أول صفة وهي مُلك الله -تبارك وتعالى- للسموات والأرض، هذا أمر واضح ومشاهد للعيان، هل من الممكن أو المعقول أن نستمع لمخلوق ما أن يدعي أن له شيئًا في هذه السموات والأرض؟ أو أنه خلق السموات والأرض؟ أو أنه يملك شيئًا في السموات أو يملك شيئًا في الأرض؟ لا يمكن لعاقل أن يزعم هذا لنفسه، أو أن يدعيه، ولا يدخل علينا هنا من يمكن أن يقوله إنسان متبجحًا أنا عندي من الملك كذا ومن القصور كذا، نقول: هذا مُلك ناقص، هذا ملك ضعيف، هذا ليس ملكًا حقيقيًا وإنما هي عارية من الله -تبارك وتعالى- أعطاك إياها في مدة زمنية محددة،، فما عند الإنسان هو فيه بين حالتين:
- إما أن ينتقل هو عنه بالموت.
- إما أن يزول عنه هذا الملك بجائحة أو أن يتسلط عليه غيره، أو يتملكه إنسان آخر، أو غير ذلك مما يمكن أن يحدث من حوادث نشاهدها على ظهر هذه الأرض.
أما المالك على الحقيقة لكل ما في الكون هو رب العالمين -سبحانه-؛ ولذلك رب العزة والجلال يقول: ? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ?[البقرة: 107]؛ ويختم سورة مثلًا المائدة بقوله: ? للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ? [المائدة: 120].
يعني ما في السموات وما في الأرض أيضًا ملك لله -تبارك وتعالى-، وحتى لا يظن ظان أن الله يعجز عن ذلك ختم الآية بقوله ? وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?.
ويكفي أن نتأمل والمقام يضيق عن أن أسوق آيات كثيرة تتحدث عن هذه المسألة مثلًا قول الله تعالى: ? قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ? [آل عمران: 26].
(1/10)
---(7/10)
ولذلك صح الخبر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أن أخنع اسم عند الله -تبارك وتعالى- يعني أذل وأخنع وأقل اسم عند رب العالمين: رجل تسمى بملك الأملاك، والذي يطلق عليه شاة شاة؛ لأنه لا ملك إلا من؟ إلا الله -سبحانه وتعالى- وإن سُميَّ بعض الناس في الدنيا بالملك فإنما هو -كما ذكرت- ملك جزئ غير حقيقي، فالإنسان يملك نفسه، ولكنه لا يملكها حقيقيًا فلا يحق له أن يتصرف في نفسه بما يحب هو؛ ولذلك لو أن إنسان قتل نفسه هل يعاقب ويحاسب على ذلك أم لا؟ يعاقب ويحاسب، ولا يقول: أنا قتلت نفسي أو أنا سأعدم نفسي نقول له: أنت وإن كانت نفسك بين جنبيك إلا أنك لا تملك التصرف فيها كما تشاء؛ لأنك بنفسك وجسدك في الحقيقة عبد لله -تبارك وتعالى- لك مالك ألا وهو رب العالمين -سبحانه وتعالى-، فأول صفة أثنى ربنا -سبحانه وتعالى- فيها على نفسه في هذه الآية: أن له ملك السموات والأرض.
الصفة الثانية: من صفات التنزيه لرب العالمين: أنه لم يتخذ ولدًا. وهذا في الحقيقة إن دل على شيء فإنما يدل على العظمة؛ لأن الذي يحتاج إلى الولد ضعيف، الذي يحتاج إلى الولد يتصف بصفات العجز والاحتياج، يحتاج إلى ولد، يحتاج إلى معاون، أما رب العالمين -سبحانه وتعالى- فمن أخص صفات جلاله وكماله -سبحانه- أنه ليست له صاحبة وليس له ولد؛ ولذلك أثنى على نفسه في كتابه في مواطن كثيرة بهذا، فقال مثلًا مما نحفظه جميعًا من قصار السور: ? قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ? [الإخلاص: 1: 4].
ورب العالمين -سبحانه وتعالى- يعجب من قوم يرون هذه العوالم كلها، وأن خالقه الله ثم بعد ذلك يضيفون وينسبون الولد إلى الله يقول سبحانه: ? بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ?!!! [الأنعام: 101].
(1/11)
---(7/11)
هذا الذي فطر السموات والأرض، هذا الذي يقول للشيء كن فيكون، هذا المالك، وهنا قال: ? الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ?؛ وبعدها نفى عن نفسه الولد، فكأنه يقول من هو على هذه العظمة والكبرياء والجلال تنسبون إليه صفات العجز والحدوث والاحتياج: ? تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا ? [الجن: 3].
ولذلك ربنا -سبحانه وتعالى- رد على من نسب الولد إليه فقال لهم: ?لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا? [مريم: 89: 93].
وهذا يدل -كما ذكرت- على شيء من صفات الجلال والكمال لرب العالمين -سبحانه وتعالى-.
الصفة الثالثة: التي أضافها رب العالمين إلى نفسه ووصف نفسه بها: أنه ليس له شريك في الملك -سبحانه وتعالى- ليس معه شريك، وليس له معاون، وليس معه وزير -سبحانه- وأثنى ربنا على نفسه بذلك فقال: ? وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ? [الإسراء: 111].
فنفى -سبحانه وتعالى-عن نفسه أن يكون له شريك في هذا الملك وقال للمشركين: ? قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ? [سبأ: 22].
(1/12)
---(7/12)
يعني ليست لهذه الآلهة من شركة مع الله -تبارك وتعالى- وربنا -سبحانه وتعالى- لا يحتاج منهم إلى أن يعاونه أحد من هؤلاء؛ لأنه -سبحانه وتعالى- كما أخبر عن نفسه غني عن العالمين: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ? [فاطر: 15].
الصفة الرابعة: التي وصف ربنا -سبحانه وتعالى- بها نفسه في هذه الآية وأثنى بها على نفسه: أنه خلق كل شيء، فما من ذرة في هذا الكون سواء أن كانت في السموات أو في الأرض سواء أن كانت من الأمور التي نشاهدها وتقع عليها أعيننا أو لا نشاهدها وتخفى عنا، ما في شيء في هذا الكون ولا في هذا الملكوت إلا ورب العالمين -سبحانه وتعالى- خالقه: ? ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ? [غافر: 62].
الله رب العالمين -سبحانه- هو خالق الكون بكل ما فيه -سبحانه وتعالى- قال جل وعلا عن نفسه مثنيًا عليها أيضا في مفتتح سورة الأنعام: ? الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ?[الأنعام: 1].
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ? [النساء: 1]. فإثبات الخلق لله أمر مشاهد معلوم، ويجب على العباد جميعًا أن يثبتوه لرب العالمين -سبحانه-.
(1/13)
---(7/13)
وأنا في هذا المقام لا أود أن أتعرض إلى سفاهات عقول بعض الناس ألا وهم الملاحدة أو ما أطلق عليهم القرآن قديمًا بالدهريين الذين يقولون بأنه لا إله، والحياء مادة، أو أن الكون وجد هكذا عن طريق الصدفة، هذا كلام ينزه العاقل نفسه على أن يشتغل بمثله، وهؤلاء -ولله الحمد- وإن كانت لهم دولة ترعاهم إلا أنه قضي عليها، وأصبحوا أفرادًا مشتتين، وهم في الحقيقة أقل -كما ذكرت- من أن يشتغل العاقل بالرد عليهم، فإثبات خلق الله -تبارك وتعالى- لهذه العوالم لا يحتاج إلى دليل من خارج الإنسان، فالإنسان فيه دليل من نفسه على نفسه، الإنسان دليل نفسه على أن الله هو خالقه، وفي هذا إشارة قرآنية كريمة في سورة الذاريات يقول فيها رب العالمين: ? وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ? [الذاريات: 21]؛ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله وتعالى- يقول بأن هذه الآية فيها دليل واضح على خلق الله لهذه العوالم، وأن القرآن الكريم يجعل من هذا الإنسان المخلوق دليلًا من نفسه على نفسه، يعني يقيم من نفسه على نفسه هو ويقول: بأن الإنسان هو المستدل وهو في الحقيقة هو الدليل والبرهان، أنت يا عبد الله دليل نفسك؛ لتدل نفسك على أن الله -عز وجل- خالق هذا الكون وخالق هذه العوالم ومدبر الملكوت -سبحانه وتعالى- جل في علاه.
(1/14)
---(7/14)
الصفة الخامسة والأخيرة: المذكورة لرب العالمين -سبحانه وتعالى- في هذه الآية أنه بعد ما ذكر أنه خلق كل شيء نسب تقدير الأمور إليه فقال "فقدره تقديرًا" -سبحانه وتعالى- ورب العالمين -سبحانه وتعالى- خلق كل شيء بقدر، ما يخرج شيء في ملك الله -تبارك وتعالى- عن خلق الله له، حتى أفعال العباد التي خالفت فيها بعض الفرق التي تقول بهذا كالمعتزلة قالوا بأن العبد يخلق فعل نفسه، قوله تعالى: ? وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ?؛ دليل على عموم خلق الله -تبارك وتعالى- لكل شيء بما في ذلك أفعال العباد، وكذلك تقدير الله -تبارك وتعالى- لكل ما يقع في هذا الكون وفي ذلك يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى-: ? إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ? [القمر: 49].
ربنا -سبحانه وتعالى- ما ترك الكون هملًا ولا سدىً ولا عبثًا، وإنما هيأ الكون بما يصلحه وقدره تقديرًا عجيبًا، لا يمكن أن يقوم به إلا رب العالمين -سبحانه وتعالى- وأثبت ذلك لنفسه في آيات كثيرة فقوله: ? الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ? [الأعلى: 2: 3]. هذا أيضا يدل على التقدير الواقع على الخلق من رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولكن هنا وفي هذه الآية قد يرد سؤالًا -في هذا الجزء الأخير- وهو أن الخلق بمعنى التقدير، وقد ذكر هذا وساقه أرباب اللغة كلمة خلق في اللغة العربية بمعنى التقدير ومنه قول الشاعر:
ولا أنت تثري ما خلق
وبعض القوم يخلق ثم لا يثري
يعني يقدر ثم لا يثري يعني يقدر ثم لا يعزم على ما قدره وأراده؛ فالخلق في اللغة: هو التقدير، وقيل منه قول الله -تبارك وتعالى-: ? فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ?[المؤمنون: 14].
(1/15)
---(7/15)
يعني أحسن المقدرين، وعلى هذا إن كان الخلق بمعنى التقدير فيصبح المعنى وقدر كل شيء فقدره تقديرًا، وهذا في الحقيقة تكرار لا يليق بكلام رب العالمين -تبارك وتعالى- إذا قيل هذا الكلام كيف نجيب عليه؟ وهل يمكن أن يكون في كلام الله -تبارك وتعالى- شيء من التكرار الذي قد يطفي على المعنى معنى غير جميل؟ نقول لا..، حاشا وكلا، طيب ما معنى إذن: ? وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ?؛ بناءً على أن الخلق في اللغة العربية هو التقدير، وقد ورد في كلام العرب ومعنى سليم، نقول: إن معنى "وخلق" يعني أنه أحدث خلقه وقدره بتسوية صنعة وأحكام، الله -عز وجل- خلق خلقه بتسوية صنعة وإحكام، وهذا يطلق عليه الخلق هنا، يعني أن الخلق الأول كان محكمًا دقيقًا، والتقدير الذي ورد بعد ذلك يكون معناه: تهيئة هذا الخلق بما خلقه الله -تبارك وتعالى- له، ويصبح المعنى على هذا أنه -سبحانه وتعالى- أحكم صنعته في خلقه، وهذا معناه وخلق كل شيء، يعني خلقه بإحكام، يعني سوى الصنعة بإتقان، طيب ما معنى التقدير الوارد بعد ذلك؟ التقدير الوارد يكون معناه: تهيئة هذا المخلوق لما خلق له، وهذا واضح في جميع العوالم، أنت تجد مثلًا العوالم ربنا هيأها -سبحانه- النملة لها نظام في طعامها وغذائها، أن أنت ترى الأسد تخاف منه ولكنه يتناسل، وتجد ابنه أو المولود الذي يأتي من زوج الأسد يقوم فيشرب لبن أمه وهكذا وهذه تهيئة لهذا الخلق، وشيخ الإسلام ابن القيم -رحمه الله تبارك وتعالى- أشار إشارات دقيقة في كتابه القيم مفتاح دار السعادة حول هذه المعاني.
(1/16)
---(7/16)
الآية الثالثة التي وصف الله -تبارك وتعالى- بها من عبد من دونه، وكأنها أتت بعد صفات الجلال والكمال لله -عز وجل- لتلفت نظر المشركين أن إلى أن تركهم عبادة الله وعبادتهم لغيره -سبحانه وتعالى- لا تليق، وما كان ينبغي منهم أن يقعوا في ذلك؛ ولهذا قال سبحانه: (? وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا?)؛ هذه الآية في الحقيقة لما أتت بعد الآية السابقة كانت مناسبتها في غاية من التناسب والدقة، فربنا -عز وجل- يصف نفسه بصفات الجلال والكمال ثم بعد ذلك يوجه الخطاب للمشركين يا من اتخذتم من دون الله -عز وجل- آلهة هل هذه الآلهة هي على مثل ما عليه ربكم -سبحانه وتعالى- من صفات الجلال والكمال؟ وصف ربنا نفسه بصفات سابقة - خمسة ذكرتها الآن- ووصف الآلة التي عبدت من دونه بصفات النقص والعجز والحدوث والاحتياج وهي ست صفات.
الصفة الأولى: أنها لا تخلق شيئًا قال: ? وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا ? هذا الأول منها.
الصفة الثانية: أنها لا تخلق شيئًا إلى جانب أنها مخلوقة.
الصفة الثالثة: أنها لا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا.
(1/17)
---(7/17)
الصفة الرابعة والخامسة والسادسة: هو ما عبر عنه القرآن بقوله: ? وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا ?)؛ وكأن هذه الصفات أتت بعد صفات الجلال والكمال لتلفت نظر المشركين إلى أن آلهتهم التي اتخذوها من دون الله -تبارك وتعالى- لا تستحق أن تعبد؛ لأنها بهذه المثابة من الصفات الضعيفة الضئيلة الحقيرة إذا كانت هذا الأصنام لا تخلق شيئًا فكيف يتوجه العبد إليها من دون الله -تبارك وتعالى-؟ والله -تبارك وتعالى- بصفة الخلق يستدل على نفسه ويشير إلى جلاله وعظمة سلطانه تأملوا مثلًًا قوله -سبحانه- للمشركين وللمخاطبين مما ينكرون ذلك:? هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ? [لقمان: 11].
يعني يستدل ربنا -سبحانه وتعالى- بالخلق على أنه إله، وهنا الآية نفت عن هذه الآلهة أنها تخلق شيئًا، ? قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ?[الأحقاف: 4].
إذن الأمر الأول: هذه الآلهة التي لا تخلق لا تستحق أن تعبد.
الأمر الثاني: أن هذه الآلهة مخلوقة وطالما أنها مخلوقة فهي ضعيفة، ورب العالمين يقول لهؤلاء: ? وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ? [النحل: 20].
هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم في الحقيقة مخلوقون مربوبون لله رب العالمين، فكل ما عبد من دون الله مخلوق؛ لأن الكون ما فيه إلا خالق ومخلوق، الخالق تنزه عن صفات الجلال والكمال، والمخلوق خلق ضعيف عبد لهذا الخالق شاء أو أبى، فالناس جميعًا عبيد لله -عز وجل- عبيد مُلك أو عبادة كونية، هكذا خلقهم رب العالمين وهي ما يطلق عليه العبادة الكونية في قوله: ? إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ?[مريم: 93].
(1/18)
---(7/18)
"على" باعتبار أنهم عبيده وأنه سيدهم ومالكهم رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
الصفة الثالثة: وهي صفة ذم وإهانة لهذه الآلهة التي عبدها هؤلاء المشركين من دون الله -تبارك وتعالى- أنها لا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا، إذا كانت هذه الآلهة لا تملك لنفسها ضرًا ولا نفعًا فكيف تملك لغيرها؟ وكيف يطلب منها العبد إذن جلب نفع أو دفع ضر؟ والإنسان يتطلع في دنياه وحياته إلى الاستزادة من الخيرات، وإلى أن تدفع عنه الشروط والمكروهات، وإن كان الآلهة لا تملك ذلك لنفسها فكيف يمكن لإنسان أن يلجأ إليها تاركًا من بيده النفع والضر، وهو رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
رب العالمين يقول للمشركين عمومًا ولمن يدعو غير الله -تبارك وتعالى-: ? إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ?[الأعراف: 194]. ادعوهم وجربوا اسألوهم إن كنتم صادقين ثم يقول: ? أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ? [الأعراف: 195].
هل لهم ذلك؟ هل لهم قلوب يعقلون بها؟ كل هذا وهذه موجهة بصيغة أسئلة لتثير استفهام، يثير في النفس أن يقف ويتأمل؛ لكي يجب على هذه الأسئلة إن كان محقًا، وإلا وقع عليه التوبيخ، ووقع عليه الإنكار، فهذه الآلهة حقًا لا تملك شيئًا.
(1/19)
---(7/19)
أما الأمر الرابع والخامس والسادس: ليبين عجز هذه الآلهة وهي ما جاءت في قول الله تبارك تعالى: ? وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا ?؛ هذه الأصنام وهذه الآلهة ما خَلقت ولا تملك أن تميت الإنسان، ولا تملك أن تعيد الإنسان مرة أخرى، فالذي يفعل ذلك هو من؟ هو رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولذلك قال جل ذكره: ? اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ?[الروم: 40]، الله نسب ذلك -سبحانه وتعالى- إلى نفسه هو، ثم قال بعد ذلك: ? هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ ?؛ هل ممن اتخذ مع الله -تبارك وتعالى- شريكًا يمكن أن يفعل ذلك مع الله -تبارك وتعالى- حاشا وكلا، وبذلك سقطت جميع هذه الآلهة التي توجه إليها هؤلاء الناس من دون رب العالمين -سبحانه وتعالى- وبين القرآن الكريم إذن سفاهة عبادة هذه الأصنام أو التوجه إليها دون الله -تبارك وتعالى-.
(1/20)
---(7/20)
ثم تنتقل الآيات بعد ذلك لتناقش المشركين في افتراءاتهم على النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- وهذا ما يتعلق بالعنصر الثالث الذي معنا وفي هذا يقول رب العالمين سبحانه: ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ? في هذه الآيات يذكر رب العالمين -سبحانه وتعالى- موقف الكافرين المشركين المكذبين بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من كتاب الله الذي نزل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال المشركون: ? إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ ?؛ والإفك هو أسوأ الكذب نسبوا هذا إلى النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- والقرآن الكريم في مواطن ينعي عليهم هذا التصور، وهذا الفكر، وهذا الأسلوب، ويقول: ? وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ? [النحل: 101].
هؤلاء كذبوا على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولذلك هؤلاء المشركين نسبوا القرآن الذي نزل على النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى أنه أتى به من قوم آخرين، قالوا: أتى به من اليهود، أو قيل: أتى به من أهل الكتاب، إلى أقوال كثيرة ذكروها في هذا المعنى، وما ذكروه باطل فكلام الله حق نزل بصدق على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ورب العالمين -سبحانه وتعالى- يبين للنبي -عليه الصلاة والسلام- ويطيب خاطره، ويبرهن أن افترائهم عليه الكذب كان واضحًا لا يلتفت إليه، أي لا يلتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يشتغل به؛ لأنه باطل باطل باطل تأملوا قوله سبحانه: ? وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ? [النحل: 103]. أين الاستهزاء به هنا؟ ? لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ? [النحل: 103].(7/21)
(1/21)
---
أنتم تقولون أخذه من الأعاجم، وهو جاء بلسان عربي مبين وهو جاء بلسان عربي مبين فكيف الأعجمي يأتي بهذا الكلام البليغ الفصيح المبين؟ لا يمكن، وهذا في الحقيقة فيه تسرية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وتثبيت لفؤاده -عليه الصلاة والسلام- ولذلك رد الله -عز وجل- على من قال بأن القرآن الكريم كلام البشر رد الله عليه متوعدًا إياه بسقر فقال: ? سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ?26? وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ? [المدثر: 26: 30]؛ ولذلك من معتقد أهل السنة والجماعة -وهذه نقطة مهمة ونحن نتحدث عن كتاب الله- أن القرآن الكريم كتاب الله -سبحانه وتعالى- غير مخلوق، ليس كما زعمت الجهمية والمعتزلة أنه مخلوق، ولا ما ذهبت إليه الأشاعرة والكلابية أنه كلام نفسي، وإنما تكلم الله -تبارك وتعالى- به بحرف وصوت، فهو كلامه وسمع منه -سبحانه وتعالى-.
(1/22)
---(7/22)
بعدها قال رب العالمين: ? وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيل?، هذه الآية يذكر فيها رب العالمين -سبحانه وتعالى- قولًا آخر للمشركين في القرآن الكريم قالوا: بأن القرآن الكريم هي كلمات سطرها النبي -عليه الصلاة والسلام- عن السابقين جمعها منهم وكتبها والله -عز وجل- قال عنهم: ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ?[الأنفال: 31]. وهذا في الحقيقة أيضًا من سفاهات عقول المشركين، حينما ذكروا ذلك عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كيف يكون هذا أساطير الأولين وهو بلسان عربي مبين؟ ويقولون بأنه جمعه وكتبه وهم يعلمون أنه نبي أمين صادق فيما يبلغ عن الله؟ وهو لا يقرأ ولا يكتب -صلوات الله وسلامه عليه- وربنا وصف النبي -عليه الصلاة والسلام- في كتابه أنه أمي: ? الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ? [الأعراف: 157]؛ فوصفه -صلى الله عليه وآله وسلم- بذلك وهم يعلمون مخرج النبي -عليه الصلاة والسلام- ومدخله، ولد بينهم ولم يسجد إلى أحد ولم يتعلم عند أحد وأمي لا يقرأ ولا يكتب، ثم بعد ذلك يقولون: إنه جمعه من أساطير الأولين؛ ولذلك هم قالوا اكتتبها ومعنى اكتتبها يعني طلب من يكتبها له؛ لأنهم يعلمون أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب -صلوات الله وسلامه عليه- والله -تبارك وتعالى- تولى الدفاع عن القرآن الكريم والدفاع عن نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: (? قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ?). يعني والله ليس القرآن الكريم إفك افتراه النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يأتي به من أساطير الأولين وليست خرافات وأوهام أناس قالها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جمعها من عند هؤلاء(7/23)
(1/23)
---
وهؤلاء، وإنما هو كلام حق نزل من عند رب العالمين -سبحانه- والله -عز وجل- أثبت ذلك مرارًا في كتابه: ? قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ? [النحل: 102].
وقال تعالى: ? وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ? [الشعراء: 193: 195].
والله -عز وجل- وصف نفسه هنا بصفة لما ذكر أنه أنزله صفة فيها جلال وكمال هي أنه يعمل السر وأخفي: (? قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ?) ولذلك نحن نؤكد ونقول: بأن علم الغيب لله -تعالى- وحده فلا يعلم الله أحد الغيب من المخلوقات بحال من الأحوال، قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله - والمقام يضيق عن أن أستأصل في مثل ذلك- ولكني أحذر فقط من أن يزعم إنسان أنه يعلم الغيب، أو أن يأتي أناس فيذهبون إلى العرافين والكهنة زاعمين مصدقين أنهم يعلمون شيئًا من الغيب، والغيب صفة لله -تبارك وتعالى- ومسك ختام هذه الآيات مغفرة من الله ورحمة ولذلك قال: ? إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا?؛ وفي قوله سبحانه: إنه كان غفورًا رحيمًا دعوة لهم إلى التوبة والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- فمن تاب إلى الله تاب الله -تبارك وتعالى- عليه لأن هؤلاء كذبوا وافتروا وصفوا النبي -عليه الصلاة والسلام- بما لا يليق به، وكذبوا عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- ومع ذلك دعاهم ربهم إلى المغفرة والرحمة، كما دعا غيرهم ممن نسبوا الولد إلى الله وممن أهلكوا أوليائه الصالحين في كثير من آيات القرآن الكريم لكن كما أشرت يضيق المقام عن الاسترسال في مثل ذلك.
ونكتفي بهذا وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أحسن الله إليكم وبارك الله فيكم
(1/24)
---(7/24)
نفسح المجال للإخوة الذي عنده سؤال.
يقول: ذكرتم أن القرآن نزل بلسان عربي على النبي -صلى الله عليه وسلم- العربي فنزل بلغة العربية فما الفائدة أو العبرة من ذكر الأعجميات كإبراهيم وإسماعيل وثمود أو هذه الكلمات في القرآن.
نعم
الحقيقة يعني قد يرد السؤال بألوان أخر، ولكن ذكر هذه في القرآن بلسان العرب لاشيء فيها بحال من الأحوال، فهذه الكلمات كلمات أعجمية ولكنها ذكرت باللسان العربي في كتاب الله -تبارك وتعالى- وجاء ذكرها في القرآن على سبيل الحكاية لما كان قبل النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولكن من باب الفائدة كنت أود أن يكون السؤال بلون آخر: وهو القرآن الكريم بلسان عربي مبين فكيف أقام الله به الحجة على العالمين؟! ونحن قلنا: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- أرسل للعالمين والقرآن بلسان مبين والله تعالى في كتابه يقول:
? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ?[الرعد: 4]. فنقول: بأن الله -تبارك وتعالى- من فضله وتكرمه على نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن قيض له من يحمل هذا القرآن بألسنة مختلفة وبلغات متعددة؛ ليبلغ به العالمين؛ ولذلك في سورة الأنعام: ? وَأُوحِي إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ? [الأنعام: 19].
فمن بلغه القرآن من أي طريق إذن سواء أن كان من بلاغ النبي -عليه الصلاة والسلام- أو من بلاغ عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- باللغة التي يتكلم بها فقد أقيمت عليه الحجة بذلك.
يقول: نفى الله -سبحانه وتعالى- اتخاذ الولد والصاحبة ونحن كمسلمين نؤمن بذلك ونعتقده ونتعبد لله به؛ ولكن النصارى يدعون أن لله ولدًا وصاحبة ولا يقبلون القرآن دليلًا فكيف نرد عليهم ندحض حدتهم هذه؟.
(1/25)
---(7/25)
في الحقيقة كلام هؤلاء القوم الذين أشركوا بالله -سبحانه وتعالى- واتخذوا لله الولد -كما أشرت في حديثي- من أسفه السفه على الله -تبارك وتعالى- وما زعموا وافتروا به على الله من أكذب الكذب على رب العالمين، ولو رجعوا هم وتحاكموا حتى إلى ما بين أيديهم من كتب محرفة، لوجدوا فيها الدليل على أن عيسى بن مريم أو أن عزيرًا لا ينتسبون إلى -تبارك وتعالى- بنسب، وإنما منصوص حتى في كتبهم أنهم عباد لله -تبارك وتعالى- ونقول لهم بالعقل: إن لم يصدقوا بالقرآن وأهملوا ما عندهم من كلمات: أيليق بصاحب الجلال والعظمة أن يشترك مع مخلوقاته في الصفات التي هم عليها؟ فالمخلوقات تتصف بصفات هي عليها هذه الصفات نحن نعتقد أن فيها من العجز والنقص والضعف ما فيها، رب العالمين -سبحانه وتعالى- المنزه عن صفات المخلوقات هل يليق أن نجعله هو المخلوقات التي خلقها وذرأها في درجة واحدة، وإلا هو -سبحانه وتعالى- عال عليهم، منزه عن صفاتهم -سبحانه وتعالى- فنسبة الولد إلى الله -تبارك وتعالى- فيها من الكفر الشديد والظلم لرب العالمين -سبحانه وتعالى- ونسبة الضعف والعجز والقصور إليه ما يتنزه ربنا -سبحانه وتعالى-عنه، وما يليق بمخلوقات ضعيفة خلقها رب العالمين أن ينسبوا ذلك إلى -عز وجل- في كتبهم -بارك الله فيك- ما يقيم الدليل عليهم وإن لم يقبلوا ذلك نقول لهم هل تجعلون الخالق كالمخلوق هل الخالق يتنزل عما هو عليه -سبحانه وتعالى- إلى أن تكون له صاحبة وأن يكون له ولد يتصف بعد ذلك بصفات المخلوقات وبصفات الحاجة الاحتياج؛ لأن الذي يحتاج إلى ولد ضعيف يعينه إذا كبر يجري عليه بعد ذلك إذا ضعف، ورب العالمين المنزه من صفات الجلال والكمال لا يليق بحال أن ننسب له ذلك.
حفظك الله ورعاك في قوله تعالى: ? وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا? فهل إلحاق الضرر بالإنسان لمنفعة الإنسان؟.(7/26)
(1/26)
---
لا... هو الحقيقة أنا أشرت إشارة قلت: لا يملكون جلب نفع أو دفع ضر، فدفع الضر عن الإنسان فيه منفعة للإنسان فالقرآن الكريم نفى عن هذه الآلهة هذين الأمرين هي لا تجلب نفعًا؛ لأن النفع يأتي إليك من طريق قد لا تتمكن أن تأتي بالنفع إلى نفسك ومن يلجأ إلى هذه الآلهة يطلب منها النفع يطلب منها جلب نفع كما أنه تريد أن تدفع عنه الشر أو تدفع عنه الضر. فالمراد بجلب نفع أو أن تدفع ضر.
يقول: بارك الله فيك وجزاك الله عنا خيرًا أضاف الله -سبحانه وتعالى- إلى نفسه بعض الأمور منها ما هي عينية ومنها ما هي محسوسات، وأضاف الله -سبحانه وتعالى- إلى نفسه فقال رحمة الله وأضاف ربنا -سبحانه وتعالى- إلى نفسه صفة ذات مثل صفة يد الله، وأضاف أيضا إلى نفسه بعضًا الآيات الأخرى ناقة الله أو كتاب الله أو عبد الله، شيخنا نود التفصيل في هذه المسائل بارك الله فيك؟
(1/27)
---(7/27)
الحقيقة هذا سؤال مهم وينبئ عن أننا في مجلس علم، وبين طلبة علم، حقيقة زميلكم يريد أن يقول بأن ما يضاف إلى رب العالمين نوعان: معانٍ وأعيان، ما يضاف إلى الله معانٍ وأعيان، المعاني هي الصفات أو الأشياء التي تقوم بغيرها، إنما الأعيان هي الأشياء المنفصلة، ورب العالمين -سبحانه وتعالى- أضاف إلى نفسه معانٍ وأضاف إلى نفسه أعيان، فمن المعاني التي أضافها رب العالمين إلى نفسه صفة الرحمة أو الغضب أو غير ذلك من صفات الجلال والكمال التي هو عليها -سبحانه وتعالى- أو مثلًا إضافة القرآن إليه وطبعا أنا كنت أريد أن أتوسع وأذكر في قوله تعالى: ? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ?؛ يفيد على أن الله في أعلى عليين؛ لأن النزول لا يكون إلا من علو الإله أسفل، وأنه تكلم ربنا -سبحانه وتعالى- به؛ لأنه أضاف إلى نفسه فإضافة هذا المعنى من باب إضافة الصفة إلى الموصوف يعني إضافة صفة إلى موصوف وهو رب العالمين إنما إضافة الأعيان هي الأشياء القائمة بنفسها فهذه يضاف إلى الله من باب التكريم والتشريف، كما أضاف ربنا البيوت إلى نفسه، قال: كعبة الله -تبارك وتعالى- أو بيت الله وسقياها وغير ذك مما ورد من مثل ذلك والله -تبارك وتعالى- أعلى وأعلم.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة مشكورً.
السؤال الأول: استدل من السنة النبوية على عموم بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.
السؤال الثاني: في قوله تعالى: ?وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ? برهان قاطع على بطلان ما عبد من دون الله وضح ذلك بالتفصيل.
(1/28)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس الثاني : تفسير بعض آيات سورة الفرقان
الدرس الثاني
تفسير بعض آيات سورة الفرقان(7/28)
أهلًا بكم ومرحبًا، أرحب بالمشاهدين والحاضرين وإن شاء الله -تبارك وتعالى- أتناول في هذا اللقاء بعضًا من آيات سورة الفرقان وسيدور حديثي حولها إن شاء الله -تبارك وتعالى- حول محورين:
المحور الأول: تعنت المشركين مع النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-.
المحور الثاني: سبب تكذيب المشركين وجزاؤهم في يوم الدين.
ونستمع الآن إلى آيات هذا اللقاء مع الأستاذ عبد الرحمن فليتفضل.
(2/1)
---
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ? وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ?7? أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ?8? انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ?9? تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا ?10? بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ?11? إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ?12? وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ?13? لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ?14? قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ?15? لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولاً ? [الفرقان: 7: 16].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد.
(2/2)
---(7/29)
في اللقاء الماضي ذكرت ما قال أهل الشرك والضلال عن كتاب الله الكريم، وأنهم نسب إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في ذلك افتراءات متعددة منها: أنه أتى به من عند نفسه، وأنه أساطير الأولين، وغير ذلك مما سبق أن أشرت إليه، وفي مطلع هذا اللقاء وحول الآيات التي استمعنا إليها الآن، والحديث حول المحور الأول: من تعنت المشركين مع النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- يذكر القرآن الكريم أنهم ذكروا خمس صفات من باب التعنت والتضييق على أنفسهم هم، وطلبوا على أن يكون عليها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، خمس صفات من باب المكابرة والتعنت، وإلا فسيظهر لنا الآن إن شاء الله -تبارك وتعالى- أنها لا مكان لها.
قالوا كما قال رب العالمين -سبحانه وتعالى-: ? وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ ?؛ هاتان هما الصفتان اللتان ابتدأ رب العالمين بهما وقد ذكرهما المشركين وطلبوا أن يكون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عليهما، أول صفة أنه يأكل الطعام، يريدون أن يقولوا أنه كسائر البشر، يأكل كما نأكل، ويحتاج إلى ما نحتاج إليه، وإلى جانب ذلك فهو يمشي في الأسواق؛ لطلب المعاش، فهو يبيع ويشتري، وتعللوا بذكر هذه الصفات تكذيبًا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وفي الحقيقة كون النبي -عليه الصلاة والسلام- يأكل ويشرب كغيره من البشر ويمشي في الأسواق؛ لاحتياجه إلى ما يحتاج إليه البشر أمر لا يتعلق بصلب النبوة والرسالة، وإنما هم أرادوا من وراء ذلك أن يشوشوا على عامتهم، وأن يصدوا الناس عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وإلا فبشرية الأنبياء والمرسلين معلومة حتى عند الأمم السابقة؛ ولذلك نفس منطق المشركين الذي كان مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هو الذي كان عليه أيضًا أصحاب الجاهلية السابقة، فقوم نوح -عليه السلام- قالوا له هذا القول:
(2/3)
---(7/30)
?وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ? [المؤمنون: 33].
ولم تكن بشرية النبي أو الرسول يومًا ما دافعة إلى تكذيبه أو صد الناس عنه، بل إن القرآن الكريم يقرر أن النبي أو الرسول يجب أن يكون بشر؛ لأن المرسل يجب أن يكون من جنس المرسل إليهم، ولو حدث خلاف ذلك لكان من التباين والنفرة ما يمكن أن ندركه أو أن نعلمه؛ ولذلك رب العالمين -سبحانه وتعالى- أخبر في كتابه أنه لو أرسل ملكًا لجعله أيضًا رجلًا: ? وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ? [الأنعام: 9].
ويقرر بشرية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في كثير من المواطن، شأنه شأن غيره من الأنبياء والمرسلين فيقول له رب العالمين سبحانه: ? قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ? [الكهف: 110].
فهو -صلى الله عليه وآله وسلم- بشر كسائر البشر، ويعتريه ما يعتريه البشر، ويحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر، إلا أنه فضل على سائر البشر بالنبوة والرسالة -صلوات الله وسلامه عليه- وكونه بشرًا رسولًا يفيد: أنه عبد لله -عز وجل- فلا يعبد وكونه رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- من قبل ربه يفيد: أنه يجب علينا اتباعه وطاعته والدخول تحت ما أمر به -صلوات الله وسلامه عليه- ورب العالمين -سبحانه وتعالى- قد ذكر هذه البشرية إلى جميع الأنبياء والمرسلين، وبين أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أسوة له في ذلك: ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً? [الرعد: 38].
(2/4)
---(7/31)
فكون النبي والرسول له زوجة يحتاج إلى معاش، وله زوجة فعنده أولاد، وغير ذلك مما يسري على سائر البشر، لسائر الأنبياء والمرسلين، ولكني أؤكد على أنهم جميعًا فضلوا على بقية البشر بالاصطفاء والاجتباء والتوفيق إلى النبوة والرسالة التي أنزلها عليهم رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
الصفة الثالثة والرابعة والخامسة من الصفات: التي طلبها أيضا المشركون تعنتًا ومن باب التكذيب بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنهم قالوا: ? لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ?7? أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَ?.
بعض المفسرين يذكر أنهم تدرجوا في الطلب فهم في البداية طلبوا أن يكون ملكًا؛ لأنهم لما طلبوا منهم ألا يأكل وألا يمشي في الأسواق فمعنى ذلك: أنه يرتفع عن مرتبة البشرية، ثم تنزلوا في الطلب فذكروا: ? لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ?؛ يعني هلا كان معه ملك، و"لولا": هنا للحث عن الشيء والتقدير عليه؛ ? لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ? فيسدده ويؤيده فيما يقول، ثم انتقلوا بعد ذلك ? أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ ? يعني ينزل عليه ملك من السماء أو يجهز له تجهيزًا على هذه الأرض كيفما يريد رب العالمين -سبحانه وتعالى- فيستغني بذلك عن الذهاب إلى الأسواق والسير كما يسير بقية العباد، ثم جاءت المسألة الخامسة أو الطلب الخامس: ? أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ?.
