل مكة وغيرهم سنأخذهم قليلاً وندنيهم من الهلاك نم حيث لا يشعرون قال البيضاوي: وذلك بأن تتواتر عليهم النعم، فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم فيزدادوا بطراً وانهماكاً في الغيِّ حتى تحق عليهم كلمة العذاب {وَأُمْلِي لَهُمْ} أي وأمهلهم ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر كما في الحديث الشريف «إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته» {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي أخذي وعقابي قوي شديد وإنما سمّاه كيداً لأن ظاهره إحسانٌ وباطنه خذلان {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ} أي أولم يتفكر هؤلاء المكذبون(1/448)
بآيات الله فيعلموا أنه ليس بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جنون بل هو رسول الله حقاً أرسله الله لهدايتهم، وهذا نفيٌ لما نسبه له المشركون من الجنون في قولهم {ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي ليس محمد إلا رسول منذر أمره بيّن واضح لمن كان له لبُّ أو قلبٌ يعقل به ويعي {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} أي أولم ينظروا نظر استدلال في ملك الله الواسع مما يدل على عظم الملك وكمال القدرة، والاستفهام للإِنكار والتعجب والتوبيخ {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} أي وفي جميع مخلوقات الله الجليل فيها والدقيق فيستدلوا بذلك على كمال قدررة صانعها وعظم شأن مالكها ووحدة خالقها ومبدعها؟ {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} أي وأن يتفكروا لعلهم يموتون عن قريب فينبغي لهم أن يسارعوا إلى النظر والتدبر فيما يخلصهم عند الله قبل حلول الأجل {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} أي فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به وهو النهاية في الظهور والبيان {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} أي من كتب الله عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي ويتركهم في كفرهم وتمردهم يترددون ويتحيرون.
البَلاَغَة: 1 - {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} فيه التفات من المتكلم إلى المخاطب والأصلُ وإذْ أخذنا والنكتة في ذلك تعظيم شأن الرسول بتوجيه الخطاب له، ولا يخفى أيضاً ما في الإِضافة إلى ضميره عليه السلام {رَبُّكَ} من التكريم والتشريف، وفي الآية البيانُ بعد الإِبهام والتفصيل بعد الإِجمال {فانسلخ مِنْهَا} أي خرج منها بالكلية انسلاخ الجلد من الشاة قال أبو السعود: التعبير عن الخروج منها بالانسلاخ للإيذان بكمال مباينته للآيات بعد أن كان بينهما كمال الاتصال {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} فيه تشبيه تمثيلي أي حاله التي هي مثلٌ في السوء كحال أخسّ الحيوانات وأسفلها وهي حالة الكلب في دوام لهثه في حالتي التعب والراحة فالصورة منتزعة من متعدد ولهذا يسمى التشبيه التمثيلي {أولئك كالأنعام} التشبيه هنا مرسل مجمل.
فَائِدَة: روي عن ابن عباس في قوله تعالى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} أنه قال: لو قالوا نعم لكفروا، ووجهه أن «نَعَمْ» تصديقٌ للمخبر بنفيٍ أو إيجاب فكأنهم أقروا أنه ليس ربهم بخلاف «بلى» فإنها حرف جواب وتختص بالنفي وتفيد إبطاله بلى أنت ربنا ولو قالوا نعم لصار المعنى نعم لستَ ربنا فهذا وجه قول ابن عباس فتنبه له فإنه دقيق.
تنبيه: في الحديث الشريف «إنّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» رواه الترمذي قال العلماء: معناه من حفظها وتفكر في مدلولها دخل الجنة وليس المراد حصر أسمائه تعالى في هذه التسعة والتسعين بدليل ما جاء في الحديث الآخر «اسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وقد ذكر ابن العربي عن بعضهم أن لله تعالى ألف اسم.(1/449)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى موقف المستهزئين من دعوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكر هنا طرفاً من عنادهم واستهزائهم بسؤالهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن وقت قيام الساعة، ثم ذكر الحجج والبراهين على بطلان عقيدة المشركين في عبادة الأوثان والأصنام، وختم السورة الكريمة ببيان عظمة شأن القرآن ووجوب الاستماع والإِنصات عند تلاوته.
اللغَة: {مُرْسَاهَا} استقرارها وحصولها من أرساه إذا أثبته وأقره ومنه رست السفينة إذا ثبتت ووقفت {يُجَلِّيهَا} يظهرها: والتجلية: الكشفُ والإِظهار {حَفِيٌّ} الحفيُّ: المستقصي للشيء المعتني بأمره قال الأعشى:(1/450)
فإن تسألي عنّي فيا ربَّ سائلٍ ... حفيٍّ عن الأعشى به حيث أصْعَدا
والإِحفاء الاستقصاء ومنه إحفاء الشوارب وحفي عن الشيء إذا بحث للتعرف عن حاله {العرف} المعروف وهو كل خصلة حميدة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس {الآصال} جمع أصيل قال الجوهري: والأصيل الوقت بعد العصر إلى المغرب.
سَبَبُ النّزول: روي أن المشركين قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن كنتَ نبياً فأخبرنا عن الساعة متى تقوم؟ فأنزل الله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا} .
التفسِير: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة} أي يسألونك يا محمد عن القيامة {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} أي متى وقوعها وحدوثها؟ وسميت القيامة ساعة لسرعة ما فيها من الحساب كقوله {وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل: 77] {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} أي قل لهم يا محمد لا يعلم الوقت الذي يحصل قيام القيامة فيه إلا الله سبحانه ثم أكَّد ذلك بقوله {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} أي لا يكشف أمرها ولا يظهرها للناس إلا الرب سبحانه بالذات هو العالم بوقتها {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض} أي عظًمت على أهل السماوات والأرض حيث يشفقون منها ويخافون شدائدها وأهوالها {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي يسألونك يا محمد عن وقتها كأنك كثير السؤال عنها شديد الطلب لمعرفتها {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} أي لا يعلم وقتها إلا الله لأنها من الأمور الغيبية التي استأثر بها علاّم الغيوب {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون السبب الذي لأجله أُخفْيتْ قال الإِمام الفخر: والحكمة في إخفاء الساعة عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون كانوا على حذرٍ منها فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أي لا أملك أن أجلب إلى نفسي خيراً ولا أدفع عنها شراً إلا بمشيئته تعالى فكيف أملك علم الساعة؟ {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير} أي لو كنت أعرف أمور الغيب لحصّلت كثيراً من منافع الدنيا وخيراتها ودفعت عني آفاتها ومضراتها {وَمَا مَسَّنِيَ السواء} أي لو كنت أعلم الغيب لاحترست من السوء ولكنْ لا أعلمه فلهذا يصيبني ما قُدَّر لي من الخير والشر {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لقوم يصدقون بما جئتهم به من عند الله {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي هو سبحانه ذلك العظيم الشأن الذي خلقكم جميعاً وحده من غير معين من نفسٍ واحدة هي آدم عليه السلام {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي وخلق منها حواء {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} أي ليطمئن إليها ويستأنس بها {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} أي فلما جامعها حملت بالجنين حملاً خفيفاً دون إزعاج لكونه نطفةً في بادئ الأمر قال أبو السعود: فإنه عند كونه نطفة أو علقة أخف عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب، والتعرضُ لذكر خفته للإِشارة إلى(1/451)
نعمته تعالى عليهم في إنشائه إياهم متدرجين في أطوار الخلق من العدم إلى الوجود، ومن الضعف إلى القوة {فَمَرَّتْ بِهِ} أي استمرت به إلى حين ميلاده {فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ} أي ثقل حملها وصارت به ثقيلة لكبر الحمل في بطنها {دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا} أي دعوا الله مربيهما ومالك أمرهما {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي لئن رزقتنا ولداً صالحاً سويَّ الخِلْقة لنشكرنَّك على نعمائك {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً} أي فلما وهبهما الولد الصالح السويّ {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا} أي جعل هؤلاء الأولاد والذرية شركاء مع الله فعبدوا الأوثان والأصنام {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزّه وتقدّس الله عما ينسبه إليه المشركون {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً} الاستفهام للتوبيخ أي أيشركون مع الله ما لا يقدر على خلق شيء أصلاً {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي والحال أن تلك الأوثان والآلهة مخلوقة فكيف يعبدونها مع الله؟ قال القرطبي: وجمع الضمير بالواو والنون لأنهم اعتقدوا أن الأصنام تضر وتنفع فأجريت مجرى الناس {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} أي لا يستطيع هذه الأصنام نصر عابديها {وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} أي ولا ينصرون أنفسهم ممن أرادهم بسوء، فهم في غاية العجز والذلة فكيف يكونون آلهة؟ {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} أي أن الأصنام لا تجيب إذا دعيت إلى خير أو رشاد لأنها جمادات {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون} أي يتساوى في عدم الإِفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم قال ابن كثير: يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها كما قال إبراهيم
{ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} أي إن الذين تعبدونهم من دونه تعالى من الأصنام وتسمونهم آلهة مخلوقون مثلكم بل الأناس أكمل منها لأنها تسمع وتبصر وتبطش وتلك لا تفعل شيئاص من ذلك فلهذا قال {فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أمرٌ على جهة التعجيز والتبكيت أي أدعوهم في جلب نفع أو دفع ضرٍّ إن كنتم صادقين في دعوى أنها آلهة {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ(1/452)
يَمْشُونَ بِهَآ} توبيخ إثر توبيخ وكذلك ما عبده من الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي هل لهذه الأصنام {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ} أي أم هل لهم أيدٍ تفتك وتبطش بمن أرادها بسوء؟ {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ} أي أم هل لهم أعينٌ تبصر بها الأشياء؟ {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي أم هل لهم أذان تسمع بها الأصوات؟ والغرض بيان جهلهم وتسفيه عقولهم في عبادة جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن عابدها شيئاً لأنها فقدت الحواس وفاقد الشيء لا يعطيه، والإِنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام لوجود العقل والحواس فيه فكيف يليق بالأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخسّ الأدون الذي لا يحسُّ منه فائدة أبداً لا في جلب منفعة ولا في دفع مضرّة؟! {قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ} أي قل لهم يا محمد أدعوا أصنامكم واستنصروا واستعينوا بها عليَّ {ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} أي ابذلوا جهدكم أنتم وهم في الكيد لي وإلحاق الأذى والمضرة بي ولا تمهلون طرفة عين، فإني لا أبالي بكم لاعتمادي على الله قال الحسن: خوفوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بآلهتهم فأمره تعالى أن يجابههم بذلك {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب} أي إنَّ الذي يتولى نصري وحفظي هو الله الذي نزَّل عليَّ القرآن {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} أي هو جل وعلا يتولى عباده الصالحين بالحفظ والتأييد، وهو وليهم في الدنيا والآخرة {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} كرّره ليبيّن أن ما يعبدونه لا نفع ولا يضر {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ} أي وإن تدعوا هذه الأصنام إلى الهداية والرشاد لا يسمعوا دعاءكم فضلاً عن المساعدة والإِمداد {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} أي وتراهم يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة وهي جماد لا تبصر لأن لهم صورة الأعين وهم لا يرون بها شيئاً {خُذِ العفو} أمرٌ له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بمكارم الأخلاق أي خذ بالسهل اليسير في معاملة الناس ومعاشرتهم قال ابن كثير: وهذا أشهر الأقوال ويشهد له قول جبريل للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
«إن الله يأمركَ أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» {وَأْمُرْ بالعرف} أي بالمعروف والجميل المستحسن من الأقوال والأفعال {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} أي لا تقابل السفهاء بمثل سفههم بل احلم عليهم قال القرطبي: وهذا وإن كان خطاباً لنبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فهو تأديبٌ لجميع خلقه {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} أي وإِمّا يصيبنَّك يا محمد طائف من الشيطان بالوسوسة والتشكيك في الحق {فاستعذ بالله} أي فاستجر بالله والجأ إليه في دفعه عنك {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميعٌ لما تقول عليهمٌ بما تفعل {إِنَّ الذين اتقوا} أي الذين اتصفوا بتقوى الله {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان} أي إذا أصابهم الشيطان بوسوسته وحام حولهم بهواجسه {تَذَكَّرُواْ} أي تذكروا عقاب الله وثوابه {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} أي يبصرون الحق بنور البصيرة ويتخلصون من وساوس الشيطان {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} أي إخوان الشياطين الذين لم يتقوا الله وهم الكفرة الفجرة فإن(1/453)
الشياطين تغويهم وتزين لهم سبل الضلال {ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} أي لا يُمْسكون ولا يكفّون عن إغوائهم {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} أي وإذا لم تأتهم بمعجزةٍ كما اقترحوا {قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها} أي هلاّ اختلقتها يا محمد واخترعته من عند نفسك؟! وهو تهكمٌ منهم لعنهم الله {قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} أي قل لهم يا محمد ليس الأمر إليَّ حتى آتي بشيءٍ من عند نفسي وإنما أنا عبدٌ امتثل ما يوحيه الله إليَّ {هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} أي هذا القرآن الجليل حججٌ بيّنة، وبراهين نيّرة يغني عن غيره من المعجزات فهو بمنزلة البصائر للقلوب به يُبْصر الحق ويُدرك {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي وهداية ورحمة للمؤمنين لأنهم المقتبسون من أنواره والمنتفعون من أحكامه {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} أي وإذا تليت آيات القرآن فاستمعوها بتدبر واسكتوا عند تلاوته إعظاماً للقرآن وإجلالاً {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي لكي تفوزوا بالرحمة {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي واذكر ربك سراً مستحضراً لعظمته وجلاله {تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} أي متضرعاً إليه وخائفاً منه {وَدُونَ الجهر مِنَ القول} أي وسطاً بين الجهر والسرّ {بالغدو والآصال} أي في الصباح والعشيّ {وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين} أي ولا تغفلُ عن ذكر الله {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ} أي الملائكة الأطهار {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي لا يتكبرون عن عبادة ربهم {وَيُسَبِّحُونَهُ} أي ينزهونه عما لا يليق به {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} أي لا يسجدون إلا لله.
البَلاَغَة: 1 - {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} التشبيه مرسل مجمل لذكر أداة التشبيه وحذف وجه الشبه.
2 - {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا} التغشي هنا كناية عن الجماع وهو من الكنايات اللطيفة.
3 - {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ ... } الخ هذا الأسلوب يسمى «الإِطناب» وفائدته زيادة التقريع والتوبيخ.
4 - {يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} شبّه وسوسة الشيطان وإغراءه الناس على المعاصي بالنزغ وهو إِدخال الإِبرة وما شابهها في الجلد ففيه استعارة لطيفة.
5 - {هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ} فيه تشبيه وأصله هذا كالبصائر، حُذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فهو بليغ ويرى بعض العلماء أنه من قبيل المجاز المرسل حيث أطلق المسبّب على السبب لأن القرآن لما كان سبباً لتنوير العقول أطلق عليه لفظ البصيرة.
لطيفَة: حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سوَّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال إن هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنعك من العبور ماذا تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي قال: هذا يطول عليك ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك، فهذه فائدة الإستعاذة.(1/454)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
اللغَة: {الأنفال} الغنائم جمع نفل بالفتح وهو الزيادة وسميت الغنائم به لأنها زيادة على القيام بحماية الدين والأوطان، وتسمى صلاة التطوع نفلاً، وولد الولد نافلة لهذا المعنى قال لبيد:
إنَّ تقوى ربّنا خير نفل ... وبإذن اللهِ ريثي والعجل
{وَجِلَتْ} الوجل: الخوف والفزع {ذَاتِ الشوكة} الشوكة: السلاح وأصلها من الشَّوك قال أبو عبيدة: ومجاز الشوكة الحد يقال: ما أشدَّ شوكة بني فلان أي حدّهم {تَسْتَغِيثُونَ} الاستغاثة: طلب النصرة والعون {مُرْدِفِينَ} متتابعين يتلو بعضهم بعضاً وردف وأردف بمعنى واحد أي تبع قال الطبري: العرب تقول: أردفته وردِفته بمعنى تبعته وأتبعته قال الشاعر: إِذا الجوزاء أردفت الثريا {بَنَانٍ} البنان: جمع بنانة وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين قال عنترة:
{زَحْفاً} الزحف: الدنو قليلاً مأخوذ من زحف الصبي إذا مشى سعلى أليته قليلاً قليلاً ثم سمي به الجيش الكثير العدد لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف زحفاً {مُتَحَيِّزاً} منضماً يقال: تحيّز أي(1/457)
انضم واجتمع إِلى غيره {بَآءَ} رجع {مُوهِنُ} مضعف {تَسْتَفْتِحُواْ} استفتح: أي طلب الفتح والنصرة على عدوه.
سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس قال: «لما كان يوم بدر قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا، فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقال المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإِننا كنا لكم ردءاً ولو كان منكم شيء للجأتم إِلينا فأبوا واختصموا إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} الآية فقسَّم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الغنائم بينهم بالسوية» .
ب - روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ قبضة من تراب يوم بدر فرمى بها في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه فما بقي أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه تراب من تلك القبضة وولوا مدبرين» فنزلت {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى ... } الآية.
التفِسير: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} أي يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها من بدر لمن هي؟ وكيف تقسم؟ {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} أي قل لهم: الحكم فيها لله والرسول لا لكم {فاتقوا الله} أي اتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي أصلحوا الحال التي بينكم بالائتلاف وعدم الاختلاف {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في الحكم في الغنائم قال عبادة بن الصامت: نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا، فنزع الله الأنفال من أيدينا وجعلها لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقسمها على السواء فكان في ذلك تقوى الله، طاعة رسوله، وإِصلاح ذات البين {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} شرط حذف جوابه أي إِن كنتم حقاً مؤمنين كاملين في الإِيمان فأطيعوا الله ورسوله {إِنَّمَا المؤمنون} أي إِنما الكاملون في الإِيمان المخلصون فيه {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي إذا ذكر اسم الله فزعت قلوبهم لمجرد ذكره، استعظاماً لشأنه، وتهيباً منه جلَّ وعلا {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} أي إِذا تليت عليهم آيات القرآن وازداد تصديقهم ويقينهم بالله {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي لا يرجون غير الله ولا يرهبون سواه قال في البحر: أخبر عنهم باسم الموصول بثلاث مقامات عظيمة وهي: مقام الخوف، ومقام الزيادة في الإِيمان، ومقام التوكل على الرحمن {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} أي يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل بخشوعها وفروضها وآدابها {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي وينفقون في طاعة الله مما أعطاهم الله، وهو عام في الزكاة ونوافل الصدقات {أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} أي المتصفون بما(1/458)
ذكر من الصفات الحميدة هم المؤمنون إِيماناً حقاً لأنهم جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} أي لهم منازل رفيعة في الجنة {وَمَغْفِرَةٌ} أي تكفير لما فرط منهم من الذنوب {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي رزق دائم مستمر مقرون بالإِكرام والتعظيم {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} الكاف يقتضي مشبّهاً قال ابن عطية: شهبت هذه القصة التي هي إِخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها، والمعنى: حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب وقال الطبري: المعنى: كما أخرجك ربك بالحق على كرهٍ من فريقٍ من المؤمنين كذلك يجادلونك في الحق بعدما تَبيَّن، والحقُّ الذي كانوا يجادلون فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعدما تبيّنوه هو القتال {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} أي والحال أن فريقاً منهم كارهون للخروج لقتال العدو خوفاً من القتل أو لعدم الاستعداد {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} أي يجادلونك يا محمد في شأن الخروج للقتال بعد أن وضح لهم الحق وبان، وكان جدالهم هو قولهم: ما كان خروجنا إِلاّ للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ} قال البيضاوي: أي يكرهون القتال كراهة من ينساق إِلى الموت وهو يشاهد أسبابه، وذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم، وفيه إِيماء إِلى أن مجادلتهم إِنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} أي اذكروا حين وعدكم الله يا أصحاب محمد إحدى الفرقتين أنها لكم غنية إِما العير أو النفير {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ} أي وتحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير لأنها كانت محمّلة بتجارة قريش قال المفسرون:
«روي أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجاة عظيمة برآسة أبي سفيان، ونزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد: إِن الله وعدكم إِحدى الطائفتين: إِما العير وإِما قريشاً، فاستشار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه فاختاروا العير لخفة الحرب وكثرة الغنيمة، فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل: يا أهل مكة النجاء النجاءَ، عيركُم أموالكم إِن أصابها محمد فلن تفلحوا بعدها أبداً، فخرج المشركون على كل صعب وذلول ومعهم أبو جهل حتى وصلوا بدراً، ونجت القافلة فأخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه وقال لهم: إِن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا يا رسول الله: عليك بالعير ودع العدو فغضب رسول الله فقام سعد بن عبادة فقال: امض بنا لما شئت فإِنا متبعوك، وقام سعد بن معاذ فقال: والذي بعثك بالحق لو خضت بنا البحر لخضناه معك فسرْ بنا على بركة الله، فسُرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال لأصحابه: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إِلى مصارع القوم»
{وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي يظهر الدين الحق وهو الإِسلام بقتل الكفار وإِهلاكهم يوم بدر {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} أي يستأصل الكافرين ويهلكهم جملة من أصلهم قال في البحر: والمعنى أنكم ترغبون في الفائدة العاجلة، وسلامة الأحوال، وسفساف الأمور، والله تعالى يريد معالي الأمور، وإِعلاء الحق، والفوز في الدارين، وشتّان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكهم عياناً خذلانهم، فنصركم(1/459)
وهزمهم، وأذلهم وأعزكم {لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل} متعلق بمحذوف تقديره: ليحق الحقَّ ويبطل الباطل فعل ما فعل والمراد إظهار الإِسلام وإِبطال الكفر {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} أي ولو كره المشركون ذلك أي إِظهار الإِسلام وإِبطال الشرك {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} أي اذكروا حين تطلبون من ربكم الغوث بالنصر على المشركين، روي أن سول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ومدَّ يديه يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إِن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبيَّ الله كفاكَ مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت هذه الآية {فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة} أي استجاب الله الدعاء بأني معينكم بألف من الملائكة {مُرْدِفِينَ} أي متتابعين يتبع بعضهم بعضاً قال المفسرون: ورد أن جبريل نزل بخمسائة وقاتل بها في يسار الجيش، ولم يثبت أن الملائكة قاتلت في وقعة إِلا في بدر، وأما في غيرها فكانت تنزل الملائكة لتكثير عدد المسلمين ولا تقاتل {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى} أي وما جعل إمدادكم بالملائكة إِلا بشارة لكم بالنصر {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} أي ولتسكن بهذا الإِمداد نفوسكم {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} أي وما النصر في الحقيقة إِلا من عند الله العلي الكبير فثقوا بنصره ولا تتكلوا على قوتكم وعدّتكم {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب لا يُغلب يفعل ما تقضي به الحكمة {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ} أي يلقي عليكم النوم أمناً من عند سبحانه وتعالى، وهذه معجزة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث غشي الجميعَ النومُ في وقت الخوف قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:
«ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إِلا نائم إلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح» قال ابن كثير: وكأن ذلك كان للمؤمنين عند شدة البأس، لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً} تعديد لنعمة أخرى، وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر فأنزل الله عليهم المطر حتى سالت الأودية، وكان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر {لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} أي من الأحداث والجنايات {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} أي يدفع عنكم وسوسته وتخويفه إِياكم من العطش، قال البيضاوي: روي أنهم نزلوا في كثيبٍ أعفر، تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم فوسوس إِليهم الشيطان وقال: كيف تُنصرون وقد غُلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله؟ فأنزل الله المطر حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} أي يقوّيها بالثقة بنصر الله {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام} أي يُثبت بالمطر الأقدام حتى لا تسوخ في الرمل قال الطبري: ثبّت بالمطر أقدامهم لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملةٍ ميثاء فلبّدها المطر حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها {إِذْ يُوحِي(1/460)
رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ} تذكير بنعمةٍ أخرى أي يوحي إِلى الملائكة بأني معكم بالعون والنصر {فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ} أي ثبتوا المؤمنين وقوّوا أنفسهم على أعدائهم {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} أي سأقذف في قلوب الكافرين الخوف والفزع حتى ينهزموا {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} أي اضربوهم على الأعناق كقوله {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] وقيل: المراد الرءوس لأنها فوق الأعناق {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} أي اضربوهم على أطراف الأصابع قال في التسهيل: وفائدة ذلك أن المقاتل إِذا ضربت أصابعه تعطَّل عن القتال فأمكن أسره وقتله {ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} أي ذلك العذاب الفظيع واقع عيلهم بسبب مخالفتهم وعصيانهم لأمر الله وأمر رسوله {وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} أي ومن يخالف أمر الله رسوله بالكفر والعناد فإِن عذاب الله شديد له {ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} أي ذلكم العقاب فذوقوه يا معشر الكفار في الدنيا، مع أن لكم العقاب الآجل في الآخرة وهو عذاب النار {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً} أي إِذا لقيتم أعداءكم الكفار مجتمعين كأنهم لكثرتهم يزحفون زحفاً {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} أي فلا تنهزموا أمامهم بل اثبتوا واصبروا {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} أي ومن يولهم يوم اللقاء ظهره منهزماً {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} أي إِلا في حال التوجه إِلى قتال طائفة أخرى، أو بالفر للكرّ بأن يخيّل إِلى عدوه أنه منهزم ليغرّه مكيدة وهو من باب «الحرب خدعة» {أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ} أي منضماً إلى جماعة المسلمين يستنجد بهم {فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} أي فقد رجع بسخطٍ عظيم {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي مقره ومسكنه الذي يأوي إِليه نار جهنم {وَبِئْسَ المصير} أي بئس المرجع والمآل {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} أي فلم تقتلوهم أيها المسلمون ببدر بقوتكم وقدرتكم، ولكنَّ الله قتلهم بنصركم عليهم وإِلقاء الرعب في قلوبهم {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أي وما رميت في الحقيقة أنت يا محمد أعين القوم بقبضةٍ من تراب لأن كفاً من تراب لا يملأ عيون الجيش الكبير قال ابن عباس: أَخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إِلا أصاب عينيه ومنخريه من تلك الرمية فولوا مدبرين {ولكن الله رمى} أي بإِيصال ذلك إِليهم فالأمر في الحقيقة من الله {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً} أي فعل ذلك ليقهر الكافرين ويُنعم على المؤمنين بالأجر والنصر والغنيمة {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالهم عليهم بنياتهم وأحوالهم {ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} أي ذلك الذي حدث من قتل المشركين ونصر المؤمنين حق، والغرض منه إِضعاف وتوهين كيد الكافرين حتى لا تقوم لهم قائمة {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} هذا خطاب لكفار قريش أي إِن تطلبوا يا معشر الكفار الفتح والنصر على المؤمنين فقد جاءكم الفتح وهو الهزيمة والقهر، وهذا على سبيل التهكم بهم قال الطبري في رواية الزهري: قال أبو جهل يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر، وأقطع للرحم، فأحِنْه اليوم - أي أهلكه - فأنزل الله {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} فكان(1/461)
أبو جهل هو المستفتح {وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي وإِن تكفّوا يا معشر قريش عن حرب الرسول ومعاداته، وعن الكفر بالله ورسوله فهو خير لكم في دنياكم وآخرتكم {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ} أي وإِن تعودوا الحربة وقتاله نعد لنصره عليكم {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ} أي لن تدفع عنكم جماعتكم التي تستنجدون بها شيئاً من عذاب الدنيا مهما كثر الأعوان والأنصار {وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} أي لأن الله سبحانه مع المؤمنين بالنصر والعون والتأييد {ياأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي دوموا على طاعة الله وطاعة رسوله يدم لكم العز الذي حصل ببدر {وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي لا تعرضوا عنه بمخالفة أمره وأصله تتولوا حذفت منه إِحدى التاءين {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} أي تسمعون القرآن والمواعظ {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي لا تكونوا كالكفار الذين سمعوا بآذانهم دون قلوبهم، فسماعهم كلا سماعٍ لأن الغرض من السماع التدبر والاتعاظ {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} أي شرَّ الخلق وشرَّ البهائم التي تدبُّ على وجه الأرض {الصم البكم} أي الصمُّ الذين لا يسمعون الحق، البكم أي الخرس الذين لا ينطقون به {الذين لاَ يَعْقِلُونَ} أي الذين فقدوا العقل الذي يميز به المرء بين الخير والشر، نزلت في جماعة من بني عبد الدار كانوا يقولون: نحن صمٌّ بكمٌّ عما جاء به محمد، وتوجهوا لقتال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أبي جهل، وفي الآية غاية الذم للكافرين بأنهم أشرُّ من الكلب والخنزير والحمير، لأنهم لم يستفيدوا من حواسهم فصاروا أخسَّ من كل خسيس {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} أي لو علم الله فيهم شيئاً من الخير لأسمعهم سماع تفهم وتدبر {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} أي ولو فُرض أن الله أسمعهم - وقد علم أن لا خير فيهم - لتولوا وهم معرضون عنه جحوداً وعناداً، وفي هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على عدم إِيمان الكافرين.
البَلاَغَة: 1 - {أولائك هُمُ المؤمنون} الإِشارة بالبعيد عن القريب لعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف.
2 - {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} استعار الدرجات للمراتب الرفيعة والمنازل العالية في الجنة.
3 - {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} التشبيه هنا تمثيلي.
4 - {أَن يُحِقَّ الحَقَّ} بينهما جناس الاشتقاق.
5 - {ذَاتِ الشوكة} استعيرت الشوكة للسلاح بجامع الشدة والحدّة بينهما.
6 - {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} كناية عن استئصالهم بالهلاك.
7 - {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} صيغة المضارع لاستحضار صورتها الغريبة في الذهن.
8 - {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً} تقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إِلى المؤخر.
9 - {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} الخطاب للمشركين على سبيل التهكم كقوله {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] .(1/462)
10 - {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} شبّه الكفار بالبهائم بل جعلهم شراً منها، وذلك منتهى البلاغة ونهاية الإِعجاز، إِذ أن الكافر لا يسمع الحق والبهائم لا تسمع، ولا ينطق به والبهائم لا تنطق، ويأكل والبهائم تأكل، بقي أنه يضر والبهائم لا تضرُّ فكيف لا يكون شراً منها؟
تنبيه: ذكر تعالى في هذه السورة أنه أمدَّ المؤمنين بألف من الملائكة، وذكر في سورة آل عمران أنه أمدَّهم بثلاثة آلاف، ولا تعارض بن الآيات فإِنه تعالى ذكر هنا لفظ {مُرْدِفِينَ} ومعناه متتابعين فأمدهم أولاً بألف ثم بثلاثة آلاف والله الموفق.(1/463)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
المناسَبَة: لما ذكر تعالى الكافرين، وشبّههم بالأنعام السارحة لأنهم أعرضوا عن قبول دعوة الله، أمر المؤمنين هنا بالاستجابة لله والرسول، وقبول دعوته التي فيها حياة القلوب، وبها السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة.
اللغَة: {مُكَآءً} المكاء: الصغير قال أبو عبيدة: والكثير في الأصوات أن تكون على فعال كالصراخ والخوار والدُّعاء والنباح {تَصْدِيَةً} التصدية: التصفيق يقال: صدى تصدية إِذا صفق بيديه وأصله من الصَّدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل {فَيَرْكُمَهُ} الركم: الجمع قال الليث: هو أن تجمع الشيء فوق الشيء حتى تجعله ركاماً مركوما كركام الرمل والسحاب {سَلَفَ} مضى {سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} عادة الله وسنته في إِهلاك المكذبين من الأمم السالفة {مَوْلاَكُمْ} ناصركم ومعينكم.
سَبَبُ النّزول: أخرج ابن جرير عن الزهري «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما حاصر يهود بني قريظة طلبوا الصلح فأمرهم أن ينزلوا على حكم» سعد بن معاذ «فقالوا: أرسل لنا» أبا لبابة «فبعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِليهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى؟ أننزل على حكم سعد؟ فأشار إِلى حلقه يعني أنه الذبح، قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله فقال: لا والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليَّ فنزلت الآية» {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول ... .} الآية ثم نزلت توبته.
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} أي أجيبوا دعاء رسوله إِذا دعاكم للإِيمان الذي به تحيا النفوس، وبه تحيون الحياة الأبدية قال قتادة: هو القرآن فيه الحياة، والثقة، والنجاة، والعصمة في الدنيا والآخرة {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} أي أنه تعالى المتصرف في جميع الأشياء، يصرّف القلوب كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها، فيفسخ عزائمه، ويغيّر مقاصده، ويلهمه رشده، أو يُزيغ قلبه عن الصراط السوي، وفي الحديث: «يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» قال ابن عباس: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإِيمان قال أبو حيان: وفي ذلك حضٌ على المراقبة، والخوف من الله تعالى والمبادرة إِلى الاستجابة له جلَّ وعلا {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وأنه سبحانه إِليه مرجعكم ومصيركم فيجازيكم بأعمالكم {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} أي احذروا بطش الله وانتقامه إن عصيتم أمره واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالم خاصة بل تعم الجميع، وتصل إِلى الصالح والطالح، لأو الظالم يهلك بظلمه وعصيانه، وغير الظالم يهلك لعدم منعه وسكوته عليه وفي الحديث «إِن الناس إِذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعذابٍ من عنده»
قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألاّ يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب، فيصيب الظالم وغير الظالم {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ(1/464)
العقاب} وهذا وعيد شديد أي شديد العذاب لمن عصاه {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض} أي اذكروا نعمة الله عليكم وقت أن كنتم قلة أذلة يستضعفكم الكفار في أرض مكة فيفتنونكم عن دينكم وينالونكم بالأذى والمكروه {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} أي تخافون المشركين أن يختطفوكم بالقتل والسلب، والخطف: الأخذ بسرعة {فَآوَاكُمْ} أي جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم وهو المدينة المنورة {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} أي أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره المؤزر حتى هزمتموهم {وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات} أي منحكم غنائمهم حلالاً طيبة ولم تكن تحل لأحد من قبل {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتشكروا الله على هذه النعم الجليلة، والغرض التذكير بالنعمة فإِنهم كانوا قبل ظهور الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غاية القلة والذلة، وبعد ظهوره صاروا في غاية العزة والرفعة، فعليهم أن يطيعوا الله ويشكروه على هذه النعمة {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} أي لا تخونوا دينكم ورسولكم بإِطلاع المشركين على أسرار المؤمنين {وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} أي ما ائتمنكم عليه من التكاليف الشرعية كقوله {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض} [الأحزاب: 72] الآية قال ابن عباس: خيانة الله سبحانه بترك فرائضه، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بترك سنته وارتكاب معصيته، والأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعلمون أنه خيانة وتعرفون تبعة ذلك ووباله {واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} أي محنة من الله ليختبركم كيف تحافظون معها على حدوده قال الإِمام الفخر: وإِنما كانت فتنة لأنها تشغل القلب بالدنيا، وتصير حجاباً عن خدمة المولى {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي ثوابه وعطاؤه خير لكم من الأموال والأولاد فاحرصوا على طاعة الله {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} أي إِن أطعتم الله واجتنبتم معاصيه يجعل لكم هداية ونوراً في قلوبكم، تفرقون به بين الحق والباطل كقوله {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28] وفي الآية دليل على أن التقوى تنور القلب، وتشرح الصدر، وتزيد في العلم والمعرفة {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي يسترها عليكم فلا يؤاخذكم بها {والله ذُو الفضل العظيم} أي واسع الفضل عظيم العطاء {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} هذا تذكير بنعمة خاصة على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد تذكير المؤمنين بالنعمة العامة عليهم والمعنى: اذكر يا محمد حين تآمر عليك المشركون في دار الندوة {لِيُثْبِتُوكَ} أي يحبسوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ} أي بالسيف ضربة رجل واحد ليتفرق دمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين القبائل {أَوْ يُخْرِجُوكَ} أي من مكة {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} أي يحتالون ويتآمرون عليك يا محمد ويدبر لك ربك ما يبطل مكرهم ويفضح أمرهم {والله خَيْرُ الماكرين} أي مكره تعالى أنفذ من مكرهم وأبلغ تأثيراً قال الطبري في روايته عن ابن عباس: إِن نفراً من أشراف قريش اجتمعوا في دار الندوة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال شيخ من العرب، سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم مني رأي ونصح قالوا: أجل فادخل، فقال انظروا في شأن هذا الرجل - يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال قائل: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك، فصرخ عدو الله وقال: والله ما هذا لكم برأي، فليوشكن أن يثب أصحابه عليه حتى يأخذوه من(1/465)
أيديكم فيمنعوه منكم، فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه فإِنه إِذا خرج فلن يضركم ما صنع وأين وقع، فقال الشيخ المذكور: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه القلوب بحديثه؟ والله لئن فعلتم لتجتمعن عليكم العرب حتى يخرجوكم من بلادكم ويقتلوا أشرافكم، قالوا صدق فانظروا رأياً غير هذا، فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره! قالوا: وما هو؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاماً شاباً جلداً، ونعطي كل واحد سيفاً صارماً، ثم يضربونه فيقبلون الدية ونستريح منه ونقطع عنا أذاه، فصرخ عدو الله إِبليس: هذا والله الرأي لا أرى غيره، قالوا: وما هو؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاماً شاباً جلداً، ونعطي كل واحد سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، ويتفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها فيقبلون الدية ونستريح منه ونقطع عنا أذاه، فصرخ عدو الله إِبليس: هذا والله الرأي لا أرى غيره، فتفرقوا على ذلك فأتى جبريل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبره وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن له بالهجرة، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ.
. .} الآية {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} أي وإِذا قرئت عليهم آيات القرآن المبين {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} أي قالوا مكابرة وعناداً: قد سمعنا هذا الكلام ولو أردنا لقلنا مثله {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} أي ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا إِلا أكاذيب وأباطيل وحكايات الأمم السابقة سطروها وليس كلام الله تعالى قال أبو السعود: وهذا غاية المكابرة ونهاية العناد، كيف لا، ولو استطاعوا لما تأخروا {فما الذي كان يمنعهم وقد تحداهم عشر سنين؟ وقرَّعوا على العجز، ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوه، مع أنفتهم، وفرط استنكافهم أن يغلبوا لا سيما في باب البيان؟} {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} أي إِن كان هذا القرآن حقاً منزلاً من عندك {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} أي أنزل علينا حاصباً وحجارة من السماء كما أنزلتها على قوم لوط {أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بعذاب مؤلم أهلكنا به، وهذا تهكم منهم واستهزاء قال ابن كثير: وهذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم، وكان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إِن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه، ولكنهم استعجلوا العقوبة والعذاب لسفههم {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} هذا جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان للسبب الموجب لإِمهالهم أي إِنهم مستحقون للعذاب ولكنه لا يعذبهم وأنت فيهم إِكراماً لك يا محمد، فقد جرت سنة الله وحكمته ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها قال ابن عباس: لم تعذب أمة قط ونبيها فيها، والمراد بالعذاب عذاب الاستئصال {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي وما ان الله ليعذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون الله، وهو إٍشارة إلى استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والاستغفار، أما النبي فقد مضى، وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم؟ وكيف لا يعذبون وهم على ما هم عليه من العتو والضلال؟ {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} أي وحالهم الصد عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عام الحديبية، وكما اضطروه والمؤمنين إِلى الهجرة من مكة، {وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ} أي(1/466)
ما كانوا أهلاً لولاية المسجد الحرام مع إِشراكهم {إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون} أي إِنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي ولكن أكثرهم جهلة سفلة فقد كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرام، نصد من نشاء، وندخل من نشاء.
. والغرض من الآية بيان استحقاقهم لعذاب الاستئصال بسبب جرائمهم الشنيعة، ولكن الله رفعة عنهم إِكراماً لرسوله عليه السلام، ولاستغفار المسلمين المستضعفين {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} هذا من جملة قبائحهم أي ما كانت عبادة المشركين وصلاتهم عند البيت الحرام إِلا تصفيراً وتصفيقاً، وكانوا يفعلونهما إِذا صلى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم، والمعنى أنهم وضعوا مكان الصلاة والتقرب إِلى الله التصفير والتصفيق قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراةٌ يصفرون ويصفقون {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي فذوقوا عذاب القتل والأَسر بسبب كفركم وأفعالكم القبيحة، وهو إِشارة إِلى ما حصل لهم يوم بدر {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي يصرفون أموالهم ويبذلونها لمنع الناس عن الدخول في دين الإِسلام، ولحرب محمد عليه السلام، قال الطبري: لما أصيب كفار قريش يوم بدر، ورجع فلُّهم إِلى مكة قالوا: يا معشر قريش إِن محمداً قد وتَرَكم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا فنزلت الآية {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي فسينفقون هذه الأموال ثم تصير ندامة عليهم، لأن أموالهم تذهب ولا يظفرون بما كانوا يطمعون من إِطفاء نور الله وإِعلاء كلمة الكفر {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} إِخبار بالغيب أي ثم نهايتهم الهزيمة والاندحار
{كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] {والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي والذين ماتوا على الكفر منهم يساقون إِلى جهنم، فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} أي ليفرق الله بين جند الرحمن وجند الشيطان، ويفصل بين المؤمنين الأبرار والكفرة الأشرار، والمراد بالخبيث والطيب الكافر والمؤمن {وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ} أي يجعل الكفار بعضهم فوق بعض {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} أي يجعلهم كالركام متراكماً بعضهم فوق بعض لشدة الازدحام {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} أي فيقذف بهم في نار جهنم {أولئك هُمُ الخاسرون} أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم، ثم دعاهم تعالى إِلى التوبة والإِنابة، وحذرهم من الإِصرار على الكفر والضلال فقال سبحانه {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، إِن ينتهوا عن الكفر ويؤمنوا بالله ويتركا قتالك وقتال المؤمنين، يغفر لهم ما قد سلف من الذنوب والآثام {وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أي وإِن عادوا إِلى قتالك وتكذيبك فقد مضت سنتي في تدمير وإِهلاك المكذبين لأنبيائي، فكذلك نفعل بهم، وهذا وعيد شديد لهم بالدمار إِن لم يقلعوا عن المكابرة والعناد {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي قاتلوا يا معشر المؤمنين أعداءكم المشركين حتى لا يكون شرك ولا يعبد إِلا الله وحده، قال ابن عباس: الفتنة: الشرك، أي حتى لا يبقى مشرك على وجه الأرض وقال ابن جريج: حتى لا يفتن مؤمن عن دينه {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} أي تضمحل الأديان الباطلة ولا يبقى إِلا دين الإِسلام قال الألوسي:(1/467)
واضمحلاها إِما بهلاك أهلها جميعاً، أو برجوعهم عنها خشية القتل، لقوله عليه السلام «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إِله إِلا الله» {فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي فإِن انتهوا عن الكفر وأسلموا فإِن الله مطلع على قلوبهم، يثيبهم على توبتهم وإِسلامهم {وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ} أي وإِن لم ينتهوا عن كفرهم وأعرضوا عن الإِيمان فاعلموا يا معشر المؤمنين أن الله ناصركم ومعينكم عليهم، فثقوا بنصرته وولايته ولا تبالوا بمعاداتهم لكم {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} أي نعم الله أن يكون مولاكم فإِنه لا يضيع من تولاه، ونعم النصير لكم فإِنه لا يُغلب من نصره الله.
البَلاَغَة: 1 - {يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، شبه تمكنه تعالى من قلوب العباد وتصريفها كما يشاء، بمن يحول بين الشيء والشيء، وهي استعارة لطيفة.
2 - {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} صيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة من تآمر المشركين على صاحب الرسالة عليه السلام.
3 - {وَيَمْكُرُ الله} إِضافة المكر إِليه تعالى على طريق «المشاكلة» بمعنى إِحباط ما دبروا من كيد ومكر، والمشاكلة أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى وقد تقدم.
4 - {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} تأمل التعبير الرائع في أسلوب القرآن حيث وضعوا المكاء والتصدية «التصفير والتصفيق» موضع الصلاة التي ينبغي أن تؤدى عند البيت فكانوا كالأنعام التي لا تفقه معنى العبادة، ولا تعرف حرمة بيوت الله، وهو على حد قول القائل: «تحية بينهم ضرب وجيع» .
5 - {الخبيث مِنَ الطيب} كناية عن المؤمن والكافر وبين لفظ «الخبيث» و «الطيب» طباق وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: روى الحافظ ابن كثير عن أبي سعيد بن المعلى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «كنت أصلي فمر بي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} ؟ ثم قال: لأعلمنك أعظم صورة في القرآن قبل أن أخرج، فذهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليخرج فذكرت له ذلك فقال {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» .
لطيفة: حكي عن معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملَّكُوا عليهم امرأة! فقال الرجل: أجهل من قومي قومك حين قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين دعاهم إِلى الحق {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ولم يقولوا: إِن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إِليه، فسكت معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.(1/468)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
المنَاسَبَة: لما أمر تعالى بقتال المشركين، وذكر فيما تقدم طرفاً من غزوة بدر، وكان لا بد بعد(1/469)
القتال من أن يغنم المجاهدون الغنائم - وهي أموال المشركين - على طريق القهر والظفر، ذكر سبحانه هنا حكم الغنائم وكيفية قسمتها - ثم سرد بقية الأحداث الهامة في تلك الغزوة المجيدة «غزوة بدر» .
اللغَة: {الْعُدْوَةِ الدنيا} عدوة الوادي: جانبه وشفيره، والدنيا تأنيث الأدنى أي الأقرب والراد ما يلي جانب المدينة {العدوة القصوى} القصوى: تأنيث الأقصى أي الأبعد، وكل شيء تنحى عن شيء فقد قصا والمراد ما يلي جانب مكة {نَكَصَ} النكوص: الإِحجام عن الشيء {كَدَأْبِ} الدأب: العادة، وأصله في اللغة إِدامة العمل يقال: فلان يدأب في كذا أي يدوم عليه ويواظب ثم سميت العادة دأباً لأن الإِنسان مداوم على عادته {تَثْقَفَنَّهُمْ} قال الليث: يقال ثقفنا فلاناً في موضع كذا أي أخذناه وظفرنا به {فَشَرِّدْ} التشريد: التفريق والتبديد يقال: شردت القوم إِذا قاتلتهم وطردتهم عنها حتى فارقوها.
التفسِير: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} أي اعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتوه من أموال المشركين في الحرب سواء كان قليلاً أو كثيراً {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} قال الحسن: هذا مفتاح كلام، الدنيا والآخرة لله أي أن ذكر اسم الله على جهة التبرك والتعيظم كقوله {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] قال المفسرون: تقسم الغنيمة خمسة أقسام، فيعطى الخمس لمن ذكر الله تعالى في هذه الآية، والباقي يوزع على الغانمين {وَلِلرَّسُولِ} أي سهم من الخمس يعطى للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَلِذِي القربى} أي قرابة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم بنو هاشم وبنو المطلب {واليتامى والمساكين وابن السبيل} أي ولهؤلاء الأصناف من اليتامى الذين مات آباؤهم، والفقراء من ذوي الحاجة، والمنقطع في سفره من المسلمين {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله} جواب الشرط محذوف تقديره: إِن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن هذا هو حكم الله في الغنائم فامتثلوا أمره بطاعته {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا} وبما أنزلنا على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {يَوْمَ الفرقان} أي يوم بدر لأن الله فرق به بين الحق والباطل {يَوْمَ التقى الجمعان} أي جمع المؤمنين وجمع الكافرين، والتقى فيه جند الرحمن بجند الشيطان {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر لا يعجزه شيء، ومنه نصركم مع قلَّتكم وكثرتهم {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا} هذا تصوير للمعركة أي وقت كنتم يا معشر المؤمنين بجانب الوادي القريب إلى المدينة {وَهُم بالعدوة القصوى} أي وأعداؤكم المشركون بجانب الوادي الأبعد عن المدينة {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي والعير التي فيها تجارة قريش في مكان أسفل من مكانكم فيما يلي ساحل البحر {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} أي ولو تواعدتم أنتم والمشركون على القتال لاختلفتم له ولكن الله بحكمته يسر وتمم ذلك قال كعب بن مالك: إِنما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد قال الرازي: المعنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة على القتال لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم وكثرتهم، {ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} أي ولكن جمع بينكم على غير ميعاد ليقضي الله ما أراد بقدرته، من إِعزاز الإِسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، فكان أمراً متحققاً(1/470)
واقعاً لا محالة قال أبو السعود: والغرض من الآية أن يتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح، ليس إِلا صنعاً من الله عَزَّ وَجَلَّ خارقاً للعادات، فيزدادوا إِيماناً وشكراً، وتطمئن نفوسهم بفرض الخمس {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} أي فعل ذلك تعالى ليكفر من كفر عن وضوح وبيان {ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} أي ويؤمن من آمن عن وضوح وبيان، فإِن وقعة بدر من الآيات الباهرات على نصر الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوال العباد عليم بنياتهم {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} أي اذكر يا محمد حين أراك الله في المنام أعداءك قلة، فأخبرت بها أصحابك حتى قويت نفوسهم وتشجعوا على حربهم قال مجاهد: أراه الله إِياهم في منامه قليلاً، فأخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه بذلك فكان تثبيتاً لهم {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} أي ولو أراك ربك عدوك كثيراً لجبن أصحابك ولم يقدروا على حرب القوم، وانظر إِلى محاسن القرآن فإِنه لم يسند الفشل إِليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه معصوم بل قال {لَّفَشِلْتُمْ} إِشارة إِلى أصحابه {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر} أي ولاختلفتم يا معشر الصحابة في أمر قتالهم {ولكن الله سَلَّمَ} أي ولكن الله أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي عليم بما في القلوب يعلم ما يغيّر أحوالها من الشجاعة والجبن، والصبر والجزع {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} هذه الرؤية باليقظة لا بالمنام أي واذكروا يا معشر المؤمنين حين التقيتم في المعركة فقلل الله عدوكم في أعينكم لتزداد جرأتكم عليهم، وقلَّلكم في أعينهم حتى لا يستعدوا ويتأهبوا لكم قال أبو مسعود: لقد قُلِّلُوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل: أتراهم يكونون مائة؟ وهذا قبل التحام الحرب فلما التحم القتال كثر الله المؤمنين في أعين الكفار فبُهتوا وهابوا، وفُلَّت شوكتهم، ورأوا ما لم يكن في الحسبان، وهذا من عظائم آيات الله في تلك الغزوة {لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} أي فعل ذلك فجؤَّأ المؤمنين على الكافرين، والكافرين على المؤمنين، لتقع الحرب ويلتحم القتال، وينصر الله جنده ويهزم الباطل وحزبه، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي مصير الأمور كلها إِلى الله يصرّفها كيف يريد، لا معقب لحكمه وهو الحكيم المجيد، {ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} هذا إِرشاد إِلى سبيل النصر في مبارزة الأعداء أي إٍِذا لقيتم جماعة من الكفرة فاثبتوا لقتالهم ولا تنهزموا {واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} أي أكثروا من ذكر الله بألسنتكم لتستمطروا نصره وعونه وتفوزوا بالظفر عليهم {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي في جميع أقوالكم وأفعالكم ولا تخالفوا أمرهما في شيء {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} أي ولا تختلفوا فيما بينكم فتضعفوا وتجبنوا عن لقاء عدوكم {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي تذهب قوتكم وبأسكم، ويدخلكم الوهن والخور {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} أي واصبروا على شدائد الحرب وأهوالها، فإِن الله(1/471)
مع الصابرين بالنصر والعون {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس} أي لا تكونوا ككفار قريش حين خرجوا لبدر عتواً وتكبراً، وطلباً للفخر والثناء، والآية إِشارة إِلى قول أبي جهل: والله لا نرجع حتى نَرد بدراً، فنشرب فيها الخمور وننحر الجزور، وتعزف علينا القيان - المغنيات - وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً قال الطبري: فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا، وناحت عليهم النوائح مكان القيان {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي ويمنعون الناس عن الدخول في الإِسلام {والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي وهو سبحانه عالم بجميع ذلك وسيجازيهم عليه {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي واذكر وقت أن حسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة من الشرك وعبادة الأصنام، وخروجهم لحرب الرسول عليه السلام {وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس} أي لن يغلبكم محمد وأصحابه {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} أي مجير ومعين لكم {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} أي فلما تلاقى الفريقان ولى الشيطان هارباً مولياً الأدبار {وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ} أي بريء من عهد جواركم، وهذا مبالغة في الخذلان لهم {إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ} أي أرى الملائكة نازلين لنصرة المؤمنين وأنتم لا ترون ذلك وفي الحديث
«ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، إِلا ما رأى يوم بدر، فإِنه رأى جبريل يزْعُ الملائكة» أي يصفها للحرب {إني أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب} أي إِني أخاف الله أن يعذبني لشدة عقابه قال ابن عباس: جاء إِبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رأيته في صورة «سراقة بن مالك» فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإِني جار لكم، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبضه من التراب فرمى بها وجوه المشركين، فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام إِلى إِبليس، فلما رآه - وكانت يده في يد رجلٍ من المشركين - انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال: إِني أرى ما لا ترون إِني أخاف الله، وكذب عدو الله فإِنه علم أنه لا قوة له ولا منعة وذلك حين رأى الملائكة {إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي حين قال أهل النفاق الذين أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر لضعف اعتقادهم بالله {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} أي اغتر المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به قال تعالى في جوابهم {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي ومن يعتمد على الله ويثق به فإِن الله ناصره لأن الله عزيز أي غالب لا يذل من استجار به، حكيم في أفعاله وصنعه {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة} أي لو رأيت وشاهدت أيها المخاطب أو أيها السامع حالتهم ببدر حين تقبض ملائكة العذاب أرواح الكفرة المجرمين، وجواب {لَوْ} محذوف للتهويل أي لرأيت أمراً فظيعاً وشأناً هائلاً قال أبو حيان: وحذف جواب لو جائز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدل على التهويل والتعظيم أي لرأيت أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي تضربهم الملائكة من أمامهم وخلفهم، على(1/472)
وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي ويقولون لهم: ذوقوا يا معشر الفجرة عذاب النار المحرق، وهذا بشارة لهم بعذاب الآخرة وقيل: كانت معهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتعل جراحاتهم ناراً {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي ذلك العذاب بسبب ما كسبتم من الكفر والآثام {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي وأنه تعالى عادل ليس بذي ظلم لأحد من العباد حتى يعذبه بغير ذنب، وصيغة {ظَلاَّمٍ} ليست للمبالغة وإِنما هي للنسب أي ليس منسوباً إِلى الظلم فقد انتفى أصل الظلم عنه تعالى فتدبره {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي دأب هؤلاء الكفرة في الإِجرام يعني عملهم وطريقهم الذي دأبوا فيه كعمل وطريق آل فرعون ومن تقدمهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود في العناد والتكذيب والكفر والإِجرام {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} أي جحدوا ما جاءهم به الرسل من عند الله {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكهم بكفرهم وتكذيبهم {إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} أي قوي البطش شديد العذاب، لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ} أي ذلك الذي حل بهم ن العذاب بسبب أن الله عادل في حكمه لا يغير نعمة أنعمها على أحدٍ إِلا بسبب ذنبٍ ارتكبه، وأنه لا يبدل النعمة بالنقمة {حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} أي حتى يبدلوا نعمة الله بالكفر والعصيان، كتبديل كفار قريش نعمة الله من الخصب والسعة والأمن والعافية، بالكفر والصد عن سبيل الله وقتال المؤمنين قال السدي: نعمة الله على قريش محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكفروا به وكذبوه، فنقله الله إِلى المدينة وحل بالمشركين العقاب {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي وأنه سبحانه سميع لما يقولون عليم بما يفعلون {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ} كرره لزيادة التشنيع والتوبيخ على إِجرامهم أي شأن هؤلاء وحالهم كشأن وحال المكذبين السابقين حيث غيروا حالهم فغيّر الله نعمته عليهم {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكناهم بسبب ذنوبهم بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف وبعضهم الحجارة، وبعضهم بالغرق ولهذا قال {وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ} أي أغرقنا فرعون وقومه معه {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} أي وكل من الفرق المكذبة كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والمعاصي حيث عرَّضوها للعذاب {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} أي شر من يدب على وجه الأرض في علم الله وحكمه {الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي الذين أصروا على الكفر ورسخوا فيه فهم لا يتوقع منهم إِيمان لذلك قال ابن عباس: نزلت في بني قريظة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يحاربوه فنقضوا العهد {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ} أي الذين عاهدتهم يا محمد على ألا يعينوا المشركين {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} أي يستمرون على النقض مرة بعد مرة {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} أي لا يتقون الله في نقض العهد قال المفسرون: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد عاهد يهود بني قرظة ألا يحاربوه ولا يعاونوا عليه المشركين، فنقضوا العهد وأعانوا عليه كفار مكة بالسلاح يوم بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوا العهد ومالئوا الكفار يوم الخندق {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب} أي فإِن تظفر بهم في الحرب {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي فاقتلهم ونكل بهم تنكيلاً شديداً يشرد غيرهم من الكفرة المجرمين {(1/473)
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون بما شاهدوا فيرتدعوا والمعنى: اجعلهم عبرة لغيرهم حتى لا يبقى لهم قوة على محاربتك {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} أي وإِن أحسست يا محمد من قوم معاهدين خيانة للعهد ونكثاً بأمارات ظاهرة {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} أي اطرح إِليهم عهدهم على بينة ووضوح من الأمر قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه والمعنى: وإِما تخافن من قوم - بينك وبينهم عهد - خيانة فانبذ إِليهم العهد أي قل لهم قد نبذت إِليكم عهدكم وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك فيكون ذلك خيانة وغدراً {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} وهذا كالتعليل للأمر بنبذ العهد أي لا يحب من ليس عنده وفاء ولا عهد {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا} أي لا يظنن هؤلاء الكفار الذين أفلتوا يوم بد من القتل أنهم فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم في قبضتنا وتحت مشيئتنا وقهرنا {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} كلام مستأنف أي إِنهم لا يُعجزون ربهم، بل هو قادر على الانتقام منهم في كل لحظة، لا يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} أي أعدوا لقتال أعدائكم جميع أنواع القوة: المادية، والمعنوية قال الشهاب: وإِنما ذكر القوة هنا لأنه لم يكن لهم في بدر استعداد تام، فنُبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} أي الخيل التي تربط في سبيل الله {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} أي تُخيفون بتلك القوة الكفار أعداء الله وأعداءكم {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} أي وترهبون به آخرين غيرهم قال ابن زيد: هم المنافقون وقال مجاهد: هم اليهود من بني قريظة والأول أصح لقوله {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} أي لا تعلمون ما هم عليه من النفاق ولكن الله يعلمهم {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله} أي وما تنفقوا في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي تُعْطون جزاءه وافياً كاملاً يوم القيامة {وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} أي لا تنقصون من ذلك الأجر شيئاً.
البَلاَغَة: 1 - {مِّن شَيْءٍ} التنكير للتقليل.
2 - {على عَبْدِنَا} ذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلفظ العبودية وإِضافته إِلى الله للتشريف والتكريم.
3 - {بِالْعُدْوَةِ الدنيا} بين لفظ «الدنيا» و «القصوى» طباق.
4 - {لِّيَهْلِكَ ويحيى} استعار الهلاك والحياة للكفر والإِيمان، وبين «يهلك» و «يحيا» طباقٌ.
5 - {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي تذهب قوتكم وشوكتكم وهو من باب الاستعارة أيضاً.
تنبيه: يأمرنا الله تعالى بإِعداد القوة لقتال الأعداء، وقد جاء التعبير عاماً {مِّن قُوَّةٍ} ليشمل القوة المادية، والقوة الروحية، وجميع أسباب القوة، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الإِسلامية وهو لا يرى عندنا معامل للأسلحة، وذخائر للحرب، بل كلها مما يشتريه المسلمون من بلاد العدو؟ فلا بد لنا من العودة إِلى تعاليم الإِسلام إِذا ما أردنا حياة العزة والكرامة.(1/474)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
المنَاسَبَة: لما أمر الله تعالى بإِعداد العدة لإِرهاب الأعداء، أمر هنا بالسلم بشرط العزة والكرامة متى وجد السبيل إِليه، لأن الحرب ضرورة اقتضتها ظروف الحياة لرد العدوان، وحرية الأديان، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان، ثم تناولت الآيات الكريمة حكم الأسرى، وختمت السورة بوجوب مناصرة المؤمنين بعضهم لبعض، بسبب الولاية الكاملة وأخوة الإِيمان.
اللغَة: {جْنَحْ} مال يقال: جنح الرجل إِلى فلان إِذا مال إِليه وخضع له، وجنحت الإِبل: إِذا مالت أعناقها في السير، ومنه قيل للأضلاع جوانح {السلم} المسالمة والصلح قال الزمخشري: وهي تؤنث تأنيث ضدها وهي الحرب قال الشاعر:(1/475)
السِّلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جُرع
{حَرِّضِ} التحريض: الحث على الشيء وتحريك الهمة نحوه كالتحضيض {يُثْخِنَ} قال الواحدي: الإِثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته، يقال: قد أثخنه المرض إِذا اشتدت قوته عليه، وأثخنته الجراح، والثخانة: والغلظة، والمراد بالإِثخان هنا المبالغة في القتل والجراحات.
سَبَبُ النّزول: أ - عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون، استشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا بكر وعمر وعلياً فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة، وإِني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً، فقال رسول الله: ما ترى يا ابن الخطاب! قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة على المشركين، هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإِذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان، فقلت يا رسول الله: أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإِن وجدت بكاءً بكيت، وإِن لم أجد بكاءً تباكيت، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أبكي للذي عرض علي أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة» لشجرة قريبة فأنزل الله {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} الآية.
ب - لما وقع العباس عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الأسر كان معه عشرون أوقية من ذهب، فلم تحسب له من فدائه، وكلف أن يفدي ابني أخيه فأدى عنهما ثمانين أوقية من ذهب، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
«أضعفوا على العباس الفداء» فأخذوا منه ثمانين أوقية فقال العباس لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لقد تركتني أتكفَّف قريشاً ما بقيت، فقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وأين الذهب الذي تركته عند أم الفضل؟ فقال: أي الذهب؟ فقال: إِنك قلت لها: إِني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا! فإِن حدث بي حدث فهو لك ولولدك، فقال يا ابن أخي: من أخبرك بهذا؟ قال: الله أخبرني فقال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قبل اليوم، وأمر ابني أخيه فأسلما ففيهما نزلت {ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى} الآية.
التفسِير: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} أي إِن مالوا إِلى الصلح والمهادنة فمل إِليه وأجبهم إِلى ما طلبوا إِن كان فيه مصلحة {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي فوض الأمر إِلى الله ليكون عوناً لك على السلامة {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} أي هو سبحانه السميع لأقوالهم العليم بنياتهم {وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ} أي وإِن أرادوا بالصلح خداعك ليستعدوا لك {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} أي فإِن الله يكفيك وهو(1/476)
حسبك، ثم ذكره بنعمته عليه فقال {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} أي قواك وأعانك بنصره وشد أزرك بالمؤمنين قال ابن عباس: يعني الأنصار {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي جمع بين قلوبهم على ما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فأبدلهم بالعداوة حباً، وبالتباعد قرباً قال القرطبي: وكان تأليف القلوب مع العصبيّة الشديدة في العرب من آيات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعجزاته، لأن أحدهم كان يُلطم اللطمة فيقاتل عليها، وكانوا أشد خلق الله حمية، فألف الله بينهم بالإِيمان، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال ما قدرت على تأليف قلوبهم واجتماعها على محبة بعضها بعضاً {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} أي ولكنه سبحانه بقدرته البالغة جمع بينهم ووفق، فإِنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب على أمره لا يفعل شيئاً إِلا عن حكمة {ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} أي الله وحده كافيك، وكافي اتباعك، فلا تحتاجون معه إِلى أحد وقال الحسن البصري: المعنى حسبك أي كافيك الله والمؤمنون {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} أي حض المؤمنين ورغبهم بكل جهدك على قتال المشركين {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} قال أبو السعود: هذا وعد كريم منه تعالى بغلبة كل جماعة من المؤمنين على عشرة أمثالهم والمعنى: إِن يوجد منكم يا معشر المؤمنين عشرون صابرون على شدائد الحرب يغلبوا مائتين من عدوهم، بعون الله وتأييده {وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ} أي وإِن يوجد منكم مائة - بشرط الصبر عند اللقاء - تغلب ألفاً من الكفار بمشيئة الله {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} الباء سببية أي سبب ذلك بأن الكفار قوم جهلة لا يفقهون حكمة الله، ولا يعرفون طريق النصر وسببه، فهم يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، فلذلك يُغلبون قال ابن عباس: كان ثبات الواحد للعشرة فرضاً، ثم لما شق ذلك عليهم نسخ وأصبح ثبات الواحد للاثنين فرضاً {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} أي رفع عنكم ما فيه مشقة عليكم {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} أي وعلم ضعفكم فرحمكم في أمر القتال {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} أي إِن يوجد منكم مائة صابرة على الشدائد يتغلبوا على مائتين من الكفرة {وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ} أي وإِن يوجد منكم ألف صابرون في ساحة اللقاء، يتغلبوا على ألفين من الأعداء {بِإِذْنِ الله} أي بتيسيره وتسهيله {والله مَعَ الصابرين} هذا ترغيب في الثبات وتبشير بالنصر أي الله معهم بالحفظ والرعاية والنصرة، ومن كان الله معه فهو الغالب {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} عتاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه على أخذ الفداء والمعنى: لا ينبغي لنبي من الأنبياء أن يأخذ الفداء من الأسرى(1/477)
إِلا بعد أن يكثر القتل ويبالغ فيه {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} أي تريدون أيها المؤمنون بأخذ الفداء حطام الدنيا ومتاعها الزائل؟ {والله يُرِيدُ الآخرة} أي يريد لكم الباقي الدائم، وهو ثواب الآخرة، بإِعزاز دينه وقتل أعدائه {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي عزيز في ملكه لا يقهر ولا يُغلب، حكيم في تدبير مصالح العباد {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ} أي لولا حكم في الأزل من الله سابق وهو ألا يعذب المخطئ في اجتهاده {لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي لأصابكم في أخذ الفداء من الأسرى عذاب عظيم، وروي أنها لما نزلت قال عليه السلام
«لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر» {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} أي كلوا يا معشر المجاهدين مما أصبتموه من أعدائكم من الغنائم في الحرب حال كونه حلالاً أي محللاً لكم {طَيِّباً} أي من أطيب المكاسب لأنه ثمرة جهادكم، وفي الصحيح «وجعل رزقي تحت ظل رمحي» {واتقوا الله} أي خافوا الله في مخالفة أمره ونهيه {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة لمن تاب، رحيم بعباده حيث أباح لهم الغنائم {ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى} أي قل لهؤلاء الذين وقعوا في الأسر من الأعداء، والمراد بهم أسرى بدر {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} أي إِن يعلم الله في قلوبكم إِيماناً وإِخلاصاً، وصدقاً في دعوى الإِيمان {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} أي يعطكم أفضل مما أخذ منكم من الفداء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أي يمحو عنكم ما سلف من الذنوب {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي واسع المغفرة، عظيم الرحمة لمن تاب وأناب قال البيضاوي: نزلت في العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حين كلفه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يفدي نفسه وابني أخويه «عقيل» و «نوفل» فقال يا محمد: تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت، فقال: أين الذهب الذي دفعته إِلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها: إِني لا أدري ما يصيبني في جهتي هذه، فإِن حدث بي حدث فهو كل ولعيالك! {فقال العباس: ما يدريك؟ قال: أخبرني به ربي تعالى، قال: فأشهد أنك صادق، وأن لا إِله إِلا الله وأنك رسوله، والله لم يطلع عليه أحد، ولقد دفعته إِليها في سواد الليل} ! قال العباس: فأبدلني الله خيراً من ذلك، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي - يعني الموعود - بقوله تعالى {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} وإِن كان هؤلاء الأسرى يريدون خيانتك يا محمد بما أظهروا من القول ودعوى الإِيمان {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} أي فقد خانوا الله تعالى قبل هذه الغزوة غزوة بدر {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي فقواك ونصرك الله عليهم وجعلك تتمكن من رقابهم، فإِن عادوا إِلى الخيانة فسيمكنك منهم أيضاً {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بجميع ما يجري، يفعل ما تقضي به حكمته البالغة {إِنَّ الذين آمَنُواْ} أي صدقوا الله ورسوله {وَهَاجَرُواْ} أي تركوا وهجروا الديار والأوطان حباً في الله ورسوله {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} أي جاهدوا الأعداء بالأموال والأنفس لإِعزاز دين الله، وهم المهاجرون {والذين آوَواْ(1/478)
ونصروا} أي آووا المهاجرين في ديارهم ونصروا رسول الله وهم الأنصار {أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي أولئك الموصوفون بالصفات الفاضلة بعضهم أولياء بعض في النصرة والإِرث، ولهذا أخى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين المهاجرين والأنصار {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} أي آمنوا وأقاموا بمكة فلم يهاجروا إِلى المدينة {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} أي لا إِرث بينكم وبينهم ولا ولاية حتى يهاجروا من بلد الكفر {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} أي وإِن طلبوا منكم النصرة لأجل إِعزاز الدين، فعليكم أن تنصروهم على أعدائهم لأنهم إخوانكم {إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} أي إِلا إِذا استنصروكم على من بينكم وبينهم عهد ومهادنة فلا تعينوهم عليهم {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي رقيب على أعمالكم فلا تخالفوا أمره.
ذكر تعالى المؤمنين وقسمهم إِلى ثلاثة أقسام: المهاجرين، الأنصار، الذين لم يهاجروا، فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإِسلام وقد هجروا الديار والأوطان ابتغاء رضوان الله، وثنى بالأنصار لأنهم نصروا الله ورسوله وجاهدوا بالنفس والمال، وجعل بين المهاجرين والأنصار الولاية والنصرة، ثم ذكر حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا بيّن أنهم حرموا الولاية حتى يهاجروا في سبيل الله، وبعد ذكر هذه الأقسام الثلاثة ذكر حكم الكفار فقال {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي هم في الكفر والضلال ملة واحدة فلا يتولاهم إِلا من كان منهم {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} أي وإِن لم تفعلوا ما أمرتم به من تولي المؤمنين وقطع الكفار {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} أي تحصل في الأرض فتنة عظيمة ومفسدة كبيرة، لأنه يترتب على ذلك قوة الكفار وضعف المسلمين، ثم عاد بالذكر والثناء على المهاجرين والأنصار فقال {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله} وهم المهاجرون أصحاب السبق إِلى الإِسلام {والذين آوَواْ ونصروا} وهم الأنصار أصحاب الإِيواء والإِيثار {أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً} أي هؤلاء هم الكاملون في الإِيمان، المتحققون في مراتب الإِحسان {لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم في جنات النعيم قال المفسرون: ليس في هذه الآيات تكرار، فالآيات السابقة تضمنت الولاية والنصرة بين المؤمنين، وهذه تضمنت الثناء والتشريف، ومآل حال أولئك الأبرار من المغفرة والرزق الكريم في دار النعيم {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ} هذا قسم رابع وهم المؤمنون الذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فحكمهم حكم المؤمنين السابقين في الثواب والأجر {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} أي أصحاب القرابات بعضهم أحق بإِرث بعض من الأجانب في حكم الله وشرعه قال العلماء: هذه ناسخة للإِرث بالخلف والإِخاء {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي أحاط بكل شيء علماً، فكل ما شرعه الله حكمة وصواب وصلاح، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهو ختم للسورة في غاية البراعة.
البَلاَغَة: 1 - {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} هذا الأسلوب يسمى ب «الإِطناب» وفائدته التذكير بالمنة الكبرى والنعمة العظمى على الرسول والمؤمنين.
2 - {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ... } الآيات في البحر: انظر إِلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت في الشرطية الأولى قيد الصبر، وحذف نظيره من الثانية، وأثبت في الثانية قيد(1/479)
كونهم من الكفرة، وحذفه من الأولى، ولما كان الصبر شديد الطلب أثبت في جملتي التخفيف، ثم ختمت الآيات بقوله {والله مَعَ الصابرين} مبالغة في شدة المطلوبية، وهذا النوع من البديع يسمى «الاحتباك» . فلله در التنزيل ما أحلى فصاحته وأنضر بلاغته!!(1/480)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
اللغَة: {بَرَآءَةٌ} برئت من الشيء: إِذا قطعت ما بينك وبينه من سبب وأزلته عن نفسك، قال الزجاج: برئت من الرجل والدين براءة، وبرئت من المرض بُروءاً {فَسِيحُواْ} السياحة: السير في الأرض والذهاب فيها للتجارة أو العبادة أو غيرهما {أَذَانٌ} الأذان: الإِعلام ومنه أذان الصلاة {مَرْصَدٍ} المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم: رصدت فلاناً إِذا ترقبته قال الشاعر: إِن المنية للفتى بالمرصد {استجارك} طلب جوارك أي أمانك {إِلاَّ} الإِلُّ: العهد والقرابة وأنشد عبيدة:
أفسد الناس خلوف خلفوا ... قطعوا الإِلَّ وأعراف الرحم
{نَكَثوا} النكث: النقض وأصله في كل ما فُتل ثم حل {وَلِيجَةً} بطانة ودخيلة، قال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج، فالداخل في القوم وليس منهم يسمى وليجة وقال الفراء: الوليجة: البطانة من المشركين يفشي إِليهم سره، ويعلمهم أمره. سَبَبُ النّزول: روي أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر، وفيهم «العباس بن عبد المطلب» فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعيرّوهم بالشرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقطيعة الرحم، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقال: وهل لكم من محاسن؟ فقال: نعم، إِنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني - الأسير - فنزلت هذه الآية {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ... } الآية.
التفسِير: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} أي هذه براءة من المشركين ومن عهودهم كائنة من الله ورسوله قال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهوداً عقدتها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمره الله بإِلقاء عهودهم إليهم، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا بكر أميراً على الحج ليقيم للناس المناسك، ثم أتبعه علياً ليعلم الناس بالبراءة، فقام علي فنادى في الناس بأربع: ألاّ يقرب(1/484)
البيت الحرام بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، وأنه لا يدخل الجنة إِلا مسلم، ومن كان بينه ويبن رسول الله مدة فأجله إِلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} أي سيروا آمنين أيها المشركون مدة أربعة أشهر لا يقع بكم منا مكروه، وهو أمر إباحة وفي ضمنه تهديد {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} أي لا تفوتونه تعالى وإِن أمهلكم هذه المدة {وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين} أي مذلهم في الدنيا بالأسر والقتل، وفي الآخرة بالعذاب الشديد {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس} أي إِعلام إلى كافة الناس بتبرئ الله تعالى ورسوله من المشركين {يَوْمَ الحج الأكبر} أي وم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك قال الزمخشري: وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} أي إعِلام لهم بأن الله بريء من المشركين وعهودهم، ورسوله بريء منهم أيضاً {فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي فإِن تبتم عن الكفر ورجعتم إِلى توحيد الله فهو خير لكم من التمادي في الضلال {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} أي وإِن أعرضتم عن الإِسلام وأبيتم إِلا الاستمرار على الغيّ والضلال، فاعلموا أنكم لا تفوتون الله طلباً، ولا تُعجزونه هرباً {وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بشر الكافرين بعذاب مؤلم موجع يحل بهم قال أبو حيان: جعل الإِنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، وفي هذا وعيد عظيم لهم {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين} أي إِلا الذين عاهدتموهم ولم ينقضوا العهد فأتموا إِليهم عهدهم قال في الكشاف: وهو استثناء بمعنى الاستدراك أي لكن من وفى ولم ينكث فأتموا عليهم عهدهم، ولا تُجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفي كالغادر {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} أي لم ينقصوا من شروط الميثاق شيئاً {وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً} أي لم يعينوا عليكم أحداً من أعدائكم {فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} أي وفوا العهد كاملاً إِلى انقضاء مدته {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} أي يحب المتقين لربهم الموفين لعهودهم قال البيضاوي: هذا تعليل وتنبيه على أن إِتمام عهدهم من باب التقوى قال ابن عباس: كان قد بقي لحيٍّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأنتم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِليهم عهدهم {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} أي مضت وخرجت الأشهر الأربعة التي حرم فيها قتالهم {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} أي اقتلوهم في أي مكانٍ أو زمان من حلٍّ أو حرم، قال ابن عباس: في الحلِّ والحرم وفي الأشهر الحرم {وَخُذُوهُمْ} أي بالأسر {واحصروهم} أي احبسوهم وامنعوهم من التقلب في البلاد قال ابن عباس: إِن تحصنوا فاحصروهم أي في القلاع والحصون حتى يُضطروا إِلى القتل أو الإِسلام {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي اقعدوا لهم في كل طريق يسلكونه، وارقبوهم في كل ممر يجتازون منه في أسفارهم قال في البحر: وهذا تنبيه على أن المقصود إِيصال الأذى إِليهم بكل وسيلة بطريق القتال أو بطريق الاغتيال {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} أي فإِن تابوا عن الشرك وأدوا ما فرض عليهم من الصلاة والزكاة {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} أي كفروا عنهم ولا تتعرضوا لهم {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب {وَإِنْ(1/485)
أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} أي إِن استأمنك مشرك وطلب منك جوارك {فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} أي أمنه حتى يسمع القرآن ويتدبره قال الزمخشري: المعنى إِن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر، لا عهد بينك وبينه، واستأمنك ليسمع ما تدعو إِليه من التوحيد والقرآن، فأمنه حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطّلع على حقيقة الأمر أقول: هذا غاية في حسن المعاملة وكرم الأخلاق، لأن المراد ليس النيل من الكافرين، بل إِقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه، ويتركوا ما هم عليه من الضلال {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي ثم إِن لم يُسلم فأوصله إِلى ديار قومه التي يأمن فيها على نفسه وماله من غير غدر ولا خيانة {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} أي ذلك الأمر بالإِجارة للمشركين، بسبب أنهم لا يعلمون حقيقة دين الإِسلام، فلا بد من أمانهم حتى يسمعوا ويتدبروا، ثم بين تعالى الحكمة من البراءة من عهود المشركين فقال {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} استفهام بمعنى الانكار والاستبعاد أي كيف يكون عهد معتدٌ به عند الله ورسوله، ثم استدرك فقال {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام} أي لكن من عهدتم من المشركين عند المسجد الحرام ولم ينقضوا العهد قال ابن عباس: هم أهل مكة وقال ابن إسحاق: هم قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين قريش، فأمر بإِتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده منهم {فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ} أي فما داموا مستقيمين على عهدهم فاستقيموا لهم على العهد قال الطبري: أي فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} أي يحب من اتقى ربه، ووفى عهده، وترك الغدر والخيانة {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أي كيف يكون لهم عهد وحالهم هذه أنهم إِن يظفروا بكم {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} أي لا يراعوا فيكم عهداً ولا ذمة، لأنه لا عهد لهم ولا أمان قال أبو حيان: وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يرضونكم بالكلام الجميل إِن كان الظفر لكم عليهم {وتأبى قُلُوبُهُمْ} أي وتمنع قلوبهم من الإِذعان والوفاء بما أظهروه وقال الطبري: المعنى يعطونكم بألسنتهم من القول خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء، وتأبى قلوبهم أن يذعنوا بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} أي وأكثرهم ناقضون للعهد خارجون عن طاعة الله {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} أي استبدلوا بالقرآن عرضاً يسيراً من متاع الدنيا الخسيس {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} أي منعوا الناس عن اتباع دين الإِسلام {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بئس هذا العمل القبيح الذي عملوه {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} أي لا يراعون في قتل مؤمن لو قدروا عليه عهداً ولا ذمة {وأولئك هُمُ المعتدون} أي وأولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المجاوزون الحد في الظلم والبغي {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} أي فإِن تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وأعطوا الزكاة {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} أي فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم {وَنُفَصِّلُ(1/486)
الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ونبين الحجج والأدلة لأهل العلم والفهم، والجملة اعتراضية للحث على التدبر والتأمل {َوَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي وإِن نقضوا عهودهم الموثقة بالأيمْان {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} أي عابوا الإِسلام بالقدح والذم {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} أي رؤساء وصناديد الكفر {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} أي لا أيمان لهم ولا عهود يوفون بها {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} أي كي يكفوا عن الإِجرام، وينتهوا عن الطعن في الإِسلام، قال البيضاوي: وهو متعلق ب «قاتلوا» أي ليكن غرضكم في المقاتلة الانتهاء عما هم عليه، لا إِيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ} تحريض على قتالهم أي ألا تقاتلون يا معشر المؤمنين قوماً نقضوا العهود وطعنوا في دينكم {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} أي عزموا على تهجير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة حين تشاوروا بدار الندوة على إِخراجه من بين أظهركم {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي هم البادئون بالقتال حيث قاتلوا حلفاءكم خزاعة، والبادئ أظلم، فما يمنعكم أن تقاتلوهم؟ {أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} ؟ أي أتخافونهم فتتركون قتالهم خوفاً على أنفسكم منهم؟ فالله أحق أن تخافوا عقوبته إن تركتم أمره {إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} أي إِن كنتم مصدقين بعذابه وثوابه قال الزمخشري: يعني أن قضية الإِيمان الصحيح ألا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بما سواه.
. ثم بعد الحض والحث أمرهم بقتالهم صراحة فقال {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} أي قاتلوهم يا معشر المؤمنين فتقالكم لهم عذاب بأيدي أولياء الله وجهاد لمن قاتلهم {وَيُخْزِهِمْ} أي يذلهم بالأسر والقهر {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي يمنحكم الظفر والغلبة عليهم {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} أي يشف قلوب المؤمنين بإِعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم قال ابن عباس: هم قوم من اليمن قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيراً فشكوا إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أبشروا فإِن الفرج قريب {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} أي يذهب ما بها من غيظ، وغمٍّ، وكرب، وهو كالتأكيد لشفاء الصدور وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمنّ الله عليهم من تعذيب أعدائهم قال الرازي: أمر تعالى بقتالهم وذكر فيه خمسة أنواع من الفوائد، كل واحد منها يعظم موقعه إِذا انفرد، فكيف بها إِذا اجتمعت؟ {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} كلام مستأنف أي يمن الله على من يشاء منهم بالتوبة والدخول في الإِسلام كأبي سفيان {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بالأسرار لا تخفى عليه خافية، حكيم لا يفعل إِلا ما فيه حكمة ومصلحة قال أبو السعود: ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون، فكان إِخباره عليه السلام بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} أي منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أحسبتم يا معشر المؤمنين أن تتركوا بغير امتحان وابتلاء يعرف الصادق منكم في دينه من الكاذب فيه! {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} أي والحال أنه لم يتبيّن المجاهد منكم من غيره، والمراد بالعلم علم ظهور لا علم خفاء فإِنه تعالى يعلم ذلك غيباً فأراد إِظهار ما علم ليجازي على العمل {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} أي جاهدوا في سبيل الله ولم يتخذوا(1/487)
بطانة وأولياء من المشركين يفشون إِليهم أسرارهم ويوالونهم من دون المؤمنين، والغرض من الآية: إن الله تعالى لا يترك الناس دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي يعلم جميع أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} أي لا يصح ولا يستقيم ولا ينبغي ولا يليق بالمشركين أن يعمروا شيئاً من المساجد {شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} أي حال كونهم مقرين بالكفر، ناطقين به بأقوالهم وأفعالهم حيث كانوا يقولون في تلبيتهم: «لبيك لا شريك لك، إِلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك» يعنون الأصنام، وكانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت، وكانوا يطوفون عراة كلما طافوا طوقة سجدوا للأصنام والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة مساجد الله، مع الكفر بالله وبعبادته {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي بطلت أعمالهم بما قارنها من الشرك {وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ} أي ماكثون في نار حهنم أبداً {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} أي إِنما تستقيم عمارة المساجد وتليق بالمؤمن من المصدق بوحدانية الله، الموقن بالآخرة {وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة} أي أقام الصلاة المكتوبة بحدودها، وأدى الزكاة المفروضة بشروطها {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} أي خاف الله ولم يرهب أحداً سواه {فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} أي فعسى أن يكونوا في زمرة المهتدين يوم القيامة قال ابن عباس: كل عسى في القرآن واجبة قال الله لنبيه
{عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإسراء: 79] يقول: إِن ربك سيبعثك مقاماً محموداً وهي الشفاعة قال أبو حيّان: وعسى من الله تعالى واجبة حيثما وقعت في القرآن، وفي التعبير بعسى قطع لأطماع المشركين أن يكونوا مهتدين، إِذ من جميع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من لا ترجى له الهداية، فكيف بمن هو عارٍ منها؟ وفيه ترجيح الخشية على الرجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله} الخطاب للمشركين، والاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى: أجعلتم يا معشر المشركين سقاية الحجيج وسدانة البيت، كإِيمان من آمن بالله وجاهد في سبيله؟ وهو رد على العباس حين قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة، فلقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج فنزلت قال الطبري: هذا توبيخ من الله تعالى لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت الحرام، فأعلمهم أن الفخر في الإِيمان بالله، واليوم الآخر، والجهاد في سبيله {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} أي لا يتساوى المشركون بالمؤمنين، ولا أعمال أولئك بأعمال هؤلاء ومنازلهم {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} هذا كالتعليل أي لا يوفق الظالمين إِلى معرفة الحق، قال في البحر: ومعنى الآية إِنكار أن يُشبه المشركون بالمؤمنين، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، ولما نفى المساواة بينهم أوضحها بأن الكافرين بالله هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بعدم الإِيمان، وظلموا المسجد الحرام إِذ جعلوه متعبداً لأوثانهم، وأثبت للمؤمنين الهداية في الآية السابقة، ونفاها عن المشركين هنا فقال {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} ثم قال تعالى {الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ(1/488)
وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} هذا زيادة توضيح وبيان لأهل الجهاد والإِيمان والمعنى: إِن الين طهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإِيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة من الأوطان، وبذلوا أنفسهم وأموالهم للجهاد في سبيل الرحمن، هؤلاء المتصفون بالأوصاف الجليلة أعظم أجراً، وأرفع ذكراً من سقاة الحاج، وعمار المسجد الحرام وهم بالله مشركون {وأولئك هُمُ الفائزون} أي أولئك هم المختصون بالفوز العظيم في جنات النعيم {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} أي يبشرهم المولى برحمة عظيمة، ورضوان كبير من ربِّ عظيم {وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} أي وجنات عالية، قطوفها دانية، لهم في تلك الجنات نعيم دائم لا زوال له {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي ماكثين في الجنان إِلى ما لا نهاية {إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي ثوابهم عند الله عظيم، تعجز العقول عن وصفه قال أبو حيان: لما وصف المؤمنين بثلاث صفات: الإِيمان، والهجرة، والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة: الرحمة، الرضوان، والجنان، فبدأ بالرحمة لأنها أعم النعم في مقابلة الإِيمان، وثنَّى بالرضوان الذي هو نهاية الإِحسان في مقابلة الجهاد، وثلَّث بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان وقال الألوسي: ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيمٌ مقيم جاء في غاية اللطافة، لأن الهجرة فيها السفر، الذي هو قطعة من العذاب.
البَلاَغَة: 1 - {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} التنوين للتفخيم والتقييد بأنها من الله ورسوله لزيادة التفخيم والتهويل.
2 - {وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هذا يسمى «الأسلوب التهكمي» لأن البشارة بالعذاب تهكم به.
3 - {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} شبّه مضي الأشهر وانقضاءها بالإِنسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده فهو من باب الاستعارة.
4 - {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ذكر الاسم الجليل مكان الضمير لتربية المهابة وإِدخال الروعة في القلب.
5 - {وأولئك هُمُ الفائزون} الجملة مفيدة للحصر أي هم الفائزون لا غيرهم.
6 - {وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة} في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر تفخيم لشأنهما وحث على التنبه لهما.
7 - {بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} تنكير الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم أي برحمة لا يبلغها وصف واصف.
فَائِدَة: عمارة المساجد نوعان: حسية، ومعنوية، فالحسية بالتشييد والبناء، والمعنوية بالصلاة وذكر الله، وقد ربط الباري جل وعلا بين العمارة والإِيمان وفي الحديث «إِذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإِيمان لأن الله تعالى يقول {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم(1/489)
الآخر} فالعلمارة الحقيقة بالصلاة وذكر الله.
لطيفَة: ذكر القرطبي أن أعرابياً قدم المدينة المنورة فقال: من يقرئني مما أُنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فأقرأه رجل سورة براءة حتى أتى الآية الكريمة {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} فقرأها عليه بالجرِّ {وَرَسُولُهُ} فقال الأعرابي: وأنا أيضاً أبرأ من رسوله، فاستعظم الناس الأمر وبلغ ذلك عمر فدعاه فقال يا أعرابي: أتبرأ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال يا أمير المؤمنين: قدمت المدينة فأقرأني رجل سورة براءة فقلت إِن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه، فقال: ما هكذا الآية يا أعرابي؟ قال فكيف يا أمير المؤمنين! فقرأها عليه بالضم {وَرَسُولُهُ} فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه، فأمر عمر ألا يقرئ الناس إِلا عالم بلغة العرب.(1/490)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قبائح المشركين، وأثنى على المهاجرين المؤمنين الذين هجروا الديار والأوطان حباً في الله ورسوله، حذر هنا من ولاية الكافرين وذكر أن الانقطاع عن الآباء والأقارب واجب بسبب الكفر، ثم استطرد إِلى تذكير المؤمنين بنصرهم في مواطن كثيرة ليعتزوا بدينهم، ثم عاد إِلى الحديث عن قبائح أهل الكتاب للتحذير من موالاتهم، وأنهم كالمشركين يسعون لإِطفاء نور الله.
اللغَة: {أَوْلِيَآءَ} جمع ولي: وهو الناصر والمعين الذي يتولى شئون الغير وينصره ويقويه {وَعَشِيرَتُكُمْ} العشيرة: الجماعة التي يعتز ويحتمي بها الإِنسان قال الواحدي: عشيرة الرجل أهله الأدنون وهو من العِشرة أي الصحبة لأنها من شأن القربى {كَسَادَهَا} كسد الشيء كساداً وكسوداً إِذا بار ولم يكن له تفاق {عَيْلَةً} فقراً يقال: عال الرجل يعيل إذا افتقر قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل
{الجزية} ما أخذ من أهل الذمة سميت جزية لأنهم أعطوها جزءا ما مُنحوا من الأمن {يُضَاهِئُونَ} يشابهون والمضاهاة المماثلة والمحاكاة {يُؤْفَكُونَ} يصرفون عن الحق والإِفك الصرف يقال: أُفك الرجل أي قلب وصرُف.
سَبَبُ النّزول: قال الكلبي: لما أُمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالهجرة إلى المدينة، جعل الرجل يقول لأبيه وأخيه وامرأته: لقد أمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إِلى ذلك ويعجبه، ومنهم من تتعلق به زوجته وولده فيقولون: نشدناك الله إن تدعنا من غير شيء فنضيع، فيرق فيجلس معهم ويدع الهجرة فنزلت الآية تعاتبهم {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ ... } الآية.
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ} النداء بلفظ الإِيمان للتكريم ولتحريك الهمة للمسارعة إِلى امتثال أوامر الله قال ابن مسعود: «إذا سمعت الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا فأَرْعٍها سمعك، فإِنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه» والمعنى: لا تتخذوا آباءكم وإِخوانكم الكافرين أنصاراً وأعواناً تودونهم وتحبونهم {إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} أي إِن فضلوا الكفر واختاروه على الإِيمان وأصروا عليه إِصراراً {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم، لأن من رضي بالشرك فهو مشرك {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} أي إِن كان هؤلاء الأقارب من الآباء، والأبناء، والإِخوان، والزوجات ومن سواهم {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي جماعتكم التي تستنصرون بهم {وَأَمْوَالٌ اقترفتموها} أي وأموالكم التي اكتسبتموها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} أي تخافون عدم نفاقها {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ} أي منازل تعجبكم الإِقامة فيها {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} هذا هو جواب كان أي إِن كانت هذه الأشياء المذكورة أحب إِليكم من الهجرة إِلى الله ورسوله {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} أي وأحب إِليكم من الجهاد(1/491)
لنصرة دين الله {فَتَرَبَّصُواْ} أي انتظروا وهو وعيد شديد وتهديد {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} أي بعقوبته العاجلة أو الآجلة {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} أي لا يهدي الخارجين عن طاعته إِلى طريق السعادة، وهذا وعيد لمن آثر أهله، أو ماله، أو وطنه، على الهجرة والجهاد، ثم ذكرهم تعالى بالنصر على الأعداء في مواطن اللقاء فقال {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} أي نصركم في مشاهد كثيرة، وحروب عديدة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} أي ونصركم أيضاً يوم حنين بعد الهزيمة التي منيتم بها بسبب اغتراركم بالكثرة {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} أي حين أعجبكم كثرة عددكم فقلتم: لن نغلب اليوم من قلة، وكنتم اثني عشر ألفاً وأعداؤكم أربعة آلاف، فلم تنفعكم الكثرة ولم تدفع عنكم شيئاً {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} أي وضاقت الأرض على رحبها وكثرة اتساعها بكم من شدة الخوف {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} أي وليتم على أدباركم منهزمين قال الطبري: يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس بكثرة العدد، وأنه ينصر القليل على الكثير إِذا شاء، ويخلي القليل فيهزم الكثير، قيل للبراء بن عازب: أفررتم عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم حنين؟ فقال البراء: أشهد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يفر: ولقد رأيته على بغلته البيضاء - وأبو سفيان آخذ بلجامها يقودها - فلما غشية المشركون نزل فجعل يقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
ثم أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين وقال: شاهت الوجوه ففروا، فما بقي أحد إِلا ويمسح القذى عن عينيه، وقال البراء: «كنا والله إِذا حميَ البأس نتقي برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإِن الشجاع منا الذي يحاذيه» {ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} أي أنزل بعد الهزيمة الأمن والطمأنينة على المؤمنين حتى سكنت نفوسهم قال أبو السعود: أي أنزل رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن إليها {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} قال ابن عباس: يعني الملائكة {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} أي بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري {وذلك جَزَآءُ الكافرين} أي وذلك عقوبة الكافرين بالله. {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ} أي يتوب على من يشاء فيوفقه للإِسلام، وهو إِشارة إِلى إِسلام هوازن {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة {ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} أي قذر لخبث باطنهم قال ابن عباس: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وقال الحسن: من صافح مشركاً فليتوضأ، والجمهور على أن هذا على التشبيه أي هم بمنزلة النجس أو كالنجس لخبث اعتقادهم وكفرهم بالله جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في الوصف على حد قولهم: عليٌّ أسدٌ أي كالأسد {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} أي فلا يدخلوا الحرم، أطلق المسجد الحرام وقصد به الحرم كله قال أبو السعود: وقيل: المراد المنع عن الحج والعمرة أي لا يجحدوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة ويؤيده حديث
«وألاّ يحج(1/492)
بعد هذا العام مشرك» وهو العام الذي نزلت فيه سورة براءة ونادى بها عليٌّ في المواسم {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} أي وإِن خفتم أيها المؤمنون فقراً بسبب منعهم من دخول الحرم أو من الحج فإِن الله سبحانه يغنيكم عنهم بطريق آخر من فضله وعطائه قال المفسرون: لما مُنع المسلمون من تمكين المشركين من دخول الحرم، وكان المشركون يجلبون الأطعمة والتجارات إليهم في المواسم، ألقى الشيطان في قلوبهم الحزن فقال لهم: من أين تأكلون؟ وكيف تعيشون وقد منعت عنكم الأرزاق والمكاسب؟ فأمنهم الله من الفقر والعيلة، ورزقهم الغنائم والجزية {إِن شَآءَ} أي يغنيكم بإِرادته ومشيئته {إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال ابن عباس: عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم في المشركين. . ولما ذكر حكم المشركين ذكر حكم أهل الكتاب فقال {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} أي قاتلوا الذين لا يؤمنون إِيماناً صحيحاً بالله واليوم الآخر وإِن زعموا الإِيمان، فإِن اليهود يقولون عزير ابن الله، والنصارى يعتقدون بألوهية المسيح ويقولون بالتثليث {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} أي لا يحرمون ما حرم الله في كتابه، ولا رسوله في سنته، بل يأخذون بما شرعه لهم الأحبار والرهبان ولهذا يستحلون الخمر والخنزير وما شابههما {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} أي لا يعتقدون بدين الإِسلام الذي هو دين الحق {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} هذا بيان للمذكورين أي من هؤلاء المنحرفين من اليهود والنصارى الذين نزلت عليهم التوراة والإِنجيل {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} أي حتى يدفعوا إِليكم الجزية منقادين مستسلمين {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي أذلاء حقيرون مقهورون بسلطان الإِسلام، ثم ذكر تعالى طرفاً من قبائحهم فقال {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} أي نسب اللعناء إلى الله الولد، وهو واحد أحد فرد صمد قال البيضاوي: وإِنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد بختنصر من يحفظ التوراة، فلما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظاً فتعجبوا من ذلك وقالوا: ما هذا إِلا لأنه ابن الله {وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} أي وزعم النصارى - أعداء الله - أن المسيح ابن الله قالوا: لأن عيسى ولد بدون أب، ولا يمكن أن يكون ولد بدون أب، فلا بد أن يكون ابن الله، قال تعالى رداً عليهم {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} أي ذلك القول الشنيع هو مجرد دعوى باللسان من غير دليل ولا برهان قال في التسهيل: يتضمن معنيين: أحدهما إِلزامهم هذه المقالة والتأكيد في ذلك، والثاني أنهم لا حجة لهم في ذلك، وإِنما هو مجرد دعوى كقولك لمن تكذبه: هذا قولك بلسانك {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} أي يشابهون بهذا القول الشنيع قول المشركين قبلهم: الملائكة بنات الله
{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] {قَاتَلَهُمُ الله أنى يُؤْفَكُونَ} دعاء عليهم بالهلاك أي أهلكهم الله كيف يُصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولداً {قال الرازي: الصيغة للتعجب وهو راجع إِلى الخلق على عادة العرب في مخاطباتهم، والله تعالى عجَّب نبيه من تركهم الحق وإِصرارهم على الباطل {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} أي أطاع اليهود أحبارهم والنصارى رهبانهم في التحليل والتحريم(1/493)
وتركوا أمر الله فكأنهم عبدوهم من دون الله والمعنى: أطاعوهم كما يطاع الرب وإِن كانوا لم يعبدوهم وهو التفسير المأثور عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال عدي ابن حاتم: «أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي إِطرح عنك هذا الوثن، قال وسمعته يقرأ سورة براءة {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} فقلت يا رسول الله: لم يكونوا يعبدونهم فقال عليه السلام: أليس يُحرمون ما أحل الله تعالى فيحرمونه، ويحلون ما حرم الله فيستحلون؟} فقلت: بلى، قال: فذلك عبادتهم» {والمسيح ابن مَرْيَمَ} أي اتخذه النصارى رباً معبوداً {وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً} أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا على لسان الأنبياء إِلا بعبادة إِله واحد هو الله رب العالمين {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} لا معبود بحق سواه {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه الله عما يقول المشركون وتعالى علواً كبيراً {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} أي يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب أن يطفئوا نور الإِسلام وشرع محمد عليه السلام بأفواههم الحقيرة، بمجرد جدالهم وافترائهم، وهو النور الذي جعله الله لخلقه ضياءً، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه بفمه ولا سبيل إِلى ذلك {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} أي ويأبى الله إِلا أن يعليه ويرفع شأنه {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} أي ولو كره الكافرون ذلك {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق} أي أرسل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالهداية التامة والدين الكامل وهو الإِسلام {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} أي ليعليه على سائل الأديان {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} جوابه محذوف أي ولو كره المشركون ظهوره.
البَلاَغَة: 1 - {فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} صيغته أمر وحقيقته وعيد كقوله {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] .
2 - {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} من باب عطف الخاص على العام للتنويه بشأنه حيث جاء النصر بعد اليأس، والفرج بعد الشدة.
3 - {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} شبه ما حل بهم من الكرب والهزيمة والضيق النفسي بضيق الأرض على سعتها على سبيل الاستعارة.
4 - {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} الصيغة لإِفادة الحصر واللفظ فيه تشبيه بليغ أي كالنجس في خبث الباطن وخبث الاعتقاد حذفت منه أداة الشبه ووجه الشبه فأصبح بليغاً ومثله {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} أي كالأرباب في طاعتهم وامتثال أوامرهم في التحريم والتحليل.
5 - {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد} عبَّر عن الدخول بالقرب للمبالغة.
6 - {يُطْفِئُواْ نُورَ الله} أراد به نور الإِسلام فإِن الإِسلام بنوره المضيء وحججه القاطعة يشبه الشمس الساطعة في نورها وضيائها فهو من باب الاستعارة. وهي من لطائف الاستعارات.
لطيفَة: قال العلامة القرطبي دل قوله تعالى {لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآء} على أن(1/494)
القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان، وقد أنشدوا في ذلك أبياتاً:
يقولون لي دار الأحبة قد دنت ... وأنت كئيبٌ إِن ذا لعجيب
فقلت: وما تغني ديارٌ قريبة ... إِذا لم يكن بين القلوب قريب(1/495)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
المنَاسَبَة: لما وصف تعالى رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية، وصفهم هنا بالطمع والجشع والحرص على أكل أموال الناس، تحقيراً لشأنهم وتسفيهاً لأحلامهم، لأنهم اتخذوا الدين مطية لنيل الدنيا، وذلك نهاية الذل والدناءة، ثم ذكر تعالى قبائحهم وقبائح المشركين، ثم دعا إِلى النفير العام وذكر موقف المنافقين المثبطين عن الجهاد في سبيل الله.
اللغَة: {الأحبار} علماء اليهود {الرهبان} علماء النصارى قال ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إِلا الملوك ... وأحبار سوءٍ ورهبانها
{يَكْنِزُونَ} أصل الكنز في اللغة: الجمع والضم ومنه حديث «ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة» أي يضمه لنفسه ويجمعه، ثم غلب استعماله على المدفون من الذهب والفضة قال الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه إِلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها {تكوى} الكي: إِلصاق المحمي من الحديد وشبهه بالعضو حتى يتمزق الجلد وفي الأمثال «آخر الدواء لكي» {النسياء} التأخير يقال: نسأه وأنسأه إِذا أخره ومنه حديث «وينسأ له في أثره» أي يؤخر له في أجله قال الزمخشري: النسيء: تأخير حرمة الشهر إِلى شهر آخر {لِّيُوَاطِئُواْ} ليوافقوا والمواطأة: الموافقة يقال: تواطأ القوم: إِذا اتفقوا على أمر خفية {انفروا} النفر: الخروج بسرعة ومنه {وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [الإسراء: 46] {اثاقلتم} أصله تثاقلتم بمعنى تباطأتم ولم تسرعوا {عَرَضاً} العرض: ما يعرض للانسان من منافع الدنيا سمي عرضاً لأنه لا يدوم وفي الحديث «الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر» {- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َmp;
;لشُّقَّةُ} المسافة البعيدة التي لا تقطع إِلا بمشقة قال الجوهري: الشقة السفر البعيد، وكأنه مأخذو من المشقة يقال: شقة شاقة.
سَبَبُ النّزول: لما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الطائف وغزوة حنين، أمر الناس بالجهاد، لغزو اليوم، وذلك في زمن عسرة من البأس، وجدبٍ من البلاد، وشدةٍ من الحر، حين أثمرت النخل، وطابت الثمار، فعظم على الناس غزو الروم، وأحبوا الظلال والمقام في المساكن والمال، وشق عليهم الخروج إِلى القتال فأنزل الله {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض ... } الآية.
التفسِير: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان} أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إِن كثيراً من علماء اليهود «الأحبار» وعلماء النصارى «الرهبان» {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي ليأخذون أموال الناس بالحرام، ويمنعونهم عن الدخول في دين الإِسلام قال ابن كثير: والمقصود التحذير من علماء السوء، وعباد الضلال قال ابن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان في شبه من النصارى {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} أي يجمعون الأموال ويدخرون الثروات {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} أي لا يؤدون زكاتها ولا يبذلون منها في وجوه الخير قال ابن عمر: الكنز ما لم تُؤد زكاته، وما أديت(1/496)
زكاته فليس بكنز {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أسلوب تهكم أي أخبرهم بالعذاب الأليم في دار الجحيم قال الزمخشري: وإِنما قرن بين الكانزين وبين اليهود والنصارى تغليظاً عليهم ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي من المسملين من طيب ماله، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي يوم يحمى عليها بالنار المستعرة حتى تصبح حامية كاوية {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} أي تحرق بها الجباه والجنوب والظهور بالكي عليها قال ابن مسعود: والذي لا إِله غيره لا يكون عبد بكنزٍ فيمن دينار ديناراً، ولا درهم درهماً، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته، وخصت هذه الأماكن بالكي لأن البخيل يرى الفقير قادماً فيقطب جبهته، فإِذا جاء أعرض بجانبه، فإذا طالبه بإِحسان ولاه ظهره، قال القرطبي: الكي في الوجه أشهر وأشنع، وفي الظهر والجنب آلم وأوجع، فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي يقال لهم تبكيتاً وتقريعاً: هذا ما كنزتموه لأنفسكم فذوقوا وبال ما كنتم تكنزونه وفي صحيح مسلم
«ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إِلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكون بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، ثم يرى سبيله إِما إِلى الجنة وإِما إلى النار» {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} أي إِن عدد الشهور المعتد بها عند الله في شرعه وحكمه هي اثنا عشر شهراً على منازل القمر، فالمعتبر به الشهور القمرية إِذا عليها يدور فلك الأحكام الشرعية {فِي كِتَابِ الله} أي في اللوح المحفوظ {يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض} قال ابن عباس: كتبه يوم خلق السماوات والأرض في الكتاب الإِمام الذي عند الله {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} أي منها أربعة شهور محرمة هي: «ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب» وسميت حرماً لأنها معظمة محترمة تتضاعف فيها الطاعات ويحرم القتال فيها {ذلك الدين القيم} أي ذلك الشرع المستقيم {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي لا تظلموا في هذه الأشهر المحرمة أنفسكم بهتك حرمتهن وراتكاب ما حرم الله من المعاصي والآثام {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} أي قاتلوهم جميعاً مجتمعين غير متفرقين كما يقاتلوكم المشركون جميعاً {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي معهم بالنصرة والتأييد، وهو بشارة وضمان لأهل التقوى {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} أي إِنما تأخير حرمة شهر لشهر آخر زيادة في الكفر لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حمره فهو كفر آخر مضموم إِلى كفرهم قال المفسرون: كان العرب أهل حروب وغارات، وكان القتال محرماً عليهم في الأشهر الحرم، فإِذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، كأنهم يستقرضون حرمة شهر لشهر غيره، فربما أحلوا المحرم وحرموا صفر حتى يكمل في العام أربعة أشهر محرمة {يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ} أي يضل بسببه الكافرين ضلالاً على ضلالهم {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} أي يحلون المحرم عاماً والشهر الحلال عاماً فيجمعون هذا مكان هذا والعكس {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أي(1/497)
ليوافقوا عدة الأشهر الحرم الأربعة {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} أي فيستحلوا بذلك ما حرمه الله قال مجاهد: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إِلى الموسم على حمار له، فيقول أيها الناس: إِني لا أعاب ولا أجاب، ولا مرد لما أقول، إِنا قد حرمنا المحرم، وأخرنا صفر، ثم يجيء العام المقبل ويقول: إِنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فذلك قوله تعالى {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} {زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ} أي زين الشيطان لهم أعمالهم القبيحة حتى حسبوها حسنة {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي لا يرشدهم إِلى طريق السعادة {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض} استفهام للتقريع والتوبيخ، وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك والمعنى: ما لكم أيها المؤمنون إِذا قيل لكم اخرجوا لجهاد أعداء الله تباطأتم وتثاقلتم، وملتم إِلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعه؟! {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} أي أرضيتم بنعيم الدنيا ومتاعها الفاني بدل نعيم الآخرة وثوابها الباقي؟ {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ} أي فما التمتع بلذائذ الدنيا في جنب الآخرة إِلا شيء مستحقر قليل لا قيمة له، ثم توعَّدهم على ترك الجهاد فقال {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي إِن لا تخرجوا إِلى الجهاد مع رسول الله يعذبكم الله عذاباً أليماً موجعاً، باستيلاء العدو عليكم في الدنيا، وبالنار المحرقة في الآخرة وقال ابن عباس: هو حبس المطر عنهم {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي يهلككم ويستبدل قوماً آخرين خياً منكم، يكونون أسرع استجابة لرسوله وأطوع {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً} ولا تضروا الله شيئاً بتثاقلكم عن الجهاد فإِنه سبحانه غني عن العالمين {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر على كل ما يشاء ومنه الانتصار على الأعداء بدونكم قال الرازي: وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إِنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز، فإِذا توعد بالعقاب فعل {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} أي إِن لا تنصروا رسوله فإِن الله ناصره وحافظه وجواب الشرط محذوف تقديره: فسينصره الله دل عليه قوله {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} والمعنى: إن لم تنصروه أنتم فسينصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين، حيث لم يكن معه أنصار ولا أعوان {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} أي حين خروجه من مكة مهاجراً إِلى المدينة، وأسند إِخراجه إِلى الكفار لأنهم ألجئوه إِلى الخروج وتآمروا على قتله حتى اضطروا إِلى الهجرة {ثَانِيَ اثنين} أي أحد اثنين لا ثالث لهما هو أبو بكر الصديق {إِذْ هُمَا فِي الغار} أي حين كان هو والصديق مختبئين في النقب في جبل ثور {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} أي حين يقول لصاحبه وهو أبو بكر الصديق تطميناً وتطييباً: لا تخف فالله معنا بالمعونة والنصر، روى الطبري عن أنس أن أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال
«بينا أنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الغار، وأقدام المشركين فوق رءوسنا فقلت يا رسول الله: لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا فقال أبو بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنهاه الرسول تسكيناً لقلبه {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي أنزل الله السكون والطمأنينة على رسوله {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} أي(1/498)
قواه بجنوده من عنده من الملائكة يحرسونه في الغار لم تروها أنتم {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} أي جعل كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة، أذل بها الشرك والمشركين {وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} أي وكلمة التوحيد «لا إِله إِلا الله» هي الغالبة الظاهرة، أعزَّ الله بها المسلمين، وأذل الشرك والمشركين {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي قاهر غالب لا يُغلب، لا يفعل إِلا ما فيه الحكمة والمصلحة {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} أي اخرجوا للقتال يا معشر المؤمنين شيئاً وشباناً، وركباناً، في جميع الظروف والأحوال، في اليسر والعسر، والمنشط والمكره {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله} أي جاهدوا بالاموال والأنفس لإِعلاء كلمة الله {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي هذا النفير والجهاد خير من التثاقل إِلى الأرض والخلود إِليها والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا إِن كنتم تعلمون ذلك قال في البحر: والخيرية في الدنيا بغلبة العدو ووراثة الأرض، وفي الآخرة بالثواب العظيم ورضوان الله، ثم ذكر تعالى أحوال المخلفين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وموقف المثبطين المنافقين منهم فقال {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} أي لو كان ما دعوا إِليه غُنماً قريباص سهل المنال {وَسَفَراً قَاصِداً} أي وسفراً وسطاً ليس ببعيد {لاَّتَّبَعُوكَ} أي لخرجوا معك لا لوجه الله بل طمعاً في الغنيمة {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} أي ولكن بعدت عليهم الطريق والمسافة الشاقة ولذلك اعتذروا عن الخروج لما في قلوبهم من النفاق {وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أي وسيحلفون لكم معتذرين بأعذار كاذبة لو قدرنا على الخروج معكم لما تأخرنا، ولو كان لنا سعة في المال أو قوة في الأبدان لخرجنا للجهاد معكم، قال تعالى رداً عليهم وتكذيباً لهم {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي يوقعون أنفسهم في الهلاك بأيمانهم الكاذبة {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي لكاذبون في دعواهم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} تلطف في عتاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قدم العفو على العتاب إِكراماً له عليه السلام والمعنى سامحك الله يا محمد لم أذنت لهؤلاء المنافقين في التخلف عن الخرنوج معك بمجرد الاعتذار!! {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} أي وهلا تركتهم حتى يظهر لك الصادق منهم في عذره من الكاذب المنافق قال مجاهد: نزلت في المنافقين قال أناس منهم استأذنوا رسول الله، فإِن أذن لكم فاقعدوا، وإِن لم يأذن لكم فاقعدوا، فقد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإِن لم يأذن لهم، ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه أهل الإِيمان فقال {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} أي لا يستأذنك يا(1/499)
محمد عن الجهاد والغزو من يؤمن بالله واليوم الآخر {أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} أي كراهية الجهاد بالمال والنفس لأنهم يعلمون ما أعده الله للمجاهدين الأبرار من الأجر الجزيل فكيف يتخلفون عنه؟ {والله عَلِيمٌ بالمتقين} أي عليم بهم لأنهم مخلصون في الإِيمان متقون للرحمن {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} أي إِنما يستأذنك يا محمد المنافقون الذين لم يثبت الإِيمان في قلوبهم {وارتابت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي شكَّت قلوبهم في الله وثوابه فهم يترددون حيارى لا يدرون ما يصنعون.
البَلاَغَة: 1 - {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} بين يحلون ويحرمون طباق وهو من المحسنات البديعية.
2 - {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ} استفهام يقصد به الإِنكار والتوبيخ.
3 - {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} فيه إِيجاز بالحذف أي أرضيتم بنعيم الدنيا ولذائذها بدل نعيم الآخرة.
4 - {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا} أظهر في مقام الإِضمار لزيادة التقرير والمبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها بالنسبة للآخرة.
5 - {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً} بينهما جناس الاشتقاق.
6 - {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} «كلمة الذين كفروا» استعارة عن الشرك كما أن «كلمة الله» استعارة عن الإِيمان والتوحيد.
7 - {خِفَافاً وَثِقَالاً} بينهما طباق.
8 - {بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} استعار الشقة للمسافة الطويلة البعيدة التي توجب المشقة للمسافة الطويلة البعيدة التي توجب المشقة على النفس.
9 - {عَفَا الله عَنكَ} خبر يقصد تقديم المسرة على المضرة وقد أحسن من قال: إِن من لطف الله بنبيه أن بدأه بالعفو قبل العتب.
فَائِدَة: روي أن أعرابياً قال لابن عمر: أخبرني عن قول الله تعالى {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} فقال ابن عمر: من كنزها فلم يؤدّ زكاتها فويل له، إِنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله ظهرةً للأموال، وما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أزكيه، وأعمل فيه بطاعة الله تعالى!!
تنبيه: دلت الآية {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ} على عظيم فضل الصديق وجليل قدره، إِذ جعله الله صاحب الرسول في الغار، ورفيقه في الهجرة، ولهذا قال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لأنه رد كتاب الله تعالى.(1/500)
لطيفَة: عن حيان بن زيد قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، فرأيت شيخاً كبيراً هرماً، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت عليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إِليك قال: فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي: استنفرنا الله خفاقاً وثقالاً، ألا إِنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه، وإِنما يبتلي الله من بعاده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إِلا الله عَزَّ وَجَلَّ.
أقول: رحم الله تلك الأنفس الزكية التي باعت أرواحها مي مرضاة الله تعالى.(1/501)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى المنافقين وتاطؤهم عن الخروج للجهاد، ذكر هنا بعض أعمالهم(1/501)
القبيحة من الكيد، والمكر، وإِثارة الفتن بين المسلمين، والفرح بأذاهم، وذكر تعالى أنهم لو خرجوا مع المؤمنين ما زادوا الجيش إِلا ضعفاً واندحاراً بتفريق الجماعة وتشتيت الكلمة، وذكر كثيراً من مثالبهم وجرائمهم الشنيعة.
اللغَة: {انبعاثهم} الانبعاث: الانطلاق في الأمر {فَثَبَّطَهُمْ} التثبيط: رد الإِنسان عن الفعل الذي همَّ به {خَبَالاً} الخبال: الشر والفساد في كل شيء ومنه المخبول للمعتوه الذي فسد عقله {ولأَوْضَعُواْ} الإِيضاع: سرعة السير قال الراجز:
يا ليتني فيها جذع ... أخبُّ فيها وأضع
يقال: وضع البعير إِذا أسرع السير، وأوضع الرجل إِذا سار بنفسه سيراً حثيثاً {يَجْمَحُونَ} جمح: نفر بإِسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام {يَلْمِزُكَ} اللمز: العيب يقال: لمزه إِذا غابه قال الجوهري: وأصله الإِشارة بالعين ونحوها ورجل لّماز أي عيَّاب {الغارمين} الغارم: المديون قال الزجاج: أصل الغرم لزوم ما يشق، والغرام العذاب اللازم الشاق وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً ولازماً، وسمي الدين غراماً لكونه شاقاً على الإِنسان.
سَبَبُ النّزول: «لما أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخروج إِلى تبوك قال» للجد بن قيس «- وكان منافقاً - يا أبا وهب: هل لك في جلاد بني الأصفر - يعني الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء؟ فقال يا رسول الله: لقد عرف قومي أني مغرم بالنساء، وإِني أخشى إِن رأيت بني الأصفر ألا أصبر عنهن فلا تفتني وأذَنْ لي في القعود وأعينك بمالي، فأعرض عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: قد أذنت لك فأنزل الله {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} » الآية.
التفسِير: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} أي ولو أراد هؤلاء المنافقون الخروج معك للجهاد أو كانت لهم نية في الغزو لاستعدوا له بالسلاح والزاد، فتركهم الاستعداد دليل على إِرادتهم التخلف {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} أي ولكن كره الله خروجهم معك {فَثَبَّطَهُمْ} أي كسر عزمهم وجعل في قلوبهم الكسل {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} أي اجلسوا مع المخلفين من النساء والصبيان وأهل الأعذار، وهو ذم لهم لإِيثارهم القعود على الخروج للجهاد، والآية تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على عدم خروج المنافقين معه إِذ لا فائدة فيه ولا مصلحة بل فيه الاذى والمضرة ولهذا قال {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} أي لو خرجوا معكم ما زادوكم إِلا شراً وفساداً {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} أي أسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} أي يطلبون لكم الفتنة بإِلقاء العداوة بينكم {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي وفيكم ضعفاء قلوب يصغون إِلى قولهم ويطيعونهم {والله عَلِيمٌ بالظالمين} أي عالم بالمنافقين علماً محيطاً بضمائرهم وظواهرهم {لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ} أي طلبوا لك الشر(1/502)
بتشتيت شملك وتفريق صحبك عنك من قبل غزوة تبوك كما فعل ابن سلول حين انصرف بأصحابه يوم يوم أحد {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} أي دبروا لك المكايد والحيل وأداروا الآراء في إِبطال دينك {حتى جَآءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله} أي حتى جاء نصر الله وظهر دينه وعلا على سائر الأديان {وَهُمْ كَارِهُونَ} أي والحال أنهم كارهون لذلك لنفاقهم {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} أي ومن هؤلاء المنافقين من يقول لك يا محمد ائذن لي في القعود ولا تفتني بسبب الأمر بالخروج قال ابن عباس: نزلت في «الجد ابن قيس» حين دعاه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى جلاد بني الأصفر، فقال يا رسول الله: ائذن لي في القعود عن الجهاد ولا تفتني بالنساء {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} أي ألا إِنهم قد سقطوا في عين الفتنة فيما أرادوا الفرار منه، بل فيما هو أعظم وهي فتنة التخلف عن الجهاد وظهور كفرهم ونفاقهم قال أبو السعود: وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة، المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} أي لا مفر لهم منها لأنها محيطة بهم من كل جانب إِحاطة السوار بالمعصم، وفيه وعيد شديد {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} أي إِن تصبك في بعض الغزوات حسنة، سواء كانت ظفراً أو غنيمة، يسؤهم ذلك {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} أي وإِن تصبك مصيبة من نكبة وشدة، أو هزيمة ومكروه يفرحوا به ويقولوا: قد احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحذر والتيقظ فلم نخرج للقتال من قبل أن يحل بنا البلاء {وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} أي وينصرفوا عن مجتمعهم وهم فرحون مسرورون {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي لن يصيبنا خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إِلا هو مقدر علينا مكتوب عند الله {هُوَ مَوْلاَنَا} أي ناصرنا وحافظنا {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي ليفوض المؤمنون أمورهم إِلى الله، ولا يعتمدوا على أحد سواه {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} أي قل لهم هل تنتظرون بنا يا معشر المنافقين إِلا إِحدى العاقبتين الحميدتين: إِما النصر، وإِما الشهادة، وكل واحدة منهما شيء حسن!! {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} أي ونحن ننتظر لكم أسوأ العاقبتين الوخيمتين: أن يهلككم الله بعذابٍ من عنده يستأصل به شأفتكم، أو يقتلكم بأيدينا {فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} أي انتظروا ما يحل بنا ونحن ننتظر ما يحل بكم، وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} أي قل لهم انفقوا يا معشر المنافقين طائعين أو مكرهين، فمهما أنفقتم الأموال فلن يتقبل الله منكم قال الطبري: وهو أمر معناه الخبر كقوله
{استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] والمعنى لن يُتقبل منكم سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} تعليل لرد إِنفاقهم أي لأنكم كنتم عتاة متمردين خارجين عن طاعة الله، ثم أكد هذا المعنى بقوله {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} أي وما منع من قبول النفقات منهم إِلا كفرهم بالله ورسوله {(1/503)
وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى} أي ولا يأتون إِلى الصلاة إِلا وهم متثاقلون {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} أي ولا ينفقون أموالهم إِلا بالإِكراه لأنهم يعدونها مغرماً قال في البحر: ذكر تعالى السبب المانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر واتبعه بما هو مستلزم له وهو إِتيانهم الصلاة كسالى، وإِيتاء النفقة وهم كارهون، لأنهم لا يرجون بذلك ثواباً ولا يخافون عقاباً، وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما: الصلاة، والنفقة، لأن الصلاة أشرف الأعمال البدنية، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} أي لا تستحسن أيها السامع ولا تفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا، وبما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد، فظاهرها نعمة وباطنها نقمة، إِنما يريد الله بذلك استدراجهم ليعذبهم بها في الدنيا قال البيضاوي: وعذابهم بها بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي ويموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع بزينة الدنيا عن النظر في العاقبة فيشتد في الآخرة عذابهم {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ} أي ويقسمون بالله لكم إِنهم لمؤمنون مثلكم، وما هم بمؤمنين لكفر قلوبهم {ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي ولكنهم يخافون منكم أن تقتلوهم كما تقتلون المشركين، فيظهرون الإِسلام تقية ويؤيدونه بالأَيمان الفاجرة {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} أي حصناً يلجأون إِليه {أَوْ مَغَارَاتٍ} أي سراديب يختفون فيها {أَوْ مُدَّخَلاً} أي مكاناً يدخلون فيه ولو ضيقاً {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي لأقبلوا إِليه يسرعون إِسراعاً كالفرس الجموح، والمراد من الآية تنبيه المؤمنين إلى أنَّ المنافقين لو قدروا على الهروب منهم ولو في شر الأمكنة وأخسها لفعلوا لشدة بغضهم لكم فلا تغتروا بأيمانهم الكاذبة أنهم معكم ومنكم {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} أي ومنهم من يعيبك يا محمد في قسمة الصدقات {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ} أي فإِن أعطيتهم من تلك الصدقات استحسنوا فعلك {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي وإِن لم تعطهم منها ما يرضيهم سخطوا عليك وعابوك قال المفسرون: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسم غنائم حنين فجاء إِليه رجل من المنافقين يقال له «ذو الخويصرة» فقال: اعدل يا محمد فإِنك لم تعدل فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«ويلك إِن لم أعدل فمن يعدل؟» ، الحديث {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ} أي ولو أن هؤلاء الذين عابوك يا محمد رضوا بما أعطيتهم من الصدقات وقنعوا بتلك القسمة وإِن قلَّت قال أبو السعود: وذكرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسول كان بأمره سبحانه {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} أي كفانا فضل الله وإِنعامه علينا {سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} أي سيرزقنا الله صدقة أو غنيمة أخرى خيراً وأكثر مما آتانا {إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ} أي إِنا إِلى طاعة الله وإِفضاله وإِحسانه لراغبون، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره لكان خيراً لهم قال الرازي: وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل وهو كقولك للرجل: لو جئتنا. . ثم لم تذكر الجواب أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً عظيماً، ثم ذكر تعالى مصرف الصدقات فقال {إِنَّمَا(1/504)
الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} قال الطبري: أي لا تنال الصدقات إِلا للفقراء والمساكين ومن سماهم الله جل ثناؤه والآية تقتضي حصر الصدقات وهي الزكاة في هذه الأصناف الثمانية فلا يجوز أن يعطى منها غيرهم، والفقير الذي له بُلْغة من العيش، والمسكين الذي لا شيء له قال يونس: سألت اعرابياً أفقير أنت؟ فقال: لا والله بل مسكين، وقيل: المسكين أحسن حالاً من الفقير، والمسألة خلافية {والعاملين عَلَيْهَا} أي الجباة الذين يجمعون الصدقات {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} هم قوم من أشراف العرب أعطاهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليتألف قلوبهم على الإِسلام، وروى الطبري عن صفوان بن أمية قال: لقد أعطاني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإِنه لأبغض الناس إِلي، فما زال يعطيني حتى إِنه لأحب الناس إِلي {وَفِي الرقاب} أي وفي فك الرقاب لتخليصهم من الرق {والغارمين} أي المديونين الذين أثقلهم الدين {وَفِي سَبِيلِ الله} أي المجاهدين والمرابطين وما تحتاج إِليه الحرب من السلاح والعتاد {وابن السبيل} أي الغريب الذي انقطع في سفره {فَرِيضَةً مِّنَ الله} أي فرضها الله جل وعلا وحددها {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بمصالح العباد، حكيم لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة قال في التسهيل: وإِنما حصر مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها فاتصلت هذه في المعنى بآية اللمز في الصدقات.
البَلاَغَة: 1 - {أَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} بينهما جناس الاشتقاق وكذلك في قوله {اقعدوا مَعَ القاعدين} .
2 - {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} قال الطيبي: فيه استعارة تبعية حيث شبه سرعة إِفسادهم ذات البين بالنميمة بسرعة سير الراكب ثم استعير لها الإِيضاع وهو للإِبل، والأصل ولأوضعوا ركائب نمائمهم.
3 - {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} فيه استعارة حيث شبه وقوعهم في جهنم بإِحاطة العدو بالجند أو السوار بالمعصم، وإيثار الجملة الإِسمية للدلالة على الثبات والاستمرار.
4 - {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ. .} الآية فيها من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.
5 - {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ} تقديم الجار والمجرور على الفعل لإِفادة القصر، وإِظهار الاسم الجليل مكان الاضمار لتربية الروعة والمهابة.
6 - {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} بينهما طباق وكذلك بين الرضا والسخط في قوله {رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} .
7 - {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} صيغة فعيل للمبالغة أي عظيم العلم والحكمة.
لطيفَة: قال الزمخشري في قوله تعالى {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} هذا ذم لهم وتعجيز(1/505)
وإِلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت على حد قول القائل:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإِنك أنت الطاعم الكاسي
تنبيه: قال ابن كثير: لما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة رمته العرب عن قوسٍ واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال ابن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه - يعني أقبل - فدخلوا في الإِسلام ظاهراً، ثم كلما أعز الله الإِسلام وأهله، أغاظهم ذلك وساءهم ولهذا قال تعالى {وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُونَ} .(1/506)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين توضيحاً لخطرهم، وتحذيراً للمؤمنين من مكائدهم، وفي هذه الآيات ذكر تعالى نوعاً آخر من قبائحهم، وهو إِيذاؤهم للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإِقدامهم على الإِيمان الكاذبة، واستهزاؤهم بآيات الله وشريعته المطهرة، إِلى غير ما هنالك من الأعمال المنكرة، والأفعال الخبيثة.
اللغَة: {أُذُنٌ} قال الجوهري: قال رجل أذن إِذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع وقال الزمخشري: الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع. قال الشاعر:
قد صرت أذناً للوشاة سميعة ... ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
{يُحَادِدِ} المحادة: المخالفة والمعاداة كالمشاقة وهي أن يكون كل واحد من المتخاصمين في حد وشق غير ما عليه صاحبه {بِخَلاقِهِمْ} الخلاق: النصيب كقوله {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة: 200] وقد تقدم {وَخُضْتُمْ} الخوض: الدخول في اللهو والباطل وهو مستعار من الخوض في الماء {حَبِطَتْ} بطلت وذهب ثوابها {والمؤتفكات} الائتفاك: الانقلاب ويراد بهم قوم لوط لأن أرضهم ائتكفت بهم أي انقلبت، وقيل هو مجاز عن انقلاب حالها من الخير إلى الشر كقول ابن الرومي:
وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة ... أعاليها بل أن تسود الأراذل
سَبَبُ النّزول: أ - كان جماعة من المنافقين يؤذون رسول الله ويقولون فيه ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا فإِنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا، فقال «الجلاس بن سويد» : نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإِنما محمد أذن سامعة فأنزل الله {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ ... } .
ب - قال مجاهد: كان المنافقون يعيبون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي سرنا فأنزل الله {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ... } الآية.
التفسِير: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} أي ومن المنافقين أناس يؤذون الرسول بأقوالهم وأفعالهم {وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي يصدّق بكل خبرٍ يسمعه {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} أي هو أذن خير لا أذن شر، يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشر إِذا سمعه {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي(1/507)
يصدِّق الله فيما يقول، ويصدِّق المؤمنين فيما يخبرونه به لعلمه بإِخلاصهم {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} أي وهو رحمة للمؤمنين لأنه كان سبب إِيمانهم {والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي والذين يعيبون الرسول ويقولون ما لا يليق بجنابه الشريف لهم عذاب موجع في الآخرة {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا شيئاً فيه انتقاص للرسول ليرضوكم بتلك الأيمان {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} أي والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإِرضاء، ولا يكون ذلك إِلا بالطاعة، والمتابعة، وتعظيم أمره عليه السلام {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} أي إِن كانوا حقاً مؤمنين فليرضوا الله ورسوله {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أنه من يعادي ويخالف الله والرسول، والاستفهام للتوبيخ {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا} أي فقد حق دخوله جهنم وخلوده فيها {ذلك الخزي العظيم} .
أي ذلك هو الذل العظيم، والشقاء الكبير، المقرون بالفضيحة حيث يفتضحون على رءوس الأشهاد {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} أي يخشى المنافقون أن تنزل فيهم سورة تكشف عما في قلوبهم من النفاق {قُلِ استهزءوا} أي استهزئوا بدين الله كما تشتهون وهو أمر للتهديد كقوله {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] {إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} أي مظهر ما تخفونه وتحذرون ظهوره من النفاق، قال الزمخشري: كانوا يستهزئون بالإِسلام ويحذرون أن يفضحهم الله بالوحي، حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إِلا شر خلق الله، ولوددت أني جلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عما قالوا من الباطل والكذب، في حقك وفي حق الإِسلام، ليقولون لك ما كنا جادين، وإِنما كنا نمزح ونلعب للترويح عن النفس قال الطبري: بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسير في غزوته إِلى تبوك وبين يديه ناس من المنافقين، فقالوا: انظروا إِلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات!! فأطلع الله نبيه فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله: إِنما كنا نخوض ونلعب فنزلت {قُلْ أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ} أي قل لهؤلاء المنافقين: أتستهزئون بدين الله وشرعه، وكتابه ورسوله؟ والاستفهام للتوبيخ، ثم كشف تعالى أمرهم وفضح حالهم فقال {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي لا تعتذروا بتلك الأيمان الكاذبة فإِنها لا تنفعكم بعد ظهور أمركم، فقد أظهرتم الكفر بإِيذاء الرسول بعد إظهاركم الإِيمان {إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ} أي إِن نعف عن فريقٍ منكم لتوبتهم وإِخلاصهم {نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} أي نعذب فريقاً آخر لأنهم أصروا على النفاق والإِجرام {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} أي المنافقون والمنافقات صنف واحد، وهم متشابهون في النفاق والبعد عن الإِيمان، كتشابه أجزاء الشيء الواحد قال في الكشاف: وأريد بقوله {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} نفي أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في قولهم {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} [التوبة: 56] ثم وصفهم بما يدل على مخالفة حالهم لحال المؤمنين فقال {يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ(1/508)
عَنِ المعروف} أي يأمرون بالكفر والمعاصي وينهون عن الإِيمان والطاعة {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي يمسكون أيديهم عن الانفاق في سبيل الله {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} أي اتركوا طاعته فتركهم من رحمته وفضله وجعلهم كالمنسيين {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي الكاملون في التمرد والعصيان، والخروج عن طاعة الرحمن، وكفى به زجراً لأهل النفاق {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ} أي وعد الله المنافقين والمتجاهرين بالكفر بإِصلائهم في نار جهنم {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبداً {هِيَ حَسْبُهُمْ} أي هي كفايتهم في العذاب، إِذ ليس هناك عذاب يعادلها {وَلَعَنَهُمُ الله} أي أبعدهم من رحمته وأهانهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي دائم لا ينقطع {كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ} أي حالكم يا معشر المنافقين كحال من سبقكم من المكذبين، وفيه التفات من الغيبة إِلى الخطاب {أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً} أي كانوا أقوى منكم أجساماً وأشد بطشاً {وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً} أي وكانوا أوفر أموالاً، وأكثر أولاداً، ومع ذلك أهلكهم الله فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ} أي تمتعوا بنصيبهم وحظهم من ملاذ الدنيا {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} أي استمتعتم بملاذ الدنيا وشهواتها كما استمتع أولئك الذين سبقوكم بنصيبهم منها {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} أي وخضتم في الباطل والضلال كما خاضوا هم فيه قال الطبري: المعنى سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بالدنيا كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم، وخضتم في الكذب والباطل على الله كخوض تلك الأمم قبلكم، فاحذروا أن يحل بكم من عقوبة الله مثل الذي حل بهم {أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة} أي أولئك الموصوفون بما ذكر من قبيح الفعال ذهبت أعمالهم باطلاً فلا ثواب لها إِلا النار {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} أي وأولئك هما الكاملون في الخسران {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر الأمم السابقين حين عصوا الرسل ماذا حلَّ بهم من العقوبة؟ {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أي قوم نوح الذين أهلكوا بالطوفان وقوم هود «عاد» الذين أهلكوا بالريح، وقوم صالح «ثمود» الذين أهلكوا بالصيحة {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} الذين أهلكوا بسلب النعمة {وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شعيب الذين أهلكوا بعذاب يوم الظلة {والمؤتفكات} قرى قوم لوط الذين انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} أي جاءتهم رسلهم بالمعجزات فكذبوهم {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} أي فما أهلكهم الله ظلماً إِنما أهلكهم بإِجرامهم {ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصي، أفأمن هؤلاء المنافقون أن يُسلك بهم في الانتقام سبيل أسلافهم المكذبين من أهل الإِجرام؟ ولما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة أعقبها بذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} أي هم إِخوة في الدين يتناصرون ويتعاضدون {يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} أي يأمرون الناس بكل خيرٍ وجميلٍ يرضي الله، وينهونهم على كل قبيح يسخط الله، فهم على عكس المنافقين الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف {وَيُقِيمُونَ الصلاة} أي(1/509)
يؤدونها على الوجه الكامل {وَيُؤْتُونَ الزكاة} أي يُعطونها إلى مستحقيها ابتغاء وجه الله {وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي في كل أمر ونهي {أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله} أي سيدخلهم في رحمته، ويفيض عليهم جلائل نعمته {إِنَّ الله عَزِيزٌ} أي غالب لا يٌغلب من أطاعه ويذل من عصاه {حَكِيمٌ} أي يضع كل شيء في موضعه على أساس الحكمة، في النعمة والنقمة {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي وعدهم على إِيمانهم بجنات وارفة الظلال، تجري من تحت أشجارها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي لابثين فيها أبداً، لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي ومنازل يطيب فيها العيش في جنات الخلد والاقامة قال الحسن: هي قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} أي وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، وفي الحديث يقول الله تعالى لأهل الجنة:
«يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحداً من خلقك! فيقول: أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» {ذلك هُوَ الفوز العظيم} أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا سعادة بعده {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين} قال ابن عباس: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان {واغلظ عَلَيْهِمْ} أي اشدد عليهم بالجهاد والقتال والارعاب {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مسكنهم ومثواهم جهنم {وَبِئْسَ المصير} أي بئس المكان الذي يصار إِليه جهنم {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} أي يحلف المنافقون أنهم ما قالوا الذي بلغك عنهم من السب قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبي، وذلك أنه اقتتل رجلان: جهني وانصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال ابن سلول للأنصار: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل «سمن كلبك يأكلك» فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأرسل إليه يسأله فجعل يحلف بالله ما قاله فأنزل الله فيه هذه الآية {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} هي قول ابن سلول «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} أي أظهروا الكفر بعد إظهار الإِسلام {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} قال ابن كثير: هم نفر من المنافقين همّوا بالفتك بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند عودته من تبوك وكانوا بضعة عشر رجلاً {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} أي ما عابوا على الرسول وما له عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته، ويُمن سعادته، وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب.
. ثم دعاهم تبارك وتعالى إلى التوبة فقال {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} أي فإِن يتوبوا عن النفاق يكن رجوعهم وتوبتهم خيراً لهم وأفضل {وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي يعرضوا ويصروا على النفاق {يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً} أي يعذبهم عذاباً شديداً {فِي الدنيا والآخرة} أي في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالنار وسخط الجبار {وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي ليس لهم من ينقذهم من العذاب، أو يشفع لهم فيخلصهم وينجيهم يوم الحساب.(1/510)
البَلاَغَة: 1 - {هُوَ أُذُنٌ} أصله هو كالأذن يسمع كل ما يقال له، فحذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه فصار تشبيهاً بليغاً مثل زيد أسد.
2 - {يُؤْذُونَ رَسُولَ الله} أبرز اسم الرسول ولم يأت به ضميراً {يُؤْذُونَه} تعظيماً لشأنه عليه السلام وجميعاً له بين الرتبتين العظيمتين «النبوة والرسالة» وإِضافته إِليه زيادة في التكريم والتشريف.
3 - {ذلك الخزي العظيم} الإِشارة البعيدة عن القريب للإيذان ببعد درجته في الهول والفظاعة.
4 - {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} قبض اليد كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الجودة والكرم.
5 - {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} من باب المشاكلة لأن الله لا ينسى أي تركوا طاعته فتركهم تعالى من رحمته.
6 - {كالذين مِن قَبْلِكُمْ} إِلتفات من الغيبة إِلى الخطاب لزيادة التقريع والعتاب.
7 - {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ ... } الآية فيه إِطناب والغرض منه الذم والتوبيخ لاشتغالهم بالمتاع الخسيس، عن الشيء النفيس.
8 - {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله ... } في الآية تأكيد المدح بما يشبه الذم على حد قول القائل «ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم» البيت.
فَائِدَة: روى ابن كثير عن علي كرم الله وجهه قال: بُعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأربعة أسياف: سيف للمشركين {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر. .} [التوبة: 29] وسيف لأهل الكتاب {جَاهِدِ الكفار والمنافقين} وسيفٍ للمنافقين {جَاهِدِ الكفار والمنافقين} وسيف للبغاة {فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] .
لطيفَة: قال الإِمام الفخر: لما وصف تعالى المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض، ذكر بعده خمسة أمور بها يتميز المؤمن، عن المنافق، فالمنافق يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، ولا يقوم إِلى الصلاة إِلا بكسل، ويبخل بالزكاة وسائر الواجبات، وإِذا أُمر بالمسارعة إِلى الجهاد فإِنه يتخلف ويثبط غيره، والمؤمن بالضد منه فإِنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويؤدي الصلاة على الوجه الأكمل، ويؤتي الزكاة، ويسارع إِلى طاعة الله ورسوله، ولهذا قابل تعالى بين صفات المؤمنين، وصفات المنافقين بقوله {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} كما يقابل في الجزاء بين نار جهنم والجنة فكانت مقابلة لطيفة.(1/511)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين، وتفضح أسرارهم، وتكشف أحوالهم، باعتبار خطرهم الداهم عن الإِسلام والمسلمين.(1/512)
اللغَةَ: {أَعْقَبَهُمْ} قال الليث: يقال أعقبت فلاناً ندامة إِذا صارت عاقبة أمره ذلك، ويقال: أكل أكلة أعقبته سقماً أي حصل له بها السقم قال الهذلي:
أودى بني وأعقبوني حسرة ... بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
{سِرَّهُمْ} السر: ما ينطوي عليه الصدر {نَجْوَاهُمْ} النجوى: ما يكون بين شخصين أو أكثر من الحديث مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي، كأن المتناجين منعاً إِدخال غيرهما معهما {يَلْمِزُونَ} يعيبون واللمز: العيب {المخلفون} المخلف، المتروك الذي تخلف عن الجهاد {الطول} الغنى {المعذرون} جمع معذر كمقصِّر وهو الذي يعتذر بغير عذر قال الجوهري: هو الذي يعتذر بالكذب وأصله من العذر وفي الأمثال «أُعذر من أنذر» أي بالغ في العذر من تقدم إِليك فأنذرك.
سَبَبُ النّزول: أ - «روي أن رجلاً يسمى ثعلبة جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقني مالاً فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره، خير من كثير، لا تطيقه، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فلم يزال يراجعه حتى دعا له، فاتخذ غنماً فنمَت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الجمعة والجماعة، فسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنه فأخبروه يخبره فقال: يا ويح ثعلبة ثلاثاً، فأنزل الله {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ. .} الآية» فهلك في خلافة عثمان.
ب - عن ابن عمر قال: «لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليصلي عليه، فقام عمر فقال يا رسول الله: أعلى عدو الله تصلي؟ فقال: أخر عني يا عمر إِني خُيرت فاخترت» فقيل لي {استغفر لَهُمْ} الآية ولو أعلم أني زدت على السبعين غفر له زدت، ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره فما كان إِلا يسيراً حتى أنزل الله {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ... } الآية.
التفسِير: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه {لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} أي لئن أعطانا الله من فضله ووسع علينا في الرزق {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} أي لنصدقن على الفقراء والمساكين، ولنعملن فيها بعمل أهل الخير والصلاح {فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ} أي فلما رزقهم الله وأغناهم من فضله {بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} أي بخلوا بالإِنفاق ونقضوا العهد وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي جعل الله(1/513)
عاقبتهم رسوخ النفاق في قلوبهم إِلى يوم لقاء الله {بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ} أي بسبب إِخلافهم ما عاهدوا الله عليه من التصدق والصلاح {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} أي وبسبب كذبهم في دعوى الإِيمان والإِحسان {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم أسرارهم وأحوالهم ما يخفونه في صدورهم، وما يتحدثون به بينهم؟ {وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب} أي لا يخفى عليه شيء مما غاب عن الأسماع والأبصار والحواس؟ {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} أي يعيبون المتطوعين المتبرعين من المؤمنين في صدقاتهم {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} أي ويعيبون الذين لا يجدون إِلا طاقتهم فيهزءون منهم روى الطبري عن ابن عباس قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وجاء رجل من الأنصار بصاعٍ من تمر، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إِلا رياءٌ، وإِن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع فنزلت {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} أي جازاهم على سخريتهم وهو من باب المشاكلة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عذاب موجع، هو عذاب الآخرة المقيم {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أمر ومعناه الخبر أي سواء يا محمد استغفرت لهؤلاء المنافقين أم لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} قال الزمخشري: والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير والمعنى مهما أكثرت من الاستغفار لهم وبالغت فيه فلن يغفر الله لهم أبداً {ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي عدم المغفرة لهم بسبب كفرهم بالله ورسوله كفراً شنيعاً حيث أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} أي لا يوفق للإِيمان الخارجين عن طاعته، ولا يهديهم إِلى سبيل السعادة {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله} أي فرح المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بقعودهم بعد خروج الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مخالفة له حين سار وأقاموا {وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} أي وكرهوا الخروج إِلى الجهاد إِيثاراً للراحة وخوف إِتلاف النفس والمال لما في قلوبهم من الكفر والنفاق {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر} أي قال بعضهم لبعض: لا تخرجوا إِلى الجهاد في وقت الحر، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استنفرهم إِلى هذه الغزوة في حر شديد، قال أبو السعود: وإِنما قال {وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} على قوله «وكرهوا أن يخرجوا إِلى الغزو» إِيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجلِّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا لإِخوانهم تواصياً فيما بينهم بالشر والفساد لا تنفروا في الحر، فقد جمعوا ثلاث خصال من الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك، قال تعلى رداً عليهم {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} أي قل لهم يا محمد: نار جهنم التي تصيرون إِليها بتثاقلكم عن الجهاد أشد حراً مما تحذرون من الحر المعهود، فإِن حر الدنيا يزول ولا يبقى، وحر(1/514)
جهنم دائم لا يفتر، فما لكم لا تحذرون نار جهنم؟ قال الزمخشري: وهذا استجهال لهم، لأن من تصوَّن من مشقة ساعة، فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي لو كانوا يفهمون لنفروا مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحر، ليتقوا به حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف وهذا ولكنهم «كالمستجير من الرمضاء بالنار» {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} أمر يراد به الخبر معناه: فسيضحكون قليلاً، وسيبكون كثيراً، قال ابن عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإِذا انقطعت الدنيا وصاروا إِلى الله عَزَّ وَجَلَّ استأنفوا بكاءً لا ينقطع أبداً {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي جزاءً لهم ما اجترحوا من فنون المعاصي {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} أي فإِن ردك الله من غزوة تبوك إِلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} أي طلبوا الخروج معك لغزوة أخرى {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} أي قل لهم لن تخرجوا معي للجهاد أبداً {وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} أي لن يكون لكم شرف القتال معي لأعداء الله، وهو خبر معناه النهي للمبالغة، جارٍ مجرى الذم لهم لإِظهار نفاقهم {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قعدتم عن الخروج معي أول مرة حين لم تخرجوا إِلى تبوك {فاقعدوا مَعَ الخالفين} أي فاقعدوا مع المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} أي لا تصل يا محمد على أحدٍ من هؤلاء المنافقين إِذا مات، لأن صلاتك رحمة، وهم ليسوا أهلاً للرحمة {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} أي لا تقف على قبره للدفن، أو للزيادة والدعاء {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي لأنهم كانوا في حياتهم منافقين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} أي وماتوا وهم على نفاقهم خارجون من الإِسلام متمردون في العصيان، نزلت في ابن سلول {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ} أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد {إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا} أي لا يريد بهم الخير إِنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب والنكبات {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي تخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر منشغلين بالتمتع بالأموال والأولاد عن النظر والتدبر في العواقب {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} التنكير للتفخيم أي وإِذا أنزلت سورة جليلة الشأن {أَنْ آمِنُواْ بالله وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ} أي بأن آمنوا بالله بصدقٍ ويقين، وجاهدوا مع رسول لنصرة الحق وإِعزاز الدين {استأذنك أُوْلُواْ الطول مِنْهُمْ} أي استأذنك في التخلف أُولوا الغنى والمال الكثير {وَقَالُواْذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين} أي دعنا نكن مع الذين لم يخرجوا للغزو وقعدوا لعذر، قال تعالى تقبيحاً لهم وذماً {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة الذين تخلفوا في البيوت {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} أي ختم عليها {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} أي فهم لا يفهمون ما في الجهاد وطاعة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة {لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} قال الرازي: لما شرح حال المنافقين، بيّن حال الرسول والمؤمنين بالضد منه، حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إِليه والمعنى: إِن تخلف هؤلاء ولم(1/515)
يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً {وأولئك لَهُمُ الخيرات} أي لهم منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة {وأولئك هُمُ المفلحون} أي الفائزون بالمطلوب {أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي أعد الله لهم على إِيمانهم وجهادهم بساتين تجري من تحت قصورها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا} أي لايثين في الجنة أبداً {ذلك الفوز العظيم} أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا فوز راءه {وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب} أي جاء المعتذرون من الأعراب الذين انتحلوا الأعذار تخلفوا عن الجهاد {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} أي في ترك الجهاد، وهذا بيان لأحوال المنافقين من الأعراب بعد بيان أحوال المنافقين من أهل المدينة، قال البيضاوي: هم «أسد» و «غطفان» استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال {وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} أي وقعد عن الجهاد الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإِيمان، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وعيد لهم شديد أي سينال هؤلاء المتخلفين الكاذبين في دعوى الإِيمان عذاب أليم بالقتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى} أي ليس على الشيوخ المسنين، ولا على المرضى العاجزين الذين لا يستطيعون الجهاد لعجزهم أو مرضهم {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} أي الفقراء الذين لا يجدون نفقة للجهاد {حَرَجٌ} أي إِثم في القعود {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} أي أخلصوا الإِيمان والعمل الصالح، فلم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم، ولم يثيروا الفتن، فليس على هؤلاء حرج إِذا تركوا الغزو لأنهم أصحاب أعذار {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} أي ليس عليهم جناح ولا إِلى معاتبتهم سبيل قال في التسهيل: وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله، ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم، وهذا من بليغ الكلام لأن معناه: لا سبيل لعاتب عليهم، وهو جارٍ مجرى المثل {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عظيم المغفرة والرحمة حيث وسع على أهل الأعذار {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} نزلت في البكائين الذين أرادوا الغزو مع رسول الله ولم يجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يحملهم عليه قال البيضاوي: هم البكاءون سبعة من الأنصار أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: قد نذرنا الخروج فاحملنا نغزو معك، فقال عليه السلام: لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون {قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} أي ليس عندي ما أحملكم عليه من الدواب {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً} أي انصرفوا وأعينهم تسيل دمعاً من شدة الحزن {أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} أي لأنهم لم يجدوا ما ينفقونه لغزوهم، ولم يكن عند رسول الله ما يحملهم عليه {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ} أي إِنما الإِثم والحرج على الذين يستأذنونك في التخلف وهم قادرون على الجهاد وعلى الإِنفاق لغناهم {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي ختم عليها فهم لذلك لا يهتدون.
البَلاَغَة: 1 - {يَعْلَمُ ... عَلاَّمُ الغيوب} بين يعلم وعلام جناس الاشتقاق.(1/516)
2 - {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} التنوين في عذابٌ للتهويل والتفخيم.
3 - {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} بينهما طباق السلب، وقد خرج الأمر عن حقيقته إِلى التسوية.
4 - {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.
5 - {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} الخوالف: النساء المقيمات في دار الحي بعد رجيل الرجال ففيه استعارة، وإِنما سمي النساء خوالف تشبيهاً لهن بالخوالف وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحي فشبههن لكثرة لزوم البيوت بالخوالف التي تكون في البيوت.
6 - {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} هو من عطف الخاص على العام اعتناءً بشأنهم أفاده الألوسي.
فَائِدَة: قال الزمخشري عند قوله تعالى {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} لفظ السبعين جارٍ مجرى المثل في كلام العرب للتكثير قال علي بن أبي طالب.
لأصبحن العاص وابن العاصي ... سبعين ألفاً عاقدي النواصي
فذكرها ليس لتحديد العدد، وإِنما هو المبالغة جرياً على أساليب العرب.
تنبيه: إِنما منع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الصلاة على المنافقين، لأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك.
لطيفَة: «اشتهر» حذيفة بن اليمان «بأنه صاحب سر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد قال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِني مسرٌ إِليك سراً فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان، نْرهط ذوي عدد من المنافقين، ولذلك كان عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يأتيه فيقول: أسألك باللهِ هل عدَّني رسول الله من المنافقين» .(1/517)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن المنافقين، الذين تخلفوا عن الجهاد وجاءوا يؤكدون تلك الأعذار بالأيمان الكاذبة، وقد ذكر تعالى من مكائد المنافقين «مسجد الضرار» الذي بنوه ليكون وكراً للتآمر على الإسلام والمسلمين، وحذر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الصلاة فيه، لأنه لم يشيد على أساس من التقوى، وإِنما بني ليكون مركزاً لأهل الشقاق والنفاق، ولتفريق وحدة المسلمين، وقد اشتهر باسم مسجد الضرار.
اللغَة: {انقلبتم} رجعتم {رِجْسٌ} الرجس: الشيء الخبيث المستقذر، وقد يطلق على النجس {مَأْوَاهُمْ} قال الجوهري: المأوى كل مكان يأوى إِليه ليلاً ونهاراً {الأعراب} جمع أعرابي قال أهل اللغة: يقال رجل عربي إِذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب، ورجل أعرابي إِذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العرب أو من مواليهم، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعراب {أَجْدَرُ} أولى وأحق {مََغْرَماً} المغرم: الغرم والخسران وأصله من الغرام وهو لزوم الشيء {مَرَدُواْ} ثبتوا واستمروا وأصل الكلمة من اللين والملامسة(1/518)
والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء لا نبت فيها، وغصن أمرد ولا ورق عليه، وغلام أمرد لا لحية له {مُرْجَوْنَ} الإِرجاء: التأخير يقال: ارجأته أي أخرته ومنه المرجئة لأنهم أخروا العمل {ضِرَاراً} الضرار: محاولة الضر وفي الحديث «لا وضر ولا ضرار» {إِرْصَاداً} الإِرصاد: الترقب والانتظار يقال أرصدت له كذا إِذا أعددته مرتقباً له به {شَفَا} الشفا: الحرف والشفير ومنه أشفى على كذا إذا دنا منه {جُرُفٍ} : ما تجرفه السيول من الأودية ويبقى على الأطراف طين مشرف على السقوط وأصله من الجرف وهو اقتلاع الشيء من أصله {هَارٍ} ساقط يقال: تهور البناء إِذا سقط وأصله هائر.
سَبَبُ النّزول: «روي أن» أبا عامر الراهب «قد تنصر في الجاهلية وترهب، فلما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عاداه لأنه ذهبت رياسته وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم - وسماه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا عامر الفاسق - فلما انهزمت هوازن في حنين خرج إِلى الشام، وأرسل إِلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنو لي مسجدا فإِني ذاهب إِلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه، فبنوا مسجداً إِلى جانب مسجد قباء، وأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: إِنا بنينا مسجداً لذي العِلة، والحاجة، والليلة المطيرة، وإِنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فدعا بثوبه ليلبسه فيأتيهم فنزل عليه القرآن، وأخبر الله رسوله خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعض الصحابة وقال لهم: انطلقوا إِلى هذا المسجد الظالم وأهله واحرقوه، فذهبوا إِليه فحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله، وفيه نزلت {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً ... } الآية» .
التفسِير: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} أي يعتذر إِليكم هؤلاء المتخلفون عن غوزة تبوك إِذا رجعتم إِليهم من سفركم وجهادكم {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي قل لهم لا تعتذروا فلن نصدقكم فيما تقولون {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} أي قد أخرنا الله بأحوالكم وما فيه من ضمائركم من الخبث والنفاق {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي وسيرى الله ورسوله عملكم فيما بعد، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} أي ثم ترجعون بعد مماتكم إلى الله تعالى الذي يعلم السر والعلانية، ولا تخفى عليه خافية {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيخبركم عند وقوفكم بين يديه بأعمالكم كلها، ويجازيكم عليها الجزاء العادل {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ} أي سيحلف لكم بالله هؤلاء المنافقون {إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ} أي إِذا رجعتم إِليهم من تبوك معتذرين بالأعذار الكاذبة {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} أي فأعرضوا عنهم إِعراض مقتٍ واجتناب، وخلُّوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام ثم ذكر تعالى العلة فقال: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أي لأنهم كالقذر لخبث باطنهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي مصيرهم إِلى جهنم هي مسكنهم ومأواهم {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي جزاءً(1/519)
لهم على نفاقهم في الدنيا، وما اكتسبوه من الآثام {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} كرره لبيان كذبهم وللتحذير من الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة، أي يحلفون لكم بأعظم الأيمان لينالوا رضاكم {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} أي فإِن رضيتم عنهم فإِن رضاكم لا ينفعهم لأن الله ساخط عليهم قال أبو السعود: ووضع الفاسقين موضع الضمير للتسجيل عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} الأعراب - أهل البدو - أشد كفراً وأعظم نفاقاً من أهل الحضر، لجفائهم وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير والصلاح {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ} أي وهم أولى بألا يعلموا ما أنزل الله على رسوله من الأحكام والشرائع قال في البحر: وإِنما كانوا أشد كفراً ونفاقاً لفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب، فقد نشأوا كما شاءوا، ولبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله، فكانوا أطلق لساناً بالكفر من منافقي المدينة {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بخلقه حكيم في صنعه {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً} أي ومن هؤلاء الأعراب الجهلاء من يعدُّ ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به غرامة وخسراناً، لأنه لا ينفقه احتساباً فلا يرجو له ثواباً {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} أي ينتظر بكم مصائب الدنيا ليتخلص من أعباء النفقة {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} جملة اعتراضية للدعاء عليهم أي عليهم يدور العذاب والهلاك {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالهم عليهم بأفعالهم {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} أي ومن الأعراب من يصدِّق بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت على عكس أولئك المنافقين {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله} أي ويتخذ ما ينفق في سبيل الله ما يقربه من رضا الله ومحبته {وَصَلَوَاتِ الرسول} أي دعاء الرسول واستغفاره له {ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} أداة استفتاح للتنبيه على الاعتناء بالأمر أي ألا إِن هذا الإِنفاق قربة عظيمة تقربهم لرضا ربهم حيث أنفقوها مخلصين {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ} أي سيدخلهم الله في جنته التي أعدها للمتقين {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي غفور لأهل طاعته رحيم بهم حيث وفقهم للطاعة {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} أي والسابقون الأولون في الهجرة والنصرة، الذين سبقوا إِلى الإِيمان من الصحابة {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} أي سلكوا طريقهم واقتدوا بهم في سيرتهم الحسنة، وهم التابعون ومن سار على نهجهم إِلى يوم القيامة {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} وعدٌ بالغفران والرضوان أي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وأرضاهم، وهذا أرقى المراتب التي يسعى إِليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون أن يرضى الله تعالى عنهم ويرضيهم قال الطبري: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم لطاعتهم وإِجابتهم نبيه، ورضوا عنه لما أجزل لهم من الثواب على الطاعة والإِيمان {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} أي وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي مقيمين فيها من غير انتهاء {ذلك الفوز العظيم} أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه قال في(1/520)
البحر: لما بيّن تعالى فضائل الأعراب المؤمنين، بيّن حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين فهناك قال {ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} وهناك قال {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} وهنا ختم {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وهناك ختم {ذلك الفوز العظيم} {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ} أي وممن حولكم يا أهل المدينة منافقون من الأعراب منازلهم قريبة من منازلكم {وَمِنْ أَهْلِ المدينة} أي ومن أهل المدينة منافقون أيضاً {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} أي لجوا في النفاق واستمروا عليه قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا منهم ابن سلول، والجلاس، وأبو عامر الراهب {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي لا تعلمهم أنت يا محمد لمهارتهم في النفاق بحيث يخفى أمرهم على كثيرين، ولكن نحن نعلمهم ونخبرك عن أحوالهم {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} أي في الدنيا بالقتل والأسر، وعند الموت بعذاب القبر {ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} أي ثم في الآخرة يردون إِلى عذاب النار، الذي أعده الله للكفار والفجار {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة قال الرازي: هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا لنفاقهم بل لكسلهم، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول لسائر الغزوات بالعمل السيء وهو تخلفهم عن غزوة تبوك هذه المرة {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي لعل الله يتوب عليهم قال الطبري: وعسى من الله واجب ومعناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب بمعنى الترجي على ما وصفت {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي ذو عفوٍ لمن تاب، عظيم الرحمة لمن أناب {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي خذ يا محمد من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم صدقة تطهرهم بها من الذنوب والأوضار، وتنمي بتلك الصدقة حسناتهم حتى يرتفعوا بها إِلى مراتب المخلصين الأبرار {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} أي وادع لهم بالمغفرة فإِن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم قال ابن عباس: {سَكَنٌ لَّهُمْ} رحمة لهم {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لقولهم عليهم بنياتهم {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} الاستفهام للتقرير أي ألم يعلم أولئك التائبون أن الله تعالى هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده، {وَيَأْخُذُ الصدقات} أي يتقبلها ممن أخلص النية {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} أي وأن الله وحده المستأثر بقبول التوبة والرحمة، لقوله
{غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب} [غافر: 3] {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون} صيغة أمر متضمنة للوعيد أي اعملوا ما شئتم من الأعمال فأعمالكم لا تخفى على الله، وستعرض يوم الحساب على الرسول والمؤمنين {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} أي وستردُّون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيجازيكم على أعمالكم إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} أي وآخرون من المتخلفين مؤخرون إِلى أن يظهر أمر الله فيهم قال ابن عباس: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، لم يسارعوا إِلى التوبة والاعتذار، وكانوا من أصحاب بدر، فنهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(1/521)
عن كلامهم والسلام عليهم، فصاروا مرجئين لأمره تعالى إلى أن يتجاوز عن سيئاتهم، فهو تعالى وحده الذي يقبل التوبة ويتوب على العبد دون غيره {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي إِما أن يعذبهم إِن لم يتوبوا، وإِما أن يوفقهم للتوبة ويغفر لهم {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوالهم فيما يفعله بهم، وهؤلاء الثلاثة المذكورون في قوله تعالى {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} [التوبة: 118] وقد وقف أمرهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً} أي ومن المنافقين جماعة بالغوا في الإِجرام حتى ابتنوا مجمعاً يدبرون فيه الشر، وسموه مسجداً مضارة للمؤمنين، وقد اشتهر باسم «مسجد الضرار» {وَكُفْراً} أي نصرة للكفر الذي يخفونه {وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين} أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، ويصرفونهم عن مسجد قباء {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} أي ترقباً وانتظاراً لقدوم أبي عامر الفاسق الذي قال لرسول الله: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم، وهو الذي أمرهم ببناء المسجد ليكون معقلاً له قال الطبري في رواية الضحاك: هم ناس من المنافقين بنوا مسجداً بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين وكانوا يقولون: إِذا رجع أبو عامر صلى فيه، وإِذا قدم ظهر على محمد وتغلب عليه {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} أي وليقسمن ما أردنا ببنائه إِلا الخير والإِحسان، من الرفق بالمسكين، والتوسعة على المصلين {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي والله يعلم كذبهم في ذلك الحلف، وأتى بإِن واللام لزيادة التأكيد، ثم نهى تعالى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار فقال {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} أي لا تصل فيه يا محمد أبداً لأنه لم يُبْنَ إِلا ليكون معقلاً لأهل النفاق {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى} اللام لام القسم أي لمسجد قباء الذي بني على تقوى الله وطاعته {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي من أول يوم ابتدئ في بنائه {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} أي أولى وأجدر بأن تصلي فيه من مسجد الضرار {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} أي في هذا المسجد رجال أتقياء - وهم الأنصار - يحبون أن يتطهروا من الذنوب والمعاصي {والله يُحِبُّ المطهرين} أي المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة، ثم أشار تعالى إلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار فقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} الاستفهام للإِنكار والمعنى: هل من أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلبٍ لمرضاته بالطاعة {خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} أي هل ذاك خير أم هذا الذي أسس بنيانه على طرف واد متصدع مشرف على السقوط؟ {فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي فسقط به البناء في نار جهنم {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي لا يوافق الظالمين إِلى السداد، ولا يهديهم سبيل الرشاد، والآية الكريمة على سبيل التشبيه والتمثيل لعمل أهل الإِخلاص، والإِيمان، وعمل أهل النفاق والضلال، والمعنى هل من أسس بنيان دينه على التقوى والإِخلاص كمن أسسه على الباطل والنفاق الذي يشبه طرف الوادي أو الجبل الذي أشفى على السقوط؟ {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار أو شكٌ ونفاقٌ، وغيظ وارتياب بسبب هدمه،(1/522)
يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين، روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث إِلى ذلك المسجد من هدمه وحرقه وأمر بإِلقاء الجيف والنتن والقمامة فيه إِهانة لأهله، فلذلك اشتد غيظ المنافقين وحقدهم {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي لا يزالون في ارتياب وغيظ إِلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين، حكيم في تدبيره إِياهم ومجازاتهم بسوء نياتهم.
البَلاَغَة: 1 - {الغيب والشهادة} بين الكلمتين طباق.
2 - {لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} الإِظهار في مضع الإِضمار لزيادة التشنيع والتقبيح وأصله لا يرضى عنهم.
3 - {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ} فيه مجاز مرسل أي يدخلهم في جنته التي هي محل الرحمة وهو من إِطلاق الحال وإِرادة المحل.
4 - {عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} بين {صَالِحاً سَيِّئاً} طباق.
5 - {إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} فيه تشبيه بليغ حيث جعل الصلاة نفس السكن والاطمئنان مبالغة وأصله كالسكن حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
6 - {هَارٍ فانهار} بينهما جناس ناقص وهو من المحسنات البديعية.
7 - {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى} في الكلام استعارة مكنية حيث شبهت التقوى والرضوان بأرض صلبة يعتمد عليها البنيان وطوي ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو التأسيس.
تنبيه: كلمة «عسى» من الله واجب قال الإِمام الرازي: وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، والسلطان العظيم إِذا الشمس المحتاج منه شيئاً فإِنه لا يجيبه إِلا على سبيل الترجي مع كلمة «عسى» أو «لعل» تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يلزمه بشيء، بل كل ما يفعله فإِنما هو على سبيل التفضل والتطول، وفيه فائدة أخرى وهو أن يكون المكلف على الطمع والإِشفاق لأنه أبعد من الإِتكال والإِهمال.
لطيفَة: روى الأعمش أن أعرابياً جلس إِلى «زيد بن صوحان» وهو يحدث أصحابه - وكانت يده أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إِن حديثك ليعجبني، وإِن يدك لتريبني! قال زيد: ما يريبك من يدي إِنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال فقال زيد: صدق الله {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ ... } الآية، معنى تريبني أي تدخل إِلى قلبي الشك هل قطعت في سرقة وهذا من جهل الأعرابي.(1/523)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أحوال المنافقين، المتخلفين عن الجهاد، المثبطين عنه، ذكر صفات المؤمنين المجاهدين، الذين باعوا أنفسهم لله. . ثم ذكر قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وتوبة الله عليهم، وختم السورة بتذكير المؤمنين بالنعمة العظمى، ببعثة السراج المنير، النبي العربي، الذي أرسله الله رحمة للعالمين.
اللغَة: {أَوَّاهٌ} كثير التأوه ومعناه الخاشع المتضرع، يقال: تأوه الرجل تأوهاً إِذا توجع قال الشاعر:
إِذا ما قمت أُحلها بليلٍ ... تأوه آهة الرجل الحزين
{حَلِيمٌ} الحليم: الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنب ويصبر على الأذى {العسرة} الشدة وصعوبة الأمر وتسمى غزوة تبوك «غزوة العسرة» لما فيها من المشقة والشدة {يَزِيغُ} الزيغ: الميل: يقال زاغ قلبه إِذا مال عن الهدى والإِيمان {ظَمَأٌ} الظمأ: شدة العطش {نَصَبٌ} النصب: الإِعياء والتعب {مَخْمَصَةٌ} مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن {يَنَالُونَ} يصيبون، نال الشيء إِذا أدركه وأصابه {غِلْظَةً} شدة وقوة وحمية {عَزِيزٌ} صعب وشاق {عَنِتُّمْ} العنت: الشدة والمشقة.
سَبَبُ النّزول: أ - «لما بايع الأنصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة العقبة - وكانوا سبعين رجلاً - قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا: فإِذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة، ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل» فنزلت {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ ... } الآية.
ب - لما حضرت أبا طالب الوفاة، «دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم قل» لا إِله إِلا الله «كلمة لك بها عند الله، فقال أبو جهل وابن أُمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول» لا إِله إِلا الله «فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ... } » ونزلت {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] .
التفسِير: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} أي اشترى أموال(1/525)
المؤمنين وأنفسهم بالجنة وهو تمثيل في ذروة البلاغة والبيان لأجر المجاهدين، مَثَّل تعالى جزاءهم بالجنة على بذلهم الأموال والأنفس في سبيله بصورة عقد فيه بيع وشراء قال الحسن: بايعهم فأغلى لهم الثمن وانظروا إِلى كرم الله، أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، ثم وهبها لهم، ثم اشتراها منهم بهذا الثمن الغالي فإِنها لصفقة رابحة وقال بعضهم: ناهيك عن بيعٍ البائع فيه المؤمن، والمشتري فيه رب العزة والثمن فيه الجنة، والصك فيه الكتب السماوية، والواسطة فيه محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} أي يجاهدون لإِعزاز دين الله وإِعلاء كلمته {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} أي في حالتي الظفر بالأعداء بقتلهم، أو الاستشهاد في المعركة بموتهم {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} أي وعدهم به المولى وعداً قاطعاً {فِي التوراة والإنجيل والقرآن} أي وعداً مثبتاً في الكتب المقدسة «التوراة، والإِنجيل، والقرآن» {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ} الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أوفى من الله جل وعلا قال الزمخشري: لأن إِخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح؟ ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ {مِنَ الله فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} أي أبشروا بذلك البيع الرابح وافرحوا به غاية الفرح {وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه {التائبون العابدون الحامدون} كلا مستأنف قال الزجاج: مبتدأ خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإِن لم يجاهدوا كقوله
{وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] والمعنى التائبون عن المعاصي، العابدون أي المخلصون في العبادة، الحامدون لله في السراء والضراء {السائحون} أي السائرون في الأرض للغزو أو طلب العلم، من السياحة وهي السير والذهاب في المدن والقفار للعظة والاعتبار {الراكعون الساجدون} أي المصلون {الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر} أي الداعون إِلى الله، يدعون الناس إِلى الرشد والهدى، وينهونهم عن الفساد والردى {والحافظون لِحُدُودِ الله} أي المحافظون على فرائض الله، المتمسكون بما شرع الله من حلال وحرام قال الطبري: أي المؤدون فرائض الله، المنتهون إِلى أمره ونهيه {وَبَشِّرِ المؤمنين} أي بشرهم بجنات النعيم، وحذف المبشر به إِشارة إِلى أنه لا يدخل تحت حصر، بل لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} أي لا ينبغي ولا يصح للنبي والمؤمنين أن يطلبوا من الله المغفرة للمشركين {وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} أي ولو كان المشركون أقرباء لهم {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم} أي من بعد ما وضح لهم أنهم من أهل الجحيم لموتهم على الكفر، والآية نزلت في أبي طالب {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ} هذا بيان للسبب الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار لأبيه آزر أي ما أقدم إِبراهيم على الاستغفار {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} أي إِلا من أجل وعدٍ تقدم له بقوله {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] وأنه كان قبل أن يتحقق إِصراره على الشرك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ(1/526)
مِنْهُ} أي فلما تبين لإِبراهيم أن أباه مصرّ على الكفر ومستمر على الكفر، تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له، ثم بيّن تعالى بأن الذي حمل إِبراهيم على الاستغفار هو فرط ترحمه وصبره على أبيه فقال {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} أي كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب {حَلِيمٌ} أي صبور على ما يعترضه من الأذى ولذلك حلم عن أبيه مع توعده له بقوله
{لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] فليس لغيره أن يتأسى به في ذلك قال أبو حيان: ولما اكن استغفار إِبراهيم لأبيه بصدد أن يُقتدى به بيّن تعالى العلة في استغفار إِبراهيم لأبيه، وهو الوعد الذي كان وعده به، فكان يرجو إِيمانه فلما تبيّن له من جهة الوحي أنه عدو لله، وأنه يموت كافراً، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه وقطع استغفاره {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} نزلت الآية في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين، فخافوا على أنفسهم من ذلك فنزلت الآية تأنيساً لهم أي ما كان الله ليقضي على قوم بالضلال {بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} أي بعد أن وفقهم للإِيمان {حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} أي حتى يبين لهم ما يجتنبونه فإِن خالفوا بعد النهي استحقوا العقوبة {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي عليم بجميع الأشياء ومنها أنه يعلم من يستحق الهداية، ومن يستحق الإِضلال {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} أي له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من فيهما عبيده ومماليكه {يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي بيده وحده حياتهم وموتهم {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي ما لكم أيها الناس من أحد غير الله تلجأون إِليه أو تعتمدون عليه قال الألوسي: لما منعهم سبحانه عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم، بيّن لهم أن الله سبحانه املك كل موجود، ومتولي أمره، والغالب عليه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إِلا منه تعالى، ليتوجهوا إِليه بكليتهم، متبرئين عما سواه، غير قاصدين إِلا إِياه {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار} أي تاب الله على النبي من إِذنه للمنافقين في التخلف، وتاب على المهاجرين والأنصار لما حصل منهم من بعض الهفوات في غزوة تبوك، حيث تباطأ بعضهم، وتثاقل عن الجهاد آخرون، والغرض التوبة على من تخلفوا من المؤمنين عن غزوة تبوك ثم تابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها منهم، وصدّرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، وتنويهاً لشأنهم، وبعثاً للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إِلا وهو محتاج إِلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار {الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة} أي اتبعوه في غزوة تبوك وقت العسرة في شدة الحر، وقلة الزاد، والضيق الشديد روى الطبري عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِلى تبوك في قيظٍ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إِن الرجل لينحر البعير فيعصر فرثه فيشربه، فقد أبو بكر يا رسول الله: إِن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، قال: تحب ذلك؟ قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سكبت السماء فملأوا ما معهم، فرجعنا ننظر فلم نجدها(1/527)
جاوزت العسكر {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} أي من بعد ما كادت قلوب بعضهم تميل عن الحق وترتاب، لما نالهم من المشقة والشدة {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي وفقهم للثبات على الحق وتاب عليهم لما ندموا {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي لطيف رحيم بالمؤمنين {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} أي وتاب كذلك على الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزو، وهم «كعب، وهلال، ومرارة» {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} أي ضاقت عليهم مع سعتها {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي ضاقت نفوسهم بما اعتراها من الغم والهم، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وذلك بسبب
«أن الرسول عليه السلام دار لمقاطعتهم، فكان أحدهم يفشي السلام لأقرب أقربائه فلا يرد عليه، وهجرتهم نساؤهم وأهلوهم وأهملوهم حتى تاب الله عليهم» {وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ} أي وأيقنوا أنه لا معتصم لهم من الله ومن عذابه، إِلا بالرجوع والإِنابة إِليه سبحانه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} أي رجع عليهم بالقبول والرحمة، ليستقيموا على التوبة ويدوموا عليها {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} أي المبالغ في قبول التوبة وإِن كثرت الجنايات وعظمت، المتفضل على العباد بالرحمة الشاملة {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} أي راقبوا الله في جميع أقوالكم وأفعالكم، وكونوا مع أهل الصدق واليقين، الذين صدقوا في الدين نية وقولاً وعملاً {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك أي ما صح ولا استقام لأهل المدينة ومن حولهم من سكان البوادي أن يتخلفوا عن الغزو مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لها المكاره ولا يكرهوها له عليه السلام، بل عليهم أن يفدوه بالمُهَج والأرواح، وأن يكابدوا معه ما يكابده من الأهوال والخطوب قال الزمخشري: أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يلقوا من الشدائد ما تلقاه نفسه، علماً بأنها أعز نفس على الله وأكرمها عليه، لا أن يضنوا بأنفسهم على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، وتهييج لمتابعته عليه السلام {ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} أي ذلك النهي عن التخلف بسبب أنهم لا يصيبهم عطش {وَلاَ نَصَبٌ} أي ولا تعب {وَلاَ مَخْمَصَةٌ} أي ولا مجاعة {فِي سَبِيلِ الله} أي في طرق الجهاد {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً} أي ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأرجلهم أو حوافر خيولهم {يَغِيظُ الكفار} أي يغضب الكفار وطؤها {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} أي ولا يصيبون أعداءهم بشيء بقتل أو أسرٍ أو هزيمة قليلاً كان أو كثيراً {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} أي إِلا كان ذلك قربة لهم عند الله {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي لا يضيع أجر من أحسن عملاً {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} قال ابن عباس: تمرة فما فوقها {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً} أي ولا يجتازون للجهاد في سيرهم أرضاً ذهاباً أو إِياباً {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} أي أثبت لهم أجر ذلك {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ليجزيهم على كل عمل لهم جزاء أحسن أعمالهم قال الألوسي: على معنى أن لأعمالهم جزاءً حسناً وجزاء أحسن، وهو سبحانه اختار لهم أحسن(1/528)
جزاء {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين للغزو بحيث تخلو منهم البلاد، روي عن ابن عباس أنه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيشٍ أو سرية أبداً، فلما قدم الرسول المدينة وأرسل السرايا إِلى الكفار، نفر المسلمون جميعاً إِلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة فنزلت هذه الآية {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} أي فإِذا لم يكن نفير الجميع ولم يكن فيه مصلحة فهلا نفر من كل جماعة كثيرة فئة قليلة {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} أي ليصبحوا فقهاء ويتكلفوا المشاق في طلب العلم {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أي وليخوفوا قومهم ويرشدوهم إِذا رجعوا إِليهم من الغزو، لعلهم يخافون عقاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه قال الألوسي: وكان الظاهر أن يقال
{ليعلموا} [الكهف: 21] بدل {َلِيُنذِرُواْ} و {لِّيَتَفَقَّهُواْ} بدل {يَحْذَرُونَ} لكنه اختير ما في النظم الجليل للإِشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم: الإِرشاد والإِنذار، وغرض المتعلم: اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار {ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} أي قاتلوا القريبين منكم وطهروا ما حولكم من رجس المشركين ثم انتقلوا إلى غيرهم، والغرض إِرشادهم إِلى الطريق الأصوب والأصلح، وهو أن يبتدئوا من الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي وليجد هؤلاء الكفار منكم شدة عليهم {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي واعلموا أن من اتقى الله كان الله معه بالنصر والعون {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} أي من سور القرآن {فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} أي فمن هؤلاء المنافقين من يقول استهزاء: أيكم زادته هذه إِيماناً؟ على وجه الاستخفاف بالقرآن كأنهم يقولون: أي عجب في هذا وأي دليل في هذا؟ يقول تعالى {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} أي فأما المؤمنون فزداتهم تصديقاً وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي وهم يفرحون لنزولها لأنه كلما نزل شيء من القرآن ازدادوا إِيماناً {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي وأما المنافقون الذين في قلوبهم نفاق وشك في دين الله {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} أي زادتهم نفاقاً إِلى نفاقهم وكفراً إِلى كفرهم، فازدادوا رجساً وضلالاً فوق ما هم فيه من الرجس والضلال {وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي ماتوا على الكفر {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي أوَلا يرى هؤلاء المنافقون الذين تُفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين حين ينزل فيهم الوحي؟ {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي ثم لا يرجعون عما هم فيه من النفاق ولا يعتبرون {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا} أي وإِذا أنزلت سورة من القرآن فيها عيب المنافقين وهم في مجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نظر بعضهم لبعض هل يراكم أحد من المسلمين لننصرف، فإِنا لا نصبر على استماعه وهو يفضحنا ثم قاموا فانصرفوا {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} جملة دعائية أي صرفها عن الهدى والإِيمان {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أي لأجل أنهم لا يفهمون الحق ولا يتدبرون فهم حمقى غافلون {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي لقد جاءكم أيها(1/529)
القوم رسول عظيم القدر، من جنسكم عربي قرشي، يُبلغكم رسالة الله {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يشق عليه عنتكم وهو المشقة ولقاء المكروه {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي حريص على هدايتكم {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي رءوف بالمؤمنين رحيم بالمذنبين، شديد الشفقة والرحمة عليهم قال ابن عباس: سماه باسمين من أسمائه {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله} أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان بك يا محمد فقل يكفيني ربي {لا إله إِلاَّ هُوَ} أي لا معبود سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه اعتمدت فلا أرجو ولا أخاف أحداً غيره {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} أي هو سبحانه رب العرش المحيط بكل شيء، لكونه أعظم الأشياء؛ الذي لا يعلم مقدار عظمته إِلا الله تعالى.
البَلاَغَة: 1 - {إِنَّ الله اشترى} استعارة تبعية شبه بذلهم الأموال والأنفس وإِثابتهم عليها بالجنة بالبيع والشراء.
2 - {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} فيه جناس ناقص لاختلافهما في الشكل وهو من المحسنات البديعية.
3 - {الراكعون الساجدون} يعني المصلون فيه مجاز مرسل من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) .
4 - {وَبَشِّرِ المؤمنين} الإِظهار في مقام الإِضمار للاعتناء بهم وتكريمهم.
5 - {مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ} بينهما جناس الاشتقاق.
6 - {لِيُضِلَّ ... هَدَاهُمْ} بينهما طباق وكذلك بين {يُحْيِي ... وَيُمِيتُ} وكذلك {ضَاقَتْ ... رَحُبَتْ} .
7 - {التواب الرحيم} من صيغ المبالغة.
8 - {يَطَأُونَ مَوْطِئاً} جناس الاشتقاق وكذلك {يَنَالُونَ نَّيْلاً} .
9 - {صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} طباق.
10 - {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} قال في تلخيص البيان: السورة لا تزيد الأرجاس رجساً، ولا القلوب مرضاً، بل هي شفاء للصدور وجلاء للقلوب، ولكن المنافقين لما ازدادوا عند نزولها عمىً، وحسن أن يضاف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة.
تنبيه: «روي أن أبا خيثمة الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحر والريح {ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح فنظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خلفه فإِذا براكب وراء السراب، فقال: كن أبا خيثمة} فكان ففرح به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واستغفر له» .(1/530)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
اللغَة: {قَدَمَ صِدْقٍ} قال الليث: القدم السابقة قال ذو الرمة:
وأنت امرؤٌ من أهل بيت ذُؤَابةٍ ... لهم قدمٌ معروفةٌ ومفاخر
وقال أبو عبيدة: كل سابق في خير أو شر فهو قدم وقال الأخفش: سابقة إخلاص {يُدَبِّرُ} التدبير القضاء والتقدير على حسب الحكمة {القسط} العدل {حَمِيمٍ} الحميم: الماء الحار الذي سخن بالنار حتى انتهى حره {يُفَصِّلُ} التفصيل: التبيين والتوضيح {مَأْوَاهُمُ} مثواهم ومقامهم {طُغْيَانِهِمْ} الطغيان العلو والارتفاع {يَعْمَهُونَ} يتحيَّرون {خَلاَئِفَ} جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شئونه.
سَبَبُ النّزول: قال ابن عباس: لما بعث الله تعالى محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنكرت الكفار وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، أما وجد الله من يرسله إِلا يتيم أبي طالب؟ فأنزل الله {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس ... } الآية.
التفسِير: {الر} إِشارة إِلى أن هذا الكلام البليغ المعجز، مكوّن من جنس الأحرف التي يتكون منها كلامكم، فمن هذه الحروف وأمثالها تتألف آيات الكتاب الحكيم، وهي في متناول أيديهم ثم يعجزون عن الإِتيان بمثل آية واحدة منه {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} أي هذه آيات القرآن المُحكْم المبين الذي لا يدخله شك، ولا يعتريه كذب ولا تناقض {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} أي أكان عجباً لأهل مكة إِيحاؤنا إِلى رجلٍ منهم هو محمد عليه السلام؟ والهمزة للإِنكار أي لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة أوحى إِلى رسلهم ليبلغوهم رسالة الله {أَنْ أَنذِرِ الناس} أي أوحينا إِليه بأن خوِف الكفار عذاب النار {وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} أي وأنْ بَشّرٍ المؤمنين بأنَّ لهم سابقةً ومنزلة رفيعة عند ربهم بما قدموا من صالح الأعمال {قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} أي ومع ضوح صدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال المشركون: إٍِنَّ محمداً لساحرٌ ظاهر السحر، مبطلٌ فيما يدَّعيه قال البيضاوي: وفيه اعترافٌ من حيث لا يشعرون بأن ما جاء به خارجٌ عن طوق البشر {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي إنَّ ربكم ومالك أمركم الذي ينبغي أن تفردوه بالعبادة هو الذي خلق الكائنات في مقدار سته أيام من أيام الدنيا، ولو شاء لخلقهنَّ في لمحة ولكنه أراد تعليم العباد التأني والتثبت في الأمور {ثُمَّ استوى عَلَى(1/533)
العرش} استواءً يليق بجلاله من غير تكييفٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل قال ابن كثير: نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، وهو إِمرارها كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل، والمتبادر إِلى أذهان المشبِّهين منفيٌ عن الله، فإِن الله لا يشبهه شيءٌ من خلقه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله، فقد سلك سبيل الهدى وقال أبو السعود: استوى على العرش على الوجه الذي عناه، وهو صفة له سبحانه بلا كيف، منزهاً عن التمكن والاستقرار، وهذا بيانٌ لجلالة ملكه وسلطانه، بعد بيان عظمة شأنه {يُدَبِّرُ الأمر} أي يدبّر أمر الخلائق على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة قال ابن عباس: لا يشغله في تدبير خلقه أحد {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} أي لا يشفع عنده شافع يوم القيامة إِلا بعد أن يأذن له في الشفاعة، وفي هذا ردٌّ على المشركين في زعمهم أن الأصنام تشفع لهم {ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} أي ذلكم العظيم الشأن هو ربكم وخالقكم لا ربَّ سواه، فوحّدوه بالعبادة {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تتعظون وتعتبرون؟ تعلمون أنه المتفرد بالخلق ثم تعبدون معه غيره {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} أي إِلى ربكم مرجعكم أيها الناس يوم القيامة جميعاً {وَعْدَ الله حَقّاً} أي وعداً من الله لا يتبدّل، وفيه ردٌّ على منكري البعث حيث قالوا
{مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي كما ابتدأ الخلق كذلك يعيده {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} أي ليجزي المؤمنين بالعدل، ونوفيّهم أجورهم بالجزاء الأوفى {والذين كَفَرُواْ} أي والذين جحدوا بالله وكذبوا رسله {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} أي لهم في جهنم شرابٌ من حيمم، بالغ النهاية في الحرارة {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي ولهم عذاب موجع بسبب كفرهم وإِشراكهم قال البيضاوي: والآية كالتعليل لما سبق فإِنه لما كان المقصود من البدء والإِعادة مجازاة المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع إِليه لا محالة {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً} الآية للتنبيه على دلائل القدرة والوحدانية أي هو تعالى بقدرته جعل الشمس مضيئة ساطعة بالنهار كالسراج الوهّاج {والقمر نُوراً} أي وجعل القمر منيراً بالليل وهذا من كمال رحمته بالعباد، ولما كانت الشمس أعظم جرماً خُصَّت بالضياء، لأنه هو الذي له شطوعٌ ولَمعان قال الطبري: المعنى أضاء الشمس وأنار القمر {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي قدَّر سيره في منازل وهي البروج {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} أي لتعلموا أيها الناس حساب الأوقات، فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تُعرف الشهور والأعوام {مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} أي ما خلق تعالى ذلك عبثاً بل لحكمة عظيمة، وفائدة جليلة {يُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يبيّن الآيات الكونيّة ويوضحها لقوم يعلمون قدرة الله، ويتدبرون حكمته قال أبو السعود: أي يعلمون الحكمة في إِبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على شئون مبدعها جل وعلا {إِنَّ فِي اختلاف اليل والنهار} أي في تعاقبهما يأتي الليل فيذهب النهار، ويأتي النهار(1/534)
فيذهب الليل {وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} أي وما أوجد فيهما من أصناف المصنوعات {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} أي لآيات عظيمة وبراهين جليلة، على وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته، لقومٍ يتقون الله ويخافون عذابه {إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي لا يتوقعون لقاء الله أصلاً ولا يخطر ببالهم، فقد أعمتهم الشهوات عن التصديق لما بعد الممات {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} أي رضوا بالدنيا عوضاً من الآخرة، وآثروا الخسيس على النفيس {واطمأنوا بِهَا} أي فرحوا بها وسكنوا إِليها {والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} أي وهم عن الأدلة المنبثّة في صحائف الأكوان غافلون، لا يعتبرون فيها ولا يتفكرون {أولئك مَأْوَاهُمُ النار} أي مثواهم ومقامهم النار {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي بسبب كفرهم وإِجرامهم، وبعد أن ذكر الله حال الأشقياء أردفه بذكر حال السعداء فقال {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي يهديهم إِلى طريق الجنة بسبب إِيمانهم {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جَنَّاتِ النعيم} أي تجري من تحت قصورهم الأنهار أو من تحت أسرَّتهم وهم مقيمون في جنات النعيم {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم} أي دعاؤهم في الجنة سبحانك اللهم وفي الحديث
«يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمون النّفس» أي كلامهم في الجنة تسبيح الله {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} أي وتحية بعضهم بعضاً سلامٌ عليكم كما تحيِّيهم بذلك الملائكة {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23 - 24] {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} أي وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله ربّ العالمين {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} قال مجاهد: هو دعءا الرجل على نفسه أو ولده إِذا غضب، اللهم أهلكْه، اللهم لا تبارك فيه قال الطبري: المعنى لو يعجل الله إِجابة دعاء الناس في الشر وفيما عليهم فيه مضرَّة، كاستعجاله لهم في الخير بالإِجابة إِذا دعوه به {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي لهلكوا وعُجِّل لهم الموت {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي فنترك المكذبين بلقائنا الذين لا يؤمنون بالبعث {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي في تمردهم وعتوهم يتردَّدون تحيراً والمعنى: نترك المجرمين ونمهلهم ونفيض عليهم النعم مع طغيانهم لتلزمهم الحجة {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} أي وإِذا أصاب الإِنسان الضرُّ من مرضٍ أو فقراً ونحو ذلك {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} أي دعانا في جميع الحالات: مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً لكشف ذلك الضُر عنه {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} أي فلما أزلنا ما به من ضرّ استمرَّ على عصيانه، ونسي ما كان فيه من الجَهْد والبلاء أو تناساه، وهو عتابٌ لمن يدعو الله عند الضر، ويغفل عنه عند العافية {كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي كما زُيّن لذلك الإِنسان الدعاء عند الضرِّ والإِعراضُ عند الرخاءِ، كذلك زُيّن للمسرفين المتجاوزين الحد في الإِجرام، ما كانوا يعملون من الإِعراض عن الذكر، ومتابعة الشهوات {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} أي ولقد أهلكنا الأمم من قبلكم أيها المشركون لما كفروا وأشركوا وتمادَوا في الغيِّ والضلال {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي جاءوهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقهم {وَمَا(1/535)
كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي وما آمنوا بما جاءتهم به الرسل، أي أنهم ظلموا وما آمنوا فكان سبب إِهلاكهم شيئان: ظلمهم، وعدم إِيمانهم {كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} أي مثل ذلك الجزاء - يعني الإِهلاك - نجزي كل مجرم، وهو وعيدٌ لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم} أي ثم استخلفناكم في الأرض يا أهل مكة من بعد إِهلاك أولئك القرون، التي تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي لننظر أتعملون خيراً أم شراً فنجازيكم على حسب عملكم قال القرطبي: والمعنى: يعاملكم معاملة المختبر إِظهاراً للعدل وقال في التسهيل: معناه ليظهر في الوجود عملكم فتقوم عليكم به الحجة والغرض أن الله تعالى عالمٌ بأعمالهم من قبل ذلك ولكن يختبرهم ليتبيَّن في الوجود ما علمه تعالى أزلاً {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا قرئت على المشركين آيات القرآن المبين، حال كونها واضحات لا لَبْس فيها ولا إِشكال {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} أي قال الذين لا يؤمنون بالبعث والحساب، ولا يرجون الأجر والثواب {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ} أي ائت يا محمد بكتابٍ آخر غير هذا القرآن، ليس فيه ما نكرهه من عيب آلهتنا، وتسفيه أحلامنا، {أَوْ بَدِّلْهُ} بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، ومكان سب آلهتنا مدحهم، ومكان الحرام حلالا، وإِنما قالوه على سبيل الاستهزاء والسخرية قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا يا محمد: ائتنا بقرآن غير هذا فيه ما نسألك {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي} أي قل لهم يا محمد ما ينبغي ولا يصح لي أن أغيرّ أو أبدّل شيئاً من قبل نفسي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} أي لا أتّبع إِلا ما يوحيه إِليَّ ربي، فأنا عبد مأمور، ورسولٌ مبلِّغ، أبلغكم رسالة الله {إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي إِني أخشى إِن خالفت أمره، وبدَّلتُ وحيه، عذاب يومٍ شديد الهَوْل هو يوم القيامة، وهذا كالتعليل لما سبق {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} أي قل لهم يا محمد لو شاء الله ما تلوتُ هذا القرآن عليكم، وما تلوته إِلا بمشيئته تعالى، لأنه من عنده وما هو من عندي {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي ولا أعلَمكم به على لساني {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ} أي فقد مكثتُ بين أظهركم زمنا طويلاً، مدة أربعين سنة من قبل القرآن لا أعلمه أنا ولا أتلوه عليكم {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر لتعلموا أنَّ مثل هذا الكتاب المعجز ليس إِلا من عند الله؟ قال الإِمام الفخر، إِن الكفار شاهدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أول عمره إِلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله، وأنه طالع كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ، ولا تعلَّم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة جاءهم بهذا الكتاب العظيم، المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين، وعجز عن معارضته العلماء، والفصحاء، والبلغاء، وكلُّ من له عقل سليم يعلم أن مثل هذا لا يكون إِلا على سبيل الوحي والتنزيل {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} استفهام انكاري بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن اختلق على الله الكذب والمقصود منه نفي الكذب عن مقامه الشريف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث زعم المشركون أن هذا القرآن من صنع محمد {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي كذّب بالحق الذي جاءت به الرسل {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ(1/536)
المجرمون} أي لا يفوز بالسعادة من ارتكب الإِجرام وكذّب الرسل الكرام {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} بيانٌ لقبائح المشركين أي ويعبدون الأوثان التي هي جمادات لا تقدر على جلب نفعٍ أو دفع ضر {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} أي يزعمون أن الأصنام تشفع لهم مع أنها حجارة لا تبصر ولا تسمع {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} ؟ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أتخبرون الله تعالى بشريكٍ أو شفيعٍ كائنٍ في السماوات أو الأرض لا يعلمه جلَّ وعلا، وهو علاّم الغيوب الذي أحاط علمه بجميع الكائنات؟ والاستفهام للتهكم والهزء بهم {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزّه الله وتقدَّس عما يقول الظالمون، وينسبه إِليه المشركون {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا} أي وما كان الناس إِلا على دين واحد هو الإِسلام من لدن آدم إِلى نوح فاختلفوا في دينهم وتفرقوا شيعاً وأحزاباً قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإِسلام، ثم وقع الاختلاف بين الناس وعُبدت الأوثان والأصنام فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} أي ولولا قضاء الله بتأخير الجزاء إِلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي لعُجِّل عقابهم في الدنيا باختلافهم في الدين {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي ويقول هؤلاء الكفرة المعاندون هلاّ أنزل على محمد معجزة من ربه كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد {فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ} أي قل لهم أمر الغيب لله وحده ولا يأتي بالآيات إِلا هو وإِنما أنا مبلّغ {فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} أي فانتظروا قضاء الله بيننا فأنا ممن ينتظر ذلك.
البَلاَغَة: 1 - {الكتاب الحكيم} فعيل بمعنى مفعول أي المُحْكم الذي لا يتطرق إِليه الفساد ولا يعتريه الكذب والتناقض.
2 - {أَنذِرِ ... . وَبَشِّرِ} بينهما طباقٌ.
3 - {قَدَمَ صِدْقٍ} كناية عن المنزلة الرفيعة، والعبارةُ غايةٌ في البلاغة لأن بالقدم يكون السبق والتقدم، كما سميت النعمة يداً لأنها تُعطى بها.
4 - {يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} بين كلمتي البدء والإِعادة طباقٌ.
5 - {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} فيه التفاتٌ مع الإِضافة إِلى ضمير الجلالة لتعظيم الأمر وتهويله.
6 - {الشر استعجالهم بالخير} أي كاستعجالهم أو مثل استعجالهم بالخير ففيه تشبيه مؤكد مجمل، وبين الشر والخير طباقٌ.
7 - {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} في الكلام استعارة تمثيلية حيث شبّه حال العباد مع ربهم بحال رعية مع سلطانها في إِمهالهم للنظر في أعمالهم، واستعير الاسم الدال على المشَّبه به للمشبَّه على سبيل التمثيل والتقريب، ولله المثل الأعلى.
8 - {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ.(1/537)
فَائِدَة: قال السيوطي في قوله تعالى {جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} إِن هذه الآية أصلٌ في علم المواقيت، والحساب، والتاريخ، ومنازل القمر.
لطيفَة: قال الحافظ ابن كثير: من قال مقالة صادقاً أو كاذباً فلا بدَّ أن يُنْصَب عليه من الأدلة على برِّه أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإِن الفرق بين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين الضحى وحنْدس الظلماء، قال عبد الله بن سلام: «لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة انجفل الناس (أي تفرق اليهود عنه) فكنت فيمن انجفل، فلما رأيتُه عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعته يقول» يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلو الجنة بسلام «فقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى من الدلائل قال حسان:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبيِّنةٌ ... لكان منظرهُ يُنْبيك بالخبر(1/538)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الأدلة على فساد عبادة الأوثان، وشبهات المشركين حول الرسالة والقرآن، ذكر هنا أن عادة هؤلاء الأشقياء المكرُ، والجحودُ، والعِنَاد، فإن أصابتهم الشدة تضرّعوا، وإن جاءتهم الرحمة بطروا وكفروا، ثم ضرب تعالى المثل بالحياة الدنيا في الزوال والفناء، ثم عاد إِلى ذكر الأدلة والبراهين، على وحدانية الله ربّ العالمين.
اللغَة: {عَاصِفٌ} العاصف: الريح الشديدة التي تعصف بالأوراق والأشجار، قال الفراء: يقال عصفت الريح وأعصفت أي اشتدت قال الشاعر:
إِن الرياح إذا ما أعصَفَتْ قَصَفَتْ ... عيدانَ نجدٍ ولا يَعْبأنَ بالرّتم
{الموج} ما ارتفع من الماء فوق البحر، سُمّي موجاً لاضطرابه {زُخْرُفَهَا} الزخرف: كمالُ حسنِ الشيء ونضارتهُ، سُمّي زخرفاً لبهجته ونضارته {تَغْنَ} غني بالمكان إِذا أقام به وعَمره {يَرْهَقُ} يغشى ويعلو يقال: رهقه الذل أي غشيه {قَتَرٌ} القَتر والقترة: الغبار الذي معه سواد قال تعالى {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 41] أي تعلوها غَبَرة جهنم، وقيل: القَتَر الغبارُ وإن لم يكن معه سواد قال الفرزدق:
متوّجٌ برداء الملك يتبعه ... موجٌ ترى فوقه الراياتِ والقَتَرا
{زَيَّلْنَا} فرَّقنا وميّزنا {تُؤْفَكُونَ} تصرفون عن الحق إِلى الباطل.