(2/5)
---(7/32)
والجنة ذهب كثير من المفسرين أن المراد بها البستان يعني يكون له بستان كبير كغيره من الملوك والزعماء كما يذهب إليه فكر هؤلاء المكذبين، وما كان الأنبياء والمرسلين يومًا ما طلاب دنيا أو سالكين مسالك أهل الغواية والضلالة وهؤلاء الذين كفروا وأشركوا طلبوا كثيرًا من الطلبات من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكانت طلباتهم في غاية التعنت والتكذيب للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولعله من المفيد أن أذكر: أن رحمة النبي -عليه الصلاة والسلام- والشفقة التي امتلأ قلبه عليها كان مع تكذيبهم له -صلوات الله وسلامه عليه- مشفقًا عليهم راغبًا في أن يدخلوا في الإيمان ليعيشوا في أمن وسلام، ويدخلوا جنة الرحمن، والله -عز وجل- يصور ذلك عن نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم-: فيقول: ? فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ? [هود: 12].
والله -عز وجل- يبين مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية فيقول: إنما أنت نذير، فهو مبلغ ومنذر، جاءت من قبل رب العالمين -سبحانه وتعالى- وقد طلبوا طلبات كثيرة، ولعل ما جاء في نهاية سورة الإسراء ما يشير إلى ذلك:
? وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا ?90?أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا ? [الإسراء: 90: 91].
(2/6)
---(7/33)
إلى غير ذلك مما طلبوه، والله -عز وجل- قد رد عليهم هذا التعنت وأمر نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يخبرهم أنه بشرًا رسولًا، وأنه لا يملك من الآيات التي طلبوها شيئًا؛ لأن صاحب الأمر هو رب العالمين -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه؛ ولذلك لما ألحوا وطلبوا وأكثروا الطلب قال الله لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- وأمره أن يقول: ? قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ? [الإسراء: 93].
وإن كنا نعجب من أمر، فلنعجب من أمر هؤلاء المشركين وقد ذكرت أن ما طلبوه إنما هو من باب التعنت والتكذيب، وليس أبدًا طريقًا أن يعرفوا الحق والصواب، وأن يدخلوا فيه، بدليل أن الله -تبارك وتعالى- أخبر عنه أنه لو أجابهم لكل ما طلبوه أيضًا ما آمنوا.
أي أنه لو أنزل عليهم الطلبات التي طلبوها وأجابهم فيما أرادوا من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يكون عليه أيضا ما استجابوا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وما دخلوا في دين الله -تبارك وتعالى- وتأملوا قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ?[الأنعام: 7].
? وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ?14? لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ? [الحجر: 14: 15].
وأوضح من هذا أيضًا قول رب العالمين سبحانه: ? وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ ? [الأنعام: 111].
ولذلك مرد الأمر إلى رب العالمين -سبحانه وتعالى- فمن أراد الاهتداء هدي بفضل الله -عز وجل- ومن أضله رب العالمين -سبحانه- فمن أين تكون له الهداية؟!
(2/7)
---(7/34)
ثم قال رب العالمين ما ذكره المشركون عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وما ذكروه لأتباع هذا النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال الظالمون: ?إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا?؛ هنا يذكر رب العالمين -سبحانه وتعالى- أن المشركين -أن الظالمين- وإطلاق الظلم وقد عرفنا هذا كثيرًا إطلاق الظلم في القرآن الكريم ينصرف إلى أي شيء؟ ينصرف إلى الشرك، فقوله تعالى: "وقال الظالمون" يعني: قال المشركون، ماذا قالوا؟ قالوا لأتباع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنتم تتبعون رجلًا مسحورًا، يعني: أصيب بالسحر فتغير عقله، واختلط عليه أمره، وقيل مسحورًا يعني مخدوعًا، وهذا معنى قول الله تعالى: ? فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ?[المؤمنون: 89]. يعني من أين تخدعون؟ وقيل: "إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا" من السحر وهي الرئة يعني أنه بشر كسائر البشر -صلوات الله وسلامه عليه-.
(2/8)
---(7/35)
رب العالمين -سبحانه وتعالى- رد عليهم جميع هذه الشبه، بكلمات يسيرة معدودة، مبينًا بطلان ما ذهبوا إليه، وأنه -سبحانه وتعالى- ما أراد بهم خيرًا، يصلونا إليه -سبحانه وتعالى- فقال: في مقام الرد عليهم: ? انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ? يعني أن ما ذكروه من هذه الشبه من أنه تارة ساحر أو كاهن أو كذاب أو شاعر أو غير ذلك مما ذكروه، هو في الحقيقة كلام نقص فيهم هم، وليس نقصًا في النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، لماذا؟ لأنهم لم يستطيعوا أن يتعرضوا للمعجزات التي أتى بها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولكن الشبه التي ذكروها ليست بشبه، وإنما هي أمور كان عليها جميع الأنبياء والمرسلين قبل النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ ولذلك أخبر ربنا -سبحانه وتعالى- أنهم ضلوا عن طريق الحق، والراجح في قوله: ? انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ ?؛ يعني في قولهم عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه ساحر أو كاذب أو شاعر أو مجنون أو غير ذلك من افتراءات المشركين على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وما زلنا إلى يومنا هذا - ولابد أن نربط حاضرنا بماضينا- نسمع بين الحين والآخر كلمات من أهل الشرك والانحراف والضلال يسيئون بها إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومنطق الكفر والشرك منطق واحد؛ لأن رب العالمين -سبحانه وتعالى- قال عن قوم فرعون أنهم قالوا لنبي الله موسى -عليه السلام-: ? فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ? [الزخرف: 53].
(2/9)
---(7/36)
فمنطق فرعون ومن كان معه هو أيضا نفس منطق المشركين الذين أتوا بعد فرعون، وهو أيضًا نفس منطق المشركين اليوم الذين كذبوا، وردوا ولم يدخلوا في دعوة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والله -تبارك وتعالى- يخبر أنهم ضلوا عن طريق الحق والصواب وذكر ذلك في آيات أخر: ? وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا ?100? الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ?[الكهف: 100: 101].
وهنا يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى-: ? فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ?[الإسراء: 48]؛ يعني لن يصلوا إلى الحق ولن يستطيعوا أن يصلوا إليه؛ لأن رب العالمين -سبحانه وتعالى- ما أراد بهم هداية.
(2/10)
---(7/37)
ثم قال رب العالمين سبحانه أيضًا وكلام رب العالمين سبحانه فيه رفعة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وإعلاء لشأنه ومكانته عليه الصلاة والسلام وفي نفس الوقت يبين أن ما طلبوه من النبي -عليه الصلاة والسلام- لا دخل له به، فإنما هي آيات ينزلها رب العالمين -سبحانه وتعالى- عليه، ويؤيده بها، سواء كان من القرآن الكريم أو من سائر المعجزات الحسية، التي كان يؤيد بها رب العالمين نبيه وحبيبه ومصطفاه - صلوات الله وسلامه عليه-، يدافع ربنا عن نبيه في هذه الآيات ويتولى الرد على شبه المشركين فيقول: ? تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا ? [الفرقان: 10] -صلوات الله وسلامه عليه- عرفنا معنى كلمة تبارك: وهي بمعنى تعاظم وتقدس رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهي ثناء على الله-عز وجل- وهنا رب العالمين -سبحانه- يثبت أيضًا في مطلع هذه الآية المشيئة لنفسه، مما يشير ويدل على عظمته -سبحانه- وأنه من أراد هدايته فهو المهتد، ومن أراد ضلاله فلن يجد الحق سبيلًا إلى قلبه؛ ولذلك قال ? تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ ? فالأمر متعلق بمشيئة الله -تبارك وتعالى- لا بمشيئة النبي -صلوات الله وسلامه عليه- حيث طلبوا منه ولكنه لم يجبهم إلى ما طلبوا؛ لأن الأمر كله بيد رب العالمين -سبحانه وتعالى- ? تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ ? ماذا قال؟ ? خيرًا من ذلك ? الصواب في قوله خيرًا من ذلك يعني خيرًا مما طلبوه من المشي في الأسواق والبساتين والجنان التي طلبوا أن تكون عند النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وانظر لمعنى الآية ? تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ ? لفعل لك ذلك، ولجعلك على ما طلبوا ولحقق هذا الأمر؛ لأن رب العالمين -سبحانه وتعالى- يقول للشيء كن فيكون، ثم فسر رب العالمين -سبحانه- المراد بالخير المذكور في هذه الآية وهي الجنات التي تجري من(7/38)
(2/11)
---
تحتها الأنهار، كما أنه لو أراد أن يكون للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قصورًا لفعل، وكل ذلك -لاشك- كما ذكر الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك تعالى- عن الإمام مجاهد أن ذلك يكون في الدنيا، يعني هذه الجنات وذلكم القصور تكون في الدنيا، والقصور جمع قصر، والقصر هو المسكن العالي الرفيع المتميز، والعرب كانوا يطلقون على كل بيت من حجارة قصرًا سواء كان كبيرًا أو كان صغيرًا فهنا رب العالمين -سبحانه وتعالى- كأنه يهدئ من روع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويتلطف معه في الخطاب، ويبين أن هؤلاء طلبوا منه أمورًا يعني من خلالها يودون أن يعجزوا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وربه -سبحانه وتعالى- هو الذي يتولى أمره، ويبين له، أن الأمر كله بيديه، ولو شاء لكان للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما طلب.
(2/12)
---(7/39)
وهنا فائدة يجب أن نعلمها: النبي -عليه الصلاة والسلام- لو أراد الدنيا لكانت بين يديه، وقد عرضت عليه لكنه رفضها -صلوات الله وسلامه عليه- ولقد جاءت في ذلك أحاديث متعددة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- منها ما جاء في الصحيحين وغيرهم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جلس ذات يوم على المنبر ثم قال: (عبد خيره الله -عز وجل- بين زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله -تبارك وتعالى-)؛ هذا الحديث يرويه أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- ويذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك أن عبدًا خيره الله -تبارك وتعالى- بين زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله -تبارك وتعالى-. والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هو الذي كان المخير هو العبد الذي خير -صلى الله عليه وسلم- أن يعطى من زهرة الدنيا ما يشاء أو أن يؤخر له ذلك نعيمًا عاليًا مرتفعًا لا يصل إليه أحد من البشر، فاختار ما عند الله -تبارك وتعالى- وفي الحديث أن أبا بكر -رضي الله عنه- فهم ذلك وبكى وتعجب الصحابة من بكاء الصديق -رضي الله عنه- وذكروا لماذا يبكي هذا الرجل؟ النبي -عليه الصلاة والسلام- يذكر أن عبدًا خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، فلماذا يبكي؟ يقول أبو سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه- فكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به، وهذه فضيلة للصديق -رضي الله تعالى عنه- وبالمناسبة هذه ندفع بها في وجود الروافض الذين يبغضون الصديق وعمر وعثمان وكثيرًا من صحابة النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- وهم بهذه المنزلة عند ربهم وعند النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(2/13)
---(7/40)
وتستمر الآيات ويدخل في المحور الثاني الذي يبين سبب تكذيب المشركين لماذا كذبوا بالقرآن سابقًا؟ ولماذا لم يدخلوا ويتابعوا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ وما هو الجزاء الذي أعده رب العالمين -سبحانه وتعالى- لهم جزاءً وفاقًا لتكذبيهم بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟
ذكر ربنا ذلك فقال: ? بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ?؛ بل هنا للإضراب الانتقالي، ينتقل رب العالمين -سبحانه وتعالى- بنا؛ ليبين لنا العلة والدافع والسبب في تكذيب هؤلاء للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وحقيقة الأمر أنهم كانوا يكذبون بالبعث والنشور والحساب والجزاء والوقوف بين يدي الله -تبارك وتعالى- كانوا ينكرون البعث وإنكارهم للبعث هو الذي دفعهم للتكذيب بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ورب العالمين -سبحانه وتعالى- قد ذكر في مواطن كثيرة من كتابه أنهم كذبوا بالبعث والنشور: ? زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ? [التغابن: 7].
وقد سبق أن قلت لكم فيما مضى في حلقات ماضية: ? وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ?78?قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ? [يس: 78: 79].
(2/14)
---(7/41)
وهذه الآية أفادت أنهم لما كذبوا بالساعة وترتب على تكذيبهم بها إنكارهم لبعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أفاد رب العالمين أن إنكار الساعة مستوجب للعذاب الأليم في نار جهنم؛ لأن الله قال: ? واعتدنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ?؛ فبعد أن ذكر أنهم كذبوا بالساعة أخبر -سبحانه وتعالى- وأفادت هذه الآية أن هذا التكذيب مستوجب لنار عظيمة شديدة، قال ربنا -سبحانه وتعالى- عنه? واعتدنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ?؛ والله -عز وجل- قد أخبر عن ذلك في مواطن من كتابه قولهم:
? وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ? [الرعد: 5].
فلما تعجبوا واستبعدوا البعث والنشور توعدهم رب العالمين -سبحانه وتعالى- بهذا العذاب الأليم، وأخبر أنهم في ا لنار خَالِدُونَ؛ ولذلك رب العالمين -سبحانه وتعالى- أخبرنا في كتابه أن هذه النار أعدها للكافرين؛ بسبب تكذيبهم للأنبياء والمرسلين، وعدم دخولهم في الدين الذي جاء من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(2/15)
---(7/42)
وبعد أن ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- ذلك خوف هؤلاء المجرمين من هذه النار وذكر أمرًا لا شك أنه يرعب من له حس أو قلب أو عنده فطنة أو فقه وفهم، رب العالمين -سبحانه وتعالى- ذكر بعض الصفات عن نار جهنم - أعاذنا الله وإياكم منها- بعدما أخبر أن هؤلاء متوعدون بعذاب السعير في نار جهنم قال رب العالمين: ?إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا?؛ يعني أن النار إذا رأت المشركين من مكان بعيد -يعني من أرض المحشر- وهم فيها قبل أن يقدموا عليها ? سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ?؛ طبعًا نحن نعرف عملية الزفير وفي سورة الملك سورة تبارك الذي بيده الملك أيضًا أخبر رب العالمين -سبحانه وتعالى- بأن النار أيضًا لها شهيق: ?إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ?7?تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ? [الملك: 7: 8].
(2/16)
---(7/43)
يعني ينفصل بعضها عن بعض، وهنا ذكر -سبحانه وتعالى- التغيظ والزفير، قال أهل العلم المراد بالتغيظ هنا: الغليان، يعني سمعوا لها غليانًا، ولكن لما كان الغليان مسببًا عن التغيظ أقامه رب العالمين -سبحانه وتعالى- مكان كلمة غليان: ? إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ?؛ وهذا يفيد أيضًا أنهم يسمعون أصواتًا شديدة إذا جانب ما تلهبهم به النار من أمور يشعرون بها ويحسون بها في جلودهم، كذلك أيضًا يسمعون أصواتًا مرعبة، هذه الأصوات تخيفهم، وقد أفادت هذه الآية أن النار تبصر؛ قال تعالى: ? إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ?؛ هذا نص القرآن، وقد ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه أنها تتكلم في مواطن متعددة في كتابه، وكونها تراهم من مكان بعيد، يدل على حدة بصرها، فبرصها ليس محدودًا قليلًا، وإنما قوي شديد؛ لأن المحشر لا شك أرض واسعة كما ذكر علماء الاعتقاد في ذلك؛ لأن الله -عز وجل- سيجمع فيها الأولين والآخرين منذ أن خلق آدم إلى أن يرث الله -تبارك وتعالى- الأرض ومن عليها.
(2/17)
---(7/44)
هذه النار ? إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ?، وقد ذكرت أن هذا يدل على أن النار ترى، وأن بصرها قوي شديد، والنار أيضًا تتكلم بدليل القرآن الكريم: ? يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ? [ق: 30]؛ هذه يدل على أن النار تتكلم، وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضًا في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تحاجت الجنة والنار قالت النار: لم لا يدخلني إلا المتكبرون؟ وقالت الجنة: لا يدخلني إلا ضعفاء الناس)؛ فدل ذلك على أن الجنة والنار كلاهما تتكلم، وللأسف الشديد بعض العقلانيين أنكروا ذلك، وقالوا: بأن النار أو الجنة أو الجمادات بصورة عامة لا يمكن أن تنطق أو تتكلم، وهذا في الحقيقة مخالف لمنطوق القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين، وقد اتفق من يعتد به من أهل العلم أنه لا يجوز أن نصرف القرآن عن ظاهره إلا بدليل صحيح يدل على ذلك، فإذا لم يكن هناك دليل فلا يجوز بحال من الأحوال أن نصرف القرآن عن ظاهره؛ لأن هذا سيكون تلاعبًا بكتاب الله -تبارك وتعالى- ويؤدي إلى الشقاق، وإلى أن تبرز بين أهل الإيمان فتن عظيمة وكلام ما أنزل الله -تبارك وتعالى- من سلطان، ولقد أثر التأويل بجنايات كبيرة عظيمة على أمة الإسلام حينما أعملوا عقولهم دون ضابط في كتاب الله -تبارك وتعالى- فمن يعتد به إذن من أهل العلم يؤمن بذلك، ولا أريد أن أطيل حول هذا، وإلا فهناك آيات كثيرة في كتاب الله أخبرت عن أن كل شيء في الكون يسبح بحمد الله -تبارك وتعالى- ? وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ? [الإسراء: 44].
(2/18)
---(7/45)
ونحن نعلم من السنة أن الجذع حن للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكان له صوت سمعه من كان في المسجد، وأن الحجر سبح في كفه -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا يعترض علينا عقلي بعد ذلك، فيقول إذا قلتم بأن هذه تتكلم، لماذا لا ترقى المنابر أو تمسك المحابر والدفاتر؟ نقول بأن رب العالمين أخبر بذلك عنها، ويخلق فيها أفهامًا، ويخلق فيها كلامًا، رب العالمين -سبحانه وتعالى- تتكلم به، ونحن نؤمن بما نطق به ربنا -سبحانه تعالى- في كتابه، نؤمن به ونسلم تسليمًا مطلقًا.
ثم زادت الآيات أمرًا آخرًا تخيف به أهل الشرك والضلال -ونسأل الله عز وجل أن يجنبنا هذه الأهواء- فبعد ما قال: ?إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ?12? وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ?13? لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا?؛ معنى الآية أنهم إذا ألقوا في النار يعني طرحوا فيها- في نار جهنم- ألقوا في مكان ضيق، وقد يقول قائل: طيب هذه النار فيها أعدادًا لا يحصيها إلا رب العالمين، فكيف تكون ضيقة؟ نقول: هي ضيقة على أهلها، وإن كانت واسعة، لذلك الله رب العالمين -سبحانه وتعالى- ذكر في كتابه فقال: ? إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ ?8? فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ ? [الهمزة: 8: 9].
(2/19)
---(7/46)
مؤصدة يعني مغلقة، والشيء مهما كان واسعًا إذا أغلق صار ضيقًا على من بداخله، فهي مهما كانت واسعة فهم مكبلون فيها بالأغلال والسلاسل، وهي مطبقة عليهم مغلقة؛ ولذلك صدق ربنا -سبحانه وتعالى- عندما قال بأنها حقًا ضيقة ? وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ ?؛ مقرنين: حال، يعني ألقوا حالة كونهم مقرنين، مقرنين في السلاسل والقيود، في الأصفاد، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، ففي سورة إبراهيم يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى-: ? وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ ?49?سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ? [إبراهيم: 49: 50].
وهنا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقًا مقرنين، وأفادت الآية: أن الكفار يقترن بعضهم ببعض بالسلاسل، يعني يجرون ويربطون الواحد تلو الواحد في نار جهنم، والعياذ بالله -تبارك وتعالى- وقيل أيضًا: وهذا أمر لا يتعارض مع ما قلته، أن هذا قرين هذا الكافر يسلسل معه ويلقى أيضًا في نار جهنم، وهناك آية في كتاب الله تدل على هذا المعنى: ? حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ?38? ? [الزخرف: 38].
قال أهل العلم: لما ذكر هذا في الدار الآخرة، ووصفه أيضا بالقرين، دل ذلك على أنه معه في نار جهنم؛ ولعل الآية التي بعدها تفيد هذا المعنى، وهي قول الحق -تبارك وتعالى- ? وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ? [الزخرف: 39].
(2/20)
---(7/47)
يعني الكفار بعضهم مع بعض، والكفار مع شياطينهم الذين كانوا سببًا في إغوائهم وضلالهم وكفرهم، وبهذه المناسبة أذكر فائدة للعلامة شيخ الإسلام ابن القيم -رحمه الله تبارك تعالى- حول هذه الآية ? وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ?؛ شيخ الإسلام ابن القيم الذي ذكر هذا في الجواب الكافي يقول: "بأن الناس إذا اشتركوا في مصائب عامة هانت عليهم المصائب" يعني إذا حدثت داهية وكان الاشتراك فيها كثيرًا واقعًا بين الناس مصيبة عمت البلاد والعباد هذه المصيبة بهذا الشمول والتوسع تخف وطأتها شيئًا ما؛ لهذا الاشتراك، ولعله يستأنس بهذا المعنى بقول الخنساء -رضي الله تعالى عنها-:
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
تعزي نفسها بكثرة الباكين حولها على من قتل من أخوانهم كما قتل أخوها أيضًا، هكذا ذكرت، ولكن الله -عز وجل- أذهب عن هؤلاء الكفار والمشركين والشياطين هذا القدر من الراحة الذي يجده الإنسان عند عموم المصيبة، فقال: ? وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ? يعني الاشتراك في العذاب، وكونكم جميعًا يعني أمة عظيمة كبيرة لا يخفف عنكم شيئًا مما تجدونه من عذاب السعير أعاذنا الله -تبارك وتعالى- وإياكم من ذلك.
(2/21)
---(7/48)
? وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ ?، ماذا حالهم إذن؟ وماذا سيكون أمرهم؟ وما الذي سيخرج منهم؟ ? دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ?؛ يعني دعوا على أنفسهم بالويل والهلاك؛ لأن الثبور هو الويل والهلاك كما قال موسى -عليه السلام- لفرعون: ? وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ? [الإسراء: 102]. يعني هالكًا خاسرًا ضائعًا، فهؤلاء لشدة ما هم فيه سينادون على أنفسهم بالويل والثبور والهلاك والله -عز وجل- يؤنبهم ويزيد من حسرتهم ويبين لهم أنه لا مناص عن الخروج مما هم فيه مهما فعلوا؛ ولذلك يقول لهم: ? لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ?؛ وهذا يدل يا إخواني على أن النار لا تفنى ولا تبيد، وآيات القرآن الكريم التي جاءت من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- تؤكد هذا المعنى وتشير إليه في كثير من الآيات.
الجنة والنار من معتقد أهل السنة والجماعة فيها أنها مخلوقة الآن، وأنها لا تفنى ولا تبيد، وقد نسب بعض الناس إلى بعض أئمة أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: بفناء النار، ولم يصح هذا أبدًا عن أحد ممن ينتسب إلى أهل السنة والجماعة.
شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تبارك تعالى- سئل عن حديث موضوع: سبعة تفنى ومنهم النار؛ فقال -رحمه الله تبارك تعالى- ليس هذا من كلام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وإنما هذا من كلام أهل البدع، وابن القيم -رحمه الله تبارك تعالى- في الوابل الصيد أيضا قسم الدور إلى ثلاثة: دار الطيبين ودار الخبثاء ودار يقع فيها هذا وهذا. يعني تشتمل على الطيب والخبيث فدار الطيبين هي الجنة التي يدخلها أهل الإيمان ابتداًء وأما الدار الخبيثة فهي دار الكافرين والأشقياء أعاذنا الله وإياكم منهم وهذه أيضا باقية أبد الأباد.
(2/22)
---(7/49)
أما النار التي تجمع بين الطيب والخبيث وهذه التي يمكن أنها لو قيل بأنها تفنى يحمل القول عليها أنها هي نار العصاة، فمن معتقد أهل السنة والجماعة، أن أهل القبلة من أهل التوحيد إذا دخلوا النار بسبب معاصيهم وذنوبهم، أنهم يخرجون منها بشفاعة الشافعين، ورحمة رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
طيب قول الله تعالى هنا لهم ? وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ?؛ هذا يبين أنه لا غاية لهلاكهم ويبين أيضًا أن ألوان وأنواع العذاب كثيرة، وكل لون ونوع منها يحتاج إلى أن يدعو على أنفسهم بالثبور، ألا وهو الخسران والويل والهلاك، وأيضًا سيدعو ثبورًا كثيرًا لماذا؟ لأن الله -تبارك وتعالى- أخبر في كتابه أنه كلما نضجت جلودهم سار لهم جلودًا غيرها فقال: ? كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ? [النساء: 56].
فلن ينقطع عذابهم بحال من الأحوال.
أيضًا يبكتهم رب العالمين سبحانه بعد ذلك، ولو أنهم كانوا يعقلون ويفهمون ويتعظون، لرجعوا إلى الحق والتزموا الصواب، ونحن لم نذكر ذلك عن المكذبين سابقا نوجه الخطاب أيضًا إلى المنكرين المكذبين في دنيانا اليوم، ونقول لهم اعقلوا وارجعوا إلى الحق والصواب؛ فرب العالمين -سبحانه وتعالى- بعدما ذكر هذا الجزاء وبما أعده لهؤلاء المجرمين المكذبين من هذه النار التي ستراهم من مكان بعيد، وأنها تغلي غليانًا ويصدر منها أصواتًا شديدة، وأنهم سيلقون فيها، ويطرحون في أماكن ضيقة مقرنين في السلاسل والأصفاد.
رب العالمين -سبحانه وتعالى- بعد ذلك كله قال ? قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ?15? لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْؤُولاً ?.
(2/23)
---(7/50)
يقول الله -تبارك وتعالى- لنبيه وحبيبه ومصطفاه -صلوات الله وسلامه عليه- هذا الذي ذكرناه لك من حال الأشقياء -هي النار وغيرها- وهؤلاء أخبر ربنا أنهم يحشرون على وجوههم في جهنم وتلقاهم النار بوجه عبوس وبالغيظ والزفير والشهيق، كما أشارت الآيات إلى ذلك، الله يقول: هذا الذي سمعتموه يا أيها الكافرون، وهذا العذاب الذي ستنالونه إن لم تؤمنوا وتصدقوا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هل هذا: ?خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ?؟
أيهما خير؟ هل عاقل يمكن أن يقارن بين هذا وذاك؟ أو أن يفضل هذه النار بهذه الصفات على جنات تجري من تحتها الأنهار؟ وعلى نعيم ورضوان من الرب الرحمن -سبحانه وتعالى-؟
إن العاقل لا شك يرجع من قريب، ويعلم أن النار إذا دخلها وكان من الكافرين فهو مخلد فيها أبد الأباد، والجنة حينما يدخلها أهل الإيمان أيضًا مخلدون فيها أبد الأباد بدليل أن الله -سبحانه وتعالى- قال هنا: ? قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ?؛ فالجنة أهل الإيمان كما ذكر ربنا في آيات كثيرة في كتابه ? خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ? [النساء: 57].
(2/24)
---(7/51)
الحمد لله وفضله لا يشقون فيها ولا يتألمون فيها ولهم فيها ما يشاءون، رب العالمين كما ستأتي الإشارة إلى ذلك، وهنا أود أن ألفت نظر إخواني إلى لفتة تدفعهم إلى العمل؛ لأن الله لما قال: ? قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ?؛ قال التي وعد ?الْمُتَّقُونَ ? فذكر أن سبب هذا النعيم وسبب الدخول في جنة الخلد؛ تقوى رب العالمين -سبحانه وتعالى- تقوى عمل ولا كلام؟ تقوى عمل، اعملوا يا أهل الإيمان، إن أردتم جنة الخلد فعليكم بالعمل، عليكم بالعمل، ولا تعارض هذا مع الحديث: (لا يدخل أحد منكم الجنة إلا بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)؛ قال أهل العلم: بأن معنى هذا الحديث أن العمل ليس في مقابل الجنة، وإنما الجنة فضل من رب العالمين، ولكن العمل أمر ضروري فلن يدخلها أحد إلا بالعمل، وقيل بأن ابتداء دخول الجنة من رب العالمين -سبحانه وتعالى- وبعد ذلك تكون لأهل المتقين ولأهل الإيمان، ويكون التفاوت بينهم في داخل الجنة بالأعمال الصالحة، ونستفيد من قوله تعالى: ? كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ?؛ كانت لهم جزاءً ومصيرًا أن الله أعد جنة الخلد سلفًا للمتقين؛ لأنه قال: ? كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ?؛ وهنا أمر لابد من الحديث عنه" قل أذلك خير" خير هنا أفعل تفضيل، وهنا قد يأتي السؤال؛ لأن المفضل والمفضل عليه كلاهما اشتركا في شيء واحد، ولكن زاد أحدهما على الآخر فيه، فهل الجنة خير فقط من النار؟ هل النار فيها خير حتى يأتي أفعل التفضيل هنا؟ فيقول ? قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ ?؛ النار شر كلها، لا خير فيها البتة، طيب، كيف نجيب عن أفعل التفضيل الذي يفيد الاشتراك بين المفضل والمفضل عليه؟ قيل بأن صيغة التفضيل قد تطلق في القرآن الكريم لمجرد الاتصاف بها؛ لأنها فضيلة؛ لأنها خير، فكأن القرآن أراد أن يثبت الخير لهذه الجنة، وقيل: إن العرب أرادوا تخصيص شيء بفضيلة وليس إطلاق،(7/52)
(2/25)
---
تخصيص شيء بفضيلة، استعملوا صيغة التفضيل؛ لأنها تدل على ذلك أكثر من غيرها، وهذا استعمال عند العرب معلوم كأن مثلاً يقول العرب الشقاء أحب إليك أم السعادة؟ فهل في الشقاء أي لون من ألوان السعادة؟ أو أن إنسانًا يحب شيئًا من الشقاء، أو أن الشقاء فيه أي لون من ألوان الخير أبدًا؟ قول يوسف -عليه السلام-: ? رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ? [يوسف: 33].
هل غيره أحب إليه؟ يعني السجن وغيره، لا ولكنه أراد أن يخصص هذا بفضيلة، فقوله قل أذلك خير أراد أن يخصص الجنة بهذا الخير، فأتى بأسلوب التفضيل ثم ختم رب العالمين -سبحانه وتعالى- هذه الآية، ونختم بها هذا اللقاء: ? لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْؤُولاً ?؛ أبشروا يا أهل الإيمان ويا أصحاب التقوى، أعد الله لكم جنات ونهر، وجنات وصفها بأنها خير، ووعد بها المتقين، رب العالمين وعد بها المتقين.
وإذا دخل العبد الجنة كان له فيها ما يشاء، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن أهل الجنة إذا تمنى شيء وجدها بين يديه، وليس طلبه؟ لا.. إذا تمناه وجده بين يديه، ويجد ذلك:? لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ?؛ وهو نعيم أبدي سرمدي قائم ? كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْؤُولاً ?؛ قيل: كان على ربك وعدا مسئولًا يعني أن أهل الإيمان كانوا يسألون رب العالمين -سبحانه وتعالى- ذلك، وأن الملائكة كانوا أيضًا يطلبون ذلك من ربهم -سبحانه وتعالى- فأهل الإيمان يقولون ? رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا ? [آل عمران: 149].
(2/26)
---(7/53)
كما في آخر سورة آل عمران، والملائكة دعوا لأهل الإيمان ? رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ ? [غافر: 8]؛ وقيل: كان وعدا مسئولًا يعني وعد واجبًا أوجبه رب العالمين على نفسه، والله -عز وجل- لا يوجب عليه أحد من خلقه شيئًا، ولكنه يوجب على نفسه بقدرته وعظمته ما يشاء -سبحانه وتعالى- وقد انتهى بذلك هذا اللقاء وأكتفي بهذا وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هل أحد من الشباب أجاب على أسئلة الحلقة الماضية؟
تفضل:
السؤال الأول: استدل من السنة النبوية على عظم بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
قال -صلى الله عليه وسلم-: (أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي وذكر -صلى الله عليه وسلم- كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)؛ وفي رواية مسلم (بعثت إلى الأحمر والأسود)؛ أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
إجابة صحيحة.
يقول: كان السؤال في الآية الكريمة ? وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ? [الفرقان: 3]؛ إلى آخر الآية دليل على بطلان ما عبد من دون الله -عز وجل- وضح ذلك؟
الجواب: التوضيح أن الله -عز وجل- أخبر أن ما عبد من دون الله سواء كان حجرًا أو صنمًا أو نارًا فهو لا يخلق شيئًا، بل هو مخلوق، ولا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا فمن باب أولى لا يملك للمخلوق، ولا يستطيع أن يحيي ولا يميت، ولا يملك لنفسه حياة ولا موتًا ولا نشورًا فمن باب أولى أن يعبد الله -عز وجل- هو الخالق، هو الحي القيوم، هو يحيي ويميت، فمن باب أولى أن يعبد الله، وبطلان ما عبد من دونه.
يعني أن هذه الآلهة التي هي عبدت من دون الله -تبارك وتعالى- لا تستحق أن تعبد؛ لأنها ليس لديها أي شيء من شئون الربوبية أو التدخل في الملك.
(2/27)
---(7/54)
يقول: استدل القائلون بأن الجنة لم تخلق بعد، بدخول آدم -عليه السلام- الجنة أي أن الله أنشأ له بستانًا أو جنة، فالجنة عند العرب هي البستان، فدخل آدم الجنة وتغوط فيها، وهذا أذى، والأذى لا يكون في الجنة، فقالوا كما أنشأ الله بستانًا لأدم، سينشئ الجنة لنا يوم القيامة فما ردكم؟.
هذه يعني شبهة لا أصل لها في الحقيقة؛ لأن الآيات الواردة والتي أدانت أن رب العالمين -سبحانه وتعالى- قد خلق جنته، وكذلك خلق النار، وإجماع أهل العلم على هذا، أمر لا يعارض لمثل هذا الكلام، هذا شيء.
الشيء الثاني: هناك خلاف كبير بين أهل العلم في الجنة التي دخل آدم فيها، هل هي جنة الخلد أو ليست جنة الخلد؟ ورجح كثير من أهل العلم أنها ليست جنة الخلد، وعلى فرض أنها كانت جنة الخلد، الله -عز وجل- يسلب الخصائص، إذن من آدم -عليه السلام- التي يكون عليها في الدنيا، فلا تكون معه في هذه الجنة، وخلق آدم نفسه عجيب؛ لأنه خلق من غير أب ولا أم، وهذه مسائل غيبية نحن لا نعلمها ولا نخوض فيها، ولكن نؤمن بما أخبر ربنا -سبحانه وتعالى- به في كتابه ونقف عند حدود النص الوارد في ذلك والله أعلم.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟.
السؤال الأول: ما المراد بالأمثال في قوله تعالى: ?انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ?؟
السؤال الثاني: ما معنى ? سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا? وهل النار ترى وتتكلم؟ أيد ما تقول بالدليل؟
أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(2/28)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس الثالث : آيات من سورة الفرقان
الدرس الثالث
آيات من سورة الفرقان
أهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم والحاضرين والمشاهدين الكرام.(7/55)
ويسرنا في هذا اللقاء أن نتناول أيضًا بعض آيات من سورة الفرقان، وسيدور حديثي في هذه الآيات حول محورين إن شاء الله -تبارك وتعالى-.
المحور الأول: موقف العابدين والمعبودين من دون الله في يوم الدين.
المحور الثاني: كفر الكافرين برب العالمين أدى بهم لسوء المصير؛ ولنستمع الآن إلى هذه الآيات من الأخ عبد الرحمن فليتفضل جزاه الله خيرًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(3/1)
---
? وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ?17? قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ?18? فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلاَ نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ?19? وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ?20? وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ?21? يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ?22? وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ?23? أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ? [الفرقان: 16: 23].
أحسنت جزاك الله خيرًا.(7/56)
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد:
أيها الكرام المحور الأول في هذا اللقاء -كما سمعتم- بعنوان: موقف العابدين والمعبودين من دون الله -تبارك وتعالى- في يوم الدين، وتحته هذه الآيات، وهي قول الحق -تبارك وتعالى: ? وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ?
(3/2)
---(7/57)
يخبر رب العالمين -سبحانه وتعالى- عما يدور، أو عن شيء مما يحدث في يوم الدين، وهنا يذكر تبكتيه وتقريعه وتوبيخه لمن عبدوا من دون الله -تبارك وتعالى- لمن توجهوا إلى غير الله -عز وجل- بالعبادة، يحشرهم رب العالمين -سبحانه- يحشر العابدين والمعبودين، ثم يوجه هذا السؤال للعابدين، ويوجه أيضًا للمعبودين، يقول الله -عز وجل- أولًا للمعبودين: ? أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟ ?؛ هذا الاستفهام ليس معناه أن الله -عز وجل- لا يعلم أو لم يسبق في علمه هذا، وإنما هو يود أن يقرع أو يكبت هؤلاء الذين اتخذوا لله -تبارك وتعالى- الأنداد، وأن يظهر أمرًا آخر -سأتطرق إليه الآن وسيأتي إن شاء تعالى بعد قليل- وهو أنه -سبحانه وتعالى- أخبر أنه ستظهر العداوة بين العابدين والمعبودين في يوم الدين نتيجة هذا الحوار، وستأتي الإشارة إلى ذلك من خلال آيات القرآن الكريم التي سنتعرض لها إن شاء الله -تبارك وتعالى-، يوجه السؤال لهؤلاء القوم الذين عبدوا من دون الله أي المعبودين: ? أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ؟ ?؛ هل أنتم أضللتم العباد الذين توجهوا إليكم بالعبادة أم أنهم هم الذين ضلوا عن صراط الله المستقيم؟ وما كان ينبغي لهؤلاء الذين عبدوا من دون الله -تبارك وتعالى- أن يتوجهوا إلى غير الله -عز وجل- بالعبادة بحال من الأحوال؛ ولذلك رب العالمين في الآية التالية مباشرة بعدما طرح وذكر هذا السؤال للمعبودين يوم القيامة يخبر جوابهم وما سيدور بين العابد وبين المعبود في يوم الدين مباشرة، يقول هؤلاء الذين عبدوا من دون الله -تبارك وتعالى- وخاصة الذين لا يرضون هذه العبادة، وهذا شيء لابد من التنبيه عليه؛ لأن بعض الناس قد يدعو أتباعه إلى أن يعبدوه فهذا مصيره ومصيرهم -والعياذ بالله - في نار جهنم، وهؤلاء -أي الذين وافقوا ورضوا بأن يعبدوا من دون الله- هم ممن ينطبق عليهم قول الحق -تبارك(7/58)
(3/3)
---
وتعالى-: ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ? [الأنبياء: 98].