التفسِير: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} المراد بالناس كفار مكة رُوي أن الله سلّط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدعو لهم بالخصب ووعدوه بالإِيمان فلما رحمهم الله بإنزال المطر رجعوا إلى الكفر والعناد والمعنى: وإذا أذقنا هؤلاء المشركين رخاءً بعد شدة، وخصباً بعد جدب أصابهم {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} قال مجاهد: استهزاءٌ وتكذيب {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً} أي أعجل عقوبة على جزاء مكرهم {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} أي إنَّ الملائكة الحفظة يكتبون مكركم ويسجّلون إجرامكم، وفيه تنبيهٌ على أن ما دبَّروه غير خاف على(1/539)
الحفظة فضلاً عن العليم الخبير {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} أي هو تعالى بقدرته الذي يحملكم في البر على الدواب، وفي البحر على السفن التي تسير على وجه الماء {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} أي حتى إذا كنتم في البحر على ظهور هذه السفن {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} فيه التفات أي وجرين بهم بالريح الليِّنة الطرية التي تسيَّر السفن {وَفَرِحُواْ بِهَا} أي فرح الركاب بتلك الريح الطيبة {جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} أي وفجأةً جاءتها الريح الشديدة العاصفة المدمّرة {وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ} أي وأحاطت بهم أمواج البحار من كل جهة {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي أيقنوا بالهلاك {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي أخلصوا الدعاء لله وتركوا ما كانوا يعبدون، قال القرطبي: وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إِلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافراً، لانقطاع الأسباب، ورجوعه إلى ربّ الأرباب {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي لئن أنقذتنا من هذه الشدائد والأهوال لنكونن من الشاكرين لك على نعمائك، والعاملين بطاعتك ومرضاتك قال في البحر: ومعنى الإِخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام وغيرها وقال الحسن: مخلصين لا إخلاص إيمان ولكن لأجل العلم بأنهم لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جارياً مجرى الإِيمان الاضطراري {فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} أي فلما خلّصهم وأنقذهم إذا هم يعملون في الأرض بالفساد والمعاصي قال ابن عباس: يبغون بالدعاء فيدعون غير الله ويعملون بالمعاصي قال تعالى رداً عليهم {ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} أي وبالُ البغي عليكم، ولا يجني ثمرته إلا أنتم {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} أي تتمتعون في هذه الحياة بالشهوات الفانية، التي تعقبها الحسرات الباقية {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي مرجعكم بعد الموت إلينا فنجازيكم عليها، وفي هذا وعيدً وتهديد.
والآية الكريمة تمثيلٌ لطبيعة الإِنسان الجحود، لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يرجع إليه إلا وقت الكرب والشدة، فإِذا نجّاه الله من الضيق، وكشف عنه الكرب، رجع إلى الكفر والعصيان، وتمادى في الشرِّ والطغيان. ثم ضرب تعالى مثلاً للحياة الدنيا الزائلة الفانية وقصِّر مدة التمتع بها فقال {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} أي صفة الحياة الدنيا وحالها العجيبة في فنائها وزوالها، وذهاب نعيمها واغترار الناس بها كمثل مطر نزل من السماء فنبت به أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض قال ابن عباس: اختلط فنبت بالماء كلُّ لون {مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام} أي مما يأكله الناس من الحبوب والثمار والبقول، والأنعامُ من الكلأ والتبن والشعير {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} أي أخذت حسنها وبهجتها {وازينت} أي تزينت بالحبوب والثمار والأزهار، وهو تمثيلٌ بالعروس إِذا تزينت بالحلي والثياب {وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} أي وظنَّ أصحابها أنهم متمكنون من الانتفاع بها، محصّلون لثمرتها وغلّتها {أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} أي جاءها قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إمّا ليلاً وإمّا نهاراً {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها(1/540)
كالذي حصد بالمناجل {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} أي كأنها لم تكن عامرة قائمة على ظهر الأرض قبل ذلك {كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي مثل ما بينا هذا المثل الرائع للحياة الدنيا نبيّن الآيات ونضرب الأمثال لقوم يتفكرون فيعتبرون بهذه الأمثال قال الألوسي: وتخصيصُهم بالذكر لأنهم المنتفعون {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} أي يدعو إلى الجنة دار السرور والإِقامة {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي يوصل من شاء هدايته إلى الطريق المستقيم وهو دين الإِسلام {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} أي للذين أحسنوا بالإِيمان والعمل الصالح لهم الحسنى أي الجنة {وَزِيَادَةٌ} وهي النظر إلى وجه الله الكريم {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} أي ولا يغشى وجوههم غبار ولا سواد كما يعتري وجوه أهل النار {وَلاَ ذِلَّةٌ} أي هوانٌ وصغار {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي دائمون لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي والذين عملوا السيئات في الدنيا فعصوا الله وكفروا فسيجزون على السيئةِ بمثلها لا يزادون على ذلك، فالحسنات مضاعفة بفضل الله، والسيئات جزاؤها بالمثل عدلاً منه تعالى {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي تغشاهم ذلة وهوان {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي ليس لهم أحد يعصمهم أو يمنعهم من سخط الله تعالى وعقابه {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً} أي كأنما أُلبست وجوههم من فرط السواد والظلمة قطعاً من ظلام الليل {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي لا يخرجون منها أبداً {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي نجمع الفريقين للحساب: المؤمنين والكافرين ثم نقول للذين أشركوا الله {مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ} أي الزموا مكانكم أنتم والذين عبدتموهم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل الله بكم {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي ففرقنا وميزنا بينهم وبين المؤمنين كقوله
{وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [يس: 59] {وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} أي تبرأ منهم الشركاء وهم الأصنام الذين عبدوهم من دون الله قال مجاهد: يُنطق الله الأوثان فتقول: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون وما أمرناكم بعبادتنا كقوله {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166] {فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي تقول الشركاء للمشركين يوم القيامة: حسبنا الله شاهداً بيننا وبينكم {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} أي ما كنا عن عبادتكم لنا إِلا غافلين، لا نسمع ولا نبصر ولا تعقل، لأنا كنا جماداً لا روح فينا {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} أي في ذلك الوقت تُختبر كلُّ نفسٍ بما قدمت من خير أو شر، وتنال جزاء ما عملت {وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الحق} أي ردّوا إلى الله تعالى المتولي جزاءهم بالعدل والقسط {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي ضاع وذهب عنهم ما كانوا يزعمونه م أن الأوثان تشفع لهم، وفي الآية تبكيتٌ شديدٌ للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يُغني عنهم شيئاً {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} في هذه الآيات الأدلةُ على وحدانية الله وربوبيته أي قل يا محمد(1/541)
لهؤلاء المشركين من ينزل لكم الغيث والقطر، ويخرج لكم الزروع والثمار؟ {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار} أي من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم، التي تسمعون وتبصرون بها؟ ومن يستطيع أن يردها لكم إذا أراد الله أن يسلبكموها؟ كقوله
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46] الآية {وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} ؟ أي من يخرج الإِنسان من النطفة، والطير من البيضة، والسنبلة من الحبة، والنبات من الأرض، والمؤمن من الكافر؟ {وَمَن يُدَبِّرُ الأمر} أي ومن يدبّر أمر الخلائق، ويصرِّف شئون الكائنات؟ {فَسَيَقُولُونَ الله} أي فسيقرون بأن فاعل ذلك كلِّه هو الله ربُّ العالمين، إذ لا مجال للمكابرة والعناد لغاية وضوحه {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي قل لهم يا محمد أفلا تخافون عقابه ونقْمته بإِشراككم وعبادتكم غير الله؟ {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق} أي هذا الذي يفعل هذه الأشياء الجليلة هو ربكم الحق، الثابت ربوبيتُه ووحدانيتُه بالبراهين القاطعة {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} استفهام انكاري أي ليس بعد الحق إلا الضلال، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال {فأنى تُصْرَفُونَ} أي فكيف تُصرفون عن عبادة الله، إلى عبادة ما لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت؟ {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي كذلك وجب قضاء الله وحكمه السابق {عَلَى الذين فسقوا} أي على الذين خرجوا عن الطاعة وكفروا وكذبوا {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي لأنهم لا يصدّقون بوحدانية الله ورسالة نبيّه، فلذلك حقت عليهم كلمة العذاب لشقاوتهم وضلالتهم {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي قل لهم يا محمد على جهة التوبيخ والتقريع: هل من الأوثان والأصنام من ينشيء الخلق من العدم ثم يفنيه، ثم يعيده ويحييه؟ قال الطبري: ولما كانوا لا يقدرون على دعوى ذلك، وفيه الحجة القاطعة، والدلالة الواضحة على أنهم في دعوى الأرباب كاذبون مفترون، أُمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالجواب {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي قل لهم يا محمد: الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ويبدأ ويُعيد، وليس أحدٌ من هؤلاء الآلهة المزعومة يفعل ذلك {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تنقلبون وتنصرفون عن الحق إلى الباطل؟ {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} توبيخٌ آخر في صورة استفهام أي قل لهؤلاء المشركين هل من هذه الآلهة التي تعبدونها من يرشد ضالاً؟ أو يهدي حائراً؟ أو يدل على طريق الحق وسبيل الاستقامة؟ {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} أي فقل لهم: إن عجزتْ آلهتكم عن ذلك فالله هو القادر على هداية الضالّ، وإنارة السبيل، وبيان الحق {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} أي أفمن يرشد إِلى الحق وهو سبحانه وتعالى أحقُّ بالاتباع أم هذه الأصنام التي لا تهدي أحداً؟ ولا تستطيع هداية نفسها فضلاً عن هداية غيرها؟ {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي ما لكم أيها المشركون تسوّون بين الأصنام وبين ربّ الأرباب، وتحكمون بهذا الباطل الصُراح؟ وهو استفهام معناه التعجب والإِنكار، ثم بيّن تعالى فساد نحلتهم بعد أن أفحمهم بالبراهين النيرة التي توجب التوحيد وتبطل التقليد فقال {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} أي وما يتبعون في اعتقادهم ألوهية الأصنام، إلا اعتقاداً غير(1/542)
مستند لدليل أو برهان، بل مجرد أوهام باطلة، وخرافات فاسدة {إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} أي ومثل هذا الاعتقاد المبني على الأوهام والخيالات، ظنٌ كاذب لا يغني من اليقين شيئاً، فليس الظنُّ كاليقين {إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي عالمٌ بما هم عليه من الكفر والتكذيب، وهو وعيدٌ على اتباعهم للظنّ، وإعراضهم عن البرهان، ثم بيَّن تعالى صدق النبوة والوحي فقال {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله} أي لا يصح ولا يعقل، ولا يستقيم لذي عقل سليم، أن يزعم أن هذا القرآن مفترى مكذوب على الله، لأنه فوق طاقة البشر {ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ولكنّه جاء مصدقاً لما قبله من الكتب السماوية كالتوراة والإِنجيل {وَتَفْصِيلَ الكتاب} أي وفيه تفصيلُ وتبيينُ الشرائع والعقائد والأحكام {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} أي لا شك في أنه تنزيل ربّ العالمين {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أي بل أيقولون اختلق محمد هذا القرآن من قبل نفسه؟ وهو استفهام معناه التقريع {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} أي إِن كان كما زعمتم فجيئوا بسورةٍ مثل هذا القرآن، وهو تعجيزٌ لهم وإقامة حجة عليهم {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله} أي ادعوا من دونه تعالى من استطعتم من خلقه، من الإِنس والجن للاستعانة بهم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي إن كنتم صادقين في أن محمداً افتراه قال الطبري: والمراد أنك إن لم تفعلوا فلا شك أنكم كذبة، لأن محمداً لن يَعْدو أن يكون بشراً مثلكم، فإذا عجز الجميعُ من الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثلِه، فالواحد منهم أن يأتي بجميعه أعجز، قال تعالى {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} أي بل كذب هؤلاء المشركون بالقرآن العظيم، وساروا إلى الطعن به قبل أن يفقهوه ويتدبروا ما فيه، والناس دائماً أعداء لما جهلوا {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي والحال لم يأتهم بعد عاقبة ما فيه من الوعيد {كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي مثل تكذيب هؤلاء كذبت الأمم الخالية قبلهم {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين} أي فانظر يا محمد كيف أخذهم الله بالعذاب والهلاك بسبب ظلمهم وبغيهم، فكما فعل بأولئك يفعل بهؤلاء الظالمين الطاغين.
البَلاَغَة: 1 - {أَسْرَعُ مَكْراً} تسمية عقوبة اله مكراً من باب «المشاكلة» .
2 - {وَجَرَيْنَ بِهِم} فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وحكمته زيادة التقبيح والتشنيع على الكفار لعدم شكرهم النعمة.
3 - {أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} هذا من بديع الاستعارة شبّه الأرض حينما تتزين بالنبات والأزهار بالعروس التي تتزين بالحليّ والثياب واستعير لتلك البهجة والنضارة لفظ الزخرف.
4 - {أَتَاهَآ أَمْرُنَا} الأمر هاهنا كناية عن العذاب والدمار.
5 - {أَحْسَنُواْ الحسنى} بينهما جناس الإِشتقاق.
6 - {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل} فيه تشبيه مرسلٌ مجمل.
7 - {يَبْدَأُ ... ثُمَّ يُعِيدُهُ} بينهما طباقٌ.
8 - {فأنى تُؤْفَكُونَ} الاستفهام للتوبيخ، ومثله {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .(1/543)
9 - {بَيْنَ يَدَيْهِ} استعارة لطيفة والمراد لما سبقه من التوراة والإِنجيل فإِنها قد بشرت به.
لطيفَة: يقول شهيد الإِسلام «سيد قطب» في تفسيره الظلال: «ما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزقٍ بعد رزق في السماء والأرض، يستخدمونه أحياناً في الخير، ويستخدمونه أحياناً في الشر، حسبما تَسْلَم عقائدهم أو تعتل، وكلُّه من رزق الله المسخّر للإِنسان، فمن سطح الأرض أرزاق، ومن جوفها أرزاق، ومن سطح الماء أرزاق، ومن أعماقه أرزاق، ومن أشعة الشمس أرزاق، ومن ضوء القمر أرزاق، حتى عفن الأرض كشف فيه العلم عن دواء وترياق» وصدق الله {مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} ؟(1/544)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
المنَاسَبَة: لما حكى تعالى عن الكافرين طعنهم في أمر النبوة والوحي، ذكر هنا أنَّ منهم من يصدِّق بأن القرآن كلام الرحمن، ولكنه يكابر ويعاند، ومنهم من لا يصدّق به أصلاً لفرط غباوته، وسخافة عقله، واختلال تمييزه ... ثم ذكر تعالى أن القرآن شفاء لما في الصدور، وأعقبه بذكر مآل المشركين في الآخرة.
اللغَة: {الصم} جمع أصمّ وهو الذي لا يسمع {بَيَاتاً} ليلاً {تُفِيضُونَ} يقال أفاض فلانٌ في الحديث إذا اندفع فيه {يَعْزُبُ} يخْفى ويغيب {مِّثْقَالِ} وزن {سُلْطَانٍ} حجة وبرهان {سُبْحَانَهُ} تنزيهٌ لله جل وعلا عن النقائص.
التفسِير: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} أي ومن هؤلاء الذين بعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أُرسلت به {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} بل يموت على ذلك ويُبعث عليه {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي وإن كذَّبك هؤلاء المشركون فقل لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً {أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} أي يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وقلوبهم لا تعي شيئاً مما تقرؤه وتتلوه {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} ؟ أي أنت يا محمد لا تقدر أن تسمع من سلبه الله السمع {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي ولو كانوا من الصمم لا يعقلون ولا يتدبرون؟ قال ابن كثير: المعنى ومن هؤلاء من يسمعون كلام الحسن، والقرآن النافع، ولكنْ(1/545)
ليس أمر هدايتهم إليك، فكما لا تقدر على إسماع الأصم فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} أي ومن هؤلاء من ينظر إليك ويعاين دلائل نبوتك الواضحة، ولكنّهم عميٌ لا ينتفعون بما رأوا، أفأنت يا محمد تقدر على هدايتهم ولو كانوا عُمي القلوب؟ شبّههم بالعُمْي لتعاميهم عن الحق، قال القرطبي: والمراد تسلية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي كما لا تقدر أن تخلق للأعمى بصراً يهتدي به، فكذلك لا تقدر أن توفّق هؤلاء للإِيمان {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً} أي لا يعاقب أحداً بدون ذنب، ولا يفعل بخلقه ما لا يستحقون {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والمعاصي ومخالفة أمر الله قال الطبري: وهذا إعلامٌ من الله بأنه لم يسلب هؤلاء الإِيمان ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم، وإنما سلبهم ذلك لذنوب اكتسبوها، فحقَّ عليهم أن يطبع الله على قلوبهم {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار} أي اذكر يوم نجمع هؤلاء المشركين للحساب كأنهم ما أقاموا في الدنيا إلاّ ساعة من النهار، لهول ما يرون من الأهوال {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} أي يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا في الدنيا، وهو تعارف توبيخ وافتضاح، يقول الواحد للآخر: أنت أغويتني وأضللتني، وليس تعارف محبة ومودّة {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} أي لقد خسر حقاً هؤلاء الظالمون الذين كذبوا بالبعث والنشور، وما كانوا موفَّقين للخير في هذه الحياة {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي إن أريناك يا محمد بعض عذابهم في الدنيا لتقرَّ عينك منهم فذاك، وإن توفيناك قبل ذلك فمرجعهم إلينا في الآخرة، ولا بدَّ من الجزاء إن عاجلاً أو آجلاً {ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} أي هو سبحانه شاهدٌ على أفعالهم وإجرامهم ومعاقبهم على ما اقترفوا {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} أي ولكل أمة من الأمم رسولٌ أُرسل لهدايتهم {فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط} قال مجاهد: يعني يوم القيامة قُضِي بينهم بالعدل قال ابن كثير: فكلُّ أمة تُعرض على الله بحضرة رسولها، وكتابُ أعمالها من خير وشر شاهدٌ عليها، وحفظتُهم من الملائكة شهود أيضاً {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي لا يُعذبون بغير ذنب {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول كفار مكة متى هذا العذاب الذي تعدنا به إن كنت صادقاً؟ وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} أي لا استطيع أن أدفع عن نفسي ضراً، ولا أجلب إليها نفعاً، وليس ذلك لي ولا لغيري {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أي إِلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم به من العذاب! {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي لكل أمة وقتٌ معلوم لهلاكهم وعذابهم {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي فإِذا جاء أجل هلاكهم فلا يمكنهم أن يستأخروا عنه ساعة فيمهلون ويؤخرون، ولا يستقدمون قبل ذلك لأن قضاء الله واقع في حينه {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً}(1/546)
أي قل لأولئك المكذبين أخبروني إن جاءكم عذاب الله ليلاً أو نهاراً فما نفعكم فيه؟ {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} استفهام معناه التهويل والتعظيم أي ما أعظم ما يستعجلون به؟ كما يقال لمن يطلب أمراً وخيماً: ماذا تجني على نفسك {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} في الكلام حذفٌ تقديره: أتؤخرون إلى أن تؤمنوا بها وإذا وقع العذاب وعاينتموه فما فائدة الإِيمان وما نفعكم فيه، إذا كان الإِيمان لا ينفع حينذاك، قال الطبري: المعنى أهنالك إذا وقع عذاب الله بكم أيها المشركون صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيه التصديق {الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي يقال لكم أيها المجرمون: الآن تؤمنون وقد كنتم قبله تهزءون وتسخرون وتستعجلون نزول العذاب؟ {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد} أي ذوقوا العذاب الدائم الذي لا زوال له ولا فناء {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي هل تُجزون إلا جزاء كفركم وتكذيبكم؟ {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} أي ويستخبرونك يا محمد فيقولون: أحقٌ ما وعدتنا به من العذاب والبعث؟ {قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} أي قل نعم والله إنه كائن لا شك فيه {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي لستم بمعجزين الله بهربٍ أو امتناع من العذاب بل أنتم في قبضته وسلطانه {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض} أي لو أن لكل نفسٍ كافرةٍ ما في الدنيا جميعاً من خزائنها وأموالها، ومنافعها قاطبة {لاَفْتَدَتْ بِهِ} أي لدفعته فدية لها من عذاب الله ولكنْ هيهات أن يُقبل كما قال تعالى
{فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ} [آل عمران: 91] ثم قال تعالى مخبراً عن أسفهم وندمهم {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي أخفى هؤلاء الظلمة الندم لما عاينوا العذاب قال الإِمام الجلال: أي أخفاها رؤساؤهم عن الضعفاء الذين أضلوهم مخافة التعبير {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط} أي قُضي بين الخلائق بالعدل {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً، ولا يُعاقبون إلا بجريرتهم {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} «أَلاَ» كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام أي انتبهوا لما أقول لكم فكل ما في السماوات والأرض ملكٌ لله، لا شيء فيها لأحدٍ سواه، هو الخالق وهو المالك {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي إن وعده بالبعث والجزاء حقٌ كائن لا محالة {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ولكنَّ أكثر الناس لقصور عقولهم، واستيلاء الغفلة عليهم، لا يعلمون ذلك فيقولون ما يقولون {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي هو سبحانه المحيي والمميتُ، وإِليه مرجعكم في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم {ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} خطابٌ لجميع البشر أي قد جاءكم هذا القرآن العظيم الذي هو موعظةٌ لكم من خالقكم {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور} أي يشفي ما فيها من الشك والجهل {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي وهداية من الضلال ورحمة لأهل الإِيمان قال صاحب الكشاف: المعنى قد جاءكم كتابٌ جامعٌ لهذه الفوائد العظيمة من الموعظة، والتنبيه على(1/547)
التوحيد، ودواء الصدور من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق، ورحمة لمن آمن به منكم {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} قال ابن عباس: فضل الله القرآن، ورحمته الإِسلام والمعنى: ليفرحوا بهذا الذي جاءهم من الله، من القرآن والإِسلام، فإِنه أولى ما يفرحون به {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أي هو خيرٌ مما يجمعون من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية، والنعيم الزائل، فإِن الدنيا بما فيها لا تساوي جناح بعوضة كما ورد به الحديث الشريف {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} خطابٌ لكفار العرب والمعنى: أخبروني أيها المشركون عما خلقه الله لكم من الرزق الحلال {فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} أي فحرَّمتم بعضه وحلَّلتم بعضه كالبحيرة، والسائبة، والميتة قال ابن عباس: نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب، والحرث والأنعام {قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} أي قل لهم يا محمد أخبروني: أحصل إذنٌ من الله لكم بالتحليل والتحريم، فأنتم فيه ممتثلون لأمره، أم هو مجرد افتراء وبهتان على ذي العزة والجلال؟ {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب يَوْمَ القيامة} أي وما ظنُّ هؤلاء الذين يتخرصون على الله الكذب فيحلون ويحرمون من تلقاء أنفسهم، أيحسبون أن الله يصفح عنهم ويغفر يوم القيامة؟ كلاَّ بل سيصليهم سعيراً، وهو وعيدٌ شديد للمفترين {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} أي لذو إنعام عظيم على العباد حيث رحمهم بترك معاجلة العذاب، وبالإِنعام عليهم ببعثة الرسل وإنزال الكتب {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون النعم بل يجحدون ويكفرون {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} الخطابُ للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي ما تكون يا محمد في أمر من الأمور، ولا عملٍ من الأعمال {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ} أي وما تقرأ من كتاب الله شيئاً من القرآن {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} أي ولا تعملون أيها الناس من خير أو شر {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي إلا كنا شاهدين رقباء، نحصي عليكم أعمالكم حين تندفعون وتخوضون فيها {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} أي ما يغيب ولا يخفى على الله {مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} أي من وزن هباءة أو نملة صغيرة في سائر الكائنات أو الموجودات {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها إلا وهو معلوم لدينا ومسجَّل في اللوح المحفوظ قال الطبري: والآية خبرٌ منه تعالى أنه لا يخفى عليه أصغر الأشياء وإن خفَّ في الوزن، ولا أكبرها وإن عظم في الوزن، فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربكم، فإنّا محصوها عليكم ومجازوكم بها {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أي انتبهوا أيها الناس واعلموا أن أحباب الله وأولياءه لا خوف عليهم في الآخرة من عذاب الله، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا، ثم بيّن تعالى هؤلاء الأولياء فقال {الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي الذين صدّقوا الله ورسوله، وكانوا يتقون ربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فالوليُّ هو المؤمن التقيُّ وفي الحديث
«إن لله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداءَ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا أخبرنا من هم؟ وما أعمالهم؟ فلعلَّنا نحبُّهم، قال: هم قومٌ تحابّوا(1/548)
في الله، على غير أرحامٍ بيْنهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى منابرَ من نور، لا يخافون إذا خاف الناسُ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ {ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله ... .} »
{لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} أي لهم ما يسرهم في الدارين، حيث تبشرهم الملائكة عند الاحتضار برضوان الله ورحمته، وفي الآخرة بجنان النعيم والفوز العظيم كقوله {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} أي لا إخلاف لوعده {ذلك هُوَ الفوز العظيم} أي هو الفوز الذي لا فوز وراءه، والظفر بالمقصود الذي لا يُضاهى {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} أي لا يحزنك ولا يؤلمك يا محمد تكذيبهم لك وقولهم: لستَ نبياً مرسلاً، ثم ابتدأ تعالى فقال {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} أي القوة الكاملة، والغلبة الشاملة، لله وحده، فهو ناصرك ومانعك ومعينك، وهو المنفرد بالعزّة يمنحها أولياءه، ويمنعها أعداءه {هُوَ السميع العليم} أي السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم {ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} أي الجميع له سبحانه عبيداً وملكاً وخلقاً {وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَآءَ} أي وما يتبع هؤلاء المشركون الذين يعبدون غير الله آلهة على الحقيقة، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع، وهي لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} أي ما يتبعون إلا ظناً باطلاً {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] أي يَحدْسون ويكذبون، يظنون الأوهام حقائق {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} تنبيهٌ على القدرة الكاملة والمعنى من دلائل قدرته الدالة على وحدانيته، أن جعل لكم أيها الناس الليل راحةً لأبدانكم تستريحون فيه من التعب والنصب في طلب المعاش {والنهار مُبْصِراً} أي وجعل النهار مضيئاً تبصرون فيه الأشياء لتهتدوا إلى حوائجكم ومكاسبكم {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي لعلامات ودلالات على وحدانيَّة الله، لقوم يسمعون سمع اعتبار، ثم نبّه تعالى على ضلال اليهود والنصارى والمشركين فقال {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} أي نسب اليهود والنصارى لله ولداً فقالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، كما قال كفار مكة: الملائكة بناتُ الله {سُبْحَانَهُ هُوَ الغني} أي تنزَّه الله وتقدّس عما نسبوا إليه فإِنه المستغني عن جميع الخلق، فإن اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه، والله تعالى غير محتاج إلى شيء، فالولد منتفٍ عنه {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي الجميع خلقه وملكه {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ} أي ما عندكم من حجة بهذا القول {أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أتفترون على الله وتكذبون بنسبه الشريك والولد؟ وهو توبيخ وتقريع على جهلهم.
{قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} أي كل من كذب على الله لا يفوز ولا ينجح {مَتَاعٌ فِي الدنيا} أي متاعٌ قليل في الدنيا يتمتعون به مدة حياتهم {ثُمَّ إِلَيْنَا(1/549)
مَرْجِعُهُمْ} أي ثم معادهم ورجوعهم إلينا للجزاء والحساب {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي ثم في الآخرة نذيقهم العذاب الموجع الأليم بسبب كفرهم وكذبهم على الله.
البَلاَغَة: 1 - {مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ... . ومَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} بينهما طباقٌ السلب.
2 - {تُسْمِعُ الصم ... تَهْدِي العمي} الصُّمُ والعميُ مجازٌ عن الكافرين شبههم بالصُّم والعمي لتعاميهم عن الحق.
3 - {ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} بينهما طباقٌ وكذلك بين {بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً} وبين {يُحْيِي وَيُمِيتُ} وبين {يَسْتَقْدِمُونَ ... ويَسْتَأْخِرُونَ} .
4 - {شِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور} مجاز مرسل أطلق المحلَّ وأراد الحالَّ أي شفاءٌ للقلوب لأن الصدور محلُّ القلوب.
5 - {حَرَاماً وَحَلاَلاً} بينهما طباق.
6 - {والنهار مُبْصِراً} قال في تلخيص البيان: هذه استعارة عجيبة، سمّى النهار مبصراً لأن الناس يبصرون فيه، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له على طريق المبالغة كما قالوا: ليلٌ أعمى وليلةٌ عمياء إذا لم يبصر الناس فيها شيئاً لشدة إظلامها.
7 - {أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} استفهام توبيخ وتقريع.
فَائِدَة: أمر تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم في هذه السورة {قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} وفي سورة سبأ {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} {زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [الآية: 7] ذكره ابن كثير.
تنبيه: كلمة «أرأيتَ» تستعمل بمعنى الاستفهام عن الرؤية البصرية، أو العلمية، وهذا أصل وضعها ثم استعملت بمعنى «أخبرني» فيقولون: أرأيت ذلك الأمر أي أخبرني عنه، والرؤية إما بصرية أو علمية والتقدير: أأبصرت حالته العجيبة، أو أعرفت أمره العجيب؟ فأخبرني عنها، ولذا لم تستعمل في غير الأمر العجيب، {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين} ؟ {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} [العلق: 9 - 10] ؟ وهكذا.(1/550)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته، وذكر ما جرى بين الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكفار مكة، ذكر هنا بعض قصص الأنبياء، تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليتأسى بهم فيهون عليه ما يلقاه من الشدائد والمكاره، وقد ذكر تعالى هنا ثلاث قصص: 1 - قصة نوح عليه السلام مع قومه 2 - قصة موسى وهارون مع الطاغية فرعون 3 - قصة يونس مع قومه، وفي كل قصة عبرةٌ لمن اعتبر، وذكرى لمن تدبر.
اللغَة: {كَبِرَ} قال الواحدي: كَبِرَ يكْبَرُ كِبَراً في السنِّ، وكبُر الأمرُ والشيءُ يكبُرُ كُبْراً وكُبَارةً إِذا عَظُم {غُمَّةً} الإِجماع: الإِعداد والعزيمة على الأمر وأنشد الفراء:
يا ليتَ شعري والمُنَى لا ينفعُ ... هلْ أغدْونْ يوماً وأمري مُجْمعُ
{فأجمعوا} مبهماً من قولهم غُمَّ علينا الهلال فهو مغموم إذا التبس واستتر قال طَرفة:
لعمرك ما أمري عليَّ بِغُمَّةٍ ... نهاري ولا ليلي عليَّ بسَرْمَد
{نَطْبَعُ} نختم {تَلْفِتَنَا} تصرفنا وتلوينا واللفت: الصرف عن أمر وأصله الليُّ يقال لفت عنقه إِذا لواها {الكبريآء} العظمة والملك والسلطان {عَالٍ} عاتٍ متكبر {المسرفين} المجاوزين الحد(1/551)
في الضلال والطغيان {اطمس} الطمسُ: المسخ قال الزجاج: طمسُ إِذهابه عن صورته ومنه عينٌ مطموسة.
التفسِير: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} أي اقرأ يا محمد على المشركين من أهل مكة خبر أخيك نوحٍ مع قومه المكذبين {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ} أي حين قال لقومه الجاحدين المعاندين يا قوم إِن كان عظمُ وشقَّ عليكم {مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله} أي طولُ مقامي ولبثي فيكم، وتخويفي إِياكم بآيات ربكم، وعزمتم على قتلي طردي {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} أي على الله وحده اعتمدت، وبه وثقت فلا أبالي بكم {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} أي فاعزموا أمركم وادعوا شركاءكم، ودبّروا ما تريدون لمكيدتي {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي لا يكن أمركم في شأني مستوراً بل مكشوفاً مشهوراً، {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} أي أَنْفذوا ما تريدونه في أمري ولا تؤخروني ساعة واحدة، قال أبو السعود: وإِنما خاطبهم بذلك إِظهاراً لعدم المبالاة، وثقةً بالل وبوعده من عصمته وكلاءته {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ} أي فإِن أعرضتم عن نصيحتي وتذكيري فليس لأني طلبت منكم أجراص حتى تمتنعوا، بل لشقاوتكم وضلالكم {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} أي ما أطلب ثواباً أو جزاءً على تبليغ الرسالة إِلا من الله، وما نصحتكم إلا لوجه الله لا لغرضٍ من أغراض الدنيا {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} أي من الموحدين لله تعالى {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك} أي فأصروا واستمروا على تكذيب نوح فنجيناه ومن معه من المؤمنين في السفينة {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} أي جعلنا من معه من المؤمنين سكان الأرض وخلفاً ممن غرق {وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي أغرقنا المكذبين بالطوفان {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} أي انظر يا محمد كيف كان نهاية المكذبين لرسلهم؟ والغرض: تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتحذير لكفار مكة أن يحل بهم ما حلَّ بالسابقين {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} أي أرسلنا من بعد نوح رسلاً إِلى قومهم يعني هوداً وصالحاً ولوطاً وإِبراهيم وشعيباً {فَجَآءُوهُمْ بالبينات} أي بالمعجزات الواضحات {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي ما كانوا ليصدقوا بما جاءتهم به الرسل، ولم يزجرهم عقاب السابقين {كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين} أي كذلك نختم على قلوب المجاوزين الحدَّ في الكفر والتكذيب والعناد {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي بعثنا من بعد أولئك الرسل والأمم موسى وهارون إِلى فرعون وأشراف قومه {بِآيَاتِنَا} أي بالبراهين والمعجزات الباهرة، وهي الآيات التسع المذكورة في سورة الأعراف
{فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: 133] أي تكبروا عن الإِيمان بها وكانوا مفسدين، تعوّدوا الإِجرام وارتكاب الذنوب العظام {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي فلما وضح لهم الحق الذي جاءهم به موسى من اليد والعصا قالوا لفرط عتوهم وعنادهم: هذا سحرٌ ظاهرٌ بيِّن أراد به موسى أن يسحرنا {قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ} الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أتقولون عن هذا الحق إِنه سحرٌ؟ ثم أنكر عليهم أيضاً باستفهام آخر {أَسِحْرٌ هذا} أي أسحرٌ هذا الذي جئتكم به؟ {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} أي والحال أنه لا(1/552)
يفوز ولا ينجح الساحرون {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أي أجئتنا لتصرفنا وتلوينا عن دون الآباء والأجداد؟ {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض} أي يكون لك ولأخيك هارون العظمة والملك والسلطان في أرض مصر {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي ولسنا بمصدقين لكما فيما جئتما به {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} أي ائتوني بكل ساحر ماهر، عليمٍ بفنون السحر {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} في الكلام محذوف تقديره فأتوه بالسحرة فلما جاءوا قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون من حبالكم وعصيكم {فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} أي ما جئتم به الآن هو السحرُ لا ما اتهمتموني به {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} أي سيمحقه وسيذهب به ويظهر بطلانه للناس {إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي لا يصلح عمل من سعى بالفساد {وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ} أي يثبت الله الحق ويقوّيه بحججه وبراهينه {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} أي ولو كره ذلك الفجرة الكافرون {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} أي فما آمن مع موسى ولا دخل في دينه، مع مشاهدة تلك الآيات الباهرة إِلا نفرٌ قليلٌ من أولاد بني إِسرائيل قال مجاهد: هم أولاد الذين أُرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم {على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} أي على تخوف وحذر من فرعون وملأه أن يعذبهم ويصرفهم عن دينهم {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض} أي عاتٍ متكبر مفسد في الأرض {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} أي المتجاوزين الحدَّ بادعاء الربوبية {وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله} أي قال لقومه لما رأى تخوف المؤمنين من فرعون يا قوم إِن كنتم صدقتم بالله وبآياته {فَعَلَيْهِ توكلوا} أي على الله وحده اعتمدوا فإِنه يكفيكم كل شرٍّ وضُرّ {إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} أي إِن كنتم مستسلمين لحكم الله منقادين لشرعه {فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا} أي أجابوا قائلين: على ربنا اعتمدنا وبه وثقنا {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} أي لا تسلّطهم علينا حتى يعذبونا ويفتتنوا بنا فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} أي خلِّصنا وأنقذنا بفضلك وإِنعامك من كيد فرعون وأنصاره الجاحدين {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} أي اتخذا لهم بيوتاً للصلاة والعبادة {واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} اي اجعلوها مصلّى تصلون فيها عند الخوف قال ابن عباس: كانوا خائفين فأمروا أن يصلّوا في بيوتهم {وَأَقِيمُواْ الصلاة} أي أدوا الصلاة المفروضة في أوقاتها، بشروطها وأركانها على الوجه الأكمل {وَبَشِّرِ المؤمنين} أي بشّر يا موسى أتباعك المؤمنين بالنصر والغلبة على عدوهم {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا} أي قال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم، زينةً من متاع الدنيا وأثاثها، وأنواعاً كثيرة من المال {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} اللام لامُ العاقبة أي آتيتهم تلك الأموال الكثيرة لتكون عاقبة أمرهم إِضلال الناس عن(1/553)
دينك، ومنعهم عن طاعتك وتوحيدك {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ} دعاءٌ عليهم أي أهلكْ أموالهم يا ألله وبدِّدْها {واشدد على قُلُوبِهِمْ} أي قسِّ قلوبهم واطبع عليها حتى لا تنشرح للإِيمان قال ابن عباس: أي امنعهم الإِيمان {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} دعاءٌ عليهم بلفظ النفي أي اللهمَّ فلا يؤمنوا حتى يذوقوا العذاب المؤلم ويوقنوا به حيث لا ينفعهم ذلك، وإِنما دعا عليهم موسى لطغيانهم وشدة ضلالهم، وقد علم بطريق الوحي أنهم لن يؤمنوا فدعا عليهم قال ابن عباس: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن فنسبت الدعوة إِليهما {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} أي قال تعالى قد استجبتُ دعوتكما على فرعون وأشراف قومه {فاستقيما} أي اثبتا على ما أنتم عليه من الدعوة إِلى الله وإِلزام الحجة {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا تسلكا سبيل الجهلة في الاستعجال أو عدم الاطمئنان بوعد الله تعالى، قال الطبري: رُوي أنه مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة ثم أغرق الله فرعون.
البَلاَغَة: 1 - {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} تقديم ما حقه التأخير لإِفاده الحصر أي على الله لا على غيره.
2 - {وَيُحِقُّ الحق} بينهما جناس الاشتقاق.
3 - {لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} عبَّر عن الالتباس والستر بالغُمة بطريق الاستعارة أي لا يكن أمركم مغطّى تغطية حيرة ومبهما فيكون كالغمة العمياء.
4 - {واشدد على قُلُوبِهِمْ} الشدُّ استعارةٌ عن تغليظ العقاب، ومضاعفة العذاب.
تنبيه: قال ابن كثير: دعوة موسى على فرعون كانت غضباً لله ولدينه كما دعا نوح على قومه فقال {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} [نوح: 26 - 27] ولهذا استجاب الله لموسى دعوته التي شاركه فيها أخوه هارون، كما استجاب دعوة نوح عليه السلام.(1/554)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
المنََاسَبةَ: لّما ذكر تعالى دعاء موسى على فرعون لطغيانه، ذكر هنا ما حدث لفرعون وجنوده من الإِغراق في البحر نتيجة البغي والعدوان، وأن إِيمانه لم ينفعه لأنه إِيمان المضطر، ثم ذكر قصة يونس وتوبة الله تعالى على قومه، وختم السورة الكريمة ببيان حقيقة التوحيد، وأن الإِنسان لا ينجيه عند الله إِلا الإِيمان.
اللغَة: {بَوَّأْنَا} أنزلنا وأسكنّا {الممترين} الشاكّين، امترى: شكَّ وارتاب {فَلَوْلاَ} لولا للتحضيض بمعنى هلاّ {الرجس} العذاب أو السخط {حَنِيفاً} مائلاً عن الأديان الباطلة كلِّها {يَمْسَسْكَ} يصبك {كَاشِفَ} دافع ومزيل يقال: كشف السوء أي أزاله {بِوَكِيلٍ} بحفيظ موكول إِليَّ أمركم.
التفسِير: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر} أي قطعنا وعدَّينا ببني إِسرائيل البحر «بحر السويس» حتى جاوزوه {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً} أي لحقهم فرعونُ مع جنوده ظلماً وعدواناً وطلباً للاستعلاء بغير حق {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق} أي حتى إِذا أحاط به الغرق وأيقن بالهلاك {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} أي قال عندئذٍ أقررتُ وصدقتُ بأنه لا إِله إِلا اللهُ ربُّ العالمين، الذي آمنت وأقرت به بنو إِسرائيل {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} تأكيدٌ لدعوى الإِيمان أي وأنا ممَّن(1/555)
أسلم نفسه لله، وأخلص في إِيمانه قال ابن عباس: جعل جبريل عليه السلام في فم فرعون الطين مخافة أن تدركه الرحمة {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} أي الآن تؤمن حين يئست من الحياة، وقد عصيت الله قبل نزول نقمته بك، وكنتَ من الغالين في الضلال والإِضلال والصدِّ عن دين الله؟ {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} أي فاليوم نخرجك من البحر بجسدك الذي لا روح فيه {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} أي لتكون عبرةً لمن بعدك من الناس، ومن الجبابرة والفراعنة، حتى لا يطغوا مثل طغيانك قال ابن عباس: إِن بعض بني إِسرائيل شكّوا في موت فرعون، فأمر الله البحر أن يلقيه بجسده سوياً بلا روح ليتحققوا موته وهلاكه {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} أي معرضون عن تأمل آياتنا لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي أنزلنا وأسكنا بني إِسرائيل بعد إِهلاك أعدائهم منزلاً صالحاً مرضياً {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} أي اللذائذ الطيبة النافعة {فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي فما اختلفوا في أمر الدين إِلا من بعد ما جاءهم العلم وهو التوراة التي فيها حكم الله، وهذا ذمٌ لهم لأن اختلافهم كان بسبب الدين، والدينُ يجمع ولا يفرّق، ويوحّد ولا يشتت وقال الطبري: كانوا قبل أن يُبعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مجمعين على نبوته، والإِقرار بمبعثه، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم، وآمن البعض، فذلك اختلافهم {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} هذا على سبيل الفرض والتقدير: أي إِن فرض أنك شككت فاسأل قال ابن عباس: لم يشك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يسأل وقال الزمخشري: هذا على الفرض والتمثيل كأنه قيل: فإِن وقع شكٌ مثلاً، وخيَّل لك الشيطان خيالاً تقديراً فسل علماء أهل الكتاب، وفرقٌ عظيم بين قوله
{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت: 45] بإِثبات الشك على سبيل التأكيد والتحقيق وبين قوله {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} بمعنى الفرض والتمثيل وقال بعضهم: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد غيره {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} أي اسأل أهل الكتاب الذين يعرفون التوراة والإِنجيل، فإِن ذلك محقَّق عندهم كما قصصنا عليك، والغرضُ دفع الشك عن قصص القرآن {لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ} أي جاءك يا محمد البيانُ الحق، والخبر الصادق، الذي لا يعتريه شك {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي فلا تكن من الشاكين المرتابين {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} أي لا تكذّبْ بشيءٍ من آيات الله {فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين} أي فتصبح ممن خسر دنياه وآخرته، قال البيضاوي: وهذا من باب التهييج والتثبيت وقطع أطماع المشركين عنه وقال القرطبي: الخطابُ في هاتين الآيتين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد غيره {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} أي وجبت عليهم كلمة العذاب بإِرادة الله الأزلية {لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} أي لا يصدقون ولا يؤمنون أبداً ولو جاءتهم البراهين والمعجزات {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} أي فحينئذٍ يؤمنون كما آمن فرعون ولكن لا ينفعهم الإِيمان {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ(1/556)
إِيمَانُهَا} أي فهلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها، ثابتْ عن الكفر وأخلصت الإِيمان عند معاينة العذاب فنفعها إِيمانها في ذلك الوقت {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} أي غير قوم يونس {لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا} أي لما تابوا عن الكفر وآمنوا بالله رفعنا عنهم العذاب المخزي المهين في الحياة الدنيا {وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} أي أخرناهم إِلى انتهاء آجالهم قال قتادة: روي أن يونس أنذرهم بالعذاب ثم خرج من بين أظهرهم، فلما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المُسُوح، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم، والتوبة والندم على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} أي لو أراد الله لآمن الناس جميعاً، ولكنْ لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للحكمة، فإِنه تعالى يريد من عباده إِيمان الاختيار، لا إِيمان الإِكراه والاضطرار {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} ؟ أي أفأنت يا محمد تُكره الناس على الإِيمان، وتضطرهم إِلى الدخول في دينك؟ ليس ذلك إِليك، والآية تسليةٌ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وترويحٌ لقلبه مما كان يحرص عليه من إِيمانهم قال ابن عباس: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حريصاً على إِيمان جميع الناس، فأخبره تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبقت له السعادة في الذكّر الأول، ولا يضلُّ إِلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي ما كان لأحدٍ أن يؤمن إِلا بإِرادته تعالى وتوفيقه {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} أي ويجعل العذاب على الذين لا يتدبرون آيات الله، ولا يستعملون عقولهم فيما ينفع {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار: انظروا نظر تفكر واعتبار، ما الذي في السماوات والأرض من الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته سبحانه؟ {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} أي وما تنفع الآيات والإِنذارات قوماً سبق لهم من الله الشقاء {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} أي فهل ينتظر مشركو مكة إِلا مثل أيام أسلافهم، وما حلَّ بهم من العذاب والنكال؟ {قُلْ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} أي قل لهم يا محمد: انتظروا عاقبة البغي والتكذيب إِني من المنتظرين هلاككم ودماركم {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ كَذَلِكَ} أي ثم إِذا نزل العذاب بالمكذبين نُنجّي الرسل والمؤمنين إنجاءً مثل ذلك الإِنجاء {حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} أي حقاً ثابتاً علينا من غير شك قال الربيع بن أنس: خوَّفهم عذابه ونقمته، ثم أخبرهم أنه إِذا وقع من ذلك أمرٌ أنجى الله رسله والذين آمنوا معه {قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك إِن كنتم في شك من حقيقة ديني وصحته {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي فلا أعبد ما تعبدون من الأوثان والأصنام التي لا تنفع ولا تضر {ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} أي ولكني أعبد الله الذي يتوفاكم، وبيده محياكم ومماتكم، قال الطبري: وهذا تعريضٌ ولحنٌ من الكلام لطيف، وكأنه يقول: لا ينبغي لكم أن تشكّوا في ديني، وإِنما ينبغي أن تشكّوا في عبادة الأصنام التي لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، فأما إِلهي الذي أعبده فهو الذي يقبض الخلق وينفع(1/557)
ويضر {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي وأنا مأمور بأن أكون مؤمناً موحّداً لله لا أشرك معه غيره {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أي وأمرتُ بالاستقامة في الدين، على الحنيفية السمحة ملةِ إِبراهيم {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} أي ولا تكوننَّ ممن يشرك في عبادة ربه {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} تأكيدٌ للنهي المذكور أي ولا تعبدْ غير الله ممّا لا ينفع ولا يضر كالآلهة والأصنام {فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين} أي فإِن عبدتَ تلك الآلهة المزعومة كنت ممن ظلم نفسه لأنك عرضتها لعذاب الله، والخطابُ هنا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد غيره كما تقدم {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} أي وإِن أراد الله إِصابتك بضرُ فلا دافع له إِلا هو وحده {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} أي وإِن أراد إِصابتك بنعمة أو رخاء فلا يمنعه عنك مانع {يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي يصيب بهذا الفضل والإِحسان من شاء من العباد {وَهُوَ الغفور الرحيم} أي هو سبحانه الغفور لذنوب العباد، الرحيم بأهل الرشاد {قُلْ ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ} أي جاءكم القرآن العظيم المشتمل على محاسن الأحكام {فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي من اهتدى بالإِيمان فمنفعة اهتدائه لها خاصة {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي ومن ضلَّ بالكفر والإِعراض فوبال الضلال مقصور عليها {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي ولست بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم إِنما أنا بشيرٌ ونذير {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ} أي اتّبعْ يا محمد في جميع شئونك ما يوحيه إِليك ربك {واصبر حتى يَحْكُمَ الله} أي اصبر على ما يعتريك من مشاقّ التبليغ حتى يقضي الله بينك وبينهم {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} أي هو سبحانه خير من يفصل في الحكومة، والآية تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعيدٌ للمشركين.
البَلاَغة: 1 - {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} الاستفهام للتوبيخ والإِنكار.
2 - {بَوَّأْنَا ... مُبَوَّأَ} يبنهما جناس الاشتقاق.
3 - {كَلِمَتُ رَبِّكَ} كناية عن القضاء والحكم الأزلي بالشقاوة.
4 - {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} صيغة المضارع حكاية عن الماضي لتهويل أمرها باستحضار صورتها.
5 - {مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} بينهما طباق.
6 - {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ ... وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} بين الجملتين مقابلة لطيفة وهي من المحسنات البديعية.
7 - {فَمَنِ اهتدى ... وَمَن ضَلَّ} بينهما طباقٌ.
8 - {يَحْكُمَ الله ... الحاكمين} بينهما جناس الاشتقاق.
فَائِدَة: قال الإِمام الفخر: آمن فرعون ثلاث مرات: أولها قوله {آمَنتُ} وثانيها قوله {لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} وثالثها قوله {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} فما السبب في عدم قبول إِيمانه؟ والجواب: أنه إِنما آمن عند نزول العذاب، والإِيمانُ في هذا الوقت غير مقبول،(1/558)
لأنه يصير الحال حال الإِلجاء فلا ينفع التوبة ولا الإِيمان قال تعالى {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] .
تنبيه: قال المفسرون: إِنما نجّى الله بدن فرعون بعد الغرق، لأن قوماً اعتقدوا فيه الإِلهية، وزعموا أن مثله لا يموت، فأراد الله أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة، ليتحققوا موته، ويعرفوا أن الذي كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة قد آل أمره إِلى الذل والهوان، فيكون عبرة للخلق، وزجراً لأهل الطغيان.(1/559)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
اللغة: {أُحْكِمَتْ} الإِحكام: المنعُ من الفساد يقال: أحكم الأمر إِذا أتى به على وجه لا يتطرأ إِليه خلل أو فساد {مُسْتَقَرَّهَا} المكان الذي تأوي إليه في الدنيا {مُسْتَوْدَعَهَا} المكان الذي تصير إِليه بعد الموت {أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} الأمة هنا بمعنى المدة من الزمن أي مدة محدودة من السنين قال القرطبي: والأُمَّة اسم مشترك يطلق على ثمانية أوجه: الجماعة، الملة، الرجل الجامع للخير، الحين والزمن، أتباع الأنبياء الخ {مِرْيَةٍ} شك وارتياب {وَضَلَّ} ضاع وتلاشى {لاَ جَرَمَ} كلمة واحدة بمعنى حقاً وهو قول الخليل وسيبويه {وأخبتوا} خشعوا وخضعوا والإِخباتُ: الذل والخضوع {الأصم} الذي لا يسمع وبه صمم.
سَبَبُ النُّزول: ذكر القرطبي عن ابن عباس أن «الأَخْنس بن شريق» كان رجلاً حلو الكلام وحلو المنطق، يلقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما يحب، وينطوي له بقلبه على ما يسوء فأنزل الله {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ. .} الآية.
التفسِير: {الر} إِشارة إِلى إِعجاز القرآن، وأنه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية، وعن ابن عباس أن معناه: أنا الله أرى {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} أي هو كتابٌ جليل القدر، نظمت آياته نظماً محكماً، لا يلحقه تناقضٌ ولا خلل {ثُمَّ فُصِّلَتْ} أي بُيّنت فيه أمور الحلال والحرام، وما يحتاج إِليه العباد في أمور المعاش والمعاد {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} أي من عند الله فصَّلها وبيَّنها الخبير العالم بكيفيات الأمور، ولذا كانت محكمة أحسن الإِحكام ومفصلة أحسن التفصيل {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} أي لئلا تعبدوا إلا الله {إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي إِنني مرسلٌ إليكم من جهته تعالى، أنذركم بعذابه إِن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} أي استغفروه من الذنوب وأخلصوا التوبة واستقيموا عليها بالطاعة والإِنابة {يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً} أي يمتعكم في هذه الدنيا بالمنافع الجليلة من سعة الرزق، ورغَد العيش {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي إِلى وقتٍ محدَّد هو انتهاء أعماركم {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي ويعطي كل محسنٍ في عمله جزاء إحسانه {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي وإن تتولوا عن الإِيمان وتُعرضوا عن طاعة الرحمن {فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} أي أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، ووصف العذاب بأنه كبير لما فيه من الأهوال الشديدة {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ} أي إليه جلَّ وعلا رجوعكم بعد الموت {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادر على إماتتكم ثم إحيائكم وعلى معاقبة من كذَّب لا يعجزه شيء، وفي الآية تهديد عظيم {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ(2/5)
لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} قال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق كان يجالس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر وقال القرطبي: أخبر عن معاداة المشركين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين، ويظنون أنه تخفى على الله أحوالهم والمعنى إنهم يطوون صدورهم على عداوة النبي والمؤمنين، يريدون بذلك أن يستخفوا من الله حتى لا يفتضح أمرهم {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي حين يتغطون بثيابهم {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي يعلم تعالى ما يُبْطنون وما يُظهرون وكأن الآية تقول: لا تظنوا أن تغطيتكم تحجبكم عن الله بل الله يعلم سرائركم وزواهركم لا تخفى عليه خافية من أحوالكم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي عالم بما في القلوب {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} أي ما من شيء يدب على وجه الأرض من إنسان أو حيوان إِلا تكفَّل الله برزقه تفضلاً منه تعالى وكرماً، فكما كان هو الخالق كان هو الرازق {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} قال ابن عباس: مستقرها حيث تأوي إِليه من الأرض، ومستودعها الموضع الذي تموت فيه فتدفن {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي كلٌّ من الأرزاق، والأقدار، والأعمار، مسطَّرٌ في اللوح المحفوظ {وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي خلقها في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، وفيه الحث للعباد على التأني في الأمور فإِن الإِله القادر على خلق الكائنات بلمح البصر خلقها في ستة أيام {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} أي وكان العرش قبل خلقهما على الماء قال الزمخشري: أي ما كان تحته خلق، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السماوات والأرض {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي خلقهن لحكمة بالغة ليختبركم فيظهر المحسنُ من المسيء، ويجازيكم حسب أعمالكم {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت} أي ولئن قلت يا محمد لأولئك المنكرين من كفار مكة إِنكم ستبعثون بعد موتكم للحساب {لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ليقولنَّ الكفار المنكرون للبعث والنشور ما هذا القرآن إِلا سحرٌ واضح مكشوف {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} أي إِلى مدةٍ من الزمن قليلة {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي ليقولُنَّ استهزاءً ما يمنعه من النزول؟ {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} أي ألا فلينتبهوا فإِنه يوم يأتيهم العذاب ليس مدفوعاً عنهم {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} أي نزل وأحاط بهم جزاء ما كانوا به يستهزئون {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} أي أنعمنا على الإِنسان بأنواع النعم من الصحة، والأمن، والرزق وغيرها من النعم {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} أي ثم سلبنا تلك النعم منه {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} أي قنوط من رحمة الله، شديد الكفر به {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} أي ولئن منحنا الإِنسان نعمة من بعد ما نزل به من الضر، وما أصابه من البلاء، كالفقر والمرض والشدة {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني} أي انقطع الفقر والضيق والمصائب ولن تصيبني بعد اليوم {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أي بطرٌ بالنعمة مغترٌ بها، متعاظم على الناس بما أُوتي، والآيةُ ذمٌ لمن يقنط عند الشدائد، ويبطر عند النعم {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي هذه عادة الإِنسان إِلا المؤمنين الذين يصبرون على الضراء، ويفعلون الخير في النعماء، فهم في حالتي المحنة والنعمة محسنون {أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي أولئك(2/6)
الموصوفون بالصفات الحميدة لهم مغفرةٌ لذنوبهم، وأجر كبيرٌ في الآخرة هو الجنة قال في البحر: ووصف الثواب بأنه كبير وذلك لما احتوى عليه من النعيم السرمدي، والأمن من العذاب، ورضا الله عنهم، والنظر إِلى وجهه الكريم {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} كان المشركون يقترحون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يأتي بكنز أو يأتي معه ملك، وكانوا يستهزئون بالقرآن فقال الله تعالى له: فعلك يا محمد تاركٌ بعض ما أُنزل إِليك من ربك فلا تبلغهم إِيَّاه لاستهزائهم {وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي ويضيق صدرك من تبليغهم ما نزل عليك من ربك خشية التكذيب، والغرضُ تحريضُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على تبليغ الرسالة وعدم المبالاة بمن عاداه {أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} أي لأجل أن يقولوا هلاّ أُنزل عليه مالٌ كثير {أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} أي جاء معه ملك يصدّقه كما اقترحنا، قال تعالى محدّداً مهمته عليه السلام {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ} أي لست يا محمد إلا منذراً تخوّف المجرمين من عذاب الله {والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي قائم على شئون العباد يحفظ عليهم أعمالهم {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أي بل أيقولون اختلق محمد هذا القرآن وافتراه من عند نفسه؟ {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} أي إِن كان الأمر كذلك فأتوا بعشر سور مثله في الفصاحة والبلاغة مفتريات فأنتم عرب فصحاء {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله} أي استعينوا بمن شئتم غير الله سبحانه {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في أنَّ هذا القرآن مفترى {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ الله} أي فإِن لم يستجب لكم من دعوتموهم للمعاونة وعجزوا عن ذلك فاعلموا أيها المشركون أنما نزل هذا القرآن بوحيٍ من الله {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أي لا ربّ ولا معبود إلا الله الذي أنزل هذا القرآن المعجز {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} لفظه استفهام ومعناه أمرٌ أي فأسلموا بعد ظهور هذه الحجة القاطعة إِذ لم يبق لكم عذر مانع من ذلك، قال في التسهيل: الاستفهام معناه استدعاءً إِلى الإِسلام، وإِلزامٌ للكفار أن يسلموا لما قام الدليل على صحة الإِسلام لعجزهم عن الإِتيان بمثل القرآن {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} أي من كان يقصد بأعماله الصاحلة نعيم الدنيا فقط لأنه لا يعتقد بالآخرة {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي نوفّ إِليهم أجور أعمالهم بما يحبون فيها من الصحة والأمن والرزق {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} أي وهم في الدنيا لا يُنقصون شيئاً من أجورهم قال قتادة: من كانت الدنيا همَّه ونيّته جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يُفضي إِلى الآخرة وليس له حسنة يُعطى بها، وأما المؤمن فيُجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار} أي هؤلاء الذين هدفهم الدنيا ليس لهم في الآخرة إِلا نار جهنم وعذابها المخلَّد {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} أي بطل ما صنعوه من الأعمال الصالحة لأنهم قد استوفوا في الدنيا جزاءها {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} تأكيدٌ لما سبق أي باطل ما كانوا يعملون في الدنيا من الخيرات {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أي أفمن كان على نور واضح، وبرهان ساطع من الله تعالى، وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنون، وجوابه محذوف أي كمن كان يريد الحياة الدنيا؟ يريد أن بينهما تفاوتاً كبيراً، وتبايناً بعيداً، فلا يستوي من أراد الله، ومن أراد الدنيا وزينتها {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي ويتبعه شاهد من الله بصدقه قال ابن عباس: هو جبريل عليه السلام {وَمِن(2/7)
قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً} أي ومن قبل القرآن كتاب التوراة الذي أنزله الله على موسى قدوةً في الخير ورحمة لمن نزل عليهم {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي أولئك الموصوفون بأنهم على نور من ربهم يصدّقون بالقرآن حق التصديق {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} أي ومن يكفر بالقرآن من أهل الملل والأديان، فله نار جهنم يردها لا محالة {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي فلا تكن في شكٍ من هذا القرآن {إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ} أي إنه الحق الثابت المنزّل من عند الله {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدّقون أنه تنزيل رب العالمين {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} أي لا أحد أطغى ولا أظلم ممن اختلق الكذب على الله بنسبة الشريك والولد إِليه {أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ} أي يُعرضون يوم القيامة في جملة الخلق على خالقهم ومالكهم {وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ} أي ويقول الخلائق والملائكة الذين يشهدون على أعمالهم هؤلاء الذين كذبوا على الله، والغرضُ فضيحتهم في الدار الآخرة على رءوس الأشهاد والتشهيرُ بهم خزياً ونكالاً {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} لظلمهم وافترائهم على الله، واللعنةُ: الطرد من رحمة الله {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي يمنعون الناس عن اتِّباع الحق، وسلوك سبيل الهدى الموصل إِلى الله {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي ويريدون أن تكون السبيل معوّجة أي يبغون أن يكون دين الله معوجاً على حسب أهوائهم {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} أي جاحدون بالآخرة منكرون للبعث والنشور {أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض} أي ليسوا مفلتين من عذاب الله وإن أمهلهم {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ} أي ليس لهم من يتولاهم أو يمنعهم من عذاب الله {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} جملة مستأنفة أي يضاعف عليهم العذاب بسبب إِجرامهم وطغيانهم {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} أي سبب تشديد العذاب ومضاعفته عليهم أن الله جعل لهم سمعاً وبصراً، ولكنهم كانوا صُما عن سماع الحق، عمياً عن اتباعه، فلم ينتفعوا بما منحهم الله من حواس {أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ} أي خسروا سعادة الدنيا والآخرة، وخسروا راحة أنفسهم لدخولهم نار جهنم {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي وغاب عنهم ما كانوا يزعمونه من شفاعة الآلهة {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} أي حقاً إِنهم يوم القيامة من أخسر الناس، ولا ترى أحداً أبينَ خسراناً منهم، لأنهم آثروا الفانية على الباقية، واستعاضوا عن الجِنان بلظى النيران، ثم لما ذكر تعالى حال الكفار الأشقياء، ذكر حال المؤمنين السعداء فقال {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ} أي جمعوا مع الإِيمان والعمل الصالح الإِخبات: وهو الاطمئنان إِليه سبحانه والخشوع له والانقطاع لعبادته {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي منعَمون في الجنة لا يخرجون منها أبداً {مَثَلُ الفريقين} أي فريق المؤمنين وفريق الكافرين {كالأعمى والأصم والبصير والسميع} قال الزمخشري: شبَّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع، وهو من اللفّ والطباق والمعنى حال الفريقين العجيب كحال من جمع بين العمى والصمم، ومن جمع بين السمع والبصر {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} الاستفهام إِنكاري أي لا يستويان مثلاً فليس حال من يبصر نور الحق ويستضيء بضيائه(2/8)
كحال من يخبط في ظلمات الضلالة ولا يهتدي إِلى سبيل السعادة {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تعتبرون وتتعظون؟ والغرض التفريق بين أهل الطاعة والإِيمان، وأهل الجحود والعصيان.
البلاغة: 1 - {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} إضافة العذاب إلى اليوم الكبير للتهويل والتفظيع.
2 - {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} بينهما طباقٌ وكذلك بين {نَعْمَآءَ} و {ضَرَّآءَ} وبين {نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} .
3 - {يَئُوسٌ كَفُورٌ} من صيغ المبالغة أي شديد اليأس كثير الكفران.
4 - {كالأعمى والأصم} فيه تشبيه مرسل مجمل لوجود أداة التشبيه وحذف وجه الشبه أي مثل الفريق الكافر كالأعمى والأصم في عدم البصر والسمع، ومثل الفريق المؤمن كالسميع والبصير.
لطيفَة: قال بعض الصالحين: الاستغفار بلا إِقلاع عن الذنب توبة الكذابين.
تنبيه: التحدي بعشر سور جاء بعد التحدي بالقرآن الكريم، فلما عجزوا عن الإِتيان بمثل القرآن تحداهم بعشر سور، ثم لما عجزوا تحداهم بالإِتيان بسورة مثله في البلاغة والفصاحة والاشتمال على المغيبات والأحكام التشريعية وأمثالها، وهي الأنواع التسعة وقد نظمها بعضهم بقوله:
ألا إِنما القرآنُ تسعةُ أحرفٍ ... سأنبيكها في بيت شعر بلا مَلَل
حلالٌ، حرامٌ، محكمٌ، متشابهٌ ... بشيرٌ، نذيرٌ، قصةٌ، عظةٌ، مَثَل(2/9)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى عناد الكافرين من أهل مكة، وتكذيبهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واتهامهم له بافتراء القرآن، ذكر هنا قصة نوح مع قومه الكافرين لتكون كالعظة والعبرة لمن كذّب وعاند، ولتسلية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بسرد قصص المرسلين وما جرى لهم مع أقوامهم.
اللغَة: {الملأ} أشراف القوم وسادتهم {أَرَاذِلُنَا} الأراذل هنا: المراد بهم الفقراء والضعفاء والسَّفَلة، وهو جمع أَرْذَل بمعنى السافل الذي لا خَلاَق له ولا يبالي بما يفعل {فَعُمِّيَتْ} عمي عن كذا، وعمي عليه كذا، بمعنى التبس عليه ولم يفهمه، وخفي عليه أمره {جَادَلْتَنَا} الجدل في كلام العرب: المبالغة في الخصومة {تزدري} تحتقر {صْنَعِ الفلك} السفينة ويطلق على المفرد والجمع {التنور} مستوقد النار {مُرْسَاهَا} رسا الشيء يرسو ثبت واستقر {عَاصِمَ} مانع يقال: / عصمه إذا منعه ومنه الحديث «فقد عصموا مني دماءهم» {غِيضَ} غاض الماء نقص بنفسه وغضتُه أنقصته {الجودي} جبلٌ بقرب المَوْصل.
التفسِير: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} أي أرسلناه رسولاً إلى قومه بعد أن امتلأت الأرض بشركهم وشرورهم {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي بأني منذرٌ لكم ومخوّف من عذاب الله إن لم تؤمنوا {أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} أي أرسلناه بدعوة التوحيد وهي عبادة الله وحده {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي إني أخاف عليكم إن عبدتم غيره عذاب يوم شديد مؤملم {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن(2/10)
قِوْمِهِ} أي قال السادة والكبراء من قوم نوح {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} أي ما نراك إلا واحداً مثلنا ولا فضل لك علينا قال الزمخشري: وفيه تعريضٌ بأنهم أحقُّ منه بالنبوة، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحدٍ من البشر لجعلها فيهم {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي وما اتبعك إلا سفلةُ الناس قال في التسهيل: وإنما وصفوهم بذلك لفقرهم جهلاً منهم واعتقاداً بأن الشرف هو بالمال والجاه، وليس الأمر كذلك، بل المؤمنون أشرف منهم على فقرهم وخمولهم {بَادِيَ الرأي} أي في ظاهر الرأي من غير تفكر أو رويّة {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي وما نرى لك ولأتباعك من مزية وشرف علينا يؤهلكم للنبوة، واستحقاق المتابعة {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} أي بل نظنكم كاذبين فيما تدعونه، أرادوا أن يحجوا نوحاً من وجهين: أحدهما: أن المتبعين له أراذل القوم ليسوا قدوة ولا أسوة، والثاني: أنهم مع ذلك لم يتَروَّوا في اتّباعه، ولا أمعنوا الفكر في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا رويّة، وغرضُهم ألا تقوم الحجة عليهم بأن منهم من آمن به وصدّقه {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي} تلطف معهم في الخجطاب لاستمالتهم إلى الإِيمان أي قال لهم نوح: أخبروني يا قوم إن كنتُ على برهان وأمرِ جليٍّ من ربي بصحة دعوايَ {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} أي ورزقني هداية خاصة من عنده وهي النبوة {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي فخفي الأمر عليكم لاحتجابكم بالمادة عن نور الإِيمان {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي أنكرهكم على قبولها ونجبركم على الإِهتداء بها والحال أنكم كارهون منكرون لها؟ والاستفهام للإِنكار أي لا نفعل ذلك لأنه لا إكراه في الدين {وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} أي لا أسألكم على تبليغ الدعوة أجراً، ولا أطلب على النصيحة مالاً حتى تتهموني {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} أي ما أطلب ثوابي إلا من الله فإنه هو الذي يثيبني ويجازيني {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا} أي ولست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عن مجلسي، ولا بطاردهم عني كما طلبتم {إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ} أي إنهم صائرون إلى ربهم، وفائزون بقربه فكيف أطردهم؟ {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} أي ولكنكم قوم تجهلون قدرهم فتطلبون طردهم، وتظنون أنكم خير منهم {وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ} أي من يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم وطردتهم؟ {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تتفكرون فتعلمون خطأ رأيكم وتنزجرون عنه؟ {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله} أي لا أقول لكم عندي المال الوافر الكثير حتى تتبعوني لغناي {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب حتى تظنوا بي الربوبية {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} أي ولا أقول لكم إني من الملائكة أُرسلت أليكم فأكون كاذباً في دعواي {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً} أي ولا أقول لهؤلاء الضعفاء الذين آمنوا بي واحتقرتموهم لفقرهم لن يمنحهم الله الهداية والتوفيق [الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} أي أعلم بسرائرهم وضمائرهم {إني إِذاً لَّمِنَ الظالمين} أي إني إن قلت ذلك أكون ظالماً مستحقاً للعقاب {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي قال قوم نوح لنوحٍ عليه السلام: قد خاصمتنا فأكثرهم خصومتنا {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي فائتنا بالعذاب الذي كنت تعدنا به إن كنت صادقاً في ما تقول {قَالَ إِنَّمَا(2/11)
يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ} أي أمر تعجيل العذاب إليه تعالى لا إليَّ فهو الذي يأتيكم به إن شاء {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي ولستم بفائتين الله هرباً لأنكم في ملكه وسلطانه {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} أي ولا ينفعكم تذكيري إِياكم ونصحي لكم {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} أي إن أراد الله إضلالكم وهو جواب لما تقدم والمعنى ماذا ينفع نصحي لكم إن أراد الله شقاوتكم وإضلالكم؟ {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي هو خالقكم والمتصرف في شئونكم، وإليه مرجعكم ومصيركم فيجازيكم على أعمالكم {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أي أيقول كفار قريش اختلق محمد هذا القرآن من عند نفسه {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أي قل لهم يا محمد إن كنت قد افتريت هذا القرآن فعليَّ وزري وذنبي، ولا تؤاخذون أنتم بجريرتي {وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} أي وأنا بريءٌ من إجرامكم بكفركم وتكذيبكم، والآية اعتراضٌ بين قصة نوح للإِشارة إلى أن موقف مشركي مكة كموقف المشركين من قوم نوح في العناد والتكذيب {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} أي أوحى الله إلى نوحٍ أنه لن يتبعك ويصدِّق برسالتك إلا من قد آمن من قبل {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي فلا تحزن بسبب كفرهم وتكذيبهم لك فإني مهلكهم {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} أي اصنع السفينة تحت نظرنا وبحفظنا ورعايتنا {وَوَحْيِنَا} أي وتعليمنا لك قال مجاهد: أي كما نأمرك {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا} أي لا تشفع فيهم فإني مهلكهم لا محالة {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} أي هالكون غرقاً بالطوفان {وَيَصْنَعُ الفلك} حكايةُ حالٍ ماضيةٍ لاستحضارها في الذهن أي صنع نوحٌ السفينة كما علّمه ربُّه {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} أي كلما مرَّ عليه جماعة من كبراء قومه هزءوا منه وضحكوا وقالوا: يا نوحُ كنتَ بالأمس نبياً، وأصبحتَ اليوم نجاراً!! {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} أي إن تهزءوا منا اليوم {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} أي فإنّا سنسخر منكم في المستقبل عندما تغرقون مثل سخريتكم منا الآن، فأنتم أولى بالسخرية والاستهزاء {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعيدٌ وتهديد أي سوف تعلمون عاقبة التكذيب والاستهزاء {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي عذابٌ يُذلُّه ويهينه وهو الغرق {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي وينزل عليه عذاب دائم لا ينقطع وهو عذاب جهنم {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} أي جاء أمرنا الموعود بالطوفان {وَفَارَ التنور} أي فار الماء من التنور الذي يوقد به النار قال العلماء: جعل الله ذلك علامة لنوح وموعداً لهلاك قومه، وقال ابن عباس: التنور وجهُ الأرض قال الطبري: والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض، قيل له: إذا رأيتَ الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك في السفينة وقال ابن كثير: التنور وجه الأرض أي صارت الأرض عيوناً تفور، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماءً، وهذا قول(2/12)
جمهور السلف والخلف {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} أي احمل في السفينة من كل صنفٍ من المخلوقات اثنين: ذكراً، وأنثى {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} أي واحمل قرابتك أيضاً أولادك ونساءك إلا من حكم الله بهلاكه، والمراد به ابنهُ الكافر «كنعان» وامرأته «واعلة» {وَمَنْ آمَنَ} أي واحمل معك من آمن من أتباعك {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} أي وما آمن بنوح إلا نزرٌ يسير مع طول إقامته بينهم وهي مدة تسعمائة وخمسين سنة، قال ابن عباس: كانوا ثمانين نفساً منهم نساؤهم، وعن كعب: كانوا اثنين وسبعين نفساً، وقيل: كانوا عشرة {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} أي وقال نوح لمن آمن به اركبوا في السفينة، باسم الله يكون جريُها على وجه الماء، وباسم الله يكون رسوُّها واستقرارها قال الطبري: المعنى بسم الله حين تجري وحين تُرسي، أي حين تسير وحين تقف {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي ساتر لذنوب التائبين، رحيمٌ بالمؤمنين حيث نجاهم من الغرق {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال} أي والسفينة تسير بهم وسط الأمواج، التي هي كالجبل في العِظَم والارتفاع، بإذن الله وعنايته ولطفه قال الصاوي: رُوي أن الله أرسل المطر أربعين يوماً وليلة، وخرج الماء من الأرض ينابيع كما قال تعالى
{فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11 - 12] وارتفع الماء على أعلى جبل أربعين ذراعاً حتى أغرق كل شيء {ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} أي ونادى نوحٌ ولده «كنعان» قبيل سير السفينة وكان في ناحيةٍ منها لم يركب مع المؤمنين {يابني اركب مَّعَنَا} أي اركب معنا ولا تهلكْ نفسك بالغرق {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} أي فتغرق كما يغرقون {قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء} أي سأصعد إلى رأس جبل أتحصن به من الغرق، ظناً منه أن الماء لا يصل إلى رءوس الجبال {قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ} أي قال له أبوه نوح: لا معصوم اليوم من عذاب الله ولا ناجي من عقابه إلا من رَحِمَهُ اللَّهُ {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين} أي حال بين نوحٍ وولده موجُ البحر فغرق {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ} أي انشقي وابتعلي ما على وجهك من الماء {وياسمآء أَقْلِعِي} أي أمسكي عن المطر {وَغِيضَ المآء} أي ذهب في أغوار الأرض قال مجاهد: نقص الماء {وَقُضِيَ الأمر} أي تمَّ أمر الله بإغراق من غرق، ونجاة من نجا {واستوت عَلَى الجودي} أي استقرت السفينة على جبل الجودي بقرب الموصل {وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} أي هلاكاً وخساراً لمن كفر بالله وهي جملة دعائية قال الألوسي: ولا يخفى ما في الآية من الدلالة على عموم هلاك الكفرة، بل على عموم هلاك أهل الأرض ما عدا أهل السفينة، ويدل عليه ما رُوي أن الغرقَ أصاب امرأة معها صبيٌّ لها فوضعته على صدرها، فلما بلغها الماء وضعته على منكبها، فلما بلغها الماء رفعته بيديها، فلو رحم الله أحداً من أهل الأرض لرحمها {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} أي نادى نوح ربَّه متضرعاً إليه فقال: ربِّ إن ابني «كنعان» من أهلي وقد وعدتني بنجاتهم {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} أي وعدك حقٌ لا خُلْف فيه {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} أي وأنت يا ألله أعدل الحاكيم بالحق {قَالَ(2/13)
يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي قال له ربه: يا نوحُ إنَّ ولدك هذا ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم لأنه كافر ولا ولاية بين المؤمن والكافر {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} إي إنَّ عمله سيءٌ غير صالح {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تطلب مني أمراً لا تعلم أصوابٌ هو أم غير صواب؟ {إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} أي إني أنبهك وأنصحك خشية أن تكون من الجاهلين قال في التسهيل: وليس في ذلك وصفٌ له بالجهل، بل فيه ملاطفةٌ وإكرام {قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أي قال نوح معتذراً إلى ربه عمّا صدر عنه: ربّ إني أستجير بك من أن أسألك أمراً لا يليق بي سؤاله {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين} أي وإلا تغفر لي زلتي، وتتداركني برحمتك، أكنْ ممن خسر آخرته وسعادته {قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} أي اهبط من السفينة بسلامة وأمن {وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} أي وخيرات عظيمة عليك وعلى ذرية من معك من أهل السفينة، قال القرطبي: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} أي وأمم أخرى من ذرية من معك نمتعهم متاع الحياة الدنيا وهم الكفرة المجرمون {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ثم نذيقهم في الآخرة العذاب الأليم وهو عذاب جهنم {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} أي هذه القصة وأشباهها من أخبار الغيوب السالفة التي لم تشهدها {نُوحِيهَآ إِلَيْكَ} أي نعلمك بها يا محمد بواسطة الوحي {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا} أي لم يكن عندك ولا عند أحدٍ من قومك علمٌ بها من قبل هذا القرآن {فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ} أي فاصبر على أمر الله بتبليغ الدعوة كما صبر نوح، فإن العاقبة المحمودة لمن اتقى الله، وفيه تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أذى المشركين.
البَلاَغَة: 1 - {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} شبّه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه، بمن سلك مفازةً لا يعرف طرقها ومسالكها، واتبع دليلاً أعمى فيها على سبيل الاستعارة التمثيلية.
2 - {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} الاستفهام للإنكار والتقريع.
3 - {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} الأمر يراد به التهكم والاستهزاء.
4 - {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} مجاز بالحذف أي عقوبة إجرامي وجاء ب {إِنِ} الدالة على الشك لبيان أنه على سبيل الفرض {إِنِ افتريته} بخلاف إجرامهم فإنه محقّق {وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} .
5 - {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} الأعين كناية عن الرعاية والحفظ يقال للمسافر «صحبتك عين الله» أي رعاية الله وحفظه.
6 - {ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي} بين الأرض والسماء طباقٌ، وبين ابلعي وأقعلي جناسٌ ناقص، وكلاهما من المحسنات البديعية.
فَائِدَة: قال ابن عباس في قوله تعالى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} كان ابنه من صلبه، ولكنه لم يكن(2/14)
مؤمناً، وما بغت امرأة نبيٍّ قط ومعنى الآية: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
أقول: نبهت الآية على أن أهله هم الصلحاء، أهل دينه وشريعته، فمن لا صلاح له لا نجاة له، ومدار الأهلية القرابة الدينية، لا القرابة البدنية.
أبي الإِسلام لا أبَ لي سواه ... إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
لطيفَة: روي أن أعرابياً سمع هذه الآية {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي ... } الآية فقال: هذ كلام القادرين لا يشبه كلام المخلوقين، ويروى أن «ابن المقفع» - وكان أفصح أهل زمانه - رام أن يعارض القرآن فنظم كلاماً، وجعله مفصلاً، وسمّاه سوراً، فمرَّ يوماً بصبي فسمعه يقرأ الآية فرجع إلى بيته ومحا ما كان قد بدأ به، وقال: أشهد أن هذا لا يُعارض أبداً، وما هو من كلام البشر.
تنبيه: هذه الآية بلغت من أسرار الإِعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفوائد نهايتها، وجمعت من المحاسن اللفظية والمعنوية ما يضيق عنه نطاق البيان، وقد اهتم بإظهار لطائفها وأسرارها العلاّمة أبو حيان حيث قال رَحِمَهُ اللَّهُ وطيَّب ثراه: في هذه الآية أحد وعشرون نوعاً من البديع: المناسبةُ في قوله {أَقْلِعِي} و {ابلعي} والمطابقةُ بذكر الأرض والسماء، والمجازُ في {ياسمآء} المراد مطر السماء، والاستعارةُ في {أَقْلِعِي} والإِشارة في {وَغِيضَ المآء} فإنها إشارة إلى معانٍ كثيرة، والتمثيلُ في {وَقُضِيَ الأمر} عبّر بالأمر عن إهلاك الهالكين ونجاة الناجين، والإِرداف في {واستوت عَلَى الجودي} فلفظ واستوت كلام تامٌ أردفه بلفظ {عَلَى الجودي} قصداً للمبالغة في التمكن بهذا المكان، والتعليلُ في {وَغِيضَ المآء} فإنه علة للاستواء، والاحتراسُ في {بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} وهو أيضاً ذم لهم، والإِيجاز وهو ذكر القصة باللفظ القصير مستوعباً للمعاني الجمَّة، وعدَّد بقية الوجوه وهي: الإِيضاحُ، والمساواة، وحسنُ النَّسق، وصحة التقسيم، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والتسهيم، والمقابلة، والتهذيب، والوصف.
«مقتطفات من تفسير سيد قطب في ظلال القرآن»
وننقل هنا فقراتٍ من تفسير شهيد الإسلام «سيد قطب» عليه الرحمة والرضوان حيث قال ما نصه: «وعند هذا المقطع من قصة نوح يلتفت السياقُ لفتةً عجيبة، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة التي تشبه أن تكون قصَّتهم مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودعواهم أن محمداً يفتري هذا القصص {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} فالافتراء إجرام وعليَّ تبعته، وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعدٌ أن أرتكبه، وهذا الاعتراضُ لا يخالف سياق القصة في القرآن لأنها إنما جاءت لتأدية غرض معيَّن، ثم يمضي السياقُ في قصة نوح يعرض مشهداً ثانياً، مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} أي برعايتنا وتعليمنا {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} فقد(2/15)
تقرر مصيرهم، وانتهى الإِنذار، وانتهى الجدل.
والمشهد الثالث من مشاهد القصة: مشهدُ نوح يصنع الفلك {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} والتعبير بالمضارع هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدَّته، فنحن نراه ماثلاً لخيالنا من وراء هذا التعبير، وقومه المتكبرون يمرون به فيسخرون، يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم إنه رسول ثم إذا هو ينقلب نجاراً يصنع مركباً، والمشهد الرابع: مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين. .} ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب: مشهد الطوفان {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال ... وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين} إن الهول هنا هولان: هولٌ في الطبيعة الصامتة، وهولٌ في النفس البشرية يلتقيان. وإننا بعد آلاف السنين لنمسك أنفسنا - ونحن نتابع السياق - والهولُ يأخذنا كأننا نشهد المشهد، {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال} ونوحٌ الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء، وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين} وينتهي كل شيء، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب، وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن، وتهدأ العاصفة، ويخيّم السكون، ويقضى الأمر، ويوجه الخطاب إلى الأرض والسماء بصيغة العاقل، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل، فتبلع الأرض وتكف السماء {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} .(2/16)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
المنَاسَبَة: هذه هي القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله في هذه السورة الكريمة، وهي قصة هود مع قومه عاد، وقد ذكرها تعالى بالإسهاب، ولهذا سميت السورة «سورة هود» ثم أعقبها بالحديث عن ثمود وهي القصة الثالثة في هذه السورة، ثم قصة إبراهيم وبشارة الملائكة له بإسحاق وهي القصة الرابعة.
اللغَة: {مِّدْرَاراً} كثيراً متتابعاً من درَّت السماء تدرُّ إذا سكبت المطر بسخاء، والمدرارُ: الكثير الدرّ وهو من أبنية المبالغة {إِلاَّ اعتراك} أصابك {نَاصِيَتِهَآ} الناصيةُ: منبت الشعر في مقدم الرأس {جَبَّارٍ} الجبار: المتكبر {عَنِيدٍ} العنيد «الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له، قال أبو عبيدة: العنيد والمعاند: المعارضُ بالخلاف {استعمركم فِيهَا} جعلكم عمَّارها وسكانها {تَخْسِيرٍ} تضليل وإبعاد عن الخير {حَنِيذٍ} مشوي يقال: حنذتُ الشاة أحنِذُها حنْذاً أي شويتها {نَكِرَهُمْ} أنكرهم يقال: نكره وأنكره واستنكره بمعنى واحد وهو أن يجده على غير ما عهده قال الشاعر:
وأنكرتْني وما كان النذي نكِرت ... من الحوادث إلا الشيبَ والصَّلَعا
فجمع الشاعر بين اللغتين {أَوْجَسَ} استشعر وأحسَّ {بَعْلِي} زوجي.
التفسِير: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة عاد نبياً منهم اسمه هود {قَالَ ياقوم اعبدوا الله} أي اعبدوا الله وحده دون الآلهة والأوثان {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي ليس لكم معبودٌ غيره يستحق العبادة {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} أي ما أنتم في عبادتكم غير الله إلا كاذبون عليه جل وعلا، لأنه لا إله سواه {ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي لا أطلب منكم على النصح والبلاغ جزاءً ولا ثواباً {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني} أي ما ثوابي وجزائي إلا على الله الذي خلقني {أَفَلاَ(2/17)
تَعْقِلُونَ} أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون أن من يدعوكم إلى الخير دون إرادة جزاءٍ منكم هو لكم ناصح أمين؟ والاستفهام للإنكار والتقريع {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ} أي استغفروه من الكفر والإشراك {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} أي ارجعوا إليه بالطاعة والإِستقامة على دينه والتمسك بالإِيمان والتوحيد {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} أي يرسل عليكم المطر غزيراً متتابعاً، رُوي أن عاداً كان حُبس عنهم المطر ثلاث سنين حتى كادوا يهلكون، فأمرهم هودٌ بالتوبة والاستغفار ووعدهم على ذلك بنزول الغيث والمطر، وفي الآية دليل على أن التوبة والاستغفار، سببٌ للرحمة ونزول الأمطار {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} أي ويزدكم عزاً وفخراً فوق عزكم وفخاركم قال مجاهد: شدة إلى شدتكم، فإنهم كانوا في غاية القوة والبطش حتى قالوا {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] ؟ {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه مصرّين على الإِجرام، وارتكاب الآثام {قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي ما جئتنا بحجةٍ واضحة تدل على صدقك قال الآلوسي: وإنما قالوه لفرط عنادهم، أو لشدة عَمَاهم عن الحق {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} أي لسنا بتاركين عبادة الأصنام من أجل قولك {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي لسنا بمصدقين لنبوتك ورسالتك، والجملة تقنيطٌ من دخولهم في دينه، ثم نسبوه إلى الخبل والجنون فقالوا {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء} أي ما نقول إلا أصابك بعض آلهتنا بجنون لما سببتها ونهيتنا عن عبادتها قال الزمخشري: دلت أجوبتهم المتقدمة على أن القوم كانوا جفاةً، غلاظ الأكباد، لا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وقد دلَّ قولهم الأخير على جهلٍ مفرط، وبلَهٍ متناهٍ، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم {قَالَ إني أُشْهِدُ الله} أي قال هودٌ إني أُشهدُ الله على نفسي {واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ} أي وأشهدكم أيضاً أيها القوم أنني بريءٌ مما تشركون في عبادة الله من الأوثان والأصنام {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} أي فاحتالوا في هلاكي أنتم وآلهتكم ثم لا تمهلوني طرفة عين قال أبو السعود: وهذا من أعظم المعجزات، فإنه عليه السلام كان رجلاً مفرداً بين الجم الغفير من عتاة عاد، الغلاظ الشداد، وقد حقّرهم وهيّجهم بانتقاص آلهتهم، وحثهم على التصدّي له فلم يقدروا على مباشرة شيء، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً وقال الزمخشري: من أعظم الآيات أن يُواجه بهذا الكلام رجلٌ واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه، يرمونه عن قوسٍ واحدة، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ومثله قول نوح
{فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} [يونس: 71] {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي إني لجأت إلى الله وفوضت أمري إليه تعالى مالكي ومالككم {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} أي ما من نسمةٍ تدبُّ على وجه الأرض إلا هي في قبضته وتحت قهره، والأخذُ بالناصية تمثيلٌ للملك والقهر، والجملةُ تعليلٌ لقوة توكله على الله وعدم مبالاته بالخلق {إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي إن ربي عادل، يجازي المحسن بإِحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم أحداً شيئاً {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} أي فإن تُعرضوا عن قبول(2/18)
دعوتي فقد أبلغتكم أيها القوم رسالة ربي، وما على الرسول إلا البلاغ {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} أي فسوف يهلككم الله ويستخلف قوماً آخرين غيركم، وهذا وعيدٌ شديد {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} أي لا تضرون الله شيئاً بإشراككم {إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي إنه سبحانه رقيبٌ على كل شيء، وهو يحفظني من شركم ومكركم {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} أي ولما جاء أمرنا بالعذاب، وهو ما نزل بهم من الريح العقيم {نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} أي نجينا من العذاب هوداً والمؤمنون بفضل عظيم ونعمة منا عليهم {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي وخلصانهم من ذلك العذاب الشديد، وهي الريح المدمرة التي كانت تهدم المساكن، وتدخل في أنوف أعداء الله وتخرج من أدبارهم، وتصرعهم على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الإِشارة لآثارهم أي تلك آثار المكذبين من قوم عاد انظروا ماذا حلّ بهم حين كفروا بالله، وأنكروا آياته في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته؟ {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} أي عصوا رسوله هوداً، وجمعه تفظيعاً لحالهم، وإظهاراً لكلمال كفرهم وعنادهم، ببيان أن عصيانهم له عصيانٌ لجميع الرسل السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتهم على التوحيد {واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي أطاعوا أمر كل مستكبر على الله، حائدٍ عن الحق، لا يُذعن له ولا يقبله، يريد به الرؤساء والكبراء {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً} أي وأُلحقوا باللعنة والطرد من رحمة الله في الدنيا {وَيَوْمَ القيامة} أي ويوم القيامة أيضاً تلحقهم اللعنة قال الرازي: جعل اللعن رديفاً لهم ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا والآخرة، ومعنى اللعنة الإِبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير {ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} هذ تشنيعٌ لكفرهم وتهويلٌ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} أي أبعدهم الله من الخير، وأهلكهم عن بكرة أبيهم، وهي جملة دعائية بالهلاك واللعنة {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} أي ولقد أرسلنا إلى قوم ثمود نبيا منهم وهو صالح عليه السلام {قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي اعبدوا الله وحده ليس لكم ربٌّ معبود سواه {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} أي هو تعالى ابتدأ خلقكم من الأرض، فخلق آدم من تراب ثم ذريته من نطفة {واستعمركم فِيهَا} أي جعلكم عمَّارها وسكانها تسكنون بها {فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} أي استغفروه من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} أي إنه سبحانه قريب الرحمة مجيب الدعاء {قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا} أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّداً قبل تلك المقالة فلما قلتها انقطع رجاؤنا فيك {أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أي أتنهانا يا صالح عن عبادة الأوثان التي عبدها آباؤنا؟ {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أي وإننا لشاكون في دعواك، وأمرُك مريب يوجب التهمة {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي} أي أخبروني إن كنتُ على برهانٍ وحجة واضحةٍ من ربي {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} أي وأعطاني النبوة والرسالة {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ} أي فمن يمنعني من عذاب الله إن عصيت أمره؟ {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي فما تزيدونني بموافقتكم وعصيان(2/19)
أمر الله غير تضليل وإبعاد عن الخير قال الزمخشري: {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} يعني تخسرون أعمالي وتبطلونها {وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} أضاف الناقة إلى الله تشريفاً لها لأنها خرجت من صخرة صماء بقدرة الله حسب طلبهم أي هذه الناقة معجزتي لكم وعلامة على صدقي {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} أي دعوها تأكل وتشرب في أرض الله فليس عليكم رزقها {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} أي لا تنالوها بشيءٍ من السوء فيصيبكم عذاب عاجل لا يتأخر عنكم {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} أي ذبحوا الناقة فقال لهم صالح: استمتعوا بالعيش في بلدكم ثلاثة أيام ثم تهلكون قال القرطبي: إنما عقرها بعضهم وأضيف إلى الكل لأنه كان برضى الباقين، فعقرت يوم الأربعاء فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وآتاهم العذاب يوم الأحد {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي وعدٌ حق غير مكذوب فيه {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ} أي فلما أمرنا بإهلاكهم نجينا صالحاً ومن آمن به {بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} أي بنعمةٍ وفضلٍ عظيم من الله {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أي ونجيناهم من هوان ذلك اليوم وذُلّة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز} أي القوي في بطشه، العزيز في ملكه، لا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي أخذتهم صيحةٌ من السماء تقطعت لها قلوبهم، فأصبحوا هامدين موتى لا حرَاك بهم كالطير إذا جثمت {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} أي كأن لم يقيموا في ديارهم ولم يَعْمُروها {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} أي ألا فانتبهوا أيها القوم إن ثمود كفروا بآيات ربهم فسحقاً لهم وبُعْداً، وهلاكاً ولعنة {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} هذه هي القصة الرابعة وهي قصة لوط وهلاك قومه المكذبين أي جاءت الملائكةُ الذين أرسلناهم لإِهلاك قوم لوط إبراهيمَ بالبشارة بإسحاق، قال القرطبي: لما أنزل الله الملائكة لعذاب قوم لوط مرّوا بإبراهيم فظنهم أضيافاً، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قاله ابن عباس، وقال السدي: كانوا أحد عشر ملَكاً على صورة الغلمان الحسان الوجوه {قَالُواْ سَلاَماً} أي سلموا عليه سلاماً {قَالَ سَلاَمٌ} أي قال لهم إبراهيم: سلام عليكم قال المفسرون: ردَّ عليهم التحية بأحسن من تحيتهم لأنه جاء بها جملة اسميّة وهي تدل على الثبات والاستمرار {فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أي فما أبطأ ولا تأخر مجيئه حتى جاء بعجلٍ مشويٍّ فقدمه لهم قال الزمخشري: والعجل: ولد البقرة ويسمى «الحسيل» وكان مال إبراهيم عليه السلام البقر، والحنيذ: المشوي بالحجارة المحماة في أخدود وقيل: الذي يقطر دسمه ويدل عليه «بعجلٍ سمين» {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} أي فلما رآهم لا يمدون أيديهم إلى الطعام ولا يأكلون منه أنكرهم {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أي أحسَّ منهم الخوف والفزع قال قتادة: كان العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير وأنه جاء يحدث نفسه بشرّ {قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} أي قالت الملائكة: لا تخف فإنا ملائكة ربك لا نأكل، وقد(2/20)
أُرسلنا لإِهلاك قوم لوط {وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ} أي وامرأة إبراهيم واسمها «سارة» قائمة وراء الستر تسمع كلامهم فضحكت استبشاراً بهلاك قوم لوط {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} أي بشرتها الملائكة بإِسحاق ولداً لها ويأتيه مولودٌ هو يعقوب ابناً لولدها {قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً} أي قالت سارة متعجبة: يا لهفي ويا عجيب أألد وأنا امرأة مسنّة وهذا زوجي إبراهيم شيخ هرم أيضاً فكيف يأتينا الولد؟ {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} أي إن هذا الأمر لشيء غريب لم تجر به العادة قال مجاهد: كانت يومئذٍ ابنة تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة وعشرين سنة {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} أي أتعجبين من قدرة الله وحكمته في خلق الولد من زوجين هرمين؟ ليس هذا بمكان عجب على قدرة الله {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} أي رحمكم الله وبارك فيكم يا أهل بيت إِبراهيم {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} إي إنه تعالى محمود ممجدّ في صفاته وذاته، مستحقٌ للحمد والتمجيد من عباده، وهو تعليل بديع لما سبق من البشارة.
البَلاَغَة: 1 - {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} المراد بالسماء المطر فهو مجاز مرسل لأن المطر ينزل من السماء ولفظ «مدراراً» للمبالغة أي كثير الدر.
2 - {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} أمرٌ بمعنى التعجيز.
3 - {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} استعارة تمثيلية شبّه الخلق وهم في قبضة الله وملكه وتحت قهره وسلطانه بالمالك الذي يقود المقدور عليه بناصيته كما يقاد الأسير والفرس بناصيته.
4 - {إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} استعارة لطيفة عن كمال العدل في ملكه تعالى فهو مطلع على أمور العباد لا يفوته ظالمن ولا يضيع عنده معتصم به.
5 - {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} الأمر كناية عن العذاب.
6 - {نَجَّيْنَا هُوداً ... وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} التكرار في لفظ الإِنجاء لبيان أن الأمر شديد عظيم لا سهل يسير، ويسمى هذا الإطناب.
7 - {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} أي عصوا رسولهم هوداً وفيه تفظيع لحالهم وبيان أن عصيانهم له عصيانٌ لجميع الرسل السابقين واللاحقين، وهو مجاز مرسل من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.
8 - {ألا إِنَّ عَاداً ... أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ} تكرير حرف التنبيه وإعادة لفظ «عاد» للمبالغة في تهويل حالهم.
تنبيه: لم يقل هود عليه السلام: إني أُشهد الله وأشهدكم وإِنما قال: {إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} وذلك لئلا يفيد التشريك بين الشهادتين والتسوية بينهما، فأين شهادة الله العلي الكبير من شهادة العبد الحقير؟!(2/21)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن قصة ضيوف إِبراهيم، وهم الملائكة الذين مروا عليه وهم بطريقهم لإِهلاك قوم لوط، وبشروه بالبشارة السارة بولادة غلام له، وقد ذكرت الآيات مرورهم(2/22)
على لوط وما حلَّ بقومه من النكال والدمار، وهي القصة الخامسة، ثم ذكرت قصة شعيب مع أهل مدين، وقصة موسى مع فرعون، وفي جميع هذه القصص عبرٌ وعظات.
اللغَة: {الروع} الخوف والفزع {مُّنِيبٌ} الإِنابة: الرجوع والتوبة {عَصِيبٌ} شديد في الشر قال الشاعر:
وإِنك إلاّ تُرض بكرَ بن وائلٍ ... يكنْ لك يومٌ بالعراق عصيب
{يُهْرَعُونَ} يسرعون قال الفراء: الإِهراع الإِسراع مع رِعدة يقال أُهرع الرجل إهراعاً أي أسرع في رعدة من برد أو غضب {تُخْزُونِ} أخزاه: أهانه وأذله قال حسان:
فأخزاكَ ربي يا عُتَيْبَ بن مالكٍ ... ولقَّاك قبل الموتِ إِحدى الصَّواعق
{سِجِّيلٍ} السّجيل والسّجين: الشديد من الحجر قاله أبو عبيدة، وقال الفراء: طينٌ طبخ حتى صار كالآجر {مَّنْضُودٍ} متتابع بعضه فوق بعض في النزول {مُّسَوَّمَةً} معلَّمة من السِما وهي العلامة {شقاقي} الشقاق: العداوة قال الشاعر:
ألاَ من مبلغٌ عني رسولاً ... فكيف وجدتم طعم الشقاق
{رَهْطُكَ} رهط الرجل: عشيرته التي يتقوى بهم {الورد} المدخل {الرفد} العطاء والإِعانة.
التفِسير: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} أي فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه، واطمأن قلبُه لضيوفه حين علم أنهم ملائكة {وَجَآءَتْهُ البشرى} أي جاءته البشارة بالولد {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} أي أخذ يجادل ملائكتنا في شأن إهلاك قوم لوط، وغرضُه تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون قال المفسرون: لما قالت الملائكة: {إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية} [العنكبوت: 31] قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا فقال لهم {إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} [العنكبوت: 32] {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ} أي غير عجولٍ في الانتقام من المسيء إِليه {أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} أي كثير التأوه والتأسف على الناس لرقة قلبه، منيب رجّاعٌ إِلى طاعة الله {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ} أي قالت الملائكة: يا إِبراهيم دع عنك الجدال في قوم لوط فقد نفذ القضاء بعذابهم {إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ} أي جاء أمر الله بإِهلاكهم {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} أي نازلٌ بهم عذابٌ غير مصروفٍ عنهم ولا مدفوع {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ} أي ولما جاءت الملائكة لوطاً أصابه سوء وضجر، لأنه ظهر أنهم من البشر فخاف عليهم من قومه {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} أي ضاق صدره بمجيئهم خشيةً عليهم من قومه الأشرار {وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي شديد في الشر {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي جاء قومه يسرعون إِليه لطلب الفاحشة بالضيوف كأنهم يدفعون إِلى ذلك دفعاً {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} أي ومن قبل ذلك الحين كانت عادتهم(2/23)
إِتيان الرجال وعمل الفاحشة فلذلك لم يستحيوا حين جاءوا يهرعون لها مجاهرين قال القرطبي: وكان سبب إِسراعهم أن امرأة لوط الكافرة لما رأت الأضياف وجمالهم، خرجت حتى أتت مجلس قومها فقالت لهم: إن لوطاً قد أضاف الليلة فتيةً ما رأيت مثلهم جمالاً فحينئذٍ جاءوا يُهرعون إِليه {قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أي قال لهم لوط: هؤلاء نساء البلدة أُزوِّجكم بهن فذلك أطهر لكم وأفضل، وإنما قال بناتي لأن كل نبيٍّ أبٌ لأمته في الشفقة والتربية {فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أي اخشوا عذاب الله ولا تفضحوني وتهينوني في ضيوفي {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} أي استفهام توبيخ أي أليس فيكم رجل عاقل يمنع عن القبيح؟ {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي قال له قومه: لقد علمت يا لوط ما لنا في النساء من أرب.
وليس لنا رغبة فيهن {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} أي وأنت تعلم غرضنا وهو إِتيان الذكور، صرّحوا له بغرضهم الخبيث قبّحهم الله {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أي لو كان لي قوة أستطيع أن أدفع أذاكم بها {أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي ألجأ إِلى عشيرة وأنصار تنصرني عليكم، وجواب «لو» محذوف تقديره لبطشتُ بكم وفي الحديث «رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركنٍ شديد» يريد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله كان ناصره ومؤيده، فهو ركنه الشديد وسنده القوي قال قتادة: وذُكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبياً بعد لوط إِلا في منعة من عشيرته، وحين سمع رسل الله تعالى تحسر لوط على ضعفه وانقطاعه من الأنصار {قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ} أي قالت الملائكة للوط: إِنا رسلُ ربك أُرسلنا لإِهلاكهم وإِنهم لن يصلوا إِليك بضرر ولا مكروه {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} أي اخرج بهم بطائفةٍ من الليل قال الطبري: أي اخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك} أي لا ينظر أحدٌ منكم وراءه إِلا امرأتَك فإِنها ستهلك كما هلكوا، نُهوا عن الالتفات لئلا تتفطر أكبادهم على قريتهم قال القرطبي: إِن امرأة لوط لمّا سمعت هدَّة العذاب التفتت وقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ} أي إنه يصيب امرأتك من العذاب ما أصاب قومك {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} أي موعد عذابهم وهلاكهم الصبحُ {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه فقالوا له: أليس وقت الصبح قريباً؟ قال المفسرون: إِن قوم لوط لما سمعوا بالضيوف هرعوا نحوه، فأغلق بابه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما بلوطٍ من الكرب قالوا يا لوط: افتح الباب ودعنا وإِيّاهم، ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم وعموا، وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاءَ، النجاء كما قال تعالى
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37] ثم إن لوطاً سرى بمن معه قبل الفجر، ولما حان وقت عذابهم أمر الله جبريل فاقتلع مَدائن قوم لوط - وهي خمسٌ - من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها، حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة، ونباح الكلاب، ثم أرسلها مقلوبة وأتبعهم الله بالحجارة ولهذا قال تعالى {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي فلما(2/24)
جاء وقت العذاب قلبنا بهم القرى فجعلنا العالي سافلاً {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} أي أرسلنا على أهل تلك المدن حجارة صلبة شديدة من نارٍ وطين، شبّهها بالمطر لكثرتها وشدتها {مَّنْضُودٍ} أي متتابعة، بعضُها في إِثر بعض {مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ} أي معلَّمة بعلامة قال الربيع: قد كتب على كل حجر اسم من يُرمى به قال القرطبي: وقوله {عِندَ رَبِّكَ} دليلٌ على أنها ليست من حجارة الأرض {وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} أي ما هذه القرى المهلكة ببعيدة عن قومك «كفار قريش» فإِنهم يمرون عليها في أسفارهم أفلا يعتبرون؟ قال المفسرون: وقد صار موضع تلك المدن بحراً أُجاجاً يعرف ب «البحر الميت» لأن مياهه لا تغذي شيئاً من الحيوان وقد اشتهر باسم «بحيرة لوط» والأرض التي تليها قاحلة لا تنبتُ شيئاً {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة أي وأرسلنا إِلى قبيلة مدين أخاهم شعيباً، وقد كان شعيب من نفس القبيلة ولهذا قال «أخاهم» {قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} أي اعبدوا الله وحده فليس لكم ربٌ سواه {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان، وقد اشتهروا بتطفيف الكيل والوزن {إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي إني أراكم في سعةٍ تغنيكم عن نقص الكيل والميزان قال القرطبي: أي في سعة من الرزق، وكثرةٍ من النعم {وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} أي إِني أخاف عليكم إِن لم تؤمنوا عذاب يومٍ مهلك، لا يفلت منه أحد، والمراد به عذاب يوم القيامة {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} أي أتموا الكيل والوزن للناس بالعدل {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} أي لا تُنْقصوهم من حقوقهم شيئاً {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} أي ولا تسعوا بالفساد في الأرض، والعثيُّ أشد الفساد {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي ما أبقاه الله لكم من الحلال خيرٌ مما تجمعونه من الحرام، إِن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده وقال مجاهد: أي طاعة الله خير لكم {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي ولستُ برقيب أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإِنما أنا ناصح مبلّغ، وقد أعذر من أنذر {قَالُواْ ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ} لما أمرهم شعيب عليه السلام بعبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان، وبإِيفاء الكيل والميزان، ردّوا عليه على سبيل السخرية والاستهزاء فقالوا: أصلاتك تدعوك لأن تأمرنا بترك عبادة الأصنام التي عبدها آباؤنا؟ إن هذا لا يصدر عن عاقل {أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أي وتأمرك بأن نترك تطفيف الكيل والميزان.
قال الإمام الفخر: إِن شعيباً أمرهم بشيئين: بالتوحيد، وترك البخس، فأنكروا عليه أمره بهذين النوعين فقوله {مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ} إِشارة إِلى التوحيد، {نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا} إِشارة إِلى ترك البخس، وقد يراد بالصلاة الدينُ والمعنى: دينُك يأمرك بذلك؟ وأطلق عليه الصلاة لأنها أظهر شعار الدين، وروي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إِذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم {أصلاوتك تَأْمُرُكَ} السخرية والهزء، كما إِذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فتقول: هذا من مطالعة تلك الكتب؟ {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} أي(2/25)
إنك لأنت العاقل المتصف بالحلم والرشد؟ قال الطبري: يستهزئون به فإِنهم أعداء الله قالوا له ذلك استهزاءً، وإِنما سفّهوه وجهّلوه بهذا الكلام {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} أي قال لهم شعيب: أخبروني إِن كنت على برهان من ربي وهو الهداية والنبوة {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} أي أعطاني المال الحلال، فقد كان عليه السلام كثير المال قال الزمخشري: والجواب محذوف دل عليه المعنى أي أخبروني إِن كنت على حجة واضحة، ويقين من ربي، وكنتُ نبياً على الحقيقة أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان، والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يُبعثون إِلا لذلك {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي لست أنهاكم عن شيء وأرتكبه وإِنما آمركم بما آمر به نفسي {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت} أي لا أُريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إِلا إِصلاحكم أمركم بقدر استطاعتي {وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله} أي ليس التوفيق إلى الخير إِلا بتأييده سبحانه ومعونته {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي على الله سبحانه اعتمدت في جميع أموري، وإِليه تعالى أرجع بالتوبة والإِنابة {وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي} أي لا يكسبنكم عداوتي {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} أي يصيبكم العذابُ كما أصاب قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح، وقوم صالح بالرجفة وقال الحسن المعنى: لا يحملنكم معاداتي على ترك الإِيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} أي وما ديار الظالمين من قوم لوطٍ بمكان بعيد، أفلا تتعظون وتعتبرون!؟ {واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} أي استغفروا ربكم من جميع الذنوب، ثم توبوا إِليه توبةً نصوحاً {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} أي إِنه جل وعلا عظيم الرحمة، كثير الود والمحبة لمن تاب وأناب {قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} أي قالوا لنبيّهم شعيب على وجه الاستهانة: ما نفهم كثيراً مما تحدثنا به قال الألوسي: جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحِكَم والمواعظ، وأنواع العلوم والمعارف، من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يُفهم معناه، ولا يدرك فحواه مع أنه كما ورد في الحديث الشريف (خطيب الأنبياء) {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} أي لا قوة لك ولا عزَّ فيما بيننا {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} أي ولولا جماعتك لقتلناك رمياً بالأحجار {وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي لستَ عندنا بمكرَّم ولا محترم حتى نمتنع من رجمك {قَالَ ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله} ؟ هذا توبيخ لهم أي أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى؟ فهل عشيرتي أعزّ عندكم من الله وأكرم؟ قال ابن عباس: إِن قوم شعيب ورهطه كانوا أعزَّ عليهم من الله وصغُر شأنُ الله عندهم، عزَّ ربنا وجلَّ ثناؤه {واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} أي جعلتم الله خلف ظهوركم لا تطيعونه ولا تعظمونه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يُعبأ به، وهذا مثلٌ قال الطبري: يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: نبذ حاجته وراء ظهره أي تركها ولم يلتفت إليها {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي إنه جل وعلا قد أحاط علماً بأعمالكم السيئة وسيجازيكم عليها {وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} تهديدٌ شديد أي اعملوا على طريقتكم إني عاملٌ على طريقتي كأنه يقول: اثبتوا(2/26)
على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة، فأنا ثابت على الإِسلام والمصابرة {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي سوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يذله ويهينه {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} أي وتعلمون من هو الكاذب {وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي انتظروا عاقبة أمركم إنني منتظر معكم {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} أي ولما جاء أمرنا بإِهلاكهم نجينا شعيباً والمؤمنين معه بسبب رحمة عظيمة منا لهم {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} أي وأخذ أولئك الظالمين صيحةُ العذاب قال القرطبي: صاح بهم جبريل صيحةً فخرجت أرواحهم من أجسادهم {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي موتى هامدين لا حراك بهم قال ابن كثير: وذكر هاهنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء عذاب يوم الظلة، وهم أمةٌ واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلّها، وإنما ذكر في كل سياقٍ ما يناسبه {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} أي كأن لم يعيشوا ويقيموا في ديارهم قبل ذلك {أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} قال الطبري: أي ألا أبعد الله مدين من رحمته بإِحلال نقمته، كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإِنزال سخطه بهم {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} هذه هي القصة السابعة وهي آخر القصص في هذه السورة والمعنى: لقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف إِلهية، وأيدناه بمعجزات قاهرة، وبينات قاهرة، كالعصا واليد {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي إلى فرعون وأشراف قومه {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي فأطاعوا أمر فرعون وعصوا أمر الله {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي وما أمر فرعون بسديد لأنه ليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} أي يتقدم أمامهم إلى النار يوم القيامة كما كان يتقدمهم في الدنيا {فَأَوْرَدَهُمُ النار} أي أدخلهم نار جهنم {وَبِئْسَ الورد المورود} أي بئس المدخل المدخول هي.
{وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً} أي أُلحقوا فوق العذاب الذي عجله الله لهم لعنةً في الدنيا {وَيَوْمَ القيامة} أي وأُردفوا بلعنةٍ أخرى يوم القيامة {بِئْسَ الرفد المرفود} أي بئس العونُ الُمعان والعطاء المُعْطى لهم، وهي اللعنة في الدارين.
البَلاَغَة: 1 - {ذَهَبَ الرَّوْعُ. . وَجَآءَتْهُ} بينهما طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
2 - {جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ} كناية عن العذاب الذي قضاه الله لهم.
3 - {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} الاستفهام للتعجب والتوبيخ.
4 - {أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} قال الشريف الرضي: وهذه استعارة والمراد بها قومه وعشيرته جعلهم ركناً له لأن الإنسان يلجأ إِلى قبيلته، ويستند إلى أعوانه كما يستند إِلى ركن البناء الرصين، وجاء جواب «لو» محذوفاً تقديره: لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد، والحذف هاهنا أبلغ لأنه يوهم بعظيم الجزاء وغليظ النكال.
5 - {عَالِيَهَا سَافِلَهَا} بينهما طباقٌ.(2/27)
6 - {عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} فيه مجاز عقلي أسند الإِحاطة لليوم مع أن اليوم ليس بجسم باعتبار العذاب يكون فيه، فهو إِسنادٌ للزمان.
7 - {واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} فيه استعارة تمثيلية كالشيء الذي يلقى وراء الظهر ولا يكترث به.
8 - {فَأَوْرَدَهُمُ النار} فيه استعارة مكنية لأن الورود في الأصل يقال للمرور على الماء للاستسقاء منه، فتشبّه النار بماءٍ يورد وحذف ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الورد، وشبّه فرعون في تقدمه على قومه بمنزلة من يتقدم على الواردين إِلى الماء ليكسر العطش وقوله {وَبِئْسَ الورد المورود} تأكيد له لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد وفي النار إلهابٌ للعطش وتقطيع للأكباد، نعوذ بالله من جهنم.(2/28)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى بعض قصص المرسلين، وما حلَّ بأممهم من النكال والدمار، ذكر هنا العبرة من سرد هذه القصص، وهي أن تكون شاهداً على تعجيل العقوبة للمكذبين والانتقام العاجل منهم وبرهاناً على تأييد الله ونصرته لأوليائه وأنبيائه، وقد ذكرت الآيات يوم القيامة وانقسام الناس فيه إِلى فريقين: سعداء، وأشقياء، وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالصبر على الأذى، والتوكل على الحي القيوم.
اللغَة: {حَصِيدٌ} مستأصل كالزرع المحصود {تَتْبِيبٍ} التباب: الهلاك والخسران قال لبيد:
فلقد بَلييتُ وكلُّ صاحب جِدَّةٍ ... لبِلىً يعودُ وذاكُمُ التَّتْبيبُ
{زَفِيرٌ} الزفير: إِخراج النَّفَس من شدة الجري {وَشَهِيقٌ} الشهيقُ: ردُّ النَّفَس وقال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره من النَّفَس في حال الغمّ الشديد ويخرجه، والشهيقُ أن يخرج ذلك النَّفَس بشدة وقال بعض أهل اللغة: الزفير مثلُ أول نهيق الحمار، والشهيق مثل آخره {مَجْذُوذٍ} مقطوع من جَّه يجذه إِذا قطعه {تركنوا} الركون: الميلُ إِلى الشيء والرضا به {زُلَفاً} الزُّلف: جمع زُلفة وهي الطائفة من أول الليل قال ثعلب: هي أول ساعات الليل، وأصلها من الزلفى وهي القربة {وَأُزْلِفَتِ الجنة} [الشعراء: 90] قُرِّبت {أُتْرِفُواْ} التَّرف: البطر يقال فلان مترف أي أبطرته النعمة وسعة العيش {مِرْيَةٍ} شك وريب.
سَبَبُ النّزول: عن ابن مسعود أن رجلاً جاء إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إِني عالجتُ امرأةً في أقصى المدينة، وإِني أصبتُ منها من دون أن أمسَّها، وأنا هذا فاقض فيَّ ما شئتَ! فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك، فلم يردَّ عليه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً، فانطلق الرجل ونزلت هذه الآية {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} فأتبعه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً فدعاه فتلاها عليه.
التفسِير: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} أي ذلك القصص من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم وتكذيبهم الرسل، نقصه عليك يا محمد ونخبرك عنه بطريق الوحي {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} أي من هذه القرى ما هو عامر قد هلك أهلُه وبقي بنيانُه، ومنها ما هو خراب قد اندثر بأهله فلم يبق له أثر كالزرع المحصود {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ} أي وما ظلمناهم بإِهلاكهم بغير ذنب، ولكنْ ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فاستحقوا عذاب الله ونقمته {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ} أي ما نفعتهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله، ولا دفعت(2/29)
عنهم شيئاً من عقاب الله وعذابه {لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي حين جاء قضاء الله بعذابهم {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي وما زادتهم تلك الآلهة غير تخسير وتدمير {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي مثل ذلك الأخذ والإِهلاك الذي أخذ الله به أهل القرى الظالمين المكذبين، يأخذ تعالى بعذابه الفجرة الظلمة قال الألوسي: وفي الآية من إِنذار الظالم ما لا يخفى كما قال عليه السلام
«إن الله ليُملي للظالم حتى إِذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ الأية {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} أي إن عذابه موجع شديد، وهذا مبالغة في التهديد والوعيد {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} أي إن في هذه القصص والأخبار لعظة وعبرة لمن خاف عذاب الله وعقابه في الآخرة {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} أي يجتمع فيه الخلائق للحساب والثواب والعقاب {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي يشهده أهل السماء والأرض، والأولون والآخرون قال ابن عباس: يشهده البر والفاجر {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} أي ما نؤخر ذلك اليوم - يوم القيامة - إِلا لزمنٍ معيَّن سبق به قضاء الله، لا يتقدم ولا يتأخر {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي يوم يأتي ذلك اليوم الرهيب لا يتكلم أحدٌ إِلا بإِذن الله تعالى {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} أي فمن أهل الموقف شقيٌّ، ومنهم سعيد كقوله {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7] {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} أي فأما الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة فإِنهم مستقرون في نار جهنم، لهم من شدة كربهم {زَفِيرٌ} وهو إخراج النَّفَس بشدة {وَشَهِيقٌ} وهو ردُّ النَّفَس بشدة، وقال بعض المفسرين: شبِّه صراخهم في جهنم بأصوات الحمير قال الطبري: في روايته عن قتادة: صوتُ الكافر في النار صوت الحمار، أوله زفير وآخره شهيق {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} أي ماكثين في جهنم أبداً على الدوام ما دامت السماوات والأرض قال الطبري: إِن العرب إِذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت: هذا دائمٌ دوام السماوات والأرض بمعنى أنه دائمٌ أبداً، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم قال ابن زيد: أحدهما أن تراد سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد، والثاني أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} الاستثناء في أهل التوحيد، لأن لفظة {شَقُواْ} تعم الكفار والمذنبين، فاستثنى الله من خلود أهل الشقاوة العصاة من المؤمنين، فإِنهم يطهرون في نار جهنم ثم يخرجون منها بشفاعة سيد المرسلين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويدخلهم الله الجنة ويقال لهم: {طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} أي يفعل ما يريد يرحمْ ويعذب كما يشاء ويختار، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} هذا بيانٌ لحال الفريق الثاني «أهل السعادة» اللهم اجعلنا منهم أي وأما السعداء الأبرار(2/30)
فإِنهم مستقرون في الجنة، لا يُخْرجون منها أبداً، دائمون فيها دوام السماوات والأرض، أو ما دامت سماوات الجنة وأرض الجنة حسب مشيئته تعالى، وقد شاء تعالى لهم الخلود والدوام {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي عطاءً غير مقطوع عنهم، بل هو ممتد إلى غير نهاية {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء} أي لا تكن في شكٍ من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال بمعنى لا تشك في فساد دينهم {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ} أي هم متبعون لآبائهم تقليداً من غير حجة ولا برهان، وهذه تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعدٌ له بالانتقام منهم، إِذ حالُهم حالُ من سبقهم من الضالين المكذبين، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم فسينزل بهم مثله {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} أي وسنعطيهم جزاءهم من العذاب كاملاً غير منقوص وقال ابن عباس: ما قُدِّر لهم من الخير والشر {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} قال الطبري: يقول تعالى مسلياً نبيه في تكذيب مشركي قومه له: لا يحزنك يا محمد تكذيب هؤلاء لك، فلقد آتينا موسى التوراة كما آتيناك الفرقان، فاختلف في ذلك الكتاب، فكذَّب به بعضُهم، وصدَّق به بعضُهم، كما فعل قومك {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي ولولا حكم الله السابق بتأخير الحساب والجزاء إِلى يوم القيامة لقُضي بينهم في الدنيا فجوزي المحسن بإِحسانه، والمسيء بإِساءته، ولكن سبق القدر بتأخير الجزاء إِلى يوم الحساب {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} أي وإن الكفار قومك لفي شك من هذا القرآن مُريب لهم، إِذ لا يدرون أحقٌ هو أم باطل؟ {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي وإنَّ كلا من المؤمنين والكافرين لمَّا ينالوا جزاء أعمالهم وسيوفيهم ربُّك جزاءها في الآخرة {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عليمٌ بأعمالهم جميعاً، صغيرها وكبيرها، وسيجازيهم عليها {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} أي استقم يا محمد على أمر الله واثبُت وداوم على الاستقامة كما أمركَ ربُّك {وَمَن تَابَ مَعَكَ} أي ومن تاب من الشرك والكفر وآمن معك {وَلاَ تَطْغَوْاْ} أي لا تجاوزوا حدود الله بارتكاب المحارم {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي إنه تعالى مطلّع على أعمالكم ويجازي عليها {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار} أي لا تميلوا إلى الظلمة من الولاة وغيرهم من الفسقة الفجرة فتمسكم نار جهنم قال البيضاوي: الركونُ هو الميل اليسير أي لا تميلوا إِليهم أدنى ميل فتمسكم النار بركونكم إِليهم، وإِذا كان الركونُ اليسير إِلى من وجد منه ما يسمى ظلماً كذلك، فما ظنك بالركون إِلى الظالمين الموسومين بالظلم، والميل إِليهم كلَّ الميل؟! {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} أي ليس لكم من يمنعكم من عذابه ثم لا تجدون من ينصركم من ذلك البلاء قال القرطبي: والآية دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي فإن صحبتهم كفرٌ أو معصية إذ الصحبةُ لا تكون إِلا عن مودَّة، وأما صحبة الظالم على التقيَّة فمستثناةٌ من النهي بحال الاضطرار {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} أي أقم الصلاة المكتوبة على تمامها وكمالها أول النهار وآخره، والمراد صلاة الصبح والعصر لأنهما طرفا النهار {وَزُلَفاً مِّنَ(2/31)
اليل} أي ساعاتٍ منه قريبةً من النهار، والمراد بهما المغرب والعشاء {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} أي إن الأعمال الصالحة ومنها الصلوات الخمس تكفّر الذنوب الصغائر، لحديث
«الصلواتُ الخمسُ كفارةٌ لما بينهما ما اجتُنبت الكبائرُ» قال المفسرون: المراد بالحسنات الصلواتُ الخمسُ واستدلوا على ذلك بسبب النزول، وهذا قول الجمهور، والأظهر أن المراد بها العموم وهو اختيار ابن كثير حيث قال: المعنى إن فعل الخيرات يكفّر الذنوب السالفة كما جاء في الحديث «ما من مسلم يُذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غُفر له» {ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} أي ذلك المذكور من الاستقامة والمحافظة على الصلاة، عظةٌ للمتعظين وإرشادٌ للمسترشدين {واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي اصبر يا محمد على ما تلقى من المكاره ومن أذى المشركين، فإنَّ الله معك وهو لا يضيع ثواب المحسنين {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض} أي فهلاَّ كان من الأمم الماضية قبلكم أُولُو عقل وفضل، وجماعةٌ أخيارٌ ينهون الأشرار عن الإِفساد في الأرض {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} استثناء منقطع أي لكنْ قليلاً منهم، نهَوْا عن الفساد فَنَجَوْا قال في البحر: «لولا» في الآية للتحضيض صحبها معنى التأسف والتفجع مثل قوله {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] والغرضُ التأسف على تلك الأمم التي لم تهتد كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره {واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ} أي واتَّبع أولئك الظلمة شهواتهم، وما نُعّموا به من الاشتغال بالمال واللذات وآثروها على الآخرة {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} أي وكانوا قوماً مصرِّين على الإِجرام {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} أي ما جرت عادة الله تعالى أن يهلك القرى ظلماً وأهلُها مصلحون في أعمالهم، لأنه تعالى منزّه عن الظلم، وإِنما يهلكهم بكفرهم ومعاصيهم {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لجعل الناس كلَّهم مؤمنين مهتدين على ملة الإِسلام، ولكنَّه لم يفعل ذلك للحكمة {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} أي ولا يزالون مختلفين على أديان شتى، وملل متعددة ما بين يهودي، ونصراني، ومجوسي، إلا ناساً هداهم الله من فضله وهم أهل الحق {ولذلك خَلَقَهُمْ} اللام لامُ العاقبة أي خلقهم لتكون العاقبة اختلافهم ما بين شقي وسعيد قال الطبري: المعنى وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، فريق في الجنة، وفريقٌ في السعير {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} أي تمَّ أمر الله ونفذ قضاؤه بأن يملأ جهنم من الجنّ والإِنس من الكفرة الفجرة جميعاً قال الألوسي: والجملة متضمنة معنى القسم ولذا جيء باللام في {لأَمْلأَنَّ} وكأنه قال: واللهِ لأملأن جهنم من أتباع إِبليس من الإِنس والجن أجمعين {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أي كل هذه الأخبار التي قصصناها عليك يا محمد من أخبار الرسل السابقين، إِنما هي بقصد تثبيتك على أداء الرسالة، وتطمين قلبك، ليكون لك بمن مضى من إخوانك المرسلين أسوة فتصبر كما صبروا {وَجَآءَكَ فِي هذه الحق} أي جاءك في هذه الأنباء التي قصها الله عليك النبأ اليقيني الصادق {وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وجاءك في هذه الأخبار أيضاً ما فيه عظة وعبرة للمعتبرين، وخصَّ المؤمنين بالذكر(2/32)
لانتفاعهم بمواعظ القرآن {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} أي اعملوا على طريقتكم ومنهجكم إِنا عاملون على طريقتنا ومنهجنا، وهو أمرٌ ومعناه التهديد والوعيد {وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} تهديدٌ آخر أي انتظروا ما يحلُّ بنا إِنا منتظرون ما يحل بكم من عذاب الله {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} أي علمُ ما غاب وخفي فيهما، كلُّ ذلك بيده وبعلمه {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} أي إِليه يردُّ أمر كل شيء، فينتقم ممن عصى، ويثيب من أطاع وفيه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتهديد للكفار بالانتقام منهم {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} أي اعبد ربَّك وحده، وفوّضْ إِليه أمرك، ولا تعتمدْ على أحدٍ سواه، فإنه كافي من توكُّل عليه {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، ويجازي كلاً بعمله.
البَلاَغَة: 1 - {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} شبَّه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه، وشبَّه ما هلك مع أهله ولم يبق له أثر بالزرع المحصود بالمناجل على طريق الاستعارة المكنية.
2 - {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ} فيه طباق السلب.
3 - {إِذَا أَخَذَ القرى} مجازٌ عن الأهل أي أخذ أهل القرى.
4 - {شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} بينهما طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
5 - {فَأَمَّا الذين شَقُواْ ... وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ} فيه لفٌ ونشر مرتب.
6 - {فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} الكلمة هنا كناية عن القضاء والقدر.
7 - {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} بينهما طباقٌ.
8 - {ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} بينهما جناس الاشتقاق.
تنبيه: خلود أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ثابتٌ مقطوعٌ به بالنصوص العديدة، وأما الاستثناء بالمشيئة في هذه السورة فقد استعمل في أسلوب القرآن للدلالة على الثبوت والاستمرار، والنكتة في ذكره بيان أنَّ هذه الأمور إِنما كانت بمشيئته تعالى ولو شاء لغيَّرها، وليس شيء خارج عن مشيئته، فالإِيمان والكفر، والسعادة والشقاوة، والخلود والخروج كلها بمشيئته تعالى.
فَائِدَةَ: أشار الشهاب إِلى لطيفةٍ من البلاغة القرآنية، وهي أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإِن كانت عامة في المعنى {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ، وَأَقِمِ الصلاة، واصبر} وفي المنهيات جمعت للأمة {وَلاَ تَطْغَوْاْ، وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ} كذا في العناية.(2/33)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
اللغَة: {المبين} الظاهر الجلي {القصص} إتباعُ الخبر بعضُه بعضاً وأصلُه في اللغة المتابعة {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] أي اتبعي أثَره والمراد بالقَصَص الأخبار التي قصها علينا الله في كتابه العزيز {الرؤيا} خاصة بالمنام وأما باليقضة فهي بالتاء الرؤية قال الألوسي: مصدر رأى الحلمية الرؤيا ومصر البصرية الرؤية ولهذا خُطّىء المتنبي في قوله «ورؤياكَ أحلى في العيون من الغَمْض» {يَجْتَبِيكَ} الاجتباء: الاصطفاء والاختيار وأصله من جبيتُ الشيء أي حصَّلته {عُصْبَةٌ} جماعة قال الفراء: ما زاد على العشرة، والعصبةُ والعصابة العشرة فصاعداً {اطرحوه} الطرح: رمب الشيء وإلقاؤه {غيابت الجب} قعره وغوره سمي به لغيبته عن عين الناظر {يَرْتَعْ} يتسع في أكل ما لذَّ وطاب قال الراغب: الرع حقيقته في أكل البهائم ويستعار للإِنسان إذا أريد به الأكل الكثير قالت الخنساء:
ترتَعُ ما رتَعَتْ حتَّى إذا ادكرتْ ... فإِنَّما هيَ إقبالٌ وإدبار(2/36)
{السيارة} المسافرين {سَوَّلَتْ} زيَّنت {وَارِدَهُمْ} الوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم.
سَبَبُ النّزول: روي أن اليهود سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قصة يوسف وما حصل له مع إخوته من أولاد يعقوب فنزلت السورة.
التفسِير: {الر} إشارة إِلى الإِعجاز، فمن هذه الحروف وأمثالها تتألف آيات الكتاب المعجز {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} أي تلك الآيات التي أنزلت إليك يا محمد هي آيات الكتاب المعجز في بيانه، الساطع في حججه وبراهينه، الواضح في معانيه، الذي لا تشتبه حقائقه، ولا تلتبس دقائقُه {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أي أنزلناه بلغة العرب كتاباً عربياً مؤلفاً من هذه الأحرف العربية {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تعقلوا وتدركوا أن الذي يصنع من الكلمات العادية هذا الكتاب المعجز ليس بشراً، وإنما هو إله قدير، وهذا الكلام وحيٌ منزل من رب العالمين {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} أي نحن نحدثك يا محمد ونروي لك أخبار الأمم السابقة، بأصدق كلام، وأحسن بيان {بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن} أي بإِيحاءتنا إليك هذا القرآن المعجز {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} أي وإنَّ الحال والشأن أنك كنتَ من قبل أن نوحي إليك هذا القرآن لمن الغافلين عن هذه القصة، لم تخطر ببالك، ولم تقرعْ القصة، لأنك أميٌّ لا تقرأ ولا تكتب {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} من هنا بداية القصة، أي اذكر حين قال يوسفُ لأبيه يعقوب يا أبي إني رأيت في المنام هذه الرؤيا العجيبة، رأيت أحد عشر كوكباً من كواكب السماء خرّت ساجدةً لي {والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} أي ورأيت في المنام الشمس والقمر ساجدةً لي مع الكواكب قال ابن عباس: كانت الرؤيا فيهم وحياً قال المفسرون: الكواكب الأحد عشر كانت إخوته، والشمس والقمر أبواه، وكان سنه إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، وبين هذه الرؤيا واجتماعه بأبيه وإخوته في مصر أربعون سنة {قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ} أي قال له يعقوب: لا تخبرْ بهذه الرؤيا إخوتك {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً} أي فيحتالوا لإِهلاكك حيلةً عظيمة لا تقدر على ردّها {إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي ظاهر العداوة قال أبو حيان: فهم يعقوب من رؤيا يوسف أن الله تعالى يبلّغه مبلغاً من الحكمة، ويصطفيه للنبوة، وينعم عليه بشرف الدارين، فخاف عليه من حسد إخوته فنهاه أن يقصَّ رؤياه عليهم {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي وكما أراك مثل هذه الرؤيا العظيم كذلك يختارك ربك للنبوة {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} أي يعلمك تفسير الرؤيا المناميَّة {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ} أي يتمم فضله وإنعامه عليك وعلى ذرية أبيك يعقوب {كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} أي كما أكمل النعمة من قبل ذلك على جدك إِبراهيم وجدك إسحاق بالرسالة والاصطفاء {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليمٌ بمن هو أهلٌ للفضل، حكيم في تدبيره لخلقه {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} أي لقد كان في خبر يوسف وإخوته الأحد عشر عبرٌ وعظاتٌ للسائلين عن أخبارهم {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا} هذه هي المحنة(2/37)
الأولى ليوسف عليه السلام أي حين قالوا: والله ليوسف أخوه «بنيامين» أحبُّ منَّا عند أبينا، أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه، وإنما قالوا {وَأَخُوهُ} وهم جميعاً إخوة لأن أمهما كانت واحدة {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي والحال نحن جماعة ذوو عدد، نقدر على النفع والضر، بخلاف الصغيرين {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي إنه في خطأٍ وخروجٍ عن الصواب بيّن واضح، لإِيثاره يوسف وأخاه علينا بالمحبة قال القرطبي: لم يريدوا ضلال الدين إذ لو أرادوه لكفروا، وإنما أرادوا أنه في خطأ بيِّن في إيثار اثنين على عشرة {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً} أي أُقتلوا يوسف أو ألقوه في أرض بعيدة مجهولة {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي فعند ذلك يخلصْ ويصفو لكم حبُّ أبيكم، فيُقْبل عليكم قال الرازي: المعنى إن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه، فإذا فقده أقبل علينا بالمحبة والميل {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} أي وتتوبوا من بعد هذا الذنب وتصبحوا قوماً صالحين {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب} أي قال لهم أخوهم «يهوذا» وهو أكبر ولد يعقوب: لا تقتلوا يوسف بل ألقوه في قعر الجب وغوره {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} أي يأخذه بعض المارَّة من المسافرين {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} أي إن كان لا بدَّ من الخلاص منه فاكتفوا بذلك، وكان رأيه فيه أهون شراً من رأي غيره {قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} المعنى أيُّ شيء حدث لك حتى لا تأمنا على أخينا يوسف، ونحن جميعاً أبناؤك؟ {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} أي ونحن نشفق عليه ونريد له الخير قال المفسرون: لما أحكموا العزمْ ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف، وفي غاية الشفقة عليه، ليستنزلوه عن رأيه في تخوفه منهم وكأنهم قالوا: لِمَ تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخي به! { {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} أي أرسله معنا غداً إلى البادية، يتسع في أكل ما لذَّ وطاب ويلهو ويلعب بالاستباق وغيره {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي ونحن نحفظه من كل سوء ومكروه، أكّدوا كلامهم بإنَّ واللام وهم كاذبون {قَالَ إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} أي قال لهم يعقوب: إنه ليؤلمني فراقُه لقلة صبري عنه {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} أي وأخاف أن يفترسه الذئب في حال غفلتكم عنه، وكأنه لقنهم الحجة قال الزمخشري: إعتذر إليهم بشيئين: أحدهما: أن ذهابهم به ومفارقته إيّاه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، والثاني: خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم {قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} اللام للقسم أي والله لئن أكله الذئب ونحن جماعة أقوياء أشداء إنا لمستحقون أن يُدعى علينا بالخسارة والدمار {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} في الكلام محذوف أي فأرسله معهم فلما أخذوه وابتعدوا به عن أبيه {وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب} أي عزموا واتفقوا على إِلقائه في غور الجب {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي أوحينا إلى يوسف لتخبرنَّ إخوتك بفعلهم هذا الذي فعلوه بك وهم لا يشعرون في ذلك الوقت أنك يوسف، قال الرازي: وفائدة هذا الوحي تأنيسُه، وتكسينُ نفسه، وإزالةُ الغمّ والوحشةِ عن قلبه، بأنه سيحصل له(2/38)
الخلاص من هذه المحنة {وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ} أي رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء ليلاً وهم يبكون، روي أنه لما سمع يعقوب بكاءهم فزع، وقال: ما لكم يا بَنيَّ، وأين يوسف؟ {قَالُواْ ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي نتسابق في العَدْو، أو في الرمي {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب} أي تركنا يوسف عند ثيابنا وحوائجنا ليحفظها فجاء الذئب فافترسه {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي لست بمصدّق لنا في هذه المقالة ولو كنا في الواقع صادقين، فكيف وأنت تتهمنا وغير واثق بقولنا؟ وهذا القول منهم يدل على الارتياب، وكما قيل: يكاد المريبُ يقول خذوني {وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي جاءوا على ثوبه بدمٍ كاذب، وُصِفَ بالمصدر مبالغةً كأنه نفسُ الكذب وعينُه قال ابن عباس: ذبحوا شاة ولطخوا بدمها القميص فلما جاءوا يعقوب قال: كذبتم لو أكله الذئب لخرقَ القميص وروي أنه قال: «ما أحلم هذا الذئب أكل ابني ولم يشق قميصه» ؟} {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} أي زيَّنت لكم أنفسكم أمراً في يوسف وليس كما زعم أن الذئب أكله {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي أمري صبرٌ جميل لا شكوى فيه {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} أي وهو سبحانه عوني على تحمل ما تصفون من الكذب {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} أي قوم مسافرون مروا بذلك الطريق قال ابن عباس: جاء قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطئوا الطريق فانطلقوا يهيمون حتى هبطوا على الأرض التي فيها جب يوسف، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} أي بعثوا من يستقي لهم الماء {فأدلى دَلْوَهُ} أي أرسل دلوه في البئر قال المفسرون: لما أدلى الواردُ دلوه وكان يوسف في ناحيةٍ من قعر البئر تعلَّق بالحبل فخرج فلما رأى حسنه وجماله نادى {قَالَ يابشرى هذا غُلاَمٌ} قاله على سبيل السرور والفرح لتبشير نفسه وجماعته قال أبو السعود: كأنه نادى البشرى وقال تعاليْ فهذا أوانك حيث فاز بنعمة جليلة {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي أخفوا أمره عن الناس ليبيعوه في أرض مصر متاعاً كالبضاعة والضمير يعود على الوارد وجماعته {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي لا يخفى عليه سبحانه أسرارهم، وما عزموا عليه في أمر يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} هذه هي المحنة الثانية في حياة يوسف الصدّيق وهي محنة الاسترقاق أي باعه أولئك المارة الذين استخرجوه من البئر بثمنٍ قليل منقوص هو عشرون درهماً كما قال ابن عباس {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} أي وكانوا في يوسف من الزاهدين الذين لا يرغبون فيه لأنهم التقطوه وخافوا أن يكون عبداً آبقاً فينتزعه سيّده من أيديهم، ولذلك باعوه بأبخس الأثمان {وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي وقال الذي اشتراه من مدينة مصر لزوجته أكرمي إقامته عندنا قال ابن عباس: كان اسم الذي اشتراه «قطفير» وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر «عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} أي عسى أن يكفينا بعض المهمات إذا بلغ أو نتبناه حيث لم يكن يولد لهما ولد {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} أي وكما نجيناه من الجب جعلناه متمكناً في أرض مصر يعيش فيها بعز وأمان {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} أي نوفقه لتعبير بعض المنامات {والله غَالِبٌ على(2/39)
أَمْرِهِ} أي لا يعجزه تعلاى شيء {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي بلغ منتهى شدته وقوته وهو ثلاثون سنة {آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} أي أعطيناه حكمةً وفقهاً في الدين {وكذلك نَجْزِي المحسنين} أي المحسنين في أعمالهم.
البَلاَغَة: 1 - {تِلْكَ آيَاتُ} الاشارة بالبعيد لبعد مرتبته في الكمال وعلو شأنه.
2 - {كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ} تشبيه مرسل مجمل.
3 - {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر} قال الشريف الرضي: هذه استعارة لأن الكواكب والشمس والقمر مما لا يعقل فكان الوجه أن يقال: ساجدة، ولكنها لما أطلق عليها فعل من يعقل جاز أن توصف بصفة من يعقل لأن السجود من فعل العقلاء.
4 - {بِدَمٍ كَذِبٍ} الدم لا يوصف بالكذب والمراد بدم مكذوبٍ فيه أو دمٍ ذي كذب وجيء بالمصدر على طريق المبالغة.
لطيفَة: روي أن امرأةً تحاكمت إلى شريحٍ فبكت فقال الشعبي: يا أبا أمية أما تراها تبكي؟ فقال الشعبي: لقد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمةٌ كذبة، لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق.
تنبيه: ذهب بعض المفسرين إلى أن إخوة يوسف أنبياء واستدلوا على ذلك بأنهم الأسباط المذكورون في قوله تعالى {قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} [آل عمران: 84] والصحيح أن الأسباط ليسوا أولاد يعقوب وإنما هم القبائل من ذرية يعقوب كما نبّه عليه المحققون، ولو كان إخوة يوسف أنبياء لما أقدموا على مثل هذه الأفعال الشنيعة، فالحسد، والسعي بالفساد، والإقدام على القتل، والكذبُ، وإلقاء يوسف في الجب، كل ذلك من الكبائر التي تنافي عصمة الأنبياء، فالقول بأنهم أنبياء - مع هذه الجرائم - لا يقبله عقل حصيف، وانظر ما قاله العلامة ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا الشأن، فإِنه لطيف ودقيق.(2/40)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما أكرم به يوسف من الإِقامة في القصر مع عزيز مصر، ذكر هنا ما تعرّض له عليه السلام من أنواع الفتنة والإِغراء من زوجة العزيز، وصموده أمام تلك الفتنة العارمة، وما ظهر منه من العفة والنزاهة حتى آثر دخول السجن على عمل الفاحشة، وكفى بذلك برهاناً على عفته وطهارته.
اللغَة: {وَرَاوَدَتْهُ} المراودة: الطلب برفقٍ ولين مأخوذة من راد يرود إذا جاء وذهب ومنه الرائد لطلب الكلأ، يقال في الرجل: راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه أي طلبت منه مضاجعتها {هَيْتَ} اسم فعل أمر بمعنى تعال وهلُمّ {مَثْوَايَ} مقامي، والثواء الإِقامة مع الاستقرار {هَمَّتْ} الهمُّ يأتي بمعنى العزم والقصد، ومنه {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر: 5] ويأتي بمعنى الخاطر وحديث النفس دون عزم قال الشاعر:
هممتُ بهمٍّ من بثيةً لو بدا ... شفيتُ غليلاتِ الهوى من فؤاديا(2/41)
فالهمُّ من امرأة العزيز كان هم عزمٍ وتصميم، والهمُّ من يوسف كان مجرد حديث نفس {السواء} المنكر، والفجور، والمكروه {والفحشآء} ما تناهى قبحه والمراد به الزنى {قَدَّتْ} القدُّ: الشق والقطع وأكثر ما يستعمل في الطول، والقطُّ يستعمل في العرض {أَلْفَيَا} وجدا {كَيْدِكُنَّ} الكيد: المكر والحيلة {الخاطئين} المتعمدين للذنب قال الأصمعي: خطئ الرجل فهو خاطئ إذ تعمد الذنب، وأخطأ يخطئ إذا غلط ولم يتعمد {شَغَفَهَا حُبّاً} وصل حبه إلى سويداء قلبها قال الزجاج: الشغاف سويداء القلب {أَصْبُ} أملْ يقال: صبا إلى اللهو إذا مال إليه.
التفسِير: {وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} هذه هي المحنة الثالثة بعد محنة الجب والاسترقاق، والمراودةُ الطلبُ برفقٍ ولين كما يفعل المخادع بكلامه المعسول المعنى: طلبت امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها منه أن يضاجعها، ودعته برفق ولين أن يواقعها، وتوسَّلت إليه بكل وسيلةٍ {وَغَلَّقَتِ الأبواب} أي غلّقت أبواب البيوت عليها وعلى يوسف وأحكمت إغلاقها قال القرطبي: كانت سبعة أبواب غلّقتها ثم دعته إلى نفسها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي هلُمَّ وأسرع إلى الفراش فليس ثمة ما يُخشى قال في البحر: أمرته بأن يسرع إليها {قَالَ مَعَاذَ الله} أي عياذاً بالله من فعل السوء قال أبو السعود: وهذا إشارة إلى أنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، لما أراه الله من البرهان النيِّر على ما فيه من غاية القبح ونهاية السوء {إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي إن زوجك هو سيدي العزيز الذي أكرمني وأحسن تعهدي فكيف أسيء إليه بالخيانة في حَرَمه؟ {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي لا يظفر الظالمون بمطالبهم، ومنهم الخائنون المُجازون الإِحسانَ بالسوء، ثم أخبر تعالى ان امرأة العزيز حاولت إيقاعه في شراكها، وتوسَّلت إليه بكل وسائل الإِغراء، ولولا أنَّ الله جلَّ وعلا حفظه من كيدها لهلك فقال {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أي همَّت بمخالطته عن عزمٍ وقصدٍ وتصميم، عزماً جازماً على الفاحشة لا يصرفها عنها صارف، وقصدت إجباره على مطاوعتها القوة، بعد أن استحكمت من تغليق الأبواب، ودعوته إلى الإِسراع، مما اضطره إلى الهرب إلى الباب {وَهَمَّ بِهَا} أي مالت نفسه إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، وحدثته نفسُه بالنزول عند رغبتها حديث نفسٍ، دون عزمٍ وقصد، فبين الهمين فرق كبير قال الإِمام الفخر: الهمُّ خطورُ الشيء بالبال أو ميلُ الطبع، كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسُه على الميل إليه وطلب شربه، ولكنْ يمنعه دينُه عنه {لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} جوابه محذوفٌ أي لولا حفظ الله ورعايتُه ليوسف، وعصمتُه له لخالطها وأمضى ما حدثته نفسه به، ولكنَّ الله عصمه بالحفظ والتأييد فلم يحصل منه شيءٌ البتَّة قال في البحر: نسب بعضُهم ليوسف ما لا يجوز نسبتُه لآحاد الفُسَّاق، والذي أختاره أن «يوسف» عليه(2/42)
السلام لم يقع منه همٌّ البتَّة، بل هو منفيٌّ لوجود رؤية البرهان كما تقول: «فارقتَ الذنبَ لولا أن عصمك الله» وكقول العرب: «أنتَ ظالمٌ إن فعلتَ» وتقديره: إن فعلتَ فأنتَ ظالم وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها ولكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهمُّ، وأمّا أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحدٍ منهم شيءٌ من ذلك، لأنها أقوالٌ متكاذبة يناقضُ بعضُها بعضاً مع كونها قادحة في بعض فساق الملل فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة وقال أبو السعود: إن همَّه بها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، ميلاً جبلياً، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين، وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمّ منه تسجيلاً محكماً؟ وما قيل: إنه حلَّ الهميان، وجلس مجلس الختان، فإِنما هي خرافاتٌ وأباطيل، تمجها الآذان، وتردّها العقول والأذهان {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء} أي ثبتناه على العفة أمام دوافع الفتنة والإِغراء لنصرف عنه المنكر والفجور، وهذه آيةٌ بيِّنة، وحجةٌ قاطعة على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية، ولو كان كما زعموا لقال «لنصرفه عن السوء والفحشاء» فلما قال {لِنَصْرِفَ عَنْهُ} دلَّ على أن ذلك شيء خارج عن الإرادة فصرفه الله عنه، بما منحه من موجبات العفة والعصمة {والفحشآء} أي لنصرف عنه الزنى الذي تناهى قبحُه {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله لطاعته، واصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته، فلا يستطيع أن يغويهم الشيطان.
. ثم أخبر تعالى بما حصل من المفاجأة العجيبة بقدوم زوجها وهما يتسابقان نحو الباب، ولا تزال هي في هياجها الحيواني {واستبقا الباب} أي تسابقا نحو باب القصر، هو للهرب، وهي للطلب {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} أي شقت ثوبه من خلف لأنها كانت تلحقه فجذبته فشقت قميصه {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الباب} أي وجدا العزيز عند باب القصر فجأة وقد حضر في غير أوان حضوره، وبمهارة فائقة تشبه مهارة إبليس انقلب الوضع فأصبح الظالم مظلوماً، والبريء متهماً {قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ما جزاؤه إلا السجن أو الضرب ضرباً مؤلماً وجيعاً {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} أي قال يوسف مكذباً لها: هي التي دعتني إلى مقارفة الفاحشة لا أني أردت بها السوء {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} قال ابن عباس: كان طفلاً في المهد أنطقه الله، وكان ابن خالها قال في البحر: وكونُه من أهلها أوجب للحجة عليها، وأوثقُ لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} أي إن كان ثوبُه قد شُقَّ من أمام فهي صادقة وهو كاذب {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} أي وإن كان ثوبه قد شُقَّ من الوراء فهي كاذبة وهو صادق، لأن الأمر المنطقي أن يُشق الثوب من خلف إن كانت هي الطالبة له وهو الهارب {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} أي فلما رأى زوجها أن الثوب قد شُقَّ من الوراء {قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ} أي إن هذا الأمر من جملة مكركن واحتيالكنَّ أيتها النسوة {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} تأكيد لما سبق ذكره أي مكركنَّ معشر النسوة واحتيالكنَّ(2/43)
للتخلص مما دبرتُنَّ شيءٌ عظيم {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي يا يوسف أكتم هذا الأمر ولا تذكره لأحد، يقول سيد قطب عليه الرحمة والرضوان: وهنا تبدو صورةٌ من «الطبقة الراقية» في المجتمع الجاهلي، رخاوةٌ في مواجهة الفضائح الجنسية، وميلٌ إلى كتمانها عن المجتمع، فيلتفت العزيز إلى يوسف البريء ويأمره بكتم الأمر وعدم إظهاره لأحد، ثم يخاطب زوجُه الخائن بأسلوب اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق {واستغفري لِذَنبِكِ} أي توبي واطلبي المغفرة من هذا الذنب القبيح، وكأن هذا هو المهم محافظة على الظواهر {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} أي من القوم المتعمدين للذنب، وفي هذا إشارة إلى أن العزيز كان قليل الغَيْرة حيث لم ينتقم ممن أرادت خيانته، وتدنيس فراشه بالإِثم والفجور قال ابن كثير: كان زوجها ليِّن العريكة سهلاً، أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة} أي قال جماعة من النساء في مدينة مصر، روي أنهن خمس نسوة: امرأة ساقي العزيز، وامرأة الحاجب، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن قاله ابن عباس وغيره، والأظهر أن تلك الواقعة شاعت في البلد، واشتهرت وتحدث بها النساء {امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} أي امرأة عزيز مصر تطلب من خادمها وعبدها أن يواقعها وتخادعه وتتوسل إليه لقضاء وطرها منه قال أبو حيان: وتصريحهن بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع، لأن النفوس أميل لسماع أخبار ذوي الجاه، وعبَّرن ب {تُرَاوِدُ} للدلالة على أن ذلك صار سجيَّةً لها فهي دائماً تخادعه عن نفسه لأن المضارع يفيد التجدد والاستمرار {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} أي بلغ حبُّه شَغَاف قلبها - وهو حجابه - وشقَّه حتى وصل إلى فؤادها {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي إنا لنعتقد أنها في ضلال عن طريق الرشد واضح بسبب حبها إيّاه {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أي فلما سمعت بحديثهن، وسماه مكراً لأنه كان في خفية، كما يخفي الماكر مكره {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} أي أرسلت إليهنَّ تدعوهنَّ إلى منزلها لحضور وليمة قال المفسرون: دعت أربعين امرأةً من الذوات منهن النساء الخمس المذكورات {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} أي هيأت لهنَّ ما يتكئن عليه من الفرش والوسائد {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً} في الكلام محذوف أي قدمت لهن الطعام وأنواع الفاكهة ثم أعطت كل واحدة منهنَّ سكيناً لتقطع به {وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ} أي وقالت ليوسف وهنَّ مشغولات بتقشير الفاكهة والسكاكين في أيديهن: اخرجْ عليهنَّ فلم يشعرن إلا ويوسف يمرُّ من بينهن {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي فلما رأين يوسف أعظمنْه وأجللنْه، وبُهتن من جماله ودُهشن {وَقَطَّعْنَ(2/44)
أَيْدِيَهُنَّ} أي جرحن أيديهن بالسكاكين لفرط الدهشة المفاجئة {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ} أي تنزَّه الله عن صفات العجز، وتعالت عظمته في قدرته على خلق مثله {مَا هذا بَشَراً} أي ليس هذا من البشر {إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} أي ما هو إلا مَلَك مِن الملائكة، فإن هذا الجمال الفائق، والحسن الرائع مما لا يكاد يوجد في البشر {قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} صرَّحت عند ذلك بما في نفسها من الحب ليوسف لأنها شعرت بأنها انتصرت عليهن فقالت قولة المنتصرة: هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتُنَّني في محبته، فانظرن ماذا لقيتنَّ منه من الافتتان والدهش والإِعجاب!! {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} أي أردت أن أنال وطري منه، وأن أقضي شهوتي معه، فامتنع امتناعاً شديداً، وأبى إباءً عنيفاً قال الزمخشري: والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين} أي ولئن لم يطاوعني ليعاقبنَّ بالسجن والحبس وليكوننَّ من الأذلاء المهانين قال القرطبي: عاودته المراودة بمحضر منهنَّ، وهتكتْ جلباب الحياء، وتوعدتْ بالسجن إن لم يفعل، ولم تعد تخ0شى لوماً ولا مقالاً، خلاف أول أمرها إذ كان ذلك سراً بينها وبينه {قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} لجأ يوسف إلى ربه وجعل يناجيه في خشوع وتضرع فقال: ربّ السجن آثرُ عندي وأحبُّ إلى نفسي من اقتراف الفاحشة، وأسند الفعل إليهن لأنهن جميعاً مشتركات في الدعوة بالتصريح أو التلويح، وقيل إنها لما توعدته نصحته وزيَّن له مطاوعتها، ونهينه عن إلقاء نفسه في السجن {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} أي وإن لم تدفع عني شرهن وتعصمني منهن {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي أملْ إلى إجابتهن بمقتضى البشرية {وَأَكُن مِّنَ الجاهلين} أي بسبب ما يدعونني إليه من القبيح، وهذا كله على سبيل التضرع والاستغاثة بجناب الله تعالى كعادة الأنبياء والصالحين {فاستجاب لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} أي أجاب الله دعاءه فنجّاه من مكرهن، وثبَّته على العصمة والعفة {إِنَّهُ هُوَ السميع} أي لدعاء الملتجئين إليه {العليم} بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم.
. وهكذا اجتاز يوسف محنته الثالثة بلطف الله ورعايته {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ} هذه بداية المحنة الرابعة وهي الأخيرة من محن الشدة في حياة يوسف الصّديق وهي «محنة السجن» وكل ما بعدها فرخاء والمعنى ثم ظهر للعزيز وأهله ومن استشارهم بعد الدلائل القاطعة على براءة يوسف، سجنه إلى مدة من الزمن غير معلومة، روي ان امرأة العزيز لما استعصى عليها يوسف وأيست منه، احتالت بطريق آخر، فقالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر، وإما أن تحبسه، فعند ذلك بدا له سجنه قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار، وضُرب بالطبل، ونُودي عليه في أسواق مصر، إن يوسف العبراني أراد سيدته فجزاؤه أن يسجن، قال أبو صالح ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلى بكى {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ} أي أُدخل يوسف السجن واتفق أنه أُدخل حينئذٍ آخران من خدم الملك(2/45)
الخاص أحدهما خبازه، والآخر ساقيه، أُتهما بأنهما أرادا أن يسماه فحبسهما {قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً} أي قال الساقي إني رأيت في المنام أني أعصر عنباً يئول إلى خمر وأسقي منه الملك {وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ} أي وقال الخباز: إني رأيت في منامي أني أحمل على رأسي طبقاً فيه خبز، والطيرُ تأكل من ذلك الخبز {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} أي أخبرنا بتفسير ما رأينا إنا نراك من الذين يحسنون تفسير الرؤيا، أخبراه عن رؤياهما لما علما أنه يجيد تفسير الرؤيا {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} أي لا يأتيكما شيء من الطعام إلا أخبرتكما ببيان حقيقته وماهيته وكيفيته قبل أن يصل إليكما، أخبرهما بمعجزاته ومنها معرفة «المغيبات» توطئةً لدعائهما إلى الإيمان قال البيضاوي: أراد أن يدعوهما إلى التوحيد ويرشدهما إلى الدين القويم قبل أن يسعفهما إلى ما سألاه عنه، كما هو طريقة الأنبياء في الهداية والإرشاد، فقدَّم ما يكون معجزة له من الإِخبار بالغيب ليدلهما على صدقه في الدعوة والتعبير {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي} إن ذلك الإِخبار بالمغيبات ليس بكهانة ولا تنجيم، وإنما هو بإِلهامٍ ووحيٍ من الله {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} أي خصني ربي بذلك العلم لأني من بيت النبوة وقد تركت دين قومٍ مشركين لا يؤمنون بالله {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} أي يكذبون بيوم القيامة، نبّه على أصلين عظيمين: الإِيمان بالله، والإِيمان بدار الجزاء، إذ هما أعظم أركان الإيمان، وكرر لفظه {هُمْ} على سبيل التأكيد {واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي اتبعت دين الأنبياء، لا دين أهل الشرك والضلال، والغرضُ إظهار أنه من بيت النبوة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه والوثوق بكلامه {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ} أي ما ينبغي لنا معاشر الأنبياء أن نشرك بالله شيئاً مع اصطفائه لنا وإنعامه علينا {ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس} أي ذلك الإيمان والتوحيد من فضل الله علينا حيث أكرمنا بالرسالة، وعلى الناس حيث بعث الرسل لهدايتهم وإرشادهم {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون فضل الله عليهم فيشركون به غيره.
. . ولما ذكر عليه السلام ما هو عليه من الدين الحنيف الذي هو دين الرسل، تلطَّفَ في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام فقال {ياصاحبي السجنءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} أي يا صاحبيَّ في السجن أآلهة متعددة لا تنفع ولا تضر ولا تستجيب لمن دعاها كالأصنام، خيرٌ أم عبادة الواحد الأحد، المتفرد بالعظمة والجلال؟! {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ} أي ما تعبدون يا معشر القوم من دون الله إلا أسماءً فارغة سميتموها آلهة وهي لا تملك القدرة والسلطان لأنها جمادات {مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} أي ما أنزل الله لكم في عبادتها من حجة أو برهان {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} أي ما الحكم في أمر العبادة والدين إلا لله رب العالمين {أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} أي أمر سبحانه بإفراد العبادة له، لأنه لا يستحقها إلا من له العظمة والجلال {ذلك الدين القيم} أي ذلك الذي أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي يجهلون عظمة الله فيعبدون ما لا يضر ولا(2/46)
ينفع. . تدرّج عليه السلام في دعوتهم وألزمهم الحجة بأن بيَّن لهم أولاً رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة المتعددة، ثم برهن على أن ما يسمونها آلهة ويعبدونها من دون الله لا تستحق الألوهية والعبادة، ثم نصَّ على ما هو الحق القويم والدين المستقيم وهو عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد، وذلك من اسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله، حيث قدَّم الهداية والإرشاد، والنصيحة والموعظة، ثم شرع في تفسير رؤياهما فقال {ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ} أي يا صاحبيَّ في السجن أمّا الذي رأى أنه يعصر خمراً فيخرج من السجن ويعود إلى ما كان عليه من سقي سيده الخمر، وأمّا الآخر الذي رأى على رأسه خبز فيُقتل ويُعلَّق على خشبة فتأكل الطير من لحم رأسه، قال المفسرون: روي أنه لما أخبرهما بذلك جحدا وقالا ما رأينا شيئاً فقال {قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي انتهى وتمَّ قاء الله صدقتما أو كذبتما فهو واقع لا محالة {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} أي قال يوسف للذي اعتقد نجاته وهو الساقي {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} أي اذكرني عند سيّدك وأخبره عن أمري لعلّه يخلصني ممّا ظُلمتُ به {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ} أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر أمر يوسف للملك {فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ} أي مكث يوسف في السجن سبع سنين، قال المفسرون: وإنما لبث في السجن بضع سنين، لأنه اعتمد ووثق بالمخلوق، وغفل أن يرفع حاجته إلى الخالق جل وعلا قال القرطبي: قال وهب ابن منبه: أقام أيوب في البلاء سبع سنين، وأقام يوسف في السجن سبع سنين.
البَلاَغة: 1 - بين {صَدَقَتْ} و {كَذَبَتْ} و {الصَّادِقِينَ} و {الكَاذِبِينَ} طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
2 - {مِنَ الخاطئين} من باب تغليب الذكور على الإِناث.
3 - {سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} استعير المكر للغيبة لشبهها له في الإِخفاء.
4 - {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} كذلك فيه استعارة حيث استعار لفظ القطع عن الجرح أي جرحن أيديهن.
5 - {أَعْصِرُ خَمْراً} مجاز مرسل باعتبار ما يكون أي عنباً يئول إلى خمر.
فَائِدَة: روي أن جبريل جاء إلى يوسف وهو في السجن معاتباً له فقال له: يا يوسف من خلصك من القتل من أيدي إخوتك؟ قال: الله تعالى، قال: فمن أخرجك من الجب؟ قال: الله تعالى، قال: فمن عصمك من الفاحشة؟ قال: الله تعالى، قال: فمن صرف عنك كيد النساء؟ قال: الله تعالى، قال: فكيف تركتَ ربك فلم تسأله ووثقت بمخلوق!؟ قال: يا رب كلمةٌ زلَّتْ مني أسألك يا إله إبراهيم وآله والشيخ يعقوب عليهم السلام أن ترحمني فقال له جبريل: فإن عقوبتك أن تلبث في السجن بضع سنين.
تنبيه: قال العلماء في قوله تعالى {واستبقا الباب} هذا من اختصار القرآن المعجز، الذي يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، وذلك أنها لما راودته عن نفسه وأبى، عزمت على أن(2/47)
تجبره بالقسر والإكراه، فهرب منها فتسابقا نحو الباب هي لترده إلى نفسها وهو يهرب منها فاختصر القرآن ذلك كله بتلك العبارة البليغة {واستبقا الباب} .
(شطحات بعض المفسرين في تفسير الهمّ)
لقد شطَّ القلم، وزلقت القدم ببعض المفسرين حين زعموا أن يوسف عليه السلام قد همَّ بمقارفة الفاحشة، وشُحنت بعضُ كتب التفسير بكثير من الروايات الإِسرائيلية الواهية، بل المنكرة الباطلة في تفسير «الهمّ» و «البرهان» حتى زعم بعضهم أن يوسف حلَّ رباط السروال، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته، ثم رأى صورة أبيه «يعقوب» عاضاً على أصبعه، فقام عنها وتركها خجلاً من أبيه إلى غير ما هنالك من أقوال واهية، لا زمام لها ولا خطام. ولستُ أدري كيف دخلت تلك الروايات المنكرة إلى بعض كتب التفسير، وتقبّلها بعضهم بقبول حسن، وكلُّها - كما يقول العلامة أبو السعود - خرافات وأباطيل، تمجّها الآذان، وتردها العقول والأذهان {؟ ثم كيف غاب عن أولئك المفسرين أن «يوسف الصدّيق» نبيٌ كريم، ابن نبيٍ كريم، وأن العصمة من صفات الأنبياء} {يا قوم اعقلوا وفكروا، ونزّهوا هذه الكتب عن أمثال هذه التَّرهات والأباطيل، فإن الزنى جريمة من أبشع الجرائم فكيف يرتكبها نبيٌ من الأنبياء المكرمين؟ وهاكم الأدلة أسوقها من كتاب الله فقط على عصمته عليه السلام من عشرة وجوه:
الأول: امتناعه الشديد ووقوفُه أمامها بكل صلابه وعزم {قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ. .} .
الثاني: فراره منها بعد أن غلَّقت الأبواب وشدّدت عليه الحصار {واستبقا الباب وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ... } .
الثالث: إيثاره السجن على الفاحشة {قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ ... } .
الرابع: ثناء الله تعالى عليه في مواطن عديدة {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} {حُكْماً وَعِلْماً} فهل يكون مخلصاً لله من همَّ بفاحشة الزنى؟
الخامس: شهادة الطفل الذي أنطقه الله وهو في المهد بالحجة الدامغة {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ ... } الآية.
السادس: اعتراف امرأة العزيز ببراءته وعفته {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم ... } .
السابع: استغاثته بربه لينجيه من كيد النساء {فاستجاب لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ. .} .
الثامن: ظهور الأمارات الواضحة والبراهين الساطعة على براءته وإِدخالِهِ السجن لدفع مقالة الناس {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ} .
التاسع: عدم قبوله الخروج من السجن حتى تبرأ ساحته من التهمة {ارجع إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ... } ؟ .
العاشر: الاعتراف الصريح من امرأة العزيز والنسوة ببراءته {قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} . وكفى بذلك برهاناً على عفته ونزاهته} ! والله يقول الحقَّ وهو يهدي السبيل.(2/48)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
المنَاسَبَة: لما أراد الله الفرج عن يوسف وإخراجه من السجن، رأى ملك مصر رؤيا عجيبة أفزعته، فجمع السحرةَ والكهنة والمنجمين وأخبرهم بما رأى في منامه، وسألهم عن تأويلها فأعجزهم الله جميعاً ليكون ذلك سبباً في خلاص يوسف من السجن.
اللغَة: {عِجَافٌ} هزيلة ضعيفة جمع أعجف والأنثى عجفاء {تَعْبُرُونَ} التعبير: معرفة تفسير الرؤيا المنامية {أَضْغَاثُ} جمع ضِغث وهو الحزمة من الحشيش اختلط فيها اليابس بالرطب {أَحْلاَمٍ} جمع حُلم وهو ما يراه النائم ومعناه أخلاط منامات اختلط فيها الحق بالباطل {وادكر} تذكّر بعد النسيان {دَأَباً} الدَّأب: الاستمرار على الشيء يقال: دأب على عمله فهو دائب أي استمر عليه {تُحْصِنُونَ} تحرزون وتدخرون {حَصْحَصَ} ظهر وبان {مَكِينٌ} ذو مكانة رفيعة {رِحَالِهِمْ} جمع رحل وهو ما على ظهر المركوب من متاع الراكب وغيره {نَمِيرُ} نأتي لهم بالميرة وهي الطعام {يُحَاطَ بِكُمْ} تهلكوا جميعاً.
التفِسير: {وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} أي قال ملك مصر إني رأيت في منامي سبع بقرات سمانٍ خرجت من نهرٍ يابسٍ، وفي أثرها سبع بقراتٍ هزيلة في غاية الهُزال فابتلعت العجافُ السمانّ {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} هذا من تتمة الرؤيا أي ورأيتُ أيضاً سبع سنبلاتٍ خضر قد انعقد حبُّها وسبعاً آُخر يابسات قد استحصدت، فالتوتْ اليابسات على الخضر فأكلنهنَّ {ياأيها الملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} أي يا أيها الأشراف من رجالي وأصحابي أخبروني عن تفسير هذه الرؤيا {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} أي إن كنتم تجيدون تعبيرها وتعرفون مغزاها {قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} أي أخلاط رؤيا كاذبة لا حقيقة لها قال الضحاك: أحلامٌ كاذبة {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ} أي ولسنا نعرف تأويل مثل هذه الأحلام الكاذبة {وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} أي وقال نجا من السجن وهو الساقي وتذكّر ما سبق له مع يوسف بعد مدة طويلة {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي أنا أخبركم عن تفسير هذه الرؤيا ممن عنده علم بتأويل المنامات {فَأَرْسِلُونِ} أي فأرسلوني إليه لآتيكم بتأويلها، خاطب الملك بلفظ التعظيم قال ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة ولهذا قال فأرسلون {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} في الكلام محذوف دلَّ عليه السياق وتقديره: فأرسلوه فانطلق الساقي إلى السجن ودخل على يوسف وقال له: يا يوسف يا أيها الصِّديق وسمّاه صديقاً لأنه كان قد جرب صدقه في تعبير الرؤيا التي رآها في السجن، والصدّيق مبالغةٌ من الصدق {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} أي أخبرنا عن(2/50)
تأويل هذه الرؤيا العجيبة {لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} أي لأرجع إلى الملك وأصحابه وأخبرهم بها ليعلموا فضلك وعلمك ويخلصوك من محنتك قال الإِمام الفخر: وإنما قال {لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس} لأنه رأى عجز سائر المعبّرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز هو أيضاً عنها فلهذا السبب قال لعلّي {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} أي تزرعون سبع سنين دائبين بجدٍ وعزيمة {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} أي فما حصدتم من الزرع فاتركوه في سنبله لئلا يسوّس {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} أي إلا ما أردتم أكله فادرسوه واتركوا الباقي في سنبله {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ} أي ثمَّ يأتي بعد سنيّ الرخاء سبع سنين مجدبات ذات شدة وقحط على الناس {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي تأكلون فيها مما ادخرتم أيام الرخاء {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} أي إلا القليل الذي تدخرونه وتخبئونه للزراعة {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي ثم يأتي بعد سنيّ القحط والجدب العصيبة عام رخاء، فيه يُمطر الناس ويُغاثون، وفيه يعصرون الأعناب وغيرها لكثرة خصبه، قال الزمخشري: تأول عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشّرهم بأن العام الثامن يجيء مباركاً خصيباً، كثير الخير، غزير النعم، وذلك من جهة الوحي {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ} أي ولما رجع الساقي إلى الملك وعرض عليه ما عبَّر به يوسف رؤياه استحسن ذلك فقال: أحضروه لي لأسمع منه تفسيرها بنفسي ولأبصره {فَلَمَّا جَآءَهُ الرسول} أي فلما جاء رسول الملك يوسف {قَالَ ارجع إلى رَبِّكَ} أي قال يوسف للرسول: ارجع إلى سيدك الملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي سلْه عن قصة النسوة اللاتي قطَّعن أيديهن هل يعلم أمرهنَّ؟ وهل يدري لماذا حُبست ودخلت السجن؟ وأني ظُلمت بسببهنَّ؟ أبى عليه السلام أن يخرج من السجن حتى تُبرأ ساحته من تلك التهمة الشنيعة، وأن يعلم الناس جميعاً أنه حُبس بلا جرم {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} أي إنه تعالى هو العالم بخفيات الأمور وبما دبّرن من كيدٍ لي {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} جمع الملك النسوة ودعا امرأة العزيز معهن فسألهن عن أمر يوسف وقال لهن: ما شأنكن الخطير حين دعوتن يوسف غلى مقارفة الفاحشة؟ {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء} أي معاذ الله أن يكون يوسف أراد السوء، وهو تنزيهٌ له وتعجب من نزاهته وعفته {قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق} أي ظهر وانكشف الحق وبان بعد خفائه {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أي أنا التي أغريتُه ودعوتُه(2/51)
إلى نفسي وهو بريءٌ من الخيانة وصادقٌ في قوله «هي راودتني عن نفسي» وهذا اعتراف صريحٌ ببراءة يوسف على رءوس الأشهاد {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} الأظهر أن هذا من كلام يوسف قاله لمّا وصله براءة النسوة له والمعنى ذلك الأمر الذي فعلتُه من ردّ الرسول حتى تظهر براءتي ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته في غيبته بل تعففت عنها {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} أي لا يوفق الخائن ولا يسدّد خطاه {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} أي لا أزكي نفسي ولا أنزّهها، فإن النفس البشرية ميَّالة إلى الشهوات، قاله يوسف على وجه التواضع قال الزمخشري: أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه، لئلا يكون لها مزكياً، وبحالها معجباً ومفتخراً {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} أي إلا من رَحِمَهُ اللَّهُ بالعصمة {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي ائتوني بيوسف اجعله من خاصتي وخلصائي، قال ذلك لمّا تحقق براءته وعرف عفته وشهامته وعلمه {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي فلما أتوا به وكلَّمه يوسف وشاهد الملك فضله، ووفور عقله، وحُسن كلامه قال إنك اليوم قريب المنزلة رفيع الرتبة، مؤتمنٌ على كل شيء {قَالَ اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} أي قال يوسف للملك اجعلني على خزائن أرضك {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} أي أمينٌ على ما استودعتني، عليمٌ بوجوه التصرف، وإنما طلب منه الولاية رغبةً في العدل، وإقامة الحق والإِحسان، وليس هو من باب التزكية للنفس، وإنما هو للإِشعار بحنكته ودرايته لاستلام وزارة الماليَّة {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} أي وهكذا مكنّا ليوسف في أرض مصر، وجعلنا له العزَّ والسلطان بعد الحبس والضيق {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ} أي يتخذ منها منزلاً حيث يشاء ويتصرف في الممكلة كما يريد {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ} أي نخص بإِنعامنا وفضلنا من نشاء من عبادنا {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي لا نضيع أجر من أحسن عمله وأطاع ربه بل نضاعفه له {وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي أجر الآخرة وثوابها خير للمؤمنين المتقين من أجر الدنيا، وفيه إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة، وأن ما يُدَّخر لهؤلاء المحسنين أعظم وأجلُّ من هذا النعيم العاجل في الدنيا {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي دخلوا على يوسف فعرف أنهم إخوته ولكنهم لم يعرفوه لهيبة المُلْك، وبُعْد العهد، وتغير الملامح قال ابن عباس: كان بين إلقائه في الجب وبين دخولهم عليه اثنتان وعشرون سنة فلذا أنكروه، وكان سبب مجيئهم أنهم أصابتهم مجاعة في بلادهم بسبب القحط الذي عمَّ البلاد، فخرجوا إلى مصر ليشتروا من الطعام الذي ادخره يوسف، فلما دخلوا على يوسف قال كالمنكر عليهم: ما أقدمكم بلادي؟ قالوا: جئنا للميرة، قال: لعلكم عيونٌ «جواسيس» علينا؟ قالوا: معاذ الله، قال: فمن أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبيُّ الله، قال: وله أولاد غيركم؟ قالوا: نعم كنا اثني عشر فذهب أصغرنا وهلك في البرية - وكان أحبَّنا إليه - وبقي شقيقه فاحتبسه ليتسلّى به عنه وجئنا نحن العشرة، فأمر بإنزالهم وإكرامهم {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} أي(2/52)
هيأ لهم الطعام والميرة وأعطاهم ما يحتاجون إليه في سفرهم {قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ} أي ائتوني بأخيكم بنيامين لأصدقكم {أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل} أي ألا ترون أني أتم الكيل من غير بخسٍ {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} أي خير من يكرم الضيفان وخير المضيفين لهم، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ} أي إن لم تأتوني بأخيكم فليس لكم عندي بعد اليوم ميرة، ولا تقربوا بلادي مرة ثانية، رغبهم ثم توعدهم قال في البحر: والظاهر أن كل ما فعله يوسف عليه السلام كان بوحيٍ من الله وإلا فمقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكنَّ الله أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته، ولتتفسَّر الرؤيا الأولى {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} أي سنخادعه ونحتال في انتزاعه من يده، ونجتهد في طلبه منه، وإنّا لفاعلون ذلك {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} أي قال يوسف لغلمانه الكيالين اجعلوا المال الذي استروا به الطعام في أوعيتهم {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ} أي لكي يعرفوها إذا رجعوا إلى أهلهم وفتحوا أوعيتهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لعلهم يرجعون إلينا إذا رأوها، فإنه علم أنَّ دينهم يحملهم على رد الثمن لأنهم مطهّرون عن أكل الحرام فيكون ذلك أدعى لهم إلى العود إليه {فَلَمَّا رَجَعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل} أي فلما عادوا إلى أبيهم قالوا له - قبل أن يفتحوا متاعهم - يا أبانا لقد أُنذرنا بمنع الكيل في المستقبل إن لم نأت بأخينا بنيامين، فإنَّ ملك مصر ظنَّ أننا جواسيس وأخبرناه بقصتنا فطلب أخانا ليتحقق صدقنا {فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ} أي أرسل معنا أخانا بنيامين لنأخذ ما نستحقه من الحبوب التي تُكال لنا {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي نحفظه من أن يناله مكروه {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} أي قال لهم يعقوب: كيف آمنكم على بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم بعد أن ضمنتم لي حفظه، ثمَّ خنتم العهد؟ فأًخاف أن تكيدوا له كما كدتم لأخيه؟ فأنا لا أثق بكم ولا بحفظكم، وإنما أثق بحفظ الله {فالله خَيْرٌ حَافِظاً} أي حفظ الله خيرٌ من حفظكم {وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} أي هو أرحم من والديه وإخوته، فأرجوأن يمُنَّ عليَّ بحفظه ولا يجمع عليَّ مصيبتين {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} أي ولما فتحوا الأوعية التي وضعوا فيها الميرة وجدوا ثمن الطعام في متاعهم {قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِي} أي ماذا نبغي؟ وأيَّ شيءٍ نطلب من إكرام الملك أعظم من هذا؟ {هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} أي هذا ثمن الطعام قد ردّ إلينا من حيث لا ندري، فهل هناك مزيدٌ فوق هذا الإِحسان، أوفى لنا الكيل، وردَّ لنا الثمن!! أرادوا بذلك استنزال أبيهم عن رأيه {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي نأتي بالميرة والطعام لأهلنا {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} أي نحفظه من المكاره، وكرروا حفظ الأخ مبالغةً في الحض على إرساله {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} أي ونزداد باستصحابنا له حمل بعير، روي أنه ما كان يعطي الواحد إلا كيل بعير من الطعام، فأعطاهم حمل عشرة جمال ومنعهم الحادي عشر حتى يحضر أخوهم {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي سهلٌ على الملك إعطاؤه لسخائه {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} أي قال لهم أبوهم: لن أرسل معكم بنيامين إلى مصر حتى تعطوني عهداً مؤكداً وتحلفوا بالله لترُدنه عليَّ {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ}(2/53)
أي إلا أن تُغلبوا فلا تقدّروا على تخليصه، ولا يبقى لكم طريق أو حيلة إلى ذلك قال مجاهد: إلا أن تموتوا كلُّكم فيكون ذلك عذراً عندي {فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أي فلما حلفوا له وأعطوه العهد المؤكد {قَالَ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي الله شهيد رقيب على ذلك {وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} أي لا تدخلوا مصر من بابٍ واحد قال المفسرون: خاف عليهم من العين إن دخلوا مجتمعين إذ كانوا أهل جمالٍ وهيبة، والعينُ حقٌ تُدخل الرجلَ القبرَ، والجملَ القِدر كما جاء في الحديث {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} أي لا أدفع عنكم بتدبيري شيئاً مما قضاه الله عليكم، فإن الحذَر لا يدفع القدر {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} أي ما الحكم إلا لله جلَّ وعلا وحده لا يشاركه أحد، ولا يمانعه شيء {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه وحده اعتمدت وبه وثقت {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} أي وعليه فليعتمدْ أهل التوكل والإيمان، ولْيفوضوا أمورهم إليه {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} أي دخلوا من الأبواب المتفرقة كما أوصاهم أبوهم {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} أي ما كان دخولهم متفريقن ليدفع عنهم من قضاء الله شيئاً {إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} أي إلا خشية العين شفقةً منه على بنيه {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} أي وإن يعقوب لذو علمٍ واسع لتعليمنا إياه بطريق الوحي، وهذا ثناءٌ من الله تعالى عظيمٌ على يعقوب، لأنه علم بنور النبوة أن القدر لا يدفعه الحذر {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون ما خصَّ الله به أنبياءه وأصفياءه من العلوم التي تنفعهم في الدارين.
البَلاغَة: 1 - {إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ} صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية.
2 - {سِمَانٍ ... وعِجَافٌ} بينهما طباقٌ وكذلك بين {خُضْرٍ ... ويَابِسَاتٍ} طباقٌ.
3 - {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} هذا من أَبلغ أَنواع الاستعارة وألطفها فإن الأضغاث هو المختلط من الحشيش المضموم بعضه إِلى بعض، فشبه اختلاط الأحلام وما فيها من المحبوب والمكروه، والخير والشر باختلاط الحشيش المجموع من أصناف كثيرة.
4 - {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} هذا من براعة الاستهلال فقد قدَّم الثناء قبل السؤال طمعاً في إجابة مطلبه.
5 - {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} فيه مجاز عقلي لأن السنين لا تأكل وإنما يأكل الناس ما ادَّخروه فيها، فهو من باب الإِسناد إلى الزمان كقول الفصحاء: نهارُ الزاهدِ صائم وليلُه قائم.
6 - {لأَمَّارَةٌ بالسواء} لم يقل آمرة مبالغة في وصف النفس بكثرة الدفع في المهاوي، والقود إلى المغاوي لأن «فعّال» من أبنية المبالغة.
7 - {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} بين عرف وأنكر طباقٌ.
8 - {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} فيه إطناب وهو زيادة اللفظ على المعنى، وفائدتُه تمكين المعنى من النفس، وفيه أيضاً من المحسنات البديعية ما يسمى «طباق السلب» .
فَائِدَة: أثنى رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على يوسف الصدِّيق في كرمه وصبره وحلمه فقال: «لو لبثتُ في السجن ما لبثَ يوسفُ لأجبتُ الداعي» وكفى بهذا برهاناً على عفة يوسف ونزاهته عليه السلام.(2/54)
لطيفَة: ذكر بعض العلماء أن يوسف عليه السلام ما زال النساء يملن إِليه ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة فشغلت هيبتُه كل من رآه عن حسنه.(2/55)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
المنَاسَبَة: تتحدث الآيات عن مجيء إخوة يوسف للمرة الثانية إلى مصر ومعهم «بنيامين» الأخ الشقيق ليوسف، وما كان من شأنه حين ظهر الصواع في رحله، فاحتجزه يوسف عنده بحكم شريعة يعقوب، ثم ما كان من تمام المحنة على يعقوب عليه السلام بفقد ولديه حتى ذهب الحزن ببصره.
اللغَة. {تَبْتَئِسْ} تحزن {العير} الإِبل التي عليها الأحمال ثم كثر الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عيرٌ {صُوَاعَ} الصُواع: الصاع الذي يكال به يُذكَّر ويؤنَّث وهو السقاية {زَعِيمٌ} كفيل {سَوَّلَتْ} زيَّنت وسهَّلت {كَظِيمٌ} ممتلئ من الحزن يكتمه ولا يبديه {تَفْتَؤُاْ} لا تفتأ ولا تزال من أخوات كان الناقصة {حَرَضاً} الحَرَض: المَرَض الذي يُشْفي على الهلاك قال الشاعر:
سَرَى همِّي فأَمْرضني ... وقِدْماً زَادَنِي مَرَضاً
كذاك الحُبُّ قبلَ اليَو ... مِ ممّا يُورِثُ الحَرَضا
وأصل الحَرَض الفساد في الجسم أو العقل {بَثِّي} البثُّ: أشد الغمّ والهمّ {فَتَحَسَّسُواْ} التحسُّسُ: طلب الشيء بالحواس، والتعرُّفُ عليه مع الاستقصاء الدقيق ويستعمل في الخير كما أن التجسُّس يستعمل في الشر، وقيل يستعمل في الخير والشر {لاَ تَثْرِيبَ} التثريبُ: التأنيب والتوبيخ.
التفسِير: {وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} أي وحين دخل أولاد يعقوب على يوسف {آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي ضمَّ إليه أخاه الشقيق بنيامين {قَالَ إني أَنَاْ أَخُوكَ} أي أنا أخوك يوسف، أخبره بذلك واستكتمه {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لا تحزنْ بما فعلوا بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا بخير قال المفسرون: لما دخل إخوة يوسف عليه أكرمهم وأحسن ضيافتهم ثم أنزل كل اثنين في بيت وبقي «بنيامين» وحيداً فقال: هذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويعانقه، وقال له: أنا أخوك يوسف فلا تحزن بما صنعوا، ثم أعمله أنه سيحتال لإبقائه عنده وأمره أن يكتم الخبر {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي ولمّا قضى حاجتهم وحمَّل إبلهم بالطعام والميرة {جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} أي أمر يوسف بأن تُجعل السقاية - وهي صاعٌ مرصَّعٌ بالجواهر - في متاع أخيه بنيامين {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} أي نادى منادٍ {أَيَّتُهَا العير} أي يا أصحاب الإبل ويا أيها الركب المسافرون {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} أي أنتم قوم سارقون، وإنما استحل أن يرميهم بالسرقة لما في ذلك من المصلحة من إمساك أخيه {قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ} ؟ قال المفسرون: لما وصل المنادون إليهم قالوا: ألم نكرمكم ونحسن ضيافتكم؟ ونوفّ إليكم الكيل؟ ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى وما ذاك؟ قالوا: فقدنا سقاية الملك ولا نتّهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى: {قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ} أي التفتوا إليهم وسألوهم ماذا ضاع منكم وماذا فُقد؟ وفي قولهم {مَّاذَا تَفْقِدُونَ} بدل «ماذا سرَقْنا» إرشادٌ لهم إلى مراعاة حسن الأدب، وعدم المجازفة بنسبة البريئين إلى تهمة السرقة، ولهذا التزموا الأدب معهم فأجابوهم {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} أي ضاع منا مكيال الملِك المُرصَّع بالجواهر {وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} أي ولمن جاءنا بالمكيال وردَّه إلينا حِمْلُ بعيرٍ(2/56)
من الطعام كجائزة له {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} أي أنا كفيلٌ وضامنٌ بذلك {قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض} قسمٌ فيه معنى التعجب أي قالوا متعجبين: والله لقد علمتم أيها القوم ما جئنا بقصد أن نفسد في أرضكم {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} أي ولسنا ممن يُوصف بالسرقة قطُّ لأننا أولاد أنبياء ولا نفعل مثل هذا الفعل القبيح قال البيضاوي: استَشْهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا منهم من فرط أمانتهم، كردّ البضاعة التي جُعلت في رحالهم، وككمِّ أفواه الدواب لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد {قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} أي ما عقوبة السارق في شريعتكم إن كنتم كاذبين في ادعاء البراءة {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي جزاء السارق الذي يوجد الصاع في متاعه أن يُسترقَّ ويصبح مملوكاً لمن سَرَق منه {كذلك نَجْزِي الظالمين} أي كذلك نجازي من تعدَّى حدود الله بالسرقة وأمثالها، وهذا القول منهم هو الحكم في شريعة يعقوب وقد نسخ بقطع الأيدي في الشريعة الإِسلامية {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ} أي بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه بنيامين قال المفسرون: هذا من تمام الحيلة ودفع التهمة فإنهم لما ادعوا البراءة قال لهم: لا بدَّ من تفتيش أوعيتكم واحداً واحداً فانطلقوا بهم إلى يوسف فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء «بنيامين» قال قتادة: ذُكر لنا أنه كان لا يفتح متاعاً ولا ينظر وعاءً إلا استغفر الله مما قذفهم به، حتى بقي أخوه - وكان أصغرَ القوم فقال: ما أظنُّ هذا أخذ شيئاً فقالوا: والله لا نتركُك حتى تنظر في رَحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع فيه فذلك قوله تعالى {ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} أي استخرج الصواع من متاع أخيه بنيامين، فلما أخرجها منه نكَّس الإِخوةُ رءوسَهم من الحياء، وأقبلوا عليه يلومونه ويقولون له فضحتنا وسوَّدت وجوهنا يا ابن راحيل {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي كذلك صنعنا ودبرنا ليوسف وألهمناه الحيلة ليستبقي أخاه عنده {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك} أي ما كان ليوسف أن يأخذ أخاه في دين ملك مصر، لأن جزاء السارق عنده أن يُضرب ويُغرَّم ضعفَ ما سَرَق {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} أي إلا بمشيئته تعالى وإذنه، وقد دلّت الآية على أن تلك الحيلة كانت بتعليم الله وإلهامه له {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} أي نرفع بالعلم منازل من نشاء من عبادنا ما رفعنا يوسف {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} أي فوق كل عالمٍ من هو أعلم منه حتى ينتهي إلى ذي العلم البالغ وهو ربُّ العالمين قال الحسن: ليس عالمٌ إلا فوقه عالم حتى ينتهي العلم إلى الله وقال ابن عباس: الله العليم الخبير فوق كل عالم {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} أي إن سرق فقد سرق أخوه الشقيق من قبله يعنون يوسف، تنصّلوا من السرقة ورموا بها يوسف وأخاه {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} أي أخفى تلك القولة في نفسه وكتمها ولم يُظهرها لإِخوته تلطفاً معهم {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} أي أنتم شرٌ منزلةًً حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البريء، ولم يواجههم بهذا الكلام وإنما قاله في نفسه {والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} أي أعلم بما تتقوّلوا وتفترون {قَالُواْ ياأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} استرحامٌ واستعطافٌ أي قالوا مستعطفين يا أيها السيد المبجَّل إنَّ أباه شيخ كبير في السِّن لا يكاد يستطيع فراقه {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} أي خذْ بدله(2/57)
واحداً منا فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} أي أتممْ إحسانك علينا فقد عودتنا الجميل والإحسان {قَالَ مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} أي نعوذ بالله من أن نأخذ أحداً بجرم غيره {إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ} أي نكون ظالمين إن فعلنا ذلك قال الألوسي: والتعبير بقوله {مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} بدل «من سَرَقَ» لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً} أي ولما يئسوا من إجابة طلبهم يأساً تاماً، وعرفوا أن لا جدوى من الرجاء، اعتزلوا جانباً عن الناس يتناجون ويتشاورون {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله} أي قال أكبرهم سناً وهو «روبيل» أليس قد أعطيتم أباكم عهداً وثيقاً بردِّ أخيكم؟ {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ} أي ومن قبل هذا ألا تذكرون تفريطكم في يوسف؟ فكيف ترجعون إليه الآن؟ {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي} أي فلن أفارق أرض مصر حتى يسمح لي أبي بالخروج منها {أَوْ يَحْكُمَ الله لِي} أي يحكم لي بخلاص أخي {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} أي وهو سبحانه أعدل الحاكمين لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ} أي ارجعوا إلى أبيكم فأخبروه بحقيقة ما جرى وقولوا له إن ابنك بنيامين سَرَق {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} أي ولسنا نشهد إلا بما تيقنا وعلمنا فقد رأينا الصاع في رَحْله {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا} أي واسأل أهل مصر عن حقيقة ما حدث قال البيضاوي: أي أرسلْ إلى أهلها واسألهم عن القصة {والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي واسأل أيضاً القافلة التي جئنا معهم وهم قوم من كنعان كانوا بصحبتهم في هذه السفرة {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي صادقون فيما أخبرناك من أمره {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} أي زيَّنتْ وسهَّلت لكم أنفسكم أمراً ومكيدةً فنفذتموها، اتهمهم بالتآمر على «بنيامين» لما سبق منهم في أمر يوسف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي لا أجد سوى الصبر محتسباً أجري عند الله {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} أي عسى أن يجمع الله شملي بهم، ويقرّ عيني برؤيتهم جميعاً {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} أي العالم بحالي الحكيم في تدبيره وتصريفه {وتولى عَنْهُمْ} أي أعرض عن أولاده كراهة لما سمع منهم {وَقَالَ ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} أي يا لهفي ويا حسرتي وحزني على يوسف {وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} أي فقد بصره وعشي من شدة البكاء حزناً على ولديه {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي مملوء القلب كمداً وغيظاً ولكنه يكتم ذلك في نفسه، وهو مغموم ومكروب لتلك الداهية الدهياء قال أبو السعود: وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه لأن ذكر يوسف كان آخذاً بمجامع قلبه لا ينساه ولأنه كان واثقاً بحياتهما طامعاً في إيابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله وفضله وقال الرازي: الحزن الجديد يقوّي الحزن القديم الكامن في النفس، والأسى(2/58)
يبعث الأسى ويثير الأحزان قال الشاعر:
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى ... فدعْني فهذا كله قبر مالك
{قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي لا تفتأ ولا تزال تذكر يوسف وتتفجع عليه {حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} أي حتى تكون مريضاً مشرفاً على الهلاك أو تهلك أسىً وحسرة وتموت {قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} أي قال لهم يعقوب: لستُ أشكو غميّ وحزني إليكم وإنما أشكو ذلك إلى الله فهو الذي تنفع الشكوى إليه {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون أنتم فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ويأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب {يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي اذهبوا إلى الموضع الذي جئتم منه فالتمسوا يوسف وتعرّفوا على خبره وخبر أخيه بحواسكم {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} أي لا تقنطوا من رحمة الله وفرجه وتنفيسه {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} أي فإنه لا يقنط من رحمته تعالى إلا الجاحدون المنكرون لقدرته جلَّ وعلا {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} في الكلام محذوف أي فخرجوا راجعين إلى مصر فدخلوا على يوسف فلما دخلوا قالوا يا أيها العزيز أصابنا وأهلنا الشدة من الجدب والقحط {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} أي وجئنا ببضاعة رديئة مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً قال ابن عباس: كانت دراهمهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، أظهروا له الذل والانكسار استرحاماً واستعطافاً {فَأَوْفِ لَنَا الكيل} أي أتمم لنا الكيل ولا تنقصْه لرداءة بضاعتنا {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} أي بردّ أخينا إلينا أو بالمسامحة عن رداءة البضاعة {إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} أي يثيب المحسنين أحسن الجزاء.
. ولما بلغ بهم الأمر إلى هذا الحد من الاسترحام والضيق والانكسار أدركته الرأفة فباح لهم بما كان يكتمه من أمره {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} ؟ أي هل تذكرون ما فعلتم بيوسف وأخيه حال شبابكم وطيشكم؟ والغرض تعظيم الواقعة كأنه يقول: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه! قال أبو السعود: وإنما قاله نصحاً لهم، وتحريضاً على التوبة، وشفقةً عليهم {قالوا أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ} أي قال إخوته متعجبين مستغربين: أأنت يوسف حقاً؟ {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي} أي قال: نعم أنا يوسف وهذا أخي الشقيق {قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ} أي منَّ علينا بالخلاص من البلاء، والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي لا يبطل أجرهم ولا يضيع إحسانهم بل يجزيهم عليه أوفى الجزاء قال البيضاوي: ووضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر {قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} اعترافٌ بالخطيئة وإقرار بالذنب أي والله لقد فضَّلك الله علينا بالتقوى والصبر، والعلم والحلم {وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} أي وحالُنا وشأننا أننا كنا مذنبين بصنيعنا الذي صنعنا بك، ولذلك أعزَّك الله وأذلنا، وأكرمك وأهاننا {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم} أي قال لهم يوسف:(2/59)
لا عتب عليكم اليوم ولا عقوبة بل أصح وأعفو {يَغْفِرُ الله لَكُمْ} دعاءٌ لهم بالمغفرة وهذا زيادة تكريم منه لما فرط منهم {وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} أي هو جل وعلا المتفضل على التائب بالمغفرة والرحمة، أرحم بعباده من كل أحد {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي} قال الطبري: ذُكر أن يوسف لمّا عرَّف نفسه إخوته سألهم عن أبيهم فقالوا: ذهب بصره من الحزن فعند ذلك أعطاهم قميصه، وأراد يوسف تبشير أبيه بحياته، وإدخال السرور عليه بذلك {يَأْتِ بَصِيراً} أي يرجع إليه بصره {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أي وجيئوني بجميع الأهل والذرية من أولاد يعقوب.
البَلاَغَة: 1 - {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} فيه جناس الاشتقاق وكذلك في {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} .
2 - {فَأَسَرَّهَا ... وَلَمْ يُبْدِهَا} بينهما طباق.
3 - {شَيْخاً كَبِيراً} فيه إطناب للاستعطاف.
4 - {وَسْئَلِ القرية} مجاز مرسل علاقته المحلية.
5 - {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} بين لفظتي الأسف ويوسف جناس الاشتقاق.
6 - {تَالله تَفْتَؤُاْ} إِيجاز بالحذف أي تالله لا تفتأ.
7 - {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} فيه استعارة استعير الرَّوْح وهو تنسيم الريح التي يلذُّ شميمها ويطيب نسيمها، للفَرَج الذي يأتي بعد الكربة، واليُسر الذي يأتي بعد الشدة.
لطيفَة: ذكر القاضي عياض في كتابه «الشفا» أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ هذه الآية {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً} فقال: أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام. وذلك أن الآية ذكرت صفة اعتزالهم لجميع الناس، وانفرادهم من غيرهم، وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث، فتضمنت تلك الآية القصيرة، معاني القصة الطويلة.(2/60)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
المنَاسَبَة: تتحدث الآيات عن مجيء أسرة يعقوب بأسرهم إلى مصر، ودخولهم على يوسف وهو في عز السلطان وعظمة الملك، وتحقيق الرؤيا بسجود إخوته الأحد عشر له مع أبيه وأمه، واجتماع الشمل بعد الفرقة، وحلول الأنس بعد الكدر، ثم تختم السورة الكريمة بتوجيه الأنظار إلى عجائب الكون الدالة على القدرة والوحدانية، وما في قصص القرآن من العبر والعظات {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} ! {.
للغَة: {تُفَنِّدُونِ} تنسبوني إلى الخَرَف قال الأصمعي: إذا كَثُر كلام الرجل من خَرَف فهو المفند وقال الزمخشري: التفنيد النسبة إلى الفَنَد وهو الخَرَف وإنكار العقل من هرم يقال: شيخ مُفند ولا يقال عجوز مُفْندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها {ضَلاَلِكَ} ذهابك عن الصواب {البدو} البادية {نَّزغَ} أفسد وأغوى وأصله من نزغ الراكب الدابة إذا نخسها ليحملها على الجري {فَاطِرَ} مبدع ومخترع وأصله من فطر إذا شقَّ ثم صار عبارة عن الخلق والإِيجاد {غَاشِيَةٌ} عذاب يغشاهم {بَغْتَةً} فجأة {بَأْسُنَا} عذابنا {عِبْرَةٌ} عظة وتذكرة.