أما هؤلاء الذين عبدوا ولا يرضون ذلك -كما ستأتي الإشارة إلى هذا- سيقولون ما قاله رب العالمين عنهم: ? قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ?؛ يعني لا يحق ولا يجوز -تنزيها لك يا ربنا- إجلالًا وعظمة لرب العالمين -سبحانه وتعالى- ? مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ?؛ نبعدهم كما نعبدك، أو نتوجه إليهم كما نتوجه إليك، ولكن الأمر كما كان وكما حصل ? وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ?؛ نسوا ما أنزلته عليهم في القرآن، أو في سنن المرسلين الذين أرسلت إلى هؤلاء من قبل، قبل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كلها هؤلاء حينما يطول عليهم الآمل ويبتعد العهد بهم عن النبوة يغيروا ما نزل عليهم من عند رب العالمين ? حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ?؛ أي كانوا قومًا هلكًا؛ وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- عن الحسن البصري ومالك عن الزهري أنه قال يعني أنهم قوم لا خير فيهم.
هذه الآية قالوا ? قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ ?؛ في الحقيقة تخبر هذه الآية العداوة التي تقوم بين العابدين والمعبودين في يوم الدين، وتفيد أيضًا أن الذين عبدوا من دون الله -عز وجل- وهم لا يرضون هذه العبادة سيتبرءون من العابدين في يوم الدين، وهنا سنجد الحسرة تلو الحسرة تطرى على قلوب هؤلاء المجرمين، الذين اتخذوا من دون الله -تبارك وتعالى- أندادًا، لماذا؟
(3/4)
---(7/59)
لأنهم لما توجهوا إلى هؤلاء المعبودين بالعبادة كانوا يريدون من وراء هذه العبادة نفعًا، وكانوا يقصدون من ورائها خيرًا، وكانوا يتطلعون إلى تميز، والله -عز وجل- يخبر في يوم الدين أنه ستقوم عداوة، وتحدث وتظهر هذه العداوة بين العابدين والمعبودين في يوم القيامة، وقبل أن أذكر الآيات التي ذكرها ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه أود أن أقول: ما المراد هنا بالمعبودين المذكورين في هذه الآية؟
المراد بالمعبودين الذين سيسألهم ربهم: ? أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ ?؛ من هم هؤلاء المعبودين الذين وجهوا إليهم هذا السؤال ونزهوا رب العالمين -سبحانه وتعالى- عن أن يكونوا دعوا هؤلاء المشركين إلى الوقوع في الشرك؟
اختلف أهل العلم في ذلك فقال بعضهم: المراد بهم: «عزير وعيسى والملائكة »؛ وقد جاء ذكر عبادة عيسى في القرآن الكريم، كما جاء ذكر أيضا بعبادة قوم للملائكة من دون الله -عز وجل- في القرآن الكريم، فعن الملائكة قال ربنا -سبحانه وتعالى-: ? وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ?40? قَالُوا سُبْحَانَكَ ? [سبأ: 39: 40]؛ بنفس المنطق أيضًا تنزيها لك يا رب، ? أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ ?؛ إذا كنت أنت يا رب أنت ولينا، أنت ملاذنا، أنت ملجؤنا، إليك نرجع، ولا نتحرك إلا بأمرك، سبحانك، فكيف نأمر هؤلاء أن يتخذونا أندادًا من دونك -سبحانه وتعالى-؟!!
(3/5)
---(7/60)
وكذلك أيضًا جاء الأمر على هذا النمط أو جاء ذكر ذلك عن عيسى -عليه السلام-في القرآن الكريم: ? وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ ? [المائدة: 116]؛ ولقد وقعت أمة كبيرة في عبادة عيسى -عليه السلام- قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وإلى يوم الناس هذا، وها هو القرآن الكريم يقرر أن عيسى عُبد من دون الله -عز وجل-، ويقرر أيضًا أن عيسى -عليه السلام- لا يرضى بهذه العبادة، بل إنه سيتبرأ ممن عبدوه في يوم الدين، وعندئذ ستكون الحسرة والندامة، عيسى -عليه السلام- حينما يقول الله ? أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ?؛ أول كلمة يقولها عيسى -عليه السلام- أنه ينزه ربه -سبحانه وتعالى- عن أن يقول شيئًا من ذلك، ما يليق به وهو نبي من قبل الله -عز وجل- يدعو إلى توحيد الله، وإلى إفراد الله بالعبادة، أن يدعو قومه إلى أن يعبدوه، وإلى أن يعبدوا أمه من دون الله -عز وجل-؛ ولذلك في هذا المشهد الذي سيكون في يوم القيامة عيسى -عليه السلام- سيتبرأ، ويستشهد بربه الذي أرسله وبعثه، ومطلع على خبايا الأمور، وعلى ما ظهر منها، وكذلك عيسى -عليه السلام- يقول لربه: ?مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ? [المائدة: 117]. فهنا عيسى -عليه السلام- تبرأ من هؤلاء الذين عبدوه من دون الله؛ ولذلك قال بعض أهل العلم:
- هذه الآية خاصة في هؤلاء المذكورين الذين جاء ذكرهم في القرآن الكريم، ومنهم المسيح عليه السلام والملائكة وأيضًا عزير.
(3/6)
---(7/61)
- وذهب البعض الآخر: أن المراد بالمعبودين كل ما عبد من دون الله -تبارك وتعالى- وهذا هو الصواب؛ لشمول القرآن الكريم وعموم القرآن الكريم، ومعالجة القرآن الكريم لواقع الناس من جميع الجوانب، فالأمر لا يقتصر على فئة محدودة بعينها عبدت من دون الله، ولكن يشمل كل ما عبد من دون الله -تبارك وتعالى-.
والله -عز وجل- بعدما أخبر تبرأ هؤلاء الناس، هؤلاء الذين عبدوا ولا يرضون، وينزهون ربهم -سبحانه وتعالى- عن أن يقولوا شيئًا من ذلك، أو أن يقعوا فيه، يخبرون عن علة ذكرتها الآن، وذكرتها الآيات، ولكن أكررها وأرددها هنا لننتبه إليها: ? وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ?؛ وهذا يفيد أن طول الأمل والنسيان، أو التفريط والتقصير، والإهمال والترك لما جاء من عند الله -تبارك وتعالى- يكون سببًا في الوقوع في الشرك والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
بقيت مسألة قبل أن أنتقل من هذه الآية، ودائمًا وأنا أعرف أن أبنائي يحبون أن يتعرضوا لهذه المسائل العقدية ويفهموها، ذهبت المعتزلة من خلال هذه الآية أن الله -سبحانه وتعالى- لا يضل أحدًا؛ لقول الله -عز وجل- في هذه الآية والتي قبلها: ? أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ?؛ يعني هل هم الذين فعلوا ذلك ووقعوا فيه، أم أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أضلهم؟
(3/7)
---(7/62)
في الحقيقة غاب عن هؤلاء الناس أن الآية لو كان معناها أن الله -عز وجل- هو الذي أضلهم أو هو الذي لم يضلهم -سبحانه وتعالى- ستصبح الآية حجة على رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولا تكون حجة لرب العالمين -سبحانه وتعالى- على عباده، ولكن من المقرر فيما معتقد أهل السنة والجماعة: أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء -سبحانه وتعالى- وأن الضلال والغواية بفعل رب العالمين -عز وجل-؛ ولكن العبد له سبب فيه، وتحصيل له عند أعراضه كما ذكر رب العالمين -سبحانه وتعالى- عن الذكر الذي نزل من عند الله ? وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ?؛ فهم إذا كانوا سببًا في وقوعهم في الضلال، ولكن الذي أضلهم هو رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(3/8)
---(7/63)
الآية التي يجب أيضًا أن نتبينها فيما بعد ذلك، وسأذكر عليها أدلة واضحة من القرآن، وهي تتمة لهذه الآية، ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى- ? فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلاَ نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ?؛ فقد كذبوكم بما تقولون يعني أن المعبودين ربنا -سبحانه وتعالى- يخاطب العابدين المعبودين كذبوا هؤلاء العابدين في أنهم اتخذوهم من دون الله أندادًا، ووافقوا على ذلك، وأنهم زينوا لهم هذا الآمر، وأنهم حثوهم عليه، أو رغبوهم فيه، فالمعبودين سيتبرءون من العابدين في يوم القيامة، وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تفيد هذا المعنى، وهذا الذي يجعلنا -يا أخوان- نرجح أن المراد بالمعبودين كل ما عبد من دون الله -تبارك وتعالى- أنا ذكرت آية عن الملائكة فيما مضى، وذكرت آية عن عيسى -عليه السلام- وإليكم الآن بعض الآيات التي فيها ذكر لبراءة أي معبود عبد بباطل، ولا يرضى بذلك، من دون الله -تبارك وتعالى- مثلًا في سورة يونس ? وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ? يعني ربنا -سبحانه وتعالى- يجمع هؤلاء وهؤلاء ? نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا ? يعني أود أن يتأمل كل مستمع الآن هذا الموقف ويتصوره، كما جاء من عند رب العالمين: ? ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ ? [يونس: 28]؛ يعني قفوا مكانكم، الشركاء ومن عبدوهم من دون الله -تبارك وتعالى- قفوا مكانكم ثم يقول القرآن: ? فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ? [يونس: 28]؛ يعني فصلنا بينهم، وهذا يفيد أن هناك مواجهة ستتم بين العابدين والمعبودين من دون الله -تبارك وتعالى- ? فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ?(7/64)
(3/9)
---
هنا يقول المعبودين الذين عبدوا من دون الله: ? وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ? [يونس: 28]؛ أنتم ما عبدتمونا من دون الله، طيب هم عبدوهم وباعوهم، ولكن القصد أنتم عبدتم أهوائكم أنتم، سرتم وراء الشيطان الذي زين لكم ذلك، ثم بعد ذلك يستشهدون بالله -تبارك وتعالى- على أنه مطلع عليهم، وأنهم كانوا غافلين عن عبادة هؤلاء له، فكفى بالله شهيدًا إن كنا عن عبادتكم لغافلين، وفعلًا هؤلاء الذين عبدوا من دون الله -تبارك وتعالى- غافلون عن دعاءه وعبادة من عبدوهم، ومن طلبوا منهم، ومن أنزلوا حاجتهم بهم، والله - عز وجل- يذكر ذلك في آيات متعددة، يذكر أن هناك براءة ستتم بين العابدين والمعبودين يوم القيامة، تبرؤ المعبود، سيتبرأ من هؤلاء العابدين، وسيكفرون بعبادتهم، قال تعالى: ?كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ? [مريم: 82]؛ يعني سيتحولون إلى أضداد لهؤلاء.
وتأملوا أيضًا ما جاء في سورة الأحقاف: ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ? [الأحقاف: 5].
فالمدعو غافل عن دعاء الداعي، مهما دعا ومهما طال عليه الأمد في الدعاء: ? إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ? [فاطر: 14].
? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ?6? وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ?.
(3/10)
---(7/65)
ألا فليحذر هؤلاء الناس الذين يتوجهون إلى غير الله -تبارك وتعالى- بالدعاء أو العبادة أو النداء أو طلب الغوث أو المدد، ظانين أنه يمكن أن يستفيدوا من ورائهم شيئًا، بعد ما أخبر ربنا -سبحانه- أن هذا سيقع، وأن المعبودين سيتبرءون من العابدين في يوم القيامة يشير: ? فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلاَ نَصْرًا ?.
قيل: إن هؤلاء المعبودين لا يستطيعون نصركم ولا تصريف الأمور لكم.
وقيل: إن العابدين لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا تصريف أمرهم في يوم الدين، حينما يقفون بين يدي رب العالمين -سبحانه وتعالى- ثم تقرر الآية أمرًا مقررًا أيضًا يجب الالتفات إليه، والتنبيه عليه: ? وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ? الظلم الوارد في هذه الآية معناه الشرك، فالظلم عندما يطلق بإطلاق ينصرف إلى الشرك، والله -عز وجل- يقول: ? وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ ? [يونس: 106].
ولا تنسوا قول لقمان -عليه السلام- لابنه، وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- لما نزلت هذه الآية ? الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ? [الأنعام: 82].
لما نزلت هذه الآية شقت على نفوس الصحابة، كيف ينفي رب العالمين -سبحانه وتعالى- الأمن والاهتداء عن من لم يظلم نفسه؟ ولذلك قالوا وأينا لم يظلم نفسه يا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ لأنك -الآن- لو أخذت قلمًا من جيب صاحبك أو زميلك فقد ظلمته، ولو أشرت إليه بحديدة فقد ظلمته، وهذه من المعاصي لا يسلم إنسان منها إلا من عصم الله -عز وجل- مثل بعض الأنبياء والرسل.
(3/11)
---(7/66)
أما سائر العباد ما منا إلا من عصى أو هم، والصغائر يقع فيها كل العباد بإطلاق ولم يسلم منها أحد، والقرآن الكريم ذكر ذلك عن بعض الأنبياء والمرسلين فآدم -عليه السلام- قال: ? رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? [الأعراف: 23].
إذا لو كان الظلم معناه أدنى ظلم يقع بين إنسان وإنسان لشق ذلك فعلًا على جميع العباد؛ ولذلك الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- يفقهون الآيات، لما نزلت ذهبوا إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقالوا له ( وأينا لم يظلم نفسه يا رسول الله ) فالنبي -عليه الصلاة والسلام- بيَّن لهم أنه ليس هذا المراد بالظلم الذي يعنيه، ألا وهي ما يقع بينهم من ظلم بعضهم لبعض، أو اعتداء بعضهم على بعض، وإنما المراد بالظلم هنا هو الشرك بالله -تبارك وتعالى- ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ?؛ يعني بشرك وبالتالي يصبح ختام الآية معناه "ومن يظلم منكم" ومن يشرك منكم نذقه عذابًا كبيرًا ? مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ?؛ ثم يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى- ? وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ ?.
(3/12)
---(7/67)
في الدرس السابق أن المشركين تعنتوا مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ? وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ ?؛ وهذه الآية في الحقيقة رد عليهم، فالله -عز وجل- يقول ? وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ ?؛ يعني أن بشرية الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وكونه يمشي في الأسواق وكونه يأكل الطعام لا تنافي رسالته التي بعثه الله -تبارك وتعالى- بها، ولا تقدح هذه الصفات في نبوته ورسالته -صلوات الله وسلامه عليه- وهو في هذا ليس بدعًا من الرسل، فمن كان قبله من المرسلين كانوا يأكلون ويشربون ويسيرون في الأسواق وكانوا رجالًا كما قال رب العالمين: ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم ? [يوسف: 109].
فكون هذه الأمور التي تعنت المشركون في وصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بها وزعمهم انه إذا كان عليها لا يكون نبيًا ولا رسولًا، الله -عز وجل- هنا يدافع عن نفسه -صلى الله عليه وآله وسلم- ويرد على المشركين في هذا الزعم، ويقول بأن من سبق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من سائر الأنبياء والمرسلين كانوا كذلك يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، تعجبني كلمة ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى - في تفسيره أحب أن أسمعكم إياها، وهو يبين أن مثل هذه الصفات لم تقدح في النبي المرسل -صلوات الله وسلامه عليه- يقول الحافظ ابن كثير: "إن الله -سبحانه وتعالى- جعل الأنبياء جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة الظاهرة ما يستدل به كل ذي لب سليم وبصيرة مستقيمة على صدق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-".
(3/13)
---(7/68)
يعني هذه الصفات لا تقدح فيه، ولكنه على صفات أخرى سليمة جميلة، وأيد بخوارق باهرة، تدفع كل من يشاهده -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أن يدخل في رسالته، وأن يصدق ويؤمن بنبوته -صلوات الله وسلامه عليه-.
وبعد ما ذكر الله رب العالمين -سبحانه وتعالى- ذلك ورد على المشركين في زعمهم الذي زعموه من قبل، قال سبحانه ? وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ?؛ يخبر رب العالمين -سبحانه وتعالى- أن الناس يبتلي ربنا -سبحانه وتعالى- بعضهم ببعض ? وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ?، جاء عن محمد بن إسحاق أنه قال: إن الله -عز وجل- يقول: لو شئنا لجعلنا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما طلبوا، وللأنبياء ما طلب وهؤلاء الذين كذبوا به،ن ولكننا لم نرد ذلك من باب الابتلاء والاختبار.
ولذلك قال بعض أهل العلم بأن بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على هذه الحالة فيها فتنة لأشراف قريش، فيها فتنة لأصحاب الوجاهة، وأصحاب الثراء وأصحاب المكانة؛ لأنهم كانوا يودون إذن إذا كانت هناك نبوءة ورسالة وتكريم لأحد من البشر أن ينالوه هم وكذلك قالوا كما ذكر القرآن عنهم: ? وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ? [الزخرف: 31].
(3/14)
---(7/69)
رد الله عليهم ? أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ? هذا اصطفاء واجتباء ورحمة من الله -تبارك وتعالى- على نبيه وحبيبه ومصطفاة -صلوات الله وسلامه عليه- فالله -عز وجل- جعل بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو على الهيئة التي هو عليها فتنة لأشراف قريش، والذين كانوا يحتلون مكانة عالية عليهم، وكذلك كذبوا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأيضًا من كذب من الأغنياء جعل إيمانًا الفقراء فتنة لهم؛ ولذلك كان المشركين ينظرون إلى أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهم فقراء ضعفاء فيسخرون منهم وتأبى نفوسهم أن يجلسوا إلى جواره؛ ولذلك يوم القيامة رب العالمين -سبحانه وتعالى- يقول لهم: ? أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ? [الأعراف: 49]؛ أنتم قلتم في الدنيا بأن هؤلاء الناس ضعفاء بأن هؤلاء الفقراء، كيف يكونون أسبق إليها إلى هذا الخير؟ ? لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ? [الأحقاف: 11].
(3/15)
---(7/70)
هكذا قالوا، فجعل الله -عز وجل- بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- على ما هو عليه فتنة لأشراف قريش، وجعل ضعف وفقراء أهل الإيمان فتنة للذين كذبوا من الأغنياء والأقوياء وغيرهم؛ ولذلك الله -عز وجل- يمتحن الغني بالفقير، ويمتحن الفقير بالغني، كما يمتحن المعافى بالمبتلى والمبتلى بالمعافى؛ ولعل في قوله بعد ذلك أتصبرون؟ والمراد أتصبرون على ما أنتم عليه، أتصبرون على الحق، أن يصبر كل إنسان على ابتلاء وقع به، فالغني يبتلى يصبر على ابتلاء الله له -تبارك وتعالى- بالغنى، فينفق ماله في سبيل الله -عز وجل- والفقير يصبر على الفقر الذي ابتلاه الله -تبارك وتعالى- به فلا يحسد الغني، وكذلك الذي عافاه الله -تبارك وتعالى- يثبت على الحق ويصبر فيقوم بواجب أوجبه رب العالمين -سبحانه وتعالى- عليه؛ لأن عنده من القدرة والمؤهلات والاستطاعة ما يوجب عليه ذلك، والمبتلى عليه أن يصبر على ما ابتلاه رب العالمين -سبحانه وتعالى- به، والله مطلع على هؤلاء وهؤلاء؛ ولذلك ختم الآية بقوله: ? وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ?؛ وفي هذا إثبات لصفة البصر لرب العالمين -سبحانه وتعالى-.
المحور الثاني: كفر الكافرين برب العالمين أدى بهم إلى سوء المصير. والآيات التي معنا هي التي تبين ذلك وتوضحه، وهي كما جاءت في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ?.
(3/16)
---(7/71)
الله تعالى يخبر عن تعنت المشركين الذين اشترطوا لإيمانهم شيئًا مما اشترطه اليهود، الذين لا يرجون لقاء الله -تبارك وتعالى- قالوا: ? لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ ?؛ قيل لولا أنزل علينا الملائكة يعني توحي إليهم كما أوحت إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو يرون الملائكة عيانًا، والله -عز وجل- قد ذكر ذلك عنهم: ? وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ? [الأنعام: 124].
وفي آية أخرى في سورة الإسراء: ? أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً ? [الإسراء: 92].
فهم طلبوا ذلك إما رؤية الملائكة عيانًا أو أن الله -عز وجل- يوحي إليهم بنبوة ورسالة بمثل ما أوحى إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو يرون رب العالمين -عز وجل-.
? وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ?؛ وهم في الحقيقة شابهوا اليهود في هذا الطلب -تشابهت قلوبهم- تشابهت قلوب المشركين الكافرين مع قلوب اليهود فتشابهت أقوالهم؛ لأن اليهود قالوا لموسى: ? لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ? [البقرة: 55]؛ هكذا طلب اليهود، وهذا قمة التعنت مع الأنبياء والمرسلين، طلبوا من نبيهم -عليه السلام- وذكروا له رفضهم للإيمان إلا إذا شاهدوا رب العالمين، وتشابهت قلوب الكافرين والمشركين في زمن بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فطلبوا طلب من؟ طلب المشركين: ? لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ?.
(3/17)
---(7/72)
ما معنى لا يرجون لقائنا؟ الراجح -والله أعلم- أنهم لا يخافون لقاءنا؛ لعدم إيمانهم بالبعث، وكلمة الرجاء تطلق على الطمع، وهي كذلك تطلق على الخوف، وهي لغة لأهل تِهامة من العرب، لغة لهم أن كلمة الرجاء تطلق على الخوف؛ ولذلك قيل في قول الله تعالى: ? مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا ? [نوح: 13]؛ يعني لا تخافون لله عظمة، كيف هؤلاء لم يخافوا من الله -عز وجل- ولم نفى ربنا -سبحانه وتعالى- عنهم الخوف في هذه الآية؟ قال نفى عنهم الخوف؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث، وبالتالي لا يعرفون عاقبة ما سيئول أمرهم إليه، طالما أنهم منكرون فلا يصدقون ولا يؤمنون بالعذاب الذي سيقع عليهم في اليوم في يوم الدين، يوم الجزاء؛ ولذلك قال رب العالمين معقبا على هذا الطلب الذي طلبوه ألا وهو إنزال الملائكة أو رؤية رب العالمين جهرة قال: ? لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ?؛ يعني بلغ الكبر بهم مبلغًا عظيمًا، وكما قال الله عنهم في آية أخرى: ? إِن فِي صُدُورِهِمْ ِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ? [غافر: 56].
وصل بهم الكبر مبلغًا هم لن يستطيعوا أن يصلوا إليه، ولكن هكذا شأن الكافرين والمشركين ? لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ?، والعتو هو مجاوزة الحد والذهاب إلى الطغيان بأكبر معانيه؛ ولذلك ربنا -سبحانه وتعالى- في هذه الآية وصف عتوهم بأنه كبير؛ ولذلك أنزل الله عليهم مقته وغضبه؛ وأخبر عن أهل الكتاب الذين طلبوا رؤية ربهم جهرة، أخبر -سبحانه وتعالى- عن غضبه ومقته لهؤلاء: ? يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً? [النساء: 153]؛ ماذا كان؟ ماذا قال رب العالمين سبحانه؟ قال: ?فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ?[النساء: 153].
(3/18)
---(7/73)
لأن رب العالمين -سبحانه وتعالى- غاضب عليهم وهم استكبروا كما ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- عنهم في كتابه ?عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا?؛ هنا مسألة أيضا أرى أنني يجب على أن أتعرض لها في دقائق معدودة وهي:
ذهبت المعتزلة واستدلوا من خلال هذه الآية على نفي رؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة، وقالوا لما طلب هؤلاء المشركين رؤية الله -عز وجل- خاطبهم ربنا -سبحانه وتعالى- بهذا الخطاب، ولما طلبها قوم موسى -عليه السلام- أخذهم ربنا -سبحانه وتعالى- في لحظة، أهلكهم رب العالمين وقالوا هذا يدل على أن رؤية الله -تبارك وتعالى- مستحيلة والجواب: أن هذه الرؤية وقعت في الدنيا، ولا تكون رؤية الله -تبارك وتعالى- في الدنيا لأحد بحال، رب العالمين ادخر رؤيته لتكون قمة العز لمن آمن به بالغيب في الدار الآخرة، أما في الدنيا فلم يرى أحد ربه، وهذا هو المعتقد الصحيح عند أهل السنة والجماعة ولا دليل في هذه الآية على ما ذهب إليه منكرو الرؤية؛ لأن طلب هذه الرؤية كان في الدنيا، طلب الرؤية كان في الدنيا ورؤية الله -تبارك وتعالى- في الدنيا مستحيلة، أما هي في يوم القيامة هي واقعة في نص التنزيل قال رب العالمين سبحانه: ? وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ?22? إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ? [القيامة: 21: 22].
وأعتقد أن هذه مسألة يجب أن تقرر عند أهل السنة والجماعة، ونحن نؤمن بذلك على ما يليق بجلال ربنا -سبحانه وتعالى- وعظمته ولا ننفي شيئًا وصف ربنا -سبحانه وتعالى- به نفسه، وذكره لنا في كتابه أو أخبرنا به نبيا -صلى الله عليه وآله وسلم- في صحيح سنته.
(3/19)
---(7/74)
ثم يقول رب العالمين سبحانه: ? يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ?؛ في الآية الأولى طلب الكافرون رؤية الملائكة، طلبوها عيانًا أن تنزل عليهم الملائكة، فرب العالمين -سبحانه وتعالى- يخبر في هذه الآية أنهم سيرون الملائكة، وستقع لهم رؤية للملائكة، لكن عندما يرون الملائكة سيرونهم في يوم لا خير لهم فيه، ولا بشرى لهم فيه، وكل إنسان سيرى الملائكة في موطنين:
الموطن الأول: عند مفارقة هذه الدنيا.
الموطن الثاني: في يوم القيامة.
وسيأتي توضيح مجيء الملائكة في اللقاء في الدرس القادم إن شاء الله -تبارك وتعالى- وذكر الأدلة على ذلك ولكن أبقى هنا مع قول الحق -تبارك وتعالى- ? يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ?؛ يعني أن المشركين سيرون الملائكة ولكنهم ستقع هذه الرؤية عند مفارقتهم لهذه الحياة الدنيا، وعند رؤية الكفار والمشركين للملائكة عند مفارقة الدنيا لا بشرى لهم في هذه الرؤية، ولا خير لهم فيها، يعني لن ينالهم شيء يتطلعون إليه ولا خيرًا يودون حصوله أو حدوثه، ولكن حينما يرون الملائكة في هذه الوقت سيرون عذابًا أليمًا، سيرون عذابًا شديدًا، والله -عز وجل- قد أخبر عن ذلك في كتابه: ? وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ? [الأنفال: 50].
(3/20)
---(7/75)
ذكر الرؤية هنا عند الوفاة، عندما تأتي الملائكة لتتوفى هؤلاء المجرمين المكذبين الكافرين بالله وبرسوله صلوات الله وسلامه عليه: ? وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ? [الأنعام: 93]؛ إذن يبشروهم بالعذاب، بالخزي، بالسوء، وبما سيقع ويئول إليه حالهم في يوم القيامة، وفي حديث البراء أن الملائكة تقول للكافر، ولروحه عند إخراجها منه، وهو يموت (أُخرجي أيتها الروح الخبيثة من الجسد الخبيث) والحديث في مسند أحمد وغيره ويقولون: للمؤمن (أخرجي أيتها الروح الطيبة من الجسد الطيب) فأهل الإيمان خير لهم بإيمانهم، وأما أهل الكفر والكافرين الذين طلبوا رؤية الملائكة سيشاهدون الملائكة وعندما يشاهدونهم لا بشرى لهم فيما يشاهدونه ولا في الوقت الذي يشاهدونهم فيه، وكذلك أيضًا تتنزل عليهم وهم يموتون -كما ذكرت- بالعذاب الأليم، وحالهم عندئذ يختلف عن حال المؤمنين، فالملائكة تتنزل على أهل الإيمان، عند الوفاة بالتأييد والتثبت، والبشرى بالنعيم المقيم في الدار الآخرة: ? إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ? [فصلت: 30]؛ هكذا تقول الملائكة لمن لأهل الإيمان، وقد بينت الآية أنه لا بشرى يومئذ للمجرمين هنا أيضًا فائدة: ربنا -سبحانه وتعالى- ذكر كلمة المجرمين مكان كلمة المشركين أو الكافرين، إذاً إذا أطلقت كلمة المجرمين تنصرف إلى من؟ إلى المكذبين وإلى الكافرين طيب إذا جمع بين الكفر والإجرام ماذا يكون المراد كقول الله تعالى: ?أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ? [عبس: 42]؟
(3/21)
---(7/76)
هنا قال يوم ? يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ? والحديث مع الكافرين، إذًا المجرمين المراد بهم هنا من الكافرين المكذبين، طيب إذا ذكر الكفر إلى جانب الإجرام، هنا فائدة جميلة جدًا قرأتها لبعض أهل العلم في قوله تعالى ? أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ?؛ قالوا يعني كفرة في الاعتقاد، فجرة في الأعمال والسلوك، يعني كفرهم هنا كفر اعتقادي وأعمالهم فيها من الفجور والفظاعة والسوء الشيء الكثير، وكأن في هذا إشارة إلى أنهم أيضًا أجرموا غاية الإجرام لما طلبوا رؤية الملائكة جهرة أو رؤية ربهم -سبحانه وتعالى- عيانًا، فهذا منهم أيضًا لون من ألوان الإجرام العملي الذي مارسه هؤلاء المشركون، ولعل هذه كلمة المجرمين هنا تفيد هذا المعنى.
ثم يقول -سبحانه وتعالى- ? وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ?؛ ذهب ابن جرير وابن كثير وغيرهما من المفسرين أن هذا من قول الملائكة، يعني أن الملائكة تقول لهؤلاء المكذبين حجرًا محجورًا يعني حرام مُحرم عليكم البشرى في هذا اليوم، حرام وتحرم عليكم البشرى ويحرم عليكم إجراء الخير أو أي شيء من هذا النعيم في هذا اليوم، وقيل بأن هذا من قول الكافرين وأن الكافرين يقولون للملائكة حرام محرم عليكم أن تصيبونا بسوء، ولكن القول الأول ذهب إليه كثير من المفسرين والله -تبارك وتعالى- أعلم.
(3/22)
---(7/77)
ثم يقول سبحانه: ? وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ?؛ هذه الآية في الحقيقة فيها بؤس شديد على ا لكافرين، وهناك أمر قد يلتمس على بعض الناس، بعض الناس قد يجد بعضًا من هؤلاء الكافرين يفعلون أفعالًا فيها من الخير ومن البر ومن المعروف فيظنون بهم ظنًا حسنًا ويظنون ويعتقدون أنهم ربما يكونوا أولى حالًا من المؤمنين المقصرين نقول: لا.. ثم لا... ثم لا... هؤلاء بأعمالهم هذه إذا وقفوا بين يدي رب العالمين -سبحانه وتعالى- ستصبح هباًء منثورًا، لا مكان لها ولا خير فيها، تعرفون لماذا؟ لفوات أصل الحسنى وهو الإيمان بالله -تبارك وتعالى- فالاعتقاد أولًا حتى يبنى عليه العمل، أما إذا عمل الإنسان دون اعتقاد صحيح فلا يقبل الله -تبارك وتعالى-منه هذا العمل.
(3/23)
---(7/78)
والله -عز وجل- يخبر في يوم القيامة أنهم حينما يأتون إليه، ويقفون بين يدي رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولهم أعمال يظنون أنهم سيعطون أجرًا عليها ستصبح هذه الأعمال هباء منثورًا، تعرفون ما الهباء المنثور؟ الهباء المنثور هو شعاع الشمس إذا دخل في فتحة من الفتحات، شعاع الشمس إذا دخل الكوة كما هو منقول عندك في التفسير، يعني فتحة من الفتحات، انظر إلى شعاع الشمس حينما يدخل من فرجة إلى داخل غرفة أو إلى داخل مكان أنت تجلس فيه، إذا نظرت إليه، ستجد أن هناك أشياء تراها تتحرك، ولكن إذا جئت لكي تمسكها لا تستطيع أن تمسكها، فهم لهم أعمال أصحبت كشعاع الشمس هذا كالهباء المنثور في شعاع الشمس، لا أثر لها ولا قيمة لها، بل هو أمر تافه، هو أمر حقير، ولا جزاء له عند الله -تبارك وتعالى-، والقرآن الكريم قد صرح بهذا في أكثر من موطن كقول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ? [النور: 39]؛ ويضرب الله -عز وجل- مثلا لأعمال الكافرين هذه فيقول: ? مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ? [الرعد: 18].
فلا يظن ظان إذا رأى أحدًا من هؤلاء الكافرين يظهر شيئًا من الإحسان للآخرين أنه سينال بذلك خيرًا عند رب العالمين ولكن هذه الأعمال لا أصل لها في يوم الدين لفوات أصل الإيمان برب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(3/24)
---(7/79)
ثم يقول ربنا -عز وجل- ونختم بهذه الآية هذا اللقاء ? أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ?؛ رب العالمين سبحانه يخبر عن أهل الجنة ويخبر عن مصيرهم الحسن، إلى الدرجات العلى، إلى الأمكنة الفاضلة، إلى النعيم المقيم: ? أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ?؛ وكل هذا بسبب الأعمال الفاضلة، بسبب الخير الذي قدمه أصحاب الجنة بين أيديهم، فهؤلاء الكافرين إن عملوا أعمالًا ظنوا أنها تنفعهم في يوم الدين لن تنفعهم، أما أهل الإيمان أعمالهم باقية لهم يوم الدين، يرتفعون بها عند رب العالمين درجات ودرجات؛ وقد استدل أهل العلم بقوله خير مستقرًا وأحسن مقيلًا على أن حساب أهل الجنة ينتهي في نصف النهار؛ لأن القيلولة هي الاستراحة في نصف النهار، والقرآن الكريم أشار إلى يسر حساب أهل الجنة وعسر حساب أهل النار: ? فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ?7? فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ? [الانشقاق: 7: 8].
أما الكافرين قال فيهم: ? مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ? [القمر: 8].
وعلى كل لا يتعارض قول اليوم أو فهمنا من هذه الآية أن الحساب ينتهي في نصف النهار لا يتعارض هذا مع قول الله -تبارك وتعالى- ? تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ? [المعارج: 4].
لماذا؟ لأننا قلنا هذا يوم يقصر على المؤمن إلى نصف نهار، ويطول على الكافر.
(3/25)
---(7/80)
ثم أخيرًا أقول في قوله تعالى إشارة إلى طيب مكان أهل الجنة، وإلى طيب زمان أهل الجنة؛ لأنه قال أصحاب الجنة يومئذ ? خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا ? والمستقر مكان الاستقرار ?وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ?والمقيل زمان القيلولة، فهم في أحسن الأمكنة وفي أطيب الأزمان، نسأل الله -عز وجل- أن يجعلني وإياكم وجميع الحاضرين والمشاهدين والمستمعين منهم، وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ وجعله الله في ميزان حسناتكم.
فضيلة الشيخ وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية وكان السؤال الأول: ما المقصود بالأمثال؟.
تفضل يا أخ محمد أجب.
الأمثال هي ما جاء به المشركون من افتراءات على النبي -صلى الله عليه وسلم- كقولهم ساحر أو كاهن وذلك لتعجيز النبي -صلى الله عليه وسلم- وصد الناس عن رسالته.
إجابة صحيحة.
وكان السؤال الثاني: ما معنى تغيظًا وزفيرًا وهل النار ترى وتتكلم أيد إجابتك بالأدلة؟.
تفضل يا شيخ عبد الرحمن
شيخنا الفاضل حفظك الله ورعاك سمعوا لها تغيظًا وزفيرًا أي سمعوا غليانها وأصواتًا شديدة تنبعث منها، والتغيظ: هو شدة الغليان والزفير: هي أصوات شديدة تنبعث من النار، والنار ترى وتتكلم وتبصر يوم القيامة، بل لها عينان والدليل من القرآن: ? إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ?؛ وقوله تعالى: ? يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ? [ق: 30].
ومن السنة في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضًا فأذن لي أن أتنفس)؛ ومن السنة أيضا كما في مسلم: (أن الله يقول للنار يوم القيامة هل امتلأت فتقول هل من مزيد فيضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قد امتلأت بعزتك وكرمك)؛ أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
(3/26)
---(7/81)
ما شاء الله أحسنت جزاك الله خير يعني توسعت في الجواب وطالما كذلك أود أن أسألك سؤالًا أنت قلت تغيظًا يعني شدة الغليان فلمَ ذكر التغيظ مكان الغليان؟
شدة الغليان.
نعم فلما ذكر التغيظ التغيظ يفيد شدة الغليان؟ فلما قال تغيظا ولم يقل غليانا؟
لأن شدة الغليان يا شيخ الغليان كان الغليان يسير لكن التغيظ.
لما كان الغليان سببًا عن التغيظ ذكره مكانه.
قل لا أدري
جزاك الله خير إجابة طيبة.
يقول: في أول الأمر قال الله تعالى: ?انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا? إلى أن قال ?وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ? فما الحكمة من تأخير هذا الرد على المشركين؟.
تأخير قوله تعالى هكذا؛ في الحقيقة القرآن الكريم الذي نزل من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- كان النبي -عليه الصلاة والسلام- عندما تنزل عليه الآية يقول ضعوا هذه الآية في مكان كذا؛ ولذلك قال أهل العلم هذه مسألة توقيفية؛ يبقى الأمر كما سألت أنت الآن، لماذا تأخر الجواب يمكن أن نقول: بأن الله -عز وجل- استقصى في كلام المشركين أو ذكر كلما قالوه عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم بعد ذلك بدأ يرد عليهم، ويبين ضلال ما هم عليه، وما هم فيه، وقد يكون في مثل هذه الآية والله -تبارك وتعالى- أعلم أن يذكر الوعيد الذي توعدهم به بعد ما قال هذا القول، فكأنه أراد أن يجمع الرد عليهم مع ذكر وعيد لهم، والله أعلم.
يقول: هل يعتبر التوسل بأصحاب الأضرحة من العبادة من دون الله؟
(3/27)
---(7/82)
لا شك أن التوسل بغير الله -تبارك وتعالى- ومما يقرب إليه مما هو غير مشروع لو يقرب إليه بما هو غير مشروع لا يجوز فهناك التوسل مشروع وهو محصور في الآتي طالما إنك سألت هذا السؤال من باب الفائدة إما أن نتوسل بأسماء الله الحسنى وصفات الله العلى فندعو الله -عز وجل- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، التوسل معناه التقرب تحتاج شيئا من الله فتثني عليه بما هو -تبارك وتعالى- أهله، أو أن تتوسل إلى الله بالأعمال الصالحة كمحبتك للنبي -عليه الصلاة والسلام- وأتباعك له وبما تقوم به من عبادات ونوافل لرب العالمين وحديث الثلاثة الذين آووا إلى الغار من أفضل ما يستدل به على ذلك، أيضا من التوسل الجائز المشروع دعاء المؤمن للمؤمن فهي أيضا وسيلة، ومنها أننا نصلي صلاة الجنازة شفاعة من الأحياء لهؤلاء الأموات والدعاء إن شاء الله ينفع، وقد جاء النص عليه في القرآن ? وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ? [الحشر: 10].
وأيضًا هناك نوع من أنواع التوسل ذكره بعض أهل العلم وهو أن يتوسل الإنسان بالهيئة أو الحالة التي هو عليها، يعني إنسان في ضائقة معينة فيذكر الهيئة أو الحالة التي هو عليها ويستدل عليها بالقرآن الكريم بقول موسى -عليه السلام- ? رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ? [القصص: 24].
(3/28)
---(7/83)
فهو استدل أو توسل إلى الله بالحالة التي هو عليها نأتي بعد ذلك إلى سؤالك هل دعاء أصحاب الأضرحة والتوسل بهم إلى الله -عز وجل- هو من هذه الأمور؟ هل أباحه النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ والأخطر من هذا وما هو واقع بالفعل أن هؤلاء لا يتوسل بهم مجرد توسلات بدعية، يعني أنا بس والله أريد أن تكون أنت واسطة بيني وبين ربي، لا... الآن أصبح المقبورون يدعون من دون رب العالمين -سبحانه وتعالى- ونحن نرى ونشاهد من يقدم لهم الشكاوى المكتوبة ويضعها في أضرحتهم وفي قبورهم، كأنه سيقوم ويقرأها بعد ذلك، وهذا لا شك إما أنه إن كان في التوسل مبتدع وسيلة إلى الشرك، وإن كان دعاءً صريحًا وطلبًا للمدد والغوث والاستغاثة من هؤلاء فهو شرك أكبر والعياذ بالله -تبارك وتعالى- ولكن واجبنا أننا لا نحكم على هؤلاء بالشرك، وإنما نقول بأنهم قد فعلوا فعل المشركين، ولكنهم ليسوا كذلك حتى تقام عليهم الحجة، ويصلو إليه الدليل والله أعلم.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟.
السؤال الأول: اذكر اختلاف العلماء في المراد بالمعبودين في قوله تعالى ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ? مع ذكر القول الراجح؟
السؤال الثاني: ما المراد بالهباء المنثور في قوله تعالى ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا? وماذا تفهم من هذه الآية؟
(3/29)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس الرابع : بعض أهوال يوم القيامة وموقف المشركين
الدرس الرابع
بعض أهوال يوم القيامة وموقف المشركين(7/84)
أهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم وبالحاضرين والمشاهدين الكرام والمشاهدات، ويسرنا في هذا اللقاء أن نواصل إن شاء الله -تبارك وتعالى- بعضًا من الآيات التي جاءت في سورة الفرقان، وسيدور الحديث إن شاء -تبارك وتعالى- في الآيات التي سنسمعها ونستمع إليها بعد قليل حول محورين اثنين.
المحور الأول: بعض أهوال يوم القيامة.
المحور الثاني: موقف المشركين من القرآن العظيم والرد عليهم.
والآن نستمع إلى الآيات المتعلقة بهذه المحاور من الشيخ عبد الرحمن فليتفضل.
(4/1)
---
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ بسم الله الرحمن الرحيم: ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً ?25? الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ?26? وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ?27? يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً ?28? لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً ?29? وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ?30? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ?31? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ?32? وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ?33? الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا? [الفرقان: 25: 34].(7/85)
أحسنت وجزاك الله خيرًا؛ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صلي وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد.
فبعد أن استمعنا إلى الآيات الكريمات من سورة الفرقان أتناول الحديث عن المحور الأول وهو كما ذكرت بعنوان: بعض أهوال يوم القيامة.
(4/2)
---
والآيات التي تندرج تحت هذا المحور تبتدئ بقول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً ?؛ رب العالمين-سبحانه وتعالى- يذكر خبرًا سيكون في يوم القيامة، وهو في الحقيقة من أهوالها، ومن شدة كروبها التي سيتأثر بها الكافرون والمشركون الذين كذبوا بيوم الدين وبالنبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- وتشقق السماء بالغمام يعني عن الغمام فالباء وعن: يتعاقبان ? وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ?؛ أي يعني عن الغمام، وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على تشقق السماء، وهي مسألة عظيمة، فيها من هول الموقف وفجاعة المنظر الشيء الكثير، وجاء ذكر ذلك أيضًا في القرآن الكريم من هذا مثلًا قول الحق -تبارك وتعالى-: ? فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ?15? وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ?16? وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ? [الحاقة: 15: 17].
ومنه قوله تعالى: ?فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ? [الرحمن: 27].
وكقوله سبحانه: ? إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ? [الانشقاق: 1].(7/86)
ومثله أيضًا: ? إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ? [الانفطار: 1]؛ فالانفطار هو الانشقاق فيمكن أيضًا أن يدل على ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: ? وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ? [النبأ: 19].
وهذا دليل جميل أيضًا يفيد أن السماء ستتفطر أو ستتشقق في يوم القيامة، وهذا يدل على كرب عظيم، وهول شديد سينال المشركين -كما ذكرت-.
(4/3)
---
أما عن نزول الملائكة في الغمام فقد جاء ذكر ذلك أيضًا في القرآن الكريم وأخبر رب العالمين -سبحانه وتعالى- في آيات كثيرة أن الملائكة ستتنزل أيضًا في هذا اليوم ومنه قول الحق -تبارك وتعالى-: ? هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ? [البقرة: 210].
ومنه أيضًا قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ? [الفجر: 22]؛ وأود أن أبين آية هنا تبين مجيء رب العالمين سبحانه والملائكة كما أخبر ربنا -عز وجل- ومجيء أمر الله -تبارك وتعالى- وهذه الآية جاءت في سورة الأنعام، وهي تدل على أن مجيء الله حقيقة كما يليق بجلال الله وكماله، ولا يمكن لمؤول بحال أن يؤول هذه الآية، وسأبين لكم من أين يأتي الدليل على ذلك، وهناك أولًا قول الحق -تبارك وتعالى-: ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ? [الأنعام: 158].
(4/4)
---(7/87)
فهنا كما يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- إن الله -عز وجل- نوع وفصل وردد القول فيمن سيأتي، فذكر أولًا إتيان الملائكة، ثم إتيان رب العالمين -سبحانه وتعالى- أو إتيان أمر الله عز وجل، ومع هذا التفصيل والتنويع والترديد يستحيل أن يكون المراد بمجيء أو إتيان الله -عز وجل- إتيان ملائكته أو إتيان أمره لماذا؟ لأن كل واحد من هؤلاء منصوص عليه في الآية، ولو قلنا بأن معنى أو يأتي ربك أنه تأتي الملائكة أو يأمر الله يصبح أو يأتي ربك كلام لغو لا معنى له، وهذا يتنزه عنه كلام رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولكننا نؤمن بما سيتم في هذا الموقف وبما سيكون، وأن الملائكة ستأتي، وتتنزل من السماء، وأن رب العالمين -سبحانه وتعالى- سيجيء يوم القيامة مجيئًا يليق بجلاله وكماله؛ لفصل القضاء بين العباد، فالله -عز وجل- هو الذي يقضي بين عباده وطالما أنه يقضي بينهم -سبحانه وتعالى- جل في علاه أثبت القرآن الكريم مجيء رب العالمين -سبحانه وتعالى- لفصل القضاء بين العباد ودلت هذه الآيات على ذلك ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ ?.
(4/5)
---(7/88)
ونزل الملائكة تنزيلًا عندئذ يقول رب العالمين سبحانه: الملك ? الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ?؛ بهذه الآية يذكر رب العالمين -سبحانه وتعالى- أن الملك الحق لله -عز وجل- في يوم الدين، ولا يفهم إنسان مثلًا أن الملك اليوم ليس لله، لا...، ولكن لأنه قد يكون لأناس يمكن أن يطلق عليه ملك في الدنيا، إنما في يوم القيامة لا تطلق هذه الكلمة على أحد سوى رب العالمين -سبحانه وتعالى-؛ ولذلك في الصحيحين وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (يطوي الله -عز وجل- السموات بيمينه والأرضيين بيده الأخرى ثم يقول أنا الملك، أنا الجبار، أين الملوك؟ أين المتجبرون؟ أين المتكبرون؟ فلا يجيب أحد)؛ لأن الملك لله -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه ولا تطلق هذه الكلمة على غير الله -عز وجل- وإن أطلقت كما يذكر أهل العلم اليوم من باب المجاز أو على أنه ملك ناقص غير تام -كما أشرت لكم- على ذلك من قبل إلا أنه في يوم القيامة الملك على سبيل الحقيقة هو لله -عز وجل- دون سواء فلا تطلق هذه الكلمة على غير الله أبدًا؛ ولذلك في سورة غافر يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى-: ? لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ?؛ ثم يجيب على نفسه فيقول: ?للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ? [غافر: 16].
ولذلك نسب ملك يوم الدين إليه، فقال -كما نقرأ نحن في سورة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة نقول-: ? مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ? [الفاتحة: 4].
فأضاف الملك إلى يوم الدين؛ ولأن الذي يفصل في القضاء بين عباده والذي يؤول إليه الأمر وحده دون سواه هو رب العالمين -عز وجل- فهو الملك الذي يتصرف في أمر مملكته كيف يشاء: ? الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ?؛ ثم يقول سبحانه: ?وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ?؛
(4/6)
---(7/89)
المراد باليوم يوم القيامة، هذا اليوم يوم شديد، يوم صعب، يوم عسير على الكافرين، وقد أشرت إلى هذا -فيما مضى- والله -عز وجل- ذكر في القرآن الكريم، وأشار في القرآن الكريم إلى ما يفيد ذلك مرارًا فقوله سبحانه: ? فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ?8? فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ?9? عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ? [المدثر: 8: 10].
قوله على الكافرين غير يسير من باب التأكيد؛ لأنه ذكر أنه عسير ثم نفى بعد ذلك أن يكون فيه يسر على من؟ على الكافرين، ويفهم من ذلك أيضًا -كما أشرنا إلى هذا من قبل- إلى أن المؤمن ليس كالكافر في مثل ذلك، وإنما يخفف الله -عز وجل- أهوال هذا اليوم فلا يقع عليه ما يقع على الكافرين، ورب العالمين -سبحانه وتعالى- في كتابه قد أشار إلى هذا في كتابه: ? لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ? [الأنبياء: 103].
فدل ذلك على أن الأمر مختلف بين الكافرين أعداء رب العالمين، وبين المؤمنين الذين سلموا أمرهم لله -سبحانه وتعالى- رب العالمين ? الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ?.
ثم بعد ذلك تأتي آية تبين الحسرة والندامة التي ستلحق بهؤلاء الكافرين في يوم الدين، وفي هذا ألم شديد نفسي عليهم، كما سينالون ألمًا شديدًا حسيًا أيضًا بنار جهنم، وهو بذلك مما سيتم قبل أن يدخلوا نار جهنم، فالمحشر أيضًا سيصيبهم فيه من الأهوال والفرع والكرب ما يصيبهم به رب العالمين -سبحانه وتعالى- يقول رب العالمين سبحانه في الآية التالية:
(4/7)
---(7/90)
? وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا?؛ يعض الظالم على يديه هذه العبارة هي كناية عن غاية الندم والحسرة التي يقع فيها الكافر؛ لأن النادم يعض على يديه من شدة الندم، وكأنه -والله أعلم- يريد إن كانت عنده طاقة أن يذهب بها إلى أمر محسوس فلا يجد إلا نفسه، فهو متأثر في قلبه ونادم ويشعر بهذا الندم ومع ذلك أيضًا يؤثر على جسده وأعضائه حينما يعض بأسنانه على يده، إن فعل ذلك، وهذا يفعله النادم صاحب الحسرة، فالعض المذكور في هذه الآية يفيد غاية الندم الذي سيقع فيه هؤلاء الكفار والله -عز وجل- أخبر في كتابه أنهم سيندمون، وأنهم ستصيبهم حسرة، على ما فرطوا في جنب الله -عز وجل- في هذا يقول رب العالمين سبحانه: ? يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ? [الأنعام: 31] يحكي كلامهم.
ويقول رب العالمين أيضًا: ? كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ? [البقرة: 167].
وهنا تجدون أن الحسرة حسرة معنوية، حسرة قلبية، ثم تأتي بعد ذلك الحسرة الجسدية التي تنالهم أيضا في قوله: ? وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ?.
(4/8)
---(7/91)
فهؤلاء الكافرين سيفعلون ذلك ويندمون في وقت لا ينفعهم فيه الندم، والحسرة والألم والندم الذي يجدوه الكافر في هذا اليوم سيكون أيضًا فيه من النكال والعذاب الواقع عليه المؤثر فيه الشيء الكثير، وهو حينما يفعل ذلك ويناله من الندم الشيء الكثير هنا سيتمنى أمرًا لم يحققه لنفسه في هذه الحياة الدنيا، فيقول عندئذ: ? يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ?؛ هذا الكافر سيتمنى أن لو ليتخذ سبيلًا مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما المراد بالسبيل؟ قال أهل العلم هو الطريق الذي يوصل إلى رضوان الله والجنة، سبيل يوصل إلى رضوان الله والجنة عليه من؟ عليه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هو الداعي لهذا السبيل، هو الداعي إلى الصراط المستقيم، وبالتالي يصبح معنى الآية: أن الكافر يتمنى أن لو صار في ركب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والكافرون اليوم يحاجون الله ورسوله ويطعنون على النبي -صلى الله عليه آله وسلم- يؤذونه بالقول والفعل ولكنهم في يوم القيامة عندما يصيبهم الندم وعندما تأتيهم الحسرات من كل مكان عندئذ سيتمنون أن لو اتخذوا مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- طريقًا سديدًا ومنهجًا رشيدًا قويمًا يصلون به إلى الله -عز وجل- وقد ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- تمني الكافرين إتباع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في آيات كثيرة والواحد منهم: ? يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ? [الفجر: 24]؛ والله -عز وجل- أخبر عن هؤلاء الكافرين أيضًا أنهم يتمنوا أن لو كانوا مع أهل الإيمان: ? رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ? [الحجر: 2] كانوا يتمنون أن لو كانوا مع أهل الإيمان؛ لكن ستصيبهم حسرات ويقولون كما قال الله عنهم: ? أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنْبِ اللهِ ? [الزمر: 56].
(4/9)
---(7/92)
ونستفيد من ذلك أن الله -عز وجل- بعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وبين لهذه الأمة السبيل، وواجب على الناس إذن أن يسلكوا السبيل والطريق القويم الموصل إلى الله -عز وجل- لأن الله -سبحانه وتعالى- ببعثة الأنبياء والمرسلين الذين بينوا سبيل رب العالمين أصبح الإنسان مسئولًا كل المسئولية عن ما قدمت يداه، مسئول تمامًا عن ما قدمت يداه والله -عز وجل- يقول: ? إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ? [المزمل: 19].
(4/10)
---(7/93)
بعد أن بين الله لك الطريق، وأوضح لك الحجة، وبعث لك النبي الذي يدعوك إلى الله -عز وجل- صلوات الله وسلامه عليه، ما عليك إذن -يا أيها المؤمن المصدق ويا أيها الكافر المكذب- إلا أن تعود -يا مكذب يا منكر- إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وتتخذ طريقًا موصلًا إلى رضوان الله وجنة الله رب العالمين، وإن لم يفعل اليوم فسيندم غاية الندم ويتمنى أن لو كان فعل ذلك في يوم يقبل منه العمل، يقول الكافر عندما يعض علي يديه: ? يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ?؛ ثم يقول الله -تبارك وتعالى- عنه: ? يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً ?؛ الكافر في هذا اليوم ينادي على نفسه بالويل والثبور والهلاك ? يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً ?؛ وقد ذكرنا في الدرس السابق أنهم سيدعون على أنفسهم بالويل والثبور في آيات كثيرة وردت معنا فيما مضى وفي آيات من القرآن الكريم، وإلى جانب ذلك أيضا سيتمنى أنه لم يتخذ خليلًا يصده عن طريق الله -سبحانه وتعالى- يتمنى أنه لو كان لم يتخذ مع الله -سبحانه وتعالى- من يهلكه، واتخذ مع الله -تبارك وتعالى- ومن يدله على طريق غير طريق الله -عز وجل- يهلك به، ويدخل به نار الجحيم يقول: ? يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيل?؛ والله -عز وجل- قد بين في كتابه أن هؤلاء في يوم القيامة سيتمنون ذلك، وسيتبرأ أيضا بعضهم من بعض، يعني الخليل مع خليله: ?إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ?166? وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ? [البقرة: 166: 167].
(4/11)
---(7/94)
فعلى الكافر أن يحذر إذن أن يتخذ مع الله -عز وجل- من يضله عن طريق الله -سبحانه وتعالى- بل يسلك طريق الله وحده، ولا يلتفت إلى غير طريق ربه ومولاه، ولا يسلك طريقًا غير طريق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأن هذا هو الطريق الموصل إلى رضوان الله -عز وجل-، ثم تخبر الآيات أن هذا الكافر الذي سيتمنى بعد أن ينادي على نفسه بالويل والهلاك وذكرت الآيات تمنيه أنه ما كان ينبغي له وما كان يصح له ويستقيم أن يتخذ خليلًا يصده عن طريق الله، يخبر هذا الرجل الكافر أن الخليل الذي اتخذه صرفه عن الله -عز وجل- ? لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً ?؛ الكافر سيقول هذا يوم القيامة معترفا به أن شريكه أو خليله الذي اتخذه من دون الله -عز وجل- أضله عن الذكر، والمراد بالذكر هنا؟ القرآن الكريم ولا شك أن السنة تابعة للقرآن الكريم؛ لأن القرآن الكريم لا يفهم ولا يمكن تطبيقه إلا من خلال سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ وبعض أهل العلم يقول بأن الذكر يشمل القرآن الكريم والسنة معًا؛ فكلاهما ذكر وكلاهما وحي أوحي الله -تبارك وتعالى- بهما إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو أن القرآن لفظه ومعناه من عن الله -عز وجل- والسنة لفظها من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعناها من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(4/12)
---(7/95)
وقد ذهب كثير من المفسرين واشتهر هذا في كلامهم أن الذي أضل عن الذكر هو عقبة بن أبي معيط، وأن الذي أضله هو أمية بن خلف أو أبي بن خلف أخوه وعلى كل العبرة ليست بخصوص السبب وإنما بعموم اللفظ فكل من سلك طريقًا غير طريق رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- سيتمنى ذلك وسينادي على نفسه بالويل والثبور في يوم الدين، يتمنى أنه لم يتخذ خليلًا وسينادي على نفسه بالهلاك، ويخبر أنه قد ضل عن طريق الله -عز وجل- بسبب من اتخذهم أخلاء له وأصفياء له وأحباب له من دون الله -تبارك وتعالى-.
ثم تختم هذه الآية بخبر عظيم ينفعنا نحن يا أهل الإيمان، وهو ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً ?؛ الشيطان اللعين هو سبب البلايا التي يقع فيها الناس اليوم، والله -عز وجل- قد حذر عباده في كتابه من أن يسلكوا طريق الشيطان الرجي،م وأمرهم بأن يستعيذوا به، وبين لهم أنه هو الذي يدلهم إلى طرق الغواية، وأنه يصدهم عن طريق رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهذا جاء في آيات كثيرة، ربما نمر على شيء منها أو أن نكون قد ذكرنا بعضها، ولكن أود أن أشير إلى قوله: ? وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً ?؛ خذولًا بصيغة مبالغة تفيد شدة خذلان الشيطان لأوليائه وأحبابه وأنصاره، يعني الإنسان يتخذ الشيطان حبيبًا له، وليًا له، نصيرًا له، فيبالغ الشيطان في خذلان هذا الإنسان الذي اتخذه حبيبًا، والذي اتخذه وليًا، ويفهم من الآية أن الإنسان الذي اتخذ الشيطان وليًا كان يود ويتمنى أن ينصره الشيطان في هذا اليوم، وأن يقف إلى جواره، وأن يؤيده فيما هو عليه، ولكن الشيطان سيخذله، والله -عز وجل- في كتابه أفاد عن موقفين موقف في الدنيا وموقف في الآخرة، وفي كلا الموقفين خذلان من الشيطان لأوليائه.
(4/13)
---(7/96)
الموقف الذي كان في الدنيا: هو ما قام الشيطان به من تهيئة المشركين كي يخرجوا للمسلمين ويلاقونهم في غزوة بدر، الشيطان هيأ المشركين لذلك، وأوعز لهم بهذا الأمر، وزينه لهم، وفتنهم به، فخرج المشركون، وهناك لما وجد الشيطان ملائكة الرحمن تقف صفًا إلى صف بجوار أهل الإيمان تخلى عن أحبابه وأوليائه وأنصاره الذين كانوا يزعمون هم أنه وليًا لهم ونصيرًا لهم: ? وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ? [الأنفال: 48]؛ أنا معكم أنا واقف إلى جواركم انظر كيف جاء الخذلان:? فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ ?؛ يعني هو يشاهد ما لا يشاهده هؤلاء، وقد قيل في قوله تعالى ? إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ ?؛ أنه رأي ملائكة الله -عز وجل- تقاتل إلى صفوف أهل الإيمان، وعندئذ نكص الشيطان على عقبيه وتبرأ من أوليائه الذين اتخذوه وليًا، وأحبابه وأنصاره الذين كانوا يتمنون أن ينصروا على يدي هذا الشيطان فخذلهم هذا الشيطان.
هذا الموقف أين كان؟ كان في الدنيا.
(4/14)
---(7/97)
في موقف أيضًا سيكون فيه خذلان من الشيطان لأوليائه في الدار الآخرة: الشيطان كان يقول بعض أهل العلم سيقف خطيبًا بين أتباعه يوم القيامة -صاحب بيان ولسان سيقف خطيبًا بينهم ويكلمهم كلمات تزيدهم حسرة وندامة: ?وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُم? [الرعد: 22]؛ هنا أيضًا الشيطان يخذل من أطاعه، وصار في ركابه، ويتبرأ منه، ويقول له لا تلومني على ما فعلت، ولكن لوم نفسك أنت؛ لأنك أنت الذي اتبعتني فليت من يسير في ركاب الشيطان ويستمع لأهوائه وانحرافاته ولضلالته ولغواياته يعرف أن الشيطان سيخذله في الدنيا وفي الآخرة، وهذا الآية تفيدنا فائدة عظيمة جدًا وهي: ? لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً ?؛ هذه الفائدة أن يعتني الإنسان بقرنائه، يعني الإنسان يعرف مع من يسير، ومع من يقوم؛ لأن هذه الآية أفادت أن القرين يؤثر في قرينه، ثم بعد ذلك عندما يحتاج إليه قرينه، سيتخلى عنه ورب العالمين -سبحانه وتعالى- ذكر في كتابه: ? الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ? [الزخرف: 67].
(4/15)
---(7/98)
استثنى أهل الإيمان، أما غيرهم فسيكون بينهم عداوة يوم الدين، فعلى الإنسان أن يفتش عن قرينه، والقرآن الكريم قد ذكر موقفًا عجيبًا فيا ليت الناس يتأملون هذا الكتاب، وتنصرف هممهم إلى فهمه، أخبر ربنا -عز وجل- في كتابه عن رجل أخبر أن قرينه كان سيهلكه لو أطاعه، ولولا أن تداركته رحمة الله -تبارك وتعالى-: ? قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ?51? يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ?52? أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ?53? قَالَ هَلْ أَنْتُم مُّطَّلِعُونَ ?54? فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ?55? قَالَ تَاللهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ?56? وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ? [الصافات: 51: 56].
يعني كنت أكون معك في قعر- أو في نار- جهنم، فأخبر هذا المؤمن الذي تداركته رحمة رب العالمين أنه لو اتبع هذا الرجل القرين على ما هو عليه لكان معه في الجحيم.
المحور الثاني: في هذا اللقاء والذي هو بعنوان: موقف المشركين من القرآن العظيم والرد عليهم:
وفي هذا يقول رب العالمين سبحانه: ? وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ?؛ يخبر الله -تبارك وتعالى- عن موقف سيحدث من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو عبارة عن شكاية يشكو النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه، ويخبر أن قومه من المشركين المكذبين هجروا كتاب رب العالمين هجران المشركين للكتاب تمثل في أشياء متعددة:
منها: عدم إيمانهم به.
منها: عدم سماعهم له.
منها معارضاتهم وتعنتهم مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وطلبوا منه آيات غير القرآن.
(4/16)
---(7/99)
كل هذا يعني يفيد هجر هؤلاء المشركين للقرآن الكريم، وكان المشركون ينصرفون ويصرفون من يحاول الاستماع إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويوصي بعضهم بعضًا بذلك ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ? [فصلت: 26].
يعني أكثروا اللغط، والكلام عندما يقرأ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى لا يجد القرآن الكريم مجالًا إلى قلوب هؤلاء، وهذا هو هجر المشركين للقرآن الكريم، عدم إيمانهم به، عدم استماعهم إليه، تحريفهم لهذا الكتاب، وتعنتهم في طلب الآيات من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا يؤمنون بالقرآن، يريدون آيات أخرى سوى كتاب رب العالمين، كل هذا هجران من هؤلاء المشركين لكتاب الله -سبحانه وتعالى- ولكن ونحن ندرس الآيات من كتاب الله -عز وجل- يجب أن نلفت النظر لأمور تتعلق أيضًا بأهل الإيمان أو من بعض أهل الإيمان هجران لكلام الله -تبارك وتعالى- وهجران القرآن الكريم لدى أهل الإيمان يتمثل في مواقف أو في مواطن أخرى تختلف عن هذه المواقف لدى المشركين فمن لم يقرأ كتاب رب العالمين فقد هجر كلام الله -عز وجل- ومن لم يتدبر القرآن الكريم فقد هجر القرآن الكريم، ومن يعمل بأحكام القرآن الكريم فقد هجر القرآن الكريم.
وهناك مسألة مهمة أيضا أرى أن بعض الناس لا يلفت النظر إليها وهي أن الاستشفاء بالقرآن الكريم، فالاستشفاء القرآن الكريم منصوص عليه في القرآن، وفي سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ? وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ? [الإسراء: 82].
(4/17)
---(7/100)
والنبي -عليه الصلاة والسلام- أيد وصدق من رقى بفاتحة الكتاب، وقام من رقي كأنه نشط من عقال، كأنه كان مربوط ومقيد ومحبوس؛ فبعد هذه الرقية بكلمات آيات الله -عز وجل- من فاتحة الكتاب أصبح هذا الرجل قائمًا يتحرك كما يشاء هنا وهناك، وعلى هذا فإنني أدعو عموم المسلمين بأن يكونوا مع القرآن الكريم كالتالي:
أولا: بأن يقرءوا كتاب الله -عز وجل-.
ثانيا: أن يتدبروا الآيات؛ وأن يتعلموها وأن يعرفوا مراد الله -تبارك وتعالى- فيها.
الثالث: أن يعملوا بأحكام القرآن الكريم فيحلوا حلاله ويحرموا حرامه ويعتقدوا ما جاء فيه من عقائد ولا يخرجوا عن ذلك.
للأسف الشديد كون بعض أهل الإيمان يصرفوا وجهه هنا أو هناك ليتلقى أوامر وتعليمات وقضايا وشرائع وعقائد من غير كتاب الله -عز وجل- أو مما لم يأتي في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- هجر لكلام الله -عز وجل- فكتاب الله -سبحانه وتعالى- لم يأت لكي نحتفظ في صناديق ونقدمه على هيئة هدايا في المناسبات، أو أن نفتتح به أيضًا بعض الحفلات، وإنما كتاب الله -عز وجل- كتاب هداية جاءنا من عند رب العالمين وهو كلام الله -عز وجل- لكي نقرأه ونتدبره ونعمل بأحكامه ونتأدب بآدابه ونعتقد بما جاء من اعتقادات في كتاب الله -تبارك وتعالى- وهذا أمر لازم على كل مؤمن ومؤمنة.
(4/18)
---(7/101)
فإذا كان أهل الشرك والضلال والطغيان قد انحرفوا عن هذا القرآن وصدوا الناس عن سماعه وكذبوا ما جاء فيه فأهل الإيمان عليهم أن يخالفوا أهل الشرك والضلال ويقبلوا على كتاب الله -تبارك وتعالى- ومن هجران القرآن الكريم: الانصراف عنه إلى ألوان من اللهو الباطل والكلام الذي لا ينفع كالغناء وغير ذلك مما يزعم بعض الناس أنه يطرب به، فو الله لو قرأ القرآن الكريم لو جد حلاوة في صدره لا يجدها عن سماع غير هذا القرآن أبدًا؛ لأن القرآن كلام رب العالمين -سبحانه وتعالى- وأنا أنتهز هذه الفرصة وهذه المناسبة لأوجه هذه النصيحة لإخواني المؤمنين أقبلوا على كتاب رب العالمين -سبحانه وتعالى- قراءةً وتدبرًا وعملًا وتأدبًا بآدابه، والآخذ بالمعتقدات الواردة فيه.
ثم يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى- يسلي النبي -عليه الصلاة والسلام- لما وقع فيه هؤلاء المشركين: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ?؛ ولما شكا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هجران قومه للقرآن الكريم، وهذا ولا شك يؤثر على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما شكا إلى ربه هذا أنزل الله -عز وجل- عليه هذه الآية من باب التسلية لقلبه، كأنه يقول له: إن حصل من المشركين ذلك، وكذبوا بما جئت به، وصدوا الناس عنه، وهجروا الكتاب الذي أنزلته عليك؛ فاعلم يا نبي الله -صلوات الله وسلامه عليه- أنه جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين، كل نبي من الأنبياء السابقين المتقدمين عليك كان يواجه بمثل ما وجهت به ويجابه بمثل ما جوبهت به؛ ولذلك يقول الله -عز وجل- في سورة الأنعام: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ? [الأنعام: 112].
(4/19)
---(7/102)
فالله -عز وجل- أخبر شياطين الإنس وشياطين الجن كان كل واحد منهم يواجه النبي المرسل إليه، طالما أنه ينتسب إلى الشيطان ويسير في ركاب الشيطان والله -عز وجل- حينما ينزل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذه الآية إنما يسلي فؤاده وقلبه بها ويبين له أنه ليس بدعًا من الرسل؛ ولذلك نحن نجد في القرآن الكريم كثيرًا ما يذكر الله -عز وجل- في كتابه قصص المكذبين للأنبياء والمرسلين، وفي هذا أيضًا تسلية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وتأملوا مثلًا قول الله: ? وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ الْمُرْسَلِينَ ? [الأنعام: 34].
فقوله ولقد جاءك من نبأ المرسلين: إشارة إلى أن هذا النبأ وأن هذا الخبر الذي أنزل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تسلية له -عليه الصلاة والسلام-.
والله -عز وجل- أخبر بأنه هو الذي يهدي إلى الصراط المستقيم؛ ولذلك قال ? وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ?؛ يعني أن الله -عز وجل- إذا أراد هداية هؤلاء الناس هداهم كما أنه -سبحانه وتعالى- هو الذي يعلي كلمته وينصر من يشاء بقدرته.
وقوله هنا: ? وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا?؛ أيضًا فيها ثناء على رب العالمين سبحانه، ونسبة الأمور كلها إليه -عز وجل- وهذا فيه من الثناء على الله سبحانه ما يليق به وهو -عز وجل- أهل الحمد وأهل للثناء.
(4/20)
---(7/103)
ثم يقول سبحانه: ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ?؛ تواصل الآيات ذكر تعنت المشركين للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وتكذيبهم له -عليه الصلاة والسلام- ومن ذلك قوله ? لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ?؛ يعني طلبوا أن ينزل القرآن الكريم على النبي -عليه الصلاة والسلام- جملة كما نزلت التوراة والإنجيل والزبور على من نزلت عليهم جملة، ولقد سبق أن ذكرت ذلك في أول لقاء معنا ومعكم في سورة الفرقان، والله -عز وجل- أخبر في هذا الآية أنه لحكمة عظيمة نزل هكذا القرآن على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن هذه الحكم العظيمة البالغة في الغاية منتهاها: تثبيت قلب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كذلك لنثبت به فؤادك.
فإنزال القرآن الكريم منجمًا مفرقًا على فترات متفاوتة متباعدة في السنين؛ هذا ليسهل حفظه على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(4/21)
---(7/104)
النبي -عليه الصلاة والسلام- كما هو معلوم من حياته أنه كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب، فإنزال القرآن عليه جملة واحدة والطلب منه أن يحفظه جملة واحدة فيه من المشقة عليه ما فيه؛ ولذلك الله -عز وجل- قال له: ? لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ?16? إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ?17? فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ? [القيامة: 16: 19]؛ هذا يؤكد أن نزول القرآن الكريم هكذا من باب أن يسهل حفظه على النبي -عليه الصلاة والسلام- وقد ذكر العلماء أيضًا أن نزول القرآن هكذا لكي يواجه الحاجة التي يتطلبها المجتمع المسلم، والحاجة التي تستدعيها الأوضاع والأحوال والحياة مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيتنزل القرآن الكريم ليلبي الحاجات التي يحتاج إليها المجتمع المسلم والأفراد الذين ينتمون إلى هذا المجتمع المسلم؛ ولذلك يعد إنزال القرآن منجمًا مفرقًا فضيلة للقرآن الكريم، والإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك تعالى- أشار إلى ذلك قال أن القرآن الكريم أشرف كتاب على الإطلاق والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أعظم رسول على الإطلاق ونزل القرآن الكريم هكذا لعناية كبيرة من الله -عز وجل- بهذا القرآن الكريم، وتشريف للنبي -عليه الصلاة والسلام- أن ينزل القرآن الكريم عليه صباحًا ومساءً ليلًا ونهارًا هذه عبارة الإمام الحافظ ابن كثير.
(4/22)
---(7/105)
قال هذا فيه تكريم وتشريف للنبي -عليه الصلاة والسلام- أن ينزل القرآن عليه في أحوال مختلفة، وفي فترات متعددة، وهذا يعني فيه ربط للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بربه، وربط لقلبه عندما يتنزل أيضًا عليه القرآن الكريم فيسهل حفظه عليه؛ ولذلك ختم ربنا -سبحانه وتعالى- هذه الآية بقوله: ? وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ?؛ قال أهل العلم رتلناه يعني بيناه تبينًا ووضحناه بذلك، بكونه جاء هكذا منجمًا مفرقًا على حسب الوقائع والأحداث، وعلى سنوات عدتها -كما تعلمون- كم سنة؟ تنزل القرآن في كم سنة؟ ثلاثة وعشرين عامًا فهذا مثل على فترات؛ لكي يكون بيانه واضح، وأخذه سهل، وقيل في قوله تعالى: ? وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ? يعني: فسرناه تفسيرًا؛ ثم يدافع رب العالمين -سبحانه وتعالى- عن الكتاب الذي أنزله على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يدافع عنه ويدافع عن الذين يؤمنون بهذا القرآن:? وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ?؛ يعني هؤلاء الكفار كانوا يحاولون أن يأتون بشبهات حول القرآن الكريم ليست عندهم أدلة على بطلان القرآن الكريم فالقرآن كيف تحداهم رب العالمين به، ولكنهم ما استطاعوا أن يقفوا أمام هذا التحدي وعجزوا أن يأتوا بشيء حتى ولو كان يشبه القرآن، وليس ككتاب الله -عز وجل-، والله -عز وجل- هنا يبين عجزهم وضعفهم، وقصور أفهامهم، وعلو مرتبة كتابه، وكلامه، الذي نزل من عنده سبحانه، وقال: ? وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ?؛ يعني بحجة، أو بشبه ليست بأدلة إلا جئناك بالحق؛ لأن القرآن نزل من عند الله -عز وجل- بالحق، والقرآن كله حق، فنزل القرآن الكريم من الحق والقرآن الكريم كله يشتمل على الحق الذي جاء من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(4/23)
---(7/106)
? وأحسن تفسيرًا? يعني أحسن وضوحًا، فكلام الله -عز وجل- أبلغ الكلام وأوضح الكلام وأفصح البيان؛ لأنه كلام الله -تبارك وتعالى- رب العالمين، وهذه الآية أيضًا تدل على شرف هذا القرآن الكريم، وأن أفهام العباد وعقول العباد تقصر عن أن تأتي بشيء ككتاب الله -تبارك وتعالى-، ولا يمكن بحال أن حتى لو أجتمع الإنس والجن على أن يشككوا في شيء من كتاب الله -عز وجل- بكلمات يأتوا بها من عند أنفسهم ما استطاعوا؛ لأن كلام الله -عز وجل- هو أفضل أنواع الكلام على الإطلاق، كلام الله -عز وجل- ويكفي أن نعلم هو أن نوقن بهذه الآية: ?لاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا?.