التفسِير: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام {قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} أي قال يعقوب لمن حضر من قرابته إني لأشمّ رائحة يوسف قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف وبينهما مسيرة ثمان ليال {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} أي تسفهوني وتنسبوني إلى الخَرَف وهو ذهاب العقل وجواب {لَوْلاَ} محذوف تقديره لأخبرتكم أنه حيٌّ {قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} أي قال حفدته ومن عنده: والله إنك لفي خطأ وذهاب عن طريق الصواب قديم، بإفراطك في محبة يوسف، ولهجك بذكره، ورجائك للقائه قال المفسرون: وإنما قالوا ذلك لاعتقادهم أن يوسف قد مات {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير} أي فلما جاء المبشر بالخبر السارّ(2/61)
قال مجاهد: كان البشير أخاه يهوذا الذي حمل قميص الدم فقال: أُفرحه كما أحزنته {أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ} أي طرح البشير القميص على وجه يعقوب {فارتد بَصِيراً} أي عاد بصيراً لما حدث له من السرور والانتعاش {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي قال يعقوب لأبنائه: ألم أخبركم بأني أعلم ما لا تعلمونه من حياة يوسف وأن الله سيرده عليَّ لتتحقق الرؤيا؟ قال المفسرون: ذكّرهم بقوله {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] روي أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال: هو ملك مصر، قال ما أصنع بالملك} على أيّ دين تركتَه؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمَّت النعمة {قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ} طلب أبناؤه أن يستغفر لهم لما فرط منهم ثم اعترفوا بخطأهم بقولهم {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} أي مخطئين فيما ارتكبنا مع يوسف {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} وعدهم بالاستغفار قال المفسرون: أخَّر ذلك إلى السَّحَر ليكون أقرب إلى الإِجابة وقيل: أخرَّهم إلى يوم الجمعة ليتحرى ساعة الإِجابة {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} أي الساتر للذنوب الرحيم بالعباد {فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} أي فلما دخل يعقوب وأبناؤه وأهلوهم على يوسف ضمَّ إليه أبويه واعتنقهما {وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} أي ادخلوا بلدة مصر آمنين من كل مكروه، وإنما قال {إِن شَآءَ الله} تبركاً وتيمناً {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} أي أجلسهما على سرير الملك بجانب {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} أي سجد له أبوه وأمه وإخوته حين دخولهم عليه قال المفسرون: كان السجود عندهم تحية وكرامة لا عبادة {وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} أي هذا تفسير الرؤيا التي رأيتها في منامي وأنا صغير {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} أي صدقاً حيث وقعت كما رأيتها في النوم {وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن} أي أنعم عليَّ بإخراجي من السجن قال المفسرون: ولم يذكر قصة الجب تكرماً منه لئلا يُخْجل إخوته ويذكّرهم صنيعهم بعد أن عفا عنهم {وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو} أي جاء بكم من البادية لأنهم كانوا أهل إبل وغنم ببادية فلسطين، ذكّرهم بنعمة الله على آل يعقوب حيث نقلهم من البادية إلى الحضر واجتمع شمل الأسرة بمصر قال الطبري: ذُكر أن يعقوب دخل مصر هو ومن معه من أولاده وأهليهم وأبنائهم وهم أقل من مائة، وخرجوا منها يوم خرجوا وهم زيادة على ستمائة ألف {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي} أي أفسد ما بيني وبين إخوتي بالإِغواء قال أبو حيان: وذكر هذا القدر من أمر إخوته لأن النعمة إذا جاءت إِثْر بلاءٍ وشدة كانت أحسن موقعاً {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} أي لطيف التدبير يحقّق مشيئتَه بلطفٍ ودقةٍ خفية لا يحسها الناس ولا يشعرون بها {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} أي العليم بخلقه الحكيم في صنعه قال المفسرون: إن يعقوب عليه السلام أقام مع يوسف في مصر أربعاً وعشرين سنة ثم مات وكان قد أوصى أن يُدفن بالشام إلى جنب أبيه إسحاق، فمضى يوسف بنفسه ودفنه ثمَّة، ثم لما عاد إلى مصر عاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا(2/62)
يدوم تاقت نفسه إلى الملك الدائم الخالد، واشتاق إلى لقاء الله وإلى آبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق فقال {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك} أي أعطيتني العزَّ والجاه والسلطان، وذلك من نعمة الدنيا {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} أي علمتني تفسير الرؤيا، وذلك من نعمة العلم {فَاطِرَ السماوات} أي يا مبدع السماوات والأرض وخالقَهما على غير مثال سابق {والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة} أي أنت يا رب متولي أموري وشئوني في الدارين {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} أي اقبضني إليك مسلماً، واجعل لحاقي بالصالحين، ابتهل إلى ربه أن يحفظ عليه إسلامه حتى يموت عليه، وإلى هنا تنتهي قصة يوسف الصدّيق، ثم يأتي التعقيب بعد ذلك بإقامة البرهان على صحة نبوة محمد عليه السلاة والسلام {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ} أي ذلك الذي أخبرناك عنه يا محمد من أمر يوسف وقصته، من الأخبار المغيَّبة التي لم تكن تعلمها قبل الوحي، وإنما نُعلمك نحن بها على أبلغ وجه وأدق تصوير، ليظهر صدقُك في دعوى الرسالة {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} أي وما كنت حاضراً مع إخوة يوسف حين تآمروا على أخيهم وأجمعوا أمرهم على إلقائه في الجب وهم يحتالون ويمكرون به وبأبيه ليرسله معهم، فإنك يا محمد لم تشاهدهم حتى تقف على حقيقة القصة وإنما جاءتك بوحيٍ من العليم الخبير {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} هذه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي ليس أكثر الخلق ولو حرصتَ على إيمانهم وبالغتَ في إرشادهم بمصدقين لك لتصميمهم على الكفر {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي وما تطلب منهم على هذا النصح، والدعاء إلى الخير والرشد أجرة حتى يثقل عليهم {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إلا عظة وتذكير للعالمين، وأنت لا تطلب في تلاوته عليهم مالاً، فلو كانوا عقلاء لقبلوا ولم يتمردوا {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض} أي كم من الآيات والعلامات الدالة على وجود الله جل وعلا ووحدانيته، الكائنة في السماوات والأرض كالشمس والقمر والنجوم، والجبال والبحار والأشجار، وسائر ما فيهما من العجائب {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} أي يشاهدونها ليلَ نهار، ويمرون عليها بالعشي والإبكار {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} أي لا يفركون فيها ولا يعتبرون، فلا تتعجب من إعراضهم عنك فإن إعراضهم عن هذه الآيات الدالة على وحدانية الله وقدرته أغرب وأعجب {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} أي لا يؤمن أكثر هؤلاء المكذبين من قومك إلا إذا أشركوا مع الله غيره، فإنهم يقرّون بأن الله هو الخلاق الرازق ويعبدون معه الأصنام قال ابن عباس: ومن ذلك قولهم في تلبيتهم: {لبَّيْك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك « {أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله} أفأمن هؤلاء المكذبون عقوبةً من عذاب الله تغشاهم وتشملهم؟ {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي أو تأتيهم القيامة بأهوالها فجأة من حيث لا يشعرون ولا يتوقعون؟ والاستفهام إنكاري وفيه معنى التوبيخ {قُلْ هذه سبيلي} أي قل يا محمد هذه طريقي ومنهاجي واضحة مستقيمة لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة {أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني} أي أدعو على عبادة الله وطاعته، على بيانٍ وحجة واضحة أنا ومن آمن بي {وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} أي وأنزهه سبحانه عن الشركاء(2/63)
والأنداد، فأنا مؤمن موحِّد ولست من المشركين {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} إي وما آرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً من البشر لا ملائكة من السماء قال الطبري: أي رجالاً لا نساءً ولا ملائكة نوحي إليهم آياتنا للدعاء إلى طاعتنا، والآية ردٌّ على من أنكر أن يكون النبي من البشر، أو زعم أن في النساء نبيات {مِّنْ أَهْلِ القرى} أي من أهل المُدن والأمصار لا من أهل البوادي قال الحسن: لم يبعث الله نبياً من أهل البادية قط ولا من النساء ولا من الجن قال المفسرون: وإنما كانوا من أهل الأمصار لأنهم أعلم وأحلم، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي أفلم يسر هؤلاء المكذبون في الأرض فينظروا نظر تفكر وتدبر ما حلَّ بالأمم السابقين ومصارع المكذبين فيعتبرون بذلك؟ والاستفهام للتوبيخ {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا} أي الدار الآخرة خير للمؤمنين المتقين من هذه الدار التي ليس فيها قرار {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي أفلا تعقلون فتؤمنون!! {حتى إِذَا استيأس الرسل} أي يئس الرسل من إيمان قومهم {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} أي أيقن الرسل أن قومهم كذّبوهم {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} أي أتاهم النصر عند اشتداد الكرب، ففي اللحظة التي تستحكم فيها الشدة، ويأخذ فيها الكرب بالمخانق، ولا يبقى أملٌ في غير الله، في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ} أي فنجينا الرسل والمؤمنين بهم دون الكافرين {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين} أي ولا يُردُّ عذابنا وبطشنا عن المجرمين إذا نزل بهم {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} أي لقد كان في قصة يوسف وإِخوته عظة وتذكرة لأولي العقول النيِّرة {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى} أي ما كان هذا القرآن أخباراً تُروى أو أحاديث تختلق {ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ولكن كان هذا القرآن مصدقاً لما سبقه من الكتب السماوية المنزّلة من قبل {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} أي تبيان كل ما يُحتاج إليه من أحكام الحلال والحرام، والشرائع والأحكام {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي وهداية من الضلالة ورحمة من العذاب لقوم يصدّقون به ويعملون بأوامره ونواهيه.
البَلاغَة: 1 - {تالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ} أكدوا كلامهم بالقسم وإنَّ واللام وهذا الضرب يسمى (إنكارياً) لتتابع أنواع المؤكدات.
2 - {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} جملة {إِن شَآءَ الله} دعائيةٌ جيء بها للتبرك وفي الآية تقدمي وتأخير تقديره: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله.
3 - {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} أبواه المراد به الأب والأم فهو من باب التغليب، والرفع مؤخر عن الخرور وإن تقدم لفظاً للاهتمام بتعظيمه لهما أي سجدوا له ثم أجلس أبويه على عرش الملك.
4 - {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} جملة {وَلَوْ حَرَصْتَ} اعتراضية بين اسم {مَا} الحجازية وخبرها، وجيء بهذا الاعتراض لإفادة أن الهداية بيد الله جل وعلا وحده.(2/64)
5 - {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} هذا على حذف مضاف أي وما تسألهم على تبليغ القرآن من أجر.
6 - {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} فيه من المحسنات البديعية «السجعُ» وهو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير.
تنبيه: دلَّ قوله تعالى {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} على أن الغرض من ذكر هذه القصص والأخبار، العظةُ والاعتبار، ووجه الاعتبار بهذه القصة أن الذي قدر على إخراج يوسف من الجب بعد إلقائه فيه، وإخراجه من السجن، وتمليكه مصر بعد العبودية، وجمع شمله بأبيه وإخوته بعد المدة الطويلة واليأس من الاجتماع، قادرٌ على إعزاز محمد صلى الله عليه، وإعلاء شأنه، وإظهار دينه، وأن الإِخبار بهذه القصة العجيبة جار مجرى الإِخبار عن الغيوب، فكان ذلك معجزة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(2/65)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
اللغَة: {عَمَدٍ} العَمَد: الدعائم وهو اسم جمع وقيل: جمع عمود {صِنْوَانٌ} جمع صِنْو وهو الغصنُ الخارج عن أصل الشجرة وأصله المِثْلُ ومنه قيل للعمّ صِنْوٌ لمماثلته للأب، فإذا كان للشجرة(2/67)
عدة فروع فهي صنوان {الأغلال} جمع غل وهو طوقٌ تُشدّ به اليد إلى العُنُق {المثلات} جمعَ مَثُلَة وهي العقوبة وسميت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقب من المماثلة {تَغِيضُ} غاض الماءُ نقص أو غار {وَسَارِبٌ} الساربُ: الذاهب في سَرْبه أي طريقه بوضَح لنهار لا يستخفي عن الأنظار {مُعَقِّبَاتٌ} ملائكة يعقب بعضهم بعضاً أي يأتي بعضهم عقب بعض {شَدِيدُ المحال} القوة والإِهلاك والنّقمة.
التفسِير: {المر} إشارة إلى إعجاز القرآن وقال ابن عباس معناه: أنا الله أعلم وأرى {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} أي هذه آيات القرآن المعجز، الذي فاق كل كتاب {والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق} أي والذي أوحي إليك يا محمد في هذا القرآن هو الحق الذي لا يلتبس بالباطل، ولا يحتمل الشك والتردّد {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} أي ومع وضوحه وجلائه كذّب به أكثر الناس {الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي خلقها مرتفعة البناء، قائمة بقدرته لا تستند على شيء حال كونكم تشاهدونها وتنظرونها بغير دعائم، وذلك دليل وجود الخلق المبدع الحكيم {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي علا فوق العرش علواً يليق بجلاله من غير تجسيم ولا تكييفٍ ولا تعطيل {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي ذلَّل الشمس والقمر لمصالح العباد، كلٌّ يسير بقدرته تعالى إلى زمنٍ معيَّن هو زمن فناء الدنيا {يُدَبِّرُ الأمر} أي يصرِّف بحكمته وقدرته أمور الخلق وشئون الملكوت من إيجاد وإعدام، وإحياء وإماتة وغير ذلك {يُفَصِّلُ الآيات} أي يبيّنها ويوضّحها {لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} أي لتصدقوا بلقاء الله، وتوقنوا بالمعاد إليه، لأن من قدر على ذسلك كلّه فهو قادرٌ على إحياء الإِنسان بعد موته {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} أي هو تعالى بقدرته بسط الأرض وجعلها ممدودة فسيحة، وهذا لا ينافي كرويتها فإن ذلك مقطوعٌ به، والغرضُ أنه تعالى جعلها واسعة فسيحة ممتدة الآفاق ليستقر عليها الإِنسان والحيوان، ولو كانت كلها جبالاً وودياناً لما أمكن العيش عليها قال في التسهيل: ولا يتنافى لفظُ البسط والمدِّ مع التكوير، لأن كل قطعةٍ من الأرض ممدودةٌ على حِدتَها، وإنما التكوير لجملة الأرض {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أي وخلق في الأرض جبالاً ثوابتَ رواسخ لئلا بأهلها كقوله {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] {وَأَنْهَاراً} أي وجعل فيها الأنهار الجاريات {(2/68)
وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} أي جعل فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين اثنين ذكراً وأنثى ليتمَّ بينهما أسباب الإِخصاب والتكاثر طبق سنته الحكيمة وقال أبو السعود: أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين، إمّا في اللون كالأبيض والأسود، أو في الطعم كالحلو والحامض، أو في القَدْر كالصغير والكبير، أو في الكيفيّة كالحارّ والبارد وما أشبه ذلك {يُغْشِي اليل النهار} أي يُلبسه إياه فيصير الجو مُظْلماً بعد ما كان مضيئاً {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إنَّ في عجائب صنع الله لدلالات وعلامات باهرة على قدرته ووحدانيته لمن تأمل وتفكَّر، وخُصَّ «المتفكرون» بالذكر لأنَّ ما احتوتْ عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يُدرك إلا بالتفكر {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} أي في الأرض بقاعٌ مختلفةٌ متلاصقات قريبٌ بعضها من بعض قال ابن عباس: أرضٌ طيبة، وأرضٌ سَبْخة تُنْبتُ هذه، وهذه إلى جنبها لا تُنْبت {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ} أي بساتين كثيرة من أشجار العنب {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} أي وفي هذه القطع المتجاورة أنواع الزروع والحبوب والنخيل والرطب، منها ما يَنْبُت منه من أصل واحدٍ شجرتان فأكثر، ومنها ما ينبت منه شجرة واحدة {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل} أي الكل يسقى بماء واحدٍ، والتربة واحدة، ولكنَّ الثمار مختلفات الطعوم قال الطبري: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ، والكمثرى، والعنب الأبيضُ والاسود، بعضُها حلوٌ، وبعضُها حامض، وبعضها أفضل من بعض مع اجتماع جميعها على شربٍ واحد {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي علامات باهرة ظاهرة لمن عقل وتدبَّر، وفي ذلك ردٌّ على القائلين بالطبيعة {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي إن تعجب يا محمد من شيء فليس ما هو أعجب من قول الكفار أئذا متنا وأصبحنا رفاتاً هل سنبعث من جديد؟ فإن إنكارهم للبعث حقيقٌ أن يُتعجب منه، فإن الذي قدر على إنشاء ما ذكرنا من السماوات والأرض، والأشجار والثمار، والبحار والأنهار قادرٌ على إعادتهم بعد موتهم {أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} أي هؤلاء الذين أنكروا البعث هم الجاحدون لقدرة الله {وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} أي يُغلُّون بالسلاسل في أعنقاهم يوم القيامة {وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} أي وهم في جهنم مخلدون فيها أبداً لا يموتون فيها ولا يُخْرجون {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} أي يستعجلك المشركون يا محمد بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية، استعجلوا ما هُدّدوا به من عذاب الدنيا استهزاءً {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} أي موقد مضت عقوباتُ أمثالهم من المكذبين، فما لهم لا يعتبرون ولا يتَّعظون؟ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} أي وإن ربك لذو صفحٍ عظيم للناس، لا يعجّل لهم العقوبة وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} أي شديد العقاب لمن أصرَّ على المعاصي ولم يتب(2/69)
ومن ذنوبه.
قرن تعالى بين سعة حلمه وشدة عقابه ليبقى العبد بين الرغبة والرهبة، والرجاء والخوف {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي ويقول المشركون من كفار قريش هلاّ أُنزل على محمد معجزة تدل على صدقه مثل معجزات موسى وعيسى!! قال في البحر: لم يعتدّوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشجر، ونبع الماء من بين الأصابع وأمثال هذه المعجزات فاقترحوا عناداً آيات أخرى {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} جواب لما اقترحوا أي لستَ أنت يا محمد إلا محذّر ومبصِّر، شأنك شأن كل رسول قبلك، فلكل قوم نبيٌّ يدعوهم إلى الله وأما الآيات الخارقة فأمرها إلى مدبّر الكون والعباد {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} أي الله وحده الذي يعلم ما تحمله كل أنثى في بطنها هل هو ذكرٌ أم أنثى؟ تامٌ أم ناقص؟ حسنٌ أم قبيح {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} أي وما تنقصه الأرحامُ بإلقاء الجنين قبل تمامه {وَمَا تَزْدَادُ} أي وما تزداد على الأشهر التسعة قال ابن عباس: ما تغيضُ بالوضع لأقلَّ من تسعة أشهر، وما تزداد بالوضع لأكثر من تسعة أشهر، وعنه المراد بالغيض: السقطُ الناقصُ، وبالازدياد: الولدُ التام {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} أي كلُّ شيء من الأشياء عند الله تعالى بقدر محدد لا يتجاوزه حسب المصلحة والمنفعة {عَالِمُ الغيب والشهادة} أي ما غاب عن الحسّ وما كان مشاهَداً منظوراً، فعلمهُ تعالى شاملٌ للخفيِّ والمرْئيِّ لا يخفى عليه شيء {الكبير المتعال} أي العظيم الشأن الذي كل شيء دونه المستعلي على كل شيء بقدرته المنزَّه عن المشابهة والمماثلة {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} أي يستوي في علمه تعالى ما أضمرتْهُ القلوبُ وما نطقتْ به الألسنة {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار} أي ويستوي عنده كذلك من هو مستترٌ بأعماله في ظلمات الليل وهو في غاية الاختفاء، ومن هو ذاهبٌ في طريقه بوَضَح النهار مستعلنٌ لا يستخفي فيما يعمل وهو في غاية الظهور {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} أي لهذا الإِنسان ملائكة موكَلةٌ به تتعقب في حفظه يأتي بعضُهم بعَقِب بعض كالحَرَس في الدوائر الحكومية {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي من أمام الإِنسان ومن ورائه {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} أي يحفظونه من الأخطار والمضارّ بأمره تعالى قال مجاهد: ما من عبدٍ إلا وملكٌ موكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإِنس والهوام {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} أي لا يزيل نعمته عن قومٍ ولا يسلبهم إيّاها إلا إذا بدّلوا أحوالهم الجميلة بأحوال قبيحة، وهذه من سنن الله الاجتماعية أنه تعالى لا يبدل ما بقومٍ من عافيةٍ ونعمة، وأمنٍ وعزة إلا إذا كفروا تلك النعم وارتكبوا المعاصي وفي الأثر «أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل أن قلْ لقومك: إنه ليس من أهل قرية، ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون» {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا} أي وإذا أراد تعالى هلاك قومٍ أو عذابهم {فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} أي لا يقدر على ردّ ذلك أحد {وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} أي ليس لهم من دون الله وليٌّ يدفع عنهم العذاب والبلاء {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق} هذا بيانٌ لآثار قدرته تعالى المنبثّة في الكون أي يريكم أيها الناس البرق الخاطف من خلال(2/70)
السحاب {خَوْفاً وَطَمَعاً} قال ابن عباس: خوفاً من الصواعق وطعماً في الغيث، فإن البرق غالباً ما يعقبه صواعق مدمّرة، وقد يكون وراءه المطر المدرار الذي به حياة البلاد والعباد {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} أي وبقدرته كذلك يخلق السحب الكثيفة المحمَّلة بالماء الكثير {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} أي يسبّح الرعد له تسبيحاً مقترناً بحمده والثناء عليه، وتسبّح له الملائكة خوفاً من عذابه، وتسبيحُ الرعد حقيقةٌ دلَّ عليها القرآن فنؤمن بها وإن لم نفهم تلك الأصوات فهو تعالى لا يخبر إلا بما هو حقٌّ كما قال
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] {وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ} أي يرسل الصواعق المدمّرة نقمة يهلك بها من شاء {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله} أي وكفار مكة يجادلون في وجود الله ووحدانيته وفي قدرته على البعث {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} أي وهو تعالى شديد القوة والبطش والنكال، القادر على الانتقام ممن عصاه {لَهُ دَعْوَةُ الحق} أي لله تعالى تتجه الدعوةُ الحق فهو الحقيق بأن يُعبد وحده بالدعاء والالتجاء {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أي والآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} أي لا يستجيبون لهم دعاءً، ولا يسمعون لهم نداءً {إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} أي إلا كمن يبسط كفيه للماء من بعيد يدعوه ويناديه ليصل الماء إلى فمه، والماءُ جمادٌ لا يُحسُّ ولا يسمع قال أبو السعود: شبّه حال المشركين في عدم حصولهم عند دعاء آلهتهم على شيء أصلاً بحال عطشان هائم لا يدري ما يفعل، قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصوله إلى فمه وليس الماء ببالغ فمه أبداً لكونه جماداً لا يشعر بعطشه {وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} أي ما دعاؤهم والتجاؤهم لآلتهم إلا في ضياع وخسار لأنه لا يُجدي ولا يفيد {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض} أي ولله وحده يخضع وينقاد أهل السماوات وأهل الأرض {طَوْعاً وَكَرْهاً} أي طائعين وكارهين قال الحسن: المؤمن يسجد طوعاً، والكافر يسجد كرْهاً أي في حالة الفزع والاضطرار {وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} أي وتسجد ظلالُهم أيضاً لله في أول النار وأواخره، والغرضُ الإِخبار عن عظمة الله تعالى وسلطانه الذي قهر كلَّ شيء، ودان له كل شيء، بأنه ينقاد لجلاله جميع الكائنات حتى ظلال الآدمييّن، والكل في نهاية الخضوع والاستسلام لأمره تعالى {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين مَنْ خالق السماوات والأرض ومدبّر أمرهما؟ والسؤال للتهكم والسخرية بما عبدوا من دون الله {قُلِ الله} أي قل لهم تقريعاً وتبكيتاً: اللهُ خالقُهما {قُلْ أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً} أي قل لهم - إلزاماً لإِقامة الحجة عليهم - أجعلتم لله شركاء وعبدتموهم من دونه وهم لا يقدرون على نفع أنفسهم، ولا على دفع الضُرّ عنها، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور} هذا تمثيلٌ لضلالهم في عبادة غير الله، والمراد بالأعمى الكافر وبالبصير المؤمن، وبالظلمات الضلالُ وبالنور الهدى أي كما لا يستوي الأعمى والبصير، وكما لا تستوي الظلمات والنور، كذلك لا يستوي المؤمن الذي يبصر(2/71)
ضياء الحق، والمشرك الذي عمي عن رؤية ذلك الضياء، فالفارق بين الحق والباطل واضحٌ وضوح الفارق بين الأعمى والبصير، والفارق بين الإيمان والضلال ظاهر ظهور الفارق بين النور والظلام {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ} هذا من تمام الاحتجاج عليهم والتهكم بهم أي أم اتخذ هؤلاء المشركون آلهةً خلقوا مخلوقاتٍ كالتي خلقها الله فالتبس الأمر عليهم فلا يدرون خلق الله مِن خلق آلهتهم؟ وهو تهكم لاذع فإنهم يرون كل شيء من خلق الله، ويرون هذه الآلهة المزعومة لم تخلق شيئاً ثم بعد هذا كلّه يعبدونها من دون الله، وذلك أسخف وأحط ما تصل إليه عقول المشركين، ولما أقام الحجة عليهم جاء بهذا البيان الواضح {قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار} أي الله الخالق لجميع الأشياء لا خالق غيره، وهو المنفرد بالألوهية والربوبية، الغالب لكل شيء، وجميعُ الأشياء تحت قدرته وقهره.
البَلاغَة: في الآيات الكريمة من وجوه الفصاحة والبيان والبديع ما يلي:
1 - الإِشارة بالبعيد عن القريب في {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} تنزيلاً لها منزلة البعيد للدلالة على علو شأنها ورفعة منزلتها و (أل) في الكتاب للتفخيم أي الكتاب العجيب الكامل في إعجازه وبيانه.
2 - الاستعارة التبعية في {يُغْشِي اليل النهار} شبّه إزالة نور النهار بواسطة ظلمة الليل بالغطاء الكثيف واستعار لفظ {يُغْشِي} المشير إلى تغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية الحسية للأمور المعنوية.
3 - الطباق في {تَغِيضُ ... . تَزْدَادُ} وفي {الغيب والشهادة} وفي {أَسَرَّ ... . جَهَرَ} وفي {مُسْتَخْفٍ ... . وَسَارِبٌ} لأن السارب الظاهر وفي {خَوْفاً وَطَمَعاً} وفي {طَوْعاً وَكَرْهاً} وكلها من المحسنات البديعية اللفظية.
4 - الإِيجاز بالحذف في {قُلِ الله} أي اللهُ خالقُ السماوات والأرض.
5 - التشبيه التمثيلي في {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} شبَّه عدم استجابة الأصنام للداعين لها بعدم استجابة الماء لباسط كفيه إليه من بُعْد فوجه الشبه منتزع من متعدد.
6 - الاستعارة في {هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور} استعار لفظ الظلمات والنور للفكر والإِيمان وكذلك لفظ الأعمى للمشرك الجاهل والبصير للمؤمن العاقل.
تنبيه: سميت الملائكة معقبات لأنهم يتعاقبون على أعمال العباد بالليل والنهار كما في البخاري «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الفجر والعصر ... » الحديث.
فَائِدَة: روي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا سمع صوت الرعد يقول:» سبحان من يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير «وكان أبو هريرة يقول من قالها فأصابته صاعقةٌ فعليَّ ديته.(2/72)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى في الآيات السابقة أنَّ في الأرض دعوتين: دعوة الحق، ودعوة الباطل، وذكر أن دعوة الله هي دعوة الحق، ودعوة ما يعبدون من دونه هي دعوة الباطل ... ذكر تعالى هنا مثلين ضربهما للحق وأهله، والباطلِ وحزبه، ليتضح الفرق بين الهدى والضلال، والرشد والغيّ، ثم أعقبه بذكر مآل المؤمنين في دار النعيم، والكافرين في دار الجحيم.(2/73)
اللغَة: {زَبَداً} الزبد: الغثاء الذي يحمله السيل {رَّابِياً} عالياً منتفخاً {جُفَآءً} مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له يقال: جفا الماء بالزبد إذا قذفه ورمى به {المهاد} الفِراش وأصله المكان الممهَّد الموطأ للنوم والراحة {وَيَدْرَءُونَ} يدفعون والدرءُ: الدفع {عقبى} العاقبة ويسمى الجزاء على الفعل عقبى لأنه يكون عقب الفعل {عَدْنٍ} استقرار وثبات وخلود يقال: عَدَن بالمكان إذا أقام به {يَبْسُطُ} يوسّع {يَقَدِرُ} يضيّق {مَتَاعٌ} كل شيء يتمتع به إلى أجل ثم ينتهي ويفنى {طوبى} فرحٌ وقرة عين قال الزمخشري: مصدر من طاب كبشرى وزلفى ومعناه أصبتَ خيراً وطيباً {يَيْأَسِ} اليأسُ: القنوط من الشيء {أَمْلَيْتُ} أمهلتُ يقال: أملى الله له إذا أمهله وطوَّل له المدة {وَاقٍ} اسم فاعل من وقى إذا دفع الأذى والضر عنه.
سَبَبُ النزول: قال ابن عباس: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟ فأنزل الله {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن قُلْ هُوَ رَبِّي لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} .
التفسِير: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} أي أنزل تعالى من السماء مطراً {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أي فجرت مياه الأودية بمقدار سعتها كل بحَسَبه، فالكبير بمقدار كبره، والصغير بمقدار صغره {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً} أي حمل السيل الذي حدث من الأمطار زبداً عالياً فوقه وهو ما يحمله السيل من غثاء، ورغوة تظهر على وجه الماء قال الطبري: هذا مثلٌ ضربه الله للحق والباطل، والإيمان والكفر، فمثل الحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، مثلُ الماء الذي أنزله الله من السماء إلى الأرض، فاحتمل السيل زبداً عالياً، فالحق هو الماء الباقي الذي يمكث في الأرض، والزبد الذي لا يُنتفع به هو الباطل، وهذا أحد مثلي الحق والباطل، والمثل الآخر قوله تعالى {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} أي ومن الذي يوقد عليه الناس من المعادن كالذهب والفضة والنحاس، مما يُسبك في النار طلب الزينةِ أو الأشياء التي يُنتفع بها كالأواني زبدٌ مثل زبد السيل، لا يُنْتفع به كما لا يُنْتفع بَزَبد السيل {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} أي كذلك يضرب الله المَثَل للحق والمَثَل للباطل، فمثلُ الحق في ثباته واستقراره كمثل الماء الصافي الذي يستقر في الأرض فينتفع منه الناس، ومثل الباطل في زواله واضمحلاله كمثل الزبد والغثاء الذي يقذف به الماء يتلاشى ويضمحل {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً} أي فأما الزبد الذي لا خير فيه مما يطفو على وجه الماء والمعادن فإنه يرمي به السيل ويقذفه ويتفرق ويتمزّق ويذهب في جانبَي الوادي {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} أي وأمّا ما ينتفع الناس به الماء الصافي، والمعدن الخالص فيبقى ويثبت في الأرض {كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} أي مِثْلَ المَثَلين السابقين يبيّن الله الأمثال(2/74)
للحق والباطل، والهدى والضلال ليعتبر الناس ويتعظوا {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى} أي للمؤمنين الذين استجابوا لله بالإيمان والطاعة المثوبةُ الحسنى وهي الجنة دار النعيم {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} أي لم يجيبوا ربهم إلى الإيمان به وهم الكافرون {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} أي لو كان لهم جميع ما في الدنيا من الأموال {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي ومثلَ جميع ما في الدنيا {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أي لبذلوا كل ذلك فداءً لأنفسهم ليتخلصوا من عذاب الله {أولئك لَهُمْ سواء الحساب} أي لهم الحساب السيء قال الحسن: يُحاسبون بذنوبهم كلها لا يُغفر لهم منها شيء {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي المكان الذي يأوون إليه يوم القيامة نار جهنم {وَبِئْسَ المهاد} أي بئس هذا المستقر والفِراش الممهد لهم في النار {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} الهمزة للاستفهام الإنكاري أي هل يستوي من آمن وصدَّق بما نزل عليك يا محمد ومن بقي يتخبط في ظلمات الجهل والضلال لا لُبَّ له كالأعمى؟ والمراد به عمى البصيرة قال ابن عباس نزلت في حمزة وأبي جهل {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} أي إنما يتعظ بآيات الله ويعتبر بها ذوو العقول السليمة، ثم عَّدد تعالى صفاتهم فقال {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} أي يتمون عهد الله الذي وصاهم به وهي أوامره ونواهيه التي كلَّف بها عباده {وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق} أي لا يخالفون ما وثقوه على أنفسهم من العهود المؤكدة بينهم وبين الله، وبين العباد {والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} أي يصلون الأرحام التي أمر الله بصلتها {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي يهابون ربهم إجلالاً وتعظيماً {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} أي يخافون الحساب السيء المؤدي لدخول النار، فهم لرهبتهم جادّون في طاعة الله، محافظون على حدوده {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي صبروا على المكاره طلباً لمرضاة الله {وَأَقَامُواْ الصلاة} أي أدُّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} أي أنفقوا بعض أموالهم التي أوجبها الله عليهم في الخفاء والعلانية {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} أي يدفعون الجهلَ بالحلم والأذى بالصبر وقال ابن عباس: يدفعون بالعمل الصالح السيء من الأعمال بمعنى يفعلون الحسنات ليدرءوا بها السيئات وفي الحديث
«وأتبع السيئةَ الحسنة تمحها» {أولئك لَهُمْ عقبى الدار} أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة وهي الجنة وقد جاء تفسيرها في قوله {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي جنات إقامة خالدة يدخلها أولئك الأبرار ومن كان صالحاً من آبائهم ونسائهم وأولادهم، ليأنسوا بلقائهم ويتمَّ بهم سرورهم، وإن لم يكونوا يستحقون(2/75)
هذه المنازل العالية بأعمالهم، فترفع منازل هؤلاء إكراماً لأولئك وذلك فضل الله، ثم إنَّ لهم إكراماً آخر بيّنه بقوله {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} أي والملائكةُ تدخل عليهم للتهنئة من كل باب من أبواب الجنة يقولون لهم {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} أي سلمتم من الآفات والمحن بصبركم في الدنيا، ولئن تعبتم فيما مضى فلقد استرحتم الساعة، وهذه بشارة لهم بدوام السلامة {فَنِعْمَ عقبى الدار} أي نعمت هذه العاقبة الحميدة عاقبتكم وهي الجنة بدل النار، ولما ذكر تعالى أوصاف المؤمنين التسع أعقبه بذكر أوصاف الكافرين الذميمة فقال {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أي ينقضون عهودهم بعدما وثقوا على أنفسهم لله أن يعملوا بما عهد إليهم من طاعته والإيمان به {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} أي يقطعون الرحم التي أمر الله بوصلها {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض} {أولئك لَهُمُ اللعنة} أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من القبائح لهم البعد من رحمته، والطردُ من جنته {وَلَهُمْ سواء الدار} أي لهم ما يسوءهم في الدار الآخرة وهو عذاب جهنم على عكس المتقين {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} أي يوسّع على من يشاء من عباده ويضيّق على من يشاء حسب الحكمة والمصلحة {وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا} أي وفرح هؤلاء المشركون بنعيم الدنيا فرح أشَر وبطر، وهو إخبار في ضمنه ذم وتسفيه لمن فرح بالدنيا ولذلك حقّرها بقوله {وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ} أي قليل وشيء حقير بالنظر إلى الآخرة {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي ويقول كفار مكة هلاّ أُنزل على محمد معجزة من ربه مثل معجزة موسى في فلق البحر، ومعجزة عيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك {قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} أي قل لهم يا محمد الأمر بيد الله وليس إليَّ، يُضلُّ من يشاء إضلاله فلا تغني عنه الآياتُ والنُذُّر شيئاً، ويرشد إلى دينه من أراد هدايته لأنه رجع إلى ربه بالتوبة والإِنابة قال في التسهيل: خرج بالكلام مخرج التعجب حين طلبوا آية والمعنى قد جاءكم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن وآياتٍ كثيرة فعميتُم عنها، وطلبتم غيرها، وتماديتم على الكفر فإنه تعالى يضل من يشاء مع ظهور الآيات، ويهدي من يشاء دون ذلك {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} هذا بدلٌ والمعنى يهدي أهل الإِنابة وهم الذين آمنوا وتسكن وتستأنس قلوبهم بذكر الله وتوحيده، وجيء بصيغة المضارع لإِفادة دوام الاطمئنان واستمراره {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} أي ألا فانتبهوا أيها القوم فإن بذكر الله تستأنس وتسكن قلوب المؤمنين، فلا يشعرون بقلق واضطراب من سوء العقاب، على عكس الذين أذا ذكر الله اشمأزتْ قلوبُهم {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} أي أما المؤمنون أهل الأعمال الصالحة فقرة عينٍ لهم ونعم ما يلقون من الهناءة والسعادة في المرجع والمنقلب قال ابن عباس: {طوبى لَهُمْ} فرحٌ وقرة عين {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ} أي كما أرسلنا الأنبياء من قبلك كذلك أرسلناك يا محمد في أمة قد مضت قبلها أمم كثيرة، فهي آخر الأمم وأنتَ خاتم الأنبياء {لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أي لتبلّغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} أي والحال أنهم يكفرون بالرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء {قُلْ هُوَ رَبِّي لا(2/76)
إله إِلاَّ هُوَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته هو ربي الذي آمنتُ به لا معبود لي سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} أي عليه وحده اعتمدت، وإليه توبتي ومرجعي فيثيبني على مجاهدتكم، والغرضُ تسلية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مما يلقاه من كفار قريش من الجحود والعناد فقد كذَّب قبلهم الأمم {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} أي لو كان كتابٌ من الكتب المنزّلة سُيرت بتلاوته الجبال وزعزعت عن أماكنها {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض} أي شُققت به الأرض حتى تتصدَّع وتصير قطعاً {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} أي خوطبت به الموتى حتى أجابت وتكلمت بعد أن أحياها الله بتلاوته عليها، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، لكونه غايةً في الهداية والتذكير، ونهايةً في الإِنذار والتخويف وقال الزجاج: تقديره «لما آمنوا» لغلوهم في المكابرة والعناد، وتماديهم في الضلال والفساد {بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً} بلْ للإضراب والمعنى: لو أن قرآناً فُعل به ما ذُكر لكان ذلك هذا القرآن، ولكنَّ الله لم يجبهم إلى ما اقترحوا من الآيات، لأنه هو المالك لجميع الأمور والفاعل لما يشاء منها من غير أن يكون لأحدٍ عليه تحكّمٌ أو اقتراح {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً} أي أفلم يقنط وييأس المؤمنون من إيمان الكفار، ويعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم لأن الأمر له، ولكنْ قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على الاختيار {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ} أي ولا يزال كفار مكة يصيبهم بسوء أعمالهم وكفرهم داهيةٌ تقرع أسماعهم وتقلق بالهم من صنوف البلايا والمصائب {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} أي أو تحلُّ القارعة والداهية قريباً من ديارهم فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها {حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله} بإظهار الإِسلام وانتصارك عليهم بفتح مكة {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} أي لا يخلف وعده لرسله وأوليائه بنصرهم على أعدائه {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} تسلية وتأنيس للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي كما استهزأ بك المشركون فقد استهزأ المجرمون برسلهم وأنبيائهم {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أمهلتهم وتركتهم في أمنٍ وَدَعة ثم أخذتهم بالعذاب {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي فكيف كان عقابي لهم على الكفر والتكذيب؟ {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي أفمن هو رقيب حفيظ على عمل كل إنسان لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد وهو الله تعالى، والخبر محذوف تقديره: كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ولا تملك من الأمر شيئاً قال الفراء: وتُرك جوابُه لأن المعنى معلومٌ وقد بيّنه بعد هذا بقوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} كأنه قيل: هل الله كشركائهم؟ وقال الزمخشري: هذا احتجاجٌ عليهم في إشراكهم بالله يعني أفالله الذي هو قائم رقيب على كل نفس صالحة أو طالحة بما كسبت من خير أو شر وقد أعدَّ لكلٍ جزاءه كمن ليس كذلك {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} أي وجعل المشركون آلهة عبدوها(2/77)
معه من أصنام وأنداد في منتهى العجز والحقارة والجهالة، قل لهم يا محمد: سمّوهم لنا وصفوهم لننظر هل لهم ما يستحقون به العبادة والشركة مع الله؟ {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض} أي أم تخبرون الله بشركاء لا يعلمهم سبحانه وهو استفهام للتوبيخ {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول} أي أم تسمونهم شركاء بظنٍ باطلٍ فاسد لا حقيقة له، لفرط الجهل وسخافة العقل {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} أي زيَّن لهم الشيطان ذلك الكفر والضلال {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} أي مُنعوا عن طريق الهدى {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن يضلله الله فما له أحدٌ يهديه {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا} أي لهؤلاء الكفرة عذاب عاجل في هذه الحياة الدنيا بالقتل والأسر وسائر المحن {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ} أي ولعذابهم في الآخرة أثقل وأشد إيلاماً من عذاب الدنيا {وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} أي وليس لهم من يحميهم من عذاب الله أو يدفع عنهم سخطه وانتقامه.
البَلاَغَة: 1 - {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ. .} الآية شبّه تعالى الحق والباطل بتشبيه رائع يسمى «التشبيه التمثيلي» لأن وجه الشبه فيه منتزعٌ من متعدد، فمثَّل الحق بالماء الصافي الذي يستقر في الأرض، والجوهر الصافي من المعادن الذي به ينتفع العباد، ومثَّل الباطل بالزبد والرغوة التي تظهر على وجه الماء، والخبث من الجوهر الذي لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل، والصورة التي توحي بها الآية «صورة الحق والباطل» وهما في صراع كالزبد الذي تتقاذفه الأمواج {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} وهو تمثيل في منتهى الروعة والجمال.
2 - {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} مجاز عقلي من إسناد الشيء لمكانه والأصل فسالت مياه الأودية.
3 - {كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل} فيه إيجاز بالحذف أي أمثال الحق وأمثال الباطل.
4 - {لِلَّذِينَ استجابوا ... والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} بينهما طباق السلب.
5 - {كَمَنْ هُوَ أعمى} شبّه الجهل والكفر بالعمى على سبيل الاستعارة التبعية لأن المراد بالأعمى الجاهل الكافر.
6 - {سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} بينهما طباق وكذلك بين {الحسنة السيئة} و {يَبْسُطُ وَيَقَدِرُ} و {يُضِلُّ ويهدي} للتضاد بين اللفظين.
7 - {إِلاَّ مَتَاعٌ} أي إلا مثل المتاع الذي يستمتع به الإنسان في الحاجات الموقتة ففيه تشبيه بليغ لحذف الأداة ووجه الشبه.
فَائِدَة: بيَّن تعالى في قوله {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أن النسب لا ينفع إذا لم يحصل معه العمل الصالح، وفيه قطع للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب.
تنبيه: قال الإمام الطيبي في قوله تعالى {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ} في هذه الآية احتجاج بليغ مبنيٌّ على فنون من علم البيان أولها: التوبيخ لهم على قياسهم الفاسد في عبادة غير الله ثانيها: وضع الظاهر موضع الضمير {كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} تنبيهاً على ضلالهم في جعل شركاء لمن هو فردٌ واحد لا يشاركه أحد في اسمه ثالثها: إنكار لوجود الشركاء على وجه برهاني {قُلْ سَمُّوهُمْ} رابعها: نفي الشيء بنفي لازمه {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ} خامسها: الاحتجاج عليهم بطريق التدرج لبعثهم على التفكر {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول} أي أتقولون بأفواهكم من غير روية ولا تفكير ببطلان ما(2/78)
تقولون؟ فكان هذا الاحتجاج منادياً على نفسه بالإعجاز وأه ليس من كلام البشر.(2/79)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما أعدَّ للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين في جنات النعيم، ثم توعد المشركين بالعذاب الأليم، وختم السورة الكريمة ببيان صدق رسالته عليه السلام بشهادة الله تعالى وشهادة المؤمنين من أهل الكتاب.
اللغَة: {الأحزاب} الطوائف المتفرقة من أحزاب اليهود والنصارى سموا بذلك لأنهم جماعات متفرقة لا تجمعهم عقيدة واحدة {مَآبِ} أي مآبي بمعنى مرجعي {يَمْحُواْ} المحو: إزالة الأثر من كتابة أو غيرها وعكسه الإِثبات {أُمُّ الكتاب} أصل كل الكتب والمراد منه علم الله أو اللوح المحفوظ {البلاغ} اسم بمعنى التبليغ {مَكَرَ} المكرُ: تدبير أمرٍ في خفاء، وقد يكون في الخير وقد يكون في الشر.
سَبَبُ النّزول: قال الكلبي: عيَّرت اليهود رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالت: ما نرى لهذا الرجل مهمة إلا النساء والنكاح ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} .
التفسير: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي صفة الجنة العجيبة الشأن التي وعد الله بها عباده المتقين أنها تجري من تحت قصورها وغرفها الأنهار {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} أي ثمرها دائم لا ينقطع، وظلُّها دائم لا تنسخه الشمس {تِلْكَ عقبى الذين اتقوا} أي تلك الجنة عاقبة المتقين ومآلهم {وَّعُقْبَى الكافرين النار} أي وأما عاقبة الكفار الفجار فهي النار {والذين(2/79)
آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي والذين أنزلنا إليهم التوراة والإِنجيل - ممن آمن بك واتبعك يا محمد - كعبد الله بن سلام والنجاشي وأصحابه يفرحون بهذا القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} أي ومن أهل الملل المتحزبين عليك وهم أهل أديان شتى من ينكر بعض القرآن مكابرة مع يقينهم بصدقه لأنه موافق لما معهم {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ} أي قل يا محمد إنما أُمرتُ بعبادة الله وحده لا أشركُ معه غيره {إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} أي إلى عبادته أدعو الناس وإليه مرجعي ومصيري {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} أي ومثل إنزال الكتب السابقة أنزلنا هذا القرآن بلغة العرب لتحكم به بين الناس {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} أي ولئن اتبعتَ المشركين فيما يدعونك إليه من الأهواء والآراء بعدما آتاك الله من الحجج والبراهين {مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} أي ليس لك ناصرٌ ينصرك أو يقيك من عذاب الله، والمقصود تحذير الأمة من اتباع أهواء الناس لأن المعصوم إذا خوطب بمثل ذلك كان الغرض تحذير الناس قال القرطبي: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد الأمة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} أي أرسلنا قبلك الرسل الكرام {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} أي وجعلنا لهم النساء والبنين، وهو ردٌّ على من عاب على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كثرة النساء وقالوا: لو كان مرسلاً حقاً لكان مشتغلاً بالزهد وترك الدنيا والنساء، فردَّ الله مقالتهم وبيَّن أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس ببدعٍ في ذلك، بل هو كمن تقدم من الرسل {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي لم يكن لرسولٍ أن يأتي قومه بمُعجزة إلا إذا أذن الله له فيها، وهذا ردٌّ على الذين اقترحوا الآيات {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي لكل مدةٍ مضروبة كتابٌ كتبه الله في اللوح المحفوظ، وكلُّ شيء عنده بمقدار قال الطبري: لكل أمر قضاه الله كتابٌ قد كتبه فهو عنده {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} أي ينسخ الله ما يشاء نسخه من الشرائع والأحكام وصحف الملائكة الكرام، ويثبتُ ما يشاء منها دون تغيير قال ابن عباس: يبدّل الله ما يشاء فينسخه إلا الموتَ والحياة والشقاء والسعادة فإنه قد فرغ منها وقيل: إن المحو والإِثبات عامٌ في جميع الأشياء لما روي أن عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت ويبكي ويقول: اللهمَّ إن كنتَ كتبت عليَّ شقوةً أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمُّ الكتاب، واجعله سعادةً ومغفرة، وقد رجحه أبو السعود وهو قول ابن مسعود أيضاً {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقاديرَ الأشياء ِ كلَّها {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} أي وإن أريناك يا محمد بعض الذي وعدناهم من العذاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أي نقبضك قبل أن نقر عينك بعذاب هؤلاء المشركين {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} أي ليس عليك إلا تبليغ الرسالة وعلينا حسابهم وجزاؤهم {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي أولمْ ير هؤلاء المشركون أنّا نمكّن للمؤمنين من ديارهم ونفتح للرسول الأرض بعد الأرض حتى تنقص دار الكفر وتزيد دار الإِسلام؟ وذلك من(2/80)
أقوى الأدلة على أن الله منجزٌ وعده لرسوله عليه السلام {والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقصٍ ولا تغيير {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} أي سريع الانتقام ممن عصاه {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي مكر الكفار الذين خَلَوْا بأنبيائهم كما مكر كفار قريش بك {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً} أي له تعالى أسباب المكر جميعاً لا يضر مكرهم إلا بإرادته، فهو يوصل إليهم العذاب من حيث لا يعلمون {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} أي من خير وشر فيجازي عليه {وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار} أي لمن تكون العاقبة الحسنة في الآخرة {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} أي يقول كفار مكة لستَ يا محمد مرسلاً من عند الله {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي حسبي شهادة الله بصدقي بما أيدني من المعجزات {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي وشهادة المؤمنين من علماء أهل الكتاب.
البَلاَغَة: في الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - التشبيه في قوله {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} [الرعد: 30] وفي {وكذلك أَنزَلْنَاهُ} ويسمى مرسلاً مجملاً.
2 - الإِيجاز بالحذف في {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} أي وظلها دائم حذف منه الخبر بدليل السابق.
3 - المقابلة في {تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار} وهو من المحسنات البديعية.
4 - جناس الاشتقاق في {أَرْسَلْنَا رُسُلاً} .
5 - الطباق في {يَمْحُواْ ... . وَيُثْبِتُ} .
6 - القصر في {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} وفي {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} وكلاهما قصرٌ إضافي من باب قصر الموصوف على الصفة أي ليس لك من الصفات إلا صفة التبليغ.
7 - التهييج والإِلهاب {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} .
8 - المجاز المرسل في {نَأْتِي الأرض} أي يأتيها أمرنا وعذابنا.
لطيفَة: فسَّر بعضهم قوله تعالى {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أن نقصانها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير والصلاح، وهذا مرويٌ عن مجاهد وابن عباس في رواية عنه وأنشد بعضهم:
الأرضُ تحيا إذا ما عاشَ عالمِها ... متى يمُتْ عالمٌ منها يمتْ طَرَفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيثُ حلَّ بها ... وإن أبى عادَ في أكنافها التَّلَفُ(2/81)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
اللغَة: {وَيْلٌ} هلاكٌ ودمار {يَسْتَحِبُّونَ} يختارون ويفضّلون {يَسُومُونَكُمْ} يذيقونكم يقال: سامه الذلُّ أي أذاقه الذل {تَأَذَّنَ} أعلم إعلاماً لا شبهة فيه {نَبَأُ} النبأ: الخبر وجمعه أنباء {سُلْطَانٍ} حجة وبرهان {فَاطِرِ} مبدع ومخترع {استفتحوا} استنصروا على أعدائهم {جَبَّارٍ} الجبار: المتكبر الذي لا يرى لأحدٍ عليه حقاً {عَنِيدٍ} العنيد: المعاند للحق والمجانب له الذي يذهب عن طريق الحق، تقول العرب: شرُّ الإِبل العَنُود {صَدِيدٍ} الصديد: القيح الذي يسيل من أجساد أهل النار {يَتَجَرَّعُهُ} أي يتحسّاه ويتكلف بلعه بمرارة {يُسِيغُهُ} يبتلعه.
التفسِير: {الر} هذا الكتاب المعجز مؤلف من جنس هذه الحروف المقطعة فأتوا بمثله إن(2/83)
استطعتم {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} أي هذا القرآن كتاب أنزلناه عليك يا محمد، لم تنشئْه أنت وإنما أوحيناه نحن إليك {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} أي لتخرج البشرية من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والإِيمان {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي بأمره وتوفيقه {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} أي لتهديهم إلى طريق الله العزيز الذي لا يُغالب، المحمود بكل لسان، الممجَّد في كل مكان {الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي المالك لما في السماوات والأرض، الغني عن الناس، المسيطر على الكون وما فيه {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال الزجاج: {وَيْلٌ} كلمة تُقال للعذاب والهلكة، أي هلاك ودمارٌ للكافرين ويا ويلهم من عذاب الله الأليم، ثم وضّح صفات أولئك الكفار بقوله {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة} أي يفضّلون ويؤثرون الحياة الفانية على الحياة الآخرة الباقية {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي يصرفون الناس ويمنعونهم عن دين الإسلام {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي يطلبون أن تكون دين الله معوجَّة لتوافق أهواءهم {أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الذميمة في ضلالٍ عن الحق مبين، لا يُرجى لهم صلاح ولا نجاح {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أي وما أرسلنا في الأمم الخالية رسولاً من الرسل إلا بلغة قومه {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أي ليبيّن لهم شريعة الله ويفهمهم مراده، لتتمَّ الغاية من الرسالة {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} أي وليست وظيفة الرسل إلا التبليغ وأما أمر الهداية والإِيمان فذلك بيد الله يضلُّ من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته على ما سبق به قضاؤه المحكم {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي وهو العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ} أي أرسلنا موسى بالمعجزات الباهرات الدالة على صدقه {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور} أن تفسيرية بمعنى أيْ والمعنى أي أخرج بني إِسرائيل من ظلمات الجهل والكفر إلى نور الإيمان والتوحيد قال أبو حيان: وفي قوله {قَوْمَكَ} خصوصٌ لرسالة موسى إلى قومه بخلاف قوله لمحمد {لِتُخْرِجَ الناس} مما يدل على عموم الرسالة {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} أي ذكّرهم بأياديه ونعمه عليهم {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي في التذكير بأيام الله لعبراً ودلالات لكل عبد منيب صابر على البلاء، شاكر للنعماء {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} أي اذكروا نعم الله الجليلة عليكم {إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي حين نجاكم من الذل والاستعباد من فرعون وزبانيته {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} أي يذيقونكم أسوأ أنواع العذاب {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} أي يذبحون الذكور ويستبقون الإناث على قيد الحياة مع الذل والصغار {وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ} أي وفي تلك المحنة ابتلاءٌ واختبار لكم من ربكم عظيم قال المفسرون: وكان سبب قتل الذكور أن الكهنة قالوا لفرعون إنّ مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون ذهاب ملكك على يديه، فأمر بقتل كل مولود {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} هذا من تتمة كلام موسى أي واذكروا أيضاً حين أعلم ربكم إعلاماً لا شبهة فيه لئن شكرتم إنعامي لأزيدنكم من فضلي {وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} أي ولئن جحدتم نعمتي بالكفر والعصيان فإن عذابي شديد، وعدَ بالعذاب(2/84)
على الكفر، كما وعَدَ بالزيادة على الشكر {وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} أي وقال موسى لبني إِسرائيل بعد أن أيس من إيمانهم لئن كفرتم أنتم وجميع الخلائق فلن تضروا الله شيئاً {فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي هو غنيٌّ عن شكر عباده، مستحق للحمد في ذاته وهو المحمود وإن كفره من كفره {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أي ألم يأتكم أخبار من قبلكم من الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود ماذا حلَّ بهم لما كذبوا بآيات الله {والذين مِن بَعْدِهِمْ} أي والأمم الذين جاءوا بعدهم {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} أي لا يحصي عددهم إلا الله {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} أي بالحجج الواضحات، والدلائل الباهرات {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} أي وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيباً لهم وقال ابن مسعود: عضوا أصابعهم غيظاً {وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم به {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أي في شك عظيم من دعوتكم، وقلق واضطراب من دينكم {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ} أي أجابهم الرسل بقولهم: أفي وجود الله ووحدانيته شك؟ والاستفهام للإنكار والتوبيخ لأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة ولهذا لفتوا الانتباه إلى براهين وجوده بقولهم {فَاطِرِ السماوات والأرض} أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي يدعوكم إلى الإِيمان ليغفر لكم ذنوبكم {وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي إن آمنتم أمدَّ في أعماركم إلى منتهى آجالكم ولم يعاقبكم في العاجل فيهلككم {قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} أي ما أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل لكم علينا {تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} أي تريدون أن تصرفونا عن عبادة الأوثان التي كان عليها آباؤنا {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي فأتونا بحجة ظاهرة على صدقكم {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} أي قالت الرسل: نحن كما قلتم بشر مثلكم {ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي يتفضل على من يشاء بالنبوة والرسالة قال الزمخشري: لم يذكروا فضلهم تواضعاً منهم وسلّموا لقولهم وأنهم بشرٌ مثلُهم في البشرية وحدها، فأمّا ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي وما ينبغي لنا أن نأتيكم بحجة وآية مما اقترحتموه علينا إلا بمشئية الله وإذنه {وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي على الله وحده فليعتمد المؤمنون في جميع أمورهم {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله} أي قالت الرسل: أيُّ شيء يمنعنا من التوكل على الله؟ {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} أي والحال أنه قد بصّرنا طريق النجاة من عذابه {وَلَنَصْبِرَنَّ على مَآ آذَيْتُمُونَا} أي ولنصبرنَّ على أذاكم قال ابن الجوزوي: وإنما قُصَّ هذا وأمثاله على نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليقتدي بمن قبله في الصبر وليعلم ما جرى لهم {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} ليس هذا تكراراً وإنما معناه الثبات على التوكل أي فليدوموا وليثبتوا على التوكل عليه وحده، وهنا يسفر الطغيان عن وجهه متبجحاً بالقوة المادية التي يملكها المتجبرون {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي(2/85)
مِلَّتِنَا} أي قال الكفار للرسل الأطهار والله لنطردنكم من ديارنا أو لترجعنَّ إلى ديننا {فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين} أي أوحى الله إلى الرسل لأهلكنَّ أعداءكم الكافرين المتجبرين {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ} أي ولأمنحنكم سكنى أرضهم بعد هلاكهم {ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} أي ذلك النصر للرسل وإهلاك الظالمين لمن خاف مقامه بين يديَّ وخاف عذابي ووعيدي قال في البحر: ولما أقسموا على إِخراج الرسل أو العودة في ملتهم أقسم تعالى على إهلاكهم، وأي إِخراجٍ أعظم من الإِهلاك بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبداً {واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي واستنصر الرسل بالله على قومهم وخسر وهلك كل متجبر معاند للحق {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} أي من وراء ذلك الكافر جهنم ويسقى فيها من ماءٍ صديد هو من قيح ودمٍ {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته، ولا يكاد يستسيغه لقبحه وكراهته {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} أي يأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنَّه لا يموت ليستكمل عذابه {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} أي ومن بين يديه عذابٌ أشدُّ مما قبله وأغلظ.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة أنواعاً من البلاغة والبيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الاستعارة في {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} حيث استعار الظلمات للكفر والضلال، والنور للهدى والإيمان، وكذلك {وَيَأْتِيهِ الموت} استعارة عن غواشي الكروب وشدائد الأمور، فقد يوصف المغموم بأنه في غمرات الموت مبالغة في عظيم ما يغشاه وأليم ما يلقاه.
2 - الطباق بين {يُضِلُّ ويَهْدِي} وبين {شَكَرْتُمْ وكَفَرْتُمْ} وبين {نُخْرِجَنَّ وتَعُودُنَّ} .
3 - صيغة المبالغة في {صَبَّارٍ شَكُورٍ} وفي {جَبَّارٍ عَنِيدٍ} .
4 - جناس الاشتقاق في {أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ} وفي {فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} .
5 - السجع في {شَدِيدٍ، بَعِيدٍ، عَنِيدٍ} الخ.
فَائِدَة: ذكر تعالى في البقرة {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} [البقرة: 49] بغير واوٍ وهنا {وَيُذَبِّحُونَ} بالواو، والسرُّ في ذلك أنه في سورة البقرة جاء اللفظ تفسيراً لما سبق من قوله {سواء العذاب} [البقرة: 49] فكأنه قال يسومونكم سوء العذاب ثم فسره بقوله {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} [البقرة: 49] أما في هذه السورة فهو غير تفسير لأن المعنى أنهم يعذبونهم بأنواع من العذاب وبالتذبيح أيضاً فهو نوع آخر من العذاب غير الأول والله أعلم.(2/86)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
المنَاسَبَة: لما حكى تعالى استهزاء الكفار بالرسل، وما أعدَّ لهم من العذاب والنكال في الآخرة، ضرب مثلاً لأعمالهم، ثم ذكر المناظرة بين الرؤساء والأتباع، وعقّبها بالتذكير بنعم الله على العباد ليعبدوه ويشكروه.
اللغَة: {عَاصِفٍ} شديد الريح {بَرَزُواْ} البروز: الظهور بعد الخفاء، والبَراز المكان الواسع لظهوره، وامرأةٌ برْزة أي تظهر للناس {مَّحِيصٍ} منجى ومهرب يقال: حاصَ عن كذا أي فرَّ وأراد الهرب منه {جَزِعْنَآ} الجزع: عدم احتمال الشدة وهو نقيض الصبر {مُصْرِخِكُمْ} مُغيثكم الصارخ المستغيث، والمُصرخ المغيث قال أمية:
فلا تَجْزعوا إِني لكم غيرُ مُصْرخٍ ... وليس لكم عندي غناءٌ ولا نصْر
{اجتثت} اقتلعت من أصلها {البوار} الهلاك {خِلاَلٌ} جمع خُلَّة وهي الصحبة والصَّداقة قال امرؤ القيس:
صرفتُ الهَوى عنهنَّ من خشيةِ الرَّدى ... فلستُ بمقْليِّ الخِلال ولا قالي
{دَآئِبَينَ} الدؤب في اللغة: مرورُ الشيء في العمل على عادة مطردة يقال دأب دؤباً.
التفسِير: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح} أي مثلُ أعمالِ الكفار(2/87)
التي عملوها في الدنيا يبتغون بها الأجر من صدقةٍ وصلة رحم وغيرها مثلُ رمادٍ عصفت به الريح فجعلته هباءً منثوراً {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} أي في يومٍ شديد هبوب الريح قال القرطبي: ضرب الله هذه الآية مثلاً الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى {لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} أي لا يقدر الكفار على تحصيل ثواب ما عملوا من البرِّ في الدنيا لإِحباطه بالكفر، كما لا يستطيع أن يحصل الإِنسان على شيء من الرماد الذي طيَّرته الريح {ذلك هُوَ الضلال البعيد} أي الخسران الكبير {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} أي ألم تر أيها المخاطب بعين قلبك وتتأمل ببصيرتك أن اللهَ العظيم الجليل أنفرد بالخلق والإيجاد، وأنه خلق السماوات والأرض ليُستدلَّ بهما على قدرته؟ قال المفسرون: أي لم يخلقهن عبثاً وإنما خلقهنَّ لأمرٍ عظيم {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي هو قادرٌ على الإفناء كما قادر على الإِيجاد والإِحياء قال ابن عباس يريد: يميتكم يا معشر الكفار ويخلق قوماً غيركم خيراً منكم وأطوع {وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي ليس ذلك بصعبٍ أو متعذرٍ على الله، فإنَّ القويَّ القادر لا يصعبُ عليه شيء {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً} أي خرجوا من قبورهم يوم البعث، وظهروا للحساب لا يسترهم عن الله ساتر قال الإِمام الفخر: ورد بلفظ الماضي {وَبَرَزُواْ} وإن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدقٌ وحقٌ، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود ونظيره {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار} [الأعراف: 44] {فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا} أي قال الأتباع والعوام للسادة الكبراء والقادة الذين أضلوهم في الدنيا {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي كنا أتباعاً لكم نأتمر بأمركم {فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ} أي هل أنتم دافعون عنا شيئاً من عذاب الله؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع {قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ} أي قال القادة معتذرين: لو هدانا الله للإيمان لهديناكم إِليه، ولكن حصل لنا الضلال فأضللناكم فلا ينفعنا العتاب ولا الجزع {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا} أي يستوي علينا الجزع والصبر قال الطبري: إن أهل النار يجتمعون فيقول بعضهم لبعض: إنما أدركَ أهلُ الجنةِ ببكائهم وتضرعهم إلى الله فتعالواْ نبكي ونتضرع إلى الله، فبكوا فلما رأوا أن ذلك لا ينفعهم قالوا: تعالوا نصبر فصبروا صبراً لم يُر مثلُه، فلما رأوا أنه لا ينفعهم قالوا {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا} وقال مقاتل: جزعوا خمسمائة عام، وصبروا خمسمائة عام {مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} أي ليس لنا من مهرب أو ملجأ {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر} هذه هي الخطبة البتراء التي يخطب بها إبليس في محفل الأشقياء في جهنم أي لمّا فُرغ من الحساب ودخل أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} أي وعدكم وعداً حقاً بإثابة المطيع وعقاب العاصي فوفَّى لكم وعده {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي وعدتكم ألاّ بعث ولا ثواب ولا عقاب فكذبتكم وأخلفتكم الوعد {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي لم يكن لي قدرة وتسلط وقهر عليكم فأقهركم على الكفر والمعاصي {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بالوسوسة(2/88)
والتزيين فاستجبتم لي باختياركم {فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} أي لا ترجعوا باللوم عليَّ اليوم ولكن لوموا أنفسكم فإن الذنب ذنبكم {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي ما أنا بمغيثكم ولا أنتم بمغيثيَّ من عذاب الله {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} أي كفرت بإشراككم لي مع الله في الطاعة {إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي إن المشركين لهم عذاب مؤلم قال المفسرون: هذه الخطبة إنما تكون إذا استقر أهل الجنةِ في الجنة، وأهلُ النار في النار، فيأخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه فيقوم فيما بينهم خطيباً بما أخبر عنه القرآن وقال الحسن: يقف إبلس يوم القيامة خطيباً في جهنم على منبرٍ من نار يسمعه الخلائق جميعاً {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} لمّا ذكر تعالى أحوال الأشقياء، ذكر بعده أحوال السعداء، ليبقى العبد بين الرغبة والرهبة، وبين الخوف والرجاء أي أدخلهم الله تعالى جناتٍ تجري من تحت قصورها أنهار الجنة ماكثين فيها أبداً بأمره تعالى وتوفيقه وهدايته {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} أي تُحييِّهم الملائكة بالسلام مع الإِجلال والإِكرام {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} هذا مثلٌ ضربه الله لكلمة الإِيمان وكلمة الإِشراك، فمثَّل لكلمة الإِيمان بالشجرة الطيبة، ولكلمة الإِشراك بالشجرة الخبيثة قال ابن عباس: الكلمة الطيبة «لا إله إلا الله» والشجرة الطيبة «المؤمن» {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السمآء} أي أصلها راسخ في الأرض وأغصانها ممتدة نحو السماء {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} أي تعطي ثمرها كلَّ وقت بتيسير الخالق وتكوينه، كذلك كلمة الإِيمان ثابتة في قلب المؤمن، وعملُه يصعد إلى السماء ويناله بركته وثوابه في كل وقت {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي يبيّن لهم الأمثال لعلهم يتعظون فيؤمنون {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} أي ومثل كلمة الكفر الخبيثة كشجرة الحَنْظل الخبيثة {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض} أي استؤصلت من جذورها واقتعلت من الأرض لعدم ثبات أصلها {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} أي ليس لها استقرارٌ وثبات، كذلك كلمة الكفر لا ثبات لها ولا فرع ولا بركة قال ابن الجوزي: شُبه ما يكسبه المؤمن من بركة الإيمان وثوابه في كل وقت بثمرتها المجتناة في كل حين، فالمؤمن كلما قال «لا إله إلا الله» صعدت إِلى السماء ثم جاء خيرُها ومنفعتها، والكافر لا يُقبل عمله ولا يصعد إلى الله تعالى، لأنه ليس له أصل في الأرض ثابت، ولا فرع في السماء {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا} أي يثبتهم على كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» وعلى الإيمان في هذه الحياة فلا يزيغون ولا يُفْتنون {وَفِي الآخرة} أي عند سؤال الملكين في القبر كما في الحديث الشريف
«المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ} ... » الآية « {وَيُضِلُّ الله الظالمين} أي لا يهديهم في الحياة ولا عند سؤال الملكين وقت الممات {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ} أي من هداية المؤمن وإضلال الكافر لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} استفهام للتعجيب أي ألا تعجب أيها السامع من أولئك الذين(2/89)
غيَّروا نعمة الله بالكفر والتكذيب؟ قال المفسرون: هم كفار مكة فقد أسكنهم الله حرمه الآمن، وجعل عيشهم في السِّعة، وبعث فيهم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، وكفروا به وكذبوه، فابتلاهم الله بالقحط والجدب {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} أي أنزلوا قومهم دار الهلاك بكفرهم وطغيانهم ثم فسَّرها بقوله {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} أي أحلوهم في جهنم يذوقون سعيرها وبئست جهنم مستقراً {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ} أي جعلوا لله شركاء مماثلين عبدوهم كعبادته ليُضلوا الناس عن دين الله {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} أي استمتعوا بنعيم الدنيا فإن مردَّكم ومرجعكم إلى عذاب جهنم، وهو وعيد وتهديد {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة} أي قل يا محمد لعبادي الذين آمنوا فلْيقيموا الصلاة المفروضة عليهم ويؤدوها على الوجه الأكمل {وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً} أي ولينفقوا مما أنعمنا عليهم به من الرزق خفيةً وجهراً {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} أي من قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا صداقة، ولا فداء ولا شفاعة، ولما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء ختم ذلك بذكر الدلائل الدالة على وجود الخالق الحكيم فقال {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض} أي أبدعهما واخترعهما على غير مثال سبق {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} أي أنزل من السحاب الممطر {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} أي أخرج بالمطر من أنواع الزروع والثمار رزقاً للعباد يأكلونه {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ} أي ذلَّل السفن الكبيرة لتسير بمشيئته، تركبونها وتحملون فيها أمتعتكم من بلد إلى بلد {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} أي الأنهار العذبة لتشربوا منها وتسقوا وتزرعوا {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ} أي وذلَّل لكم الشمس والقمر يجريان بانتظام لا يفتران، لصلاح أنفسكم ومعاشكم {وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار} أي لتسكنوا في الليل، ولتبتغوا من فضله بالنهار، هذا لمنامكم وذاك لمعاشكم {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي أعطاكم كل ما تحتاجون إليه، وما يصلح أحوالكم ومعاشكم، مما سألتموه بلسان الحال أو المقال {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} أي وإِن تعدُّوا نِعَم اللهِ عليكم لا تطيقوا حصرها وعدَّها، فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها عدد {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} الإِنسان اسم جنس أي إن الإنسان لمبالغٌ في الظلم والجحود، ظالمٌ لنفسه بتعديه حدود الله، جحودٌ لنعم الله، وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع،(2/90)
كفَّار في النعمة يجمع ويمنع.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - التشبيه التمثيلي {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح} لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
2 - التشبيه المرسل المجمل {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} ومثلها {مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} .
3 - الطباق في {أَصْلُهَا ... وَفَرْعُهَا} وفي {طَيِّبَةً ... وخَبِيثَةٍ} وفي {يُذْهِب ... ويَأْتِيَ} وفي {سِرّاً ... وَعَلانِيَةً} وفي {أَجَزِعْنَآ ... وصَبَرْنَا} .
4 - طباق السلب في {فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} .
5 - التعجيب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً} .
6 - التهديد والوعيد {قُلْ تَمَتَّعُواْ} .
7 - صيغة المبالغة {ظَلُومٌ كَفَّارٌ} لأن فعول وفعّال من صيغ المبالغة.
8 - السجع المرصَّع دون تكلف مثل {البوار ... القرار ... النار} الخ.(2/91)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
المنَاسَبة: لمّا ذكر تعالى بالدلائل الحسية والسمعية انفراده بالألوهية وأن لا معبود إِلا الله، ذكر هنا أبا الأنبياء «إِبراهيم» عليه السلام حصن التوحيد، ومبالغته في هدم الشرك والأوثان، ثم ذكر موقف الظالمين يوم الدين، وما يعتريهم من الذل والهوان في يوم الحشر الأكبر.
اللغَة: {واجنبني} أبعدني ونحّني يقال: جَنب وجنَّب وأصله جعل الشيء في جانب آخر {تَشْخَصُ} شخَص البصر: إِذا بقيت العين مفتوحة لا تغمض من هول ما ترى {مُهْطِعِينَ} مسرعين يقال أهطع إهطاعاً إذا أسرع قال الشاعر:
بدجلةَ دارهُم ولقد أَراهم ... بدجلةَ مُهْطعينَ إِلى السَّماع
{مُقْنِعِي} المقنعُ: الرافع رأسه المقبل ببصره على ما بين يديه {هَوَآءٌ} خالية {مُّقَرَّنِينَ} مشدودين {الأصفاد} الأغلال والقيود واحدها صفد {سَرَابِيلُهُم} جمع سربال وهو القميص والثوب {تغشى} تجلّل وتغطّي.
التفسِير: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} أي اجعل مكة بلد آمنٍ يأمن أهله وساكنوه {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} أي احمني يا رب وجنبني وأولادي عبادة الأصنام، والغرضُ تثبيتُه على ملة التوحيد والإِسلام {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس} أي يا ربّ إنَّ هذه الأصنام أضلَّت كثيراً من الخلق عن الهداية والإِيمان {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} أي فمن أطاعني وتبعني على التوحيد فإِنه من أهل ديني {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي ومن خالف أمري فإِنك يا رب غفار الذنوب رحيمٌ بالعباد {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} كرّر النداء رغبةً في الإِجابة وإِظهاراً للتذلل والإلتجاء إلى الله تعالى أي يا ربنا إني أسكنت من أهلي - ولدي إسماعيل وزوجي هاجر - {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} أي بوادٍ ليس فيه زرع في جوار بيتك المحرم، وهو وادي مكة شرفها الله تعالى {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} أي ربنا لكي يعبدوك ويقيموا الصلاة أسكنتهم بهذا الوادي فاجعل قلوبَ الناسِ تحنُّ وتسرع إِليهم شوقاً قال ابن عباس: لو قال: (أفئدة الناس) لازدحمت عليه فارس والروم والناسُ كلهم، ولكنْ قال {مِّنَ الناس} فهم المسلمون {وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} أي وارزقهم في ذلك الوادي القفر من أنواع الثمار ليشكروك على جزيل نِعمك، وقد استجاب الله دعاءه فجعل مكة حرماً آمناً يجبى إليها ثمرات كل شيء رِزقاً من عند الله {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} أي يا ربنا إنك العالم لما في القلوب تعلم ما نسرُّ وما نظهر {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} أي لا يغيب عليه تعالى شيء في الكائنات، سواء منها ما كان في الأرض أو في السماء، فكيف تخفى عليه وهو خالقها وموجدها؟ {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} أي الحمد لله الذي رزقني على كبر سني وشيخوختي إسماعيل وإسحاق قال ابن عباس: ولد له إِسماعيل وهو ابن تسعٍ(2/92)
وتسعين، وولد له إِسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء} أي مجيبٌ لدعاء من دعاه {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي} هذه هي الدعوة السادسة من دعوات الخليل عليه السلام أي يا رب اجعلني ممن حافظ على الصلاة واجعل من ذريتي من يقيمها أيضاً، وهذه خير دعوةٍ يدعوها المؤمن لأولاده فلا أحبَّ له من أن يكون مقيماً للصلاة هو وذريته لأنهما عماد الدين {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} أي تقبَّلْ واستجبْ دعائي فيما دعوتك به {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} هذه هي الدعوة السابعة وبها ختم إِبراهيم دعاءه الضارع الخاشع بالاستغفار له ولوالديه ولجميع المؤمنين، يوم يقوم الناس لرب العالمين قال المفسرون: استغفر لوالديه قبل أن يتبيَّن له أنَّ أباه عدوٌ لله قال القشيري: ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه.
. وينتقل السياق إلى مشاهد القيامة وما فيها من الأهوال حين تزلزل القلوب والأقدام {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} أي لا تظننَّ يا محمد أنَّ الله ساهٍ عن أفعال الظلمة، فإن سنة الله إمهال العصاة ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، قال ميمون بن مِهْران: هذا وعيدٌ للظالم، وتعزيةٌ للمظلوم {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} أي إِنما يؤخرهم ليومٍ رهيب عصيب، تَشْخص فيه الأبصار من الفزع والهَلع، فتظلُّ مفتوحة مبهوتة لا تطرف ولا تتحرك قال أبو السعود: تبقى أبصارهم مفتوحة لا تتحرك أجفانهم من هول ما يرونه {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} أي مسرعين لا يلتفتون إلى شيء رافعين رءوسهم مع إدامة النظر قال الحسن: وجوه الناس يومئذٍ إِلى السماء لا ينظر أحدٌ إلى أحد {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي لا يطرفون بعيونهم من الخوف والجزع {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} أي قلوبهم خالية من العقل لشدة الفزع {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} أي خوّف يا محمد الكفار من هول يوم القيامة حين يأتيهم العذاب الشديد {فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي فيتوجه الظالمون يومئذٍ إلى الله بالرجاء يقولون يا ربنا أمهلنا إلى زمنٍ قريب لنستدرك ما فات {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} أي نجب دعوتك لنا إِلى الإِيمان ونتّبع رسلك فيما جاءونا به {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} أي يقال لهم توبيخاً وتبكيتاً: ألم تحلفوا أنكم باقون في الدنيا لا تنتقلون إلى دار أخرى؟ والمراد إِنكارهم للبعث والنشور {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ} أي سكنتم في ديار الظالمين بعد أن أهلكناهم، فهلاَّ اعتبرتم بمساكنهم؟ {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} أي تبيَّن لكم بالإِخبار والمشاهدة كيف أهلكناهم، وانتقمنا منهم {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال} أي بينا لكم الأمثال في الدنيا فلم تعتبروا {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} أي مكر المشركون بالرسول وبالمؤمنين حين أرادوا قتله {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي وعند الله جزاء هذا المكر فإنه محيط بهم وبمكرهم {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} أي وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال ولكنَّ الله عصَم ووقى منه {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} أي لا تظننَّ أيها المخاطب أن الله يخلف رسله ما وعدهم به من النصر وأخذ الظالمين المكذبين {إِنَّ الله(2/93)
عَزِيزٌ ذُو انتقام} أي إنه تعالى غالبٌ لا يعجزه شيء منتقم ممن عصاه {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} أي ينتقم من أعدائه يوم الجزاء، يوم تتبدل هذه الأرض أرضاً أخرى، وتتبدل السماوات سماوات أخرى قال ابن مسعود: تُبدَّل الأرضُ بأرضٍ كالفضة نقية، لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها خطيئة {وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم، وإنما هم في أرض المحشر أمام الواحد القهار {وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} أي وفي ذلك اليوم الرهيب تبصر المجرمين مشدودين مع شياطينهم بالقيود والأغلال قال الطبري: أي مقرَّنة أيديهم وأرجُلهم إِلى رقابهم بالأصفاد وهي الأغلال والسلاسل {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران وهي مادة يسرع فيها اشتعال النار، تُطلى بها الإِبل الجربى فيحرق الجربَ بحرّه وحدته، وهو أسود اللون منتنُ الريح {وتغشى وُجُوهَهُمُ النار} أي تعلوها وتحيط بها النار، جزاء المكر والاستكبار {لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي برزوا يوم القيامة لأحكم الحاكمين ليجازيهم الله على أعمالهم، المحسنَ بإِحسانه، والمسيءَ بإِساءته {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي لا يشغله شأن عن شأن، يحاسب جميع الخلق في أعجل ما يكون من الزمان، في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا كما ورد به الأثر {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ} أي هذا القرآن بلاغٌ لجميع الخلق من إِنس وجان، أنزل لتبليغهم بما فيه من فنون العبر والعظات {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} أي لكي يُنصحوا به ويخوّفوا من عقاب الله {وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي ولكي يتحققوا بما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة، على أنه تعالى واحد أحدٌ، فردٌ صمد {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة، وهم السعداء أهل النهي والصلاح.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - التشبيه البليغ {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه أي قلوبهم كالهواء لفراغها من جميع الأشياء فأصبح التشبيه بليغاً.
2 - الإيجاز بالحذف {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} حذف منه والسماوات تبدل غير السماوات لدلالة ما سبق.
3 - الطباق في {تَبِعَنِي ... عَصَانِي} وفي {نُخْفِي ... نُعْلِنُ} وفي {الأرض ... السمآء} .
4 - جناس الاشتقاق في {مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} .
5 - العدول عن المضارع إلى الماضي {وَبَرَزُواْ} بدل {ويبرزون} للدلالة على تحقق الوقوع مثل {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] فكأنه حدث ووقع فأخبر عنه بصيغة الماضي.
6 - الاستعارة في {لصَّلاَةَ فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} قال الشريف الرضي: وهذه من(2/94)
محاسن الاستعارة وحقيقةُ الهُوي النزول من علوٍ إلى انخفاض كالهبوط والمراد تسرع إليهم شوقاً وتطير إليهم حباً، ولو قال «تحنُّ إليهم» لم يكن فيه من الفائدة ما في التعبير ب {تهوي إِلَيْهِمْ} لأن الحنين قد يكون من المقيم بالمكان.
لطيفَة: حكمة تعريف البلد هنا {اجعل هذا البلد آمِناً} وتنكيره في البقرة {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126] أنه تكرر الدعاء من الخليل، ففي البقرة كان قبل بنائها فطلب من الله أن تجعل بلداً، وأن تكون آمناً، وهنا كان بعد بنائها فطلب من الله أن تكون آمناً أي بلد أمنٍ واستقرار، وهذا هو السرُّ في التفريق في الآيتين، اللهم ارزقنا فهم أسرار كتابك العظيم.(2/95)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
اللغَة: {رُّبَمَا} ربَّ للتقليل و {مَآ} نكره موصوفة أي رب شيء {لَّوْمَا} للتحضيض كلولا وهلاّ {شِيَعِ} جمع شيعة وهي الفرقة والطائفة من الناس {نَسْلُكُهُ} ندخله، والسَّلْك: إدخال الشيء في الشيء {يَعْرُجُونَ} عَرَج: صعد، والمعارج المصاعد {سُكِّرَتْ} سُدَّت ومنعت {بُرُوجاً} البروج: منازل الكواكب السيارة وأصله الظهور ومنه تبرج المرأة وهو إظهار زينتها {لَوَاقِحَ} جمع لاقح وهي الريح التي تحمل المطر، والتي لا تأتي بخير تسمى الريح العقيم، أو ملقّحة للشجر أي تحمل اللّقاح له {صَلْصَالٍ} طين يابس يسمع له صلصلة إذا يبس {حَمَإٍ} الحمأ: الطين الأسود {مَّسْنُونٍ} منتن متغير قال الفراء: هو المتغيّر وأصله من سننتُ الحجر إذا حككته به {السموم} الريح الحارة القاتلة.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، ويتأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطه فأنزل الله {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين} .
التفسِير: {
الار} إشارة إلى إعجاز القرآن أي هذا الكتاب العجيب المعجز كلام الله تعالى وهو منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية الألف واللام والراء {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} أي هذه آيات الكتاب، الكامل في الفصاحة والبيان، المتعالي عن الطاقة البشرية، {وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} أي قرآنٍ عظيم الشأن، واضحٍ بيّن، لا خلل فيه ولا اضطراب {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} أي ربما تمنى الكفار {لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} أي لو كانوا في الدنيا مسلمين، وذلك عند معاينة أهوال الآخرة {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} أي دَعْهم يا محمد يأكلوا كما تأكل البهائم، ويستمتعوا بدنياهم الفانية {وَيُلْهِهِمُ الأمل} أي يشغلهم الأمل بطول الأجل، عن التفكر فيما ينجيهم من عذاب الله {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبة أمرهم إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا، وهو ويعد وتهديد {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} أي وما أهلكنا أهل قرية من القرى الظالمة التي كذبت رسل الله {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} أي إلا لها أجل محدود لإهلاكها {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} أي لا يتقدم هلاك أمةٍ قبل مجيء أوانه {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي ولا يتأخر عنهم قال ابن كثير: وهذا تنبيهٌ لأهل مكة وإِرشاد لهم غلى الإِقلاع عما هم عليه من العِناد والإِلحاد الذي يستحقون به الهلاك {وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} قال كفار قريش لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على جهة الاستهزاء والتهكم: يا من تزعم وتدعي أن القرآن نزل عليك {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} أي إنك حقاً لمجنون، أكّدوا الخبر بإنَّ واللام مبالغة في الاستخفاف والاستهزاء بمقامه الشريف عليه السلام {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي هلاّ جئتنا بالملائكة لتشهد لك بالرسالة إن كنت صادقاً في دعواك أنك رسول الله!! قال تعالى رداً عليهم {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق} أي ما ننزّل ملائكتنا إلا بالعذاب لمن أردنا إهلاكه {وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} أي وفي هذه الحالة وعندئذٍ لا إمهال ولا تأجيل، والغرض أن عادة الله تعالى قد جرت في خلقه أنه لا ينزل الملائكة إلا لمن يريد(2/98)
إهلاكهم بعذاب الاستئصال، وهو لا يريد ذلك مع أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعلمه تعالى أنه يخرج من أصلابهم من يعبد الله، ففيه ردٌ عليهم فيما اقترحوا {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} أي نحن بعظمة شأننا نزلنا عليك القرآن يا محمد {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي ونحن الحافظون لهذا القرآن، نصونه عن الزيادة والنقصان، والتبديل والتغيير، قال المفسرون: تكفَّل الله بحفظ هذا القرآن، فلم يقدر أحد على الزيادة فيه ولا النقصان، ولا على التبديل والتغيير كما جرى في غيره من الكتب فإن حفظها موكولٌ إلى أهلها لقوله تعالى
{بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} [المائدة: 44] وانظر الفرق بين هذه الآية {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} حيث ضمن حفظه وبين الآية السابقة حيث وكل حفظه إليهم فبدَّلوا وغيَّروا {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأولين} أي ولقد أرسلنا من قبلك يا محمد رسلاً في طوائف وفرق الأمم الأولين {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي وما جاءهم رسولٌ إلاّ سخروا منه واستهزءوا به، وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فُعل بمن قبلك من الرسل فلا تحزن {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} أي كذلك نسلك الباطل والضلال والاستهزاء بأنبياء الله في قلوب المجرمين، كما سلكناه وأدخلناه في قلوب أولئك المستهزئين {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين} أي لا يؤمنون بهذا القرآن وقد مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك والدمار؟ ثم بيَّن تعالى أن كفار مكة لا ينقصهم توافر براهين الإيمان فهم معاندون مكابرون، وفي ضلالهم وعنادهم سائرون فقال {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} أي لو فرض أننا أصعدناهم إلى السماء، وفتحنا لهم باباً من أبوابها، فظلوا يصعدون فيه حتى شاهدوا الملائكة والملكوت {لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} أي لقالوا - لفرط مكابرتهم وعنادهم - إنما سُدَّت أبصارنا وخُدعت بهذا الارتقاء والصعود {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} أي سحرنا محمد وخيَّل إلينا ذلك وما هو إلا سحر مبين قال الرازي: لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج، وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلكانه، وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكّوا في تلك الرؤية، وبقوا مصرين على لاكفر والعناد كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر، والقرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإِنس أن يأتوا بمثله، ثم ذكر تعالى البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته فقال {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} أي جعلنا في السماء منازل تسير فيها الأفلاك والكواكب {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} أي زيناها بالنجوم ليُسرَّ الناظر إليها {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} أي حفظنا السماء الدنيا من كل شيطان لعين مطرود من رحمة الله {إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} أي إلا من اختلس شيئاً من أخبار السماء فأدركه ولحقه شهاب ثاقب فأحرقه {والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي بسطناها ووسعناها وجعلنا فيها جبالاً ثوابت {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} أي أنبتنا في الأرض من الزروع والثمار من كل شيءٍ موزون بميزان(2/99)
الحكمة، بدقةٍ وإحكام وتقدير {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي ما تعيشون به من المطاعم والمشارب {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} أي وجعلنا لكم من العيال والمماليك والأنعام من لستم له برازقين، لأننا نخلق طعامهم وشرابهم لا أنتم {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} أي ما من شيء من أزراق الخلق والعباد ومنافعهم إلا عندنا خزائنه ومستودعاته {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} أي ولكن لا ننزله إلا على حسب حاجة الخلق إليه، وعلى حسب المصالح، كما نشاء ونريد {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} أي تلقِّح السحاب فيدر ماءً، وتلقّح الشجر فيتفتَّح عن أوراقه وأكمامه، فالريح كالفحل للسحاب والشجر {فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي فأنزلنا من السحاب ماءً عذباً، جعلناه لسقياكم ولشرب أرضكم ومواشيكم {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} أي لستم بقادرين على خزنه بل نحن بقدرتنا نحفظه لكم في العيون والآبار والأنهار، ولو شئنا لجعلناه غائراً في الأرض فهلكتم عطشاً كقوله
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30] ؟ {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوارثون} أي الحياة والموت بيدنا ونحن الباقون بعد فناء الخلق، نرث الأرض الأرض ومن عليها وإلينا يُرجعون {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين} أي أحطنا علماً بالخلق أجمعين، الأموات منهم والأحياء قال ابن عباس: المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة وقال مجاهد: المستقدمون: الأمم السابقة، والمستأخرون أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والغرضُ أنه تعالى محيطٌ علمه بمن تقدم وبمن تأخر، لا يخفى عليه شيء من أحوال العباد، وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} أي وإن ربك يا محمد هو يجمعهم للحساب والجزاء {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي حكيمٌ في صنعه عليمٌ بخلقه، ولما ذكر تعالى الموت والفناء، والبعث والجزاء، نبّههم إلى مبدأ أصلهم وتكوينهم من نفسٍ واحدة، ليشير إلى أن القادر على الإِحياء قادر على الإِفناء والإِعادة، وذكّرهم بعداوة إبليس لأبيهم آدم ليحذروه فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ} أي خلقنا آدم من طين يابسٍ يسمع له صَلْصلة أي صوت إذا نُقر {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} أي من طين أسود متغيّر {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} أي ومن قبل آدم خلقنا الجانَّ - أي الشياطين ورئيسهم إبليس - من نار السموم وهي النار الحارة الشديدة التي تنفذ في المسامّ فتقتل بِحرها قال المفسرون: عني بالجانِّ هنا «إبليس» أبا الجنِّ لأن منه تناسلت الجن فهو أصل لها كما أن آدم أصل للإِنس {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} أي اذكر يا محمد وقت قول ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين يابسٍ، أسود متغيّر قال ابن كثير: فيه تنويهٌ بذكر آدم في الملائكة قبل خلقه له، وتشريفه إيّاه بأمر الملائكة بالسجود له، وامتناع إبليس عدوه عن السجود له حسداً وكفراً {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي سويت خَلْقه وصورته، وجعلته إنساناً كاملاً معتدل الأعضاء {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} أي أفضتُ عليه من الروح التي هي خلقٌ من خلقي فصار بشراً حياً {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} أي خرو له ساجدين، سجود تحيةٍ(2/100)
وتكريم لا سجود عبادة، قال المفسرون: وإنما أضاف الروح إليه تعالى على سبيل التشريف والتكريم كقوله «بيت الله، ناقة الله! شهر الله» وهي من إضافة الملك إلى المالك، والصنعة إلى الصانع {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} أي سجد لآدم جميع الملائكة لم يمتنع منهم أحد {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} الاستثناء منقطع لأن إبليس خلقٌ آخر غير الملائكة، فهو من نار وهم من نور، وهم لا يعصون الله ما أمرهم وهو أبى وعصى، فليس هو من الملائكة بيقين، ولكنه كان بين صفوفهم فتوجه إليه الخطاب والمعنى: سجد جميع الملائكة لكنْ إبليس امتنع من السجود بعد أن صدر له الأمر الإِلهي {قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} أي ما المانع لك من السجود؟ وأيُّ داعٍ دعا بك إلى الإِباء والامتناع؟ وهو استفهام تبكيتٍ وتوبيخ {قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} أي قال إبليس: لا ينبغي ولا يليق لمثلي أن يسجد لآدم وهو مخلوق من طينٍ يابسٍ متغير، فهو من طينٍ وأنا من نار فكيف يسجد العظيم للحقير، والفاضل للمفضول؟ رأى عدوُّ الله نفسه أكبر من أن يسجد لآدم، ومنعه كبره وحسده عن امتثال أمر الله {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي اخرجْ من السماوات فإنك مطرودٌ من رحمتي {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} أي وإن عليك لعنتي إلى يوم الجزاء والعقوبة {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي قال اللعين: أمهلني وأخرني إلى يوم البعث {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} أي قال له الله: إنك من المؤجلين إلى حين موت الخلائق قال القرطبي: أراد بسؤاله الإنظار - إلى يوم يبعثون - ألا يموت، لأن البعث لا موتَ بعده، فأجابه المولى بالإِنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم موت الخلائق، فيموت إبليس ثم يُبعث {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} أي بسبب إغوائك وإضلالك لي {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} أي لأزيننَّ لذرية آدم المعاصي والآثام {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي ولأظلَّنهم عن طريق الهدى أجمعين {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} أي إلا من استخلصته من عبادك لطاعتك ومرضاتك فلا قدرة لي على إِغوائه {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} أي قال تعالى: هذا طريق مستقيم واضح، وسنة أزليةٌ لا تتخلف وهي {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي إن عبادي المؤمنين لا قوة على إضلالهم {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} استثناء منقطع لأن الغاوين ليسوا من عباد الله المخلصين والمعنى لكنْ من غوى وضل من الكافرين فلك عليهم تسلط، لأن الشيطان إنما يتسلط على الشاردين عن الله، كما يتسلط الذئب على الشاردة من القطيع {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي موعد إبليس وأتباعه جميعاً {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أي لجهنم سبعة أبواب يدخلون منها لكثرتهم وروي عن عليّ أنها أطباقٌ، طبقٌ فوق طبق وأنها دركاتٌ بعضها أشد من بعض {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} أي لكل جماعة من أتباع إبليس بابٌ معينٌ معلوم، قال ابن كثير: كلٌ يدخل من بابٍ بحسب عمله، ويستقر في دَرَكٍ بقدر عمله.(2/101)
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - المجاز المرسل في {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} المراد أهلها وهو من باب إطلاق المحل وإرادة الحالّ.
2 - الاستعارة التخيليَّة في {عِندَنَا خَزَائِنُهُ} فهو تمثيل لكمال قدرته، شبَّه قدرته على كل شيء بالخزائن المودوعة فيها الأشياء، وإخراج كل شيء بحسب ما اقتضته حكمته على طريق الاستعارة.
3 - الطباق بين {نُحْيِي ... وَنُمِيتُ} وبين {المستقدمين ... المستأخرين} .
4 - جناس الاشتقاق في {خَزَائِنُهُ ... وخَازِنِينَ} .
5 - السجع الذي له وقع على السمع مثل {المجرمين، الأولين، المنظرين} الخ.
لطيفَة: ذكر أن رجلاً أراد أن يمتحن الأديان أيها أصح وأحسن؟ فعمد إلى التوراة والإِنجيل والقرآن - وكان خطاطاً - فنسخ من كل كتاب نسخة بخط جميل وزاد فيها ونقص، ثم عرض التوراة على علماء اليهود فقبلوها وتصفحوها وأكرموه بالمال، ثم عرض الإِنجيل الذي نسخه بيده على القسس فاشتروه بثمن كبير وأكرموه، ثم عرض نسخة القرآن على شيوخ المسلمين فنظروا فيه فلما رأوا فيه بعض الزيادة والنقص أمسكوا به فضربوه ثم رفعوا أمره إلى السلطان فحكم بقتله، فلما أراد قتله أشهر إسلامه وأخبرهم بقصته وأنه امتحن الأديان فعرف أن الإسلام دين حق. انظر تفسير القرطبي 10/6.(2/102)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حال الأشقياء من أهل الجحيم، أعقبهم بذكر حال السعداء من أهل النعيم، ثم ذكر قصص بعض الرسل مع أقوامهم «لوط، وشعيب، وصالح» تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليتأسى بهم في الصبر، ثم ذكر الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين، وختم السورة ببشارته عليه السلام بإهلاك أعدائه المستهزئين.
اللغَة: {نَصَبٌ} تعب وإعياء {وَجِلُونَ} خائفون فزعون {الغابرين} الباقين في العذاب {القانطين} القنوط: كمالُ اليأس {تَفْضَحُونِ} الفضيحةُ: أن يُظهر من أمره ما يلزمه به العارُ، يقال: فضحه الصبح إذا أظهره للناس قال الشاعر:
ولاح ضوءُ هلالٍ كاد يفضحنا ... مثلُ القلامةِ قد قُصَّت من الظُّفُر
{لَعَمْرُكَ} قسمٌ بحياة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي وحياتك {سَكْرَتِهِمْ} السكرة: الغواية والضلالة {يَعْمَهُونَ} يترددون تحيراً أو يعمون عن الرشد. والعَمه للقلب مثل العمى للبصر {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} التوسُّم من الوَسم وهي العلامة التي يستدل بها على المطلوب يقال: توسَّم فيه الخير إذا رأى فيه أثراً منه قال ابن رواحة في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
إني توسَّمتُ فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أني ثابتُ البصر
وأصله التثبتُ والتفكر مثل التفرس وفي الحديث «اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» {(2/103)
الأيكة} الشجرة الملتفَّة وجمعها أيْك {الحجر} اسم واد كانت تسكنه ثمود {عِضِينَ} أجزاءٌ متفرقة من التعضية وهي التجزئة والتفريق {اليقين} الموت لأنه أمر متيقن.
سَبَبُ النّزول: روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال: أتضحكون وبين أيديكم الجنةُ والنار؟ فشقَّ ذلك عليهم فنزلت {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} » .
التفسِير: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي إن الذين اتقوا الفواحش والشرك لهم في الآخرة البساتين الناضرة، والعيون المتفجرة بالماء والسلسبيل والخمر والعسل {ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ} أي يقال لهم: أُدخلوا الجنة سالمين من كل الآفات، آمنين من الموت ومن زوال هذا النعيم {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} أي أزلنا ما في قلوب أهل الجنة من الحقد والبغضاء والشحناء {إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} أي حال كونهم إخوةً متحابين لا يكدّر صفوهم شيء، على سررٍ متقابلين وجهاً لوجه قال مجاهد: لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض زيادةً في الانس والإِكرام، وقال ابن عباس: على سررٍ من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت والزبرجد {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} أي لا يصيبهم في الجنة إعياءٌ وتعب {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} أي لا يُخرجون منها ولا يُطردون، نعيمهم خالد، وبقاؤهم دائم، لأنها دار الصفاء والسرور {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} أي أخبر يا محمد عبادي المؤمنين بأني واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} أي وأخبرهم أنَّ عذابي شديد لمن أصرَّ على المعاصي والذنوب قال أبو حيان: وجاء قوله {وَأَنَّ عَذَابِي} في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة (وأني المعذّب المؤلم) وكل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} أي وأخبرهم عن قصة ضيوف إبراهيم، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإِهلاك قوم لوط، وكانوا عشرة على صورة غلمانٍ حسانٍ معهم جبريل {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً} أي حين دخلوا على إبراهيم فسلَّموا عليه {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي قال إبراهيم إنّا خائفون منكم، وذلك حين عرض عليهم الأكل فلم يأكلوا {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي قالت الملائكة لا تخف فإنا نبشرك بغلام واسع العلم، عظيم الذكاء، هو إسحاق {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} أي قال إبراهيم أبشرتموني بالولد على حالة الكبر والهرم، فبأي شيء تبشروني؟ قال ذلك على وجه التعجب والاستبعاد {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} أي بشرناك باليقين الثابت فلا تستبعدْه ولا تيأس من رحمة الله {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون} استفهام إنكاري أي لا يقنط من رحمة الله إلا المخطئون طريق المعرفة والصواب، الجاهلون برب الأرباب، أما القلب العامر بالإِيمان، المتصل بالرحمن، فلا ييأس ولا يقنط قال البيضاوي: وكان تعجب إبراهيم عليه السلام با.
. . العادة دون القدرة فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن(2/104)
يخلق بشراً من غير أبوين، فكيف من شيخ فانٍ وعجوزٍ عاقر؟ ولذلك أجابهم بذلك الجواب {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} أي قال إبراهيم ما شأنكم وما أمركم الذي جئتم من أجله أيها الملائكة الكرامُ؟ {قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} أي أرسلنا ربنا إلى قومٍ مشركين ضالين لإِهلاكهم يعنون قوم لوط {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} أي إلا أتباعَ لوط وأهلَه المؤمنين، فسننجيهم من ذلك العذاب أجمعين {إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} أي إلا امرأة لوط فقد قدَّر الله بقاءها في العذاب مع الكفرة الهالكين قال القرطبي: استثنى من آل لوطٍ امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك {فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون} أي فلما أتى رسلُ الله لوطاً عليه السلام {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي قال لهم إنكم قوم لا أعرفكم فماذا تريدون؟ {قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي قالوا له بل نحن رسل الله، جئناك بما كان فيه قومك يشكُّون فيه وهو نزول العذاب الذي وعدتهم به {وَآتَيْنَاكَ بالحق وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي أتيناك بالحق اليقين من عذابهم وإنا لصادقون فيما نقول {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اليل} أي سرْ بأهلك في طائفةٍ من الليل {واتبع أَدْبَارَهُمْ} أي كنْ من ورائهم وسرْ خلفهم لتطمئنَّ عليهم {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} أي لا يتلفتْ أحد منكم وراءه لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم فيرتاع {وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} أي سيروا حيث يأمركم الله عَزَّ وَجَلَّ قال ابن عباس: يعني الشام {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ} أي أوحينا إلى لوط ذلك الأمر العظيم أن أولئك المجرمين سيُستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحدٌ {مُّصْبِحِينَ} أي إذا دخل الصباح تمَّ هلاكهم واستئصالهم {وَجَآءَ أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ} أي جاء أهل مدينة سدوم - وهم قوم لوطٍ - مسرعين يستبشرون بأضيافه، طمعاً في ارتكاب الفاحشة بهم، ظناً منهم أنهم أناسٌ أمثالهم قال المفسرون: أُخبر أولئك السفهاء أن في بيت لوطٍ شباناً مرداً حساناً فأسرعوا فرحين يبشّر بعضهم بعضاً بأضياف لوط {قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ} أي هؤلاء ضيوفي فلا تقصدوهم بسوء فتُلحقوا بي العار وتفضحوني أمامهم {واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ} أي خافوا الله أن يحلَّ بكم عقابه، ولا تهينوني بالتعرض لهم بالمكروه {قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} أي قالوا ألم نمنعك عن ضيافة أحد؟ قال الرازي: المعنى ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحدٍ من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ {قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي هؤلاء النساء فتزوجوهنَّ ولا تركنوا إلى الحرام(2/105)
إن كنتم تريدون قضاء الشهوة قال المفسرون: المراد بقوله {بَنَاتِي} بناتُ أمته لأن كل نبيٍّ يعتبر أباً لقومه {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي وحياتك يا محمد إن قوم لوط لفي ضلالهم وجهلهم يتخبطون ويترددون، وهذه جملة اعتراضية جاءت ضمن قصة لوط قسماً بحياة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تكريماً له وتشريفاً قال ابن عباس: «ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرمَ على الله من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما سمعتُ اللهَ أقسم بحياة أحدٍ غيره» {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُشْرِقِينَ} أي أخذتهم صيحةُ العذاب المهلكة المدمرة وقت شروق الشمس {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أي قلبناها بهم فجعلنا أعالي المنازل أسافلها قال المفسرون: حمل جبريل عليه السلام قريتهم واقتعلها من جذورها، حتى رأوا الأفلاك وسمعوا تسبيح الأملاك ثم قلبها بهم {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} أي أنزلنا عليهم حجارة كالمطر من طين طبخ بنار جهنم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي فيما حلَّ بهم من الدمار والعذاب للدلالات وعلامات للمعتبرين، المتأملين بعين البصر والبصيرة {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} أي وإن هذه القرى المهلكة، وما ظهر فيها من آثار قهر الله وغضبه، لبطريقٍ ثابتٍ لم يندرس، يراها المجتازون في أسفارهم أفلا يعتبرون؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي لعبرةً للمصدّقين {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ} أي وإنه الحال والشأن كان قوم شعيب - وهم أصحاب الأيكة أي الشجر الكثير المتلف - لظالمين بتكذيبهم شعيباً، وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان {فانتقمنا مِنْهُمْ} أي أهلكناهم بالرجفة وعذاب يوم الظُلَّة قال المفسرون: اشتد الحر عليهم سبعة أيام حتى قربوا من الهلاك، فبعث الله عليهم سحابة كالظلة، فالتجئوا إليها واجتمعوا تحتها للتظلل بها، فبعث الله عليهم منها ناراً فأحرقتهم جميعاً {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} أي وإن قرى قوم لوط وشعيب لطريق واضح أفلا تعتبرون بهم يا أهل مكة؟ {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين} هذه هي القصة الرابعة وهي قصة صالح عليه السلام أي كذبت ثمود نبيَّهم صالحاً - والحجرُ وادٍ بين المدينة والشام وآثاره باقية يمرُّ عليها المسافرون - قال البيضاوي: ومن كذَّب واحداً من الرسل فكأنما كذب الجميع ولذا قال {المرسلين} {وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي وأريناهم معجزاتنا الدالة على قدرتنا مثل الناقة وما فيها من العجائب فكانوا لا يعتبرون بها ولا يتَّعظون قال ابن عباس: كان في الناقة آيات: خروجُها من الصخرة، ودنوُّ ولادتها عند خروجها، وعظمُ خَلْقها فلم تشبهها ناقة، وكثرةُ لبنها حتى كان يكفيهم جميعاً فلم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ} أي كانوا ينقبون الجبال فيبنون فيها بيوتاً آمنين يحسبون أنها تحميهم من عذاب الله {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ} أي أخذتهم صيحة الهلاك حين أصبحوا {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي ما دفع عنهم عذابَ الله ما كانوا يشيدونه من القلاع والحصون {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} أي وما خلقنا الخلائق كلَّها سماءها وأرضها وما بينهما إلا خلقاً ملتبساً بالحق، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء المكذبين لئلا يعم الفساد {وَإِنَّ(2/106)
الساعة لآتِيَةٌ فاصفح الصفح الجميل} أي وإن القيامة لآتيةٌ لا محالة فيُجازى المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته، فأعرضْ يا محمد عن هؤلاء السفهاء وعاملهم معاملة الحليم {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم} أي الخالق لكل شيء، العليمُ بأحوال العباد {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني} أي ولقد أعطيناك يا محمد سبع آيات هي الفاتحة لأنها تثنّى أي تكرر قراءتها في الصلاة وفي الحديث
«الحمدُ للهِ رب العالمين هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه» وقيل: هي السور السبع الطوال، والأول أرجح {والقرآن العظيم} أي وآتيناك القرآن العظيم الجامع لكمالات الكتب السماوية {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َmp;
1648 - ; مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} أي لا تنظر إلى ما متعنا به بعض هؤلاء الكفار، فإن الذي أعطيناك أعظم منها وأشرف وأكرم، وكفى بإِنزال القرآن عليك نعمة {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي لا تحزن لعدم إيمانهم {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي تواضعْ لمن آمن بك من المؤمنين وضعفائهم {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} أي قل لهم يا محمد أنا المنذر من عذاب الله، الواضح البيِّن في الإِنذار لمن عصى أمر الجبار {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} الكاف للتشبيه والمعنى أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه، فانقسموا إلى قسمين {الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} أي جعلوا القرآن أجزاءٌ متفرقة وقالوا فيه أقوالاً مختلفة قال ابن عباس: آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم له بقولهم سحر، وشعر، وأساطير، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب مثل فعل كفار مكة {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي فأقسمُ بربك يا محمد لنسألنَّ الخلائق أجميعن عما كانوا يعملون في الدنيا {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} أي فاجهر بتبليغ أمر ربك، ولا تلتفت إلى ما يقول المشركون {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين} أي كفيناك شرَّ أعدائك المستهزئين بإهلاكنا إياهم وكانوا خمسة من صناديد قريش {الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} أي الذين أشركوا مع الله غيره من الأوثان والأصنام {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيدٌ وتهديد أي سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدارين {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} أي يضيق صدرك بالاستهزاء والتكذيب {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين} أي فافزع فيما نالك من مكروه إلى التسبيح والصلاة والإِكثار من ذكر الله {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} أي اعبد ربك يا محمد حتى يأتيك الموت، سمي يقيناً لأنه متيقن الوقوع والنزول.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - الإِيجاز بالحذف في {ادخلوها بِسَلامٍ} أي يقال لهم أدخلوها.
2 - المقابلة اللطيفة في {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} مع الآية بعدها {وَأَنَّ عَذَابِي} فقد قابل بين العذاب والمغفرة وبين الرحمة الواسعة والعذاب الأليم، وهذا من المحسنات البديعية.
3 - الكناية في {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ} كنَّى به عن عذاب الاستئصال.
4 - المجاز في {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مجازاً(2/107)
وهو لله وحده وذلك لما لهم من القرب والاختصاص لأنهم رسل الله أُرسلوا بأمره تعالى.
5 - الجناس الناقص في {الصيحة مُصْبِحِينَ} وجناس الاشتقاق في {فاصفح الصفح} .
6 - صيغة المبالغة في {الغفور الرحيم} وفي {الخلاق العليم} .
7 - الطباق في {عَالِيَهَا سَافِلَهَا} .
8 - السجع بلا تكلف في مواطن عديدة مثل {آمِنِينَ، مُّصْبِحِينَ، مُعْرِضِينَ} .
9 - عطف العام على الخاص في {سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} .
10 - الاستعارة التبعية في {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} حيث شبّه إلانة الجانب بخفض الجناح بجامع العطف والرقة في كلٍ واستعير اسم المشبَّه به للمشبَّه، وهذا من بليغ الاستعارات لأن الطائر إذا كف عن الطيران خفض جناحيه.
تنبيه: الجمع بين هذه الآية {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وبين قوله {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [القصص: 78] وقوله {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39] أن القيامة مواطن، فموطنٌ يكون فيه سؤال وكلام، وموطنٌ لا يكون ذلك فيه، هذا قول عكرمة، وقال ابن عباس: لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام هل عملتم كذا وكذا، لأن الله عالم بكل شيء، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ فيقول لهم: لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه؟(2/108)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
اللغَة: {نُّطْفَةٍ} النطفة الماء المهين الذي يتكون منه الإِنسان، مِن نطَف إذا قطر {دِفْءٌ} الدفء: ما يستدفئ به الإِنسان من البرد {تُرِيحُونَ} الرَّواح: رجوع المواشي بالعشي من المرعى {تَسْرَحُونَ} السَّراح: الخروج بها صباحاً إلى المرعى {أَثْقَالَكُمْ} الأثقال: الأمتعة جمع ثقل سميت أثقالاً لأنها ثقيلة الحمل {جَآئِرٌ} مائل عن الحق {تُسِيمُونَ} أسام الماشية تركها ترعى، وسامت هي إذا رعت حيث شاءت فهي سائمة {ذَرَأَ} خلق وأبدع {مَوَاخِرَ} أصل المخْر شقُّ الماء عن يمين وشمال يقال: مخرت السفينةُ إِذا جرت تشق الماء مع صوت {تَمِيدَ} تضطرب.(2/110)
سَبَبُ النّزول: قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى {اقتربت الساعة} [القمر: 1] قال الكفار بعضهم لبعض: إنَّ محمداً يزعم أن القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر، فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد: ما نرى شيئاً مما تُخَوِّفنا به فأنزل الله تعالى {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ... } الآية.
التفسِير: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} أي قرب قيام الساعة فلا تستعجلوا العذاب الذي أوعدكم به محمد، وإنما أتى بصيغة الماضي لتحقق وقوع الأمر وقربه، قال الرازي: لما كان واجب الوقوع لا محالة عبّر عنه بالماضي كما يقال للمستغيث: جاءك الغوثُ فلا تجزع {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله عما يصفه به الظالمون، وتقدس عن إشراكهم به غيره من الأنداد والأوثان {يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ} أي يُنزّل الملائكة بالوحي والنبوة بإِرادته وأمره {على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي على الأنبياء والمرسلين، وسمَّى الوحي روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا بالأرواح الأبدان {أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون} أي بأن أنذروا أهل الكفر أنه لا معبود إلا الله فخافوا عذابي وانتقامي، ثم ذكر تعالى البراهين الدالة على وحدانيته وقدرته فقال {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} أي خلقهما بالحق الثابت، والحكمة الفائقة، لا عبثاً ولا جُزافاً {تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تمجَّد وتقدَّس عن الشريك والنظير {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} أي خلق هذا الجنس البشري من نطفةٍ مهينة ضعيفة هي المنيُّ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} أي فإِذا به بعد تكامله بشراً مخاصمٌ لخالقه، واضح الخصومة، يكابر ويعاند، وقد خُلق ليكون عبداً لا ضداً قال ابن الجوزي: لقد خُلق من نطفة وهو مع ذلك يخاصم وينكر البعث، أفلا يستدل بأوله على آخره، وبأن من قدر على إيجاده أولاً قادرٌ على إِعادته ثانياً؟ {والأنعام خَلَقَهَا} أي وخلق الأنعام لمصالحكم وهي الإِبل والبقر والغنم {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} أي لكم فيها ما تستدفئون به من البرد مما تلبسون وتفترشون من الأصواف والأوبار {وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي ولكم فيها منافع عديدة من النسل والدر وركوب الظهر، ومن لحومها تأكلون وهو من أعظم المنافع لكم {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} أي ولكم في هذه الأنعام والمواشي زينةٌ وجمالٌ حين رجوعها عشياً من المرعى، وحين غُدوّها صباحاً لترعى، جمال الاستمتاع بمنظرها صحيحةً سمينةً فارهة {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس} أي وتحمل أحمالكم الثقيلة وأمتعتكم التي تعجزون عن حملها إلى بلدٍ بعيد لم تكونوا لتصلوا إليه إلا بجهدٍ ومشقة {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} أي إنَّ ربكم أيها الناس الذي سخَّر لكم هذه الأنعام لعظيمُ الرأفة والرحمة بكم {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} أي وخلق الخيل والبغال والحمير للحمل والركوب وهي كذلك زينة وجمال {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي ويخلق في المستقبل ما لا تعلمونه الآن كوسائل النقل الحديث: القاطرات، والسيارات، والطائرات النفاثة وغيرها مما يجدُّ به الزمان وهو من تعليم الله(2/111)
للإِنسان {وعلى الله قَصْدُ السبيل} أي وعلى الله جل وعلا بيانُ الطريق المستقيم، الموصل لمن يسلكه إلى جنات النعيم {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} أي ومن هذه السبيل طريقٌ مائلٌ عن الحق منحرفٌ عنه، لا يوصل سالكه إلى الله وهو طريق الضلال، كاليهودية والنصرانية والمجوسية {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} أي لو شاء أن يهديكم إلى الإيمان لهداكم جميعاً ولكنه تعالى اقتضت حكمته أن يدع للإِنسان حرية الاختيار
{فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ليترتب عليه الثواب والعقاب، ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام، شرع في ذكر سائر النعم العظام وآياته المنبثة في الكائنات فقال {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً} أي أنزل المطر بقدرته القاهرة من السحاب {لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ} أي أنزله عذباً فراتاً لتشربوه فتسكن حرارة العطش {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} أي وأخرج لكم منه شجراً ترعون فيه أنعامكم {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب} أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها {وَمِن كُلِّ الثمرات} أي ومن كل الفواكه والثمار يخرج لكم أطايب الطعام {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إن في إنزال الماء وإخراج الثمار لدلالة واضحة على قدرة الله ووحدانيته لقومٍ يتدبرون في صنعه فيؤمنون قال أبو حيان: ختم الآية بقوله: {يَتَفَكَّرُونَ} لأن النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل، واستعمال فكر، ألا ترى أن الحبة الواحدة إذا وُضعت في الأرض ومرَّ عليها زمن معيَّن لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به فيُشق أعلاها فتصعد منه شجرة إلى الهواء، وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرةٌ أخرى وهي العروق، ثم ينمو الأعلى ويقوى وتخرج الأوراق والأزهار، والأكمام والثمار، المشتملة على أجسامٍ مختلفة الطبائع والألوان والأشكال والمنافع وذلك بتقدير قادرٍ مختار وهو الله تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار والشمس والقمر} أي ذلّل الليل والنهار يتعاقبان لمنامكم ومعاشكم، والشمس والقمر يدوران لمصالحكم ومنافعكم {والنجوم مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} أي والنجومُ تجري في فلكها بأمره تعالى لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إن في ذلك الخلق والتسخير لدلائل باهرة عظيمة، لأصحاب العقول السليمة {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} أي وما خلق لكم في الأرض من الأمور العجيبة، من الحيوانات والنباتات، والمعادن والجمادات، على اختلاف ألوانها وأشكالها، وخواصها ومنافعها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أي لعبرةً لقومٍ يتعظون {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر} أي وهو تعالى - بقدرته ورحمته - ذلّل لكم البحر المتلاطم الأمواج للركوب فيه والغوص في أعماقه {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} أي لتأكلوا من البحر السمك الطريَّ الذي تصطادونه {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} أي وتستخرجوا منه الجواهر النفيسة كاللؤلؤ والمرجان {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} أي وترى السفن(2/112)
العظيمة تشق عُباب البحر جاريةً فيه وهي تحمل الأمتعة والأقوات {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي سخر لكم البحر لتنتفعوا بما ذُكر ولتطلبوا من فضل الله ورزقه سبل معايشكم بالتجارة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكروا ربكم على عظيم إنعامه وجليل إفضاله {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} أي نصب فيها جبالاً ثوابت راسيات لئلا تضطرب بكم وتميل قال أبو السعود: إن الأرض كانت كرةً خفيفة قبل أن تُخلق فيها الجبال، وكان من حقها أن تتحرك كالأفلاك بأدنى سبب فلما خُلقت الجبال توجهت بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد لها {وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي وجعل فيها أنهاراً وطرقاً ومسالك لكي تهتدوا إلى مقاصدكم {وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} أي وعلامات يستدلون بها على الطرق كالجبال والأنهار، وبالنجوم يهتدون ليلاً في البراري والبحار قال ابن عباس: العلامات معالمُ الطرق بالنهار وبالنجم هم يهتدون بالليل {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} الاستفهام إنكاري أي أتسوّون بين الخالق لتلك الأشياء العظيمة والنعم الجليلة، وبين من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره؟ أتشركون هذا الصنم الحقير مع الخالق الجليل؟ وهو تبكيت للكفرة وإِبطالٌ لعبادتهم الأصنام {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تتذكرون فتعرفون خطأ ما أنتم فيه من عبادة غير الله؟ وهو توبيخٌ آخر {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} أي إن تعدوا نعم الله الفائضة عليكم لا تضبطوا عددها فضلاً عن أن تطيقوا شكرها {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي غفور لما صدر منكم من تقصير رحيم بالعباد حيث ينعم عليهم مع تقصيرهم وعصيانهم {والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي يعلم ما تخفونه وما تظهرونه من النوايا والأعمال وسيجازيكم عليها {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي والذين يعبدونهم من دون الله كالأوثان والأصنام لا يقدرون على خلق كل شيء أصلاً والحال أنهم مخلوقون صنعهم البشر بأيديهم، فكيف يكونون آلهة تعبد من دون الله؟ {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ} أي وتلك الأصنام أمواتٌ لا أرواح فيها، لا تسمع ولا تبصر لأنها جمادات لا حياة فيها، فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها لما فيكم من الحياة؟ {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي ما تشعر هذه الأصنام متى يبعث عابدوها، وفيه تهكم بالمشركين لأنهم عبدوا جماداً لا يحس ولا يشعر {إلهكم إله وَاحِدٌ} أي إلهكم المستحق للعبادة إله واحدٌ لا شريك له {فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} أي فالذين لا يصدّقون بالبعث والجزاء قلوبهم تنكر وحدانية الله عَزَّ وَجَلَّ {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} أي متكبرون متعظمون عن قبول الحق بعدما سطعت دلائله {لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي حقاً إن الله تعالى لا تخفى عليه خافية من أحوالهم يعلم ما يخفون وما يظهرون {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} أي المتكبرين عن التوحيد والإِيمان {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} أي وإِذا سئل هؤلاء الجاحدون أيَّ شيء أنزل ربكم على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ {قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} أي قالوا على سبيل الاستهزاء: ما أنزله ليس إلا خرافات وأباطيل الأمم السابقين ليس بكلام رب العالمين قال المفسرون: كان المشركون يجلسون على مداخل مكة يُنفّرون عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا(2/113)
سألهم وفود الحاج ماذا أُنزل على محمد؟ قالوا أباطيل وأحاديث الأولين {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة} أي قالوا ذلك البهتان ليحملوا ذنوبهم كاملةً من غير أن يُكفَّر منها شيء {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي وليحملوا ذنوب الأتباع الذين أضلوهم بغير دليلٍ أو برهان، فقد كانوا رؤساء يُقتدى بهم في الضلالة ولذلك حملوا أوزارهم وأوزار من أضلوهم {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} ألاَ للتنبيه أي فانتبهوا أيها القوم بئس الحمل الذي حملوه على ظهورهم، والمقصودُ المبالغة في الزجر {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ} أي مكر المجرمون بأنبيائهم وأرادوا إطفاء نور الله من قبل كفار مكة، وهذا تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} أي قلع بنيانهم من قواعده وأسسه، وهذا تمثيلٌ لإِفساد ما أبرموه من المكر بالرسل {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} أي فسقط عليهم سقف بنيانهم فتهدّم البناء وماتوا {وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي جاءهم الهلاك والدمار من حيث لا يخطر على بالهم، والآية مشهد كاملٌ للدمار والهلاك، وللسخرية من مكر الماكرين، وتدبير المدبرين، الذين يقفون لدعوة الله ويحسبون مكرهم لا يُردّ، وتدبيرهم لا يخيب، والله من ورائهم محيط {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ} أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم ويهينهم {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ Oلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي يقول تعالى لهم على سبيل التقريع والتوبيخ: أين هؤلاء الشركاء الذين كنتم تخاصمون وتعادون من أجلهم الأنبياء؟ أحضروهم ليشفعوا لكم، والأسلوب استهزاءٌ وتهكم {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين} أي يقول الدعاة والعلماء شماتةً بأولئك الأشقياء إن الذلَّ والهوان والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي تقبض الملائكة أرواحهم الخبيثة حال كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والإِشراك بالله {فَأَلْقَوُاْ السلم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} أي استسلموا وانقادوا عند الموت على خلاف عادتهم في الدنيا من العناد والمكابرة، وقالوا ما أشركنا ولا عصينا كما يقولون يوم المعاد
{والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] {بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يكذبهم الله ويقول: بلى قد كذبتم وعصيتم وكنتم مجرمين {فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي أدخلوا جهنم ماكثين فيها أبداً {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} أي بئست جهنم مقراً ومقاماً للمتكبرين عن طاعة الله.
البَلاَغة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - الالتفات في {فاتقون} فهو خطاب للمستعجلين بطريق الالتفات.
2 - أسلوب الإِطناب في {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ} تأكيداً لسفاهة من عبد الأصنام ومثله {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} .
3 - الطباق بين {يُسِرُّونَ وَيُعْلِنُونَ} وبين {تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ} .
4 - صيغة المبالغة في {خَصِيمٌ مُّبِينٌ} وفي {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
5 - طباق السلب في {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} .
6 -(2/114)
الجناس الناقص في {لاَ يَخْلُقُونَ ... وَهُمْ يُخْلَقُونَ} .
7 - الاستعارة التمثيلية في {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ ... فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} شبهت حال أولئك الماكرين بحال قومٍ بنوا بنياناً شديد الدعائم فانهدم ذلك البنيان وسقط عليهم فأهلكهم بطريق الاستعارة التمثيلية، ووجه الشبه أن ما عدوه سبباً لبقائهم، عاد سبباً لفنائهم كقولهم «من حفر حفرة لأخيه سقط فيها» .
فَائِدَة: قال القرطبي: تسمى سورة النحل سورة النِّعم لكثرة ما عدَّد الله فيها من نعمه على عباده.(2/115)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
المنَاسَبَة: لما أخبر تعالى عن حال الأشقياء الذين كفروا نعمة الله، وطعنوا في القرآن فزعموا أنه أساطير الأولين، وبيَّن ما يكونون عليه في الآخرة من الفضيحة والذل والهوان، ذكر هنا ما أعده للمتقين من وجوه التكريم في دار النعيم، ليظهر الفارق بين حال أهل السعادة وحال أهل الشقاوة، وبين الأبرار والفجار على طريقة القرأن في المقارنة بين الفريقين.
اللغَة: {الزبر} الكتب السماوية جمع زبُور من زبرت الكتاب إذا كتبته {يَخْسِفَ} خسَف المكانُ خسوفاً إذا ذهب وغاب في الأرض {يَتَفَيَّؤُاْ} يميل من جانب إلى جانب ومنه قيل للظل فيءٌ لأنه يفيء أي يرجع من جهة إلى أخرى {دَاخِرُونَ} صاغرون ذليلون، والدخور الصغار والذل قال ذو الرمَّة:
فلم يبْقَ إِلا داخِرٌ في مُخَيَّس ... ومنجَحِرٌ في غيرِ أرضكَ في جُحْر
التفسِير: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا} أي قيل للفريق الثاني وهم أهل التقوى والإِيمان {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} أي ماذا أنزل ربكم على رسوله؟ قالوا أنزل خيراً قال المفسرون: هذا كان في أيام الموسم يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب، فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وعن ما أنزل الله عليه فيقولون: أنزل الله عليه الخير والهدى والقرآن، قال تعالى بياناً لجزائهم الكريم {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} أي لهؤلاء المحسنين مكافأة في الدنيا بإِحسانهم {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} أي وما ينالونه في الآخرة من ثواب الجنة خيرٌ وأعظم من دار الدنيا لفنائها وبقاء الآخرة {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} أي ولنعم دار المتقين دار الآخرة وهي {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي جناتُ إِقامة {يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي يدخلون تلك الجنان التي تجري من بين أشجارها وقصورها الأنهار {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ} أي لهم في تلك الجنات ما يشتهون بدون كدٍّ ولا تعب، ولا انقطاعٍ ولا نَصب {كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين} أي مثل هذا الجزاء الكريم يجزي الله عباده المتقين لمحارمه، المتمسكين بأوامره {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ} أي هم الذين تقبض الملائكةُ أرواحهم حال كونهم أبراراً، قد تطهروا من دنس الشرك والمعاصي، طيبةً نفوسهم بلقاء الله {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} أي تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة قال ابن عباس: الملائكة يأتونهم بالسلام من قِبل الله، ويخبرونهم أنهم من أصحاب اليمين {ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي هنيئاً لكم الجنة بما قدمتم في الدنيا من صالح الأعمال {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} عاد الكلام إلى تقريع المشركين وتوبيخهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا والمعنى ما ينتظر هؤلاء إِلا أحد أمرين: إِما نزول الموت بهم، أو حلول العذاب(2/116)
العاجل، أو ليس في مصير المكذبين قبلهم عبرةٌ وغناء؟ {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي كذلك صنع من قبلهم من المجرمين حتى حلَّ بهم العذاب {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم ولكنْ ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي أصابهم عقوبات كفرهم وجزاء أعمالهم الخبيثة {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي أحاط ونزل بهم جزاء استهزائهم وهو العذاب الأليم في دركات الجحيم {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ} أي قال أهل الكفر والإشراك وهم كفار قريش {لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} أي لو شاء الله ما عبدنا الأصنام لا نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا ما حرمنا من البحائر والسوائب وغيرها، قالوا هذا على سبيل الاستهزاء لا على سبيل الاعتقاد، وغرضُهم أن إِشراكهم وتحريمهم لبعض الذبائح والأطعمة واقع بمشيئة الله، فهو راضٍ به وهو حقٌّ وصواب {كذلك فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي مثل هذا التكذيب والاستهزاء فعل من قبلهم من المجرمين، واحتجوا مثل احتجاجهم الباطل، وتناسوا كسبهم لكفرهم ومعاصيهم، وأن كل ذلك كان بمحض اختيارهم بعد أن أنذرتهم رسلهم عذاب النار وغضب الجبار {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين} أي ليس على الرسل إلا التبليغ، وأمَّا أمر الهداية والإِيمان فهو إِلى الله جلَّ وعلا {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} أي أرسلنا الرسل إِلى جميع الخلق بأن اعبدوا الله ووحّدوه، واتركوا كل معبود دون الله كالشيطان والكاهن والصنم، وكل من دعا إلى الضلال {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله} أي فمنهم من أرشده الله إِلى عبادته ودينه فآمن {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} أي ومنهم من وجبت له الشقاوة والضلالة فكفر، أعْلمَ تعالى أنه أرسل الرسل لتبليغ الناس دعوة الله فمنهم من استجاب فهداه الله، ومنهم من كفر فأضلَّه الله {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} أي سيروا يا معشر قريش في أكناف الأرض ثم انظروا ماذا حلَّ بالأمم المكذبين لعلكم تعتبرون! {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} الخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي إن تحرص يا محمد على هداية هؤلاء الكفار فاعلم أنه تعالى لا يخلق الهداية جبراً وقسراً فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره {مَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} أي ليس لهم من ينقذهم من عذابه تعالى {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} أي خلف المشركون جاهدين في أيمانهم مبالغين في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت، استبعدوا البعث ورأوه أمراً عسيراً بعد البِلى وتفرقَ الأشلاء والذرات، قال تعالى رداً عليهم {بلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} أي بلى ليبعثنَّهم، وعد بذلك وعداً قاطعاً لا(2/117)
بدَّ منه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون قدرة الله فينكرون البعث والنشور {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي سيبعثهم ليكشف ضلالهم في إنكارهم البعث، وليظهر لهم الحق فيما اختلفوا فيه، وليحقق العدل وهو التمييز بين المطيع والعاصي، وبين المحق والمبطل، وبين الظالم والمظلوم {وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} أي وليعلم الجاحدون للبعث، والمكذبون لوعد الله الحق أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي لا يحتاج الأمر إلى كبير جهد وعناء فإنا نقول للشيء كنْ فيكون قال المفسرون: هذا تقريبٌ للأذهان، والحقيقةُ أنه تعالى لو أراد شيئاً لكان بغير احتياج إِلى لفظ {كُنْ} {والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي تركوا الأوطان والأهل والقرابة في شأن الله وابتغاء رضوانه من بعد ما عُذِّبُوا في الله قال القرطبي: هم صهيب وبلال وخبّاب وعمّار، عذّبهم أهل مكة حتى قالوا لهم ما أرادوا، فلما خلّوهم هاجروا إلى المدينة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً} أي لنسكننهم داراً حسنة خيراً مما فقدوا قال ابن عباس: بوأهم الله المدينة فجعلها لهم دار هجرة {وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي ثواب الآخر أعظم وأشرف وأكبر لو كان الناس يعلمون {الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي هم الذين صبروا على الشدائد والمكاره، فهجروا الأوطان، وفارقوا الإخوان، واعتمدوا على الله وحده يبتغون أجره ومثوبته {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} أي وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى الأمم الماضية إِلا بشراً نوحي إِليهم كما أوحينا إِليك قال المفسرون: أنكر مشركو قريش نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فهلاَّ بعث إِلينا ملكاً فنزلت {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} أي اسألوا يا معشر قريش العلماء بالتوارة والإِنجيل يخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً إن كنتم لا تعلمون ذلك {بالبينات والزبر} أي أرسلناهم بالحجج والبراهين الساطعة الدالة على صدقهم وبالزُبر أي الكتب المقدسة {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} أي القرآن المذكّر الموقظ للقلوب الغافلة {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أي لتعرّف الناس الأحكام، والحلال والحرام {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي ولعلهم يتفكرون في هذا القرآن فيتعظون {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} أي هل أمن هؤلاء الكفار الذين مكروا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واحتالوا لقتله في دار الندوة، هل أمنوا أن يخسف الله بهم الأرض كما فعل بقارون؟ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي يأتيهم العذاب بغتةً في حال آمنهم واستقرارهم، من حيث لا يخطر ببالهم ومن جهةٍ لا يعلمون بها {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} أي يهلكهم في أثناء أسفارهم للتجارة واشتغالهم بالبيع والشراء فإِنهم على أي حال لا يعجزون الله {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} أي يهلكهم الله حال كونهم خائفين مترقبين لنزول العذاب قال ابن كثير: فإِنه يكون أبلغ وأشد فإِن حصول ما يتوقع مع الخوف شديدٌ {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} أي أولم يعتبر هؤلاء الكافرون ويروا آثار(2/118)
قدرة الله وأنه ما من شيء من الجبال والأشجار والأحجار ومن سائر ما خلق الله {يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّداً لِلَّهِ} أي تميل ظلالها من جانب إِلى جانب ساجدة للهِ سجود خضوعٍ لمشيئته تعالى وانقياد، لا تخرج عن إِرادته ومشيئته {وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي خاضعون صاغرون فكل هذه الأشياء منقادة لقدرة الله وتدبيره فكيف يتعالى ويتكبر على طاعته أولئك الكافرون؟ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أي له تعالى وحده يخضع وينقاد جميع المخلوقات بما فيهم الملائكة فهم لا يستكبرون عن عبادته {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي يخافون جلال الله وعظمته، ويمتثلون أوامره على الدوام.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - الإِيجاز بالحذف {قَالُواْ خَيْراً} أي قالوا أنزل خيراً.
2 - الإِطناب في قوله {مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ... وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} .
3 - الطباق في {هَدَى الله ... وحَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} وفي {لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} وفي {اليمين والشمآئل} .
4 - صيغة المبالغة في {لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} لأن فعول وفعيل من صيغ المبالغة.
5 - ذكر الخاص بعد العام في {يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ... والملائكة} زيادةً في التعظيم والتكريم للملائكة الأطهار.
6 - السجع في {يَتَفَكَّرُونَ، دَاخِرُونَ، يَشْعُرُونَ} .
فَائدَة: استنبط بعض العلماء من قوله تعالى {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} أن النبوة لا تكون إِلا في الرجال، وأما النساء فليس فيهن نبيَّة، وهو استنباط دقيق.
تنبيه: قال ابن تيمية في منهاج السنة: «والاحتجاج بالقدر حجةٌ باطلة داحضة، باتفاق كل ذي عقلٍ ودين من جميع العالمين، ولهذا لما قال المشركون {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] ردَّ الله عليهم بقوله {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] والمشركون يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة باطلة، فإِنَّ أحدهم لو ظلم الآخر، أو أراد قتل ولده، أو الزنى بزوجته، أو كان مصراً على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال: لو شاء الله لم أفعل هذا، لم يقبلوا منه هذه الحجة ولا يقبلها هو من غيره، وإنما يحتج بها المحتج دفعاً للّوم عن نفسه بلا وجه ... » .(2/119)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى أن كل ما في الكون منقادٌ لأمر الله، خاضعٌ لسلطانه، أمر هنا بإفراده بالعبادة لأنه الخالق الرازق، ثم ضرب الأمثال في ضلالات أهل الجاهلية، وذكَّر الناس بنعمه الجليلة ليعبدوه ويشكروه.
اللغَة: {وَاصِباً} دائماً ولازماً قال الجوهري: وصبَ الشيء وصوباً أي دام ومنه {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] أي دائم وقال الشاعر:
«وهزيمٌ ردعه واصب» ... {تَجْأَرُونَ} الجؤار: رفع الصوت بالدعاء والتضرع يقال: جأر أي صاح قال الأعشى يصف بقرة:(2/120)
فطافت ثلاثاً بينَ يومٍ وليلةٍ ... وكانَ النكيرُ أن تُطيف وتجْأَرا
{كَظِيمٌ} ممتلئ غماً وغيظاً، والكظم أن يطبق الفم فلا يتكلم من الغيظ {يتوارى} يختفي {هُونٍ} هَوانٍ وذُل {فَرْثٍ} الفرْثُ: الزبل الذي ينزل إِلى الكَرش أو المِعَى {سَآئِغاً} لذيذاً هيناً لا يعصُّ به من شربه {ذُلُلاً} جمع ذلول وهو المنقاد المسخَّر بلا عناء {حَفَدَةً} الحفدة: قال الأزهري أولاد الأولاد، والحفدة: الخدم والأعوان.
التفسِير: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} أي لا تعبدوا إِلهين فإِن الإِله الحق لا يتعدد {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي إِلهكم واحد أحد فردٌ صمد {فَإيَّايَ فارهبون} أي خافون دون سواي {وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض} أي ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَلَهُ الدين وَاصِباً} أي له الطاعة والانقياد واجباً ثابتاً فهو الإِله الحق، وله الطاعة خالصة {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} الهمزة للإِنكار والتوبيخ أي كيف تتقون وتخافون غيره، ولا نفع ولا ضر إِلا بيده؟ {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} أي ما تفضَّل عليكم أيها الناس من رزقٍ ونعمةٍ وعافيةٍ ونصر فمن فضلِ الله وإِحسانه {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} أي ثم إِذا أصابكم الضُّرُ من فقرٍ ومرضٍ وبأساء فإِليه وحده ترفعون أصواتكم بالدعاء، والغرض أنكم تلجأون إِليه وحده ساعة العسرة والضيق، ولا تتوجهون إِلا إِليه دون الشركاء {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي إِذا رفع عنكم البلاء رجع فريق منكم إِلى الإِشراك بالله قال القرطبي: ومعنى الكلام التعجيبُ من الإِشراك بعد النجاة من الهلاك {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} أي ليجحدوا نعمته تعالى من كشف الضر والبلاء {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي تمتعوا بدار الفناء فسوف تعلمون عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب، وهو أمرٌ للتهديد والوعيد {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} أي يجعلون للأصنام التي لا يعلمون ربوبيتها ببرهان ولا بحجة نصيباً من الزرع والأنعام تقرباً إليها {تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} أي والله أيها المشركون لتُسألنَّ عما كنتم تختلقونه من الكذب على الله، والمراد سؤال توبيخٍ وتقريع {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} أي ومن جهل هؤلاء المشركين وسفاهتهم أن جعلوا الملائكة بنات الله، فنسبوا إلى الله البنات وجعلوا لهم البنين {سُبْحَانَهُ} أي تنزَّه الله وتعظَّم عن هذا الإِفك والبهتان {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} أي ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين مع كراهتهم أنهم يأنفون من البنات {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى} أي إِذا أُخبر أحدهم بولادة بنت {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} أي صار وجهه متغيراً من الغم والحزن قال القرطبي: وهو كناية عن الغم والحزن وليس يريد السواد، والعربُ تقول لكل من لقي مكروهاً قد اسودَّ وجهه {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي مملوءٌ غيظاً وغماً {يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ} أي يختفي من قومه خوفاً من العار الذي يلحقه بسبب البنت، كأنها بليَّة وليست هبةً إِلهية، ثم يفكر فيما يصنع {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب} أي أيمسك هذه الأنثى على ذلٍ وهوان أم يدفنها في التراب حية؟ {أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء صنيعهم وساء حكمهم، حيث نسبوا لخالقهم البنات - وهي عندهم بتلك الدرجة من الذل(2/121)
والحقارة - وأضافوا البنين إليهم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء} أي لهؤلاء الذين لم يصدقوا بالآخرة ونسبوا للهِ البنات سفهاً وجهلاً، صفةُ السوء القبيحة التي هي كالمثل في القبح، فالنقصُ إنما ينسب إِليهم لا إِلى الله {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} أي له جل وعلا الوصف العالي الشأن، والكمال المطلق، والتنزه عن صفات المخلوقين {وَهُوَ العزيز الحكيم} أي العزيزُ في ملكه، الحكيمُ في تدبيره ثم أخبر تعالى عن حلمه بالعباد مع ظلمهم فقال {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} أي لو يؤاخذهم بكفرهم ومعاصيهم ويعاجلهم بالعقوبة {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} أي ما ترك على الأرض أحداً يدبُّ على ظهرها من إنسانٍ وحيوان {ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} أي ولكنْ يؤخرهم إلى وقتٍ معيَّن تقتضيه الحكمة {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي فإذا جاء الوقت المحدَّد لهلاكهم لا يتأخرون برهةً يسيرةً من الزمن ولا يتقدمون عليها كقوله
{وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} [الكهف: 59] {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أي يجعلون له تعالى البنات مع كراهتهم لهنَّ، وهو تأكيد لما سبق للتقريع والتوبيخ {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى} أي يجعلون لله ما يجعلون ومع ذلك يزعمون أنَّ لهم العاقبة الحسنى عند الله وأنهم أهل الجنة {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} أي حقاً إِنَّ لهم مكان ما أملّوا نار جهنم التي ليس وراء عذابها عذاب {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} أي معجَّلون إِليها ومُقدَّمون، ثم ذكر تعالى نعمته في إِرسال الرسل ليتأسى صلوات الله عليه بهم في الصبر على تحمل الأذى فقال {تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي والله لقد بعثنا قبلك يا محمد رسلاً إلى أقوامهم فحسَّن الشيطان أعمالهم القبيحة حتى كذبوا الرسل وردّوا عليهم ما جاءوهم به من البينات {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} أي فالشيطان ناصرهم اليوم في الدنيا وبئس الناصر {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ولهم في الآخرة عذاب مؤلم {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ} أي ما أنزلنا عليك القرآن يا محمد إلا لتبيِّن للناس ما اختلفوا فيه من الدين والأحكام لتقوم الحجة عليهم {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي وأنزلنا القرآن هدايةً للقلوب، ورحمة وشفاءً لمن آمن به، ثم ذكر تعالى عظيم قدرته الدالة على وحدانيته فقال {والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ} أي أنزل بقدرته الماء من السحاب فأحيا بذلك الماء النبات والزرع بعد جدب الأرض ويُبسها {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي إِن في هذا الإِحياء لدلالةً باهرة على عظيم قدرته لقوم يسمعون التذكير فيتدبرونه ويعقلونه {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} أي وإنَّ لكم أيها الناس في هذه الأنعام «الإِبل والبقر والضأن والمعز» لعظةً وعبرة يعتبر بها العقلاء، ففي خلقها وتسخيرها دلالة على قدرة الله وعظمته ووحدانيته {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} أي نسقيكم من بعض الذي في بطون هذه الأنعام {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً} أي من بين الروث والدم ذلك الحليب الخالص واللبن النافع {(2/122)
سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} أي سهل المرور في حلقهم، لذيذاً هيناً لا يغصُّ به من شربه {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} أي ولكم مما أنعم الله به عليكم من ثمرات النخيل والأعناب {وَرِزْقاً حَسَناً} كالتمر والزبيب قال ابن عباس: الرزق الحسن: ما أُحلَّ من ثمرتها، والسَّكر: ما حُرِّم من ثمرتها.
{إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لآيةً باهرة، ودلالة قاهرة على وحدانيته سبحانه لقومٍ يتدبرون بعقولهم قال ابن كثير: وناسب ذكرُ العقل هنا لأنه أشرفُ ما في الإِنسان، ولهذا حرَّم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانةً لعقولها، ولما ذكر تعالى ما يدل على باهر قدرته، وعظيم حكمته من إِخراج اللبن من بين فرثٍ ودمٍ وإِخراج الرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، ذكر إِخراج العسل الذي جعله شفاءً للناس من النحل، وهي حشرةٌ ضعيفة وفيها عجائب بديعة وأمور غريبة، وكل هذا يدل على وحدانية الصانع وقدرته وعظمته فقال تعالى {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} المراد من الوحي: الإِلهامُ والهدايةُ أي ألهمها مصالحها وأرشدها إلى بناء بيوتها المسدَّسة العجيبة تأوي إليها في ثلاثة أمكنة: الجبال، والشجر، والأكوار التي يبنيها الناس {ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات} أي كلي من كل الأزهار والثمار التي تشتهينها من الحلو، والمر، والحامض، فإن الله بقدرته يحيلها إلى عسلٍ {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} أي أدخلي الطرق في طلب المرعى حال كونها مسخرةً لك لا تضلين في الذهاب أو الإياب {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} أي يخرج من بطون النحل عسلٌ متنوعٌ منه أحمر، وأبيض، وأصفر، فيه شفاءٌ للناس من كثيرٍ من الأمراض قال الرازي فإن قالوا: كيف يكون شفاءٌ للناس وهو يضر بالصفراء؟ فالجواب أنه تعالى لم يقل: إنه شفاءٌ لكل الناس، ولكل داء، وفي كل حال، بل لّما كان شفاء للبعض ومن بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنَّ فيه شفاء {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي لعبرة لقومٍ يتفكرون في عظيم قدرة الله، وبديع صنعه {والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} أي خلقكم بقدرته بعد أن لم تكونوا شيئاً ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} أي يُردُّ إلى أردء وأضعف العمر وهو الهَرم والخرف {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} أي لينسى ما يعلم فيشبه الطفل في نقصان القوة والعقل {إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ} أي عليمٌ بتدبير خلقه، قديرٌ على ما يريده، فكما قدر على نقل الإِنسان من العلم إلى الجهل، فإِنه قادر على إحيائه بعد إماتته قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يُردَّ إلى أرذل العمر {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} أي فاوت بينكم في الأرزاق فهذا غنيٌّ وذاك فقير، وهذا مالكٌ وذاك مملوك {فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} أي ليس هؤلاء الأغنياء بمشركين لعبيدهم المماليك فيما رزقهم الله من الأموال حتى يستووا في ذلك مع عبيدهم، وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى للمشركين قال ابن عباس: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟ {أَفَبِنِعْمَةِ الله(2/123)
يَجْحَدُونَ} الاستفهام للإِنكار أي أيشركون معه غيره وهو المنعم المتفضل عليهم؟ {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} أي هو تعالى بقدرته خلق النساء من جنسكم وشكلكم ليحصل الائتلاف والمودة والرحمة بينكم {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} أي جعل لكم من هؤلاء الزوجات الأولاد وأولاد الأولاد، سمّوا حفدة لأنهم يخدمون أجدادهم ويسارعون في طاعتهم {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات} أي رزقكم من أنواع اللذائذ من الثمار والحبوب والحيوان {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ} أي أبعد تحقق ما ذُكر من نعم الله يؤمنون بالأوثان ويكفرون بالرحمن؟ وهو استفهام للتوبيخ والتقريع {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً} أي ويعبد هؤلاء المشركون أوثاناً لا تقدر على إِنزال مطر، ولا على إِخراج زرعٍ أو شجر، ولا تقدر أن ترزقهم قليلاً أو كثيراً {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} أي ليس لها ذلك ولا تقدر عليه لو أرادت {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي يعلم كل الحقائق، وأنتم لا تعلمون قدر عظمة الخالق.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من صنوف البيان والبديع ما يلي:
1 - الالتفات من التكلم إلى الغيبة إلى المتكلم {فَإيَّايَ فارهبون} لتربية المهابة والرهبة في القلوب مع إفادة القصر أي لا تخافوا غيري.
2 - الطباق في {يَسْتَقْدِمُونَ ... يَسْتَأْخِرُونَ} وفي {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ} وفي {يُؤْمِنُونَ ... ويَكْفُرُونَ} .
3 - الجناس الناقص بين {كُلِي مِن كُلِّ} .
4 - الاعتراض {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات - سبحانه - وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} فلفظة (سبحانه) معترضة لتعجيب الخلق من هذا الجهل القبيح.
5 - صيغة المبالغة في {العزيز الحكيم} و {عَلِيمٌ قَدِيرٌ} .
6 - السجع {يَعْقِلُونَ، يَعْرِشُونَ، يَجْحَدُونَ، يَكْفُرُونَ} .
7 - التهديد والوعيد {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
8 - قوله تعالى {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} قال الشهاب: هذا من بليغ الكلام وبديعه أي ألسنتهم كاذبة كقولهم {عينُها تصفُ السحر} أي ساحرة، وقدُّها يصف الهيف أي هيفاء.(2/124)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى سفاهة المشركين في عبادتهم لغير الله، أعقبه بذكر مثلين توضيحاً لبطلان عبادة الأوثان التي لا تضر ولا تنفع، ولا تستجيب ولا تسمع، ثم ذكَّر الناس ببعض النِّعم التي أفاضها عليهم ليعبدوه ويشكروه، ويُخلصوا له العمل طائعين منيبين.
اللغَة: {أَبْكَمُ} الأبكم: الأخرس الذي لا ينطق {كَلٌّ} الكَلُّ: الثقيل الذي هو عيال على الغير وقد يسمى اليتيم كلاً لثقله على من يكفله قال الشاعر:
أكولٌ لمالِ الكلِّ قبلَ شبابه ... إذا كانَ عظْمُ الكلِّ غيرَ شديد
{لَمْحِ} اللَّمْح: النظر بسرعة مثل الخطفة يقال لَمحه لمحاً ولمحاناً {ظَعْنِكُمْ} الظِّعْنُ: السفر والرحيل لطلب الكلأ، والظعينةُ المرأة المسافرة {أَوْبَارِهَا} الوبر للإِبل كالصوف للغنم {ظِلاَلاً} الظلالُ: كل ما يستظلُّ به من البيوت والشجر {أَكْنَاناً} جمع كنّ مثل حمِل وأحمال وهو كل ما يحفظ ويقي من الريح والمطر وغيرهما {سَرَابِيلَ} جمع سربال قال الزجاج: كلُّ ما لبسته من(2/125)
قميصٍ أو درعٍ فهو سربال.
التفسِير: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام التي أشركوها مع الله جل وعلا أي مثلُ هؤلاء في إشراكهم مثلُ من سوَّى بين عبدٍ مملوكٍ عاجزٍ عن التصرف، وبين حرٍّ مالك يتصرف في أمره كيف يشاء، مع أنهما سيّان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى، فما الظنُّ بربِّ العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات؟ {فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً} أي ينفق ماله في الخفاء والعلانية ابتغاء وجه الله {هَلْ يَسْتَوُونَ} ؟ أي هل يستوي العبيد والأحرار الذين ضُرب لهم المثل، فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والله تعالى له المُلك، وبيده الرزق، وهو المتصرف في الكون كيف يشاء، فيكف يُسوَّى بينه وبين الأصنام؟ {الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي شكراً للهِ على بيان هذا المثال ووضوح الحق فقد ظهرت الحجة مثل الشمس الساطعة، ولكنَّ المشركين بسفههم وجهلهم يسوّون بين الخالق والمخلوق، والمالِ والمملوك {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} هذا هو المثل الثاني للتفريق بين الإِله الحق والأصنام الباطلة قال مجاهد: هذا مثلٌ مضروبٌ للوثن والحقّ تعالى، فالوثنُ أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير، ولا يقدر على شيء بالكلية لأنه إما حجرٌ أو شجر، {وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} أي ثقيل عالة على وليِّه أو سيده {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي حيثما أرسله سيده لم ينجح في مسعاه لأنه أخرس، بليد، ضعيف {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي هل يتساوى هذا الأخرس، وذلك الرجل البليغ المتكلم بأفصح بيان، وهو على طريق الحق والاستقامة، مستنيرٌ بنور القرآن؟ وإِذا كان العاقل لا يسوّي بين هذين الرجلين، فكيف تمكن التسوية بين صنم أو حجر، وبين الله سبحانه وهو القادر العليم، الهادي إلى الصراط المستقيم؟ {وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} أي هو سبحانه المختص بعلم الغيب، يعلم ما غاب عن الأبصار في السماوات والأرض {وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} أي ما شأن الساعة في سرعة المجيء إلا كنظرة سريعة بطرف العين، بل هو أقرب لأنه تعالى يقول للشيء: كن فيكون، وهذا تمثيل لسرعة مجيئها ولذلك قال {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي قادرٌ على كل الأشياء ومن جملتها القيامة التي يكذب بها الكافرون {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} أي أخرجكم من أرحام الأمهات لا تعرفون شيئاً أصلاً {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي خلق لكم الحواس التي بها تسمعون وتبصرون(2/126)
وتعقلون لتشكروه على نعمه وتحمدوه على آلائه {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السمآء} هذا من الأدلة على قدرة الله تعالى ووحدانيته والمعنى: ألم يشاهدوا الطيور مذلّلات للطيران في ذلك الفضاء الواسع بين السماء والأرض {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله} أي ما يمسكهن عن السقوط عند قبض أجنحتهنَّ وبسطها إلا هو سبحانه {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إنَّ فيما ذُكر لآيات ظاهرة، وعلامات باهرة على وحدانيته تعالى لقوم يصدَّقون بما جاءت به رسل الله {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} هذا تعداد لنعم الله على العباد أي جعل لكم هذه البيوت من الحجر والمدر لتسكنوا فيها أيام مُقامكم في أوطانكم {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً} أي وجعل لكم بيوتاً أُخرى وهي الخيام والقُباب المتخذة من الشعر والصوف والوبَر {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} أي تستخفون حملها ونقلها في أسفاركم، وهي خفيفةٌ عليكم في أوقات السفر والحضَر {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً} أي وجعل لكم من صوف الغنم، ووبر الإِبل، وشعر المعز ما تلبسون وتفرشون به بيوتكم {وَمَتَاعاً إلى حِينٍ} أي تنتفعون وتتمتعون بها إلى حين الموت {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً} أي جعل لكم من الشجر والجبل مواضع تسكنون فيها كالكهوف والحصون قال الرازي: لما كانت بلادُ العرب شديدة الحر، وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة، فلهذا ذكر تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} أي جعل لكم الثياب من القطن والصوف والكتان لتحفظكم من الحر والبرد {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} أي ودروعاً تشبه الثياب تتقون بها شر أعدائكم في الحرب {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإِنه يُتم نعمة الدنيا والدين عليكم {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي لتخلصوا للهِ الربوبية، وتعلموا أنه لا يقدر على هذه الإنعامات أحدٌ سواه {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان ولم يؤمنوا بما جئتهم به يا محمد فلا ضرر عليك لأن وظيفتك التبليغ وقد بلَّغت الرسالة وأديت الأمانة {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} أي يعرف هؤلاء المشركون نِعَم الله التي أنعم بها عليهم، ويعترفون بأنها من عند الله ثم ينكرونها بعبادتهم غير المنعم وقال السُّدي: نعمةُ الله هي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عرفوا نبوته، ثم جحدوها وكذّبوه {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} أي أكثرهم يموتون كفاراً وفيه إشارة إلى أن بعضهم يهتدي للإسلام وأما أكثرهم فمصرّون على الكفر والضلال {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} أي ويوم القيامة نحشر الخلائق للحساب ونبعث في كل أمة نبيَّها يشهد عليها بالإِيمان والكفر {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي لا يُؤذن للذين كفروا في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا يُطلب منهم أن يسترضوا ربَّهم بقولٍ أو عمل، فقد فات أوان العتاب والاسترضاء، وجاء وقت الحساب والعقاب قال القرطبي: العُتبى هي رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب، وأصل الكلمة من العتب وهي الموجدة فإذا وجد(2/127)
عليه يقال: عَتَب، وإذا رجع إلى مسرَّتك فقد أعتب {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} أي وإِذا رأى المشركون عذاب جهنم فلا يُفتَّر عنهم ساعة واحدة {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي لا يُؤخرون ولا يُمهلون {وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} أي وإذا أبصر المشركون شركاءهم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويزعمون أنهم شركاء الله في الألوهية {قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ} أي هؤلاء الذين عبدناهم من دونك قال البيضاوي: وهذا اعترافٌ بأنهم كانوا مخطئين في ذلك والتماس لتخفيف العذاب {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أي أجابوهم بالتكذيب فيما قالوا في تقرير وتوكيد، وذلك مما يوجب زيادة الغم والحسرة في قلوبهم {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} أي استسلم أولئك الظالمون لحكم الله تعالى بعد الإباء والاستكبار في الدنيا {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي بطل ما كانوا يؤملون من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، ثم أخبر تعالى عن مآلهم بعد أن آخبر عن حالهم فقال {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي كفروا بالله ومنعوا الناس عن الدخول في دين الإِسلام {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب} أي زدناهم عذاباً في جهنم فوق عذاب الكفر، لأنهم ارتكبوا جريمة صدّ الناس عن الهدى فوق جريمة الكفر، فضوعف لهم العذاب جزاءً وفاقاً {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} أي بسبب إفسادهم في الدنيا بالكفر والمعصية {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} أي اذكر للناس ذلك اليوم وهوْله حين نبعث في كل أمةٍ نبيَّها ليشهد علينا {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء} أي وجئنا بك يا محمد شهيداً على أمتك {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} أي ونزَّلنا عليك القرآن المنير بياناً شافياً بليغاً لكل ما يحتاج الناس إليه من أمور الدين فلا حجة لهم ولا معذرة قال ابن مسعود: قد بُيّن لنا في هذا القرآن كلُّ علمٍ، وكل شيء {وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} أي هداية للقلوب، ورحمة للعباد، وبشارةً للمسلمين المهتدين {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} أي يأمر بمكارم الأخلاق بالعدل بين الناس، والإِحسان إلى جميع الخلق {وَإِيتَآءِ ذِي القربى} أي مواساة الأقرباء، وخصَّه بالذكر اهتماماً به {وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي} أي ينهى عن كل قبيح من قولٍ، أو فعلٍ، أو عملٍ قال ابن مسعود: هذه أجمعُ آيةٍ في القرآن لخيرٍ يُمتثل، ولشرٍ يُجتنب والفحشاء كل ما تناهى قبحه كالزنى والشرك، والمنكر كل ما تنكره الفطرة، والبغي هو الظلم وتجاوز الحق والعدل {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي يؤدبكم بما شرع من الأمر والنهي لتتعظوا بكلام الله.
البَلاَغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - الاستعارة التمثيلية في {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} الآية تمثيلٌ للوثن بالأبكم الذي لا ينتفع منه بشيء أصلاً، مع القادر السميع البصير وشتان بين الرب والصنم.
2 - التشبيه المرسل المجمل في {كَلَمْحِ البصر} .
3 - الطباق بين {سِرّاً وَجَهْراً} وبين {يَعْرِفُونَ ... يُنكِرُونَ} وبين {ظَعْنِكُمْ ... إِقَامَتِكُمْ} .
4 -(2/128)
الإِيجاز بالحذف في {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم} أي والبرد حذف الثاني استغناءً بذكر الأول.
5 - المقابلة اللطيفة {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي} أمر بثلاثة ونهى عن ثلاثة وهو من المحسنات البديعية.
6 - ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بشأنه {وَإِيتَآءِ ذِي القربى} بعد لفظ الإِحسان الذي هو عام.
لطيفَة: ذكر «أن» أكثم بن صيفي «لما بلغه خبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انتدب رجلين فأتياه فقالا: من أنت؟ وما أنت؟ فقال أنا محمد بن عبد الله، وأنا رسول الله ثم تلا علينا هذه الآية {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان ... .} الآية فرجعا إلى أكثم فلما قرءا عليه الآية قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن مساوئها، فكونوا في هذا الأمر رؤساء، ولا تكونوا فيه أذناباً» .(2/129)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
المنَاسَبَة: لما استقصى تعالى في الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وذكر جملة المكارم والفضائل، حذَّر تعالى هنا من نقض العهود والمواثيق وعصيان أوامر الله تعالى، لأن العصيان سبب البلاء والحرمان، ثم ذكر تعالى ما أعده لأهل الإِيمان من الحياة الطيبة الكريمة.
اللغَة: {تَنقُضُواْ} النقض ضدُّ الإبرام، وهو فك أجزاء الشيء بعضها من بعض {تَوْكِيدِهَا} التوكيد التثبيتُ يقال: توكيد وتأكيد {أَنكَاثاً} أنقاضاً والنكث: النقضُ بعد الفتل {دَخَلاً} الدَّخل: الدَّغل والخديعة والغش قال أبو عبيدة: كل أمرٍ لم يكن صحيحاً فهو دخَل {يَنفَدُ} نفد الشيء ينْفد فني {أَعْجَمِيٌّ} الأعجمي الذي لا يتكلم العربية وقال الفراء: الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب، والعجمي الذي أصله من العجم {يُلْحِدُونَ} الإِلحاد: الميل يقال لحد وألحد إِذا مال عن القصد والاستقامة.
سَبَبُ النّزول: أ - روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يجلس عند المروة إِلى غلام نصراني يقال له «جبْر» وكان يقرأ الكتب فقال المشركون: والله ما يعلِّمه ما يأتي به إِلا خبرٌ الرومي فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ... } الآية.
ب - عن ابن عباس أن المشركين أخذوا عمّار بن ياسر وأباه ياسراً وأمه سُميَّة وصهيباً وبلالاً فعذبوهم، ورُبطت «سُميَّة» بين بعيرين ووُجئ قُبُلها بحربة فقُتلت، وقُتل زوجها ياسر - وهما أول قتيلين في الإِسلام - وأمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرهاً، فشكا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له الرسول الكريم: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنٌ بالإيمان، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فإن عادوا فعُدْ وأنزل الله {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ... } الآية.
التفسير: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ} أي حافظوا على العهود التي عاهدتم عليها الرسول أو الناس وأدوها على الوفاء والتمام {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توثيقها بذكر الله تعالى {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} أي جعلتم الله شاهداً ورقيباً على تلك البيعة {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي عليم بأفعالكم وسيجازيكم عليها {وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} هذا مثلٌ ضربه الله لمن نكث عهده، شبِّهت الآية الذي يحلف ويعاهد ويُبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تعزل غزلها وتفتله محكماً ثم تحلُه أنكاثاً أي أنقاضاً قال المفسرون: كان بمكة امرأة حمقاء تعزل غزلاً ثم تنقضه، وكان الناس يقولون: ما أحمق هذه { {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ(2/130)
دَخَلاً بَيْنَكُمْ} أي تتخذون أيمانكم خديعة ومكراً تخدعون بها الناس {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي لأجل أن تكون أمة أكثر عدداً وأوفر مالاً من غيرها قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزَّ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} أي إنما يختبركم الله بما أمركم به من الوفاء بالعهد لينظر المطيع من العاصي {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي ليجازي كل عاملٍ بعمله من خير وشرّ {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد، وجعلهم أهل ملةٍ واحدة، لا يختلفون ولا يفترقون {ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} أي ولكنْ اقتضت حكمته أن يتركهم لاختيارهم، ناسٌ للسعادة وناس للشقاوة، فيضلُّ من يشاء بخذلانه إياهم عدلاً، ويهدي من يشاء بتوفيقه إياهم فضلاً {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم على الفتيل والقطمير {وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} كرره تأكيداً ومبالغة في تعظيم شأن العهود أي لا تعقدوا الأيمان وتجعلوها خديعة ومكراً تغرون بها الناس لتحصلوا على بعض منافع الدنيا الفانية {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} أي فتزلَّ أقدامكم عن طريق الاستقامة وعن محجة الحق بعد رسوخها فيه قال ابن كثير: هذا مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها، وزلَّ عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة، المشتملة على الصدّ عن سبيل الله، لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوقٌ بالدين، فيصد بسببه عن الدخول في الإِسلام ولهذا قال {وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله} أي يصيبكم العقاب الدنيوي العاجل الذي يسوءكم لصدّكم غيركم عن اعتناق الإسلام بسبب نقض العهود {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولكم في الآخرة عذاب كبير في نار جهنم {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تستبدلوا عهد الله وعهد رسوله بحطام الدنيا الفاني {إِنَّمَا عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما عند الله من الأجر والثواب خير لكم من متاع الدنيا العاجل إِذا كنتم تعلمون الحقيقة، ثم علَّل ذلك بقوله {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} أي ما عندكم أيها الناس فإِنه فانٍ زائل، وما عند الله فإِنه باقٍ دائم، لا انقطاع له ولا نَفَاد، فآثروا ما يبقى على ما يفنى {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ولنثيبنَّ الصابرين بأفضل الجزاء، ونعطيهم الأجر الوافي على أحسن الأعمال مع التجاوز عن السيئات، وهذا وعدٌ كريم بمنح أفضل الجزاء على أفضل العمل، ليكون الجزاء على أحسن العمل دون سواه، وكل ذلك بفضل الله {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي من فعل الصالحات ذكراً كان أو أنثى بشرط الإِيمان {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} أي فلنحيينَّه في الدنيا حياة طيبة بالقناعة والرزق الحلال، والتوفيق لصالح الأعمال وقال الحسن: لا(2/131)
تطيب الحياة لأحدٍ إلا في الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وسعادة بلا شقاوة {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ولنجزينَّهم في الآخرة بجزاء أحسن أعمالهم، وما أكرمه من جزاء} {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} أي إذا أردت تلاوة القرآن {فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} أي فاسأل الله أن يحفظك من وساوس الشيطان وخطراته، كيلا يوسوس لك عند القراءة فيصدَّك عن تدبر القرآن والعمل بما فيه {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ} أي ليس له تسلطٌ وقدرة على المؤمنين بالإِغواء والكفر لأنهم في كنف الرحمن {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي يعتمدون على الله فيما نابهم من شدائد {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} أي إنما تسلُّطه وسيطرته على الذين يطيعونه ويتخذونه لهم ولياً {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} أي بسبب إغوائه أصبحوا مشركين في عبادتهم وذبائحهم، ومطاعمهم ومشاربهم {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} أي وإذا أنزلنا آيةٌ مكان آية وجعلناها بدلاً منها بأن ننسخ تلاوتها أو حكمها {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} جملة اعتراضية سيقت للتوبيخ أي والله أعلم بما هو أصلح للعباد وبما فيه خيرهم، فإنَّ مثل آياتِ هذا الكتاب كمثل الدواء يُعطى منه للمريض جرعات حتى يماثل الشفاء، ثم يستبدل بما يصلح له من أنواع أخرى من الأطعمة {قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} أي قال الكفرة الجاهلون إنما أنت يا محمد متقوِّلٌ كاذبٌ على الله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي أكثرهم جهلة لا يعلمون حكمة الله فيقولون ذلك سفهاً وجهلاً قال ابن عباس: كان إذا نزلت آية فيها شدة ثم نسخت قال كفار قريش: والله ما محمد إِلا يسخر من أصحابه، يأمرهم اليوم بأمرٍ، وينهاهم غداً عنه، وإِنه لا يقول: ذلك إلا من عند نفسه فنزلت {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق} أي قل لهم يا محمد: إِنما نزَّله جبريل الأمين من عند أحكم الحاكمين بالصدق والعدل {لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ} أي ليثبّت المؤمنين بما فيه من الحجج والبراهين فيزدادوا إيماناً ويقيناً {وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} أي وهداية وبشارة لأهل الإِسلام الذين انقادوا لحكمه تعالى، وفيه تعريضٌ بالكفار الذين لم يستسلموا لله تعالى {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} أي قد علمنا مقالة المشركين الشنيعة ودعواهم أن هذا القرآن من تعليم «جبْر الرومي» وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} أي لسان الذي يزعمون أنه علَّمه وينسبون إليه التعليم أعجمي {وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} أي وهذا القرآن عربيٌ في غاية الفصاحة، فكيف يمكن لمن لسانُه أعجمي أن يُعلم محمداً هذا الكتاب العربيُّ المبين؟ ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه!! {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله} أي إن الذين لا يُصدّقون بهذا القرآن لا يوفقهم الله لإِصابة الحق، ولا يهديهم إِلى طريق النجاة والسعادة {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لهم في الآخرة عذابٌ موجع مؤلم، وهذا تهديدٌ لهم ووعيد على كفرهم وافترائهم {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله} أي لا يكذب على الله إلا من لم يؤمن بالله ولا بآياته، لأنه لا يخاف عقاباً يردعه، فالكذب جريمةٌ فاحشة لا يُقدم عليها مؤمن، وهذا ردُّ لقولهم {إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} {(2/132)
وأولئك هُمُ الكاذبون} أي وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة لا محمد الرسول الأمين {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ} أي من تلفَّظ بكلمة الكفر وارتد عن الدين بعد ما دخل فيه {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} أي إلا من تلفَّظ بكلمة الكفر مكرهاً والحال أن قلبه مملوءٌ إيماناً ويقيناً، والآيةُ تغليظٌ لجريمة المرتد لأنه عرف الإِيمان وذاقه ثم ارتدَّ إِيثاراً للحياة الدنيا على الآخرة قال المفسرون:
«نزلت في عمار بن ياسر أخذه المشركون فعذبوه حتى أعطاهم ما أرادوا مُكْرهاً فقال الناس: إِنَّ عماراً كفر فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّ عماراً ملئ إيماناً من فرقه إلى قدمه، واختلط الإِيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يبكي فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان قال: إن عادوا فعُدْ» {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} أي طابت نفسه بالكفر وانشرح صدره له {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم غضبٌ شديد مع عذاب جهنم، إِذْ لا جرم أعظم من جرمهم {ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} أي ذلك العذاب بسبب أنهم آثروا الدنيا واختاروها على الآخرة {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي لا يوفقهم إلى الإيمان ولا يعصمهم من الزيغ والضلال {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} أي ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم فجعل عليها غلافاً بحيث لا تُذعن للحق ولا تسمعه ولا تبصره {وأولئك هُمُ الغافلون} أي الكاملون في الغفلة إِذْ أغفلتهم الدنيا عن تدبر العواقب {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} أي حقاً ولا شك ولا ريب في أنهم الخاسرون في الآخرة لأنهم ضيَّعوا أعمارهم في غير منفعة تعود عليهم قال المفسرون: وصفهم تعالى بست صفات هي: الغضب من الله، والعذاب العظيم، واختيارهم الدنيا على الآخرة، وحرمانهم من الهدى، والطبع على قلوبهم، وجعلهم من الغافلين {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أي ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا في سبيل الله بعد ما فتنهم المشركون الطغاة عن دينهم بالعذاب {ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ} أي ثم جاهدوا في سبيل الله وصبروا على مشاقّ الجهاد {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إن ربك بعد تلك الهجرة والجهاد والصبر سيغفر لهم ويرحمهم.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - التشبيه التمثيلي {وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} الآية شبه تعالى من يحلف ثم لا يفي بعهده بالمرأة التي تغزل غزلاً ثم تنقضه.
2 - الاستعارة في {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} استعار القدم للرسوخ في الدين والتمكن فيه لأن أصل الثبات يكون بالقدم ولما كان الزلل عن محجة الحق يشبه زلل القدم وانزلاقها عبَّر به عن الانزلاق الحسي بطريق الاستعارة.
3 - الطباق بين {يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} وبين {أَعْجَمِيٌّ. . عَرَبِيٌّ} وبين {يَنفَدُ ... بَاقٍ}
4 -(2/133)
جناس الاشتقاق {قَرَأْتَ القرآن} وفيه مجاز مرسل من إِطلاق اسم المسبَّب على السبب أي إذا أردت قراءة القرآن.
5 - الاعتراض {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} الجملة اعتراضية لبيان الحكمة الإلهية في النسخ، وفيه التفات من المتكلم إلى الغائب، وذكر الاسم الجليل لتربية المهابة في النفس.
6 - الاستعارة اللطيفة {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} استعار اللسان للغّة والكلام كقول الشاعر:
لسانُ السُّوءِ تُهديها إِلينا ... وخُنْت وما حسبتُك أن تخونا
والعرب تستعمل اللسان بمعنى اللغة كقوله تعالى {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] .
لطيفَة: السرُّ في الاستعاذة قبل قراءة القرآن أن القرآن هو الذكر الحكيم، والحق المبين، ولما كان الشيطان يثير الشبهات بوساوسه، ويفسد القلوب بدسائسه، أُمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يستعيذ بالله ويلتجئ إليه عند تلاوة القرآن، لأن قوة الإِنسان تضعف عن دفعه بسهولة فيحتاج إلى الاستعانة بالله العلي الكبير.(2/134)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حال من كفر بلسانه، وحال من كفر بلسانه وجَنَانه، ذكر هنا الجزاء العادل الذي يلقاه كل إِنسان في الآخرة، وما أعدَّه من العقاب العاجل في الدنيا لبعض المكذبين، ثم ذكر قصة إِبراهيم الأوَّاه المنيب، وأَمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باقتفاء آثاره المجيدة.
اللغَة: {تُجَادِلُ} تخاصم وتحاجُّ {رَغَداً} واسعاً هنيئاً بلا كلفةٍ ولا تعب {أَنْعُمِ} جمع نعمة كالأشد جمع الشدَّة {أُمَّةً} إِماماً جامعاً لخصال الخير {قَانِتاً} مطيعاً خاضعاً من القنوت وهو الطاعة والخضوع {اجتباه} اصطفاه واختاره {حَنِيفاً} الحنيف: المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الإسلام، من الحنف وهو الميل.
سَبَبُ النّزول: «لمَّا قُتل حمزة ومثَّل به المشركون في غزة أُحد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين رآه» والله لأُمثلنَّ بسبعين منهم مكانك «فنزلت الآية الكريمة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ... } الآية.
التفسِير: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} أي ذكِّرْهم يوم القيامة حين تخاصم كلُّ نفسٍ عن ذاتها سعياً في خلاصها، لا يهمها شأنُ غيرها {وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} أي تُعطى جزاءَ ما عملت من غير بخْسٍ ولا نقصان {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي لا ينقصون أجورهم بل يُعطونها كاملةٌ وافية {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً} هذا مثلٌ ضربه الله لأهل مكة وغيرهم، بقومٍ أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فعصوا وتمردوا، فبدَّل الله نعمتهم بنقمة {كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} أي كان أهلها في أمنٍ واستقرار، وسعادة ونعيم {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ} أي تأتيها الخيرات والأرزاق بسعةٍ وكثرةٍ من كل الجهات {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} أي لم يشكروا الله على ما آتاهم من خير، وما وهبهم من رزق {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} أي سلبهم اللهُ نعمة الأمن والاطمئنان، وأذاقهم آلام الخوف والجوع والحرمان {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} أي بسبب كفرهم ومعاصيهم، قال الرازي: وهذا مثلُ أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينَة والخِصْب، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكفروا به، وبالغوا في إِيذائه، فعذبهم الله بالقحط والجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} أي ولقد جاءهم محمد بالآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة وهو رسولٌ منهم يعرفون أصله ونسبه فلم يصدقوه ولم يؤمنوا برسالته، والآية دالة على أن المراد بهم أهل مكة وهو قول ابن عباس {فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي فأصابتهم الشدائد والنكبات وهم ظالمون بارتكاب المعاصي والآثام {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً} أي كلوا من نِعَم الله التي أباحها لكم حال كونها حلالاً طيباً {واشكروا نِعْمَتَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي واشكروا الله على نعمه الجليلة إن كنتم مخلصين في إيمانكم لا تعبدون أحداً سواه، ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم فقال {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير} أي لم يحرم ربكم عليكم أيها الناس إلا ما فيه أذى لكم كالميتة والدم ولحم الخنزير {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي وما ذبح على اسم(2/135)
غير الله تعالى فإنَّ فيه أذى للنفس والعقيدة {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فمن اضطر لأكل ما حرَّم الله من المذكورات من غير بغيٍ ولا عدوان فإن الله واسع المغفرة عظيم الرحمة لا يؤاخذ من كان مضطراً، ثم وبّخ تعالى المشركين الذين حلّلوا وحرّموا من تلقاء أنفسهم فقال {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} أي لا تقولوا أيها المشركون في شأن ما تصفه ألسنتكم من الكذب هذا حلالٌ وهذا حرام من غير دليلٍ ولا برهان {لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} أي لتكذبوا على الله بنسبة ذلك إليه {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} أي إن الذين يختلفون الكذبَ على الله لا يفوزون ولا يظفرون بمطلوبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي انتفاعهم واستمتاعهم في الدنيا قليل لأنه زائل، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم، ثم ذكر تعالى ما حرَّم على اليهود فقال {وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} أي وعلى اليهود خاصة حرمنا عليهم ما قصصنا عليك يا محمد مما سبق ذكره في سورة الأنعام عقوبة لهم وهي شحوم البقرة والغنم وكل ذي ظفر {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي وما ظلمناهم بذلك التحريم ولكنْ ظلموا أنفسهم فاستحقوا ذلك كقوله
{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ} أي ثم إن ربك يا محمد للذين ارتكبوا تلك القبائح بجهلٍ وسفه {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصلحوا} أي ثم رجعوا إِلى ربهم وأنابوا وأصلحوا العمل بعد ذلك الزلل {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إنه تعالى واسع المغفرة عظيم الرحمة، والآية تأنيسٌ لجميع الناس وفتحٌ لباب التوبة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي إنَّ إِبراهيم كان إِماماً قدوةً جامعاً لخصال الخير ولذلك اختاره الله لخلته {قَانِتاً لِلَّهِ} أي مطيعاً لربه قائماً بأمره {حَنِيفاً} أي مائلاً عن كل دين باطل إلى دين الحق، دين الإِسلام {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} تأكيد لما سبق وردٌّ على اليهود والنصارى في زعمهم أن إِبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً {شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} أي قائماً بشكر نعم الله {اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي اختاره واصطفاه للنبوة وهداه إِلى الإِسلام وإلى عبادة الواحد الأحد {وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً} أي جعلنا له الذكر الجميل في الدنيا {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} أي وهو في الآخرة من أصحاب الدرجات الرفيعة، وفي أعلى مقامات الصالحين {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} لما وصف تعالى إِبراهيم بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتَّبع ملته والمعنى ثم أمرناك يا محمد باتباع دين إِبراهيم وملته الحنيفية السمحة {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي وما كان يهودياً أو نصرانياً، وإنما كان حنيفاً مسلماً، وهو تأكيد آخر لردّ مزاعم اليهود والنصارى أنهم على دينه {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} أي لم يكن تعظيم يوم السبت وتركُ العمل فيه من شريعة إبراهيم ولا من شعائر دينه، وإِنما جعل تغليظاً على اليهود لاختلاطهم في الدين وعصيانهم أمر الله، حيث نهاهم عن الاصطياد فيه فاصطادوا فمسخهم قردةً وخنازير {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي(2/136)
وسيفصل الله تعالى بينهم يوم القيامة، فيجازي كلاً بما يستحق من الثواب أو العقاب {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} أي أدع يا محمد الناس إِلى دين الله وشريعته القدسية بالأسلوب الحكيم، واللطف واللين، بما يؤثر فيهم وينجع، لا بالزجر والتأنيب والقسوة والشدة {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي وجادل المخالفين بالطريقة التي هي أحسن ومن طرق المناظرة والمجادلة بالحجج والبراهين، والرفق واللين {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي إن ربك يا محمد هو العالم بحال الضالين وحال المهتدين.
فعليك أن تسلك الطريق الحكيم في دعوتهم ومناظرتهم، وليس عليك هدايتهم، إِنما عليك البلاغ وعلينا الحساب {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} أي وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم فعاملوه بالمثل ولا تزيدوا قال المفسرون: نزلت في شأن «حمزة بن عبد المطلب» لما بقر المشركين بطنه يوم أُحد، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لئن أظفرني الله بهم لأمثلنَّ بسبعين منهم» {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} أي ولئن عفوتم وتركتم القصاص فهو خير لكم وأفضل، وهذا ندبٌ إِلى الصبر، وترك عقوبة من أساء، فإن العقوبة مباحة وتركها أفضل {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} أي واصبر يا محمد على ما ينالك من الأذى في سبيل الله، فما تنال هذه المرتبة الرفيعة إلا بمعونة الله وتوفيقه {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي لا تحزن على الكفار إِن لم يؤمنوا {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} أي ولا يضقْ صدرك بما يقولون من السَّفه والجهل، ولا بما يدبرون من المكر والكيد {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} أي مع المتقين بمعونته ونصره، ومع المحسنين بالحفظ والرعاية، ومن ان الله معه فلن يضرَّه كيد الكائدين
الَبَلاَغَة: تضمنت الآيات من صنوف البيان والبديع ما يلي:
1 - الاستعارة المكنية {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} شبَّه ذلك اللباس من حيث الكراهية بالطعم المُر المشبع وحذف المشبه به ورمز إليه بشيءٍ من لوازمه وهو الإِذاقة على طريق الاستعارة المكنية.
2 - الطباق بين {حَلاَلٌ ... حَرَامٌ} .
3 - الالتفات {وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً} التفت عن الغيبة إلى التكلم إشارة إلى زيادة الاعتناء بشأنه وتفخيم أمره.
4 - التشبيه البليغ {كَانَ أُمَّةً} أي كان بمفرده كالأمة والجماعة الكثيرة لجمعه أوصاف الكمالات التي تفرقت في الخلق كما قال الشاعر:
«وليس على الله بمستنكر ... أنْ يجمع العالم في واحد» .
تنبيه: دل قوله تعالى {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} على الحث على الإِنصاف في المناظرة، واتباع الحق، والرفق والمداراة، على وجهٍ يظهر منه أن القصد إثباتُ الحق وإزهاقُ الباطل، لا نصرة الرأي وهزيمة الرأي الآخر.(2/137)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
اللغَة: {سُبْحَانَ} اسمٌ للتسبيح ومعناه تنزيه الله تعالى من كل سوء ونقصٍ وهو خاصٌ به سبحانه {أسرى} الإِسراء: السيرُ ليلاً يقال: أسرى وسرى لغتان قال الشاعر:(2/139)
سريتَ من حَرَمٍ ليلاً إلى حَرَمٍ ... كما سَرَى البدرُ في دَاجٍ من الظُّلَم
{فَجَاسُواْ} قال الزجاج: طافوا، والجَوْسُ: الطواف بالليل والتردُّد والطلب مع الاستقصاء وقال الواحدي: الجوسُ هو التردُّد والطلب {الكرة} الدَّولة والغَلَبة {تَتْبِيراً} هلاكاً ودماراً {مَحَوْنَآ} طمسنا قال علماء اللغة: المحوُ إذهاب الأثر يقال محوتُه فانمحى أي ذهب أثره {طَآئِرَهُ} عمله المقدَّر عليه سمي الخير والشر بالطائر لأن العرب كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بالطير إذا طار جهة اليمين أو الشمال {مُتْرَفِيهَا} المُتْرفُ: المتنعِّمُ الذي أبطرته النعمةُ وسَعَة العيش {يَصْلاهَا} يدخلها ويذوق حرَّها {مَّدْحُوراً} مطروداً مبعداً من رحمة الله.
التفسِير: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} أي تنزَّه وتقدَّس عما لا يليق بجلاله، اللهُ العليُّ الشأن، الذي انتقل بعبده ونبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في جزءٍ من الليل {مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} أي من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام قال المفسرون: وإنما قال {لَيْلاً} بلفظ التنكير لتقليل مدة الإسراء، وأنه قطع به المسافات الشاسعة البعيدة في جزءٍ من الليل وكانت مسيرة أربعين ليلة، وذلك أبلغ في القدرة والإِعجاز ولهذا كان بدء السورة بلفظ {سُبْحَانَ} الدال على كمال القدرة، وبالغ الحكمة، ونهاية تنزهه تعالى عن صفات المخلوقين، وكان الإِسراء بالروح والجسد، يقظة لا مناماً {الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أي الذي باركنا ما حوله بأنواع البركات الحسية والمعنوية، بالثمار والأنهار التي خصَّ الله بها بلاد الشام، وبكونه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة الأطهار {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} أي لنريَ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آياتنا العجيبة العظيمة، ونطلعه على ملكوت السماوات والأرض، فقد رأى صلوات الله عليه السماوات العُلى والجنة والنار، وسدرة المنتهى، والملائكة والأنبياء وغير ذلك من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} أي إنه تعالى هو السميع لأقوال محمد، البصير بأفعاله، فلهذا خصَّه بهذه الكرامات والمعجزات احتفاءً وتكريماً {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أعطينا موسى التوراة هدايةً لبني إسرائيل يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإِيمان {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً} أي لا تتخذوا لكم ربا تكلون إليه أموركم سوى الله الذي خلقكم قال المفسرون: لما ذُكر المسجدُ الأقصى وهو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل جاء الحديث عنهم في مكانه المناسب من سياق السورة {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي يا ذرية ويا أبناء المؤمنين الذين كانوا مع نوح في السفينة، لقد نجينا آباءكم من الغرق فاشكروا الله على إنعامه {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} أي إن نوحاً كان كثير الشكر يحمد الله على كل حال فاقتدوا به، وفي النداء لهم تلطفٌ وتذكير بنعمة الله {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} أي أخبرناهم وأعلمناهم وأوحينا إليهم في التوراة {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ} أي ليحصلنَّ منكم الإفساد في أرض فلسطين وما حولها مرتين قال ابن عباس: أول الفساد قتل زكريا والثاني قتل يحيى عليهما السلام {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} أي تطغون في الأرض المقدسة طغياناً كبيراً بالظلمٍ(2/140)
والعدوان وانتهاك محارم الله {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أي أُولى المرتين من الإِفساد {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} أي سلَّطنا عليكم من عبيدنا أناساً جبارين للانتقام منكم {أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي أصحاب قوةٍ وبطش في الحرب شديد قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما استحلوا المحارم وسفكوا الدماء سلَّط الله عليهم بختنصر ملك بابل فقتل منهم سبعين ألفاً حتى كاد يفنيهم هو وجنوده، وذلك أول الفسادين {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار} أي طافوا وسط البيوت يروحون ويغدون للتفتيش عنكم واستئصالكم بالقتل والسلب والنهب لا يخافون من أحد {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} أي كان ذلك التسليط والانتقام قضاءً جزماً حتماً لا يقبل النقض والتبديل {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} أي ثمَّ لما تبتم وأنبتم أهلكنا أعداءكم ورددنا لكم الدَّوْلَة والغلبة عليهم بعد ذلك البلاء الشديد {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أي أعطيناكم الأموال الكثيرة والذرية الوفيرة، بعد أن نُهبت أموالكم وسُبيت أولادكم {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} أي جعلناكم أكثر عدداً ورجالاً من عدوكم لتستعيدوا قوتكم وتبنوا دولتكم {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} أي إن أحسنتم يا بني إسرائيل فإحسانكم لأنفسكم ونفعه عائد عليكم لا ينتفع الله منها بشيء {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي وإن أسأتم فعليها لا يتضرر الله بشيء منها، فهو الغني عن العباد، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} أي فإذا جاء وعد المرة الأخيرة من إفسادكم بقتل يحيى وانتهاك محارم الله بعثنا عليكم أعداءكم مرة ثانية {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} أي بعثناهم ليهينوكم ويجعلوا آثار المساءة والكآبة باديةً على وجوهكم بالإِذلال والقهر {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي وليدخلوا بيت المقدس فيخربوه كما خربوه أول مرة {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} أي وليدمروا ويهلكوا ما غلبوا عليه تدميراً، فقد سلّط الله عليهم مجوس الفرس فشردوهم في الأرض وقتلوهم ودمَّروا مملكتهم تدميراً {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} أي لعل الله يرحكم ويعفو عنكم إن تبتم وأنبتم، وهذا وعدٌ منه تعالى بكشف العذاب عنهم إن رجعوا إلى الله و {عسى} من الله واجبة {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} أي وإن عدتم إلى الإِفساد والإِجرام عدنا إلى العقوبة والانتقام {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} أي وجعلنا جهنم محبساً وسجناً للكافرين، لا يقدرون على الخروج منها أبَدَ الآبدين، ثم بيًّن تعالى مزية التنزيل الكريم الذي فاق بها سائر الكتب السماوية فقال {إِنَّ هذا القرآن يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي إنَّ هذا القرآن العظيم يهدي لأقوم الطرق وأوضح السُّبُل، ولما هو أعدل وأصوب {وَيُبَشِّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} أي ويبشر المؤمنين الذين يعملون بمقتضاه بالأجر العظيم في جنات النعيم {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي ويبشرهم بأن لأعدائهم الذين لا يصدقون بالآخرة العقاب الأليم في دار الجحيم، وقد جمعت الآية بين الترغيب والترهيب {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} أي يدعو بالشر على نفسه كدعائه لها بالخير، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير(2/141)
لهلك قال ابن عباس: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحبُّ أن يستجاب له: اللهمَّ أهلكه اللهمَّ دمْره ونحوه {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} أي ومن طبيعة الإِنسان العجلة، يتعجل بالدعاء على نفسه ويسارع لكل ما يخطر بباله، دون النظر في عاقبته، ثم أشار تعالى إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود، التي كلٌ منها برهانٌ نيِّر على وحدانية الله فقال {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ} أي علامتين عظيمتين على وحدانيتنا وكمال قدرتنا {فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل} أي طمسنا الليل فجعلناه مظلماً لتسكنوا فيه {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} أي جعلنا النهار مضيئاً مشرقاً بالنور ليحصل به الإِبصار {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} أي لتطلبوا في النهار أسباب معايشكم {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} أي ولتعلموا عدد الأيام والشهور والأعوام، بتعاقب الليل والنهار، فالليل للراحة والسكون، والنهار للكسب والسعي {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} أي وكلَّ أمر من أمور الدنيا والدين، بينَّاه أحسن تبيين، وليس شيء من أمر هذا الوجود متروكاً للمصادفة والجُزاف، وإنما هو بتقديرٍ وتدبيرٍ حكيم {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} أي أن الإِنسان مرهون بعمله مجزي به، وعملُه ملازم له لزوم القلادة للعُنُق لا ينفك عنه أبداً {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} أي نظهر له في الآخرة كتاب أعماله مفتوحاً فيه حسناته وسيئاته فيرى عمله مكشوفاً لا يملك إخفاءه أو تجاهله {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} أي إقرأ كتاب عملك كفى أن تكون اليوم شهيداً بما عملت، لا تحتاج إلى شاهد أو حسيب {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي من اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضلَّ فعقاب كفره وضلاله عليها {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} أي وما كنا معذبين أحداً من الخلق حتى نبعث لهم الرسل مذكرين ومنذرين فتقوم عليهم الحجة {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} أي وإذا أردنا هلاك قوم من الأقوام أمرنا المتنعمِّين فيها والقادة والرؤساء بالطاعة على لسان رسلنا فعصوا أمرنا وخرجوا عن طاعتنا وفسقوا وفجروا {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} أي فوجب عليهم العذاب بالفسق والطغيان فأهلكناهم إهلاكاً مُريعاً قال ابن عباس: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} أي سلَّطنا أشرارها فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ} أي وكثير من الأمم الطاغية المكذبين للرسل أهلكناهم من بعد نوح كقوم عاد وثمود وفرعون قال ابن كثير: والآية إنذار لكفار قريش والمعنى إنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق فعقوبتكم أولى وأحرى {وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} أي كفى يا محمد أن يكون ربك رقيباً على أعمال العباد يدرك بواطنها وظواهرها ويجازي عليها {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ} أي من كان يريد بعمله الدنيا فقط ولها يعمل ويسعى ليس له همٌّ إلا الدنيا عجلنا له فيها ما نشاء تعجيله من نعيمها لا كلَّ ما يريد {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} أي ثم(2/142)
جعلنا له في الآخرة جهنم يدخلها مهاناً حقيراً مطروداً من رحمة الله {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي ومن أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، وعمل لها عملها الذي يليق بها من الطاعات وهو مؤمن صادق الإِيمان {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} أي فأولئك الجامعون للخصال الحميدة من الإِخلاص، والعمل الصالح، والإِيمان.
كان عملهم مقبولاً عند الله أحسن القبول، مثاباً عليه {كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ} أي كل واحدٍ من الفريقين الذين أرادوا الدنيا، والذين أرادوا الآخرة نعطيه من عطائنا الواسع تفضلاً منا وإحساناً، فنعطي المؤمن والكافر والمطيع والعاصي {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} أي ما كان عطاؤه تعالى محبوساً ممنوعاً عن أحد {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} أي أنظر يا محمد كيف فاوتنا بينهم في الأرزاق والأخلاق في هذه الحياة الدنيا فهذا غني وذاك فقير، وهذا شريف وذاك حقير {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أي ولتفاوتُهم في الدار الآخرة أعظم من التفاوت في هذا الدار لأن الآخرة دار القرار وفيها ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ} أي لا تجعل مع الله شريكاً ولا تتخذ غيره إلهاً تعبده {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} أي فتصير ملوماً عند الله مخذولاً منه لا ناصر لك ولا معين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - براعة الاستهلال {سُبْحَانَ الذي أسرى} لأنه لما كان أمراً خارقاً للعادة بدأ بلفظ يشير إلى كمال القدرة وتنزه الله عن صفات النقص.
2 - إضافة التكريم والتشريف {بِعَبْدِهِ} .
3 - جناس الاشتقاق {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً} {تَزِرُ وَازِرَةٌ} .
4 - الطباق بين {أَحْسَنْتُمْ ... وأَسَأْتُمْ} وبين {ضَلَّ ... واهتدى} .
5 - إيجاز بالحذف {اقرأ كتابك} أي يقال له يوم القيامة إقرأ كتابك {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي أمرناهم بطاعة الله فعصوا وفسقوا فيها.
6 - المجاز العقلي {آيَةَ النهار مُبْصِرَةً} لأن النهار لا يُبصر بل يُبْصر فيه فهو من إسناد الشيء إلى زمانه.
7 - الاستعارة اللطيفة {طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} استعير الطائر لعمل الإِنسان، ولما كان العرب يتفاءلون ويتشاءمون بالطير سموا نفس الخير والشر بالطائر بطريق الاستعارة.
لطيفَة: الحكمة في إسرائه إلى بيت المقدس ثم عروجه من بيت المقدس إلى السماوات العلى أنه مجمع أرواح الأنبياء، وموطن تنزل الوحي الإِلهي على الرسل الكرام، ولما كانت هذه الرحلة رحلة تكريم أراد تعالى أن يشرفهم بزيارته. ولهذا صلى بهم إماماً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
تنبيه: وصفه تعالى في هذه السورة بالعبودية {أسرى بِعَبْدِهِ} لأنه أشرف المقامات وأسمى المراتب العلية، كما وصفه في مقام الوحي كذلك {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} [النجم: 10] وفي مقام الدعوة {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} [الجن: 19] ولهذا قال القاضي عياض:(2/143)
ومما زادني شرفاً وتيهاً ... وكدتُ بأخمصي أطأ الثريّا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيَّرت أحمد لي نبياً(2/144)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
المنَاسَبَة: لما جعل تعالى الإِيمان والعملَ الصالح أساساً للفوز بالسعادة الأبدية، وبيَّن حال المؤمن الذي أراد بعمله الدار الآخرة، ذكر هنا طائفةً من الأوامر والزواجر التي يقوم عليها بنيان(2/144)
المجتمع الفاضل، ثم ذكر تعالى موقف المشركين المكذبين من هذا القرآن العظيم.
اللغَة: {أُفٍّ} كلمة تضجُّر وتبرُّم قال ابن الأعرابي الأفُّ: الضجر، وأصلها أنه إذا سقط تراب أو رماد فنفخ الإنسان ليزيله، فالصوت الحاصل هو أُفّ ثم توسعوا في الكلمة حتى أصبحت تقال لكل مكروه {تَنْهَرْهُمَا} النهْرُ: الزجرُ والغِلظة {الأَوَّابِينَ} جمع أوَّاب وهو كثير التوبة والإِنابة من الأَوْب بمعنى الرجوع {مَّحْسُوراً} منقطعاً عن النفقة والتصرف قال الفراء: تقول العرب للبعير هو محسور إذا انقطع سيره، وحَسرَت الدابة إذا انقطعت عن المسير لذهاب قوتها، فشُبّه حال من أنفق كلّ ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته {إِمْلاقٍ} فقر وفاقة، أملق الرجل إذا افتقر {خِطْئاً} قال الأزهري: خطيئ يَخْطَأُ خِطْأً إذا تعمَّد الخطأ، وأخطأ إذا لم يتعمد {القسطاس} الميزان مأخوذ من القِسْط وهو العدل {تَقْفُ} تَتَّبعْ مأخوذ من قفوتُ أثر فلان إذا اتبعت أثَره وأصله البهتُ والقذف بالباطل {مَرَحاً} المَرَح: شدة الفرح والمراد به هنا التكبر والخيلاء {صَرَّفْنَا} بيَّنا {أَكِنَّةً} جمع كِنان وهو الغطاء الذي يستر الشيء {وَقْراً} صمماً وثقلاً.
التفسِير: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} أي حكم تعالى وأمر بأن لا تعبدوا إلهاً غيره وقال مجاهد: {وقضى} يعني وصَّى بعبادته وتوحيده {وبالوالدين إِحْسَاناً} أي وأمر بأن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً قال المفسرون: قرن تعالى بعبادته برَّ الوالدين لبيان حقهما العظيم على الولد لأنهما السبب الظاهر لوجوده وعيشه، ولما كان إحسانهما إلى الولد قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسان الولد إليهما كذلك {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} أي قد أوصيناك بهما وبخاصة إذا كبرا أو كبر أحدهما، وإنما خصَّ حالة الكِبَر لأنهما حينئذٍ أحوج إلى البر والقيام بحقوقهما لضعفهما ومعنى {عِندَكَ} أي في كنفك وكفالتك {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} أي لا تقل للوالدين أقل كلمة تظهر الضجر ككلمة أفٍّ ولا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولو بكلمة التأفف {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أي لا تزجرهما بإغلاظٍ فيما لا يعجبك منهما {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} أي قل لهما قولاً حسناً ليناً طيباً بأدب ووقار وتعظيم {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} أي ألنْ جانبك وتواضعْ لهما بتذلّل وخضوع من فرط رحمتك وعطفك عليهما {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} أي أدع لهما بالرحمة وقل في دعائك يا رب ارحم والديَّ برحمتك الواسعة كما أحسنا إليَّ في تربيتهما حالة الصغر {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} أي ربكم أيها الناس أعلم بما في نفوسكم من إرادة البر أو العقوق {إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} أي إن تكونوا قاصدين للبِرّ والصلاح دون العقوق والفساد فإِنه جلَّ وعلا يتجاوز عن سيئاتكم ويغفر للأوابين وهم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين قال الرازي: والمقصود من هذه الآية أن الأولى لما دلَّت على وجوب تعظيم الوالدين ثم إنَّ الولد قد يظهر منه ما يخلُّ بتعظيمهما فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلَّة البشرية كانت في محل الغفران، وبمناسبة الإِحسان إلى الوالدين يأمر تعالى بالإِحسان إلى الأقارب(2/145)
والضعفاء والمساكين {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} أي أعط كلَّ من له قرابة بك حقَّه من البر والإِحسان {والمسكين وابن السبيل} أي وأعط المسكين المحتاج والغريبَ المنقطع في سفره حقَّه أيضاً {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} أي لا تنفق مالكَ في غير طاعة الله فتكون مبذّراً، والتبذير الإِنفاق في غير حق قال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كلَّه في الحق لم يكن مبذّراً، ولو أنفق مُدّاً في غير حق كان مبذّراً وقال قتادة: التبذير النفقة في معصية الله تعالى وفي غير الحق والفساد {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} هذا تعليل للنهي وهو غاية في الذم والتقبيح أي إن المبذرين كانوا أمثال الشياطين وأشباههم في الإِفساد، لأنهم ينفقون في الباطل وينفقون في الشر والمعصية فهم أمثالهم {وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً} أي مبالغاً في كفران نعمة الله لا يؤدي حقَّ النعمة كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة، وحقُّها أن ينفقوها في الطاعات والحقوق غير متجاوزين ولا مبذرين {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} أي إن أعرضتَ عن ذوي القربى والمساكين وابن السبيل إذا لم تجد ما تعطيهم فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدْهم وعداً جميلاً {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} تمثيلٌ للبخل اي لا تكنْ بخيلاً منوعاً لا تعطي أحداً شيئاً كمن حبست يده عن الإِنفاق وشدَّت إلى عنقه {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} تمثيل للتبذير أي ولا تتوسع في الإِنفاق توسعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيء، والغرض من الآية لا تكن بخيلاً ولا مسرفاً {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} أي فتصير مذموماً من الخَلْق والخالق، منقطعاً من المال كمن انقطع في سفره بانقطاع مطيته {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسّع الرزق على من يشاء ويضيِّق على من يشاء، وهو القابض، الباسط المتصرف في خلقه، بما يشاء حسب الحكمة {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي إنه عالم بمصالح العباد، والتفاوتُ في الأرزاق ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية المصالح فهو تعالى يعمل من مصالحهم ما يخفى عليهم {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} أي لا تُقدموا على قتل أولادكم مخافة الفقر {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} أي رزقُهم علينا لا عليكم فنحن نرزقهم ونرزقكم فلا تخافوا الفقر بسببهم {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} أي قتلُهم ذنبٌ عظيم وجرمٌ خطير قال المفسرون: كان أهل الجاهلية يئدون البنات مخافة الفقر أو العار فنهاهم الله عن ذلك وضمن أرزاقهم {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} أي لا تدنوا من الزنى وهو أبلغ من «لا تزنوا» لأنه يفيد النهي عن مقدمات الزنى كاللَّمس، والقُبلة، والنظرة، والغمز وغير ذلك مما يجرُّ إلى الزنى فالنهي عن القرب أبلغ من النهي عن الفعل {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أي إن الزنى كان فعلة قبيحة متناهية في القبح {وَسَآءَ سَبِيلاً} أي ساء طريقاً موصلاً إلى جهنم {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} أي لا تقتلوا نفساً حرَّم الله قتلها بغير حقٍ شرعي موجبٍ للقتل كالمرتد، والقاتل عمداً، والزاني المحصن {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} أي ومن قُتل ظلماً بغير حقٍ يوجب قتله فقد جعلنا لوارثه سلطةً على القاتل بالقصاص منه، أو أخذ الدية، أو العفو {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} أي فلا يتجاوز الحدَّ المشروع بأن يقتل غير القاتل أو يُمثّل به أو يقتل اثنين بواحد كما كان أهل الجاهلية يفعلون، فحسبُه أن الله قد(2/146)
نصره على خصمه فليكن عادلاً في قصاصه {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالطريقة التي هي أحسن وهي حفظه واستثماره {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي حتى يبلغ اليتيم سن الرشد ويحسن التصرف في ماله {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} أي وفّوا بالعهود سواءً كانت مع الله أو مع الناس لأنكم تُسألون عنها يوم القيامة {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ} أي أتموا الكيل إذا كلتم لغيركم من غير تطفيفٍ ولا بَخْس {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} أي زنوا بالميزان العدل السويّ بلا احتيالٍ ولا خديعة {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي وفاء الكيل وإقامة الوزن خيرٌ في الدنيا وأحسن مآلاً في الآخرة {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تتَّبعْ ما لا تعلم ولا يَعْنيك بل تثبَّتْ من كل خبر، قال قتادة: لا تقل رأيتُ ولم تر، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ ولم تعلم، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} أي إن الإنسان يُسأل يوم القيامة عن حواسه: عن سمعه، وبصره، وقلبه وعما اكتسبته جوارحه {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} أي لا تمش في الأرض مختالاً مشية المعجب المتكبر {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} هذا تعليل للنهي عن التكبر والمعنى أنك أيها الإِنسان ضئيل هزيل لا يليق بك التكبر؟ كيف تتكبر على الأرض ولن تجعل فيها خرقاً أو شقاً؟ وكيف تتطاول وتتعظَّمْ على الجبال ولن تبلغها طولاً؟ فأنت أحقر وأضعف من كل واحدٍ من الجماديْن فكيف تتكبر وتتعالى وتختال وأنت أضعف من الأرض والجبال؟ وفي هذا تهكم وتقريع للمتكبرين {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} أي كل ذلك المذكور الذي نهى الله عنه كان عمله قبيحاً ومحرماً عند الله تعالى {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة} أي ذلك الذي تقدم من الآداب والقصص والأحكام بعضُ الذي أوحاه إليك ربك يا محمد من المواعظ البليغة، والحِكَم الفريدة {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} أي لا تشرك مع الله غيره من وثنٍ أو بشر فتلقى في جهنم ملوماً تلوم نفسك ويلومك اللهُ والخلق مطروداً مبعداً من كل خير قال الصاوي: ختم به الأحكام كما ابتدأها إشارةً إلى أن التوحيد مبدأ الأمور ومنتهاها، وهو رأس الأشياء وأساسُها، والأعمالُ بدونه باطلةٌ لا تفيد شيئاً {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً} خطابٌ على وجه التوبيخ للعرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله والمعنى أفخصكم ربكم وأخلصكم بالذكور واختار لنفسه - على زعمكم - البنات؟ كيف يجعل لكم الأعلى من النسل ويختار لنفسه الأدنى! {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} أي إنكم لتقولون قولاً عظيماً في شناعته وبشاعته حيث تنسبون إليه البنات وتجعلون لله ما تكرهون {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ} أي ولقد بيّنا للناس في هذا القرآن العظيم الأمثال والمواعظ، والوعد والوعيد، ليتذكروا بما فيه من الحجج النيِّرة والبراهين الساطعة، فينزجروا عما هم فيه من الشرك والضلال {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} أي وما يزيدهم هذا البيان والتذكير إلا تباعداً عن الحق، وغفلةً عن النظر والاعتبار {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} أي لو فرضنا أن مع الله آلهة أخرى كما يزعم هؤلاء المشركون إذاً لطلبوا طريقاً إلى مغالبة ذي العزة(2/147)
والجلال ليسلبوا ملكه كما يفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} أي تنزَّه تعالى وتقدَّس عما يقول أولئك الظالمون، وتعالى ربنا عما نسبوه إليه من الزور والبهتان تعالياً كبيراً، فإن مثل هذه الفِرية مما يتنزّه عنه مقامه الأسمى قال الشهاب: وذكر العلُوَّ بعد عنوانه ب {ذِي العرش} في أعلى مراتب البلاغة لأنه المناسب للعظمة والجلال {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} أي تسبح له الكائنات، وتنزهه وتقدسه الأرض والسماوات، ومن فيهن من المخلوقات {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي وما من شيء في هذا الوجود إلا ناطق بعظمة الله، شاهد بوحدانيته جلَّ وعلا، السماواتُ تسبّح الله في زرقتها، والحقولُ في خضرتها، والبساتينُ في نضرتها، والأشجار في حفيفها، والمياهُ في خريرها، والطيورُ في تغريدها، والشمسُ في شروقها وغروبها، والسحبُ في إمطارها، والكل شاهد بالوحدانية لله.