(4/24)
---(7/107)
ثم يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى- ?الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً ?؛ هذه آية يجب أن يخاف ويسمعها كل إنسان له عقل، له فؤاد وقلب سليم، عندما يستمع إلى هذه الآية ويبين سوء الحالة والمصير وفظاعة الهيئة التي سيحشر عليها أهل الكفر والزندقة والضلال -أعاذنا الله وإياكم منهم- يعني نفسه تأخذه إلى العودة إلى الله -تبارك وتعالى- من قريب؛ لأن هذه الآية تبين سوء مصير هؤلاء المشركين الكافرين المكذبين، وكيف أنهم سيحشرون على أسوأ حالة، وعلى أقبح منظر عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- قال جل ذكره: ? الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً ?؛ رب العالمين سبحانه أخبر أن هؤلاء الكافرين، الله -عز وجل- أحسن خلقته في الدنيا، تجده قائم مستقيم، رأسه قائمة، ولكنه لما كذب بالله -عز وجل- أذله ربه -سبحانه وتعالى- في يوم الدين فبعد أن كانت له قامة قائمة مستقيمة سيحشر يوم القيامة على وجهه: ? يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ? [الأحزاب: 66]. قال أهل العلم: "تقلب وجوههم في النار" أنه أيضًا معناه أنه يحشر على وجهه، كما قال: ? ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار?؛ لأنهم جاءوا بالسيئات وخالفوا ما جاء من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(4/25)
---(7/108)
والآيات التي تبين ما سيكون عليه الكافرين من حالة وحشر لهيئة سيئة ستلحق بهم كثيرة في كتاب الله -تبارك وتعالى- وسيتمنى الكافر عندئذ أنه لو أطاع الله لو أطاع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ? يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ ? [الأحزاب: 66]؛ فهم كما ذكر رب العالمين -سبحانه وتعالى- سيحشرون على وجوههم إلى جهنم؛ ولذلك في الصحيحين وغيرهم من حديث أنس -رضي الله تعالى عنه-: (أن رجلًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وسأله هذا السؤال كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ بماذا أجابه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يحشره على وجهه يوم القيامة) فالذي جعله يمشي على قديمين اليوم وقائمًا مستقيمًا ورأسه إلى أعلى قادرًا أيضًا على أن يجعله على وجهه في يوم القيامة، والله -عز وجل- ذكر أن حشرهم على وجوههم يوم القيامة فيه من الشدة والفظاظة الشيء الكثير، تأملوا مثلًا قول الحق -تبارك وتعالى-: ? يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ? [القمر: 48].
ولكن أريد "يوم يسحبون" يعني أيضًا ليس حشرًا عاديًا، وإنما فيه من الشدة على هؤلاء الكافرين جزاًء وفاقًا؛ لتكذيبهم برب العالمين -سبحانه وتعالى- تكذيبهم أيضًا بالنبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- ? أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً ?؛ هل تفيد هذه الآية أن هناك ما يمكن أن يكون فيه شر غير جهنم؟ ولا جهنم تشتمل على جميع أنواع الشرور والعياذ بالله -تبارك وتعالى-؟ يعني بذلك أن صيغة التفضيل الواردة هنا ?شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلا?؟
(4/26)
---(7/109)
يقول أيضًا: بأن هذه الآية وصيغة التفضيل هنا أراد الله -عز وجل- بها -والله أعلم- مطلق اتصاف النار بالشر؛ ليذهل فيها ذهن الإنسان فيها مذهلًا بعيدًا، ويعني يضع عينيه أو نصب عينيه هذا الموقف؛ فيلجأ إلى ربه -سبحانه وتعالى- ومولاه.
هنا أيضا مسألة: ?يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ?؛ هل هذه الآية تتعارض مع قول الحق -تبارك وتعالى- مثلًا ? أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ? [مريم: 38]؛ يعني التي تثبت أن هؤلاء يسمعون ويبصرون، أقول هذا لماذا؟ لأن الله -عز وجل- أخبر في كتابه أيضًا في كتابه في سورة الإسراء أن هؤلاء سيحشرون والله -تبارك وتعالى- على هيئة، لا يبصرون ولا يسمعون فيها ولا يتكلمون فيها، وذلك كما قال -سبحانه وتعالى-: ? وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ? [الإسراء: 97].
فهل هذا يتعارض؟ كونهم عميًا وبكمًا وصمًا يتعارض مع قوله تعالى: ? أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ?؟
نقول: لا يتعارض. لماذا؟ لأن هذا يتم في أحوال مختلفة، فهم في أحوال يحشرون هكذا، كما ذكر ربنا -عز وجل- هذا الحشر، ثم بعد ذلك إذا وقفوا بين يدي الله -عز وجل- كان لهم سمع وكان لهم بصر، نسأل الله -عز وجل- أن يعيذنا من النار، ومن أهل النار وختامًا أصلي على النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-.
بارك الله فيكم فضيلة الشيخ كان سؤال الحلقة الماضية هناك سؤالان:
السؤال الأول: اذكر اختلاف العلماء في المراد بالمعبودين في قوله تعالى: ? وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ?؛ مع ذكر القول الراجح؟
(4/27)
---(7/110)
يقول: قال مجاهد عيسى وعزير والملائكة هم الذين يعبدوا من دون الله ? وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ? [المائدة: 116]؛ ? وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ? [سبأ: 40]؛ والراجح عند أهل العلم: كل ما عبد من دون الله -تبارك وتعالى- من البشر أو الحجر والملائكة والله أعلم.
هذا صحيح، لا يقتصر المعبودون على الملائكة أو عزير وعيسى، وإنما يشمل كل من عبد من دون الله -تبارك وتعالى- صحيح جزاك الله خير.
والسؤال الثاني: ما المراد بالهباء المنثور في قوله تعالى: ? وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ? [الفرقان: 23]؟ وماذا تفهم من هذه الآية؟.
يقول: المراد بالهباء المنثور في هذه الآية كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: هو شعاع الشمس إذا في الكوة أي في فتحة من الفتحات، ويفهم من هذا الآية أنهم لما فاتهم أي المشركين لما فاتتهم الحسنى وهي أصل الإيمان بالله -عز وجل- فنثرت أعمالهم كالهباء المنثور فلا فائدة من ورائها ولا نفع منها ولا جدوى.
جواب سديد.
يقول: في قول الله -عز وجل- ?يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيل?؛ هل هذا النداء لسان حال الكافر فقط أم يراد به المسلم العاصي أيضا؟.
لا شك أن المسلم العاصي وقد جاء ذكر ذلك أيضًا والإشارة إليه في القرآن الكريم أنه سيتمنى أن لو ازداد من الحسنات، وأيضًا في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يعود ذلك فالإنسان -كل إنسان- حتى من أولياء الله الصالحين سيتمنى مع كثرة فعله وطاعته أن لو أزداد عندما يجد فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة مشكورً.
(4/28)
---(7/111)
السؤال الأول: ماذا تفهم من قوله تعالى: ?وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا?؟ وما المراد بالسبيل هنا؟
السؤال الثاني: اذكر الهيئة التي يحشر عليها الكافر يوم القيامة مع ذكر دليل من القرآن الكريم ومن السنة النبوية.
(4/29)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس الخامس : بعض قصص الأنبياء والمرسلين
الدرس الخامس
بعض قصص الأنبياء والمرسلين
أهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم وبالحاضرين والمشاهدين والمشاهدات الكرام، ويسرني أن ألتقي بكم مجددًا في هذا اللقاء، ومع بعض من سورة الفرقان وإن شاء الله -تبارك وتعالى- سأتحدث عن الآيات التي سنستمع إليها بعد قليل حول محورين اثنين:
المحور الأول: ذكر بعض قصص الأنبياء والمرسلين.
المحور الثاني: استهزاء المشركين بالصادق الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- ووعيد الله له، ونستمع الآن إلى هذه الآيات مع الأخ عبد الرحمن فليتفضل:
(5/1)
---(7/112)
? وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ?35? فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ?36? وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ?37? وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ?38? وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ?39? وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ نُشُورًا ?40? وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً ?41? إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ?42? أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ?43? أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا? [الفرقان: 34-44].
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد:
كما أشرت، هذه الآيات التي استمعنا إليها تدور حول محورين:
(5/2)
---(7/113)
المحور الأول: ذكر بعض قصص بعض الأنبياء والمرسلين، وافتتح الله -عز وجل- هذا القصص بقصة موسى -عليه السلام- فقال جل ذكره: ? وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ? لو تذكرنا وفي لقاءات سابقة، وفي اللقاء السابق بالتحديد الآية رقم 31؛ والتي أشارت إلى أن الله -تبارك وتعالى- جعل لكل نبي عدوًا من المجرمين، ثم أتت هذه الآيات بعد ذلك لتفصل شيئًا من العداوة التي دارت ووقعت بين الأنبياء والمرسلين وبين أقوامهم؛ وذلك لينزجر كفار قريش عن غيهم وبغيهم وتعنتهم مع الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- لأن هذه الآيات كما سنعلم ذلك ونشير إليه -تبارك وتعالى- بينت مصير المكذبين الظالمين الجاحدين لنبوة الأنبياء السابقين، فكان أن أهلكهم رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولذلك هذا القصص من فوائده زجر هؤلاء الناس الذين يعترضون على نبوة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سواء كانوا في الماضي وقت بعثته -عليه الصلاة والسلام- وهو حي أو بعد ذلك وحتى عصرنا الحاضر، فهؤلاء الناس الذين لم يؤمنوا ولم يصدقوا لو قرءوا هذه الآيات وأدركوا ما فعله رب العالمين -سبحانه وتعالى- بالمكذبين الجاحدين لرجعوا إلى رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
وذكر الله -عز وجل- في هذه الآيات وتحت هذا المحور ثلاث قصص:
(5/3)
---(7/114)
القصة الأولى: قصة موسى -عليه السلام- وهي الآية الأولى التي معنا، والله -عز وجل- أخبر فيها أولًا: أنه آتى موسى -عليه السلام- الكتاب، آتاه يعني أعطاه، والكتاب هو التوراة، والله -عز وجل-. أنزل التوراة جملة على موسى -عليه السلام-، والتوراة كما صح الخبر عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنها مكتوبة بيد الله -تبارك وتعالى-، وأنزلها رب العالمين -سبحانه- على نبيه موسى -عليه السلام- وفيها من الرحمة ومن الخير ومن الهداية والنور ما فيها، كما قال رب العالمين: ? إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ? [المائدة: 44] ولكن لو سألت الآن السامعين التي بين اليهود اليوم هي التوراة التي فيها هدى ونور؟ هل هي التوراة التي نزلت على نبي الله موسى عليه السلام؟
كلا ثم كلا؛ لأن هؤلاء القوم حرفوا وغيَّروا، وبدلوا وانحرفوا، ولعبوا بأيديهم فيما أنزله رب العالمين -سبحانه وتعالى- بل إنهم ذكروا فيما سموه بعد، وأطلقوا عليه بالتلمود، أو التوراة، ذكروا فيه أشياء لا تليق بآحاد من البشر فضلًا عن أنبياء الله ورسله، فضلًا عن رب العالمين -سبحانه وتعالى- وليس هذا مجال ذكر ذلك الآن.
(5/4)
---(7/115)
الله -عز وجل- آتى موسى التوراة كي يدعو بني إسرائيل إلى الله -عز وجل- من خلال ما أنزله ربه -سبحانه وتعالى- عليه، وأفادت هذه الآية أن رب العالمين سبحانه جعل هارون مع موسى -عليه السلام- قال: ? وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ? ومعنى وزيرا يعني مؤازرًا له، مؤيدًا له، ناصرًا له، يدعو معه إلى الله -تبارك وتعالى- وقد ذهب بعض الناس إلى أن هارون -عليه السلام- ليس نبيًا؛ بسبب قول الله -تبارك وتعالى-هذا: ? وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ? قالوا الوزير يكون مع المرسل وليس كالمرسل بحال فهارون ليس كموسى وليس بنبي وإنما هو مناصر مؤيد وليس بني ولا برسول؛ وفي الحقيقة أن هارون -عليه السلام- نبي رسول، والله -عز وجل- قد ذكر ذلك في كتابه موسى -عليه السلام- طلب من ربه -سبحانه وتعالى- أن يجعل أخاه هارون معه كما قال ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه عن موسى -عليه السلام- كما في سورة طه: ? وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ?29? هَارُونَ أَخِي ? [طه: 30].
استجاب رب العالمين -سبحانه وتعالى- دعوة نبي الله موسى -عليه السلام- وأرسل هارون معه، وجعل هذا من رحمته -سبحانه وتعالى- بنبيه وعبده موسى فقال: ? وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ? [مريم: 53].
(5/5)
---(7/116)
وموسى -عليه السلام- كان مرسل إلى أكبر طاغية عرف على ظهر هذه الأرض، فكان من تأييد الله -عز وجل- ورحمته بموسى -عليه السلام- أن يشرك هارون معه في هذا الأمر، ليدعو إلى الله -تبارك وتعالى- بدعوة موسى -عليه السلام- فكلاهما توجه إلى فرعون بأمر الله -عز وجل- لهما، كما في الآية التالية: ? فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ?؛ وتلاحظون ? فَقُلْنَا اذْهَبَا ? يعني بضمير المثنى الذي يفيد أن موسى وهارون كلاهما مرسل من قبل الله -تبارك وتعالى- وكلاهما مكلف بالذهاب إلى فرعون، ورب العالمين يعظم نفسه وذاته فيقول ? فَقُلْنَا اذْهَبَا ?، وهذا أسلوب عربي سبق أن أشرت لكم به، فقلنا اذهبا إلى من؟ ? إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ?، من هم؟ هما فرعون وجنوده؛ لأن فرعون وجنوده كذبوا بآيات الله -تبارك وتعالى- وهذا التكذيب -كما ذكر أهل العلم- يشمل التكذيب بآيات الله الكونية ويشمل التكذيب بآيات الله الشرعية التي أيد وبعث بها موسى -عليه السلام- ومن ذلك معجزات التي أيد الله -تبارك وتعالى- بها نبي الله موسى -عليه السلام- ولكن فرعون بغى وطغى وتكبر ولم يستجب لموسى -عليه السلام- ولا أسبق الكلام الآن فسيأتي حديث بعد ذلك إن شاء الله -تبارك وتعالى- في سورة الشعراء حول موقف موسى من فرعون، وبأي شيء واجه فرعون موسى -عليه السلام- أو التكذيب الذي ناله والوعيد والتهديد الذي ناله موسى -عليه السلام- من هذا الرجل الطاغية، ولكن هذه الآية اختصر ربنا -سبحانه وتعالى- الحديث فيها وبيَّن أن فرعون رد دعوة موسى وهارون -عليهما السلام- ولم يستجب لهما فكان وعيد الله -تبارك وتعالى- عليه شديد وقوي أغرقه رب العالمين -سبحانه وتعالى- ? وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ(7/117)
(5/6)
---
الْغَرَقُ ? [يونس: 90]؛ هذه الآية من سورة يونس بينت أن رب العالمين -سبحانه وتعالى- أهلك فرعون بأي شيء؟ أهلكه بالغرق، وسيأتي تفصيل لذلك -إن شاء الله-، وهنا أشارت الآية إلى أن الله دمره تدميرًا، والتدمير هنا هو الهلاك؛ ولذلك ربنا -سبحانه وتعالى- ذكر هذا مؤكدًا لما كذب فرعون بين أنه أهلكه بالتدمير، وأكد هذا التدمير بالمفعول المطلق فدمرناهم تدميرًا يعني أهلكناهم إهلاكًا؛ ولذلك رب العالمين -سبحانه وتعالى- في سورة هود مما يوضح قوله تعالى: ? فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ? في سورة هود لما ذكر أن فرعون يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار فعقب على ذلك بقوله ? وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ? [هود: 102]؛ فكأن هذا يعني أن أخذ الله -سبحانه وتعالى- لفرعون كان أخذًا شديدًا وكان أخذًا أليمًا، وهنا قال -سبحانه وتعالى- ? فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ?.
القصة الثانية: هي قصة نوح -عليه السلام- وذكر شيء مما أرسله رب العالمين -سبحانه وتعالى- به إلى قومه يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى- ? وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ?؛ هذا القصص -كما أشرت سابقًا- فيها زجر للمكذبين في الماضي والحاضر، فالماضي يعلم هؤلاء الذين يستمعون القرآن الكريم، والحاضرون اليوم حينما يقفون على مثل هذه الآيات، ويعرفون أنهم كذبوا ويقرءوا ماذا فعل الله -تبارك وتعالى- بالسابقين المكذبين وإهلاك رب العالمين -سبحانه وتعالى- لهم ربما ينزجر هؤلاء الناس، ينزجرون عن غيهم ويرجعون عن ضلالهم؛ ولذلك في كل آية تجد أن رب العالمين -سبحانه وتعالى- يذكر وعيده الذي أنزله على هؤلاء المكذبين، قال سبحانه: ? وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ?.
(5/7)
---(7/118)
أول أمر يلفت الانتباه في هذه الآية هو قول الحق تبارك وتعالى: ? وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ?؛ بالجمع، هم كذبوا نوح فقط ولا كذبوا الرسل؟ كذبوا نوح الذي أرسل إليهم فقط؛ لأن كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، ولكن الله -عز وجل- هنا يقول: ? لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ? ما فائدة ذلك؟ فائدة ذلك الإشارة إلى أن دعوة جميع الأنبياء واحدة في التوحيد إلى رب العالمين -سبحانه وتعالى- كل الأنبياء جاءوا بدين الإسلام، كل الأنبياء جاءوا بالتوحيد، جميع الأنبياء قالوا الأنبياء قالوا لأقوامهم ? اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ? [الأعراف: 59]؛ وهناك إشارة إلى ذلك إن شاء الله -تبارك وتعالى- في سورة الشعراء.
وقد ذكر الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك تعالى- قولًا جميلًا أن الله -عز وجل- لو أرسل لهؤلاء المكذبين كل الأنبياء والمرسلين أيضاً؛ لكذبوا بالأنبياء والمرسلين.
ولا بد أن أقف وقفة هنا يسيرة، وأشير إشارة يسيرة، طالما أني ذكرت أن دعوة جميع الأنبياء واحدة، وأن ما نعرفه أو ما نسمع عنه ويعلن اليوم، وقبل اليوم بوحدة الأديان، وأن الأديان كلها اليوم أديان واحدة، وأنه يجوز للإنسان أن يختار منها ما يشاء؟
نقول لا..، بعد بعثة النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- نسخت رسالته جميع الديانات السابقة، فالديانات السابقة نُسخت ببعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى جانب أن أصحاب هذه الديانات حرفوا كتبهم، ولن يلتزموا بما أنزل رب العالمين عليهم، فأصبحوا بذلك كفرة مشركين برب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(5/8)
---(7/119)
? وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ?؛ ماذا حصل لهم إذن؟ ?أَغْرَقْنَاهُمْ ?؛ والله -عز وجل- قد بين في كتابه كيفية إغراق هؤلاء الناس في سورة القمر، لما كذب نوح -عليه السلام- توجه إلى ربه بإخلاص الأنبياء الصادقين، فدعا ربه، ماذا قال؟ دعا ربه: ? أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ? [القمر: 10]؛ وهذه عبارة تفيد أهل التوحيد أن يتعلموا أن الأنبياء والمرسلين حينما كان يكذبهم أقوامهم لا يجدون إلا رب العالمين -سبحانه وتعالى- نوح -عليه السلام- يكذب وتوصد الأبواب في وجهه، يبقى بين قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم سرًا وجهارًا ليلًا ونهارًا، يدعوهم إلى الله -عز وجل- فما أمن معه إلا قليلًا، كما قال رب العالمين: ماذا يفعل نوح -عليه السلام؟ دعا ربه: ? أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ?؛ ماذا قال رب العالمين: ? فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ?11? وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ? [القمر: 12].
لأنه بتقدير من؟ بتقدير رب العالمين، وهذا الفيضان وهذا الطوفان الهائل كان عظيمًا للغاية، لدرجة أنه ارتفع فوق أعالي الجبال، هذا الطوفان وهذا الماء الذي نزل من السماء وانفجرت منه الأرض، قد وصل إلى حد بعيد وعالي مرتفع بدليل أن نوح -عليه السلام- لما دعا ابنه أن يأتي إليه؛ لأن الأمر عظيم، وأن الطوفان كبير، ودعاه إلى أن يكون مع حزبه قال: ? قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ?؛ قال نوح -عليه السلام- كما ذكر القرآن: ?قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ? [هود: 43].
وفعلًا الأمر كما قال، فكان من المغرقين، أهلكه الله رب العالمين -سبحانه وتعالى- رغم أنه أراد أن يصعد أعالي الجبال، ونوح -عليه السلام- أخبره أنه لن ينجو إلا من أنجاه رب العالمين، بسبب إيمانه بنوح عليه السلام.
(5/9)
---(7/120)
قال الله تبارك وتعالى: ? وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ? هنا العبرة، هنا الموعظة، جعلناهم للناس آية، هنا لفتة يجب أن يقف عندها هؤلاء الذين يكذبون برب العالمين -سبحانه- ويكذبون برسالات النبي المرسل -صلى الله عليه وآله وسلم- فلما كُذِّب نوح -عليه السلام- كذبه قومه، أهلكهم رب العالمين، وقال لنا بعد أن استخلفنا رب العالمين بعدهم ? وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ?؛ يعني يعتبر بها الناس: ? فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً ?10? إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ?11? لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ? [الحاقة: 12]قوم يفقهون ويتعلمون ويفهمون لماذا فعل رب العالمين -سبحانه وتعالى- هذا بالمكذبين، وقد استخلفك يا عبد الله بعد ذلك فلا تكن مع هؤلاء المكذبين حتى لا يحيق بك وعيد رب العالمين، كما نزل بهؤلاء المكذبين، والله -عز وجل- يذكر في هذه الآية أن فعله بقوم نوح -عليه السلام- بسبب أن ينزجر هؤلاء المكذبين المجرمين، وجعل هذا العقاب آية للمعتبرين، ولكن أين هم؟ فكثيرًا ما يغفل الناس عن هذه الآيات.
ثم يقول رب العالمين ختامًا لهذه الآية، وأعتدنا للظالمين عذابا أليما ? وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ?، هذا يفيد أنهم أشركوا بالله -تبارك وتعالى- هذا أمر واضح، ولكن لعلكم تلاحظون أن القرآن الكريم كلام رب العالمين كله من البلاغة والفصاحة، أو هو بلغ أوجه البلاغة وقمة البلاغة الفصاحة هنا رب العالمين قال: ? وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ? ما قال: "وأعتدنا لهم"، وهذا من الفصاحة أن يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولكنه أظهر في موضع الإضمار، فالإيجاز في لغة العرب جميل ومطلوب، لكن الله -سبحانه وتعالى- كما ذكر أهل العلم أظهر في موضع الإضمار لفوائد:
(5/10)
---(7/121)
أولًا: منها أن يبين شدة كفره هؤلاء الظالمين حتى احتاج الأمر على أن ينص الله -تبارك وتعالى- عليهم وأن يصفهم بهذا الظلم.
ثانيا: كلمة ? وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ? تشمل وتعم جميع الظالمين، وليس قوم نوح فقط، قوم نوح كانوا ظالمين، وسياق الآية فيهم، ولكن من كذب بأي نبي أو رسول من الأنبياء والمرسلين شملته أيضًا هذه الآية.
القصة الثالثة: هي قصة عاد وثمود وأصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم-. قال تعالى: ? وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ?، ربنا -سبحانه وتعالى- بعد ما أرسل نوح، وأهلك قومه بالطوفان، ونجا نوحًا -عليه السلام- ومن معه، بعد فترة من الزمن أرسل نبي الله هود -عليه السلام- أرسل نبيه هودًا إلى من؟ إلى قوم عاد، وهؤلاء الناس كانوا في الأحقاف باليمن، وكانت لهم حضارة كبيرة، وكانوا ذو بأس شديد، وغلبة ومنعة وقوة، ذكرها رب العالمين في كتاب وذلك في قوله: ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ?6? إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ?7? الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ ? [الفجر: 8].
(5/11)
---(7/122)
فكانت عندهم حضارة عظيمة وقوة عالية، هذا دفعهم على الاستكبار على نبيهم هود -عليه السلام- والله -عز وجل- قد ذكر في كتابه: ? فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ? [فصلت: 15]؛ تأمل الغرور الذي أخذ هؤلاء الناس، والذي أعطاهم القوة هو الله، والله -عز وجل- أشار إلى ذلك: ? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ? الذي أعطاك وخلقك وأوجدك من العدم ألا يكون يا عبد الله هو أشد منك قوة، ولكن العلو والاستكبار في الأرض؛ ولذلك أخذهم رب العالمين -سبحانه وتعالى- وأهلكهم بشيء قد يظنه الإنسان يسيرًا، هو الريح والصرر، يعني الريح الشديدة التي فيها صيحة عظيمة لها صوت قوي لها صوت وشدة قوية ورب العالمين -سبحانه وتعالى- يقول: ? وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ? [الحاقة: 6]. يعني قوية أخذتهم وكانوا يظنون أن هذا أمر لا يؤثر فيهم، وغالبًا أهل الباطل لا ينتبهون إلى مثل هذه الآيات، لكن رب العالمين -سبحانه وتعالى- يسخرها فيهلكهم: ? وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ?.
(5/12)
---(7/123)
أما ثمود وهم قوم صالح -عليه السلام- وهؤلاء كانوا في شمال الجزيرة العربية بجوار قرية يقال العلا وهي ما تعرف إلى اليوم بمدائن صالح، وقد كانت عندهم حضارة كبيرة للغاية، حضارة قوية جدًا قال القرآن الكريم عنها: ? وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ? [الفجر: 9]؛ يعني قطعوا الصخرة في الأودية، كان يقطعون الصخرة وينحتون الصخرة ويجعلون من هذه الجبال بيوتًا فارهة يستمتعون بها، بعث الله -تبارك وتعالى- إليهم نبي الله -تبارك وتعالى- صالح -عليه السلام- فكذبوه وطلبوا منه آية فأعطاهم، أو أيده ربه -سبحانه وتعالى- بالناقة -ولا أريد أن أسترسل في قصتهم الآن حتى لا يضيق بنا المقام- ولكنهم أيضًا مع إرسال هذه الآية كذبوا بها وقتلوا الناقة التي أرسلها الله -تبارك وتعالى- وأخرجها إليهم، فكان الأمر أن أهلكهم أيضًا رب العالمين -سبحانه وتعالى- وكان هلاكهم بأي شيء؟ كان هلاكهم بالصيحة الشديدة التي أرجفتهم وأخذتهم وجعلتهم هلكى صرعى ? كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ? [الحاقة: 7].
أو كأن بيوتهم خالية مما كانوا فيها، ولا أحد فيها بعد الإهلاك، ولا أنيس بعد ما كانت قرى عالية عظيمة، فيها من البيوع الفارهة، وفيها من المساكن الجميلة الرقيقة، إلا أن رب العالمين -سبحانه وتعالى- دمرهم عن آخرهم بصيحة قوية شديدة أخذتهم، وذلك بسبب تكذيبهم لنبي الله صالح -عليه السلام-.
(5/13)
---(7/124)
أما أصحاب الرس الذين ذكرهم ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه فلم يأت تفصيل لقصتهم في كتاب الله -عز وجل- ولم يذكر ربنا -سبحانه وتعالى- اسم النبي المرسل إلى هؤلاء الناس، وقد جاء ذكر كلام كثير حولهم في كتب التفسير، وفي قصص الأنبياء، ولكن لا دليل على ذلك؛ ولهذا نحن نقف عند حدود الوارد في كتاب رب العالمين -سبحانه وتعالى- غاية الأمر أن نقول أصحاب الرس قيل: الرس والبئر، وقد جاء في معلقة زهير في المعلقات السبع التي ربما تسمعون عنها أن الرس بمعنى الوادي، يعني الأرض الواسعة المنبطحة في الصحراء.
? وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ?، قروناً: جمع قرن واختلف في القرن قيل: أربعين سنة، وقيل: سبعين سنة، وقيل: مائة سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، ولكن المراد بالقرن هنا هم الجماعة المتواجدون في زمن واحد، ? وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ?، يعني بين ذلك المذكور كثيرًا، يعني أن الله -تبارك وتعالى- جعل بين هؤلاء المكذبين الذين ذكرهم قرونًا أخرى لم يذكرهم، وقد وصفها بأنها كثيرة، ولا يعلمهم إلا رب العالمين، ولكن القرآن الكريم أشار إلى أنه أهلك أيضًا هؤلاء المكذبين فما قال سبحانه: ? وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ? [الإسراء: 17]؛ فأفاد ربنا -سبحانه وتعالى- أن هذه القرون أيضًا وإن لم يأت لها تفصيل في كتاب الله -عز وجل- إلا أنها كذبت بالنبي المرسل إليه فأهلكهم رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(5/14)
---(7/125)
ثم يقول سبحانه: ? وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ?، يعني أن رب العالمين قطع العذر وأقام الحجة على هؤلاء الناس، وذلك بضرب الأمثال؛ لأن الأمثال توضح، فالمثل يجعل الشيء المعقول يبرزه في صورة المحسوس المشاهد؛ ولذلك نحن نقول: بالمثال يتضح المقال، فالمثال يبين الأمر ويوضحه ويجعل الشيء الغامض واضحًا بين يديه، فالله -عز وجل- أقام الحجة على هؤلاء الناس الذين أهلكهم بضرب الأمثال التي تبرز لهم الحق واضحًا ناصعًا أمام أعينهم، ولكنهم لم يستفيدوا وكم من أمثال ضربها ربنا -سبحانه وتعالى- لمشركي مكة، ولكنهم مع ذلك لم يرتدعوا ولم يستفيدوا، تأملوا مثلًا قول الله -تبارك وتعالى- لهم في سورة إبراهيم: ? وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ? [إبراهيم: 45]، وهذا خطاب لمشركي مكة، ولا يعني ذلك أن الله -عز وجل- لم يضرب الأمثال لعموم الناس بما فيهم المؤمنين، فالله -عز وجل- قد ضرب أمثلة كثيرة في كتابه -في القرآن الكريم- وبيَّن أن هذه الأمثال لا يستفيد منها ولا يتأمل معانيها، ولا يمكن أن يفهمها ويتدبرها ويعقلها إلا العالمون، أو الذين يتذكرون، يقول -سبحانه وتعالى- ? وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ? [العنكبوت: 43]؛ يعني لا يعقل هذه الأمثال ولا يتأمل ما ضربه ربنا في كتابه إلا أهل الفقه، إلا أهل العلم، إلا أصحاب الذكرى، إلا الذين ينتبهون ويتدبرون آيات الله -سبحانه وتعالى- ولعلي أطلب من الحاضرين أن يذكروا لي مثالًا ذكره رب العالمين في كتابه والأمثلة كثيرة؟ مثالًا ضربه رب العالمين في كتابه؟ ? إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ? [البقرة: 26]؛ ليبين أن بعض الناس يهتدون بكتاب الله -عز وجل-(7/126)
(5/15)
---
وبعض الناس لا يهتدون: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ? [الحج: 73].
هذه الأمثال في الحقيقة كثيرة في كتاب الله -عز وجل- وهي تجعل المعقول الذي ربما لا يراه الإنسان ولا يمكن أن يتخيله تمامًا تجعله له في صورة الشيء المحسوس كأنه ناظر إليه مشاهد له واضح بين يديه، فهذا يدفع الإنسان إلى التسليم والتصديق؛ ولذلك ربنا -سبحانه وتعالى- لما قال: ? وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ? عقب على ذلك بقوله ?وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ?، والتتبير يعني الإهلاك، وأيضًا يأت بصيغة التأكيد، وكلًا أهلكنا إهلاكًا وكلًا تبرنا تتبيرًا هذا الهلاك لماذا؟ وهذا التتبير لماذا؟ لأنهم لم يستفيدوا من الأمثال، ولم يستجيبوا للأنبياء والمرسلين، ولم يتدبروا الآيات التي نزلت عليهم من عند رب العالمين.
ثم يقول سبحانه: ? وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ نُشُورًا ?؛ هذا خطاب عن أهل مكة، يبين ربنا -سبحانه وتعالى- فيه أمرين:
الأمر الأول: ذكر هذه القرية التي أمطرت مطر السوء. وهي قرية السدوم، قوم لوط الذين أهلكهم رب العالمين سبحانه بسبب الفاحشة التي كانوا يرتكبونها، أهلكهم بسبب الفاحشة العظيمة التي كانوا يرتكبونها، غضب رب العالمين -سبحانه وتعالى- عليهم لخروجهم على الطبيعة السليمة النقية التي يجب أن يكون عليها البشر، والتي نظمها من خلال آياته وأنبيائه رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(5/16)
---(7/127)
الأمر الثاني: بيان أن المشركين كانوا يمرون على هذه القرية؛ ولكنهم كانوا لا يعتبرون؛ ولذلك رب العالمين -سبحانه وتعالى- يقول لهم: ? وَإِنَّكُمْ لّتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ ?137? وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ? [الصافات: 138]؛ أنتم تمرون على هذه القرية في الصباح وفي المساء، ألا يدعوكم ذلك إلى التعقل؟ هذه القرية أهلكها رب العالمين، أهلكها بالسجيل، والسجيل ما هو؟ حجارة صلبة قوية من طين، وهي مهلكة بقدر رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(5/17)
---(7/128)
والله -عز وجل- قد بيَّن هذه الحجارة في كتابه أنها هذا السجيل وأنها حجارة: ? قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ?32? لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ? [الذاريات: 33]؛ فبيَّن أن هذه الحجارة هي من طين، ووصف هؤلاء القوم -الذين كانوا يمر عليهم مشركي مكة- وصفهم بالمجرمين، ? إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ? وكان كفار قريش يأتون هذه القرية ويمرون عليها صباحًا ومساءً في سفرهم، ولكنهم أيضًا كانوا لا يعتبرون؛ ولذلك قال سبحانه: ? أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ نُشُورًا ?؛ يعني كانوا في الحقيقة مكذبين بالبعث والنشور، ولا يطمعون في لقاء رب العالمين -سبحانه- أو لا يخافون من لقائه فلم يدفعهم ذلك إلى التدبر والتذكر والاعتبار، وهذا يجعلني أقول كلمة هنا: يجب على الإنسان أن يضع الدار الآخرة نصب عينيه؛ ليستقيم حاله وتصلح أعماله؛ لأن الإنسان إذا أدرك وعلم أنه سيموت وأنه سيقف بين يدي الله -عز وجل- وسيقوم من قبره وينشر للحساب والجزاء والثواب والعقاب، لا شك أنه سيتحسس مواطن أقدامه، وهؤلاء القوم لما كانوا لا يؤمنون بلقاء الله -عز وجل- ولا يخافون من رب العالمين -سبحانه وتعالى- تركوا التدبر وأعرضوا عن آيات رب العالمين -سبحانه وتعالى-، وهؤلاء الناس يمرون على هذه القرى وليس فيها -كما ذكرت- داع ولا مجيب، ولكن أين المتدبرون أين المتذكرون؟ أين الذين يفقهون آيات رب العالمين -سبحانه وتعالى-؟
(5/18)
---(7/129)
المحور الثاني في هذا اللقاء بعنوان: استهزاء المشركين بالصادق الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ ووعيد الله لهم، وأبدأ هذا المحور بقول الله -تبارك وتعالى-: ? وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً ? يخبر رب العالمين -سبحانه وتعالى- عن لون آخر وقع فيه المشركون، هم أولًا كذبوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وردوا دعوته، ولم يستجيبوا لما أيده رب العالمين -سبحانه وتعالى- به من الآيات، وكان الأولى بهم والأجدر أن يرجعوا إلى الله -عز وجل- ومع كفرهم وتكذبيهم، وهذا ظلم عظيم، وكفر واضح مبين، إلا أنهم لم يقتصروا عليه، ولم يقفوا عنده، وإنما كانوا مع تكذيبهم وكفرهم بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يستهزئون به، ويسخرون منه -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وأنا إن أردت أن أناقش هؤلاء المستهزئين المكذبين اليوم أقول لهم: بماذا تسخون وبأي شيء تستهزئون؟ هل هو على صفات تدفعكم إلى أن تسخروا منه -صلى الله عليه وسلم- أو أن ما أيده رب العالمين -سبحانه وتعالى- فيه ضعف وليست فيه حجة حتى تضحكوا عليه -صلى الله عليه وسلم- من خلاله؟
(5/19)
---(7/130)
كلا ثم كلا فما كان عليه -صلى الله عليه وآله وسلم- من خَلق وخُلق، وتأييد من رب العالمين دفعه إلى أعلى الكمالات البشرية -صلى الله عليه وآله وسلم- فما كان ينبغي بحال لهؤلاء المشركين وهم يعرفون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يسخروا وأن يستهزءوا به؛ ولذلك قصدت بعنوان لهذا المحور أن أذكر الصادق الأمين؛ لأن هذه خلة كريمة، صفة عالية، كان المشركون يؤمنون بها ويصدقون بها للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ألا كانت هذه الصفة فقط تردعهم أن يسخروا من النبي - -صلى الله عليه وسلم-، تمنعهم أن يستهزءوا به -عليه الصلاة والسلام- لكنهم فعلوا ذلك، فكان إذا رأوه -صلوات الله وسلامه عليه- سخروا به استهزءوا منه، وهذا الفعل من المشركين، هو أيضًا فعل إخوانهم من المشركين السابقين، فالمشركون السابقون كانوا أيضًا يسخرون من الأنبياء والمرسلين، والله -عز وجل- قد ذكر في كتابه تسلية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأيضًا حينما ذكر بين أن ردعه وأليم عقابه الذي أنزله على هؤلاء المستهزئين لعل المشركين من العرب ينزجروا ويرتدعوا ويرجعوا عن هذا الاستهزاء، تأملوا قول رب العالمين سبحانه: ? وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ? [الرعد: 32]. يعني أمهلتهم أخرت عقابهم لعلهم يرجعون، فلما لم يرجعوا فماذا كان؟ ماذا كان وماذا قال رب العالمين -سبحانه وتعالى- عن هؤلاء المستهزئين؟ قال: ? وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ? [الرعد: 32]؛ وما زلنا إلى يومنا هذا أيها المؤمنون يسخر أعداء الله الكافرين والمكذبين من أولياء الله الصالحين، ولم يقف حد الاستهزاء أو السخرية عند أهل الإيمان بحسب، بل تطاولوا -وللأسف الشديد- حتى نالوا من رب العالمين وشرعية سيد المرسلين -صلى الله عليه وآله وسلم- ونحن نسمع بين الحين(7/131)
(5/20)
---
والآخر بعض الناس يخرجوا عليها باعتراضات على الشريعة الإسلامية، فهذا يتكلم على أن الشريعة لا تصلح للتطبيق، وهذا يقول أن الحجاب لم يفرضه رب العالمين على نساء المسلمين، وغير ذلك من الأقوال المنكرة التي نسمعها من هؤلاء وربما يخرجون على شاشات الفضائيات فيسخرون من أهل الإيمان وهؤلاء وعيدهم عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- شديد، ويكفي أن أبشر إخواني المؤمنين اليوم أن أهل الكفر والضلال إن سخروا اليوم من أهل الإيمان فسيكون الحال على النقيض في يوم الدين، رب العالمين لما ذكر سخرية الكافرين والمكذبين للمؤمنين في الدنيا أشار إلى أن الوضع يتبدل ويتغير، ولكن أين؟ في الدار الآخرة، في الدار النعيم، في الدار الأبدية، الدنيا مرحلة منتهية مهما فعلوا فسيموتوا وأهل الإيمان كذلك، ولكن العاقبة للتقوى كما قال رب العالمين: ? إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ?29? وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ?30? وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ ?31? وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ ?32? وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ?33? فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ?34? عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ?35? هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ?[المطففين: 28-35].
(5/21)
---(7/132)
رجع إليهم وحاق بهم فعلهم، وأوقعهم في نار الجحيم التي أعدها رب العالمين لهؤلاء المستهزئين، والله يا أخواني حينما يقرأ الإنسان هذه الآيات ويتذكر حال بعض الناس اليوم من حيث الاستهزاء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- يعجب، كيف يقع من قوم إن كانوا عقلاء مثل هذا الاستهزاء؟ ندعهم وكفرهم، إما أن يستهزءوا بالنبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد جمع من خصال الفضل والخير والكرم والخِلقة الكريمة العظيمة ما خلقه ربه -سبحانه وتعالى- عليها، ثم بعد ذلك يأتي إنسان مفتون هالك فيستهزأ أو يسخر من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ? وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً ?.
ثم يبين رب العالمين مع هذا ضعفهم أمام بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فهم يقولون: ? إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَ?؛ ورب العالمين يقول: ?وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ?؛ هؤلاء المشركين يعلمون أنهم ضعفاء أمام حجة وقوة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ ولذلك يقولون: ? إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَ? ولشرح هذه الآية أقف فيها عدة وقفات:
(5/22)
---(7/133)
الوقفة الأولى: قولهم: ?إِن كَادَ لَيُضِلُّنَ? يفيد أنهم -وللأسف الشديد- سمو حرص النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- علي هدايتهم ضلال، وهذا فيه قلب للحقائق، يعني ثم حرص النبي -عليه الصلاة والسلام- ودعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الهداية وإلى الدخول في دين الله -تبارك وتعالى- سموه ضلال ِ?إن كَادَ لَيُضِلُّنَ?؛ وهذا منطق الكافرين من قبل، فإمامهم في هذا من فرعون لما قال لقومه عن موسى -عليه السلام- ? إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ? [غافر: 26]؛ بل يقول هذا من؟ الذي يقتل الأطفال ويستحي النساء ويقتل الأطفال، هذا الرجل يقول لقومه يخوفهم من موسى -عليه السلام- يخوفهم منه لأي شيء، ?نِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ?؛ وهؤلاء المشركين المكذبين يقولون: ?إن كَادَ لَيُضِلُّنَ?؛ يعني شدة حرصه كادت أن تخرجه عن الدين الذي عليه، فنقع في الضلال، طب أنتم واقعون في الضلال، أنتم غارقون في مهاب الرذيلة، ودعوة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إليكم هي الهداية بجميع أنواعها.
الوقفة الثاني: تبين حرص النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وجده -عليه الصلاة والسلام- في دعوة هؤلاء المشركين؛ لأن هذا القول يفيد ? إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا ?؛ فهذا يفيد أنه كان -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى -تبارك وتعالى- ويستمر في دعوتهم إلى رب العالمين ويجتهد في ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
(5/23)
---(7/134)
الوقفة الثالثة: هي أن هؤلاء المشركين وقع منهم التكذيب بسبب التقليد للآباء السابقين، وهذا يفهم: ? إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا ?، ما عندهم حجة وما عندهم برهان؛ ولذلك كان يوصي بعضهم بعضًا بأن يستمروا على ما هم فيه من ضلال،? وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ? وهنا هؤلاء المشركين يقولون: ? إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ?؛ يعني سوف يعلمون يقينًا حينما يجمعهم رب العالمين -سبحانه- ويشاهدون العذاب جهارًا نهارًا من المضل من المحسن، من المهتدي؛ لأنهم قالوا بأن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ستظلهم؛ فرب العالمين -سبحانه وتعالى- قال سيظهر لهم يقينًا إن أنكروا الهداية التي يدعو بها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الآن فسيعلمون غدا -إن شاء الله تبارك وتعالى- عندما يقفون بين يدي الله من أضل سبيلًا هل هم أم غيرهم؟ من اهتدى ومن ضل عن سواء السبيل؟ ولا شك أن الذي ضل هم هؤلاء المكذبين المجرمين.
(5/24)
---(7/135)
ثم يصفهم رب العالمين بوصف دقيق: ?رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيل?؛ هذا خطاب بعد الموقف الأليم لا شك على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو السخرية والاستهزاء به -عليه الصلاة والسلام- يأتي رب العالمين يسلي النبي -عليه الصلاة والسلام- وكأنه يقول له لا تحزن ولا تستغرب من استهزائهم بك؛ قال رب العالمين لأنهم اتخذوا إلههم ومعبودهم هواهم من دون الله -تبارك وتعالى- ماذا تفعل لقوم جعلوا دينهم هواهم وما استحسنوه لم يرتبطوا بشريعة ولم يرجعوا إلى دين: ? َرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ?؛ فعلة هؤلاء الناس كانت في إتباع الهوى، ما استحسنته عقولهم؛ ولذلك ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك تعالى عليه- أن الرجل منهم كان يعبد حجرًا أبيض فإذا رأي أفضل منه تركه وعبد الثاني، يعني هوى ولعللكم سمعتم ولعلي قد ذكرت لكم سابقا أنهم كانوا يصنعون إلهًا من عجوة فإذا جاع الواحد منهم أكل إلهه.
هذا كله بسبب الهوى، فهؤلاء الناس جعلوا معبودهم هواهم وما يمليه عليهم شيطانهم وما يستحسنونه بعقولهم، وإذا كان الأمر كذلك فهل يرجى من ورائهم خيرًا؟ ولذلك قال رب العالمين للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما قال ? أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ? قال ? أفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ?؛ وهذا كمعنى قول الحق -تبارك وتعالى- ? لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ? [الغاشية: 22]؛ وكقول رب العالمين -سبحانه وتعالى- أيضًا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ? أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ? [يونس: 99]؛ ? لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ? [البقرة: 272] هذا خطاب للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(5/25)
---(7/136)
وقبل أن أنتقل من هذه الآية إلى ختام لقائنا في الآية التالية أذكر أيضًا هنا فائدة في هذه الآية: ? أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ?؛ هذه الفائدة يا إخواني أود أن نستمع إليها جيدًا كي نسير عليها وهي: أن الإنسان يجعل الدين الذي يسير عليه هو ما جاء من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- لا ما استحسنه عقله ولا من رغب فيه بهواه، وإنما التزام مطلق بشريعة رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولذلك أقول: يجب أن تكون أفعال المكلف منا مطابقة لما جاء من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهذه فائدة عظيمة جدًا نستفيدها من هذه الآية عندما نعى رب العالمين -سبحانه وتعالى- على هؤلاء المشركين إتباعهم لأهواهم ? َأرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ?؛ ثم أختم هذا اللقاء بقول الحق -تبارك وتعالى- أيضًا مسليًا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رافعًا عنه الأسى والحزن الذي يجده في قلبه في تكذيب هؤلاء المجرمين: ? أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ?، هؤلاء الناس وصلوا إلى درجة بالتكذيب والاستهزاء، وصلوا إلى درجة صاروا فيها أحط من الأنعام التي لا تعي ولا تعلم، أم تحسب "أم" هنا بمعنى "بل" فهنا إضراب، والهمزة هنا للإنكار والاستفهام أم تحسب، أتحسب يا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- أن أكثر هؤلاء يعقلون ويفهمون ويتدبرون؟ أبدًا هؤلاء لا يعقلون ولا يتدبرون ولا يفقهون طيب ماذا شأنهم يا رب؟ ما حالهم؟ رب العالمين -سبحانه وتعالى- أفاد في هذه الآية: ? إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ?؛ وقد يسأل سائل كيف يكون الإنسان العاقل الذي متع بالعقل؟ ولعلي أقول لكفرة اليوم الذين غزوا الفضاء وتملكوا ربما زمام الدنيا من حيث التقنية العلمية اليوم، كيف(7/137)
(5/26)
---
يكونوا هؤلاء اليوم أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، ويهتدي إلى من يربيها وتستجيب إلى التوجيهات المطلوبة منها، فهذه الأنعام سخرها رب العالمين -سبحانه وتعالى- لنا وهي تقوم بالوظيفة التي خلقت من أجلها، أما هؤلاء خلقوا لعبادة الله -عز وجل- ولكنها لم يقوموا بها ولم يعرفوا فضل الله -عز وجل- عليهم، وإحسان رب العالمين عليهم، فكانوا بذلك أضل من الأنعام.
وقد يقول قائل: هم يسمعون ويبصرون فكيف تقول أن أكثرهم: ? أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ?، أقول: نفي السماع هنا نفي لسماع الحق الذي نزل من عند الله -عز وجل- وهم إن كانوا يسمعون الكلام المؤيد بالدليل الذي نزل من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهنا نفى ربنا -عز وجل- عنهم السماع وصدق الله في قوله: ?وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ? [الأعراف: 179]؛ وأختم هذا اللقاء بهذه الآية، وأدعو هؤلاء الغافلين إلى أن يرجعوا إلى دين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويكفوا عن استهزائهم وسخريتهم بالنبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- وأردد قول الحق -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان وما قاله الله لنبيه ?فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيل?.
نسأل الله -عز وجل- للجميع الهداية والتوفيق وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كان هناك سؤالان في الحلقة الماضية:
السؤال الأول: ماذا تفهم من قول تعالى ? وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ? وما المراد بالسبيل هنا؟
(5/27)
---(7/138)
أن يتحسر على شركه وكفره وتكذيبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ويتمنى الكافر ألو عض على يديه في هذا الموقف المنزل وهو يوم القيامة، ويتمنى الكفار لو أنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول كما قال الله تعالى في كتابه: ? يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ ? [الأحزاب: 66]؛ والمراد بالسبيل: هو الطريق هو طريق الحق وقوله يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلًا أي يا ليتني اتبعت طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- أي طريق الهداية لكنه تمنى في يوم لا ينفع فيه إلا الحق وهو يوم القيامة.
السؤال الثاني: اذكر الهيئة التي يحشر عليها الكافر يوم القيامة مع ذكر دليل من القرآن الكريم ومن السنة النبوية؟
? الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ? [الفرقان: 34]؛ يحشرون في أشنع منزلة وأفظع منظر، تسحبهم الملائكة ويجروهم إلى جهنم، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في معنى الحديث (الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يحشرهم على وجوههم) وقوله تعالى: ? يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ? [القمر: 48]؛ ويكون الكفار يوم القيامة لهم سمع وبصر.
هو كما تفضل الأخ جزاه الله خيرًا واستدل بالآيات التي ذكرها وهي أن الله -تبارك وتعالى- حقًا يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة، لما سئل -صلى الله عليه وسلم- كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر قياسًا واضحًا للناس قال (الذي أمشاه على قدميه في الدنيا قادر على أن يمشيه ووجهه في الدار الآخرة)؛ فلا نستغرب ذلك، وذلك داخل في قدرة رب العالمين -سبحانه وتعالى- الذي يقول للشيء ? كُنْ فَيَكُونُ ? [البقرة: 117]؛ فربنا لا يعجزه شيء في الأرض وفي السماء.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة المحاضرة؟
(5/28)
---(7/139)
السؤال الأول: بأي شيء أهلك الله عادًا وثمود؟ أيد ما تقول بدليل من القرآن الكريم؟
السؤال الثاني: اشرح قول الله تعالى باختصار: ? أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ?؟
طبعا ما أريد أن أغششكم الإجابة فيها فائدة عظيمة جدًا وهي أن يسير المكلف وفق شريعة رب العالمين -سبحانه وتعالى- والله أعلم؟
(5/29)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس السادس : بيان بعض الادلة الدالة على وجود الله تعالى
الدرس السادس
بيان بعض الأدلة الدالة على وجود الله تعالى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما بعد:
فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم ويسرنا في هذا الدرس السادس أن نواصل المسيرة في شرح تفسير سورة الفرقان -إن شاء الله تبارك وتعالى- وسيدور الحديث حول محاور متعددة في آيات لقاء هذا اليوم -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
المحور الأول: بيان بعض الأدلة الدالة على وجود الله تعالى وقدرته التامة.
المحور الثاني: جهل المشركين في عبادتهم لغير الله، وبعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم.
المحور الثالث: قصر التوكل على الله مع ذكر بعض صفات الجلال والجمال لله عز وجل ونستمع الآن إلى آيات هذا اللقاء:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
(6/1)
---(7/140)
? أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ?45? ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ?46? وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ?47? وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ?48? لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ?49? وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ?50? وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا ?51? فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ?52? وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ?53? وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ?54? وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ?55? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ?56? قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ?57? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ?58? الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ?59? وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا(7/141)
(6/2)
---
تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ? [الفرقان: 45 - 60].
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد.
أتحدث حول المحور الأول في هذا اللقاء وهو -كما أشرت- بعنوان: بيان بعض الأدلة الدالة على وجود الله تعالى وعلى قدرته التامة، وتحته هذه الآيات: وهو قول الحق -تبارك وتعالى- ?ألَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ?؛ لما بين رب العالمين -سبحانه وتعالى- فيما مضى جهل المعترضين على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى القرآن الكريم أشار إلى بعض الأدلة الدالة على وجوده -سبحانه وتعالى- وأيضًا على تمام قدرته، وذكر أنواعًا متعددة من الدلائل، بدأ بالنوع الأول وهو الإشارة إلى قدرة رب العالمين -سبحانه وتعالى- التي استدل بها بحال الظل في انقطاعه وفي إتيانه، في مده وفي انحساره، استدل رب العالمين بذلك على تمام قدرته: ? ألَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ?.
(6/3)
---(7/142)
جاء عن ابن عباس وغيره أن معنى مد الظل ولو شاء لجعله ساكنًا أن ذلك يكون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، يعني أن الظل يمتد في هذه الفترة وينقطع بعد طلوع الشمس ? ألَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ?؛ ساكنًا يعني لأصبح على حالة واحدة ساكنًا لا يتحرك، إما أن يكون الليل دائمًا أبدًا لا ينقطع، أو النهار دائمًا أبدًا لا ينقطع، والله -عز وجل- قد أشار إلى ذلك في كتابه في قوله ? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ? [القصص: 71]؛ يعني أبد الآباد، الليل موجود أبد الآباد: ? مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ ? [القصص: 71].
وبالعكس لو أن النهار مستمر أبد الآباد ? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ ? [القصص: 72]؛ وهنا يبين رب العالمين -سبحانه- أنه هو الإله الحق، وأن قدرته نافذة، وأنه يجب على العباد أن يعبدوه وحده دون سواه؛ لأنه وحده هو الذي يقدر على فعل ذلك، وهنا أشار إلى مد الظل وانحساره، ولو شاء كما قال ? وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ?؛ ثم قال -سبحانه-: ? ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ?؛ يعني أن الشمس دليل في الحقيقة على الظل؛ لأنه لولا رب العالمين -سبحانه وتعالى- وخلقه للشمس ما عرفنا الظل، والشيء يظهر بضده، كما قال الشاعر:
ضدان لما استجمعا حسناً
وفي رواية:
والضد يظهر حسنه الضد
والضد يظهر حسنه الضد
وبضدها تتميز الأشياء
فهنا كانت الشمس دليلًا على مد الظل وانحساره.
وقوله -سبحانه وتعالى- هنا: ? أَلَمْ تَرَ ?: الرؤية هنا رؤية بصرية أم رؤية علمية؟
(6/4)
---(7/143)
ذهب البعض إلى أنها رؤية بصرية لماذا؟ لأن هذا أمر يُرى بالعين، وهذا صحيح، فالرؤية هنا قد تكون بصرية؛ لأننا نشاهد بالعين هذه العملية، نشاهد الليل والنهار ونشاهد الظل وعكس الظل.
وذهب الزجاج وغيره: وهو الراجح -إن شاء الله تبارك وتعالى- إنها علمية، إن الرؤية هنا علمية، وقالوا: رغم أن الظل يدرك بالعين ويشاهده الإنسان إلا إن إدراك قدرة رب العالمين -سبحانه وتعالى- فيه تكون علمية، يعني معرفة الإنسان بهذا الأمر، والوقوف على حقيقة هذه المسألة والاعتبار بها إنما يتدبره الإنسان بعقله وقلبه وفهمه.
والخطاب وإن كان من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله: ? أَلَمْ تَرَ ? إلا أنه يعم جميع المكلفين؛ لأن الكل مخاطب بكتاب رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(6/5)
---(7/144)
ثم يقول جل ذكره: ? ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ?؛ الدليل في قبضناه هنا: إما أن يعود إلى الظل وإما أن يعود على الشمس وكلاهما جائز، قيل يعني سهلًا، وقيل يعني قليلًا، يعني شيئًا فشيئًا، وفي هذا إشارة إلى نعمة عظيمة من نعم الله على عباده في هذا الكون بهذه المسألة العالية العظيمة، وهي: أن الله -عز وجل- يقبض الظل كما يقبض الشمس إليه شيئًا فشيئًا مما في ذلك من منافع كثيرة تعود على العباد، نلفت النظر إلى شيء من هذه المنافع، تخيلوا وتأملوا: لو أنك في نهار يشع بين يديك وقوة باهرة مبصرة تراها في هذا الكون ثم فجأة أصبحت في ظلام دامس لا شك أن مزاجك سيتغير ويختلف، لا شك أن عينيك ستتأثر، ستحدث أمور كثيرة في أعصابك كما ذكر بعض الأطباء كلامًا حول هذا الأمر، لكن رب العالمين -سبحانه- حينما جعل انصراف الليل شيئًا فشيئًا وانصراف النهار أيضًا شيئًا فشيئًا هذا يجعل الإنسان يمر بنهاية الليل وبداية النهار أو بداية النهار وبداية الليل دون أن يشعر بشيء فجأة يخالف شيئًا من حواسه أو يخالف شيئًا من إدراكاته، وبالتالي يكون مهيًأ للمرحلة التي سيقبل عليها سواء كانت في الليل أو في النهار، وهذه إشارة لطيفة إلى معنى جميل يشتمل عليه قول الحق -سبحانه وتعالى-: ? ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ?.
ثم يشير بعد ذلك في آياته إلى دلالة أخرى من دلائل عظمته وقدرته الباهرة فيقول: ? وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ?؛ يشير هنا رب العالمين -سبحانه وتعالى- أنه جعل لخلقه الليل لباسًا وسمى الليل لباسًا؛ لأن الليل لما كان يغطي بسواده وظلمته فصار كأنه كاللباس الذي يتغطى به الإنسان فيستر بذلك عورته، ومن هنا سمى رب العالمين -سبحانه وتعالى- الليل لباسًا.
(6/6)
---(7/145)
كما سمى النوم سباتًا السبات قيل الراحة وقيل هو النوم وكل ذلك صحيح، فالإنسان بالنوم يستريح وتهدأ أعصابه وتخف حركته، بل إذا ذهب في النوم بالكلية يهمد تمامًا ويستريح، والله -عز وجل- قد جعل لنا هذا النوم للراحة التي ذكرها هو في كتابه: ? وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ?؛ ويطلق أيضًا السبات على الموت والنوم يطلق في القرآن الكريم، وفي لغة العرب على الموت، ومنه قول الحق -تبارك وتعالى- في كتابه: ? قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ? [السجدة: 11]؛ والآية التي جاء فيها ذكر الموت بمعنى النوم: ? وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ? [الأنعام: 60]؛ يعني يبعثكم بعد ذلك في النهار، ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ? وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ?.
(6/7)
---(7/146)
يعني النهار ينتشر فيه الإنسان، تنتشر فيه الحيوانات، يتحرك بعد ذلك فيه الكون، وأيضًا هذه الآية تشير إلى نعمة عظيمة من نعم الله -تبارك وتعالى- على عباده، فالإنسان والحيوان وسائر ما خلق الله -عز وجل- مما يتحرك يحتاج إلى ليل يهدأ فيه وإلى نهار يتحرك فيه، ومن خلاله؛ ولذلك كان لابد للكائنات الحية من ظلام وليل ونهار يتحركون فيه، كي يراوحوا في ذلك بين نومهم وبين يقظتهم وبين راحتهم وبين كسبهم وعملهم، وكل ذلك من فضل الله على العباد، وهو مِنَّة منْه -سبحانه وتعالى- عليهم؛ ولذلك صدق الله في قوله: ? وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ? [الإسراء: 12]؛لماذا؟ قال: ? لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ? [الإسراء: 12]؛ هذه فوائد عظيمة جعلها رب العالمين -سبحانه- لنا بجعله: ? اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ?.
(6/8)
---(7/147)
ثم يشير بعد ذلك إلى آمر آخر يدل على عظمته وكمال قدرته ونعمه المتوافرة التي لا تحصى ولا تعد على عباده، ومن ذلك قوله: ? وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ?؛ تستمر الآيات؛ لتبين قدرة رب العالمين -كما ذكرت- ومن ذلك: إرسال الرياح مبشرات: أي مجيء السحاب بعد الرياح، ولاشك أن الرياح أنواع: منها ما يُسير السحاب، ومنها ما يحمله، ومنها ما يسوقه، ومنها ما يكون بين يدي المطر، فالرياح تحرك السحاب وتسيره هنا وهناك بأمر الملك العلام -سبحانه وتعالى- ويتم لك ذلك برحمة رب العالمين -سبحانه وتعالى-؛ لأن المطر الذي ينزل من السماء رحمة من الله -عز وجل- على عباده، وهو الذي يقول: ? وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ? [الشورى: 28]؛ فسمى نشر ونزول المطر من السماء سماه: بشرىً لرحمة الله -تبارك وتعالى- على عباده، وهو حقًا كذلك وفي هذا يقول: ? فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ? [الروم: 50].
فسوق رب العالمين -سبحانه وتعالى- للرياح بشرى بين يدي رحمته ونعني بذلك الماء الذي ينزل من السماء؛ ولذلك ختم هذه الآية بقوله: ? وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ?؛ والطهور اسم لما يتطهر به، ولا شك أن الماء نعمة عظيمة جدًا من نعم الله -تبارك وتعالى- على عباده، وستأتي إشارة إلى شيء من ذلك بعد قليل أيضًا -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
(6/9)
---(7/148)
ثم ذكر -سبحانه وتعالى- شيئًا من فوائد هذا الماء فقال: ? لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ?؛ بدأ رب العالمين -سبحانه وتعالى- فذكر بعض فوائد هذا الماء، ومن أولها: أنه يحي به البلدة الميتة. وهل يمكن أن تكون هناك بلاد ميتة، العرب يذكرون في بلاد غير العامرة أنها بلاد ميتة؛ ولذلك نحن عندنا باب من أبواب الفقه الذي هي باب الأرض الموات، باب إحياء الأرض بعد موتها، وأن من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وهذا باب معروف من أبواب الفقه، فالعرب يذكرون عن البلد غير العامرة بالمياه والأمطار، والخالية من السكان لعدم وجود وسائل الحياة هناك أنها أرض ميتة فأشار رب العالمين، أولًا إلى فائدة عظيمة من فوائد المطر النازل من السماء ألا وهو أحياء الأرض بعد موتها.
ثم أشار -سبحانه وتعالى-: ? وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا ?؛ أن هذا الماء تشرب منه دواب الأرض وسائر ما خلق رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولا حياة لهذه الكائنات الحية إلا بالماء، وقد قال ربنا -سبحانه-: ? وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ? [الأنبياء: 30].
(6/10)
---(7/149)
ثم أشار إلى أن الأنعام كما أنها تستفيد وتشرب من الماء كذلك أيضًا الإنسان يستفيد ويشرب من الماء، والله -عز وجل- قد ذكر الإنسان مؤخرًا عن إحياء الأرض وسقي الأنعام قال: ? لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ?؛ فأخر ذكر الإنسان عما قبله لماذا؟ قال لأن الله -عز وجل- أراد أن يشير للإنسان أولًا إلى ما هو سبب حياته الذي تفضل رب العالمين -سبحانه وتعالى- به؛ ليكون في هذا أكثر انتباهًا، وأوعى لذهنه، وأجمع لقلبه وفكره، للتأمل، فالله -عز وجل- حينما يحي الأرض بعد موتها بالنبات للإنسان ثم يسخر له الأنعام التي تشرب أيضا من الماء وتأكل من نبات الأرض الذي يخرج نتيجة هذا الماء يذكر ربنا -سبحانه وتعالى- بعد ذلك الإنسان؛ ليبين له أنه تفضل عليه كما جعل هذه الأشياء المذكورة سابقًا لهذا الإنسان وقد خلقها ربنا -سبحانه وتعالى- وسخرها لهذا الإنسان، كل ذلك ليتأمل العباد في أن الله هو الخالق القادر المنعم المتفضل، وينتقلون بعد ذلك إلى وجوب عبادته وحده دون سواه.
ثم يقول -سبحانه-: ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ?
الدليل في "ولقد صرفناه" يعود على الماء، للمطر النازل من السماء، البعض قد أغرب وقال يعود إلى القرآن المذكور سابقًا، ولكن الراجح أنه يعود إلى أقرب مذكور وهذا عليه جمهور المفسرين، أنه يعود إلى الماء: ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ?؛ طيب، إذا كان الضمير يعود على الماء فما معنى الكلمة إذن؟ أن الله -عز وجل- ينزل المطر على أرض دون أرض وينزل الماء على قوم دون آخرين؛ ولذلك قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من أهل العلم: "ليس هناك عام بأكثر من عام في المطر ولكن الله -عز وجل- ينزله على قوم ويمنعه عن آخرين" وهذا هو المراد بقوله: ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ?.(7/150)
(6/11)
---
وفعل ذلك كي يتذكر الإنسان، فيعلم أن كل ذلك بأمر الله -عز وجل- وقضائه وقدره، فيدعوه هذا إلى أن يعود إلى ربه ومولاه، فيعبد هذا الإله الخالق الذي فعل به هذه الأشياء وأنزل عليه هذا المطر النازل من السماء، ولكن الأمر كما قال رب العالمين -سبحانه-: ? فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ?؛ يعني أن الله -عز وجل- فعل بالعباد ذلك، وصرف بينهم المطر وهم يشاهدون ذلك بأعينهم، وكان الأجدر والأولى بهم عندئذ أن يعبدوا جميعًا ربهم وخالقهم، ولكن بعضهم أبى إلا الكفر والتكذيب والعناد والصد عن سبيل الله -تبارك وتعالى-؛ ولذلك خطب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذات يوم أصحابه على إثر سماء أصابتهم من الليل -يعني مطر من السماء في الليل- فقال لهم -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي) رب العالمين -سبحانه- يقول: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي.
(6/12)
---(7/151)
أما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالنجوم، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالنجوم، وهذا الحديث يفسر قول الله -تبارك وتعالى-: ? فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ?؛ حينما نسبوا الرزق النازل من السماء أو الخارج من الأرض إلى غير رب العالمين -سبحانه وتعالى- والله -عز وجل- سمى المطر الذي ينزل من السماء على عباده سماه رب العالمين -سبحانه وتعالى- رزقًا؛ فقال جل ذكره: ? وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ? [الواقعة: 82]؛ وذكر أهل العلم رزقهم هنا ما ينزله رب العالمين -سبحانه وتعالى- عليهم من الخزائن الملأى التي لا تنفذ، ومنهم قول الله -تبارك وتعالى-: ? وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ? [غافر: 13]؛ ثم يقول -سبحانه-: ? وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا ?51? فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ?.
(6/13)
---(7/152)
هذه الآية كما أشار الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- فيها إشادة عظيمة وتكريم وتشريف للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأن في هذه الآية لو تأملناها إشارة إلى اصطفاء الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأن الله يقول: لو شاء رب العالمين -سبحانه وتعالى- بقدرته ما أرسل في كل طائفة من الناس وأمة من الناس رسولًا كما كان يرسل في السابق، ولكن شاء رب العالمين -سبحانه وتعالى- أن يصطفي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- برسالة خاتمة ويواجه بهذه الرسالة الخاتمة جميع الأمم وجميع البشرية -صلوات الله وسلامه عليه- وهذا فيه تكريم عظيم للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وفيه تشريف، وفيه تحميم له بالنبوة والرسالة؛ ولذلك هو -صلى الله عليه وسلم- فهم ذلك، وقال -كما نقل القرآن وذكر القرآن عنه-: ? وَأُوحِي إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ ? [الأنعام: 19]؛ وهذا يؤكد ويفسر معنى قول الحق -تبارك وتعالى-: ? فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ?.
(6/14)
---(7/153)
وحقًا كان -صلى الله عليه وآله وسلم- لا يطيع الكافرين، وكان يجاهد في سبيل رب العالمين أعظم جهاد وخير جهاد -صلوات الله وسلامه عليه- وقد قال له ربه في كتابه: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ? [التوبة: 73]؛ كما خاطب عموم أهل الإيمان بذلك: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ? [التوبة: 123]؛ وقد يقول قائل: قول الله تعالى: ? فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ?؛ هل يستفاد منه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يمكن أن يطيع الكافرين؟ نقول: لا..، ولكن هذا تشريع رب العالمين أراد أن ينهى النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- كي تسلك أمته مسلك نبيهم -صلى الله عليه وآله وسلم-، فالنهي وإن كان للنبي -عليه الصلاة والسلام- إلا أنه يراد به من هو دون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأنه يستحيل نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- أحدًا من الكافرين، وقد قال الله تعالى له: ?لاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ?10? هَمَّازٍ مَّشَّاءِ بِنَمِيمٍ? [القلم: 10- 11].
والله -عز وجل- في هذه الآية يبين أنه لو شاء لخفف عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أعباء الرسالة، ولكن اقتضت حكمة رب العالمين -سبحانه وتعالى- أن يصطفي هذا النبي المختار المبعوث من ولد عدنان -صلوات الله وسلامه عليه-؛ كي يقوم بهذه الرسالة العظيمة، وهي أن بشيرًا ونذيرًا لعموم العالمين كما سيأتي توضيح ذلك أيضا -إن شاء الله تبارك وتعالى- بعد قليل.
(6/15)
---(7/154)
ثم يقول -سبحانه-: ? وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ?؛ تستمر الآيات لتبين أيضًا بعض مظاهر قدرة رب العالمين -سبحانه وتعالى- في هذا الكون، وتشير هنا إلى البحرين، والمراد بالبحرين الماء العذب الفرات والملح الأجاج، رب العالمين -سبحانه وتعالى- يقول بأنه خلق الماءين الحلو كالأنهار والعيون والآبار لماذا؟ لتستفيد منه العباد وتستفيد منه الدواب والأنعام وكل من هو فيه كبد رطبة يتحرك يستفيد من هذا الماء الذي أودعه رب العالمين -سبحانه وتعالى- في الأنهار والآبار.
وكذلك أيضًا جعل هناك ملحًا أجاجًا جعل ماء مالحًا امتلأت معظم الكرة الأرضية، يعني نحن لو نظرنا الآن لوجدنا أن معظم الكرة الأرضية مليئة بالماء العذب الفرات أو بالماء الملح الأجاج؟
(6/16)
---(7/155)
بالملح الأجاج؛ فالبحار والمحيطات كلها من الملح الأجاج لماذا؟ لأن الملح الأجاج لا يفسد، ولا يتغير، ولا يصل إليه شيء من الفساد المعلوم فساد الطبيعة أو ما يوضع فيه من أشياء يمكن أن تلوثه بخلاف الماء العذب، والله -عز وجل- جعل هذه البحار بهذه الطريقة كي تبقى أبد الآباد إلى حياة البشرية، ولكي يستفيد الناس منها ألوانًا متعددة من الفوائد، تجري فيها الفلك، ونستخرج منها الأسماك، ونستخرج منها أيضًا بعض الجواهر التي أودعها رب العالمين -سبحانه وتعالى- فيها، كذلك أيضًا نستخرج منه الملح الذي نحتاج إليه في معظم شئون الحياة، ولما نحب نضرب مثل على دخول الشيء في كل شيء نضرب مثلًا بالملح لكثرة حاجة الناس إليه، وقد يقول قائل: والإنسان كيف يستفيد من هذا الماء المالح في طعامه وشرابه؟ لا يمكن أن يستفيد منه، يغفل أحيانًا بعض الناس عن خلق الله -عز وجل- لأمر آخر ألا وهو الشمس وتسليط أشعتها على هذه المحيطات والبحار، فيتدخل الماء ويصعد إلى طبقات الجو العليا أي ماء يتبخر في هذه الحالة؟
الماء العذب تاركًا الملح أسفل؛ ولذلك الذين يسكنون بجوار البحار والمحيطات يعملون بحيرات صغيرة يفتحون من المحيط أو من الماء المالح -البحر الكبير- قطعة يسيرة جدًا بجوار البحر فيضعوا فيها ماءً يخرجوا من البحر أو المحيط في بحيرة صغيرة، بعد شهر أو شهرين لما يأتي إلى هذه البحيرة الصغيرة يجد أنها جفت من الماء تبخر الماء ثم يجد بعد ذلك الملح أسفل يستفيد منه يتاجر فيه، أما الماء فقد تبخر إلى طبقات الجو العليا، ثم يعود بعد ذلك بفضل الله -تبارك وتعالى- وبإرسال الرياح المبشرات يسوقها هنا وهناك ويسوق السحاب هنا وهناك المحمل بالماء ثم يأمره بعد ذلك أن ينزل بفضله -سبحانه وتعالى- ورحمته.
(6/17)
---(7/156)
هنا منَّة كبيرة عظيمة من الله على عباده بهذين البحرين العذب الفرات والملح الأجاج، ثم يشير رب العالمين -سبحانه وتعالى- إلى أمر موجود بين الناس اليوم وهو أيضًا دليل عظيم على قدرة الله -تبارك وتعالى- وأيضًا في نفس الوقت كثير من الناس لا يستفيدون منه، وهذا هو المراد بقوله: ? وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ?.
معنى كلمة مرج ماذا تفيد؟ حتى يتبين لنا معنى الأخير؟ قيل مرج بمعنى أرسل، وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وقيل مرج بمعنى أرسل وهو صحيح وقيل مرج بمعنى خلط، وهذا هو المعني هنا؛ والمرج يأتي بمعنى الاختلاط ومنه قوله تعالى: ? فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ? [ق: 5]؛ يعني مختلط، فمرج هنا بمعنى خلط، ويكون معنى نهاية الآية ? وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ?؛ أنه لما خلط الماء العذب بالماء الملح في بعض الأماكن جعل بين البحرين حاجزًا؛ ليس حاجزا ملموسًا يراه الناس وإنما هو حاجز موجود بقدرة رب العالمين -سبحانه وتعالى- فلا يبغي الماء الفرات العذب على الماء الملح ولا الملح الأجاج على الماء العذب، وفي هذا يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى- منبهًا عباده إلى هذا الفضل في سورة الرحمن: ? مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ?19? بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ? [الرحمن: 19- 20]؛ يعني العذب مع الملح يلتقيان؛ وهذا موجود عندنا هنا في شمال مصر، عند المكان المعروف باللسان في منطقة رأس البر، ويوجد أيضًا في نهر السنغال الذي يختلط مع المحيط الأطلسي في نقطة واحدة، ومع هذا لا يبغي بعضهم على بعض، ولا يدخل الماء العذب في الماء المالح، ولا يجري الماء المالح في الماء العذب بقدرة الله -تبارك وتعالى- رغم التقائهما معًا؛ ولذلك ربنا -سبحانه وتعالى- استدل بهذه الآية العظيمة على وجوب عبادته وحده دون سواه، وفي ذلك يقول: ? أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا(7/157)
(6/18)
---
أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ? [النمل: 61].