وفي كل شيءٍ له آيةٌ ... تدلُّ على أنه واحدُ
{ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أي ولكنْ لا تفهمون تسبيح هذه الأشياء لأنها ليست بلغاتكم {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} أي إنه تعالى حليم بالعباد لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، غفورٌ لمن تاب وأناب، ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً} أي وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدّقون بالآخرة جعلنا بينك وبينهم حجاباً خفياً يحجب عنهم فهم القرآن وإِدراك أسراره وحِكمه {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} أي وجعلنا على قلوب هؤلاء الكفار أغطيةً لئلا يفهموا القرآن {وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} أي صمماً يمنعهم من استماعه {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} أي وإذا وحدَّت الله وأنت تتلو القرآن فرَّ المشركون من ذلك هرباً من استماع التوحيد {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} أي نحن أعلم بالغاية التي يستمعون من أجلها للقرآن وهي الاستهزاء والسخرية قال المفسرون: كان المشركون يجلسون عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مظهرين الاستماع وفي الواقع قاصدين الاستهزاء فنزلت الآية تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتهديداً للمشركين {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى} أي حين يستمعون إلى قراءتك يا محمد ثم يتناجون ويتحدثون بينهم سراً {إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} أي حين يقول أولئك الفجرة ما تتبعون إلا رجلاً سُحر فجُنَّ فاختلط كلامه {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ} أي انظر يا محمد وتعجَّب كيف يقولون تارة عنك إنك(2/148)
ساحر، وتارة إنك شاعر، وتارة إنك مجنون {وقد ضلوا بهذا البهتان والزور {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} أي لا يجدون طريقاً إلى الهدى والحق المبين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - الاستعارة المكنية {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} شبَّه الذل بطائر له جناح وحذف الطائر ورمز له بشيء من لوازمه وهو الجناح على سبيل الاستعارة المكنية.
2 - الاستعارة التمثيلية {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} مثَّل للبخيل بالذي حبست يده عن الإِعطاء وشدت إلى عنقه بحيث لا يقدر على مدها، وشبَّه السرف ببسط الكف بحيث لا تحفظ شيئاً.
3 - اللف والنشر المرتب {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} عاد لفظ {مَلُوماً} إلى البخل ولفظ {مَّحْسُوراً} إلى الإِسراف أي يلومك الناس إن بخلت، وتصبح مقطوعاً إن أسرفت.
4 - الطباق بين {يَبْسُطُ ... وَيَقْدِرُ} .
5 - جناس الاشتقاق {قَرَأْتَ القرآن} .
6 - التوبيخ {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين} ؟
7 - الفرض والتقدير {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} .
لطيفَة: نقف هنا أمام مثلٍ من دقائق التعبير القرآني العجيبة ففي هذه السورة قدَّم تعالى رزق الأبناء على رزق الآباء {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} وفي سورة الأنعام قدَّم رزق الآباء {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] والسرُّ في ذلك أن قتل الأولاد هنا كان خشية وقوع الفقر بسببهم فقدَّم تعالى رزق الأولاد، وفي الأنعام كان قتلهم بسبب فقر الآباء فعلاً فقدم رزق الآباء، فلله در التنزيل ما أروع أسراره}(2/149)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى موقف المشركين من القرآن العظيم، وذكر تعاميهم عن فهم آياته البينات، أردفه بذكر شبهاتهم في إنكار البعث والنشور وكرَّ عليها بالإبطال والتفنيد، ثم ذكر قصة آدم وإبليس للعظة والاعتبار، وأعقبها بذكر نعمه العظيمة على العباد ثم بالوعيد والتهديد إن أصرُّوا على الكفر والجحود.
اللغَة: {رُفَاتاً} الرُّفات: ما تكسِّر وبَلِيَ من كل شيء كالفُتات والحُطام والرُّضاض {يُنْغِضُونَ} قال الفراء: يقال أنغض فلانٌ رأسه إذا حرّكه إلى فوق وأسفل كالمتعجب من الشيء قال الراجز: «أَنْغَض نحوي رأسه وأقنعا» {يَنزَغُ} يفسد ويهيِّج الشر والنزغُ: الإفسادُ والإغراء {لأَحْتَنِكَنَّ} الاحتناك الأخذ بالكليَّةِ والاستئصال يقال: احتنك الجرادُ الزرعَ إذا ذهب به كلَّه {استفزز} اخدعْ واستخفَّ يقال: أفزَّه الخوف واستفزّه إذا أزعجه واستخفَّه {وَأَجْلِبْ} أصل الإِجلاب السوقُ بجلبَةٍ من السائق وهو الصياح، والجَلَب والجَلَبَةُ الأصوات {وَرَجِلِكَ} الرَّجِلُ جمع راجل وهو الذي يمشي على قدميه {يُزْجِي} يسوق {حَاصِباً} الحاصب والحصباء هي الحَصَى الصغار {قَاصِفاً} القاصف ما يقصف الشيء أي يكسره والريح الشديدة التي تكسر بشدة من قصف الشيء يقصفه أي كسره بشدة، ورعد قاصف شديد الصوت {تَبِيعاً} طالباً يقال تابع وتبيع وهو النصير والمطالب.
سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس «أن أهل مكة سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يُنحِّيَ عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: أن شئتَ أن تستأني بهم لعلنا نجتبي منهم، وإن شئتَ(2/150)
نعطيهم الذي سألوا فإن كفروا أُهلكوا، فقال: لا بل أستأني بهم» فنزلت {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ... } الآية.
ب - لما ذكر تعالى شجرة الزقوم في القرآن قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمداً يخوّفكم بشجرة الزقوم، ألستم تعلمون أن النار تُحرق الشجر؟ ومحمد يزعم أن النار تُنْبِت الشجر، فهل تدرون ما الزقوم؟ هو التمر والزُّبد، يا جارية ابغينا تمراً وزُبداً، فجاءته به فقال: تزقّموا من هذا الذي يخوّفم به محمد فأنزل الله تعالى {والشجرة الملعونة فِي القرآن وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} .
التفسِير: {وقالوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} استفهام تعجب وإنكار أي قال المشركون المكذبون بالبعث أئذا أصبحنا عظاماً نخرة، وذرات متفتتة كالتراب {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي هل سنُبعث ونُخْلق خلقاً جديداً بعد أن نبلى ونفنى؟ {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} أي قل لهم يا محمد لو كنتم حجارةً أو حديداً لقدر الله على بعثكم وإحيائكم فضلاً عن أن تكونوا عظاماً ورفاتاً فإن الله لا يعجزه شيء، فالحجارة والحديد أبعد عن الحياة وهي أصلب الأشياء ولو كانت أجسامكم منها لأعادها الله فكيف لا يقدر على إعادتكم إذا كنتم عظاماً ورفاتاً؟ {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} أي أو كونوا خلقاً آخر أوغل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يصعب في نفوسكم تصوُّرُ الحياة فيه فسيبعثكم الله قال مجاهد: المعنى كونوا ما شئتم فستعادون {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} ؟ أي من الذي يردنا إلى الحياة بعد فنائنا {قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قل لهم يعيدكم القادر العظيم الذي خلقكم وأنشأكم من العدم أول مرة {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ متى هُوَ} ؟ أي يحركون رءوسهم متعجبين مستهزئين ويقولون استنكاراً واستبعاداً متى يكون البعث والإعادة؟ {قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً} أي لعله يكون قريباً فإن كلَّ ما هو آتٍ قريب {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي سيكون بعثكم يوم الحشر الأكبر يوم يدعوكم الرب جل وعلا للاجتماع في المحشر فتجيبون لأمره، وتظنون لهوْل ما ترون أنكم ما أقمتم في الدنيا إلا زمناً قليلا {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ} أي قل لعبادي المؤمنين يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلمة الطيبة ويختاروا من الكلام ألطفه وأحسنه وينطقوا دائماً بالحسنى {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} أي إن الشيطان يُفسد ويُهيج بين الناس الشرَّ ويُشعل نار الفتنة بالكلمة الخشنة يُفلت بها اللسان {إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} أي ظاهر العداوة للإِنسان من قديم الزمان يتلمس سقَطَات لسانه ليُحدْث العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} أي ربكم أيها الناس أعلم بدخائل نفوسكم إن يشأ يرحمكم بالتوفيق للإِيمان، وإن يشأ يعذبكم بالإِماتة على الكفر والعصيان {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أي وما جعلناك يا محمد حفيظاً على أعمال الكفار كفيلاً عنهم لتقسرهم على الإِيمان إنما أرسلناك نذيراً فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض} إنتقالٌ من الخصوص إلى العموم أي ربك(2/151)
جلَّ وعلا أعلمُ بعباده بأحوالهم ومقاديرهم فيخص بالنبوة من شاء من خلقه، وهو أعلم بالسعداء والأشقياء، والآية ردٌّ على المشركين حيث استبعدوا النبوة على رسول الله وقالوا: كيف يكون يتيم أبي طالب نبياً؟ وكيف يكون هؤلاء الفقراء الضعفاء أصحابه دون الأكابر والرؤساء؟ {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} أي فضلنا بعض الأنبياء على بعض حسب علمنا وحكمتنا وخصصناهم بمزايا فريدة، فاصطفينا إبراهيم بالخُلَّة، وموسى بالتكليم، وسليمان بالمُلْك العظيم، ومحمداً بالإِسراء والمعراج وجعلناه سيّد الأولين والآخرين، وكلُّ ذلك فعل الحكيم العليم الذي لا يصدر شيءٌ إلا عن حكمته {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} أي وأنزلنا الزبور على داود المشتمل على الحكمةِ وفصلِ الخطاب {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين أدعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه تعالى قال الحسن: يعني الملائكة وعيسى وعزيراً فقد كانوا يقولون إنهم يشفعون لنا عند الله {فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} أي فلا يستطيعون رفع البلاء عنكم ولا تحويله إلى غيركم {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم من دون الله هم أنفسهم يبتغون القرب إلى الله، ويتوسلون إليه بالطاعة والعبادة، فكيف تعبدونهم معه؟ {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} أي يرجون بعبادتهم رحمته تعالى ويخافون عقابه ويتسابقون إلى رضاه {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} أي عذابه تعالى شديد ينبغي أن يُحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً} أي ما من قريةٍ من القرى الكافرة التي عصتْ أمر الله وكذَّبتْ رسله إلا وسيهلكها الله إما بالاستئصال الكلي أو بالعذاب الشديد لأهلها {كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً} أي كان ذلك حكماً مسطراً في اللوح المحفوظ لا يتغيَّر {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} قال المفسرون: اقترح المشركون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معجزاتٍ عظيمة منها أن يقلب لهم الصفا ذهباً، وأن يزيح عنهم الجبال فأخبره تعالى أنه إن أجابهم إلى ما طلبوا ثم لم يؤمنوا استحقوا عذاب الاستئصال، وقد اقتضَت حكمته تعالى إمهالهم لأنه علم أنَّ منهم من يؤمن وأن من أولادهم من يؤمن فلهذا السبب ما أجابهم إلى ما طلبوا أو المعنى ما منعنا من إرسال المعجزات والخوارق التي اقترحها قومك إلاّ تكذيبُ مَنْ سبقهم من الأمم حيث اقترحوا ثم كذبوا فأهلكهم الله ودمَّرهم {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} أي وأعطينا قوم صالح الناقة آيةً بينة ومعجزةً ساطعة واضحة فكفروا بها وجحدوا بعد أن سألوها فأهلكهم الله {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً} أي وما نرسل بالآيات الكونية كالزلازل والرعد والخسوف والكسوف إلا تخويفاً للعباد من المعاصي قال قتادة: إن الله تعالى يخوّف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويرجعون {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} أي واذكر يا محمد حين أخبرناك أن الله أحاط بالناس علماً في الماضي والحاضر والمستقبل فهو تعالى لا يخفى عليه شيءٌ من أحوالهم وقد علم أنهم لن يؤمنوا ولو جئتهم بما طلبوا من الآيات والمعجزات {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} أي وما جعلنا الرؤية التي أريناكها عياناً(2/152)
ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء إلا امتحاناً وابتلاءً لأهل مكة حيث كذبوا وكفروا وارتد بعض الناس لما أخبرهم بها قال البخاري عن ابن عباس: هي رؤيا عينٍ أُريها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلةَ أُسريَ به وليست برؤيا منام {والشجرة الملعونة فِي القرآن} أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن وهي شجرة الزقوم إلا فتنةً أيضاً للناس قال ابن كثير: لما أخبرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه رأى الجنة والنار ورأى شجرة الزقوم كذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكماً: هاتوا لنا تمراً وزُبْداً وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول: تزقّموا فلا نعلم الزقوم غير هذا {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} أي ونخوّف هؤلاء المشركين بأنواع العذاب والآيات الزاجرة فما يزيدهم تخويفنا إلا تمادياً وغياً واستمراراً على الكفر والضلال، فماذا تنفع معهم الخوارق؟ ما زادتهم خارقة الإِسراء والمعراج، ولا خارقة التخويف بشجرة الزقوم إلا استهزاءً وإمعاناً في الضلال، ثم أَشار تعالى إلى أن هذا الطغيان سببه إغواء الشيطان ولهذا ذكر قصته عقب ذلك فقال {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ} أي أذكر يا محمد حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتكريم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى افتخاراً على آدم واحتقاراً له {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} استفهامٌ إنكاري أي أأسجد أنا العظيم الكبير لهذا الضعيف الحقير الذي خلقته من الطين؟ كيف يصح للعالي أن يسجد للداني؟ {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أي قال إبليس اللعين جراءةً على الربّ وكفراً به: أتُرى هذا المخلوق الذي فضَّلته عليَّ وجعلتَه أكرَم مني عندك؟ {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} أي لئن أنظرتني وأبقيتني حياً إلى يوم القيامة لأستأصلنَّ ذريته بالإِغواء والإضلال قال الطبري: أقسم عدوُّ الله فقال لربه: لئن أخرتَ إهلاكي إلى يوم القيامة لأستأصلنَّهم ولأستميلنَّهم وأضلنَّهم إلا قليلاً منهم {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} أي قال الرب جلَّ وعلا: إذهب فقد أنظرتُك وابذل جهدك فيهم فمن أطاعك من ذرية آدم فإن جزاءك وجزاءهم نارُ جهنم جزاء كاملاً وافراً لا ينقص لكم منه شيء قال القرطبي: والأمر في {اذهب} أمرُ إهانة والمعنى اجهد جهدك فقد أنظرناك {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي استخفف واستجهل وحرِّكْ من أردتَ أن تستفزَّه فتخدعه بدعائك إلى الفساد قال ابن عباس: صوتُه كلُّ داعٍ يدعو إلى معصية الله تعالى وقال مجاهد: صوته الغناء والمزامير واللهو {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي صِحْ عليهم بأعوانك وجنودك من كل راكبٍ وراجل قال الطبري: المعنى اجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من يصيح عليهم بالدعاء إلى طاعتك، والصرفِ عن طاعتي قال ابن عباس: خيلُه ورَجِله كلُّ راكبٍ وماشٍ في معصية الله تعالى وقال الزمخشري: الكلام واردٌ مورد التمثيل، مُثِّلَتْ حالُه في تسلطه على من يُغويه بفارسٍ مغوار أوقع على قومٍ فصوَّت بهم صوتاً يستفزهم عن أماكنهم، ويُقلقهم عن مراكزهم، وأجلبَ عليهم بجنده من خيَّالةٍ ورجَّالة حتى(2/153)
استأصلهم {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد} أي اجعل لنفسك شركة في أموالهم وأولادهم، أما الأموال فبكسبها من الحرام وإنفاقها في المعاصي، وأما الأولاد فبتحسين اختلاط الرجال بالنساء حتى يكثر الفجور ويكثر أولاد الزنى {وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} أي عدْهم بالوعود المغرية الخادعة والأماني الكاذبة، كالوعد بشفاعة الأصنام، والوعد بالغِنى من المال الحرام، والوعد بالعفو والمغفرة وسَعَة رحمة الله، والوعد باللذة والسرور في ارتكاب الموبقات كقول الشاعر:
خذوا بنصيبٍ من سرورٍ ولذةٍ ... فكلٌ وإن طال المدى يتصرَّم
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي إنَّ عبادي المخلصين ليس لك عليهم تسلطٌ بالإِغواء لأنهم في حفظي وأماني {وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي كفى بالله تعالى عاصماً وحافظاً لهم من كيدك وشرك، ثم ذكَّر تعالى العباد بإحسانه ونعمه عليهم وبآثار قدرته ووحدانيته فقال {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك فِي البحر لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي ربكم أيها الناس هو الذي يُسيّر لكم السفن في البحر لتطلبوا من رزقه في أسفاركم وتجاراتكم {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} أي هو تعالى رحيم بالعباد ولهذا سهَّل لهم أسباب ذلك {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} أي وإذا أصابتكم الشدة والكرب في البحر وخشيتم من الغَرَق ذهب عن خاطركم من كنتم تعبدونه من الآلهة ولم تجدوا غير الله مغيثاً يغيثكم، فالإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والوثن، والمَلك والفَلَك وإنما يتضرع إلى الله تعالى {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ} أي فلما نجاكم من الغرق وأخرجكم إلى البَرِّ أعرضتم عن الإِيمان والإِخلاص {وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} أي ومن طبيعة الإِنسان جحود نعم الرحمن، ثم خوَّفهم تعالى بقدرته العظيمة فقال {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر} أي أفأمنتم أيها الناس حين نجوتم من الغرق في البحر أن يخسف الله بكم الأرض فيخيفكم في باطنها؟ إنكم في قبضة الله في كل لحظة فكيف تأمنون بطش الله وانتقامه بزلزالٍ أو رجفةٍ أو بركان؟ {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} أي يمطركم بحجارة من السماء تقتلكم كما فعل بقوم لوط {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أي لا تجدوا من يقوم بأموركم {أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى} أي يعيدكم في البحر مرةً أخرى {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الريح} أي يرسل عليكم وأنتم في البحر ريحاً شديدة مدمِّرة، لا تَمرُّ بشيءٍ إلا كسرته ودمَّرته {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} أي يغرقكم بسبب كفركم {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} أي لا تجدوا من يأخذ لكم بالثأر منا أو يطالبنا بتبعة إغراقكم.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - الاستفهام الإِنكاري {أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً} وتكرير الهمزة في {أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لتأكيد النكير وكذلك تأكيده بإنَّ واللام للإِشارة إلى قوة الإِنكار.(2/154)
2 - التعجيز والإِهانة في الأمر {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} .
3 - الطباق بين {يَرْحَمْكُمْ ... يُعَذِّبْكُمْ} وبين لفظ {البر ... البحر} .
4 - الإيجاز بالحذف {وَلاَ تَحْوِيلاً} أي ولا تحويل الضر عنكم حُذف لدلالة ما سبق.
5 - المقابلة اللطيفة بين الجملتين {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} ، {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} .
6 - الإِسناد المجازي {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات} المنع محالٌ في حقه تعالى لأن الله لا يمنعه عن إرادته شيء فالمنع مجاز عن الترك أي ما كان سبب ترك إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين.
7 - المجاز العقلي {الناقة مُبْصِرَةً} لما كانت الناقة سبباً في إبصار الحق والهدى نسب إليها الإِبصار ففيه مجاز عقلي علاقته السببية.
8 - الاستعارة التمثيلية {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} مُثِّلَتْ حال الشيطان في تسلطه على من يغويه بالفارس الذي يصيح بجنده للهجوم على الأعداء لاستئصالهم.
9 - التذييل {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} لأنه كالتعليل لما سبق من تسيير السفن وتسخيرها في البحر.
تنبيه: الغالب في لفظ {الرؤيا} أن تكون منامية وإذا كانت بالعين يقال {رؤية} بالتاء، وقوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} جاءت على غير الغالب لأن المراد بها الرؤية البصرية التي رآها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الإِسراء والمعراج وقد تقدم قول ابن عباس: «هي رؤيا عين أُريها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة أُسري به» ولو كانت رؤيا منام لما كانت فتنةً للناس ولما ارتد بعضهم عن الإسلام.(2/155)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما امتنَّ به على الناس من تسيير السفن في البحر، ومن تنجيتهم من الغرق، تمّم ذكر المنَّة بما أنعم به على النوع الإِنساني من تكرمتهم، ورزقهم، وتفضيلهم على سائر المخلوقات، ثم ذكر أحوال الناس ودرجاتهم في الآخرة، ثم حذَّر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اتباع أهواء المشركين.
اللغَة: {بِإِمَامِهِمْ} الإِمام في اللغة: كل من يأتم به غيره سواء كان على هدى أو ضلال ويطلق الإِمام على كتاب الأعمال لأن الإِنسان يكون تابعاً لكتاب أعماله يقوده إلى الجنة أو النار {فَتِيلاً} الفتيل: القشرة التي في شق النواة ويضرب مثلاً للشيء الحقير التافه ومثله القطمير والنقير {تَرْكَنُ} تميل {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} الاستفزاز: الإِزعاج بسبب من الأسباب للحمل على الخروج من الوطن وغيره {تَحْوِيلاً} تغييراً وتبديلاً {لِدُلُوكِ} الدلوك: الغروب يقال دلكت الشمس أي غابت قال أبو عبيد وابن قتيبة: الدلوك الغروب وأنشد لذي الرمة:
مصابيحُ ليستْ باللواتي تقودها ... نجومٌ ولا بالآفلات الدَّوَالكِ
وقال الأزهري: أصل الدلوك الميل يقال: مالت الشمس للزوال، ومالت للغروب {غَسَقِ} غسَقُ الليل: سواده وظلمته يقال: غسق الليل إذا اشتدت ظلمته {فَتَهَجَّدْ} التهجد: صلاة الليل بعد الاستيقاظ من النوم، والهجودُ: النوم، قال الشاعر:
أَلاَ طَرَقَتْنَا والرِّفَاقُ هُجُود ... فباتَتْ بعَلاَّتِ النَّوَال تَجُود
{زَهَقَ} زال وبطل {نَأَى} تباعد والنأي: البُعد {ظَهِيراً} مُعيناً ونَصيراً.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل! فقالوا: سلوه عن الروح فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي ... } الآية.
التفسِير: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ} أي لقد شرفنا ذرية آدم على جميع المخلوقات بالعقل، والعلم، والنطق، وتسخير جميع ما في الكون لهم {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر} أي وحملناهم على(2/156)
ظهور الدواب والسفن {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} أي من لذيذ المطاعم والمشارب قال مقاتل: السمن والعسل والزبد والتمر والحلوى وجعلنا رزق الحيوان التبن والعظام وغيرها {وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أي وفضلناهم على جميع من خلقنا من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات من الجن والبهائم والدواب والوحش والطير وغير ذلك {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي اذكر يوم الحشر حين ننادي كل إنسان بكتاب عمله ليسلَّم له وينال جزاءه، والإِمام الكتاب الذي سجل فيه عمل الإِنسان ويقوّيه {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12] قال ابن عباس: الإِمام ما عُمل وأُملي فكتب عليه، فمن بُعث متقياً لله جُعل كتابُه بيمينه فقرأه واستبشر {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أي فمن أُعطي كتاب عمله بيمينه وهم السعداء أولو البصائر والنُّهى المتقون لله {فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ} أي يقرءون حسناتهم بفرح واستبشار لأنهم أخذوا كتبهم بأيمانهم {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي ولا يُنقصون من أجور أعمالهم شيئاً ولو كان بمقدار الفتيل وهو الخيط الذي في شق النواة {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى} أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب، لا يهتدي إلى الحق ولا إلى الخير {فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي فهو في الآخرة أشدُّ عمىً وأشدُّ ضلالاً عن طريق السعادة والنجاة قال قتادة: من كان في هذه الدنيا أعمى عمًّا عايَنَ من نعم الله وخلقه وعجائبه، فهو فيما يغيب عنه من أمر الآخرة أشد عمى وأضلُّ طريقاً {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أي وإن كان الحال والشأن أن المشركين قاربوا أن يصرفوك عن الذي أوحيناه إليك يا محمد من بعض الأوامر والنواهي {لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} أي لتأتي بغير ما أوحاه إليك وتخالف تعاليمه {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك صاحباً وصديقاً قال المفسرون: حاول المشركون محاولات كثيرة ليثنوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المضي في دعوته منها: مساومتهم له أن يعبدوا إلهه مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها مساومة بعضهم أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرَّمه الله، ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء، فعصمه الله من شرّهم وأخبر أنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} أي لولا أن ثبتاك على الحق بعصمتنا إياك {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} أي كدت تميل إليهم وتسايرهم على ما طلبوا {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} أي لو ركَنْتَ إليهم لضاعفنا لك عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، لأن الذنب من العظيم جرمٌ كبير يستحق مضاعفة العذاب، والغرضُ من الآية بيانُ فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة، ولو تخلى عن عصمته لمال إليهم بعض الشيء و {لَوْلاَ} حرف امتناع لوجود أي امتنع الركون إليهم لعصمته تعالى وتثبيته له، فليس في الآية ما يُنقص من قدر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما هي بيان لفضل الله العظيم على(2/157)
نبيه الكريم {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} أي لا تجد من ينصرك منا أو يدفع عنك عذابنا {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا} أي وإن كاد المشركون بمكرهم وإزعاجهم أن يخرجوك يا محمد من أرض مكة {وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي لو أخرجوك لم يلبثوا بعد خروجك إلا زمناً يسيراً وفق سنة الله التي لا تتبدل مع الذين يخرجون رسلهم من أوطانهم قال قتادة: همَّ أهلُ مكة بإخراج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا ولكنَّ الله تعالى منعهم من إخراجه حتى أمره بالخروج {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} أي هذه عادة الله مع رسله في إهلاك كل أمةٍ أَخرجتْ رسولَها من بين أظهرهم {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} أي لن تجد لها تبديلاً أو تغييراً {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل} أي حافظ يا محمد على الصلاة في أوقاتها من وقت زوال الشمس عند الظهيرة إلى وقت ظلمة الليل {وَقُرْآنَ الفجر} أي وأقم صلاة الفجر، وإنما عبَّر عنها بقرآن الفجر لأنه تطلب إطالة القراءة فيها {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} أي تشهده ملائكة الليل والنهار كما في الحديث
«يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر، وصلاة الفجر ... .» الحديث، قال المفسرون: في الآية الكريمة إشارة إلى الصلوات المفروضة، فدلوكُ الشمس زوالُها وهو إشارة إلى الظهر والعصر، وغَسَقُ الليل ظلمتُه وهو إشارة إلى المغرب والعشاء، وقرآن الفجر صلاة الفجر، فالآية رمزٌ إلى الصلوات الخمس {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} أي وقم من الليل بعد النوم متهجداً بالقرآن فضيلةً وتطوعاً لك {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} أي لعلَّ ربك يا محمد يقيمك يوم القيامة مقاماً محموداً يحمدك فيه الأولون والآخرون وهو مقام «الشفاعة العظمى» قال المفسرون: {عسى} في كلام الله للتحقيق لأنه وعد كريم وهو لا يتخلف ولهذا قال ابن عباس: عسى من الله واجبة أي تفيد القطع {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} أي قل يا رب أدخلني قبري مُدْخل صدق أي إدخالاً حسناً {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} أي أخرجني من قبري عند البعث إخراجاً حسناً هذا قول ابن عباس، وقال الحسن والضحاك: المراد دخوله المدينة المنورة، وخروجه من مكة المكرمة وذلك حين أخرجه المشركون بعد أن تآمروا على قتله صلوات الله وسلامه عليه {واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} أي اجعل لي من عندك قوةً ومَنَعة تنصرني بها على أعدائك وتُعزُّ بها دينك، وقد استجاب الله دعاءه فنصره على الأعداء، وأعلا دينه على سائر الأديان {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل} أي سطع نور الحق وضياؤه وهو الإسلام، وزهق الباطل وأنصاره وهو الكفر وعبادةُ الأصنام، فلا شرك ولا وثنية بعد إشراق نور الإِيمان {إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} أي إن الباطل لا بقاء له ولا ثبوت لأنه يضمحل ويتلاشى، وإن كانت له صولةٌ وجولة فسرعان ما تزول كشعلة الهشيم ترتفع عالياً ثم تخبو سريعاً، روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما دخل مكة عام الفتح كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول: {جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} فما بقي(2/158)
منها صنمٌ إلا خرَّ لوجهه ثم أمر بها فكسرت» {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي وننزّل من آيات القرآن العظيم ما يشفي القلوب من أمراض الجهل والضلال، ويُذهب صدأ النفس من الهوى والدَّنس، والشُّح والحسد، وما هو رحمة للمؤمنين بما فيه من الإِيمان والحكمة والخير المبين {وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} أي ولا يزيد هذا القرآن الكافرين به عند سماعه إلا هلاكاً ودماراً لأنهم لا يصدقون به فيزدادون كفراً وضلالاً {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي وإذا أنعمنا على الإِنسان بأنواع النعم من صحةٍ، وآمنٍ، وغنىً أعرض عن طاعة الله وعبادته، وابتعد عن ربه غروراً وكِبْراً {وَإِذَا مَسَّهُ الشر كَانَ يَئُوساً} أي وإذا أصابته الشدائد والمصائب أصبح يائساً قانطاً من رحمة الله، والآية تمثيلٌ لطغيان الإنسان فإن أصابته النعم بطر وتكبَّر، وإن أصابته الشدة أيس وقنط كقوله
{إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} [المعارج: 19 - 21] {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} أي كل واحدٍ يعمل على نهجه وطريقته في الهدى والضلال، فإن كانت نفس الإِنسان مشرقةً صافية صدرت عنه أفعال كريمة فاضلة، وإن كانت نفسه فاجرةً كافرة صدرت عنه أفعال سيئةٌ شرّيرة {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} أي ربكم أعلم بمن اهتدى إلى طريق الصواب وبمن ضلَّ عنه وسيجزي كل عاملٍ بعمله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي يسألك يا محمد الكفار عن الروح ما هي؟ وما حقيقتها؟ فقل لهم إنها من الأسرار الخفية التي لا يعلمها إلا ربُّ البرية {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً} أي وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا شيئاً قليلاً لأن علمكم قليل بالنظر إلى علم الله {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي لو أردنا لمحونا هذا القرآن الذي هو مِنَّةُ الرحمن من صدرك يا محمد فإن ذلك في قدرتنا {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} أي لا تجد من يتوكل علينا باسترداده، وردّه إليك بعد ذهابه {إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي لكنْ رحمةً من ربك تركناه محفوظاً في صدرك وصدر أصحابك {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} أي فضل الله عليك عظيم حيث أنزل عليك القرآن، وأعطاك المقام المحمود، وجعلك خاتم المرسلين وسيد الأولين والآخرين، والمقصود بالآية الامتنان على الرسول بالقرآن والتحذير له عن التفريط فيه، والخطاب له عليه السلام والمراد أمته {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} أي لو اتفق واجتمع أرباب الفصاحة والبيان من الإنس والجان وأرادوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن لما أطاقوا ذلك ولو تعاونوا وتساعدوا على ذلك جميعاً فإن هذا أمر لا يستطاع وليس بمقدور أحد {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} أي بيَّنا لهم الحجج والبراهين القاطعة، ووضحنا لهم بالحقَّ بالآياتِ والعِبَر، والترغيب والترهيب {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} أي ومع البراهين القائمة والحجج الواضحة أبى أكثر الناس إلا جحوداً للحق وتكذيباً لله ورسوله.
البَلاَغة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - الاستعارة {كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} الإِمام الذي يتقدم الناس في الصلاة وقد استعير هنا لكتاب الأعمال لأنه يرافق الإِنسان ويتقدمه يوم القيامة.(2/159)
2 - الاستعارة التمثيلية {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} يضرب مثلاً للقلة أي لا ينقصون من ثواب أجورهما ولا بمقدار الخيط الذي في شق النواة.
3 - الطباق {ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} .
4 - المجاز المرسل {وَقُرْآنَ الفجر} أطلق الجزء على الكل أي قراءة الفجر والمراد بها الصلاة لأن القراءة جزء منها فالعلاقة الجزئية.
5 - الإِظهار في مقام الإِضمار لمزيد الاهتمام والعناية {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} بعد قوله {وَقُرْآنَ الفجر} .
6 - التفصيل بعد الإِجمال {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ... وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى} بعد ذكر كتاب الأعمال.
7 - المقابلة اللطيفة بين {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} وبين {جَآءَ الحق} {وَزَهَقَ الباطل} .
8 - إسناد الخير إلى الله والشر لغيره {أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان ... . وَإِذَا مَسَّهُ الشر} لتعليم الأدب مع الله تعالى.
لطيفَة: ذكر أن عالماً ممن ينكر المجاز والاستعارة في القرآن الكريم جاء إلى شيخٍ فاضل عالم منكراً عليه دعوى المجاز - وكان ذلك السائل المنكر أعمى - فقال له الشيخ ما تقول في قوله تعالى {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} هل المراد بالعمى الحقيقة وهو عمى البصر، أم المراد به المجاز وهو عمى البصيرة؟ فبهت السائل وانقطعت حجته.(2/160)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى القرآن وما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة على صدق النبي الأمي، وتحداهم فظهر عجزهم بوضوح إعجازه، ذكر هنا نماذج عن تعنت الكفار وضلالهم باقتراح خوارق مادية غير القرآن العظيم، ثم ذكر قصة موسى وتكذيب فرعون له مع كثرة الخوارق والمعجزات التي ظهرت على يديه تسليةً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن تكذيب المشركين، ثم ختم السورة الكريمة بدلائل القدرة والوحدانية.
اللغَة: {كِسَفاً} قِطَعاً جمع كِسْفَة كدمنة ودِمَن يقال: كسْفتُ الثوبَ أكسِفُه كِسَفاً إذا قطعته قطعاً قال الفراء: سمعت أعرابياً يقول للبزَّاز أعطني كِسْفةً يريد قطعة {قَبِيلاً} معاينةً {ترقى} تصعد {خَبَتْ} خبت النار: سكنَ لهبها، وخمدتْ: سكن جمرها، وهَمَدت: طفئت جملة {قَتُوراً} بخيلاً {مَثْبُوراً} الثبور: الهلاك يقال: ثَبَر اللهُ العدوَّ أهلكه {لَفِيفاً} اللفيف: الجمع من القوم من أخلاطٍ شتى قال الجوهري: اللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتّى يقال: جاء القوم بلَفِّهم ولفيفهم {مُكْثٍ} المُكْث: التطاول في المدة يقال مكَثَ إذا أَطال الإِقامة {تُخَافِتْ} خافت في الكلام أَسَرَّه بحيث لا يكاد يسمع أحد {الأَذْقَانِ} جمع ذّقَن وهو مجتمع اللَّحْيَين قال الشاعر:
فخرّوا لأذقانِ الوجوه تنوشُهم ... سباعٌ من الطير العوادي وتنتف
سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس «أن رؤساء قريش اجتمعوا عند الكعبة فقالوا: ابعثوا إلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه إنَّ أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك فجاءهم سريعاً - وكان حريصاً على رُشدهم - فقالوا يا محمد: إنّا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخلَ على قومه ما أدخلتَ على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبتَ الدين، وسفَّهتَ الأحلام، وفرَّقت الجماعة، فإن كنتَ إنما جئت بهذا لتطلب مالاً جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشَّرَف فينا سوَّدناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيا - أي تابعاً من الجنّ - بذلنا أموالنا في طلب(2/161)
الطِبِّ حتى نبرئك منه أو نُعذَر فيك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا المُلك عليكم، ولكنَّ الله بعثني إليكم رسولاً فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، فقالوا يا محمد إن كنت غير قابلٍ منا ما عرضنا فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيقَ بلاداً، ولا أشدَّ عيشاً منا، فسل ربك يُسيّر لنا هذه الجبال، ويجري لنا أنهاراً، ويبعث من مضى من آبائنا حتى نسألهم أحقٌّ ما تقول؟ وسلْه أن يجعل لك جناناً وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عنا فأنزل الله {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً ... } »
الآية.
التفسِير: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} لما تبيّن إعجاز القرآن ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعلَّلون باقتراح الآيات والخوارق والمعنى قال المشركون لن نصدِّقك يا محمد حتى تشقّق لنا من أرض مكة عيناً غزيرة {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} أي يكون لك بستانٌ فيه أنواع النخيل والأعناب {فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً} أي تجعل الأنهار تتفجّر فيها وتسير وسطها بقوةٍ وغزارة {أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} هذا هو الاقتراح الثالث أي تجعل السماء تتساقط علينا قِطَعاً كما كنتَ تخوّفنا وتزعم أن الله سيعذبنا إن لم نؤمن بك قال المفسرون: أشاروا إلى قوله تعالى: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء} [سبأ: 9] {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} أي تُحضر لنا اللهَ وملائكته مقابلةً وعياناً فنراهم {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} أي يكون لك قصرٌ مشيَّد عظيم من ذهبٍ لا من حجر أو طين {أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} هذا هو الاقتراح السادس والأخير، وكلُّها تدل على سفهٍ وجهلٍ كبير، بسنة الله في خلقه وبحكمته وجلاله أي أو تصعد يا محمد إلى السماء بِسُلَّم ولن نصدّقك لمجرد صعودك حتى تعود ومعك كتاب من الله تعالى منشور أنك عبده ورسولُه نقرؤه بأنفسنا {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} أي قل لهم يا محمد تعجباً من فرط كفرهم وعنادهم: سبحانَ الله هل أنا إله حتى تطلبوا مني أمثال هذه المقترحات؟ ما أنا إلا رسولٌ من البشر بعثني الله إِليكم فلم هذا الجحود والعناد؟! {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} ؟ أي إن السبب الذي منع المشركين من الإِيمان بعد وضوح المعجزات هو استبعاد أن يبعث الله رسولاً إلى الخلق من البشر، فلماذا يكون بشراً ولا يكون ملكاً؟ وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} أي قل لهم يا محمد: لو كان أهل الأرض ملائكة يمشون على أقدامهم كما يمشي الناس ساكنين في الأرض مستقرين فيها {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} أي لنزلنا عليهم رسولاً من الملائكة ولكنَّ أهل الأرض بشرٌ(2/162)
فالرسول إليهم بشرٌ من جنسهم، إذْ جرت حكمة الله أن يرسل إلى كل قومٍ رسولاً من جنسهم ليمكنهم الفهم عنه ومخاطبته، وهذا تسفيهٌ وتجهيل لمنطق المشركين {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي كفى اللهُ شاهداً على صدقي {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي هو تعالى العالم بأحوال العباد وسيجازيهم عليها {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} أي من يهده الله إلى الحق فهو السعيد الرشيد {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ} أي ومن يضلله الله عن الحق بسبب سوء اختياره فلن تجد لهم أنصاراً يعصمونهم من عذاب الله {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ} أي يُسحبون يوم القيامة على وجوههم تجرُّهم الزبانية من أرجلهم إلى جهنم كما يُفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه {عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} أي يُحشرون حال كونهم عمياً وبكماً وصماً يعني فاقدي الحواس لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون ثم يردُّ الله إليهم أسماعهم وأبصارهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم، عن أنس
«قيل يا رسول الله: كيف يُحشر الناسُ على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} أي مستقرهم ومقامهم في جهنم كلما سكن لهبها وخمدت نارها زدناهم ناراً ملتهبة ووهجاً وجمراً {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} أي ذلك العذاب جزاء كفرهم بآيات الله وتكذيبهم بالبعث والنشور وقولهم أئذا أصبحنا عظاماً نخرة، وذرات متفتتة سنُخلق ونبعث مرة ثانية؟ وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي أولم ير هؤلاء المشركون أن الله العظيم الجليل الذي خلق هذا الكون الهائل بسماواته وأرضه قادرٌ على إعادة جسد الإِنسان بعد فنائه؟ فإن القادر على الإحياء قادر على الإِعادة بطريق الأحرى قال في البحر: نبَّههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته بقوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} وهو استفهام إِنكارٍ وتوبيخ على استبعادهم الإِعادة، واحتجاجٌ عليهم بأنهم قد رأوا قدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعضُ ما تحويه البشرُ، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادته {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ} أي جعل لهؤلاء المشركين موعداً محدَّداً لموتهم وبعثهم، لا شك ولا ريب في مجيئه {فأبى الظالمون إِلاَّ كُفُوراً} أي أبى هؤلاء الكافرون الظالمون - مع وضوح الحق وسطوعه - إلا جحوداً وتمادياً في الكفر والضلال {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أي قل يا محمد لهؤلاء المعاندين المكابرين، المقترحين للخوارق والمعجزات: لو كنتم تملكون خزائن رزق الله ونِعَمه التي أفاضها على العباد {إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق} أي إذاً لبخلتم به وامتنعتم عن الإِنفاق خوفاً من نفادها {وَكَانَ الإنسان قَتُوراً} أي وكان الإِنسان شحيحاً مبالغاً في البخل قال ابن عباس {قَتُوراً} أي بخيلاً منوعاً وقال الزمخشري: ولقد بلغ هذا الوصف بالشُّحّ الغاية التي لا يبلغها الوهم. ثم ذكر تعالى أن كثرة(2/163)
الخوارق لا تُنشئ الإِيمان في القلوب الجاحدة، وها هو ذا موسى قد أُوتِي تسع آيات بينات ثم كذَّب بها فرعون وملؤه فحلَّ بهم الهلاك جميعاً {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي والله لقد أعطينا موسى تسع آياتٍ واضحات الدلالة على نبوته وصحة ما جاء به من عند الله وهي «العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، وانفلاق البحر، والسنين» خمسٌ منها في سورة الأعراف
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ} [الأعراف: 133] {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ} أي فاسألْ يا محمد بني إسرائيل عما جرى بين موسى وفرعون فإنهم يعلمونها مما لديهم في التوراة قال الرازي: وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره الرسول فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد {فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} أي إني لأظنك يا موسى قد سُحرت فتخبَّط عقلُك {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ} أي قال له موسى توبيخاً وتبكيتاً: لقد تيقَّنت يا فرعون أن هذه الآيات التسع ما أنزلها إلا رب السماوات والأرض شاهدة على صدقي، تبصِّرُ الناس بقدرة الله وعظمته ولكنك مكابرٌ معاند {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} أي وإني لأعتقدك يا فرعون هالكاً خاسراً {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض} أي أراد فرعون أن يخرج موسى وقومه من أرض مصر {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً} أي فأغرقنا فرعون وجنده أجمعين في البحر {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} أي وقلنا لبني إسرائيل من بعد إغراق فرعون وجنده اسكنوا أرض مصر {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} أي فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر مختلطين فيكم المؤمن والكافر، والبرُّ والفاجر، ثم نفصل بينكم ونميّز السعداء من الأشقياء، ثم عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة قدره فقال {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} أي وأنزلنا هذا القرآن متلبساً بالحقِّ، لا يعتريه شك أو ريب، فيه الحكم والمواعظ والأمثال التي اشتمل عليها القرآن وهكذا أُنزل من عند الله {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} أي وما أرسلناك يا محمد إلا مبشراً بالجنة لمن أطاع، ومنذراً بالنار لمن عصى {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} أي وقرآناً نزّلناه مفرقاً منجماً لتقرأه على الناس على تُؤدةٍ ومهل، ليكون حفظه أسهل، والوقوف على دقائقه أيسر {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} أي نزّلناه شيئاً بعد شيء على حسب الأحوال والمصالح {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا} خطاب للمشركين الذين اقترحوا المعجزات على وجه التهديد والوعيد أي آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا فإن إيمانكم به لا يزيده كمالاً، وتكذيبكم له لا يورثه نقصاً {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} أي العلماء الذين قرءوا الكتب السالفة من صالحي أهل الكتاب إذا سمعوا القرآن تأثروا فخرّوا ساجدين للهِ رب العالمين، والجملة تعليل لما تقدم والمعنى: إن لم تؤمنوا به أنتم فقد آمن به من هو خير منكم وأعلم {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} أي يقولون تنزّه الله عن إخلاف وعده إنه كان وعده كائناً لا محالة {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} أي ويخرُّون لناحية الأذقان ساجدين على وجوههم باكين عند(2/164)
استماع القرآن ويزيدهم تواضعاً لله قال الرازي: والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين وهو خرورهم للسجود وفي حال كونهم باكين عند استماع القرآن {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} أي نادوا ربكم الجليل باسم {الله} أو باسم {الرحمن} {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} أي بأي هذين الإسمين ناديتموه فهو حسن لأن أسماءه جميعها حسنى وهذان منها قال المفسرون: سببها أن الكفار سمعوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو (يا الله، يا رحمن) فقالوا إن كان محمد ليأمرنا بدعاء إله واحدٍ وها هو يدعو إلهين فنزلت الآية مبينة أنهما لمسمَّى واحد {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أي لا تجهر يا محمد بقراءتك في الصلاة فيسمعك المشركون فيسبوا القرآن ومن أنزله ولا تُسرَّ بقراءتك بحيث لا تسمع من خلفك {وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} أي اقصد طريقاً وسطاً بين الجهر والمخافتة قال ابن عباس: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله فنزلت {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} أي الحمد لله الذي تنزَّه عن الولد {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} أي ليس له شريك في ألوهيته {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل} أي ليس بذليل فيحتاج إلى الوليّ والنصير {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} أي عظِّمْ ربك عظمةً تامة بلا ولد ولا شريك، وتنزيهه عن الحاجة إلى الولي والنصير، وهو العلي الكبير.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الاستفهام الإِنكاري {أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} ؟ .
2 - الالتفات من الغيبة إلى التكلم {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة} اهتماماً بأمر الحشر.
3 - الطباق بين {وَمَن يَهْدِ ... وَمَن يُضْلِلْ} وبين {مُبَشِّراً ... وَنَذِيراً} وبين {تَجْهَرْ ... وتُخَافِتْ} .
4 - الجناس الناقص بين {مَسْحُوراً} و {مَثْبُوراً} لتغير بعض الحروف.
5 - المقابلة اللطيفة {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} مقابل قولة فرعون {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} .
6 - السجع الرصين الذي يزيد في جمال الأسلوب مثل {فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً ... مُبَشِّراً وَنَذِيراً} ومثل {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً ... وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} .(2/165)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
اللغَة: {بَاخِعٌ} قاتلٌ ومهلكٌ قال الليث: بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظاً وأصلُ البخع(2/167)
الجهد كما قال الفراء {جُرُزاً} الجُرُز: الأرض التي لا نبات عليها {الكهف} النقب المتسع في الجبل وإذا لم يكن متسعاً فهو غار {والرقيم} اللوح الذي كتبت فيه أسماء أصحاب الكهف {شَطَطاً} الشطط: الجور والغلو وتعدي الحد قال الفراء: اشتط في الأمر جاوز الحد، وشطَّ المنزل بَعُدَ {تَّزَاوَرُ} تتنحَّى وتميل من الأزورار بمعنى الميل قال عنترة «وازْورَّ من وقع القنا بلبانه» {بالوصيد} الفِناء أي فناء الكهف {فَجْوَةٍ} متَّسع من المكان {بِوَرِقِكُمْ} الوَرِق: اسمٌ للفضة سواءً كانت مضروبةً أم لا {أَعْثَرْنَا} أطلعنا {تُمَارِ} تجادل والمراءُ: المجادلة.
التفسِير: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} أي الثناء الكامل مع التعظيم والإِجلال لله الذي أنزل على رسوله محمد القرآن نعمةً عليه وعلى سائر الخلق {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أي لم يجعل فيه شيئاً من العوج لا في ألفاظه ولا في معانيه، وليس فيه أي عيبٍ أو تناقض {قَيِّماً} أي مستقيماً لا اختلاف فيه ولا تناقض قال الطبري: هذا من المُقدَّم والمؤخر أي أنزل الكتاب قيّماً ولم يجعل له عِوَجاً يعني مستقيماً لا اختلاف فيه ولا تفاوت، ولا اعوجاج ولا ميل عن الحق، {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ} أي لينذر بهذا القرآن الكافرين عذاباً شديداً من عنده تعالى {وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} أي ويبشّر المصدقين بالقرآن الذين يعملون الأعمال الصالحة {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} أي أن لهم الجنة وما فيها من النعيم المقيم {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} أي مقيمين في ذلك النعيم الذي لا انتهاء له ولا انقضاء {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} أي ويخوّف أولئك الكافرين الذين نسبوا لله الولد عذابه الأليم قال البيضاوي: خصَّهم بالذكر وكَّرر الإِنذار استعظاماً لكفرهم، وإِنما لم يذكر المُنْذَر به استغناءً بتقدم ذكره {مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي ما لهم بذلك الافتراء الشنيع شيءٌ من العلم أصلاً {وَلاَ لآبَائِهِمْ} أي ولا لأسلافهم الذي قلَّدوهم فتاهوا جميعاً في بيداء الجهالة والضلالة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي عظمت تلك المقالة الشنيعة كلمة قبيحة ما أشنعها وأفظعها؟ خرجت من أفواه أولئك المجرمين، وهي في غاية الفساد والبطلان {إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} أي يقولون إلا كذباً وسفهاً وزوراً {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} أي فلعلك قاتلٌ نفسك يا محمد ومهلكها غمّاً وحزناً على فراقهم وتوليهم وإِعراضهم عن الإِيمان {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} أي إن لم يؤمنوا بهذا القرآن حسرةً وأسفاً عليهم، فما يستحق هؤلاء أن تحزن وتأسف عليهم، والآية تسليةٌ للنبي عليه السلام {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} أي جعلنا ما عليها من زخارف ورياش ومتاع وذهب وفضة وغيرها زينة للأرض كما زينا السماء بالكواكب {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} أي لنختبر الخلق أيهم أطوع لله وأحسن عملاً لآخرته {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} أي سنجعل ما عليها من الزينة والنعيم حطاماً وركاماً حتى تصبح كالأرض الجرداء التي لا نبات فيها ولا حياة بعد أن كانت خضراء بهجة قال القرطبي: الآية وردت لتسلية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى: لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإِنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن ومنهم من يكفر، ثم إن يوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمنَّ عليك كفرُهم فإنا(2/168)
سنجازيهم {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} ؟ بدء قصة أصحاب الكهف، والكهفُ الغار المتسع من الجبل، والرقيمُ اللوح الذي كتب فيه أسماء أصحاب الكهف على المشهور والمعنى: لا تظننَّ يا محمد أن قصة أهل الكهف - على غرابتها - هي أعجبُ آيات الله، ففي صفحات هذا الكون من العجائب والغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف قال مجاهد: أحسبت أنهم كانوا أعجب آياتنا؟ قد كان في آياتنا أعجب منهم {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف} أي اذكر حين التجأ الشبان إلى الغار في الجبل وجعلوه مأواهم {فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي أعطنا من خزائن رحمتك الخاصة مغفرة ورزقاً {وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} أي أصلح لنا أمرنا كلَّه واجعلنا من الراشدين المهتدين {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} أي ألقينا عليهم النوم في الغار سنين عديدة {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} أي ثم أيقظناهم من بعد نومهم الطويل لنرى أيُّ الفريقين أدقُّ إحصاءً للمدة التي ناموها في الكهف؟ قال في التسهيل: والمراد(2/169)
بالحزبين: أصحابُ الكهف، والذين بعثهم الله إليهم حتى رأوهم وقال مجاهد: الحزبان من أصحاب الكهف لما استيقظوا اختلفوا في المدة التي لبثوها في الكهف فقال بعضهم: يوماً أو بعض يوم وقال آخرون: ربكم أعلم بما لبثتم، والقول الأول مروي عن ابن عباس {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق} أي نحن نقص عليك يا محمد خبرهم العجيب على وجه الصدق دون زيادةٍ ولا نقصان {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} أي إنهم جماعة من الشبان آمنوا بالله فثبتناهم على الدين وزدناهم يقيناً {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} أي قوينا عزمهم وألهمناهم الصبر حتى أصبحت قلوبهم ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق معتزةً بالإِيمان {إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض} أي حين قاموا بين يدي الملك الكافر الجبار من غير مبالاة فقالوا ربنا هو خالق السماوات والأرض لا ما تدعونا إليه من عبادة الأوثان والأصنام {لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها} أي لن نشرك معه غيره فهو واحد بلا شريك {لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} أي لئن عبدنا غيره نكون قد تجاوزنا الحقَّ، وحُدنا عن الصواب، وأفرطنا في الظلم والضلال {هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} أي هؤلاء أهل بلدنا عبدوا الأصنام تقليداً من غير حجة {لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أي هلاّ يأتون على عبادتهم لها ببرهان ظاهر، والغرض من التحضيض {لَّوْلاَ} التعجيز كأنهم قالوا إنهم لا يستطيعون أن يأتوا بحجة ظاهرة على عبادتهم للأصنام فهم إذاً كذبة على الله {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله بنسبة الشريك إليه تعالى {وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} أي وإِذْ اعتزلتم أيها الفتية قومكم وما يعبدون من الأوثان غير الله تعالى {فَأْوُوا إِلَى الكهف} أي التجئوا إلى الكهف {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} أي يبسط ربكم ويوسّعْ عليكم رحمته {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} أي يُسهّل عليكم أسباب الرزق وما ترتفقون به من غداء وعشاء في هذا الغار {وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين} أي ترى أيها المخاطب الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم جهة اليمين {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال} أي وإذا غربت تقطعهم وتُبعد عنهم جهة الشمال والغرض أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها ولا عند غروبها كرامةً لهم من الله لئلا تؤذيهم بحرها {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} أي في متَّسع من الكهف وفي وسطه بحيث لا تصيبهم الشمس لا في ابتداء النهار، ولا في آخره {ذلك مِنْ آيَاتِ الله} أي ذلك الصنيع من دلائل قدرة الله الباهرة قال ابن(2/170)
عباس: لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم، ولو أنهم لا يُقلَّبون لأكلتهم الأرض {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} أي من يُوفقه الله للإيمان ويرشده إلى طريق السعادة فهو المهتدي حقاً {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} أي ومن يضلله الله بسوء عمله فلن تجد له من يهديه {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} أي لو رأيتهم أيها الناظر لظننتهم أيقاظاً لتفتح عيونهم وتقلبهم والحال أنهم نيام {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} أي ونقلبهم من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض أجسامهم {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} أي وكلبهم الذي تبعهم باسطٌ يديه بفناء الكهف كأنه يحرسهم {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} أي لو شاهدتهم وهم على تلك الحالة لفررت منهم هارباً رعباً منهم، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة، فرؤيتهم تثير الرعب إذ يراهم الناظر نياماً كالأيقاظ، يتقلبون ولا يستيقظون {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} أي كما أنمناهم كذلك بعثناهم من لنوم وأيقظناهم بعد تلك الرقدة الطويلة التي تشبه الموت ليسأل بعضهم بعضاً عن مدة مكثهم وإقامتهم في الغار {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أي قال أحدهم: كم مكثنا في هذا الكهف؟ فقالوا مكثنا فيه يوماً أو بعض يوم قال المفسرون: إنهم دخلوا في الكهف صباحاً وبعثهم الله في آخر النهار فلما استيقظوا ظنوا أن الشمس قد غربت فقالوا لبثنا يوماً، ثم رأَوها لم تغرب فقالوا أو بعض يوم، وما دروا أنهم ناموا ثلاثمائة وتسع سنين {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي قال بعضهم، الله أعلم بمدة إقامتنا ولا طائل وراء البحث عنها فخذوا بما هو أهم وأنفع لكم فنحن الآن جياع {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} أي فأرسلوا واحداً منكم إلى المدينة بهذه النقود الفضية {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ} أي فليختر لنا أحلَّ وأطيب الطعام فليشتر لنا منه {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} أي وليتلطف في دخول المدينة وشراء الطعام حتى لا يشعر بأمرنا أحد {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} أي إن يظفر يقتلوكم بالحجارة أو يردوكم إلى دينهم الباطل {وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً} أي وإن عدتم إلى دينهم ووافقتموهم على كفرهم فلن تفوزوا بخيرٍ أبداً، وهكذا يتناجى الفتية فيما بينهم خائفين حذرين أن يظهر عليهم الملك الجبار فيقتلهم أو يردهم إلى عبادة الأوثان فيوصون صاحبهم بالتلطف بالدخول والخروج وأخذ الحيطة والحذر {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} أي وكما بعثناهم من نومهم كذلك أطلعنا الناس عليهم ليستدلوا بذلك على صحة البعث ويوقنوا أن القيامة لا شك فيها، فتكون قصة أصحاب الكهف حجة واضحة ودلالة قاطعة على إمكان البعث والنشور فإن القادر على بعث أهل الكهف بعد نومهم ثلاثمائة عام قادر على بعث الخلق بعد مماتهم {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أي حين تنازع القوم في أمر أهل الكهف بعد أن أطلعهم الله عليهم ثم قبض أرواحهم {فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً} أي قال بعض الناس: ابنوا على باب كهفهم بنياناً ليكون علَماً عليهم {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} أي الله أعلم بحالهم وشأنهم {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} أي قال الفريق الآخر وهم الأكثرية الغالبة: لنتخذنَّ على باب الكهف مسجداً نصلي فيه ونعبد الله فيه {سَيَقُولُونَ(2/171)
ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي سيقول هؤلاء القوم الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أهل الكتاب هم ثلاثة رجال يتبعهم كلبهم {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب} أي ويقول البعض: إنهم خمسةٌ سادسهم الكلب قذفاً بالظنِّ من غير يقين ولا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي ويقول البعض إنهم سبعةٌ والثامن هو الكلب {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} أي الله أعلم بحقيقة عددهم {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} أي لا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، كانوا سبعةً إن الله عدَّهم حتى انتهى إلى السبعة قال المفسرون: إن الله تعالى لما ذكر القول الأول والثاني أردفه بقوله {رَجْماً بالغيب} ولما ذكر القول الأخير لم يقدح فيه بشيء فكأنه أقر قائله ثم نبَّه رسوله إلى الأفضل والأكمل وهو ردُّ العلم إلى علام {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} أي فلا تجادل أهل الكتاب في عدتهم إلا جدال متيقنٍ عالم بحقيقة الخبر {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً} أي لا تسأل أحداً عن قصتهم فإنَّ فيما أوحي إليك الكفاية {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} أي لا تقولنَّ لأمر عزمت عليه إني سأفعله غداً إلا إذا قرنته بالمشيئة فقلت إن شاء الله قال ابن كثير: سبب نزول الآية أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما سئل عن قصة أصحاب الكهف قال: (غداً أجيبكم) فتأخر الوحي عنه خمسة عشر يوماً {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أي أذا نسيت أن تقول إن شاء الله ثم تذكرت فقلها لتبقى نفسك مستشعرةً عظمة الله {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} أي لعلَّ الله يوفقني ويرشدني إلى ما هو أصلح من أمر ديني ودنياي {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} أي مكثوا في الكهف نائمين ثلاثمائة وتسع سنين، وهذا بيانٌ لما أُجمل في قوله تعالى {سِنِينَ عَدَداً} {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أي الله أعلم بمدة لبثهم في الكهف على وجه اليقين {لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض} أي هو تعالى المختص بعلم الغيب وقد أخبرك بالخبر القاطع عن أمرهم الحكيمُ الخبير {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أي ما أبصره بكل موجود، وما أسمعه لكل مسموع، يدرك الخفيات كما يدرك الجليات {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ} أي ليس للخلق ناصرٌ ولا معين غيره تعالى {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} أي ليس له شريك ولا مثيل ولا نظير، ولا يقبل في قضائه وحكمه أحداً لأنه الغنيّ عما سواه.
البلاغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {يُبَشِّرَ. . وَيُنْذِرَ} وبين {يَهْدِ. . ويُضْلِلْ} وبين {أَيْقَاظاً. . ورُقُودٌ} وبين {ذَاتَ اليمين. . وَذَاتَ الشمال} .
2 - الطباق المعنوي بين {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ. . ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} لأن معنى الأول أنمناهم والثاني أيقظناهم.
3 - الجناس الناقص بين {قَامُواْ. . وقَالُواْ} .
4 - الإطناب بذكر الخاص بعد العام {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيدا} {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} لشناعة دعوى الولد لله، وفيه من بديع الحذف وجليل الفصاحة حذف المفعول الأول أي لينذر(2/172)
الكافرين بأساً شديداً، ثم ذكر المفعول الأول وحذف الثاني في قوله {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} عذاباً شديداً فحذف العذاب لدلالة الأول عليه وحذف من الأول المنذرين لدلالة الثاني عليه، وهذا من ألطف الفصاحة.
5 - صيغة التعجب {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} .
6 - الاستعارة التمثيلية {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} شبَّه حاله عليه السلام مع المشركين بحال من فارقته الأحباب فهمَّ بقتل نفسه أو كاد يهلك نفسه حزناً ووجداً عليهم.
7 - الاستعارة التبعية {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ} شبّهت الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان كما تضرب الخيمة على السكان وكذلك يوجد استعارة في {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} لأن الربط هو الشد والمراد شددنا على قلوبهم كما نشد الأوعية بالأوكية.(2/173)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة أهل الكهف وهي تُمثل صور التضحية والبطولة في سبيل العقيدة ممثلة في قصة الآخوين من بني إسرائيل: المؤمن املعتز بإيمانه، والكافر وهو صاحب الجنتين، وما فيها من عبر وعظات، وفي ثنايا الآيات جاءت بعض التوجيهات القرآنية الكريمة. اللغَة: {مُلْتَحَداً} ملجأ وأصله من لحَد إذا مال، ومن لجأتَ إليه فقد ملتَ إليه هكذا قال أهل اللغة {فُرُطاً} مجاوزاً للحد من قولهم فرسٌ فُرُط إذا كان متقدماً للخيل، قال الليث: الفُرُط الأمر الذي يفرَّط فيه قال الشاعر:
لقد كلفتني شَطاً ... وأمراً خائباً فُرُطاً
{سُرَادِقُهَا} السُّرادق: السور والحائط {المهل} كل ما أذيب من المعادن قال أبو عبيدة: كل شيءٍ أذبته من ذهب أو نحاسٍ أو فضة فهو المُهل {سُنْدُسٍ} السندس: الرقيق من الحرير {وَإِسْتَبْرَقٍ} الاستبرق: الغليظ من الحرير وهو الديباج قال الشاعر:
تراهنَّ يلبسن المشاعر مرةً ... واستبرق الديباج طوراً لباسها
{الأرآئك} جمع أريكة وهي السرير المزيَّن بالثياب والستور كسرير العروس {حُسْبَاناً} جمع حسبانه وهي الصاعقة {هَشِيماً} الهشيم: اليابس المتكسر من النبات {نُغَادِرْ} نترك.
سَبَبُ النّزول: روى أن أشراف قريش اجتمعوا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا له: إن أردت أن نؤمن بك فاطر هؤلاء الفقراء من عندك يعنون «بلالاً، وخباباً، وصهيباً» وغيرهم فإنا نأنف أن نجتمع بهم، وتعيِّن لهم وقتاً يجتمعون فيه عندك فأنزل الله {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ. .} الآية.(2/174)
التفسِير: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} أي إقرأ يا محمد ما أوحاه إليك ربك من آيات الذكر الحكيم {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي لا يقدر أحدٌ أن يغيّر أو يبدّل كلام الله {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي لن تجد ملجأ غير الله تعالى أبداً {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} أي احبس نفسك مع الضعفاء والفقراء من المسلمين الذين يدعون ربهم بالصباح والماء {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي يبتغون بدعائهم وجه الله تعالى {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} أي لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والشرف قال المفسرون: كان عليه السلام حريصاً على إيمان الرؤساء ليؤمن أبتاعهم ولم يكن مريداً لزينة الدنيا قط، فأمِر أن يجعل إقباله على فقراء المؤمنين وأن يُعرض عن أولئك العظماء والأشراف من المشركين {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} أي تبتغي بمجالستهم الشرف والفخر قال ابن عباس: لا تجاوزهم إلى غيرهم تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} أي لا تطع كلام الذين سألوك طرد المؤمنين فقلوبهم غافلة عن ذكر الله، وقد شغلوا عن الدين وعبادةِ ربهم بالدنيا قال المفسرون: نزلت في عيُُينة بن حصن وأصحابه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أما يؤذيك ريح هؤلاء؟ ونحن سادةُ مضر وأشرافها إن أسلمنا يسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحِّهمْ عنك حتى نتبعك، أو أجعل لنا مجلساً ولهم مجلس، فهمَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يجيبهم إلى ما طلبوا فلما نزلت الآية خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يلتمس هؤلاء الفقراء فلما رآهم جلس معهم وقال
«الحمد لله الذي جعل أُمتي من أمرني ربي أن أصبر نفسي معهم» {واتبع هَوَاهُ} أي سار مع هواه وترك أمر الله {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أي كان أمره ضياعاً وهلاكاً ودماراً {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} ظاهرُه أمرٌ وحقيقته وعيدٌ وإنذار أي قل يا محمد لهؤلاء الغافلين لقد ظهر الحق وبان بتوضيح الرحمن فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا كقوله {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} أي هيأنا للكافرين بالله ورسوله ناراً حاميةً شديدة أحاط بهم سورها كإحاطة السوار بالمعصم {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} أي وإن استغاثوا من شدة العطش فطلبوا الماء أُغيثوا بماءٍ شديد الحرارة كالنحاس المذاب أو كعكر الزيت المحمى يشوي وجوههم إذا قَرُب منهم من شدة حره وفي الحديث «ماءٌ كعكر الزيت فإذا قُرب إليه سقطت فروة وجهه فيه» أي سقطت جلدة وجهه فيه أعاذنا الله من جهنم {بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} أي بئس ذلك الشراب الذي يُعاثون به وساءت جهنم منزلاً ومقيلاً يرتفق به أهل النار {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} لما ذكر تعالى حال الأشقياء أعقبه بذكر حال السعداء، على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، أي إنا لا نضيع ثواب من أحسن عمله وأخلص فيه بل نزيده وننميه {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} أي لهم جنات إقامة {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} أي تجري من تحت غرفهم ومنازلهم أنهار الجنة {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} أي يُحلَّون في الجنة بأساوِر الذهب قال المفسرون: ليس(2/175)
أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أساور: سوارٌ من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ، لأن الله تعالى: قال {وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] وقال {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33] وفي الحديث «تبلغ حلية المؤمن حيث يبلغ الوضوء» {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} أي وهم رافلون في ألوانٍ من الحرير، برقيق الحرير وهو السندس، وبغليظه وهو الاستبرق قال الطبري: معنى الآية أنهم يلبسون من الحلي أساور من ذهب، ويلبسون من الثياب السندس وهو ما رقَّ من الديباج، والاستبرق وهو ما غلظ فيه وثَخُن {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرآئك} أي متكئين في الجنة على السرر الذهبية المزينة والستور قال ابن عباس: الآرائك الأسرة من ذهب وهي مكلَّلة بالدُر والياقوت عليها الحجال، الأريكةُ ما بين صنعاء إلى أيلة، وما بين عدن إلى الجابية {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} أي نعم ذلك جزاء المتقين، وحسنت الجنة منزلاً ومقيلاً لهم {اضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} أي اضرب لهؤلاء الكفار الذين طلبوا منك أن تطرد الفقراء هذا المثل قال المفسرون: هما أخوان من بني إسرائيل، أحدهما مؤمن، والآخر كافر، ورثا مالاً عن أبيهما فاشترى الكافر بماله حديقتين، وأنفق المؤمن ماله في مرضاة الله حتى نفد ماله فعيَّره الكافر بفقره، فأهلك الله مال الكافر، وضرب هذا مثلاً للمؤمن من الذي يعمل بطاعة الله، والكافر الذي أبطرته النعمة {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} أي جعلنا لأحدهما - وهو الكافر - بستانينِ من شجر العنب، مثمريْن بأنواع العنب اللذيد {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي أحطناهما بسياجٍ من شجر النخيل {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} أي جعلنا وسط هذين البستانين زرعاً ويتفجر بينهما نهر، وإنه لمنظرٌ بهيجٌ يصوره القرآن أروع تصوير، منظر الحديقتين المثمرتين بأنواع الكرم، المحفوفتين بأشجار النخيل، تتوسطهما الزروع وتتفجر بينهما الأنهار {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً} أي كلُّ واحدة من الحديقتين أخرجت ثمرها يانعاً في غاية الجودة والطيب ولم تنقص منه شيئاً {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} أي جعلنا النهر يسير وسط الحديقتين {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} أي وكان للأخ الكافر من جنتيه أنواع من الفواكه والثمار {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أي قال صاحب الجنتين لصاحبه المؤمن وهو يجادله ويخاصمه ويفتخرعليه ويتعالى: أنا أغنى منك وأشرف، وأكثر أنصاراً وخدماً {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} أي أخذ بيد أخيه المؤمن ودخل الحديقة يطوف به فيها ويريه ما فيها من أشجار وثمار وأنهار وهو ظالم لنفسه بالعُجب والكفر {قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} أي ما أعتقد أن تفنى هذه الحديقة أبداً {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} أي وما أعتقد القيامة كائنة وحاصلة، أنكر فناء جنته وأنكر البعث والنشور {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا} أي ولئن كان هناك بعثٌ - على - سبيل الفرض والتقدير كما تزعمُ - فسوف يعطيني الله خيراً من هذا وأفضل {مُنْقَلَباً} أي مرجعاً وعاقبة فكما أعطاني هذا في الدنيا فسيعطيني في الآخرة لكرامتي عليه {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أي قال ذلك المؤمن الفقير وهو يراجع أخاه ويجادله {أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} أي أجحدت الله الذي خلق أصلك من تراب ثم من منيّ ثم سوَّاك إنساناً سوياً؟ الاستفهام(2/176)
للتقريع والتوبيخ {لكنا هُوَ الله رَبِّي} أي لكنْ أنا اعترف بوجود الله فهو ربي وخالقي {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} أي لا أشرك مع الله غيره، فهو المعبودُ وحده لا شريك له {ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله} أي فهلاّ حين دخلتَ حديقتك وأُعجبت بما فيها من الأشجار والثمار قلت: هذا من فضل الله، فما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن {لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} أي لا قدرة لنا على طاعته إلا بتوفيقه ومعونته {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} أي قال المؤمن للكافر: إن كنت ترى أنني أفقر منك وتعتزعليَّ بكثرة مالك وأولادك {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} جواب الشرط أي إني أتوقع من صنع الله تعالى وإحسانه أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزقني جنةً خيراً من جنتك لإيماني به، ويسلب عنك نعمته لكفرك به ويخرّب بستانك {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء} أي يرسل عليها آفةً تجتاحها أو صواعق من السماء تدمّرها {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} أي تصبح الحديقة أرضاً ملساء لا تثبت عليها قدم، جرداء لا نبات فيها ولا شجر {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} أي يغور ماؤها في الأرض فيتلف كل ما فيها من الزرع والشجر، وحينئذٍ لا تستطيع طلبّه فضلاً عن إعادته وردّه، وينتهي الحوار هنا وتكون المفاجأة المدهشة فيتحقَّق رجاءُ المؤمن بزاول النعيم عن الكافر وفجأة ينقلنا السياق من مشهد البهجة والازدهار إلى مشهد البوار والدمار {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أي هلكت جنته بالكلية واستولى عليها الخراب والدمار في الزروع والثمار {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} أي يقلب كفيه ظهراً لبطن أسفاً وحزناً على ماله الضائع وجهده الذاهب قال القرطبي: أي يضرب إحدى يديه على الأخرى ندماً لأن هذا يصدر من النادم {وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي مهشمة محطمة قد سقطت السقوف على الجدران فأصبحت خراباً يباباً {وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} أي وهو نادم على إشراكه بالله يتمنى أن لم يكن قد كفر النعمة، ندم حين لا ينفع الندم قال تعالى {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله} أي لم تكن له جماعة تنصره وتدفع عنه الهلاك {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} أي وما كان بنفسه ممتنعاً عن انتقام الله سبحانه، فلم تنفعه العشيرة والولد حين اعتزّ وافتخر بهم وما استطاع بنفسه أن يدفع عنه العذاب {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق} أي في ذلك المقام وتلك الحال تكون النصرة لله وحده لا يقدر عليها أحد فهو الوليُّ الحق الذي ينصر أولياءه {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} أي الله خير ثواباً في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وهو خيرٌ عاقبةٌ لمن اعتمد عليه ورجاه {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} هذا مثلٌ آخر للدنيا وبهرجها الخادع يشبه مثل الجنتين في الفناء والزوال والمعنى اضرب يا محمد للناس مثل هذه الحياة في زوالها وفنائها وانقضائها بماءٍ نزل من السماء فخرج به النبات وافياً غزيراً وخالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح} أي صار النبات متكسراً من اليبس متفتتاً تنسفه الرياح ذات اليمين وذات الشمال {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} أي قادراً على الإِفناء والإِحياء لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} أي الأموال والأولاد زينة هذه الحياة الفانية، ذاك مثلها وهذه زينتها والكل إلى فناء وزوال لا يغتر بها إلا الأحمق الجهول {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} أي أعمال الخير تبقى ثمرتها أبد الآباد فهي خير ما يؤملها الإنسان ويرجوه عند الله قال ابن عباس: الباقيات الصالحات هي(2/177)
الصلوات الخمس وعنه أيضاً أنها كل عمل صالحٍ من قول أو فعلٍ يبقى للآخرة وفي الحديث
«سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هنَّ الباقيات الصالحات» {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} لما ذكر القيامة وأهوالها أي واذكر يوم نزيل الجبال من أماكنها ونسيّرها كما نسيّر السحاب فنجعلها هباءً منيثاً {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} أي وترى الأرض ظاهرة للعيان ليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان، قد قلعت جبالها وهُدم بنيانها فهي بارزة ظاهرة {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} أي جمعنا الأولين والآخرين لموقف الحساب فلم نترك أحداً منهم {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} أي عُرضوا على رب العالمين مصطفّين، لا يحجبُ أحدٌ أحداً وفي الحديث «يجمع الله الأولين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ صفوفاً» قال مقاتل: يُعرضون صفاً بعد صف كالصفوف في الصلاة كل أمةٍ وزمرةٍ صفاً {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي يقال للكفار على وجه التوبيخ والتقريع: لقد جئتمونا حفاةً عراةً لا شيء معكم من المال والولد كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} أي زعمتم أن لا بعث ولا جزاء، ولا حساب ولا عقاب {وَوُضِعَ الكتاب} أي وضعت صحائف أعمال البشر وعُرضت عليهم {فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} أي فترى المجرمين خائفين مما فيه من الجرائم والذنوب {وَيَقُولُونَ ياويلتنا} أي يا حسرتنا ويا هلاكنا على ما فرطنا في حياتنا الدنيا {مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} أي ما شأن هذا الكتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ضبطها وأحاط بها؟ قال تعالى {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً} أي مكتوباً مثبتاً في الكتاب {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} أي لا يعاقب إنساناً بغير جرم، ولا يُنقص من ثواب المحسن {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ} أي لا اذكر حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة {فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي سجد جميع الملائكة لكن إبليس الذي هو من الجن خرج عن طاعة ربه، والآية صريحة في أن إبليس من الجن لا من الملائكة {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} أي أفتتخذونه يا بني آدم هو وأولاده الشياطين أولياء من دون الله وهم لكم أعداء {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} أي بئست عبادة الشيطان بدلاً عن عبادة الرحمن {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض} أي ما أشهدت هؤلاء الشياطين الذين عبدتموهم من دوني خلق السماوات والأرض {وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض فهم عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} أي وما كنت متخذ الشياطين أعواناً في الخلق فكيف تطيعونهم من دوني؟ {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ} أي ويوم يقول الله للمشركين: أُدعوا شركائي ليمنعوكم من عذابي ويشفعوا لكم كما كنتم تزعمون {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} أي فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} أي جعلنا بين العابدين والمعبودين مهلكةً لا يجتازها هؤلاء وهي النار {وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} أي عاينوها وهي تتغيظ حنقاً عليهم فأيقنوا أنهم داخلوها {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً} أي(2/178)
لم يجدوا عنها معدلاً وذلك لأنها أحاطت بهم من كل جانب فلم يقدروا على الهرب منها.
البَلاَغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق {الغداة. . والعشي} وبين {فَلْيُؤْمِن. . فَلْيَكْفُرْ} .
2 - المقابلة البديعة بين الجنة {نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} والنار {بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} .
3 - التشبيه {بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} ويسمى مرسلاً مفصلاً لذكر الأداة ووجه الشبه.
4 - التشبيه التمثيلي {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} لأن وجه الشبه منتزع من متعدد وكذلك يوجد التشبيه التمثيلي في {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ} .
5 - المبالغة بإطلاق المصدر على اسم الفاعل {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً} أي غائراً.
6 - الكناية {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} كناية عن التحسر والندم لأن النادم يضرب بيمينه على شماله.
7 - الإنكار والتعجيب {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ} ؟ .
تنبيه: الجمهور على أن الباقيات الصالحات هن الكلمات المأثور فضلها «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» وقد ورد بذلك حديث تقدم ذكره وفي الترمذي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لقيتُ إبراهيم ليلةً أُسري بي فقال يا محمد: أقرئْ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» رواه الترمذي.(2/179)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
المنَاسَبَة: لما ضرب تعالى المثل في قصة صاحب الجنتين، وضرب المثل للحياة الدنيا وما فيها من نعيم خادع ومتاع زائل، نبَّه تعالى إلى الغاية من ذكر هذه الأمثال وهي «العظةُ والاعتبار» ثم ذكر القصة الثالثة «قصة موسى مع الخضر» وما فيها من أمور غيبيَّة عجيبة.
اللغَة: {قُبُلاً} مقابلةً وعياناً {مَوْئِلاً} ملجأ ومنجى قال ابن قتيبة: وأل فلان إلى كذا لجأ إليه وألاً ووءولاً والموئل: الملجأ قال الأعشى:
وقد أُخالِسُ ربَّ البيت غفلتَه ... وقد يحاذِرُ مني ثم لا يئلُ
{حُقُباً} جمع حقبة وهي السنة والمراد بالحُقُب هنا الزمان الطويل {سَرَباً} السَّرب: المسلك في جوف الأرض {نَصَباً} النَّصب: التعب والمشقة {أمْراً} أمراً عظيماً يقال: إمِر الأمر إذا عظم {نُّكْراً} منكراً فظيعاً جداً.
التفسِير: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} أي بيّنا في هذا القرآن الأمثال وكرَّرنا الحجج والمواعظ {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} أي وطبيعة الإنسان الجدلُ والخصومة لا ينيب لحق ولا ينزجر لموعظة {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} أي ما منع الناسَ من الإيمان حين جاءهم الهُدى من الله {وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} أي ومن الاستغفار من الذنوب والآثام {إِلاَّ(2/180)
أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} َ أي إلا انتظارهم أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً} أي يأتيهم عذاب الله عياناً ومقابلة ومعنى الآية أنه ما منعهم من الإيمان والاستغفار إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وُعدوا به عياناً ومواجهة كقولهم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] {وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أي ما نرسل الرسل إلا لغرض التبشير والإِنذار لا للإِهلاك والدمار، مبشرين لأهل الإِيمان ومنذرين لأهل العصيان {وَيُجَادِلُ الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} أي ومع وضوح الحق يجادل الكفار بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه فهم حين يطلبون الخوارق ويستعجلون العذاب لا يريدون الإيمان وإنما يستهزئون ويسخرون {واتخذوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً} أي أتخذوا القرآن وما خُوّفوا به من العذاب سخرية واستهزاءً {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيات رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} أي لا أحد أظلمُ ممن وُعظ بآيات الله البينة، وحججه الساطعة، فتعامى عنها وتناساها ولم يُلقِ لها بالاً {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي نسي ما عمله من الجرائم الشنيعة، والأفعال القبيحة، ولم يتفكر في عاقبتها {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} أي جعلنا على قلوبهم أغطية تحول دون فقه هذا القرآن وإدراك أسراره، والانتفاع بما فيه من المواعظ والأحكام {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} أي وفي آذانهم صمماً معنوياً يمنعهم أن يسمعوه سماع تفهم وانتفاع {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً} أي وإن دعوتهم إلى الإيمان والقرآن فلن يستجيبوا لك أبداً لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون، فللهدى قلوبٌ متفتحة مستعدة لقبول الإيمان وهؤلاء كالأنعام {وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة} أي وربك يا محمد واسع المغفرة عظيم الرحمة بالعباد مع تقصيرهم وعصيانهم {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} أي لو يعاقبهم بما اقترفوا من المعاصي والإجرام لعجَّل لهم عذاب الدنيا، ولكنه تعالى يمهلهم ويؤخر عنهم العذاب الذي يستعجلونه به رحمةً بهم، وقد جرت سنته بأن يمهل الظالم ولكن لا يهمله {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} أي لهم موعد آخر في القيامة يرون فيه الأهوال لن يجدوا لهم فيه ملجأ ولا منجى {وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} أي تلك هي أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية كقوم هود وصالح ولوط وشعيب أهلكناهم حين ظلموا {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} أي جعلنا لهلاكهم وقتاً محدَّداً معلوماً، أفلا يعتبر هؤلاء المكذبون المعاندون؟ والآية وعيد وتهديد لكفار قريش قال ابن كثير: والمعنى احذروا أيها المشركون أن يصيبكم ما أصابهم فقد كذبتم أعظم نبيَّ وأشرف رسول، ولستم بأعزَّ علينا منهم فخافوا عذابي ونُذري {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة الكريمة والمعنى اذكر حين قال موسى الكليم لفتاة «يوشع بن نون» لا أزال أسير وأتابع السير حتى أصل الى ملتقى بحر فارس وبحر الروم مما يلي جهة المشرق وهو مجمع البحرين {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} أي أسير زماناً إلى أن أبلغ ذلك المكان {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} أي فلما بلغ موسى وفتاه مجمع البحرين نسي «يوشع» أن يخبر موسى بأمر الحوت وما شاهده منه من الأمر(2/181)
العجيب، روي أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن يأخذ معه حوتاً فيجعله في مِكْتل فحيثما فقد الحوت فهناك الرجل الصالح {فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً} أي اتخذ الحوت سبيله في البحر مسلكاً قال المفسرون: كان الحوت مشوياً فخرج من المِكْتل ودخل في البحر وأمسك الله جرية الماء فصار كالطاق عليه وجمد الماء حوله وكان ذلك آيةً من آيات الباهرة لموسى عليه السلام {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا} أي فلما قطعا ذلك المكان وهو مجمع البحرين الذي جُعل موعداً للملاقاة قال موسى لفتاه أعطنا طعام الغذاء {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً} لقينا في هذا السفر العناء والتعب، وكان قد سار ليلة وجزءاً من النهار بعد أن جاوز الصخرة {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت} أي قال الفتى «يوشع بن نون» حين طلب موسى منه الحوت للغذاء أرأيت حين التجأنا إلى الصخرة التي نمت عندها ماذا حدث من الأمر العجيب؟ لقد خرج الحوتُ من المكتل ودخل البحر وأصبح عليه مثل الكوة وقد نسيتُ أن أذكر لك ذلك حين استيقظت {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} أي وقد أنساني الشيطان أن أخبرك عن قصته الغريبة {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً} أي واتخذ الحوتُ طريقة في البحر وكان أمره عجباً، يتعجب الفتى من أمره لأنه كان حوتاً مشوياً فدبَّت فيه الحياة ودخل البحر {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي قال موسى هذا الذي نطلبه ونريده لأنه علامة على غرضنا وهو لُقْيا الرجل الصالح {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} أي رجعا في طريقهما الذي جاءا منه يتتبعان أثرهما الأول لئلا يخرجا عن الطريق {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ} وجدا الخضر عليه السلام عند الصخرة التي فقد عندها الحوت، وفي الحديث أن موسى وجد الخضر مسجَّى بثوبه مستلقياً على الأرض فقال له: السلام عليك فرفع رأسه وقال: وأنّى بأرضك السلام؟ {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} أي وهبناه نعمة عظيمة وفضلاً كبيراً وهي الكرامات التي أظهرها الله على يديه {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} أي علماً خاصاً بنا لا يُعلم إلا بتوفيقنا وهو علم الغيوب قال العلماء: هذا العلم الرباني ثمرة الإخلاص والتقوى ويسمى «العلم اللدُنِّي» يورثه الله لم أخلص العبودية له، ولا ينال بالكسب والمشقة وإِنما هو هبة الرحمن لمن خصَّه الله بالقرب والولاية والكرامة {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} أي هل تأذن لي في مرافقتك لأقتبس من علمك ما يرشدني في حياتي؟ قال المفسرون: هذه مخاطبة فيها ملاطفة وتواضع من نبي الله الكريم وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلم منه {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي قال الخضر: إِنك لا تستطيع الصبر على ما ترى قال ابن عباس: لن تصبر على صنعي لأني علمتُ من غيب علم ربي {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} أي كيف تصبر على أمرٍ ظاهرة منكرٌ وأنت لا تعلم باطنه؟ {قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} أي قال موسى ستراني صابراً ولا أعصي أمرك إن شاء الله {قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} شرط عليه قبل بدء الرحلة ألا يسأله ولا يستفسر عن شيء من تصرفاته حتى يكشف له(2/182)
سرها، فقبل موسى شرطه رعايةً لأدب المتعلم مع العالم، والمعنى لا تسألني عن شيء مما أفعله حتى أبيّنه لك بنفسي {فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا} أي انطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر حتى مرت بهما سفينة فعرفوا الخضر فحملوهما بدون أجر فلما ركبا السفينة عمد الخضر إلى فأس فقلع لوحاً من ألواح السفينة بعد أن أصبحت في لجة البحر {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} أي قال له موسى مستنكراً: أخرقت السفينة لتغرق الركاب؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} أي فعلت شيئاً عظيماً هائلاً، يروى أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فجعله مكان الخرق ثم قال للخضر: قومٌ حملونا بغير أجرٍ عمدتَ إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهل السفينة لقد فعلت أمراً منكراً عظيماً!! {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي ألم أخبرك من أول الأمر أنك لا تصبر على ما ترى من صنيعي؟ ذكَّره بلطفٍ في مخالفته الشرط {قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} أي لا تؤاخذني بمخالفتي الشرط ونسياني العهد {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} أي لا تكلفني مشقةً في صحبتي إياك وعاملني باليُسر لا بالعُسر {فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ} أي فقبل عذره وانطلقا بعد نزولهما من السفينة يمشيان فمرَّا بغلمانٍ يلعبون وفيهم غلام وضيء الوجه جميل الصورة فأمسكه الخضر واقتلع رأسه بيده ثم رماه في الأرض {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي قال موسى: أقتلت نفساً طاهرةً لم ترتكب جرماً ولم تقتل نفساً حتى تقتل به {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} أي فعلت شيئاً منكراً عظيماً لا يمكن السكوت عنه.
. لم يكن موسى ناسياً في هذه المرة ولا غافلاً ولكنه قاصدٌ أن يُنكر المنكر الذي لا يصبر على وقوعه بالرغم من تذكره لوعده، وقال هنا {نُّكْراً} أي منكراً فظيعاً وهو أبلغ من قوله {أمْراً} في الآية السابقة، ذكر القرطبي أن موسى عليه السلام لما قال للخضر {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً} غضب واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه فإذا مكتوب في عظم كتفه كافرٌ لا يؤمن بالله أبداً {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي ألم أقل لك أنتَ على التعيين والتحديد لن تستطيع الصبر على ما ترى مني؟ قال المفسرون: وقَّره في الأول فلم يواجهه بكاف الخطاب فلما خالف في الثاني واجهه بقوله {لَّكَ} لعدم العذر هنا، ويعود موسى لنفسه ويجد أنه خالف وعده مرتين، فيندفع ويقطع على نفسه الطريق ويجعلها آخر فرصةٍ أمامه {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي} أي إن أنكرت عليك بعد هذه المرة واعترضتُ على ما يصدر منك فلا تصحبني معك {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} أي قد أعذرت إليَّ في ترك مصاحبتي فأنت معذورٌ عندي لمخالفتي لك ثلاث مرات {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} أي مشيا حتى وصلا إلى قرية قال ابن عباس: هي انطاكية فطلبا طعاماً وكان أهلها لئاماً لا يطعمون جائعاً، ولا يتسضيفون ضيفاً، فامتنعوا عن إضافتهما أو إطعامهما {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي وجدا في القرية حائطاً مائلاً يوشك أن يسقط ويقع {فَأَقَامَهُ} أي مسحه الخضر بيده فاستقام، وقيل إنه هدمه ثم بناه وكلاهما مرويٌ عن ابن عباس {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي قال له موسى لو أخذت منهم أجراً نستعين به على شراء الطعام! {أنكر عليه موسى صنيع المعروف مع غير أهله، روي أن(2/183)
موسى قال للخضر: قومٌ استطعمناهم فلم يطعمونا، وضِفناهم فلم يضيّفونا ثم قعدت تبني لهم الجدار لو شئتَ لاتخذت عليه أجراً} {قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} أي قال الخضر: هذا وقت الفراق بيننا حسب قولك {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاث التي أنكرتها عليَّ ولم تستطع عليها وفي الحديث
«رحم الله أخي موسى لوددت أنه صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما ولو لبث مع صاحبه لأبصر العجب» {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر} هذا بيانٌ وتفصيل للأحداث العجيبة التي رآها موسى ولم يطق لها صبراً والمعنى أما السفينة التي خرقتها فكانت لأناس ضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظَّلمة يشتغلون بها في البحر بقصد التكسب {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} أي أردتُ بخرقها أن أجعلها معيبة لئلا يغتصبها الملك الظالم {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} أي كان أمامهم ملك كافر ظالمٌ {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أي يغتصب كل سفينة صالحة لا عيب فيها {وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} أي وأما الغلام الذي قتلتُه فكان كافراً فاجراً وكان أبواه مؤمنين وفي الحديث «إِن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً» {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي فخفنا أن يحملهما حبُّه على اتّباعه في الكفر والضلال {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} أي فأردنا بقتله أن يرزقهما الله ولداً صالحاً خيراً من ذلك الكافر وأقربَ براً ورحمة بوالديه {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} أي وأما الجدار الذي بنيتُه دون أجر والذي كان يوشك أن يسقط فقد خبئ تحته كنزٌ من ذهب وفضة لغلامين يتيمين {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} أي وكان والدهما صالحاً تقياً فحفظ الله لهما الكنز لصلاح الوالد قال المفسرون: إن صلاح الأباء ينفع الأبناء، وتقوى الأصول تنفع الفروع {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} أي فأراد الله بهذا الصنيع أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما من تحت الجدار {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} أي رحمةً من الله بهما لصلاح أبيهما {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} أي ما فعلتُ ما رأيتَ من خرْقِ السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدارعن رأيي واجتهادي، بل فعلته بأمر الله وإلهامه {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} أي ذلك تفسير التي لم تستطع الصبر عليها وعارضت فيها قبل أن أخبرك عنها.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - الطباق بين {مُبَشِّرِينَ.
. وَمُنذِرِينَ} وبين {نَسِيتُ. . وَأَذْكُرَ} .
2 - اللف والنشر المرتَّب {أَمَّا السفينة} {وَأَمَّا الغلام} {وَأَمَّا الجدار} فقد جاء بها مرتبة بعد ذكر ركوب السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار بطريق اللف والنشر المرتب وهو من المحسنات البديعية.
3 - الحذف بالإيجاز {كُلَّ سَفِينَةٍ} أي صالحةٍ خذف لدلالة لفظ «أعيبها» وكذلك حذف لفظ كافر من {وَأَمَّا الغلام} لدلالة قوله تعالى {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} .
4 - التغليب {أَبَوَاهُ} المراد باللفظ أبوه وأمه.(2/184)
5 - الاستعارة {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} لأن الإرادة من صفات العقلاء وإسنادها إلى الجدار من لطيف الاستعارة وبليغ المجاز كقول الشاعر:
يريد الرمحُ صدر أبي براءٍ ويرغب عن دماء بني عقيل
6 - التنكير للتفخيم والإضافة للتشريف {عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ} .
7 - السجع مراعاة لرءوس الآيات مثل {نَصَباً. . سَرَباً. . عَجَباً} .
8 - تعليم الأدب {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} وهناك قال {فَأَرَادَ رَبُّكَ} حيث أسند ما ظاهره شر لنفسه وأسند الخير إلى الله تعالى، وذلك لتعليم العباد الأدب مع الله جل وعلا.
«قصة موسى والخضر كما في الصحيحين»
عن أبيّ كعب عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: (إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عَزَّ وَجَلَّ عليه إذْ لم يرُدَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أنَّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مِكْتل فحيثما فقدتَ الحوت فهو ثمَّ، فانطلق موسى: ومعه فتاه «يوشع بن نون» حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المِكْتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيه في البحر سرَباَ، وأمسك الله عن الحوت جريه الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً - قال ولم يجد موسى النَّصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به - فقال فتاه {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً} قال فكان للحوت سَرَباً ولموسى وفتاه عجَباً فقال موسى {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هو مسجَّى بثوب فسلَّم عليه موسى فقال الخضر: وأنَّى بأرضك السلام! من أنت؟ قال: أنا موسى، قال موسى بني إسرائيل؟ قال نعم أتيتك لتعلمني مما عُلمت رُشداً {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} . . يا موسى إني على علم من علم الله لا تعلمه علَّمنيه، وأنت على علم من علم الله علّّمكه لا أعلمه، فقال موسى {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} فقال الخضر {فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} فانطلقا يمشيان على الساحل فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نوْل - أي بدون أجر - فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قومٌ قد حملونا بغير نوْل عمدت إلى سفينتهم فخرقتها {لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وكانت الأولى من موسى نسياناً، وجاء عصفورٌ فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال له الخضر: ما علمي وعلمكَ من علم الله(2/185)
تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذْ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله، فقال له موسى {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً قال سُفيان: وهذه أشدُ من الأولى {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} فانطلقا {حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} فقال الخضر بيده هكذا - أي أشار بيده - فأقامه فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} قال الخضر: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص الله علينا من أخبارهما» !! أخرجه الشيخان.
تنبيه: قال العلامة القرطبي: «كرامات الأنبياء ثابتة على ما دلت عليه الأخبار والآيات المتواترة، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد أو الفاسق الحائد، فالآيات ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء، وما ظهر على يدها حيث هزَّت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية، ويدل أيضاً ما ظهر على يد الخضر من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار» أهـ. القرطبي 11/28(2/186)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة الخضر أعقبها بقصة ذي القرنين ورحلاته الثلاث إلى المغرب، والشرق، وإلى السَّدين، وبناؤه للسدّ في وجه «يأجوج ومأجوج» وهي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، وجميعها ترتبط بالعقيدة والإيمان، وهو الهدف الأصيل للسورة الكريمة.
اللغَة: (ذو القرنين) هو الاسكندر المقدوني وهو ملِكٌ صالح أعطي العلم والحكمة، سمي بذي القرنين لأنه ملك مشارق الأرض ومغاربها وكان مسلماً عادلاً قال الشاعر:
قد كان دو القرنين قبلي مسلماً ... ملكاً علا في الأرض غير مفنَّد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب مُلكٍ من كريم سيد
{حَمِئَةٍ} كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء {سَدّاً} السدُّ: الحاجز والحائل بين الشيئين {رَدْماً} الردَّم. السدُّ المنيع وهو أكبر من السدّ لأن الرَّدم ما جعل بعضه على بعض حتى يصبح كالحجاب المنيع قال الحاجز الحصين المتين {زُبَرَ الحديد} قطع الحديد مفردة زُبرة وهي القطعة {الصدفين} جانبا الجبل قال أبو عبيدة: الصَّدف كل بناء عظيم مرتفع {قِطْراً} القِطر: النحاس المذاب {نَقْباً} خرقاً وثقباً {دَكَّآءَ} مدكوكاً مسوَّى بالأرض قال الأزهري: دككته أي دققته {يَمُوجُ} يختلط ويضطرب {الفردوس} قال الفراء: البستان الذي فيه العنب وقال ثعلب: كل بستان يحوَّط عليه فهو فردوس.
سَبَبُ النّزول: أ - قال قتادة: إن اليهود سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذي القرنين فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين. .} الآية.
ب - قال مجاهد: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: إني أتصدق، وأصلُ الرحم، ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى، فيُذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأُعجب به، فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يقل شيئاً فأنزل الله {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} .
التفسِير: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} أي يسألك اليهود يا محمد عن ذي القرنين ما شأنه؟ وما قصته؟ {قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} أي قل لهم سأقص عليكم من نبأه وخبره قرآناً ووحياً {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} أي يسرنا له أسباب الملك والسلطان والفتح والعمران،(2/187)
وأعطيناه كل ما يحتاج إليه للوصول إلى غرضه من أسباب العلم والقدرة والتصرف قال المفسرون: ذو القرنين هو «الاسكندر اليوناني» ملكَ المشرق والمغرب فسمي ذا القرنين، وكان ملكاً مؤمناً مكَّن الله له في الأرض فعدل في حكمه وأصلح، وكان في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما روي أن الذين ملكوا الأرض أربعة: مؤمنان وكافران، أما المؤمنان فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود وبختنصر {فَأَتْبَعَ سَبَباً} أي سلك طريقه الذي يسره الله له وسار جهة المغرب {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس} أي وصل المغرب {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي وجد الشمس تغرب ما ماء وطين - حسب ما شاهد لا حسب الحقيقة - فإن الشمس أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض قال الرازي: إن ذا القرنين لما بلغ أقصى المغرب ولم يبق بعدة شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهذه مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشطَّ وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر {وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} أي وجد عند تلك العين الحارة ذات الطين قوماً من الأقوام {قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} أي قلنا له بطريق الإلهام: إما أن تقتلهم أو تدعوهم بالحسنى إلى الهداية والإيمان قال المفسرون: كانوا كفاراً فخيَّره الله بين أن يعذبهم بالقتل، أو يدعوهم إلى الإسلام فيُحسن إليهم {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي من أصرَّ على الكفر فسوف نقتله {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} أي ثم يرجع إلى ربه فيعذبه عذاباً منكراً فظيعاً في نار جهنم {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى} أي وأمّا من آمن بالله وأحسن العمل في الدنيا وقدَّم الصالحات فجزاءه الجنة يتنعَّم فيها {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} أي نيسر عليه في الدنيا فلا نكلفه بما هو شاق بل بالسهل الميسَّر.
اختار الملك العدل دعوتهم بالحسنى فمن آمن فله الجنة، والمعاملة الطيبة، والمعونة والتيسير، ومن بقي على الكفر فله العذاب والنكال في الدنيا والآخرة {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أي سلك طريقاً بجنده نحو المشرق {حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس} أي حتى وصل أقصى المعمورة من جهة الشرق حيث مطلع الشمس في عين الرائي {وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} أي وجد الشمس تشرقُ على أقوامٍ ليس لهم من اللباس والبناء ما يسترهم من حر الشمس فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب تحت الأرض، وإذا غربتْ خرجوا لمكاسبهم قال قتادة: مضى ذو القرنين يفتح المدائن ويجمع الكنوز ويقتل الرجال إلاّ من آمن حتى أتى مطلع الشمس فأصاب قوماً في أسراب عراة، ليس لهم طعام إلا ما أنضجته الشمس إذا طلعت، حتى إذا زالت عنهم الشمس خرجوا من أسرابهم في طلب معايشهم، وذُكر لنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليه بنيان ويقال إنهم الزنج {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} أي كذلك فعل بأهل المشرق من آمن تركه ومن كفر قتله كما فعل بأهل المغرب وقد أحطنا علماً بأحواله وأخباره، وعتاده وجنوده، فأمرُه من العظمة وكثرة المال بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أي سلك(2/188)
طريقاً ثالثاً بين المشرق والمغرب يوصله جهة الشمال حيث الجبال الشاهقة {حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} أي حتى إذا وصل إلى منطقة بين حاجزين عظيمين، بمنقطع أرض بلاد الترك مما يلي أرمينية وأذربيجان قال الطبري: والسَّدُ: الحاجز بين الشيئين وهما هنا جبلان سُدَّ ما بينهما، فردَم ذو القرنين حاجزاً بين يأجوج ومأجوج من ورائهم ليقطع مادة غوائلهم وشرهم عنهم {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أي وجد من وراء السدين قوماً متخلفين لا يكادون يعرفون لساناً غيرلسانهم إلا بمشقة وعُسر قال المفسرون: إنما كانوا لا يفقهون القول لغرابة لغتهم، وبطء فهمهم، وبعدهم عن مخالطة غيرهم، وما فهم كلامهم إلا بواسطة ترجمان {قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض} أي قال القوم لذي القرنين: إن يأجوج ومأجوج - قبيلتان من بني آدم في خلقهم تشويهٌ، منهم مفرطٌ في الطول، ومنهم مفرطٌ في القِصر - قوم مفسدون بالقتل والسلب والنهب وسائر وجوه الشر قال المفسرون: كانوا من آكلة لحوم البشر، يخرجون في الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه، ولا يابساً إلا احتملوه {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} أي هل نفرض لك جزءاً من أموالنا كضريبة وخراج {على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} أي لتجعل سدا يحمينا من شر يأجوج ومأجوج قال في البحر: هذا استدعاءٌ منهم لقبول ما بيذلونه على جهة حسن الأدب {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} أي ما بسطه الله عليَّ من القُدرة والمُلك خيرٌ مما تبذلونه لي من المال {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي لا حاجة لي إلى المال فأعينوني بالأيدي والرجال {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} أي أجعل بينكم وبينهم سدا منيعاً، وحاجزاً حصيناً، وهذه شهامة منه حيث رفض قبول المال وتطوَّع ببناء السد واكتفى بعون الرجال {آتُونِي زُبَرَ الحديد} أي أعطوني قطع الحديد واجعلوها لي في ذلك المكان {حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين} أي حتى إذا ساوى البناء بين جانبي الجبلين {قَالَ انفخوا} أي انفخوا بالمنافيخ عليه {حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} أي جعل ذلك الحديد المتراكم كالنار بشدة الإحماء {قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} أي أعطوني أصبُّ عليه النحاس المذاب قال الرازي: لما أتوه بقطع الحديد وضع بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسدُّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صبَّ النحاس المذاب على الحديد المحمي فالتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ} أي فما استطاع المفسدون أن يعلوه ويتسوروه لعلوه وملاسته {وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} أي وما استطاعوا نقبه من أسفل لصلابته وثخانته، وبهذا السد المنيع أغلق ذو القرنين الطريق على يأجوج ومأجوج {قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} أي قال ذو القرنين: هذا السدُّ نعمةٌ من الله ورحمة على عباده {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} أي فإذا جاء وعد الله بخروج ياجوج ومأجوج وذلك قرب قيام الساعة {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} أي جعله الله مستوياً بالأرض وعاد متهدماً كأن لم يكن بالأمس {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} أي كان وعده تعالى بخراب السدِّ وقيام الساعة كائناً لا محالة.
. وهاهنا تنتهي قصة ذي القرنين ثم يأتي الحديث عن أهوال الساعة وشدائد القيامة قال تعالى {(2/189)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} أي تركنا الناس يوم قيام الساعة يضطرب بعضهم ببعض - لكثرتهم - كاضطراب موج البحر {وَنُفِخَ فِي الصور فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} أي ونفخ في الصور النفخة الثانية فجمعناهم للحساب والجزاء في صعيد واحدٍ جمعاً لم يتخلف منهم أحد {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً} أي أبرزنا جهنم وأظهرناها للكافرين يوم جمع الخلائق حتى شاهدوها بأهوالها عرضاً مخيفاً مفزعاً {الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} أي هم الذين كانوا في الدنيا عُمياً عن دلائل قدرة الله ووحدانيته فلا ينظرون ولا يتفكرون {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} أي لا يطيقون أن يسمعوا كلام الله تعالى لظلمة قلوبهم قال أبو السعود: وهذا تمثيلٌ لإعراضهم عن الأدلة السمعية، وتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار فكأنهم عمْيٌ صم {أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ} الهمزة للإنكار والتوبيخ أي أفظنَّ الكافرون أن يتخذوا بعض عبادي آلهة يعبدونهم دوني كالملائكة وعزير والمسيح ابن مريم، وأن ذلك ينفعهم أو يدفع عنهم عذابي؟ قال القرطبي: جواب الاستفهام محذوف تقديره أفحسبوا أن ذلك ينفعهم، أولا أعاقبهم {إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} أي هيأنا جهنم وجعلناها ضيافةً لهم كالنُزُل المعد للضيف قال البيضاوي: وفيه تهكمٌ بهم وتنبيهٌ على أن لهم وراءها من العذاب ما تستتحق جهنم دونه {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً} أي قل يا محمد لهؤلاء الكافرين هل نخبركم بأخسر الناس عند الله؟ {الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا} أي بطل عملهم وضاع في هذه الحياة الدنيا لأن الكفر لا تنفع معه طاعة قال الضحاك: هم القسيّسون والرهبان يتعبدون ويظنون أن عبادتهم تنفعهم وهي لا تقبل منهم {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} أي يظنون أنهم محسنون بأفعالهم {أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي كفروا بالقرآن وبالبعث والنشور فبطلت أعمالهم {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} أي لهم عند الله قيمةٌ ولا وزن، ولا قدرٌ ولا منزلة وفي الحديث «يُؤتى بالرجل الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة» {ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ واتخذوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} أي ذلك جزاؤهم وعقوبتهم نارُ جهنم بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسله {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي آمنوا بالله وعملوا بما يرضيه {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً} أي لهم أعلى درجات الفردوس منزلا ً ومستقراً {خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} أي ماكثين فيها أبداً لا يطلبون عنها تحولاً قال ابن رواحة: في جنان الفردوس ليسَ يخافون: خُروجاً عنها ولا تحويلاً {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} هذا تمثيلٌ لسعة علم الله والمعنى لو كانت بحار الدنيا حبراً ومداداً وكتبت به كلمات الله وحكمه وعجائبه {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} أي لفني ماء البحر على كثرته وانتهى، وكلامُ الله لا ينفد لأنه غير متناهٍ كعلمه جل وعلا {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} أي ولو أتينا بمثل ماء البحر وزدناه به حتى يكثر فإن كلام الله لا يتناهى {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} أي قل لهم يا محمد إنما أنا إنسان(2/190)
مثلكم أكرمني الله بالوحي، وأمرني أن أخبركم أنه واحدٌ أحد لا شريك له {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} أي فمن كان يرجو ثواب الله ويخاف عقابه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} أي فليخلص له العبادة {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} أي لا يرائي بعمله ولا يبتغي بما يعمل غير وجه الله، فإن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم.
البَلاغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الطباق بين {مَطْلِعَ. . مَغْرِبَ} .
2 - التشبيه البليغ {جَعَلَهُ نَاراً} أي كالنار في الحرارة وشدة الإحمرار حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
3 - الاستعارة {يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} شبّههم لكثرتهم وتداخل بعضهم في بعضٍ بموج البحر المتلاطم واستعار لفظ يموج لذلك ففيه استعارة تبعية.
4 - الاستعارة أيضاً {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} أي كانوا ينظرون فلا يعتبرون وتُعرض عليهم الآيات الكونية فلا يؤمنون، ولم تكن أعينهم حقيقةً في غطاء وحجاب وإنما هو تطريق التمثيل.
5 - الجناس الناقص {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} لتغير الشكل وبعض الحروف، ويسمى أيضاً جناس التصحيف.
6 - الاستفهام الذي يراد به التوبيخ والتقريع {أَفَحَسِبَ الذين كفروا} ؟
7 - المقابلة اللطيفة {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى} مقابل {أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} الآية.
لطيفَة: كثيراً ما يرد في القرآن لفظ «حبط» وأصل الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تأكل نوعاً ساماً من الكلأ ثم تَلْقى حتفها، وهذا اللفظ أنسب شيء لوصف الأعمال فإنها تنتفخ وأصحابها يظنونها صالحة ناجحة رابحة ثم تنتهي إلى البوار.(2/191)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
اللغَة: {وَهَنَ} ضعف يقال وَهَن يهنُ فهو وَاهِنٌ والوهنُ ضعفُ القوة {اشتعل} الاشتعال انتشار شعاع النار {عَاقِراً} العاقر: التي لا تلد لكبر سنها {عِتِيّاً} العِتيُّ: النهاية في الكبر واليبس(2/193)
والجفاف يقال: عتا الشيخ كبر وولّى قال الشاعر:
إنما يُعذر الوليدُ ولا يُعذر ... من كان في الزَّمان عِتّياً
{حَنَاناً} الحنان: الشفقة والرحمةُ والمحبةُ، وأصله من حنين الناقة على ولدها وحنانْيك تريد رحمتك قال طرفة:
أبَا منذر أفنيت فاسْبتق بعضّنا ... حنانَيْك بعضُ الشر أهونُ من بعض
{انتبذت} ابتعدت وتنحَّت {سَوِيّاً} مستوي الخلقة {المخاض} اشتداد وجع الولادة والطلق {سَرِيّاً} السريُّ: النهر والجدول لأن الماء يسري فيه {فَرِيّاً} الفريُّ: العظيم من الأمر.
التفسِير: {كهيعص} حروفٌ مقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وتقرأ: «كافْ، هَا، يَا، عَيْنْ، صَادْ» {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} أي هذا ذكرُ رحمةِ ربِّك لعبدِهِ زكريا نقصُّه عليك يا محمد {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} أي حين ناجى ربه ودعاه بصوتٍ خفي لا يكاد يسمع قال المفسرون: لأن الإخفاء في الدعاء أدخلُ في الإخلاص وأبعدُ من الرياء {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} أي دعا في ضراعة فقال يا رب: لقد ضعف عظمي، وذهبتْ قوتي من الكِبر {واشتعل الرأس شَيْباً} أي انتشر الشيب في رأسي انتشار النار في الهشيم {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أي لم تخيّب دعائي في وقت من الأوقات بل عودتني الإحسان والجميل فاستجب دعائي الآن كما كنت تستجيبه فيما مضى قال البيضاوي: هذا توسلٌ بما سلف له من الاستجابة، وأنه تعالى عوَّده بالإجابة وأطعمه فيها، ومن حقّ الكريم أن لا يخيَّب من أطمعه {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} أي خفت بني العم والعشيرة من بعد موتي أن يضيّعوا الدين ولا يُحسنوا وراثة العلم والنبوة {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} أي لا تلد لكبر سنها أو لم تلدْ قطُّ {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} أي فارزقني من محض فضلك ولداً صالحاً يتولاني {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} أي يرثني ويرث أجداده في العلم والنبوة قال البيضاوي: المراد وراثة الشرع والعلم فإن الأنبياء لا يورّثون المال {واجعله رَبِّ رَضِيّاً} أي أجعله يا رب مرضياً عندك قال الرازي: قدًَّم زكريا عليه السلام على طلب الولد أموراً ثلاثة: أحدها: كونه ضعيفاً، والثاني: أن الله ما ردَّ دعاءه البتة، والثالث: كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين ثم صرَّح بسؤال الولد وذلك مما يزيد الدعاء توكيداً لما فيه من الاعتماد على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى} أي نبشرك بواسطة الملائكة بغلامٍ يسمى يحيى كما في آل عمران {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى}
[آل عمران: 39] {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أي لم يسمَّ أحدٌ قبله بيحيى فهو اسم فذٌّ غير مسبوق سمّاه تعالى به ولم يترك تسميته لوالديه وقال مجاهد: ليس له شبيه في الفضل والكمال {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} أي كيف يكون لي غلام؟ وهو استفهام تعجب وسرور بالأمر العجيب {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} أي والحال أن أمرأتي كبيرة السن لم تلد في شبابها فكيف وهو الآن عجوز!! {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} أي(2/194)
بلغتُ في الكبر والشيخوخة نهاية العمر قال المفسرون: كان قد بلغ مائةً وعشرين سنة، وامرأتهُ ثمانٍ وتسعين سنة، فأراد أن يطمئنَّ ويعرف الوسيلة التي يرزقه بها هذا الغلام {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي قال الله لزكريا: هكذا الأمر أخلقه من شيخين كبيرين، وخلقه وإيجادُه سهلٌ يسيرٌ عليَّ {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} أي كما خلقتُك من العدم ولم تكُ شيئاً مذكوراً فأنا قادر على خلق يحيى منكما قال المفسرون: ليس في الخلق هينٌ وصعبٌ على الله، فوسيلة الخلق للصغير والكبير، والجليل والحقير واحدةٌ {كُن فَيَكُونُ} وإنما هو أهونُ في اعتبار الناس، فإن القادر على الخلق من العدم قادرٌ على الخلق من شيخين هرمين {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً} أي اجعل لي علامة تدل على حمل امرأتي {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي علامتك ألا تستطيع تكليم الناس ثلاثة أيام بلياليهن وأنت سويُّ الخلق ليس بك خرسٌ ولا علة قال ابن عباس: اعتُقِل لسانه من غير مرض وقال ابن زيد: حُبس لسانه فكان لا يستطيع أن يكلم أحداً وهو مع ذلك يسبح ويقرأ التوراة لم يكن الإنجيل ظهر بعد لأن هذا قبل ولادة عيسى عليه السلام فإذا أراد الناس لم يستطع أن يكلمهم {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب} أي أشرف عليهم من المصلّى وهو بتلك الصفة {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أي أشار إلى قومه بأن سبّحوا الله في أوائل النهار وأواخره، وكان كلامه مع الناس بالإِشارة لقوله تعالى في آل عمران {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً} [آل عمران: 41] {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ} في الكلام حذفٌ والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السن الذي يؤمر فيه قال الله له: يا يحيى خذ التوراة بجدٍ واجتهاد {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} أي أعطيناه الحكمة ورجاحة العقل منذ الصغر، روي أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعبُ فقال لهم: ما للَّعب خُلقت، وقيل: أعطي النبوة منذ الصغر والأول أظهر قال الطبري: المعنى أعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه سن الرجال {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً} أي فعلنا ذلك رحمة منا بأبوية وعطفاً عليه وتزكيةً له من الخصال الذميمة {وَكَانَ تَقِيّاً} أي عبداً صالحاً متقياً لله، لم يهمَّ بمعصيةٍ قط قال ابن عباس: طاهراً لم يعلم بذنب {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} أي جعلناه باراً بأبيه وأمه محسناً إليهما ولم يكن متكبراً عاصياً لربه {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} أي سلام عليه من الله من حين مولده إلى حين مبعثه، في يوم ولادته وفي يوم موته ويوم يُبعث من قبره قال ابن عطية: حيَّاه في المواطن التي يكون الإنسان فيها في غاية الضعف، والحاجة، والافتقار إلى الله {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} هذه هي القصة الثانية في هذه السورة وهي أعجب من قصة «ميلاد يحيى» لأنها ولادة عذراء من غير بعل، وهي أغرب من ولادة عاقرٍ من بعلها الكبير في السن والمعنى اذكر يا محمد قصة مريم العجيبة الغريبة الدالة على كمال قدرة الله {إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} أي حين تنحَّتْ واعتزلت أهلها في مكان شرقيَّ بيت المقدس لتتفرع لعبادة الله {فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً} أي جعلت بينها وبين قومها(2/195)
ستراً وحاجزاً {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} أي أرسلنا إليها جبريل عليه السلام {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} أي تصوَّر لها في صورة البشر التام الخلقة قال ابن عباس: جاءها في صورة شاب أبيض الوجه جعْدَ الشعر مستوى الخلقة قال المفسرون: إنما تمثل لها في صورة الإنسان لتسأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرتْ ولم تقدر على السماع لكلامه، ودلَّ على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة في الحسن {قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أي فلما رأته فزعت وخشيتْ أن يكون إنما أرادها بسوء فقالت: إني أحتمي وألتجئ إلى الله منك، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره إن كنت تقياً فاتركني ولا تؤذني {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} أي قال لها جبريل مزيلاً لما حصل عندها من الخوف: ما أنا إلا ملَكٌ مرسلٌ من عند الله إليك ليهبَ لك غلاماً طاهراً من الذنوب {قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} أي كيف يكون لي غلام؟ وعلى أيّ صفةٍ يوجد هذا الغلام مني؟ {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} أي ولستُ بذاتِ زوج حتى يأتيني ولد ولستُ بزانية {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي كذلك الأمر حكم ربُّك بمجيء الغلام منك وإن لم يكن لك زوج، فإنَّ ذلك على الله سهل يسير {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا} أي وليكون مجيئه دلالةّ للناس على قدرتنا العجيبة ورحمة لهم ببعثته نبياً يهتدون بإرشاده {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} أي وكان وجوده أمراً مفروغاً منه لا يتغّير ولا يتبدل لأنه في سابق علم الله الأزلي {فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء قال المفسرون: إن جبريل نفخ في جيب درعها فدخلت النفخة في جوفها فحملت به وتنحت إلى مكان بعيد ومعنى الآية أنها حملت بالجنين فاعتزلت - وهو في بطنها - مكاناً بعيداً عن أهلها خشية أن يعيرّوها بالولادة من غير زوج {فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة} أي فألجأها ألم الطَّلق وشدة الولادة إلى ساق نخلةٍ يابسة لتعتمد عليه عند الولادة {قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} أي قالت يا ليتني كنت قد مِتُّ قبل هذا اليوم وكنت شيئاً تافهاً لا يُعرف ولا يُذكر قال ابن كثير: عرفت أنها ستُبتلى وتُمتحن بهذا المولود فتمنت الموت لأنها عرفت أن الناس لا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عاهرة زانية ولذلك قالت ما قالت {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي} أي فناداها الملك من تحت النخلة قائلاً لها: لا تحزني لهذا الأمر {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} أي جعل لك جدولاً صغيراً يجري أمامك قال ابن عباس: ضرب جبريل برجله الأرض فظهرت عين ماءٍ عذب فجرى جدولاً {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} أي حركي جذع النخلة اليابسة {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} أي يتساقط عليك الرُّطب الشهيُّ الطريُّ قال المفسرون: أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع بعد رؤيتها عين الماء العذب الذي جرى جدولاً، وذلك ليسكن ألمها وتعلم أن ذلك كرامة من الله لها {فَكُلِي واشربي} أي كلي من هذا الرطب الشهي، واشربي من هذا الماء العذب السلسبيل {وَقَرِّي عَيْناً} أي طيبي نفساً بهذا المولود(2/196)
ولا تحزني {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً} أي فإن رأيتِ أحداً من الناس وسألك عن شأن المولود {فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} أي نذرت السكوت والصمت لله تعالى {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} أي لن أكلّم أحداً من الناس.
. أُمِرت بالكفّ عن الكلام ليكفيها ولدها ذلك فتكون آية باهرة {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} أي أتتْ قومها بعد أن طهرت من النفاس تحمل ولدها عيسى على يديها {قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} أي فلما وابنها أعظموا أمرها واستنكروه وقالوا لها: لقد جئتِ شيئاً عظيماً مُنكراً {ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} أي يا شبيهة هارون في الصلاح والعبادة ما كان أبوك رجلاً فاجراً {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} أي وما كانت أمكِ زانية فكيف صدر هذا منك وأنت من بيت طاهر معرفٍ بالصلاح والعبادة؟ قال قتادة: كان هارون رجلاً صالحاً في بني إسرائيل مشهوراً بالصلاح فشبهوها به، وليس بهارون أخي موسى لأن بينهما ما يزيد على ألف عام وقال السهيلي: هارون رجل من عُباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تُشبّه به في اجتهادها وليس بهارون أخي موسى بن عمران فإن بينهما دهراً طويلاً {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي لم تجبهم وأشارت إلى عيسى ليكلموه ويسألوه {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} أي قالوا متعجبين: كيف نكلم طفلاً رضيعاً لا يزال في السرير يغتذي بلبان أمه؟ قال الرازي: روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وكلمهم، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله} أي قال عيسى في كلامه حين كلمهم: أنا عبدٌ لله خلقني بقدرته من دون أب، قدم ذكر العبودية، ليُبطل قول من ادّعى في الربوبية {آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} أي قضى ربي أن يؤتيني الإنجيل ويجعلني نبياً، وإنما جاء بلفظ الماضي لإفادته تحققه فإن ما حكم به الله أزلاً لا بدَّ إلا أن يقع {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} أي جعل فيَّ البركة والخير والنفع للعباد حيثما كنت وأينما حللت {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً} أي أوصاني بالمحافظة على الصلاة والزكاة مدة حياتي {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} أي وجعلني باراً بوالدتي محسناً لها {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} أي ولم يجعلني متعظماً متكبراً على أحد شقياً في حياتي {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} أي سلام الله عليَّ في يوم ولادتي، وفي يوم مماتي، وفي يوم خروجي حياً من قبري، هذا ما نطق به المسيح عليه السلام وهو طفل رضيع في المهد.
. وهكذا يعلن عيسى عبوديته لله، فليس هو إلهاً، ولا ابن إله، ولا ثالث ثلاثة كما يزعم النصارى، إنما عبدٌ ورسول، يحيا ويموت كسائر البشر، خلقه الله من أم دون أب ليكون آية على قدرة الله الباهرة، ولهذا جاء التعقيب المباشر {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} أي ذلك هو القول الحقُّ في عيسى بن مريم لا ما يصفه النصارى من أنه ابن الله، أو اليهود من أنه ابن زنى ويشكّون في أمره ويمترون {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} أي ما ينبغي لله ولا يجوز له أن يتخذ ولداً {سُبْحَانَهُ} أي تنزَّه الله عن الولد والشريك {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي إذا أراد شيئاً وحكم به قال له كنْ فكان، ولا يحتاج إلى(2/197)
معاناةٍ أو تعب، ومن كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ قال المفسرون: وهذا كالدليل لما سبق كأنه قال: إن اتخاذ الولد شأن العاجز الضعيف المحتاج الذي لا يقدر على شيء، وأما القادر الغني الذي يقول للشيء {كُن فَيَكُونُ} فلا يحتاج في اتخاذ الولد إلى إحبال الأنثى وحيث أوجده بقوله {كُن} لا يسمى ابناً له بل هو عبده، فهو تبكيتٌ وإلزام لهم بالحجج الباهرة {وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} أي وممّا أمرَ به عيسى قومَه وهو في المهد أن أخبرهم أن الله ربه وربهم فليفردوه بالعبادة هذا هو الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} أي اختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى وصاروا أحزاباً متفرقين، فمنهم من يزعم أنه ابن الله، ومنهم من يزعم أنه ابن زنى {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي ويلٌ لهم من المشهد الهائل ومن شهود هول الحساب والجزاء {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أي ما أسمعهم وأبصرهم في ذلك اليوم الرهيب {لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي لكنْ الظالمون في هذه الدنيا في بعدٍ وغفلة عن الحق واضح جلي {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} أي أنذر الخلائق وخوّفهم يوم القيامة يوم يتحسر المسيء إذ لم يُحسن، والمقصر إذ لم يزدد من الخير {إِذْ قُضِيَ الأمر} أي قُضي أمرُ الله في الناس، فريقٌ في الجنة وفريق في السعير {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أي وهم اليوم في غفلةٍ سادرون {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي لا يصدقون بالبعث والنشور {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} أي نحن الوارثون للأرض وما عليها من الكنوز والبشر {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي مرجع الخلائق ومصيرهم إلينا للحساب والجزاء.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - الكناية {وَهَنَ العظم مِنِّي} كناية عن ذهاب القوة وضعف الجسم.
2 - الاستعارة {اشتعل الرأس شَيْباً} شبّه انتشار الشيب وكثرته باشتعال النار في الحطب واستعير الاشتعال للانتشار واشتق منه اشتعل بمعنى انتشر ففيه استعارة تبعية.
3 - الطباق بين {وُلِدَ. . ويَمُوتُ} .
4 - جناس الاشتقاق {نادى. . نِدَآءً} .
5 - الكناية اللطيفة {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} كناية عن المعاشرة الزوجية بالجماع.
6 - صيغة التعجب {أَسْمِعْ. . وَأَبْصِرْ} .
7 - السجع {سَرِيّاً، بَغِيّاً، صَبِيّاً، نَبِيّاً} وهو من المحسنات البديعة.
تنبيه: في يوم القيامة تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم ممحض للحسرة لا شيء فيه سواها، وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «» إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال يا أهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون - أي يمدون أعناقهم - وينظرون ويقولون نعم هذا الموت، ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت، فيؤمر به فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة. .} الآية «.(2/198)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
المنَاسَبَة: لم ذكر تعالى «قصة مريم» واختلاف النصارى في شأن عيسى حتى عبدوه من دون الله، أعقبها بذكر «قصة إبراهيم» وتحطيمه الأصنام لتذكير الناس بما كان عليه خليل الرحمن من توحيد الربّ الديّان، وسواء في الضلال من عبد بشراً أو عبد حجراً، فالنصارى عبدوا المسيح، ومشركوا العرب عبدوا الأوثان.
اللغَة: {صِدِّيقاً} من أبنية المبالغة ومعناه كثير الصدق {مَلِيّاً} دهراً طويلاً من قولهم أمليتُ لفلان في الأمر إذا أطلت له قال الشاعر:
فتصدَّعت شُمُّ الجبال لموته ... وَبكتْ عليه المُرْملاتُ مليّاً
{حَفِيّاً} الحفيُّ: المبالغ في البر واللطف به {خَلْفٌ} الخلف: بسكون اللام الذي يخلف سلفه بالشر وبفتحها الذي يخلفه بالخير يقال جعلك الله خير خلفٍ لخير سلف وقال الشاعر:(2/199)
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلْف كجلد الأجرب
{غَيّاً} : شراً وضلالاً قال أهل اللغة: كل شر عند العرب فهو غي، وكل خير فهو رشاد.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا؟ فنزلت الآية {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ. .} الآية» .
التفسِير: {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ} أي اذكر يا محمد في الكتاب العزيز خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} أي ملازماً للصدق مبالغاً فيه، جامعاً بين الصّديقية والنبوة والغرضُ تنبيه العرب إلى فضل إبراهيم الذي يزعمون الانتساب إليه ثم يعبدون الأوثان مع أنه إمام الحنفاء وقد جاء بالتوحيد الصافي الذي دعاهم إليه خاتم المرسلين {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} أي ناداه متلطفاً بخطابه، مستميلاً له نحو الهداية والإيمان، يا أبتِ لم تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر، ولا يجلب لك نفعاً أو يدفع عنك ضراً؟ {ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ} كرَّر النصح باللطف ولم يصف أباه بالجهل الشنيع في عبادته للأصنام وإنما ترفق وتلطف في كلامه أي جاءني من العلم بالله ومعرفة صفاته القدسية ما لا تعلمه أنت {فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أي اقبل نصيحتي وأطعني أرشدك إلى طريق مستقيم فيه النجاة من المهالك وهو دين الله الذي لا عوج فيه {ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} أي لا تطع أمر الشيطان في الكفر وعبادة الأوثان {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} أي إن الشيطان عاصٍ للرحمن، مستكبر على عبادة ربه، فمن أطاعه أغواه، قال القرطبي: وإنما عبّر بالعبادة عن الطاعة لأن من أطاع شيئاً في معصية الله فقد عبده {ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} تحذيرٌ من سوء العاقبة والمعنى أخاف أن تموت على كفرك فيحل بك عذاب الله الأليم وتكون قريناً للشيطان بالخلود في النيران قال الإمام الفخر: وإيراد الكلام بلفظ {ياأبت} في كل خطاب دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب، وإرشاده إلى الصواب، وقد رتَّب إبراهيم الكلام في غاية الحسن، لأنه نبَّهه أولاً إلى بطلان عبادة الأوثان، ثم أمره باتباعه في الاستدلال وترك التقليد الأعمى، ثم ذكَّره بأن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول، ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام مع رعاية الأدب والرفق، وقوله {إني أَخَافُ} دليلٌ على شدة تعلق قلبه بمصالحه قضاءً لحق الأبوَّة {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم} أي قال له أبوه آزر: أتارك يا إبراهيم عبادة آلهتي ومنصرفٌ عنها؟ استفهامٌ فيه معنى التعجب والإنكار لإعراضه عن عبادة الأوثان كأن ترك عبادتها لا يصدر عن عاقل قال البيضاوي: قابل أبوه استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظه وغلظة العناد، فناداه باسمه ولم يقابل قوله {ياأبت} ب «يا ابني» وقدَّم الخبر وصدَّره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة كأنها مما لا يرغب عنها عاقل، ثم هدَّده بقوله {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} أي لئن لم تترك شتم وعيب آلهتي لأرجمنك بالحجارة {واهجرني مَلِيّاً} أي اهجرني دهراً طويلاً قال السديُّ: أبداً.
. بهذه الجهالة تلقى «آزر»(2/200)
الدعوة إلى الهدى، وبهذه القسوة قابل القول المؤدَّب المهذَّب، وكذلك شأن الكفر مع الإيمان، وشأن القلب الذي هذَّبه الإيمان، والقلب الذي أفسده الطغيان {قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} أي قال إبراهيم في جوابه: أمَّا أنا فلا ينالك مني أذى ولا مكروه، ولا أقول لك بعدُ ما يؤذيك لحرمة الأبوَّة، وسأسأل الله أن يهديك ويغفر لك ذنبك {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} أي مبالغاً في اللطف بي والاعتناء بشأني {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي أترككم وما تعبدون من الأوثان وأرتحل عن دياركم {وَأَدْعُو رَبِّي} أي وأعبد ربي وحده مخلصاً له العبادة {عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً} أي راجياً بسبب إخلاصي العبادة له ألاَّ يجعلني شقياً، وفيه تعريضٌ بشقاوتهم بدعاء آلهتم. . وهكذا اعتزل إبراهيم أباه وقومه وعبادتهم للأوثان، وهجر الأهل والأوطان، فلم يتركه الله وحيداً بل وهب له ذريةً وعوَّضه خيراً {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} قال المفسرون: لما هاجر إبراهيم إلى أرض الشام، واعتزل أباه وقومه في الله، أبدله الله من هو خيرٌ منهم، فوهب له إسحاق ويعقوبُ أولاداً أنبياء، فآنس الله بهما وحشته عن فراق قومه بأولئك الأولاد الأطهار، ويعقوب ابن اسحاق، وهما شجرتا الأنبياء فقد جاء من نسلهما أنبياء بني إسرائيل قال ابن كثير: المعنى جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر الله بهم عينه في حياته بالنبوة ولهذا قال {وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} أي كل واحدٍ منهما جعلناه نبياً {وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا} أي أعطينا الجميعَ - إبراهيم وإسحاق ويعقوب - كل الخير الديني والدنيوي، من المال والولد والعلم والعمل {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} أي جعلنا لهم ذكراً حسناً في الناس، لأن جميع أهل الملل والأديان يثنون عليهم لما لهم من الخصال المرضية، ويُصلون على إبراهيم وعلى آله إلى قيام الساعة، قال الطبري: أي رزقناهم الثناء الحسن، والذكر الجميل في الناس {واذكر فِي الكتاب موسى} أي اذكر يا محمد لقومك في القرآن العظيم خبر موسى الكليم {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} أي استخلصه الله لنفسه، واصطفاه من بين الخلق لكلامه {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} أي من الرسل الكبار، والأنبياء الأطهار، جمع الله له بين الوصفين الجليلين، وإنما أعاد لفظ «كان» لتفخيم شأن النبي المذكور {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} أي نادينا موسى من جهة جبل الطور من ناحية اليمين حين كلمناه بلا واسطة {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} أي أدنْيناه للمناجاة حين كلمناه قال ابن عباس: أُدني موسى من الملكوت ورُفعت له الحُجب حتى سمع صريف الأقلام قال الزمخشري: شبّهه بمن قرَّبه بعض العظماء للمناجاة حيث كلَّمه بغير واسطة ملك {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} أي وهبنا له من نعمتنا عليه أخاه هارون فجعلناه نبياً إجابة لدعائه حين قال
{واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} [طه: 29 - 30] جعلناه له عضداً وناصراً ومعيناً {واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ} أي اذكر يا محمد في القرآن العظيم خبر جدّك «إسماعيل» الذبيح ابن إبراهيم، وهو أبو العرب جميعاً {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} أي كان صادقاً في وعده، لا يعد بوعدٍ إلا وفى به قال المفسرون: وذُكر بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً وإكراماً،(2/201)
ولأنه عانى في الوفاء بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء، فمن مواعيده الصبر وتسليم نفسه للذبح فلذلك أثنى الله عليه {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} أي جمع الله له بين الرسالة والنبوة قال ابن كثير: وفي الآية دليل على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وُصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة، ومن إسماعيل جاء خاتم المرسلين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة} أي كان يحث أهله على طاعة الله، وبخاصة الصلاة التي هي عماد الدين، والزكاة التي بها تتحقق سعادة المجتمع {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} أي نال رضى الله قال الرازي: وهذا نهاية المدح لأن المرضيَّ عند الله هو الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات {واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً} أي اذكر يا محمد في الكتاب الجليل خبر إدريس إنه كان ملازماً للصدق في جميع أحواله، موحىً إلأيه من الله قال المفسرون: إدريس هو جدُّ نوح، وأول مرسل بعد بعد آدم، وأول من خط بالقلم ولبس المخيط، وكانوا من قبل يلبسون الجلود، وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} أي رفعنا ذكره وأعلينا قدره، بشرف النبوة والزلفى عند الله {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين} أي أولئك المذكورون هم أنبياء الله ورسله الكرام، الذين قصصنا عليك خبرهم في هذه السورة - وهم عشرة أولهم زكريا وآخرهم إدريس - وهم الذين أنعم الله عليهم بشرف النبوة {مِن ذُرِّيَّةِءَادَمَ} أي من نسل آدم كإِدريس {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} كإِبراهيم فإِنه من ذرية سام بن نوح {وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} كإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب {وَإِسْرَائِيلَ} أي ومن ذرية إسرائيل وهو «يعقوب» كموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ} أي وممن هديناهم للإيمان واصطفيناهم لرسالتنا ووحينا {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} أي إذا سمعوا كلام الله سجدوا وبكوا من خشية الله مع ما لهم من علو الرتبة، وسموِّ النفس، والزلفى من الله تعالى، قال القرطبي: وفي الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيراً في القلوب {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} أي جاء من بعد هؤلاء الأتقياء قومٌ أشقياء، تركوا الصلوات وسلكوا طريق الشهوات {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} أي سوف يلقون كل شرٍّ وخسارٍ ودمار، قال ابن عباس: عيٌّ وادٍ في جهنم، وإِن أودية جهنم لتستعيذ بالله من حره {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} أي إلا من تاب وأناب وأصلح عمله {فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} أي فأولئك يُسعدون في الجنة ولا يُنقصون من جزاء أعمالهم شيئاً {جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} أي هي جنات إقامة التي وعدهم بها ربهم فآمنوا بها بالغيب قبل أن يروها تصديقاً بوعده تعالى {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} أي إن وعده تعالى بالجنة آتٍ وحاصلٌ لا يُخلف {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً} أي لا يسمعون في الجنة شيئاً من فضول الكلام، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم على وجه التحية والإكرام، والاستثناء منقطع {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} أي ولهم ما يشتهون في الجنة من أنواع المطاعم والمشارب بدون كدٍّ ولا تعب، ولا نتغصٍ ولا انقطاع {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ(2/202)
عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها هي التي نورثها لعبادنا المتقين {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} هذا من كلام جبريل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين احتبس عنه فترةً من الزمن والمعنى: ما نتنزَّل إلى الدنيا إلا بأمر الله وإِذنه {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك} أي لله جل وعلا جميع الأمر، أمر الدنيا والآخرة، وهو المحيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل شيء إلا بأمره وإِذنه؟ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أي لا ينسى شيئاً من أعمال العباد {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده} أي هو ربُّ العوالم علويها وسفليها فاعبده وحده {واصطبر لِعِبَادَتِهِ} أي اصبر على تكاليف العبادة {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أي هل تعلم له شبيهاً ونظيراً؟
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الكناية اللطيفة {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} كنَّى عن الذكر الحسن والثناء الجميل باللسان لأن الثناء يكون باللسان فلذلك قال {لِسَانَ صِدْقٍ} كما يكنى عن العطاء باليد.
2 - الاستعارة {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} شبَّه المكانة العظيمة والمنزلة السامية بالمكان العالي بطريق الاستعارة.
3 - المبالغة {صِدِّيقاً نَّبِيَّاً} أي مبالغاً في الصدق.
4 - الإشارة بالبعيد لعلو المرتبة {أولئك الذين أَنْعَمَ} فما فيه من معنى البعد للإشادة بعلو رتبهم وبُعد منزلتهم في الفضل.
5 - الجناس الناقص {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} لتغير الحركات والشكل.
6 - الطباق {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} وبين {بُكْرَةً. . وَعَشِيّاً} .
7 - السجع الحسن الرصين {عَلِيّاً، حَفِيّاً، نَّبِيَّاً} .
فائِدَة: في قول إبراهيم عليه السلام «يا أبتٍ» تلطفٌ واستدعاء، والتاء عوضٌ عن ياء الإضافة لأن أصله «يا أبي» ولهذا لا يُجمع بينهما.
تنبيه: ذكر السيوطي في التحبير أن إبراهيم عليه السلام عاش من العمر مائة وخمساً وسبعين سنة، وبينه وبين آدم ألفا سنة، وبينه وبين نوح ألف سنة، ومنه تفرعت شجرة الأنبياء.(2/203)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
المناسَبَة: لما ذكر تعالى طائفةً من قصص الأنبياء للعظة والاعتبار، وكان الغرضُ الأساسي للسورة الكريمة إثبات قدرة الله على الإحياء والإفناء، وإثباتُ يوم المعاد، ذكر تعالى هنا بعض شبهات المكذبين للبعث والنشور وردَّ عليها بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، وختم السورة الكريمة ببيان مآل السعداء والأشقياء.
اللغَة: {جِثِيّاً} جمع جاثٍ يقال: جثا إذا قعد على ركبتيه من شدة الهول وهي قعدة الخائف الذليل قال الكُميت:
هُمُو تركوا سراتُهم جثّياً ... وهم دُونَ السَّراة مقرَّنينا
{عِتِيّاً} عصياناً وتمرداً عن الحق {نَدِيّاً} النديُّ والنادي: الذي يجتمع فيه القوم للتحدث والمشورة قال الجوهري: النديُّ مجلس القوم ومتحدثهم وكذلك الندوة والنادي فإن تفرقوا فليس بندي {أَثَاثاً} الأثاث: متاع البيت {رِءْياً} منظراً حسناً {تَؤُزُّهُمْ} الأزُّ: التهييجُ والإِغراء، قال أهل اللغة: الأزُ والهزُّ والاستفزاز متقاربة ومعناها التهييج وشدة الإزعاج ومنه أزيز المِرجل وهو غليانه وحركته {وَفْداً} جمع وافد وهو الذي يقدم على سبيل التكرمة معزَّزاً مكرَّماً {وِرْداً} مشاةً عطاشاً قال الرازي: والورد اسم للعطاش لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش {إِدّاً} منكراً(2/204)
عظيماً قال الجوهري: الإدُّ: الداهية والأمر الفظيع {رِكْزاً} الركز: الصوت الخفي.
سَبَبُ النّزول: عن خباب بن الأرت قال: كنتُ رجلاً قيناً - أي حداداً - وكان لي على العاص بن وائل دينٌ فأتيتُه أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث - أي تموت الآن وتبعث أمامي وهذا من باب المستحيل - قال: فإني إذا متُّ ثم بُعثتُ جئتني ولي ثمَّ مالٌ فأعطيتك فأنزل الله {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} .
التفسِير: {وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} أي يقول الكافر الذي لا يصدق بالبعث بعد الموت على وجه الإِنكار والاستبعاد: أئذا متُّ وأصبحتُ تراباً ورفاتاً فسوف أخرج من القبر حياً؟ قال ابن كثير: يتعجب ويستبعد إِعادته بعد موته، واللام «لسوف» للمبالغة في الإنكار، وهو إنكار منشؤه غفلة الإنسان عن نشأته الأولى، أين كان؟ وكيف كان؟ ولو تذكّر لعلم أن الأمر أيسر مما يتصور {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} أي أولاً يتذكر هذا المكذّب الجاحد أول خلقه فيستدل بالبداءة على الإعادة؟ ويعلم أن الله الذي خلقه من العدم قادرٌ على أن يعيده بعد الفناء وتشتت الأجزاء؟ قال بعضُ العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجةٍ في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها، إذْ لا شكَّ أنَّ الإعادة ثانياً أهونُ من الإيجاد أولاً، ونظيره قوله {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين} أي فوربك يا محمد لنحشرنَّ هؤلاء المكذبين بالبعث مع الشياطين الذين أغووهم قال المفسرون: يُحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} أي محضر هؤلاء المجرمين حول جهنم قعوداً على الركب من شدة الهول والفزع، لا يطيقون القيام على أرجلهم لما يدهمهم من شدة الأمر {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} أي لنأخذنَّ ولننتزعنَّ من كل فرقةٍ وجماعة ارتبطت بمذهب {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} أي من منهم أعصى لله وأشد تمرداً، والمراد أنه يؤخذ من هؤلاء المجرمين ليقذف في جهنم الأعتى فالأعتى قال ابن مسعود: يُبدأ بالأكابر جرماً {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} أي نحن أعلم بمن هم أحق بدخول النار والاصطلاء بحرها وبمن يستحق تضعيف العذاب فنبدأ بهم {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} أي ما منكم أحدٌ من برٍ أو فاجر ألاً وسيرد على النار، المؤمن للعبور والكافر للقرار {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} أي كان ذلك الورود قضاءً لازماً لا يمكن خُلفه {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} أي ننجّي من جهنم المتقين بعد مرور الجميع عليها {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} أي ونترك الظالمين في جهنم قعوداً على الركب قال البيضاوي: والآية دليلٌ على أن المراد بالورود(2/205)
والجثوُّ حواليها، وأن المؤمنين يفارقون الفجرة إلى جنة بعد نجاتهم، ويبقى الفجرة فيها على هيئاتهم {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بينات} أي وإذا قرئت على المشركين آيات القرآن المبين، واضحات الإعجاز، بينات المعاني {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} أي قال الكفرة المترفون لفقراء المؤمنين أيُّ الفريقين: - نحن أو أنتم - أحسنُ مسكناً، وأطيب عيشاً، وأكرم منتدى ومجلساً؟ قال البيضاوي: إن المشركين لما سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا، والاستدلال بزيادة حظهم فيها على فضلهم وحسن حالهم لقصور نظرهم، فردَّ الله عليهم بقوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} أي وكثير من الأمم المكذبين بآياتنا أهلكناهم بكفرهم كانوا أكثر من هؤلاء متاعاً، وأجمل صورةً ومنظراً، فكما أهلكنا السابقين نهلك اللاحقين، فلا يغترُّ هؤلاء بما لديهم من النعيم والمتاع {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أنهم على حق: من كان في الضلالة منا ومنكم فليمهله الرحمن فيما هو فيه، وليدعْه في طغيانه، حتى يلقى ربه وينقضي أجله قال القرطبي: وهذا غايةٌ في التهديد والوعيد {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} أي حتى يروا ما يحلُّ بهم من وعد الله {إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة} أي إمَّا عذاب الدنيا بالقتل والأسر، أو عذاب الآخرة بما ينالهم يوم القيامة من الشدائد والأهوال {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} أي فسيعلمون عندئذ حين تنكشف الحقائق أي الفريقين شرٌّ منزلة عند الله، وأقل فئة وأنصاراً، هل هم الكفار أم المؤمنون؟ وهذا في مقابلة قولهم {خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} أي ويزيد الله المؤمنين المهتدين، بصيرةً وإيماناً وهداية {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} أي والأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها ذخراً في الآخرة خير عند الله من كل ما يتباهى به أهل الأرض من حيث الأجر والثواب {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} أي وخير رجوعاً وعاقبة، فإن نعيم الدنيا زائل ونعيم الآخرة باقٍ دائم {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} نزلت في العاص بن وائل، والاستفهام للتعجب أي تعجَّب يا محمد من قصة هذا الكافر الذي جحد بآيات الله وزعم أن الله سيعطيه في الآخرة المال والبنين {أَطَّلَعَ الغيب} أي هل اطَّلع على الغيب الذي تفرَّد به علاّم الغيوب؟ {أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} أي أم أعطاه الله عهداً بذلك فهو يتكلم عن ثقةٍ ويقين؟ {كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} ردٌّ عليه، ولفظةُ «كلا» للردع والزجر أي ليرتدع ذلك الفاجر عن تلك المقالة الشنيعة فسنكتب ما يقول عليه {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} أي سنزيد له في العذاب ونطيله عليه جزاء طغيانه واستهزائه، ونضاعف له مدد العذاب مكان الإمداد بالمال والولد {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} أي ونرثه وما يخلفه من المال والولد بعد إهلاكه، ويأتينا وحيداً لا مال معه ولا ولد، ولا نصير له ولا سند {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} أي واتخذ المشركون أصناماً عبدوها من دون الله لينالوا بها العزَّ والشرف {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ(2/206)
عَلَيْهِمْ ضِدّاً} أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا فإن الآلهة التي عبدوها ستبرأ من عبادتهم ويكونون له أعداء يوم القيامة {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} أي ألم تر يا محمد أنَّا سلَّطنا الشياطين على الكافرين تُغريهم إغراءٌ بالشر، وتهيّجُهم تهييجاً حتى يركبوا المعاصي قال الرازي: أي تغريهم على المعاصي وتحثُّهم وتهيّجهم لها بالوساوس والتسويلات {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} أي لا تتعجل يا محمد في طلب هلاكهم فإِنه لم يبق لهم أيام وأنفاس نعدُّها عليهم عدّاً ثم يصيرون إلى عذاب شديد قال ابن عباس: نعدُّ أنفاسهم في الدنيا كما نعدُّ عليهم سنيَّهم {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} أي يوم نحشر المتقين إلى ربهم معزَّزين مكرَّمين، راكبين على النوق كما يفد الوفود على الملوك منتظرين لكرامتهم وإِنعامهم {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} أي ونسوق المجرمين كما تُساق البهائم مشاةً عطاشاً كأنهم إبلٌ عطاش تُساق إلى الماء وفي الحديث
«يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راغبين، وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، واربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتُجرُّ بقيتهم إلى النار، تقبل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا»
{لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة} أي لا يشفعون ولا يُشفع لهم {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} الاستثناء منقطع أي لكنْ من تحلَّى بالإيمان والعمل الصالح فإنه يملك الشفاعة قال ابن عباس: العهدُ «شهادة أن لا إله إلا الله» {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} أي اليهود والنصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله {لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} أي لقد أتيتم أيها المشركون بقولٍ منكر عظيم تناهى في القبح والشناعة {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أي تكاد السماوات تتشقَّق من هول هذا القول {وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} أي وتنشقُّ كذلك الأرض وتندكُّ الجبال وتُهدُّ هداً استعظاماً للكلمة الشنيعة {أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} أي ما يليق به سبحانه اتخاذ الولد، لأن الولد يقتضي المجانسة ويكون عن حاجة، وهو المنزَّه عن الشبيه والنظير، والغني عن المعين والنصير {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً} أي ما من مخلوقٍ في هذا العالم العلوي والسفلي إلا وهو عبدٌ لله، ذليلٌ خاضعٌ بين يديه، منقادٌ مطيع له كما يفعل العبيد {لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} أي علم عددهم وأحاط علمه بهم فلا يخفى عليه شيء من أمورهم {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً} أي وكل فردٍ يأتي يوم القيامة وحيداً فريداً، بلا مالٍ ولا نصير، ولا معين ولا خفير {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} لما ذكر أحوال المجرمين ذكر أحوال المؤمنين والمعنى سيحدث لهم في قلوب عباده الصالحين محبةً ومودة قال الربيع: يحبُّهم ويحببهم إلى الناس {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} أي فإِنما يسرنا يا محمد هذا القرآن بلسانك العربي تقرأه، وجعلناه سهلاً يسيراً لمن تدبره، لتبشّر به المؤمنين المتقين، وتخوّف به قوماً معاندين شديدي الخصومة والجدال {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} أي كم من الأمم الماضية أهلكناهم بتكذيبهم الرسل، و «كم» للتكثير {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ} أي هل ترى منهم أحداً؟ {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} أي(2/207)
أو تسمع صوتاً خفياً؟ والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم الديار، وأوحشت منهم المنازل، فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - ذكر العام وإرادة الخاص {وَيَقُولُ الإنسان} المراد به الكافر لأنه هو المنكر للبعث.
2 - الطباق بين {مِتُّ. . حَيّاً} وبين {تُبَشِّرَ. . وَتُنْذِرَ} .
3 - الاستفهام للإِنكار والتوبيخ {أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان} .
4 - المقابلة اللطيفة بين المتقين والمجرمين وبين حال الأبرار والأشرار {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً} {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} .
5 - الجناس غير التام {وَفْداً.
. وِرْداً} لتغير الحرف الثاني.
6 - اللف والنشر المرتب في {شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} حيث رجع الأول إلى {خَيْرٌ مَّقَاماً} والثاني إلى {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} كما يوجد بين {خَيْرٌ. . وشَرٌّ} طباق.
7 - المجاز العقلي {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أي نأمر الملائكة بالكتابة فهو من إسناد الشيء إلى سببه.
8 - السجع الرصين مثل {عَبْداً، عَدّاً، فَرْداً، وُدّاً} وهو من المحسنات البديعية.
فَائِدَة: أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن الله تعالى إذا أحبَّ عبداً دعا جبريل فقال: إني أحبُ فلاناً فأحبَّه فيحبُّه جبريل، ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء. .» الحديث وهو مصداق قوله تعالى {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} .
لطيفَة: روي أن المأمون قرأ هذه الآية {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} وعنده جماعة من الفقهاء فيهم ابن السماك فأشار إليه المأمون أن يعظه فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد قال الشاعر:
حياتكَ أنفاسٌ تُعدُّ فكلما ... مضى نفس منك انتقصت به جزءاً(2/208)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
اللغَة: {بِقَبَسٍ} القَبسُ: شعلةٌ من نار {المقدس} المطهَّر والمبارك {طُوًى} اسم للوادي {فتردى} تهلك والردى: الهلاك {أَهُشُّ} أخبط بها الشجر ليسقط الورق {مَآرِبُ} جمع مأْربه وهي الحاجة {جَنَاحِكَ} الجناح: الجَنب وجناحا الإنسان جنباه لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر {أَزْرِي} الأزر: القوة يقال: آزره أي قوّاه ومنه {فَآزَرَهُ فاستغلظ} [الفتح: 29] قال الشاعر:
أليس أبونا هاشمٌ شدَّ أَزْره ... وأوصى بَنيه بالطِّعان وبالضرب
{اليم} البحر {تَقَرَّ عَيْنُها} تُسرَّ بلقائك.
التفسِير: {طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} الحروف المقطعة للتنبيه إلى إعجاز القرآن وقال ابن عباس: معناها يا رجل، ومعنى الآية: ما أنزلنا عليك يا محمد القرآن لتشقى به إنما أنزلناه رحمة وسعادة، رُوي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما نزل عليه القرآن صلّى هو وأصحابه فأطال القيام فقالت(2/210)
قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فنزلت هذه الآية {إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى} أي ما أنزلناه إلا عظة وتذكيراً لمن يخشى الله ويخاف عقابه، وهو المؤمنُ المستنير بنور القرآن {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى} أي أنزله خالقُ الأرض، ومبدعُ الكون، ورافع السماوات الواسعة العالية، والآية إخبارٌ عن عظمته وجبروته وجلاله قال في البحر: ووصفُ السماوات بالعُلى دليلٌ على عظمة قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علُوِّها من غيره تعالى {الرحمن عَلَى العرش استوى} أي ذلك الربُّ الموصوف بصفات الكمال والجمال هو الرحمن الذي استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله من غير تجسيمٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل كما هو مذهب السلف {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} أي له سبحانه ما في الوجود كلِّه: السماواتُ السبعُ، والأرضون وما بينهما من المخلوقات وما تحت التراب من معادن ومكنونات، الكلُّ ملكُه وتحت تصرفه وقهره وسلطانه أي وإن تجهزْ يا محمد بالقول أو {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} تخفه في نفسك فسواءٌ عند ربك، فإنه يعلم السرَّ وما هو أخفى منه كالوسوسه والهاجس والخاطر. . والغرضُ من الآية طمأنينه قلبه عليه السلام بأن ربه معه يسمعه، ولن يتركه وحيداً يواجه الكافرين بلا والغرضُ من الآية طمأنينة قلبه عليه السلام بأن ربه معه يسمعه، ولن يتركه وحيداً يواجه الكافرين بلا سند فإذا كان يدعوه جهراً فإنه يعلم السرَّ وما هو أخفى، والقلب حين يستشعر قرب الله منه، وعلمه بسرَّه ونجواه يطمئن ويرضى ويأنس بهذا القرب الكريم {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى} أي ربكم هو الله المتفرد بالوحدانية، لا معبود بحق سواه، ذو الأسماء الحسنة التي هي في غاية الحسن وفي الحديث
«إن للهِ تسعةٌ وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة» {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} الاستفهام للتقرير وغرضه التشويق لما يُلقى إليه أي هل بلغك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة الغريبة؟ {إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً} أي حين رأى ناراً فقال لامرأته أقيمي مكانك فإني أبصرتُ ناراً قال ابن عباس: هذا حين قضى الأجل وسار بأهله من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق وكانت ليلة مظلمة شاتية فجعل يقدح بالزناد فلا يخرج منها شَررٌ فبينما هو كذلك إذْ بصر بنارٍ من على يسار الطريق، فلما رآها ظنها ناراً وكانت من نور الله {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ} أي لعلي آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} أي أجد هادياً يدلني على الطريق {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ} أي فلما أتى النار وجدها ناراً بيضاء تتّقد في شجرة خضراء وناداه ربُّه يا موسى: إني أنا(2/211)
ربُّك الذي أكلمك فاخلع النعلين من قدميك رعايةً للأدب وأَقْبل {إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى} أي فإنك بالوادي المطهَّر المبارك المسمّى طوى {وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى} أي اصطفيتك للنبوة فاستمع لما أُوحيه إليك قال الرازي: فيه نهايةُ الهيبة والجلالة فكأنه قال: لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهبْ له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إليه {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني} أي أنا الله المستحق للعبادة لا إله غيري فأفردني بالعبادة والتوحيد {وَأَقِمِ الصلاة لذكري} أي أقم الصلاة لتذكرني فيها قال مجاهد: إذا صلّى ذكر ربه لاشتمالها على الأذكار وقال الصاوي: خصَّ الصلاة بالذكر وإن كانت داخلةً في جملة العبادات لعظم شأنها، واحتوائها على الذكر، وشغل القلب واللسان والجوارح، فهي أفضل أركان الدين بعد التوحيد {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي إن الساعة قادمة وحاصلةٌ لا محالة أكاد أخفيها عن نفسي فكيف أطلعكم عليها؟ قال المبرَّد: وهذا على عادة العرب فإنهم يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي أي لم أطلع عليه أحداً {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} أي لتنال كلُّ نفس جزاء ما عملت من خير أو شر قال المفسرون: والحكمة من إخفائها وإخفاء وقت الموت أن الله تعالى حكم بعدم قبول التوبة عند قيام الساعة وعند الاحتضار، فلو عرف الناس وقت الساعة أو وقت الموت، لاشتغلوا بالمعاصي ثم تابوا قبل ذلك، فيتخلصون من العقاب، ولكنَّ الله عمَّى الأمر، ليظلَّ الناس على حذر دائم، وعلى استعداد دائم، من أن تبغتهم الساعة أو يفاجئهم الموت {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} أي لا يصرفنَّك يا موسى عن التأهب للساعة والتصديق بها من لا يوقن بها {واتبع هَوَاهُ} أي مالَ مع الهوى وأقبل على اللذائذ والشهوات ولم يحسب حساباً لآخرته {فتردى} أي فتهلك فإن الغفلة عن الآخرة مستلزمة للهلاك {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} أي وما هذه التي بيمينك يا موسى؟ أليست عصا؟ والغرضُ من الاستفهام التقريرُ والإِيقاظُ والتنبيهُ إلى ما سيبدوا من عجائب صنع الله في الخشبة اليابسة بانقلابها إلى حية، لتظهر لموسى القدرة الباهرة، والمعجزة القاهرة قال ابن كثير: إنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي أمَا هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها؟ فسترى ما نصنع بها الآن؟ {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} أي أعتمد عليها في حال المشي {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} أي أهزُّ بها الشجرة وأضرب بها على الأغصان ليتساقط ورقها فترعاه غنمي {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} أي ولي فيها مصالح ومنافع وحاجات أُخَر غير ذلك قال المفسرون: كان يكفي أن يقول هي عصاي ولكنه زاد في الجواب لأن المقام مباسطة وقد كان ربه يكلمه بلا واسطة، فأراد أن يزيد في الجواب ليزداد تلذذاً بالخطاب، وكلام الحبيب مريحٌ للنفس ومُذْهبٌ للعَناء {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى} أي اطرح هذه العصا التي بيدك يا موسى لترى من شأنها ما ترى! {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} أي فلما ألقاها(2/212)
صارت في الحال حية عظيمة تنتقل وتتحرك في غاية السرعة قال ابن عباس: انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيء خافه ونفر منه وولّى هارباً قال المفسرون: لما رأى هذا الأمر العجيب الهائل، لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف، لا سيما هذا الأمر الذي يذهب بالعقول، وإنما أظهر له هذه الآية وقت المناجاة تأنيساً له بهذه المعجزة الهائلة حتى لا يفزع إذا ألقاها عند فرعون لأنه يكون قد تدرَّب وتعوَّد {قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} أي قال له ربه: خذْها يا موسى ولا تخفْ منه {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} أي سنعيدها إلى حالتها الأولى كما كانت عصا لا حيَّة، فأمسكها فعادت عصا {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} أي أدخل يدك تحت إِبطك صم أخرجاها تخرج نيِّرة مضيئة كضوء الشمس والقمر من غير عيب ولا برص قال ابن كثير: كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها تخرج تتلألأ كأنها فلقة القمر من غير برصٍ ولا أذى {آيَةً أخرى} أي معجزة ثانية غير العصا {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى} أي لنريك بذلك بعض آياتنا العظيمة.
. أراه الله معجزتين «العصا، واليد» وهي ما أيَّده الله به من المعجزات الباهرة، ثم أمره أن يتوجه إلى فرعون رأس الكفر والطغيان {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} أي إذهب بما معك من الآيات إلى فرعون إِنه تكبَّر وتجبَّر وجاوز الحدِّ في الطغيان حتى ادَّعى الألوهية {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} أي وسِّعه ونوِّره بالإيمان والنُبوّة {وَيَسِّرْ لي أَمْرِي} أي سهّلْ عليَّ القيام بما كلفتني من أعباء الرسالة والدعوة {واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي} أي حلَّ هذه اللُّكنة الحاصلة في لساني حتى يفهموا كلامي قال المفسرون: عاش موسى في بيت فرعون فوضعه فرعون مرة في حِجْرهِ وهو صغير فجرَّ لحية فرعون بيده فهمَّ بقتله، فقالت له آسية: إنه لا يعقل وسأريك بيان ذلك، قدّمْ إليه جمرتين ولؤلؤتين، فإن أخذ اللؤلؤة عرفت أنه يعقل، وإن أخذ الجمرة عرفت أنه طفل لا يعقل، فقدَّم إليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه فكان في لسانه حَبْسة {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} أي اجعل لي معيناً يساعدني ويكون من أهلي وهو أخي هارون {اشدد بِهِ أَزْرِي} أي لتقوِّي به يا رب ظهري {وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي} أي أجعله شريكاً لي في النبوة وتبليغ الرسالة {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} أي كي نتعاون على تنزيهك عما لا يليق بك ونذكرك بالدعاء والثناء عليك {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} أي عالماً بأحوالنا لا يخفى عليك شيء من أفعالنا، طلب موسى من ربه أن يعينه بأخيه يشدُّ به أزره، لما يعلم منه من فصاحة اللسان، وثبات الجنَان، وأن يشركه معه في المهمة لما يعلم من طغيان فرعون وتكبره وجبروته {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} أي أُعطيت ما سألتَ وما طلبتَ، ثم ذكّر تعالى بالمنن العظام عليه {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} أي أنعمنا عليك يا موسى بمنَّة أخرى غير هذه المنة {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى} أي ألهمنا ما يُلهم ممّا كان سبباص في نجاتك {أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم} أي ألهمناها أن ألْقِ هذا لاطفل في الصندوق ثم اطرحيه في نهر النيل، ثم ماذا؟ ومن يتسلمه؟ {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} أي(2/213)
يلقيه النهر على شاطئه ويأخذه فرعون عدوي وعدوُّه قال في البحر: {فَلْيُلْقِهِ} أمرٌ معناه الخبر جاء بصيغة الأمر مبالغة إِذْ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} أي زرعتُ في القلوب محبتك بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك حتى أحبَّك فرعون قال ابن عباس: أحبَّه الله وحبَّبه إلى خلقه {وَلِتُصْنَعَ على عيني} أي ولتُربى بعين الله بحفظي ورعايتي {إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} أي حين تمشي أختك وتتَّبع أثرك فتقول لآل فرعون حين طلبوا لك المراض: هل أدلكم على من يضمن لكم حضانته ورضاعته؟ قال المفسرون: لمّا التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة لأن الله حرَّم عليه المراضع وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته أن تتَّبع خبره، فلما وصلت إلى بيت فرعون ورأته قالت: هل أدلكم على امرأة أمينة فاضلة تتعهد لكم رضاعٍ هذا الطفل؟ فطلبوا منها إحضارها فأتت بأم موسى فلما أخرجت ثديها التقمه ففرحت زوجة فرعون فرحاً شديداً وقالت لها: كوني معي القصر فقالت: لا أستطيع أن أترك بيتي وأولادي ولكنْ آخذه معي وآتي لك به كل حين فقالت نعم وأحسنت إليها غاية الإحسان فذلك قوله تعالى {فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ} أي رددناك إلى أمك لكي تُسرَّ بلقائك وتطمئن بسلامتك ونجاتك، ولكيلا تحزن على فراقك {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم} أي قتلت القبطي حين أصبحت شاباً فنجيناك من غمّ القتل وصرفنا عنك شرَّ فرعون وزبانيته، وفي صحيح مسلم: وكان قتله خطأ {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} أي ابتليناك ابتلاءً عظيماً بأنواعٍ من المِحن {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} أي مكثت سنين عديدة عند شعيب في أرض مدين {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى} أي جئت على موعدٍ ووقت مقدر للرسالة والنبوة.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - التشويق والحث على الإصغاء {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} .
2 - الإطناب {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} وكان يكفي أن يقول: هي عصاي ولكنه توسّع في الجواب تلذذاً بالخطاب.
3 - الاستعارة التصريحية {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} أصل الجناح للطائر ثم استعير لجنب الإنسان لأن كل جنب في موضع الجناح للطائر فسميت الجهتان جناحين بطريق الاستعارة.
4 - الاحتراس وهو عند علماء البيان أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد مثل قوله {بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} فلو اقتصر على قوله {بَيْضَآءَ} لأوهم أن ذكل من بَرص أو بهَق ولذلك احترس بقوله {مِنْ غَيْرِ سواء} .
5 - الاستعارة التمثيلية {وَلِتُصْنَعَ على عيني} تمثيل لشدة الرعاية وفرط الحفظ والكلاءة بمن يصنع بمرأى من الناظر لأن الحافظ للشيء في الغالب يديم النظر إليه فمثَّل لذلك على عين الآخر.(2/214)
6 - السجع الحسن الذي يزيد الكلام جمالاً وبهاءً في أواخر الآيات (فتشقى، يخشى، أخفى، تسعى) الخ.
فَائِدَة: قال العلماء: ما نفع أخ أخاه كما نفع موسى هارون فقد طلب له من ربه أن يجعله وزيراً له ويكرمه بالرسالة فاستجاب الله دعاءه وجعله نبياً مرسلاً.
تنبيه: ذكر تعالى بعض المنن على موسى وعدَّد منها ستاً:
المنة الأولى: إلهام أُمه صنع الصندوق وإلقاءه في النيل ليربّى في بيت فرعون {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت} .
الثانية: إلقاء المحبة عليه من الله تعالى بحيث لا يراه أحد إلا أحبه {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} .
الثالثة: حفظ الله ورعايته له بالكلاءة والعناية {وَلِتُصْنَعَ على عيني} .
الرابعة: ردُّه إلى أمه مع الإنعام والإكرام {فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} .
الخامسة: إنجاء موسى من القتل بعد قتله القبطي و {نَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم} .
السادسة: تكليم الله له بعد عودته من أرض مدين وتكليفه بالرسالة {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى} .(2/215)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى نعمته على موسى باستجابة دعائه وإعطائه سُؤْله، ذكر هنا ما خصَّه به من الاصطفاء والاجتباء، وأمره بالذهاب إلى فرعون مع أخيه هارون لتبليغه دعوة الله، ثم ذكر ما دار من الحوار بين موسى وفرعون وما كان من أمر السحرة وسجودهم لله ربْ العالمين.
اللغَة: {اصطنعتك} اصطفيتك واخترتك، وأصل الاصطناع: اتخاذ الصَّنيعة وهو الخير تُسْديه إلى إنسان {تَنِيَا} الونى: الضَّعف والفتور قال العجَّاج:
فما وَنى محمدٌ مُذْ أن غَفرْ ... له الإلهُ ما مضَى وما غَبَر
{يَفْرُطَ} يتعجل ويبادر إلى عقوبتنا، ومنه الفارط الذي يتقدم القوم إلى الماء {يُسْحِتَكُم} يستأصلكم ويبيدكم وأصله استقصاء الحلق للشَّعْر قال الفرزدق:
وعضُّ زمانٍ يا ابن مروانَ لم يَدعْ ... من المال إلا مُسْحتٌ أو مجُلَّف
ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب، والسُّحت: المال الحرام لأنه يهلك الإنسان ويدمّره {النجوى} التناجي وهو الإسرار بالكلام {أَوْجَسَ} أضمر واستشعر الخوف في نفسه.
التفسِير: {واصطنعتك لِنَفْسِي} أي اخترتك لرسالتي ووحيي {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} أي اذهب مع هارون بحججي وبارهيني ومعجزاتي قال المفسرون: المراد بالآيات هنا اليد والعصا التي أيّد الله بها موسى {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} أي لا تفترا وتقصِّرا في ذكر الله وتسبيحه قال ابن كثير: والمراد ألاّ يفترا عن ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} أي تجبَّر وتكبَّر وبلغ النهاية في العتُو والطغيان {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} أي قولا لفرعون قولاً لطيفاً رفيقاً {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} أي لعله يتذكر عظمة الله أو يخاف عقابه فيرتدع عن طغيانه {قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن(2/216)
يطغى} أي قال موسى وهارون: يا ربنا إننا نخاف إن دعوناه إلى الإيمان أن يعجِّل علينا العقوبة، أو يجاوز الحدَّ في الإِساءة إلينا {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} أي لا تخافا من سطوته إنني معكما بالنصرة والعون أسمع جوابه لكما، وأرى ما يفعل بكما {فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} أي إنا رسولان من عند ربك أرسلنا إِليك، وتخصيصُ الذكر بلفظ {رَبِّكَ} لإعلامه أنه مربوبٌ وعبدٌ مملوك لله إذْ كان يدَّعي الربوبية {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} أي أطلقْ سراح بين إسرائيل ولا تعذبهم بتكليفهم بالأعمال الشاقة {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} أي قد جئناك بمعجزة تدل على صدقنا {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} أي والسلامة من عذاب الله لمن اهتدى وآمن قال المفسرون: لم يقصد به التحية لأنه ليس بابتداء الخطاب وإنما قصد به السلام من عذاب الله وسخطه {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا أن العذاب الأليم على من كذَّب أنبياء الله وأعرض عن الإيمان {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} أي قال فرعون: ومنْ هذا الربُّ الذي تدعوني إليه يا موسى؟ فإني لا أعرفه؟ ولم يقل: من ربّي لغاية عتوّه ونهاية طغيانه بل أضافه إلى موسى وهارون {مَن رَّبُّكُمَا} {قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} أي ربُّنا هو الذي أبدع كل شيءٍ خَلقه ثم هداه لمنافعه ومصالحه، وهذا جوابٌ في غاية البلاغة والبيان لاختصاره ودلالته على جميع الموجودات بأسرها، فقد أعطى العين الهيئة التي تطابق الإِبصار، والأُذُن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك اليد والرجل والأنف واللسان قال الزمخشري: ولله درُّ هذا الجواب ما أخصره وأجمعه وأبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإِنصاف {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} أي ما حال من هلك من القرون الماضية؟ لِم لَمْ يُبعثوا ولم يُحاسبوا إن كان ما تقول حقاً؟ قال ابن كثير: لما أخبر موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدَّر فهدى، شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى كأنه يقول: ما بالهم إذْ كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربَّك بل عبدوا غيره؟ {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} أي قال موسى: علم أحوالها وأعمالها عند ربي مسطرٌ في اللوح المحفوظ {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} أي لا يخطئ ربي ولا يغيب عن علمه شيء منها.
. ثم شرع موسى يبيّن له الدلائل على وجود الله وآثار قدرته الباهرة فقال {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} أي جعل الأرض كالمهد تمتهدونها وتستقرون عليها رحمة بكم {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي جعل لكم طُرقاً تسلكونها فها لقضاء مصالحكم {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} أي أنزل لكم السحاب المطرَ عذباً فراتاً {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى} أي فأخرج بذلك الماء أنواعاً من النباتات المختلفة الطعم والشكل والرائحة كلُّ صنف منها زوج، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى المتكلم تنبيهاً على عظمة الله {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ} أي كلوا من هذه النباتات والثمار واتركوا أنعامكم تسرح وترعى من الكلأ الذي أخرجه الله، والأمر للإباحة تذكيراً لهم بالنِّعم {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} أي إنَّ فيما ذُكر لعلامات واضحة لأصحاب العقول السليمة على وجود الله ووحدانيته {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي من الأرض خلقناكم أيها الناس وإليها تعودون بعد مماتكم فتصيرون تراباً {وَمِنْهَا(2/217)
نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} أي ومن الأرض نخرجكم مرة أخرى للبعث والحساب. . ثم أخبر تعالى عن عتوٍّ فرعون وعناده فقال {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} أي والله لقد بصَّرنْا فرعون بالمعجزات الدالة على نبوّة موسى من العصا، واليد، والطوفان، والجرائد، وسائر الآيات التسع {فَكَذَّبَ وأبى} أي كذَّب بها مع وضوحها وزعم أنها سحر، وأبى الإيمان والطاعة لعتوِّه واستكباره {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى} أي قال فرعون: أجئتنا يا موسى بهذا السحر لتخرجنا من أرض مصر؟ {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ} فلنعارضنَّك بسحرٍ مثل الذي جئت به ليظهر للناس أنك ساحر ولستَ برسول {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} أي عيِّنْ لنا وقت اجتماع {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى} أي لا نخلف ذلك الوعد لا من جهتنا ولا من جهتك ويكون بمكان معيَّن ووقت معَّين {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} أي قال موسى: موعدنا للاجتماع يوم العيد - يومٌ من أيام أعيادهم - وأن يجتمع الناس في ضحى ذلك النهار قال المفسرون: وإنما عيَّن ذلك اليوم للمبارزة ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك في الأقطار بظهور معجزته للناس {فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى} أي انصرف فرعون فجمع السَّحرة ثم أتى الموعد ومعه السَّحرة وأدواتهم وما جمعه من كيد ليطفئ نور الله قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر منهم حبال وعصيّ {قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} أي قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون: ويلكم لا تختلقوا على الله الكذب فيهلككم ويستأصلكم بعذاب هائل {وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} أي خسر وهلك من كذب على الله.
. قدَّم لهم النصح والإنذار لعلَّهم يثوبون إلى الهُدى، ولما سمع السَّحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعتْ في نفوسهم مهابته ولذلك تنازعوا في أمره {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى} أي أختلفوا في أمر موسى فقال بعضهم: ما هذا بقول ساحر وأخفوا ذلك عن الناس وأخذوا يتناجون سراً {قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} أي قالوا بعد التناظر والتشاور ما هذان إلاّ ساحران يريدان الاستيلاء على أرض مصر وإخراجكم منها بهذا السحر {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} أي غرضُهما إفسادُ دينكم الذي أنتم عليه والذي هو أفضل المذاهب والأديان قال الزمخشري: والظاهر أنهم تشاوروا في السرِّ وتجاذبوا أهداب القول ثم قالوا {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبة موسى وهارون لهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً} أي أحْكموا أمركم وأعزموا عليه ولا تتنازعوا وارموا عن قوسٍ واحدة، ثم ائتوا إلى الميدان مصطفين ليكون أهيب في صدور الناظرين {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} أي فاز اليوم من علا وغلب قال المفسرون: أرادوا بالفلاح ما وعدهم به فرعون من الإنعامات العظيمة والهدايا الجزيلة مع التقريب والتكريم كما قال تعالى {قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} [الأعراف: 113 - 114] {قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} أي(2/218)
قال السحرة لموسى: إمَّا أن تبدأ أنتَ بالإلقاء أو نبدأ نحنُ؟ خيَّروه ثقةً منهم بالغلبة لموسى لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ أحداً لا يقاومهم في هذا الميدان {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ} أي قال لهم موسى: بل ادءوا أنتم بالإلقاء قال أبو السعود: قال ذلك مقابلةً للأدب بأحسنَ من أدبهم حيث بتَّ القول بإلقائهم أولاً، وإظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم ليُبرزوا ما معهم، ويستفرغوا أقصى جهدهم وقصارى وسعهم، ثم يُظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} في الكلام حذفٌ دلَّ عليه المعنى أي فألقوا فإذا تلك الحبال والعصيُّ التي ألقوها يتخيلها موسى ونظنُّها - من عظمة السحر - أنها حياتٍ تتحرك وتسعى على بطونها، والتعبيرُ يوحي بعظمة السحر حتى إن موسى فزع منها واضطرب {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} أي أحسَّ موسى الخوف في نفسه بمقتضى الطبيعة البشرية لأنه رأى شيئاً هائلاً {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} أي قلنا لموسى لا تخفْ ممّا توهمت فإنك أنت الغالب المنتصر {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا} أي ألقِ عصاك التي بيمينك تبتلعْ فمها ما صنعوه من السحر {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} أي إنَّ الذي اخترعوه وافتعلوه هو من باب الشعوذة والسحر {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} أي لا يسعد الساحر حيث كان ولا يفوز بمطلوبه لأنه كاذب مضلِّل {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً قالوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} أي فألقى موسى عصاه فابتلعت ما صنعوا فخرَّ السحرة حينئذٍ سجداً لله ربّ العالمين لما رأوا من الآية الباهرة قال ابن كثير: لما ألقى موسى العصا صارت ثعباناً عظيماً هائلاً، ذا قوائم وعُنق ورأس وأضراس، فجعلت تتَّبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق شيئاً إلا ابتلعته، والناس ينظرون إلى ذلك عياناً نهاراً، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوا علموا علم اليقين أن هذا ليس من قبيل السحر والحيل وأنه حقٌّ لا مرية فيه، فعند ذلك وقعوا سجداً لله، فقامت المعجزة واتضح البرهان، ووقع الحق ولطل السحر، قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} أي قال فرعون للسحرة: آمنتم بموسى وصدقتموه بما جاء به قبل أن أسمح لكم بذلك وقبل أن تستأذنوني؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} أي إنه رئيسكم الذي علَّمكم السحر فاتفقتم معه لتذهبوا بملكي قال القرطبي: وإنما أراد فرعون بقوله أن يُلبِّس على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، ثم توعَّدهم وهدَّدهم بالقتل والتعذيب فقال {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} أي فوالله لأقطعنَّ الأيدي والأرجل منكم مختلفات بقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى أو بالعكس {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} أي لأعلقنكم على جذوع النخل وأقتلنكم شرَّ قِتْلة {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} أي ولتعلمُنَّ أيها السحرة من هو أشدُّ منا عذاباًَ وأدوم، هل أنا أم ربُّ موسى الذي صدقتم به وآمنتم {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات} أي قال السحرة: لن نختارك ونفضّلك على الهدى والإيمان الذي جاءنا من الله على يد موسى ولو كان في ذلك هلاكنا {والذي فَطَرَنَا} قسمْ بالله أي مقسمين بالله الِذي خلقنا {فاقض مَآ(2/219)
أَنتَ قَاضٍ} أي فاصنع ما أنت صانع {إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ} أي إنما ينفذ أمرك في هذه الحياة الدنيا وهي فانية زائلة ورغبتنا في النعيم الخالد قال عكرمة: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة فلذلك قالوا ما قالوا {إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أي آمنا بالله ليغفر لنا الذنوب التي اقترفناها وما صدر منا من الكفر والمعاصي {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه لإِطفاء نور الله {والله خَيْرٌ وأبقى} أي والله خيرٌ منك ثواباً وأبقى عذاباً، وهذا جوابُ قوله {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} هذا من تتمة كلام السحرة عظةً لفرعون أي من يلقى ربه يوم القيامة وهو مجرمٌ باقترافه المعاصي وموته على الكفر، فإن له نار جهنم {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} أي لا يموت في جهنم فينقضي عذابه، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات} أي ومن يلقى ربه مؤمناً موحّداً وقد عمل الطاعات وترك المنهيات {فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى} أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات لهم المنازل الرفيعة عند الله {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بيانٌ للدرجات العُلى أي جناتُ إقامة ذات الدرجات العاليات، والغُرف الآمنات، والمساكن الطيبات {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي تجري من تحت غرفها وسُرُرها أنهار الجنة من الخمر والعسل، واللَّبن، والماء
{خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [النساء: 57] أي ماكثين في الجنة دوماً لا يخرجون منها أبداً {وذلك جَزَآءُ مَن تزكى} أي وذلك ثواب من تطهَّر من دنسْ الكفر والمعاصي، وفي الحديث «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس»
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
1 - الاستعارة {واصطنعتك لِنَفْسِي} شبَّه ما خوَّله به من القرب والاصطفاء بحال من يراه الملك أهلاً للكرامة وقرب المنزلة لما فيه من الخلال الحميدة فيصطنعه لنفسه، ويختاره لخلَّته، ويصطفيه لأموره الجليلة واستعار لفظ اصطنع لذلك، ففيه استعارةً تبعية.
2 - المقابلة اللطيفة {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} حيث قابل بين {مِنْهَا} و {وَفِيهَا} وبين الخلق والإعادة وهذا من المحسنات البديعية.
3 - إيجاز حذف {بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ} أي فألقوا فإذا حبالهم حذف لدلالة المعنى عله ومثله {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً} بعد قوله {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} حذف منه كلام طويل وهو فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا من السحر فاُلقي السحرة سجداً، وإنما حسن الحذف لدلالة المعنى عليه ويسمى إيجاز حذف.
4 - الطباق بين {يَمُوتُ. . يحيى} وبين {نُعِيدُ. . ونُخْرِجُ} .
5 -(2/220)
المقابلة بين {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} وبين {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات} الخ والمقابلة هي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم يؤتى بما يقابل ذلك.
6 - السجع الحسن غير المتكلف في مثل {سُوًى، ضُحًى، افترى، يحيى، تزكى} الخ.
7 - المؤكدات {إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} أكّد الخبر بعدة مؤكدات وهي {إِنَّ} المفيدة للتأكيد، وتكرير الضمير {أَنتَ} وتعريف الخبر {الأعلى} ولفظ العلو الدال على الغلبة، وصيغة التفضيل {الأعلى} ولله در التنزيل ما أبلغه وأروعه، وهذا من خصائص علم المعاني.
تنبيه: لم تذكر الآيات الكريمة أن فرعون فعل بالسحرة ما هدَّدهم به، وقد ذكر المفسرون أنه أنفذ فيهم وعيده فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم فماتوا على الإيمان ولهذا قال ابن عباس: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بَرَرة.(2/221)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن قصة موسى وفرعون، وتشير الآيات هنا إلى عناية الله تعالى بموسى وقومه، وإنجائهم وإهلاك عدوهم، وتذكّرهم بنعم الله العظمى ومنته الكبرى على بني إسرائيل، وما وصّاهم به من المحافظة على شكرها وتحذيرهم من التعرض لغضب الله بكفرها، ثم تذكر الآيات انتكاس بين إسرائيل بعبادتهم العجل، وقد طوى هنا ما فصَّل في آيات أخر.
اللغَة: {دَرَكاً} لَحاقاً مصدر أدركه إذا لحقه {تَطْغَوْاْ} الطغيان: مجاوزة الحدِّ إلى ما لا ينبغي {هوى} صار إلى الهاوية وهي قعر النار من هوى يهوي إذا سقط من علوِ إلى سفل {بِمَلْكِنَا} الملك: بفتح الميم وسكون اللام: الطاقةُ والقدرة ومعناه بأمرٍ كنا نملكه من جهتنا {أَوْزَاراً} أثقالاً ومنه سمي الذنب وزراً لأنه يثقل الإنسان {خُوَارٌ} الخُوار: صوت البقر {يَبْنَؤُمَّ} أي يا ابن أمي واللفظة تدل على الاستعطاف {سَوَّلَتْ} حسَّنت وزيَّنت.
التفسِير: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي أوحينا إلى موسى بعد أن تمادى فرعون في الطغيان أنْ سرْ ببني إسرائيل ليلاً من أرض مصر {فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً} أي اضرب البحر بعصاك ليصبح لهم طريقاً يابساً يمرون عليه {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى} أي لا تخاف لحافاً من فرعون وجنوده، ولا تخشى الغرق في البحر {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} أي فلحقهم فرعون مع جنوده ليقتلهم فأصابهم من البحر ما أصابهم، وغشيهم من الأهوال ما لا يعلم كُنهه إلا الله، والتعبير يفيد التهويل لما دهاهم عند الغَرق {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إلى خيرٍ ولا نجاة، وفيه تهكم بفرعون في قوله {وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} [غافر: 29] {يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ} خطابٌ لبين إسرائيل بعد خروجهم من البحر وإغراق فرعون وجنوده والمعنى اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي العظيمة عليكم حين نجيتكم من فرعون وقومه الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن} أي وعدنا موسى للمناجاة وإنزال التوراة عليه جانب طور سيناء الأيمن، وإنما نسبت المواعدة إليهم لكون منفعتها راجعة إليهم إذْ في نزول التوراة صلاحُ دينهم ودنياهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} أي رزقناكم وأنتم في أرض التيه بالمنِّ وهو يشبه العسل، والسلوى وهو من أجود الطيور لحماً تفضلاً منا عليكم. . وفي هذا الترتيب غايةُ الحسن حيث بدأ بتذكيرهم بنعمة الإنجاء، ثم بالنعمة الدينية، ثم بالنعمة الدنيوية {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لكم كلوا من الحلال اللذيذ الذي أنعمتُ به عليكم {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي لا تحملنكم السعة والعافية على العصيان لأمري فينزل بكم عذابي {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى} أي ومن ينزل عليه غضبي وعقابي فقد هلك وشقي {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى} أي وإني لعظيم المغفرة لمن تاب من الشرك وحيُن إيمانه وعمله، ثم استقام على الهدى والإيمان، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة العصيان ببيان المخرج كيلا ييأس {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} أيْ أيُّ شيء عجَّل بك عن قومك يا موسى؟ قال الزمخشري: كان موسى قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور(2/222)
على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه {قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي} أي قومي قريبون مني لم أتقدمهم إلا بشيء يسير وهم يأتون بعدي {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} أي وعجلتُ إلى الموضع الذي أمرتني بالمجيء إلأيه لتزداد رضىً عني.
. أعتذر موسى أولاً ثم بينَّ السبب في إ سراعه قبل قومه وهو الشوق إلى مناجاة الله ابتغاءً لرضى الله {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم {وَأَضَلَّهُمُ السامري} أي وأوقعهم السامريُّ في الضلالة بسبب تزيينه لهم عبادة العجل، وكان السامري ساحراً منافقاً من قومٍ يعبدون البقر قال المفسرون: كان موسى حين جاء لمناجاة ربه قد استخلف على بني إسرائيل أخاه هارون، وأمره أن يتعهدهم بالإقامة على طاعة الله، وفي أثناء غيبة موسى جمع السامريُّ الحليَّ ثم صنع منها عجلاً ودعاهم إلى عبادته فعكفوا عليه وكانت تلك الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى من عندهم بعشرين يوماً {فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أي رجع موسى من الطور بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة عضبان شديد الحزن على ما صنع قومه من عبادة العجل {قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} أي ألم يعدْكم بإنزال التوراة فيها الهدى والنور؟ والاستفهام للتوبيخ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي} أي هل طال عليكم الزمن حتى نسيتم العهد أم أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم سخط الله وفضبه فأخلفتم وعدي؟ قال أبو حيان: وكانوا وعدوه بأن يتمسكوا بدين الله وسنّة موسى عليه السلام، ولا يخالفوا أمر الله أبداً، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل {قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي ما أخلفنا العهد بطاقتنا وإرادتنا واختيارنا بل كنا مكرهين {ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا} أي حملنا أثقالاً وأحمالاً من حُليِّ آل فرعون فطرحناها في النار بأمر السامري قال مجاهد: أوزاراً: أثقالاً وهي الحلي التي استعاروها من آل فرعون {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري} أي كذلك فعل السامري ألقى ما كان معه من حلي القوم في النار قال المفسرون: كان بنو إسرائيل قد استعاروا من القبط الحُليّ قبل خروجهم من مصر، فلما أبطأ موسى في العودة إليهم قال لهم السامري: إنما احتُبس عليكم لأجل ما عندكم من الحلي فجمعوه ودفعوه إلى السامري، فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألفى عليه قبضةً من أثر فرس جبريل عليه السلام فجعل يخور فذلك قوله تعالى {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} أي صاغ لهم السامري من تلك الحليّ المذابة عجلاً جسداً بلا روح له خوارٌ وهو صوت البقر {فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ} أي هذا العجل إلأهكم وإله موسى فنسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في الطور، قال قتادة: نسي موسى ربه عندكم، فعكفوا عليه يعبدونه، قال تعالى رداً عليهم وبياناً لسخافة عقولهم في عبادة العجل {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} أي(2/223)
أفلا يعلمون أن العجل لاذي زعموا أنه إلههم لا يردُّ لهم جواباً، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضراً أو يجلب لهم نفعاً فكيف يكون إلهاً؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي قال لهم هارون ناصحاً ومذكراً من قبل رجوع موسى إليهم: إنما ابْتُليتُم وأُضللتم بهذا العجل {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي} أي وإنَّ ربكم المستحقَّ للعبادة هو الرحمن لا العجل، فاقتدوا بي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، وأطيعوا أمري بترك عبادة العجل {قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} أي قالوا لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يعود إلينا موسى فنظر في الأمر {قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} ؟ في الكلام حذفٌ أي فلما رجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل امتلأ غضباً لله وأخذ برأس أخيه هارون يجره إليه وقال له: أيُّ شيء منعك حين رأيتهم كفروا بالله أن لا تتبعني في الغضب لله والإنكار عليهم والزجر لهم عن ذلك الضلال؟ {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} أي أخالفتني وتركت أمري ووصيتي؟ قال المفسرون: وأمرهُ هو ما كان أوصاه به فيما حكاه تعالى عنه
{وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} أي قال له هارون استعطافاً وترقيقاً: يا ابن أمي - أي يا أخي - لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي قال ابن عباس: أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله من شدة غيظه وفرط غضبه لأن الغيْرة في الله ملكتْه {إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ} أي إني خفت إن زجرتُهم بالقوة أن يقع قتالٌ بينهم فتلومني على ذلك وتقول لي: لقد أشعلتَ الفتنة بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} أي لم تنتظرْ أمري فيهم، فمن أجل ذلك رأيتُ ألاّ أفعل شيئاً حتى ترجع إليهم لتتدارك الأمر بنفسك قال ابن عباس: وكان هارون هائباً مطيعاً له {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} أي ما شأنك فيما صنعت؟ وما الذي حملك عليه يا سامري؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي قال السامريُّ: رأيتُ ما لم يروه وهو أن جبريل جاءك على فرس الحياة فأُلقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة فما ألقيتُه على شيءٍ إلا دبَّت فيه الحياة {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول فَنَبَذْتُهَا} أي قبضت شيئاً من أثر فرس جبريل فطرحتها على العجل فكان له خوار {وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي وكذلك حسَّنتْ وزيَّنتْ لي نفسي {قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} أي قال موسى للسامريّ: عقوبتك في الدنيا ألاّ تمسَّ أحداً ولا يمسَّك أحد قال الحسن: جعل الله عقوبة السامري ألا يماسَّ الناسَ ولا يمسّوه عقوبة له في الدنيا وكأنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ شدَّّد عليه المحنة {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} أي وإنَّ لك موعداً للعذاب في(2/224)
الآخرة لن يتخلَّف {وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} أي انظر إلى هذا العجل الذي أقمت ملازماً على عبادته {لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} أي لنحرقنَّه بالنار ثم لنطيرنَّه رماداً في البحر لا يبقى منه عين ولا أثر {إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ} أي يقول موسى لبني إسرائيل: إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله الذي لا ربَّ سواه {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} أي وسع علمه كلَّ شيء فلا يخفى عله شيء في الأرض ولا في السماء.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
1 - التهويل {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} .
2 - الطباق بين {وَأَضَلَّ. . وَمَا هدى} .
3 - الاستعارة {فَقَدْ هوى} استعار لفظ الهوي وهو السقوط من عُلوٍ إلى سُفل للهلاك والدمار.
4 - صيغة المبالغة {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ} أي كثير المغفرة للذنوب.
5 - الطباق {ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} .
6 - الايجاز بالحذف في مواطن عديدة بيناها في التفسير.
7 - السجع الحسن غير المتكلف مثل {أَمْرِي، قَوْلِي، نَفْسِي} و {نَفْعاً، عِلْماً، نَسْفاً} الخ.
تنبيه: إنما عبد بنو إسرائيل العجل بسبب فتنة السامريّ وقد كانت بذور الوثنية راسخة في قلوبهم ولذلك لما نجَّاهم الله من طغيان فرعون طلبوا من موسى أن يصنع لهم تمثالاً ليعبدوه كما قال تعالى {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] فلا عجب إذاً أن يعكفوا على عبادة عجل من ذهب له خوار!!(2/225)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
المنَاسَبَة: لما ذكر تعلى قصة موسى بالتفصيل، أعقبها بذكر أنَّ هذا القصص وحيٌ من الله، وأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كان له علم بهذه الأخبار والأنباء العجيبة لولا أن الله تعالى أوحى إليه، وذلك من أكبر الدلائل والبراهين على صدق الرسالة.
اللغَة: {قَاعاً} القاع: الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا بناء {صَفْصَفاً} الصَّفصفُ: المستوي من الأرض كأنه على صفٍّ واحد في استوائه {أَمْتاً} الأمْت: المكان المرتفع كالتلّ والهضبة {هَمْساً} صوتاً خفياً {عَنَتِ} ذلَّت وخضعت قال أميّة: «لعزَّته تعنو الوجوه وتسجد» قال الجوهري: عنا يعنو خضع وذلَّ وأعناه غيره ومنه الآية {وَعَنَتِ الوجوه} {هَضْماً} الهضم: النقص يقال: هضمه خقه إذا أنقصه والفرق بين الظلم والهضم أن الظلم المنع من الحق كله، والهضمُ المنع من بعضه {تضحى} ضحى للشمس برز لها حتى يصيبه حرُّها قال ابن أبي ربيعة:(2/226)
رأتْ رجلاً ايماً إذا الشمسُ عارضتْ ... فيَضْحى وأمَّا بالعشيِّ فينحصر
{ضَنكاً} الضَّنْك: الضيق والشدة يقال: منزلٌ ضنْك وعيشٌ ضنْك إذا كان شديداً ضيقاً {سَوْءَاتُهُمَا} عوارتهما {فَتَرَبَّصُواْ} انتظروا {الصراط السوي} الطريق المستقيم.
التفسِير: {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ} أي كما قصصنا عليك يا محمد خبر موسى مع فرعون زما فيه من الأنباء الغريبة كذلك نقص عليك أخبار الأمم المتقدمين {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} أي أعطيناك من عندنا قرآناً يتلى منطوياً على المعجزات الباهرة قال في البحر: امتن تعالى عليه بإتيانه الذكر المشتمل على القصص والأخبار، الدال على معجزات أُوتيها عليه السلام {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً} أي من أعرض عن هذا القرآن فلم يؤمن به ولم يتَّبع ما فيه، فإنه يحمل يوم القيامة حملاً ثقيلاً، وذنباً عظيماً يثقله في جهنم {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} أي مقيمين في ذلك العذاب بأوزارهم، وبئس ذلك الحمل الثقيل حملاً لهم، شُبِّه الوزرُ بالحمل لثقله {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} أي يوم ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية، ونحشر المجرمين إلى أرض المحشر زُرق العيون سود الوجوه قال القرطبي: تُشوه خلقتُهم بزرقة العيون وسواد الوجوه {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} أي يتهامسون بينهم ويسرُّ بعضهم إلى بعض قائلين: ما مكثتم في الدنيا إلا عشر ليال قال أبو السعود: استقصروا مدة لبثهم فيها لما عاينوا الشدائد والأهوال {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} أي نحن أعلم بما يتناجون بينهم إذ يقول أعقلهم وأعدلهم قولاً ما لبثتم إلا يوماً واحداً {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} أي ويسألونك عن حال الجبال يوم القيامة فقل لهم: إن ربي يفتِّتها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فيطيّرها {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} أي فيتركها أرضاً ملساء مستوية لا نبات فيها ولا بناء {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً} أي لا ترى فيها انخفاضاً ولا ارتفاعاً {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ} أي في ذلك اليوم العصيب يتَّبع الناس داعي الله الذي يدعوهم لأرض المحشر يأتونه سراعاً لا يزيغون عنه ولا ينحرفون {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} أي ذلك وسكنت أصوات الخلائق هيبةً من الرحمن جل وعلا {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} أي لا تسمع إلا صوتاً خفياً لا يكاد يُسمع وعن ابن عباس: هو همسُ الأقدام في مشيها نحو المحشر {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} أي في ذلك اليوم الرهيب لا تنفع الشفاعة أحداً إلاّ لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، ورضي لأجله شفاعة الشافع، وهو الذي كان في الدنيا من أهل لا إله إلا الله، قاله ابن عباس {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم أحوال الخلائق فلا تخفى عليه خافية من أمور الدنيا وأمور الآخرة {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} أي لا تحيط علومهم بمعلوماته جل وعلا {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم} أي ذلت وخضعتْ وجوه الخلائق للواحد(2/227)