ثم يبدو السياق الكريم في بيان قدرة رب العالمين -سبحانه وتعالى- فيقول: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا?؛ يريد -سبحانه وتعالى- أن يبين لعباده في هذه الآية أنه خلق الإنسان من نطفة ضعيفة، ولكن هذا الخلق أتى بعده أمر عظيم فجعل منه نسبًا وجعل منه صهرًا، نسبًا يعني ذو نسب فنحن نقول فلان بن فلان ينسب الولد إلى أبيه جعل إذن هناك نسب وجعل هناك أصهار أناس يصاهر بهن فيصبح الإنسان أصهار بذلك، كل ذلك أتى من أين؟ أتى من نطفة ضعيفة، من الماء المهين، فالله -عز وجل- يقول: انظر يا أيها العبد -الإنسان- من أين خُلقت وأطوار خلقك ومن أين وصلت ومن الذي فعل بك ذلك؟ لا يملك الإنسان إلا أن يقول من؟ رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولذلك يختم ربنا هذه الآيات الدالة على تمام القدرة بقوله: ? وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ?، وفي هذا لفت لنظر الإنسان إلى تمام قدرة رب العالمين -سبحانه وتعالى- الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
(6/19)
---(7/158)
المحور الثاني في هذا اللقاء: جهل المشركين في عبادتهم لغير الله، وبعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إليهم؛ وفي ذلك يقول -سبحانه-: ? وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ?؛ يخبر رب العالمين عن جهل المشركين في عبادتهم لغير الله -تبارك وتعالى- من الأصنام التي لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، ولكنهم عبدوهم إتباعًا للهوى واتخذوا لله الأنداد دون أن تكون لديهم حجة، أن يكون عندهم دليل أو برهان؛ ولذلك رب العالمين قال: ? وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ? والظهير بمعنى المعين، وقد جاء هذا في قول الله تعالى: ? وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ? [التحريم: 4]؛ فالظهير بمعنى المعين، ومعنى الآية إذن بناءً على ذلك، أن الكافر معينًا للشيطان وحزبه من الكفرة على عداوة الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ? وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ?.
فالكافر يقاتل ويعادي ويجمع المجرمين؛ لمحاربة دين رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولكن يجب أن يعلم الجميع أن الدنيا بأسرها لو اجتمعت على أن تقف أمام رب العالمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، فالكافر وإن جمَّع الجيوش وعد العدة لحرب دين الله -تبارك وتعالى- ولمواجهة أنبياء الله ورسله ولأتباع الأنبياء والمرسلين فليعلم أنهم في النهاية سينقطعون، وأن الغني الكبير المتعال هو رب العالمين -سبحانه وتعالى- يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد، فكيف يمكن لضعيف مسكين فقير أن يواجه الغني الكبير المتعال جل في علاه؟!!
(6/20)
---(7/159)
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ? عود هنا للسياق مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والكاف حرف خطاب، وما أرسلناك أنت يا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا مبشرًا ونذيرًا، مبشرًا للمؤمنين بالجنان ولما أعده لهم ربهم -سبحانه وتعالى- ومنذرًا للكافرين بعذاب رب العالمين -سبحانه وتعالى- الأليم، والله -عز وجل- قد ذكر ذلك في كتابه عن نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- في مواطن متعددة، ومنها ما جاء في أوائل سورة الكهف: ? قَيِّمًا لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ? [الكهف: 2]؛ وقال الله -عز وجل- له كما في نهاية سورة مريم: ? فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ? [مريم: 97]؛ ولا ينافي ذلك يعني لا ينافي قولي بأن البشرى للمؤمنين والإنذار للكافرين، هذا لا يتنافى مع قول الله -تبارك وتعالى- في قصره الإنذار على المؤمنين كما في سورة يس: ? إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ? [يس: 11].
الآية التي معنا، والآيات التي قرأتها، بينت فيها أن البشرى لأهل الإيمان والإنذار للكافرين والمشركين -والإنذار هو الإعلام بالتخويف- فكيف قصر رب العالمين -سبحانه وتعالى- في سورة يس الإنذار على المؤمنين؟ يعني جعل الإنذار فقط على المؤمنين: ? إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ?؛ والذين يتبعون الذكر ويخشون الرحمن بالغيب هم أهل الإيمان، والله قصر الإنذار عليهم؟
(6/21)
---(7/160)
الجواب، أن الإنذار في الأصل للمشركين والكافرين، ولكنهم لما لم يستفيدوا منه، فكأنه لم يكن لهم بحال، هم الذين قصروا في الاستفادة، ولما لم يستفيدوا منه فكأن الإنذار لم يأت إليهم، وإنما الذي استفاد من الإنذار هم أهل الإيمان حتى لا يقع في الذنوب والعصيان؛ ولعل هذا واضح بحمد الله -تبارك وتعالى-.
ثم يقول رب العالمين ويجعل هذا القول في سياق الكلام عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والإشادة بمكانته، والإعلاء من شأنه صلوات الله وسلامه عليه: ? قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ?.
يقول الله -عز وجل- للنبي -صلى الله عليه وسلم- قل لهؤلاء الناس، أخبرهم، أعلمهم أنك لا تطلب منهم شيئًا وراء تبليغك إياهم الرسالة، ولا تريد منهم مالًا ولا جاهًا ولا سلطانًا، والله -عز وجل- قد أعلم نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يقول لهم ذلك في أكثر من موطن، وكذلك كقوله: ? قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ? [ص: 86]؛ والله -عز وجل- بصيغة الاستفهام الإنكاري التوبيخي يقول لهؤلاء : ? أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ? [الطور: 40]؛ يعني هل أنت يا نبي الله -صلى الله عليه وآله وسلم- تسألهم مالًا على البلاغ فهم يستثقلوا القبول من أجل ما تطلب منهم؟ نبي هذه الأمة وسائر الأنبياء والمرسلين كانوا لا يطلبون أجرًا على دعوتهم الناس إلى الله -تبارك وتعالى- لا يريدون مالًا ولا يريدون جاهًا ولا يريدون سلطانًا ولا غير ذلك، ومن المعلوم أن المشركين عرضوا على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كل ذلك، عرضوا عليه المال وعرضوا عليه الجاه، وعرضوا عليه السلطان، أرادوا أن يسودوه عليهم، ولكنه رفض كل ذلك -صلى الله عليه وآله وسلم- لأنه يكفيه شرفًا وفخرًا أنه رسول رب العالمين.
(6/22)
---(7/161)
أنه مصطفًى من قبل الله -عز وجل- كي يبلغ رسالة ربه إلى الناس، وكذلك هنا يقول: ? قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ?؛ ما معنى الآية؟ فمعنى قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء؟ يعني أنا أدعوكم إلى الله -عز وجل- رغبة في أن تختاروا السبيل والطريق الموصل إلى الله -تبارك وتعالى- كل ما أطلبه منكم وأرجوه منكم وأسألكم إياه أن تسلكوا سبيلًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد أن وضح الله السبيل للإنسان تركه بعد ذلك أمام باب الحرية والاختيار: ? فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ? [المزمل: 19]؛ بعد أن بين الله طريق الخير من الشر والهدى من الضلال كما قال -سبحانه-: ? وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ? [البلد: 10]؛ ترك للإنسان بعد أن يختار هو، والمؤمن يسلك طريق الله -عز وجل- والكافر يسلك طرق أهل الغواية والضلال.
ثم بعد ذلك، نأتي إلى المحور الثالث والأخير في هذا اللقاء وهو بعنوان: قصر التوكل على الله مع ذكر بعض صفات الجلال والكمال لله -تبارك وتعالى- ففي ذلك يقول رب العالمين: ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ?؛ ما أجمل كتاب الله -عز وجل- وما أجمل مثل هذه الآيات الكريمة التي يتحدث فيها رب العالمين -سبحانه وتعالى- عن نفسه ويثني عليها بعد أن يأمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والأمر له أمر له ولأمته بأن يفردوا رب العالمين -سبحانه وتعالى- بالتوكل وحده دون سواه، ويذكر من الدلائل الداعية إلى ذلك والمؤيدة لأن التوكل لا يكون على الله وحده دون سواه حينما يقول: ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ?؛ فالذي يتوكل عليه وحده ويستحق أن يتوكل عليه وحده هو الذي ? لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ? [البقرة: 255].
(6/23)
---(7/162)
إذا احتجت إلى أمر أو وقعت في أمر وجدت رب العالمين -سبحانه وتعالى- والتوكل في أمر معناه إسناد الأمر بعد اتخاذ الأسباب الصحيحة إلى رب العالمين -سبحانه وتعالى- وسيأتي حديث في آخر سورة الشعراء -إن شاء الله تبارك وتعالى- عن أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يتوكل على الله -عز وجل- والله -عز وجل- لما ذكر التوكل عليه وحده ذكر المبررات الدافعة إلى مثل ذلك حتى تنقطع الأعذار، وأذكر لكم مثلًا بعض الآيات التي جاء بها التي جاء فيها الأمر بالتوكل للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكيف قرر رب العالمين -سبحانه وتعالى- هذه الآيات بشيء من دلائل وقدرته وعظمته التي بها يستحق أن يتوكل عليه وحده قال مثلًا: ? رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ? [المزمل: 9]؛ يعني إذا كان رب المشرق والمغرب -سبحانه وتعالى- رب المشارق والمغارب -كما في بعض الآيات- فهو الملك، فكيف لا يتوكل الإنسان على من له الدنيا والآخرة؟ وهنا يذكر أنه الحي الذي لا يموت وغيره يفنى، لا يبقى إلا رب العالمين سبحانه فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهذا من أخص أسماء الله -تبارك وتعالى- التي مدح بها ربنا -سبحانه وتعالى- نفسه، ثم اثني على نفسه: ? وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ?؛ لعلكم تلاحظون وتدركون في كثير من آيات القرآن الكريم أن التسبيح قورن مع التحميد في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- التسبيح معناه التنزيه والتقديس، والتحميد هو الثناء على الله بما هو أهله، وإذا فعل الإنسان ذلك يكون قد أتى بأمرين عظيمين:
الأمر الأول: تنزيه رب العالمين -سبحانه وتعالى- وتقديسه عن ما لا يليق به.
والأمر الثاني: الثناء عليه بما هو أهله -سبحانه وتعالى-؛ ولذلك كان من أحب الكلمات الله -عز وجل- التسبيح المقرون بالتحميد، آخر حديث ختم الإمام البخاري -رحمه الله تبارك وتعالى- صحيحه ما هو؟
(6/24)
---(7/163)
(كلمتان خفيفتان على اللسان).
(كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)؛ ولما نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- قول الله -عز وجل-: ? فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ? [النصر: 3]؛ قالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح ما كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يدع هذه الكلمات في صلاته لما أنزلت عليه، فكان يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك؛ وختام كل مجلس من السنة أن يقول فيه الإنسان: "سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك" وهكذا قورن التسبيح مع التحميد كثيرًا في كتاب الله وفي هدي رسول الله، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قال: ? وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ?؛ -سبحانه وتعالى- الخبير هو الذي يعلم دقائق الأمور، والذي يعلم دقائق الأمور ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، هو علام الغيوب -سبحانه وتعالى- فهو الخبير يعني العليم بدقائق الأمور -سبحانه وتعالى- لا تخفى عليه خافية، ويكفي أن نتأمل قوله: ? وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ? [ق: 16]؛ يعن خطرات نفسك يعلمها رب العالمين من يعلمها غيره؟ واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، لا يطلع على ذلك أحد سوى علام الغيوب -سبحانه- ثم يستمر السياق في ذكر أيضًا المدح لرب العالمين -سبحانه وتعالى- والثناء عليه وعلى قدرته التامة فيقول رب العالمين: ? الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ?.
(6/25)
---(7/164)
لضيق الوقت والمقام، تعلمون أن الله -عز وجل- خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولعنة الله على اليهود تترا إلى يوم الدين حينما استندوا في ذلك إلى قول لا يليق برب العالمين فقالوا بأن الله خلق السموات والأرض؛ لأنه يناله التعب إذا خلق ذلك دفعة واحدة؛ ولذلك تعب فاستراح في اليوم السابع، وهذا من عقائدهم الباطلة لعنهم الله إلى يوم الدين، وهنا يقول بعد ذلك: ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ?؛ وقد جاءت سبع آيات في كتاب الله -عز وجل- تفيد استواء الله على عرشه، وأهل السنة والجماعة يؤمنون أن رب العالمين استوي على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله دون تمثيل أو تعطيل جل في علاه، وهذا من تمام عظمة رب العالمين -سبحانه- فلا يليق برب العالمين أن يكون في السفل، وإنما هو في أعلى عليين، ومدح نفسه بذلك ربنا -سبحانه- في سبح آيات من كتابه ومنها هنا: ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ?؛ ونحن نؤمن وندين لله -عز وجل- بأن ربنا استوي استواء يليق بجلاله وكماله، لا نؤول ذلك ولا نعرف حقيقة ولا كنه ذلك؛ ولذلك ختم الآية بقوله: ? الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ? فإذا أردت أن تعرف الرحمن فاسأل به خبيرًا، قيل الخبير: النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لأنه أعلم الناس بالله لما أنزله عليه ربه، وإن أردت أيضًا أن تعرف من صفات الجلال والكمال فسأل القرآن الكريم الذي أنزله رب العالمين يخبرك عن ذلك.
(6/26)
---(7/165)
ثم نختتم هذا اللقاء بقول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ? رب العالمين -سبحانه وتعالى- هنا في هذا لآية الكريمة يقول: بأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا طلب من المشركين أن يسجدوا لرب العالمين -سبحانه وتعالى- ويسموه باسمه الرحمن -اسم من أسماء الله تبارك وتعالى- أنكروا هذا الاسم، ولم يؤمنوا به، واستعلوا واستكبروا عليه، وأظهروا الإنكار من باب الاستكبار -والعياذ بالله تبارك و تعالى- وقالوا: ? وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ?؛ يعني هل نسجد ونطيعك فيما تأمرنا به من أن نسجد إلى الرحمن؟ وزادهم هؤلاء نفورًا يعني استكبارًا فلا يسجدون للرحمن؛ ولذلك كانوا لا يؤمنون بهذا الاسم، كما كانوا أيضًا ينكرون بعض أسماء الله الحسنى، وفي صلح الحديبية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما أمر الكاتب أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم؛ قالوا لا...، إننا لا نعرف الرحمن ولا نعرف الرحيم، اكتب ما كان يكتب آبائك من قبل بسمك اللهم، وأنكروا اسم الله الرحمن، وفي هذا غباوة من هؤلاء المشركين وأهل الضلال، نعوذ بالله من طريقهم، ونسأل الله أن يجعلنا من الذين يثبتون أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بالنسبة لأسئلة الحلقة الماضية:
السؤال الأول: بأي شيء أهلك الله عادًا وثمود أيد ما تقول بدليل من القرآن؟
(6/27)
---(7/166)
وكانت الإجابة: أهلك الله عاد؛ قال الله تعالى: ? فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? [فصلت: 16]؛ وقال: ? فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ? [الحاقة: 6]؛ وقال: ? إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ? 19? تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ? [القمر: 19- 20]؛ وأما ثمود فأهلكوا بالطاغية: وقال تعالى: ? فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ? [فصلت: 17].
والسؤال الثاني: اشرح باختصار قول الله -عز وجل-: ? أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ? [الفرقان: 43]؟
يقول الإجابة: أن يعبد المكلف الله -سبحانه- بما يليق به
يعني أنه هؤلاء المشركين الآية تشير إلى أن هؤلاء المشركين عبدوا غير الله -تبارك وتعالى- وقد اتبعوا في ذلك أهوائهم، والمفروض هو عبادة الله -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه، وترك إتباع الهوى والشيطان وغير ذلك مما يصد عن عبادة الرحمن -سبحانه وتعالى-.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة:
السؤال الأول: على أي شيء يعود الضمير في قوله تعالى: ? ثُمَّ قَبَضْنَاهُ ?، وما المراد باليسير ? يَسِيرًا ? في الآية؟ وما المنافع التي تعود على العباد في ذلك؟
والسؤال الثاني: اذكر من القرآن الكريم ما يدل على أن البشرى للمؤمنين؟ والإنذار للكافرين؟ ولماذا قصر الإنذار على المؤمنين في سورة يس؟
(6/28)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس السابع : ختام الآيات الواردة في سورة الفرقان
الدرس السابع
ختام الآيات الواردة في سورة الفرقان(7/167)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علنيا فنضل. اللهم إنا نعوذ بك أن نضِل أو نُضل، أو نذِل أو نُذل، أو أن نظِلم أو نُظلم، أو أن نجهل أو يُجهل علينا.
أما بعد: يسرنا أن نلتقي كما ذكرت، وأشرت مجددًا مع تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- ودرسنا في هذا اللقاء -إن شاء الله تبارك وتعالى- في كتاب الآيات الواردة في سورة الفرقان، ويدور الحديث في هذا اللقاء حول ثلاثة محاور:
المحور الأول: تمجيد الله لنفسه لجميل ما خلق في كونه.
المحور الثاني: صفات عباد الرحمن كما وردت في سورة الفرقان.
المحور الثالث: النعيم المقيم في الدار الآخرة لعباد الله المتقين.
ولنستمع إلى آيات اللقاء مع الأستاذ عبد الرحمن فليتفضل.
(7/1)
---(7/168)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ? تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ?61? وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَّذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ?62? وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ?63? وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ?64? وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ?65? إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ?66? وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ?67? وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ?68? يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ?69? إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ?70? وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتابًا ?71? وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ?72? وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ?73? وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ?74? أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا ?75? خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا(7/169)
(7/2)
---
وَمُقَامًا ?76? قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ? [الفرقان: 61 - 77].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد:
المحور الأول بعنوان: تمجيد الله لنفسه لجميل ما خلق في كونه.
وتحته هذه الآيات: ? تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ? الله -تبارك وتعالى- كما أشرت في اللقاء السابق ذكر نفور المشركين عن السجود له -تبارك وتعالى- فأراد هنا أن ينبه إلى أن السجود لله -عز وجل- لو عقلوا وتأملوا تفكروا لأذعنوا وسجدوا للرحمن كما أمرهم ربهم -سبحانه وتعالى- وقد ذكرت هذه الآية والآية التي تليها بعض الدلائل والبراهين على أن رب العالمين -سبحانه وتعالى- يستحق التعظيم والإجلال؛ وبالتالي يسجد العباد له -سبحانه وتعالى- ومن ذلك ما أشار إليه في هذه الآية في قوله: ? تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ?؛ وكلمة تبارك مرت معنا في أول السورة، وفي أيضا الربع الأول منها بعد ذلك، وتجد مرة أخرى هنا وقد أشرت فيما مضى إلى أن معناها تعالى وتعاظم وتقدس رب العالمين، وهي تدل على كثرة الخيرات والبركات من الله -تبارك وتعالى- وذلك يستلزم تعظيمه -سبحانه وتعالى-. ? تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ? البروج في اللغة هي القصور العالية ومعناها في الآية الكواكب العظام، وقد ذكر الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- ذلك عن مجاهد وعن سعيد بن جبير وعن قتادة -رحمه الله تبارك وتعالى- ذكر أن المراد بالبروج هنا الكواكب العظام عن هؤلاء وغيرهم، وقيل بأن المراد بالبروج هنا: قصور في السماء للحرس، وقد رجح الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله(7/170)
تبارك
(7/3)
---
وتعالى- الأول؛ وبالنظر -أيها الإخوة الكرام- يمكننا أن نقول بأن هذه البروج هي كواكب عظيمة وهي أيضًا في نفس الوقت فيها قصور يحرس ربنا -سبحانه وتعالى- بالكواكب السماء من أن يصعد إليها هؤلاء الشياطين الذين يحاولون أن يسترقوا السمع، فهي أيضًا إلى جانب أنها كواكب عظيمة أيضًا قصور للحرس بما فيها من كواكب سيارة ونجوم أودعها رب العالمين -سبحانه وتعالى- في هذا الكون لتكون رجومًا للشياطين.
وقد أشار رب العالمين -سبحانه وتعالى- إلى ذلك في قوله: ? وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ ? [الملك: 5]؛ فجعل هذه المصابيح رجومًا أيضًا للشياطين.
ثم قال -سبحانه وتعالى-: ? وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ?؛ المراد بالسراج الشمس كما قال رب العالمين -سبحانه وتعالى- عنها: ? وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ? [النبأ: 13]؛ والقمر المنير الذي نراه في السماء وهو مكتمل أحيانًا وهو حقًا يضيء، ورب العالمين -سبحانه وتعالى- أشار إلى ذلك في قوله: ? هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ? [يونس: 5]؛ وهذه الآية كما أشرت لو نظر إليها الناظرون وتأمل فيها المتأملون الذين دُعوا إلى السجود إلى الرحمن -سبحانه وتعالى- لأدركوا أن خالق هذا الكون هو رب العالمين -سبحانه- والذي أودع هذه الكواكب العظيمة في السماء هو الله -عز وجل- والذي ينظم أمر هذا الكون هو رب العالمين -سبحانه- وبالتالي نقول لهم بأنه -سبحانه وتعالى- يستحق وحده التعظيم والتقديس.
(7/4)
---(7/171)
ثم تستمر الآيات في بيان هذا الأمر والدلالة عليه، فيقول رب العالمين: ? وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَّذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ? وهو وحده -سبحانه وتعالى- هو الذي جعل الليل والنهار خلفة، ومعنى خلفة: يعني يخلف بعضهم بعضًا، يخلف الواحد منهم الآخر، فإذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب ذاك؛ فهم يتعاقبان لا يفتران، كما قال رب العالمين: ? وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ? [إبراهيم: 33].
وقال -سبحانه-: ? يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ? [الأعراف: 54] وهي أيضًا تمشي في السياق الثناء الكريم على رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
والله -عز وجل- يقول أيضا: ? لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ? [يس: 40].
فالله -عز وجل- جعل الليل والنهار خلفة، ولنا أن نتساءل: لماذا جعل رب العالمين -سبحانه وتعالى- الليل والنهار خلفة؟
أجابت الآيات: ? لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَّذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ? ومعنى ذلك: أن المتأمل في هذا الكون، والذي يشاهد هذا الملكوت، وأن الشمس تشرق كل يوم من المشرق وتغيب في المغرب، وأن الليل ويولج في النهار وأن النهار يولج في الليل، وقد أشارت الآيات فيما مضى إلى شيء من هذا وقد تحدثت عنه أيضا فيما مضى ولكني أود أن ألفت النظر إلى أن الإنسان لو تأمل في ذلك لعرف عظمة رب العالمين -سبحانه وتعالى- وانتقل من كل ذلك إلى وجوب إفراد الله -سبحانه وتعالى- بالوحدانية والعبادة؛ لأنه الذي فعل ذلك؛ ولأنه وحده هو الذي يستحق أن يعبد دون سواه.
(7/5)
---(7/172)
وقيل أيضًا: ? لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَّذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ? أن تعاقب الليل والنهار يدفع الإنسان إذا قصر في عمل الليل أن يستدركه في النهار، وإن قصر في عمل النهار أن يستدرك ذلك في الليل، وفي الحديث أن رب العزة والجلال كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عنه: (يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل).
فجعل الله -عز وجل- الليل والنهار خلفة، وفي هذا مصلحة للعباد، فالعبد يعبد ربه في الليل وفي النهار، وإذا فرط في الليل جاءه النهار فاجتهد فيه، وإذا قصر في النهار جاء الليل فاستدرك ما فات من عمل من النهار فيه، وهكذا حتى يعبد ربه -سبحانه وتعالى- عبادة يمكن من خلالها أن ينال جنة النعيم والفوز بالدار الآخرة عند الوقوف بين يدي رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
المحور الثاني في هذا اللقاء: صفات عباد الرحمن كما وردت في سورة الفرقان:
أشرت في أول السورة إلى أن هذه السورة تحدث ربنا -سبحانه وتعالى- فيها عن وحدانيته -عز وجل- تكلم فيها عن التوحيد، وأشار فيها إلى بعض مظاهر الربوبية وإلى وجود إفراده في العبادة وحده دون سواه، كما تحدثت عن إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وردت على شبه المنكرين والمكذبين بنبوة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأيضًا بالقرآن الكريم، وذكرت أيضًا بأن هذه السورة اشتملت على صفات عباد الرحمن، وقد ذكرت هذه الآيات التي هي في ختام سورة الفرقان، ذكرت تسع صفات بالتحديد لعباد الله - تبارك وتعالى- المؤمنين الطائعين الصفة الأولى والثانية: وردت في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ? قبل أن أذكر الصفة الأولى والثانية أقول بأن الله -عز وجل- هنا قال: وعباد الرحمن فوصفهم بالعبودية وصف من؟
(7/6)
---(7/173)
وصف المشتغلين بالعبودية: بالعبودية، وفي هذا إشارة إلى أن أخص صفات المؤمنين الموحدين، وأعظم صفاتهم أنهم عباد لله -تبارك وتعالى- كم يشعر الإنسان بعزة أن يكون عبدًا لله -عز وجل- كم يكون الإنسان مرفوع القامة عزيز النفس أبي الطبع عندما يشعر بأنه يذل نفسه إلى الله -تبارك وتعالى- فيعزه ربه -سبحانه وتعالى- ومولاه، وأيضًا نلاحظ هنا أن الله -عز وجل- أضاف هؤلاء العباد إلى نفسه فقال: ? وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ?؛ كنت لا أود أن أقف عند هذا، وهذه مسألة عقدية؛ لأن بعض الجاهلين حينما يضيف رب العزة والجلال في كتابه شيئًا إلى نفسه يظنون أن الله -عز وجل- ذو أبعاض وأجزاء وأنه يحل في المخلوقات، وهذا كلام باطل؛ لأنهم لم يفقهوا أسلوب القرآن الكريم، هنا رب العالمين -سبحانه وتعالى- أضاف العبادة إلى نفسه فهل هؤلاء العباد يعني يمكن أن نعتبرهم أجزاء من الله -تبارك وتعالى؟ حاشا وكلا.
الجواب على ذلك أن نقول: المضاف إلى الله -تبارك وتعالى- نوعان، ما يضاف إلى الله -عز وجل- نوعان:
- إضافة معانٍ.
- إضافة أعيان.
المعاني: هي الأمور التي تقوم بغيرها، الذي يعبر عنها في علم الكلام بالعرض، لكن المعاني أمور تقوم بغيرها هذه المعاني إذا أضافها ربنا -سبحانه وتعالى- فهي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وتكون هذه المعاني ألا وهي الصفات قائمة بالموصوف ألا وهو رب العالمين -سبحانه وتعالى- فإضافة المعاني إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، أقول: الله هو الرحمن الرحيم، الله يتصف بصفة الرحمة، فصفة الرحمة هنا تضاف إلى الله -عز وجل- من باب إضافة الصفة للموصوف، والصفات مع الذات هي لرب العالمين -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه هذه بالنسبة إلى إضافة المعاني إلى الله -عز وجل-.
(7/7)
---(7/174)
النوع الثاني من الإضافة: إضافة الأعيان: الأعيان نعرفها: هي الأشياء القائمة بنفسها، المعاني تقوم بغيرها كصفات الله -عز وجل- تقوم بذات الله -تبارك وتعالى-، الأعيان منفصلة عن الذات؛ لأنها تقوم بنفسها، الله -عز وجل- كما أضاف المعاني إلى نفسه ألا وهي صفاته -تبارك وتعالى- أضاف أيضًا بعض الأعيان القائمة بنفسها إلى نفسه؛ هل هذه الإضافة تقتضي أن هذه الأعيان أجزاء لله تبارك وتعالى؟
حاشا وكلا؛ طيب لماذا أضافها إلى نفسه؟
أضافها إلى نفسه من باب التكريم والتشريف، رب العالمين حينما يقول: ?طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ? [الحج: 26]؛ فأضاف البيت إلى نفسه، هذه الإضافة تقتضي التكريم والتشريف، لما أضاف ناقة صالح إلى نفسه: ? نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا ? [الشمس: 13]؛ أضافها إلى نفسه ليست جزء ولا بعض من الله -عز وجل حاشا وكلا أن يمكن أن يذهب عقل إنسان عاقل إلى مثل ذلك، ولكن هذا من باب التكريم والتشريف وهنا شرف ربنا عباده الذين وصفهم بالعبودية بأن أضافهم إلى نفسه تكريمًا وتشريفًا لهم -سبحانه وتعالى- وبعد ذلك أدخل في الصفة الأولى: هي أنهم يمشون على الأرض هونا.
(7/8)
---(7/175)
يمشون على الأرض بسكينة وهيبة ووقار، وأفادت الآية أنه ليس عندهم شيء من الكذب أو الخيلاء أو التجبر، لا في أنفسهم شيء يقول بذلك ولا يحدث هذا أو يفعلوه أيضًا أمام الآخرين، يعني نفوسهم نقية لم يدخلها شيء من العجب بالنفس ولا الغرور ولا الخيلاء، ثم هم إذا مشوا أمام الناس مشوا بلين ورفق وهدوء، وهذه صفة جليلة كريمة، وصف بها ربنا -سبحانه وتعالى- عباده الذين هم: عِبَادُ الرَّحْمَنِ كما جاءت الآية ووصفتهم أو نسبتهم إلى رب العزة والجلال، وهي أنهم يمشون بسكينة ووقار على هذه الأرض، والله -عز وجل- قد مدح من يفعل ذلك كما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا ? [لقمان: 18]؛ وهذا تكليف رباني من رب العالمين -سبحانه وتعالى- لعباده وأوليائه، ولا يعني ذلك أن يمشي الإنسان كالمريض على الأرض، فهذا أيضًا مخالف لسمت المسلمين، فقد جاء في السنن عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: أنه كان إذا مشى كأنه يتحدر من مكان عال -صلوات الله وسلامه عليه- يعني يمشي مشية فيها قوة، وفيها نشاط، وبها حيوية، فالتصنع والإنسان يتصنع في مشيته ويظهر أنه لون من ألوان الضعف، ويظن بعض ذلك أن هذا أمر مدحه الله -عز وجل- وهو أنه يمشي على الأرض هونًا؟ ليس كذلك، وإنما لا يمشي بلا بطر ولا خيلاء ولا تعالٍ على عباد الله -عز وجل- وإن كان المطلوب منه أن يمشي في قوة وهيبة وأيضًا وعظمة أمام الناس حتى لا يشعر أحدًا أن أهل الإيمان عندهم أي لون من ألوان الذلة بحال، هذه هي الصفة الأولى التي وصف ربنا -سبحانه وتعالى- بها عباد الرحمن.
(7/9)
---(7/176)
الصفة الثانية: قال سبحانه: ? وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ?؛ يعني قابلوهم برفق، إذا أساء إليهم الجاهل، ومن من البشر اليوم لا يسيء إليه مخلوق، فكم من أناس يلقون أشد الأذى من الآخرين، ومع ذلك لا يقابلونهم بمثل أعمالهم؛ لأن أهل الإيمان لا يقابلون السيئة بالسيئة وإنما يقابلون السيئة بالحسنة؛ لأنهم تعلموا من كتاب ربهم ذلك، قال رب العالمين -سبحانه-: ? وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ? [فصلت: 34] ولو أن الناس جميعًا كانوا في السفاهة سواء هذا يجهل على هذا، وهذا يجهل على هذا، ويرد هذا على هذا، فمن سيكون المحسن إذن، ومن سيكون الفاضل إذن، ومن يكون القريب إلى ربه إذن، وهذه دعوة لعموم أهل الإيمان أن يتحلوا بالصبر وبالأخلاق الفاضلة في مقابلة السفهاء الذين يسيئون إليهم، والله -عز وجل- يقول عن أهل الإيمان: وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، هاتان الصفتان عظيمتان افتتح ربنا -سبحانه وتعالى- بهما صفات عباد الرحمن وجمعهما معًا في آية واحدة، وهي أنهم يمشون على الأرض هونًا بسكنية ووقار -كما ذكرت- ثم بعد ذلك إذا سفه عليهم أحد أو جهل عليهم جاهل لم يقابلوه بمثل فعله، وإنما قابلوه أيضًا برفقٍ ولينٍ وأعرضوا عنه، وقالوا سلامًا؛ لأنهم لا يودون الغوص مع الجاهلين ولا مجادلة المجرمين، وإنما يرتفعون بأنفسهم عن الوقوع مع صنف من هؤلاء الناس.
قيل "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا" يعني قالوا سدادًا وقيل: ? وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ? يعني قالوا معروفًا من القول.
(7/10)
---(7/177)
الصفة الثالثة من صفات عباد الرحمن: جاءت في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ? صدق ربي سبحانه، يمكنني أن أوجه جمهور المستمعين الآن إلى عظمة القرآن الكريم من خلال أيضًا لفتة في هذه الآية، تأملوا الترتيب الدقيق لصفات عباد الرحمن كما جاءت في كتاب الله -تبارك وتعالى- بعدما ذكر ربنا -عز وجل- الهيئة التي يكون عليها هؤلاء في النهار: وهي أنهم يمشون على الأرض هونًا، وإذا جهل عليهم أحد أثناء نهارهم ومعاشهم وتعاملهم وبيعهم وشرائهم قابلوه بالإحسان، ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- بعد ذلك حالهم في الليل بعدما ذكر حالهم في النهار، يعني الحال الجميل الذي زكاهم رب العالمين -سبحانه وتعالى- به، ذكر أيضًا حالهم في الليل فقال: ? وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ? وهذه سيرة عباد الله وأولياء عباد الله الصالحين أنهم كما قال ربنا -سبحانه وتعالى- عنهم: ? تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ? [السجدة: 16]؛ وكما قال رب العالمين أيضًا عنهم: ? أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ? [الزمر: 9]، هذه صفة جليلة من صفات عباد الرحمن، وهي أنهم يقومون بالليل لله -تبارك وتعالى- ساجدين راكعين خاشعين متضرعين لاجئين سائلين داعين رب العالمين -سبحانه وتعالى-، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يقوم الليل حتى تورمت من قيام الليل -صلوات الله وسلامه عليه- وهذا شأن عباد الرحمن، وهذه صفة جليلة عزت حقيقة مع أعباء الناس وأعمال الناس اليوم عزت كثيرًا في هذا الزمان، والسعيد من يقوم لربه -سبحانه وتعالى- بالليل يدعو ربه، وخاصة عندما ينزل رب العالمين -سبحانه وتعالى- في الثلث الأخير من الليل، وقد أشرت إلى ذلك قبل ذلك،(7/178)
(7/11)
---
وضيق المقام يحجزني أحيانًا أن أستطرد في بعض المعاني، ولكني أود أن ألفت نظركم وأذكركم وأذكر نفسي أيضًا بقيام الليل بالاتصاف بهذه الصفة الجليلة التي عليها عباد الرحمن: ? وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ?.
الصفة الرابعة من صفات عباد الرحمن: جاءت في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا?65? إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا? هذه الكلمات الرقيقة، هذه الدعوة الجميلة، هذا التلطف من العبد في خطابه لربه، وكأني أشعر بأن الذي يقول ذلك يشعر بالفقر الشديد والحاجة الملحة لربه ومولاه، فهؤلاء الذين اتصفوا بالصفات الثلاث السابقة، ماذا يكون حالهم بعد ذلك؟ هؤلاء في طاعة وعبادة، ومع كل ذلك يخافون ربهم ويسألونه -سبحانه وتعالى- يسألونه أن يقيهم عذاب جهنم، أن يصرف عنهم عذاب جهنم، ويذكرون لذلك سببين:
السبب الأول: ما هو جاء في هذه الآية؟ ? إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ?.
السبب الثاني: ? إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ?.
إن عذابها كان غرامًا: يعني شديدًا ملازمًا كما قال رب العالمين في عذاب الكافرين: ? وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ? [التوبة: 68].
? لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ? [الزخرف: 75] فنار الآخرة على الكافرين دائمة لا تنقطع أبدًا، فهم يقولون: ? إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ?؛ ولذلك توجهوا إلى الله مع عبوديتهم له، وطلبوا منه أن يصرف عنهم عذاب جهنم لهذا الأمر.
(7/12)
---(7/179)
والأمر الثاني: منظر النار، منظر جهنم، وسوء مقيل أهل النار في جهنم، وهذا عبر عنه بقولهم: ? إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ? فمنظرها يفزع منه الإنسان ومقام الإنسان فيها أيضًا شديد وصعب وهو عذاب أليم مقيم، وأدرك ذلك عباد الرحمن فدعوا ربهم -سبحانه وتعالى- بهذه الدعوة الطيبة، وقد يقول قائل: هل هؤلاء الذين يتصفون بهذه الصفات يخافون هذا الخوف؟ نعم يخافون هذا الخوف.
وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ? وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ? [المؤمنون: 60].
أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء الذين لا يفعلون ولا يفعلون يعني لا يصلون ولا يصومون ولا يتصدقون قال: (لا هؤلاء هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون، ولكن يخافون ألا يقبل الله منهم)، وهنا لفتة نفهمها من خلال هذه الآيات كما فهمها هؤلاء العباد، وهي أننا يجب أن نعتقد أن المصير إلى الله -عز وجل- وأن الذي يدفع العذاب عن العباد هو رب العالمين -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه، فأهل الطاعة هنا هم الذين توجهوا إلى الله -تبارك وتعالى- سألوه: ? رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ?65? إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ?، وهنا لفتة أخيرة في هذه الآية أشار إليها بعض أهل العلم، وهي أن هذه الآية لما جاءت بعد قول الله تعالى: ? وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ? نستفيد منها أن من دعواتهم لربهم أنهم يدعون الله -عز وجل- ويلحون في الدعاء أن يصرف عنهم عذاب جهنم، ولعل هذا من الدندنة التي كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يدندن حولها وهي أنه كان يسأل ربه الجنة ويستعيذ به من النار.
(7/13)
---(7/180)
الصفة الخامسة من صفات عباد الرحمن: جاءت في قول الله -تبارك وتعالى-: ? وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ? مدح الله -عز وجل- في هذه الآية هؤلاء المؤمنين بتوسطهم في إنفاقهم، فهم لا يتوسعون توسعًا مفتوحًا فيقعون في الإسراف والتبذير، ولا يبخلون ويقترون، فيقعون في التضييق، وإنما هم بين هذا وبين هذا؛ لأن طريقتهم تتسم بالوسطية والاعتدال، "إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما": يعني بين الإسراف وبين التقتير.
وقد لفتت هذه الآية بعض أهل العلم فذكروا بأن الاقتصاد موجود في الإسلام، وأن الشعوب إن أرادت أن تكون على اقتصاد سليم أن تسير على هذا النهج القرآني، فلا إسراف ولا تقتير، والوسط في كل شيء هو العدل الخيار الذي اثني عليه رب العالمين -سبحانه وتعالى- في كثير من الآيات، وخير الأمور أوسطها، حتى أصبح هذا مثلًا سائرًا بين الناس، ورب العالمين -سبحانه وتعالى- يخاطب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في كتابه، والخطاب له وخطاب لأمته فيقول: ? وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ? [الإسراء: 29]؛ يعني لا تجعل يدك مغلولة هذا كناية؟
عن عدم الإنفاق والتقتير والمسك والبخل، وكذلك أيضًا لا تفتحها وتنفقها وتنفق كل ما تريد، وكل ما تطلبه نفسك وتشتهيه تصرفه وتنفقه دون ضوابط في هذا، وإنما على الإنسان أن يوازن بين حياته سواء كان في الرخاء أو كان عنده شيء من الضيق، يعني حتى لو كان الإنسان في سعة عليه أيضًا أن يراعي هذه المسألة فلا يسرف في الإنفاق ولا يقتر على نفسه، وعلى من يعول، هذه الصفة الخامسة من صفات عباد الرحمن.
(7/14)
---(7/181)
والصفة السادسة جاء فيها كلام كثير وتنوعت إلى عدة أمور، وهي كما قال رب العالمين -سبحانه-: ?وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ?68? يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ?69? إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ?70? وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتابًا? هذه الآيات ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- فيها ثلاثة أمور يتورع عباد الرحمن في صفتهم السادسة من الوقوع فيها ترتيبها هكذا: ? وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ ? وكل هذه من الأمور المحرمة، وعلى رأسها أشدها وأصعبها وأعظمها في الضلال والانحراف: ألا وهو الشرك بالله -تبارك وتعالى- المعبر عنه هنا بقول الله: ? وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ ? فالله -عز وجل- هنا في هذه الآية نفى عن عباد الرحمن أن يتخذوا مع الله شريكًا أو وليًا يدعونه كما يدعون رب العباد، أو أن يصرفون إليه أي لون من ألوان العبادة، والشرك أعظم الذنوب على الإطلاق، ويليه كما ذكر بعض أهل العلم: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ثم الزنا، وقالوا بأن الترتيب وارد في الآية هكذا، وقد ورد أيضًا في الصحيحين وغيرهما هذا الترتيب عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أن رجلًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: (أي الذنب أعظم عند الله قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك).
(7/15)
---(7/182)
وهذا هو الشرك بالله -عز وجل- وهذا هو معنى والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر، ثم قال الرجل: ثم أي؟ بهذا الترتيب قال: (أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك) الذي هو معبر عنها بقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، قال: ثم أي؟ قال: (أن تزني بحليلة جارك)؛ فهذه الأمور الثلاثة ذكرت على الترتيب هكذا وهي من أعظم المحرمات عند رب العباد، وعلى رأس ذلك دعاء غير الله -تبارك وتعالى- أو الشرك بإطلاق، فالوقوع في الشرك والعياذ بالله -تبارك وتعالى- يضيع الإنسان على الأبد؛ لأنه يجعل مصيره في الدار الآخرة إلى الناس وبئس القرار، والله -عز وجل- قال: ? إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ ? [النساء: 48].
أما الأمر الثاني المذكور في الآية: الذي هو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق فهو كبيرة عظيمة من الكبائر؛ ولكنه لاشك يغفر بالتوبة والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- وإن وقع في ذلك مؤمن يشهد لله بالوحدانية، ولنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بالنبوة والرسالة، فقد أرتكب أمرًا عظيمًا للغاية، النبي -عليه الصلاة والسلام- بيَّن حرمة المؤمن في كثير من أحاديثه، وذكر وأشار إلى أن حرمة المؤمن أعظم عند الله -عز وجل- من حرمة الكعبة، التي هي بيت الله -تبارك وتعالى- الحرام، فقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق منهي عنها في كتاب الله، وفي هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأمر من فعل ذلك من أهل الإيمان إلى رب العالمين -سبحانه وتعالى- وقد رجح الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- صحة وقبول توبة التائب القاتل، قال: وهذه الآية لا تتعارض مع قول الله تعالى: ? وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ? [النساء: 93].
قال لا تتعارض لماذا؟
(7/16)
---(7/183)
قال لأن هذه الآية مطلقة، وهذه الآية مقيدة بالتوبة، فتحمل عليها؛ هذه الآية تحمل عليه، ويمكن أن نستدل على ذلك أيضًا بالآية: ? إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ ? والقتل دون ذلك فيدخل تحت المغفرة، وقد بينت السنة أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أخبر بقبول توبة من قتل مائة نفس لما تاب، ورجع إلى الله -تبارك وتعالى- وتبقى بعد ذلك مظالم وحقوق لهؤلاء المقتولين، يصلح رب العالمين -سبحانه وتعالى- بين المقتول والقاتل إذا قبل هو وتاب عليه في الدار الآخرة كما وردت بذلك أيضًا نصوص عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
أما الزنا فجريمة منكرة، الزنا قبيح، حرمه رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهو من الذنوب العظيمة، وقد وضع الإسلام في هذا الأمر حدًا قويًا شديدًا فأوجب على الزاني المحصن أن يقتل، من زنا بعد إحصان أن يرجم، وأما من كانت بكرا فليجلد مائة جلدة، وهذا عقاب أليم من رب العالمين -سبحانه وتعالى- لمن ارتكب هذه الفاحشة.
(7/17)
---(7/184)
ثم استثنى رب العالمين -سبحانه وتعالى- من تاب من عمل هذه الخصال، وهذا يفيد أن الإنسان قد تتعثر قدمه، وقد تزل، وقد يرتكب شيئًا من الموبقات والمعاصي فالله -عز وجل- فتح باب المتاب على مصراعيه لمن رجع إلى الله وأناب، ولكن بعد وعيد وتهديد من رب العالمين -سبحانه وتعالى- لمن ارتكب هذه الموبقات، هذا الوعيد موجود في الآية في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ? يضاعف له العذاب: يعني يكرر عليه العذاب، ويزداد عليه العذاب، متى يكون ذلك؟ يكون في يوم القيامة حالة كون هذا الإنسان ذليلًا حقيرًا إلى جانب خلوده في النار، قال رب العالمين: ? وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ?69? إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ? هذه الآية كريمة جدًا، رب العالمين -سبحانه وتعالى- فيها يفتح بالمذنبين المقصرين الواقعين في البلايا والأمور العظام، يفتح لهم باب المتاب على مصراعيه ويدعوهم أن يرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- من قريب، وأن يتوبوا، وأن من تاب، تاب رب العالمين -سبحانه وتعالى- عليه، قال الله -عز وجل-: ? وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ? [النساء: 110]. ويقول -سبحانه-: ? قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ? [الزمر: 53] وهذه دعوة مفتوحة لعموم المذنبين والمقصرين، وحتى عموم أهل الإيمان أن يتوبوا وأن يرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- والمؤمن الطائع لا يظن أنه بحاجة إلى توبة، فالله -عز وجل- كما في سورة النور: ? وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? [النور: 31] أخبر رب العالمين
(7/18)(7/185)
---
-سبحانه وتعالى- عن التائبين بأمر عظيم جدًا آمل أن ننتبه إليه ألا وهو ما جاء في قوله -سبحانه-: ? فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ? ما معنى هذا الجزء من الآية؟
قال بعض أهل العلم معنى يبدل الله سيئاتهم حسنات: يعني أن حالهم يتغير فبدلًا ما كانوا يعملون السيئات يعملون الحسنات، بدلًا من الوقوع في الشرك أصبحوا موحدين لله -تبارك وتعالى- وبدلًا من قتال المسلمين أصبحوا يقاتلون الكفار والمشركين، وبدلًا من عمل السيئات أصبحوا يعملون الحسنات، هذا هو المعنى الأول في قول الله تعالى: ? فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ?.
يعني بعد ما كانوا يعملون السيئات بُدل عملهم بالسيئات إلى عمل بالحسنات، المعنى الثاني في الآية، وعليه دليل وهي أن الله -تبارك وتعالى- إذا شاء بدل سيئاتهم إلى حسنات فعلية، فقلب السيئات التي ارتكبوها من هذه الأمور العظيمة الشنيعة يقلبها بتوبة صادقة إلى حسنات، يأخذون عليها أجرًا عند رب العالمين سبحانه وتعالى؛ ولذلك في الصحيحين وغيرهما عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا من النار وآخر أهل الجنة دخولًا الجنة) من هو يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (يؤتى برجل فيقول أو فيقال يعني إما أن الله -عز وجل- يقول للملائكة أو أن رب العالمين -سبحانه وتعالى- هو الذي يقول، مَحُّو كبار يعني أبعدوا كبار ذنوبه، فيقال له: ألم تفعل كذا في يوم كذا وكذا يقول: بلى يا رب، ولا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئًا، فيقال له: إن الله أبدلك مكان هذه السيئات حسنات، فلما الرجل يعرف ذلك فيقول: إني أذنبت ذنوبًا كبيرة لا أراها ها هنا، يود الذنوب العظيمة أيضًا توجد، حتى تبدل حسنات، فيقول: إني عملت ذنوبًا أخرى لا أراها هن).
(7/19)
---(7/186)
يقول أبو ذر -رضي الله عنه- راوي الحديث: فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه.
هذا من طمع المخلوق ورب العالمين -سبحانه وتعالى- فضله واسع، على العبد أن يرغب وأن يطمع فيما عند الله -تبارك وتعالى- وهذا معنى سديد جميل: ? فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ? وتختم هذه الآية بقول الله تعالى: ? وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ?.
ثم بعد ذلك يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى-: ? وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتابًا ? ليست لي وقفة عند هذه الآية إلا عند قوله تعالى: ? وَعَمِلَ صَالِحًا ? حتى لا يظن العبد أن التوبة مجرد كلام، أو أنه يرجع ثم بعد ذلك ينام، وإنما يتوب ويستمر بعد ذلك في الأعمال الصالحة.
(7/20)
---(7/187)
الصفة السابعة من صفات عباد الرحمن جاءت في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ? ما أجمل صفات عباد الرحمن؟!! نسأل الله أن نكون منهم، لا يشهدون الزور، قيل الزور: هو الشرك، وقيل: هو اللغو والباطل، وقيل: هو الغناء والفجور، وقيل غير ذلك من مشاهدة الآثام ومشاركة الناس فيما هم عليه من ضلال، والله -عز وجل- ينزه أوليائه وأحبابه ومن أضافهم إلى نفسه، بأنهم لا يشهدون المجالس كلها سواء كان كذبًا أو لغوًا أو باطلًا أو غناًء، ولا يشهدون الزور بمعنى الكذب المتعمد على الله -تبارك وتعالى- وفي الحديث الصحيح عن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (ألا أنبأكم بأكبر الكبائر قالوا: بلى يا رسول الله، قال الشرك بالله) وهذا على رأس الكبائر وهذا يلتقي معنا في الآية: ? وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ ? إلى أن قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ألا وشهادة الزور)؛ ألا وقول الزور، فعد النبي -عليه الصلاة والسلام- من أكبر الكبائر أن يكذب الإنسان متعمدًا على رب العالمين -سبحانه وتعالى- ويشهد الله -عز وجل- على الباطل وهو يعلم أنه كاذب؛ ولذلك كان كبيرة من الكبائر العظيمة كان أهل الإيمان وكان عباد الرحمن لا يقعون في مثل هذا الإجرام، فهم لا يشهدون الزور ? وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ? يعني إن عرض لهم في الطريق ما التفتوا إليه وما نظروا إليه وما دخلوا مع هؤلاء؛ ولذلك أوجه نداًء عامًا لعموم المؤمنين إن وجدتم غيركم يرتع في المحرمات ويقيم الاحتفالات التي لا ترضي رب العباد -سبحانه وتعالى- فيها من الموالد الآثمة أو اللقاءات المنكرة أو الغناء وما فيه من فجور وباطل وغير ذلك، فلا تشهدوا هذه الأندية بحال، يجب على المؤمن أن لا يحضر هذه المجالس الباطلة وهذا يدخل تحت قول الله: ?(7/188)
(7/21)
---
وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ?.
أما الصفة الثامنة من صفات عباد الرحمن: جاءت في قول الرحمن -سبحانه-: ? وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ? البعض قد يظن أن هذه صفة نفت هكذا فقط، وإلا هي فقط صفة مدح وثناء من الله -عز وجل- على هؤلاء العباد بأنهم إذا ذكروا بآيات الله خروا عليها متأملين، فالآية لم تنف خرور عباد الرحمن على آيات الله -عز وجل- ولكنها نفت خرورهم عليها صمًا وعميانًا، فهم يخرون على آيات الله -تبارك وتعالى- يعني يتأملونها ويفهمونها، وذلك حال سماعهم للحق وإنصاتهم له وقبولهم له، أما المنفي هنا: الصم وعدم سماع الحق والانصراف عن الحق، وهذا كان للكافرين؛ ولذلك هذه الآية فيها دلالتان:
دلالة بالمنطوق، ودلالة بالمفهوم:
دلالة المنطوق الواردة في هذه الآية: أن عباد الرحمن إذا ذكروا بآيات الله خروا عليها مستمعين لها متأملين إياها عاملين بما فيها هذه دلالة المنطوق إذا ذكروا بآيات الله: ? لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ?.
(7/22)
---(7/189)
دلالة المفهوم: تفيد أن الكافرين إذا ذكروا بآيات الله -تبارك وتعالى- خروا عليها صمًا وعميانًا كما قال الله -تبارك وتعالى-: ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ? [لقمان: 7]، ?وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ?124? وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ? [التوبة: 125]، يعني زادتهم ضلالًا وانحرافًا وهذا معنى قوله: ? لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ?، دلالة المنطوق للمؤمنين أنهم يخرون عليها مستمعين متفقهين، وأما الكفار فيفهم منها أنهم يخرون عليها صمًا وعميانًا.
الصفة التاسعة والأخيرة: ? وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ? هؤلاء يدعون ربهم -تبارك وتعالى- أن يمن عليهم بذرية صالحة تقر أعينهم بها، لماذا؟ لأن تمام النعيم في الدنيا والآخرة أن يعيش الإنسان سعيدًا بين ذويه وبين أهله وفي محيط أسرته، ويتم النعيم ويكتمل على المؤمن أيضًا بفضل الله -عز وجل- ومع رؤية رب العالمين -سبحانه- بأن يكون أولاد المؤمن معه في الجنة؛ ولذلك آخر صفة من صفات عباد الرحمن أنهم يتوجهون إلى ربهم -سبحانه وتعالى- داعين قائلين: ? رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ?.
(7/23)
---(7/190)
هم يريدون أن تقر أعينهم بأزواجهم وأولادهم، وذلك في الدار الآخرة أكثر، لا يعنون منظرًا جميلًا في الدنيا ولا سعة في المال في الدنيا، وإنما يرغبون فيما عند الله -تبارك وتعالى- كما يطلبون أن يكونوا أئمة دعاة إلى الخير يُهتدى بهم: ? وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ? ولعل واحد منكم يجيب لي الآن بم يصير الإنسان إمامًا في الدين؟ بأي شيء موجود في القرآن الكريم؟
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين: ? وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ? [السجدة: 24].
المحور الثالث والأخير: بعنوان النعيم المقيم في الدار الآخرة لعباد الله المتقين:
وتحته ما أعده رب العالمين من جزاء لهؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات: ? أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا ? الغرفة: هي المكان العالي وهي الجنة، وليست غرفة واحدة وإنما هي غرف غرفات كثيرة، كما قال رب العالمين: ? وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ? [سبأ: 37]. غرف مبنية من فوقها غرف كذلك هكذا أخبر ربنا -سبحانه وتعالى-: ? أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا ? ولاشك أن الصبر هنا مهم جدًا على طاعة الله وعن معصية الله وعلى أقدار الله ? وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا ? كما قال رب العالمين -سبحانه-: ? تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ ? [الأحزاب: 44] ? والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ?23? سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ? [الرعد: 24] ? خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ?.
(7/24)
---(7/191)
خالدين فيها أبد الآباد؛ لأن نعيم أهل الجنة لا نقطع ولا يزول ولا يتحول، كما قال رب العالمين -سبحانه وتعالى- عن الذين سعدوا بأنهم دائمين أبد ألآباد، نعيمهم لا ينقطع عطاء غير مجذوذ من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- ومقامهم مقام جليل، مكانهم مكان طيب، منزلهم منزلة عالية ? حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ?.
ثم يقول -سبحانه-: ? قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ? ختام هذه السورة مع الكافرين الذين حاورتهم الآيات السابقة مرات ومرات، ربنا -سبحانه وتعالى- يقول: ? قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ?؛ معنى قل ما يعبأ بكم: العرب يقولون ما عبأت بفلان يعني: ما اهتممت به ولا أكترثت به ولا باليت به، فالله -عز وجل- يقول بأن الله لا يعبأ بكم ولا يكترث بكم إلا لأمر واحد وسأقول الراجح فيه ? لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ ?: قيل لولا دعائكم يعني لولا دعوة الرسل إليكم للإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ لأنكم كذبتم بالحق الذي جاء من عند الله، وطالما أنكم على هذا التكذيب ? فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ? يعني سوف يكون العذاب لزامًا ملازمًا لكم، أسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من المتصفين بهذه الصفات وأن يقينا صفات المجرمين الأشرار وصلى اللهم وسلم وبارك على النبي المختار. -صلى الله عليه وسلم-
أسئلة الحلقة الماضية:
السؤال الأول: على أي شيء يعود الضمير في قوله تعالى: ? ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ? [الفرقان: 46]، ما المراد بالتيسير في الآية وما المنافع التي تعود على العباد في ذلك؟
(7/25)
---(7/192)
وكانت الإجابة: الضمير في قوله تعالى ثم قبضانه: يعود على الشمس أو على الظل وكلاهما جائز، والمراد بقوله تعالى يسيرًا: أي سهلًا أو قليلًا وفي هذا إشارة إلى نعمة الله على عباده حيث أن انصراف الليل شيئًا فشيئًا كذلك انصراف النهار شيئًا فشيئًا فيه راحة لحواس الجسد فلو أنك في نهار مثلًا وفجأة جاء أو دخل الليل أو العكس فلهذا له تأثير ضار على حواس الإنسان
إجابة صحيحة.
والسؤال الثاني: اذكر من القرآن الكريم ما يدل على أن البشرى للمؤمنين والإنذار للكافرين؟
وكانت الإجابة: الآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في القرآن منها قول الله ? أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ? [يونس: 2].
وقوله تعالى: ?أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?62? الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ?63? لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ? [يونس: 64].
وقوله تعالى: ? قَيِّمًا لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ? [الكهف: 2].
وقوله تعالى: ? وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ? [إبراهيم: 44].
وقوله تعالى: ? وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ? [مريم: 39].
الجواب سديد الحمد لله بس أخشى أن يكون ترك شيئًا من السؤال نستدركه فيما بعد.
ولماذا قصد الإنذار على المؤمنين في سورة يس
طيب.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة
(7/26)
---(7/193)
السؤال الأول: اذكر القولين في معنى يبدل في قول الله تعالى: ? فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ?، مدعمًا أجابتك بالدليل.
والسؤال الثاني: اشرح قول الله تعالى: ? وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ?.
(7/27)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس الثامن : تفسير سورة الشعراء (1 - 31)
الدرس الثامن
تفسير سورة الشعراء (1 - 31)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، ويسرنا أن نلتقي كما أشرتم مجددًا في حلقات من تفسير كتاب الله -تبارك وتعالى- وحلقة هذا اليوم -إن شاء الله تبارك وتعالى- مع سورة الشعراء وسأتحدث من خلال هذا اللقاء حول محاول متعددة:
المحور الأول: ثناء الله على كتابه، وحرص النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على هداية المشركين.
المحور الثاني: تنبيه المشركين إلى عظمة سلطان رب العالمين.
المحور الثالث: موسى وهارون يواجهان الطاغية فرعون.
(8/1)
---(7/194)
ولنستمع إلى آيات اللقاء من الشيخ عبد الرحمن فليتفضل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ? طسم ?1? تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ?2? لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ?3? إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ?4? وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ?5? فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ?6? أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ?7? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ?8? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?9? وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ?10? قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ ?11? قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ?12? وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ?13? وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ?14? قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ?15? فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?16? أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ?17? قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ?18? وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ?19? قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ?20? فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ?21? وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ?22? قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ(7/195)
(8/2)
---
?23? قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُم مُّوقِنِينَ ?24? قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ ?25? قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ?26? قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ?27? قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ?28? قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ?29? قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ ?30? قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ? [الشعراء: 1 - 31].
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ثم أما بعد:
نلتقي في هذا اللقاء مع مفتتح سورة الشعراء، ومع المحور الأول في هذا اللقاء وهو بعنوان: ثناء الله على كتابه، وحرص النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على هداية المشركين، وتحت هذا المحور:
ما افتتح ربنا -عز وجل- به هذه السورة، وهي الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن الكريم: ? طسم ? هذه الحروف المقطعة، اختلف العلماء في هذه الحروف وفي معناها:
فذهب بعضهم إلى أنها مما أستأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه، وبالتالي لم يخوضوا في تفسيرها ولم يتكلموا عن شيء من معناها.
(8/3)
---(7/196)
وذهب بعضهم إلى أنها أسماء للسور التي وردت فيها، واستدل هؤلاء بحديث في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يقرأ في صلاة الصبح بـ ? الم ? [السجدة: 1] و ? هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ ? [الإنسان: 1] فقال ? الم ? السجدة، فسمى السورة بأسماء الحروف المقطعة في أولها، وقال بعضهم: بأن هذه أسماء للسور أيضًا واستدل بعض أهل العلم استدلالًا جميلًا بافتتاح رب العالمين -سبحانه وتعالى- لبعض سور القرآن الكريم بهذه الحروف، وذكر أن الله -عز وجل- أراد بسياق هذه الأحرف في مفتتح بعض السور أن يقيم الحجة على المشركين المنكرين للقرآن الكريم، وكأنه يقول لهم هذا الكتاب الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على نبيه وحبيبه ومصطفاة -صلوات الله وسلامه عليه- هو من جنس الحروف التي تتكلمون بها، وهذه لغتكم وأنتم وصلتهم فيها مبلغًا كبيرًا عظيمًا بليغًا، فإن كنتم قادرون على معارضة القرآن الكريم وتنكرون أنه من لدن رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهو من الكلمات والحروف التي تتكلمون وتنطقون بها فأتوا بمثل هذا القرآن الكريم، فكأن رب العالمين -سبحانه- أراد أن يقيم بهذه الأحرف الحجة على هؤلاء المشركين، وهذا في الحقيقة ملحظ جميل ووجيه؛ لأننا لو تأملنا السور التي افتتح ربنا -سبحانه وتعالى- بها هذه الأحرف سنجد أنه غالبًا يتحدث ربنا -سبحانه وتعالى- بعدها عن القرآن الكريم، كما في سورة البقرة في سورة الأعراف في سورة يونس في سورة هود في سورة الشعراء التي معنا في سورة غافر وغير ذلك، ولنأخذ أمثلة على هذا: في أول سورة البقرة: ? الم ?1? ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ? [البقرة: 2] فبعدما ذكر هذه الأحرف ذكر بعد ذلك الإشارة إلى القرآن الكريم، أيضًا أوائل سورة هود مثلًا: ? الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ
(8/4)(7/197)
---
حَكِيمٍ خَبِيرٍ ? [هود: 1]، أول سورة غافر: ? حم ?1? تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ? [غافر: 2] وغير ذلك من السور التي أشرت إلى بعضها الآن لما افتتح ربنا -سبحانه وتعالى- هذه السور بهذه الأحرف المقطعة جاء بعد ذلك ذكر القرآن الكريم للإشارة إلى المشركين إلى أن القرآن الكريم مُكون من الكلمات والحروف التي بها تنطقون، فلما لا تؤمنون بهذا الكتاب؟ وأنتم قد عرفتم أنكم عجزتم عن الإتيان بمثله ولا تستطيعون معارضته؟ فلم يبقى إذن إلى أن هذا الكتاب من لدن حكيم خبير -سبحانه وتعالى-.
ولذلك على هذا المنوال جاءت الآية التالية في سورة الشعراء التي معنا هي قول الحق -تبارك وتعالى-: ? تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ? المراد بالكتاب المبين هنا هو القرآن الكريم، وسماه الله عز وجل مبينًا؛ لأن الله -عز وجل- بين فيه الحق واضحًا جليًا، وفصل فيه المعروف من المنكر، ويفهم من ذلك أن في القرآن كفاية لمن أراد الهداية؛ لأنه كتاب واضح ومبين، ولاشك أننا نضم السنة النبوية إلى القرآن الكريم؛ لأنها هي التي فسرت وبينت ووضحت كتاب ربنا الكريم -سبحانه وتعالى-.
(8/5)
---(7/198)
ثم بعد ذلك يتحول السياق ليخاطب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في قول الله له: ? لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ? هذه الآية في الحقيقة تُبين حرص النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على هداية المشركين، وتصور حاله وهو يدعوهم إلى الله -عز وجل- تصور حاله كرجل حريص غاية الحرص على أن يسلم هؤلاء وأن يدخلوا في الله -تبارك وتعالى- أفواجًا؛ لأن الله -عز وجل- ذكر عن نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه يكاد أن يقتل نفسه حزنًا على كفر الكافرين وشرك المشركين ? فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفً? [الكهف: 6] ومعنى باخع نفسك يعني هالك نفسك مهلك لنفسك بما كان يقوم -صلى الله عليه وآله وسلم- من أعمال كي يدعو هؤلاء الناس إلى الله -تبارك وتعالى- وفي هذا تسلية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في أنه إذا بين هذا البيان وقام في نفسه -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا الحرص وسعى إليه فهو -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد ذلك أدى ما عليه، وهنا لفتة كريمة أود أن أوجه إليها أنظار المسلمين عامة، والدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- بصورة خاصة وهي أن يكون الداعي إلى الله -عز وجل- أن يكون حريصًا محبًا لنفع الآخرين حريصًا على هدايتهم، محبًا لتوصيل الخير إليهم، وكلما ترقى الإنسان في العلوم والمعارف والقرب من الله -تبارك وتعالى- كان رحيمًا بالمدعوين، يخاطبهم برفق ولين، ويحرص على أن يهتدوا إلى الهداية التي هداه ربه -سبحانه وتعالى- إليها، ونبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- هنا لنا نموذج أعلى في ذلك، شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تبارك تعالى- له رسالة جميلة في مجموع الفتاوى في المجلد الثالث، لو نظرت إلى الفهرس كُتب عنوان لها "قاعدة أهل السنة والجماعة"، هذه الرسالة طبعت أكثر من مرة طبعت بعنوان "قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي(7/199)
(8/6)
---
ومشاركتهم في صلاة الجماعة" يعني كلما تنظر إلى هؤلاء المتبعة ترحمهم؛ لأنهم جُهَّال، فتحرص على أن تدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- وتود أن لو دخلوا معك فيما أنت عليه من الحق والخير والسنة والفلاح، وطبعت أيضًا مرة أخرى بعنوان: "قاعدة السلفيين في جمع كلمة المسلمين"، ونعني بالجمع على كتاب الله وهدي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ثم يقول الله لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم-: ? إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ? يعني أن الله -عز وجل- لو شاء؛ لأنزل أية عليهم دفعتهم قهرًا إلى الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولكن رب العالمين -سبحانه وتعالى- لم يشأ ذلك، لم يشأ ربنا -سبحانه وتعالى- ذلك أن يرسل هذه الآية التي تقهر وتلجئ هؤلاء الناس إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والدخول مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأن رب العالمين -سبحانه وتعالى- أخبر في كتابه أنه لم يشأ هداية جميع المخلوقات، لم يشأ هداية جميع العالمين -سبحانه وتعالى- وقال لنا في كتابه: ? وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ? [هود: 118]، ? وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ? [يونس: 99] فالله -تبارك وتعالى- لم يشأ أن يلجئ الناس إلى الإيمان، ولكنه شاء رب العالمين -وفعل- أن يرسل الأنبياء والمرسلين، وأن ينزل عليهم الكتب، ثم بعد ذلك بين الأنبياء والمرسلين الطريق إلى الله -تبارك وتعالى- وتُرك الأمر للعبد بعد ذلك أن يختار الطريق إما أن يسلك طريق الخير والفلاح فيدخل مع المؤمنين وإما أن يتخذ طريقًا أخرى فيكون مع أعداء الله الظالمين.
(8/7)
---(7/200)
ثم قال رب العالمين -سبحانه وتعالى-: ? وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ? هذه في الحقيقة آية ينعى رب العالمين -سبحانه وتعالى- فيها على بعض الناس الذين كلما جاءهم رسول كذبوا به وردوا دعوته، ولنا هنا أن نكرر وأن نتلو قول الحق -تبارك وتعالى-: ? يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ? [يس: 30]، فعلًا حسرة وندامة على القوم الذين يكذبون بالنبي المرسل إليهم، والله -عز وجل- أرسل أنبياء ومرسلين وكلما أرسل إلى أمة رسول نجد أن البعض كذب، وربما كان هذا البعض هم الكثير: ? ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ ? [المؤمنون: 44]، يعني ردوا دعوته، ولم يدخلوا في رسالته، ولم يسلموا بنبوته، هذه الآية تفيد ذلك كلما أرسل الله رسولًا إلى قوم من الأقوام، ردوا دعوته، وأعرضوا عن رسالته.
ولي هنا وقفة مع قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ ?؛ لأن كلمة محدث استدل بها المعتزلة على أن القرآن الكريم مخلوق، وهو استدلال باطل، فقالوا بأن القرآن الكريم حادث، والحادث لابد أن يكون مخلوقًا، وبالتالي فالقرآن الكريم مخلوق، خلقه الله -تبارك وتعالى- في غيره، وهذا في الحقيقة استدلال باطل؛ لأن الحدوث هنا حدوث نسبي أو إضافي يعني حدوث نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فَعِلْم النبي -عليه الصلاة والسلام- بالقرآن حادث، ووحي الله -عز وجل- إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالقرآن أيضًا حادث، وليس القرآن نفسه الذي أوحى الله -تبارك وتعالى- به إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هو الحادث، بل القرآن كلام رب العالمين -سبحانه وتعالى- وسيأتي مزيد تأكيد لذلك -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
(8/8)
---(7/201)
ثم قال رب العالمين: ? فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ? حقًا يا حسرة على العباد، كذبوا بما جاءهم من عند الله -تبارك وتعالى- ردوا دعوة الأنبياء والمرسلين، ولكن الله -عز وجل- في هذه الآية يتوعدهم ويتهددهم ويعلمهم أنهم سيعلمون بعد قليل حقيقة ما جاء به الأنبياء والمرسلون، وأنهم أخطئوا غاية الخطأ حينما ردوا دعوة الأنبياء والمرسلين، كما قال رب العالمين متوعدًا لهؤلاء المكذبين الظالمين: ? وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ? [الشعراء: 227]، وقال -سبحانه-: ? وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ ? [إبراهيم: 42] إلى آخر ما جاء في هذا السياق، فالله -عز وجل- في هذه الآية: ? فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ? في الحقيقة فيها وعيد لمن كذب وأعرض عن كتاب رب العالمين ولم يصدق بالنبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(8/9)
---(7/202)
المحور الثاني في هذا اللقاء بعنوان: تنبيه المشركين إلى عظمة سلطان رب العالمين، وتحته هذه الآيات: ? أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ?7? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ?8? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ? يشير رب العالمين -سبحانه وتعالى- في هذا الآيات إلى سلطانه وجلال قدره -سبحانه- بكثرة ما أنبت في هذه الأرض، وأخرج في هذا الكون من نبات وحيوان وجماد، من كل زوج كريم، والمراد بالزوج هنا: الصنف، وحينما وصفه بالكريم يعني أن الناس الذين خاطبهم القرآن بذلك يحتاجون إلى هذا الأصناف التي خلقها رب العالمين -سبحانه-، وهذا الكون ولاشك مليء بما يدل على قدرة رب العالمين -سبحانه وتعالى- لو نظر الإنسان نظرة فقط إلى السماء العلى، وما أودع رب العالمين -سبحانه وتعالى- من كواكب سيارة، ونجوم هنا وهناك، وتأمل في هذا السماء التي رفعها ربه بغير عمد، وليس فيها أي تفاوت أو خلل، ثم مسكها رب العالمين -سبحانه وتعالى- بدون أوتاد كما عليه البشر، كل ذلك شيء بسيط ينظر إليه الإنسان نظرة يسيرة، يدفعه إلى أن يعرف عظمة وسلطان رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(8/10)
---(7/203)
ولذلك عقب ربنا -عز وجل- على هذه الآية بقوله: ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ? في ذلك علامة على قدرة الله -عز وجل- آية عظيمة تدل وترشد على صاحب العظمة والسلطان جل في علاه، ومع كل ذلك -مع هذه الآيات- قررت هذه الآية مهمة جدًا ألا وهي تكذيب المشركين؛ ولذلك قال رب العالمين: ? وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ?8? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ? ختام هذا المقطع ختام جميل؛ لأن هؤلاء المشركين يحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على هدايتهم، والله -عز وجل- يلفت أنظارهم إلى عظمته وجلاله -سبحانه- بما بثه في كونه من آيات تدل عليه، وترشد إليه، ومع ذلك لا يستجيبون، فأخبرهم ربنا -سبحانه وتعالى- أنه عزيز غني عنهم -سبحانه-: ? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ? جل في علاه، وهذه الآية فيها تهديد ووعيد للمشركين، ووعد لأهل الإيمان، فالله -عز وجل- عزيز ينتقم ممن يشاء -سبحانه- عز أمره وجل سلطانه، وذلك يكون بانتقامه الشديد من الكافرين، ثم هو أيضًا -سبحانه وتعالى- رحيم بأهل الإيمان الذين استجابوا لله وللرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما دعاهم إليه.
المحور الثالث في هذا اللقاء بعنوان: موسى وهارون يواجهان الطاغية فرعون وتحته هذه الآيات ونبتدأها بقول الحق -تبارك وتعالى-:
? وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ?10? قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ ? هنا بدأت ذكر قصة موسى وهارون، وإرسالهما إلى فرعون، وأشار رب العالمين -سبحانه وتعالى- فيها بلفته كريمة ألا وهو اصطفائه -سبحانه وتعالى- لنبيه وكليمه موسى -عليه السلام- وذلك حين ناداه، وكان هذا النداء أين؟
(8/11)
---(7/204)
في جانب الطور، كما ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه، موسى -عليه السلام- وهو قافل إلى مصر من مدين بعد المدة التي قضاها بنهاية الأجل الذي حدده مع صهره، وهو راجع ذهب يلتمس رآها نارًا عن بعد، وهناك ناداه رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهذا النداء هو كلام الله -عز وجل- ويفهم من هذا أن رب العالمين -سبحانه وتعالى- يتكلم بكلام يليق بجلاله وكماله، وأنه -سبحانه وتعالى- ينادي بصوت يسمع، ولاشك بأن هذه الآية تفيد ذلك؛ لأن النداء يكون بأي شيء؟
يكون بالصوت، ولولا أن موسى -عليه السلام- سمع صوت الله -تبارك وتعالى- لما انتبه، ولما أجاب ولما كلف -صلوات الله وسلامه عليه- ويستحيل أيها الإخوة أن نذهب إلى أن نذهب إلى ما يقوله المعتزلة فكلامه في غاية من البطلان؛ لأنهم يقولون بأن الله -عز وجل- خلق نداءه في الشجر التي كانت في جانب الطور عند الوادي الأيمن، وموسى -عليه السلام- سمع كلام رب العالمين من الشجرة، وأن الشجرة هي التي تكلمت بقدر الله -تبارك وتعالى- وهذا في غاية البطلان؛ لأنه لا يمكن أن نقول بأن الشجرة هي التي قالت لموسى -عليه السلام-: ? إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي ? [طه: 14] وهل يقول ? إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي ? إلا رب العالمين -سبحانه وتعالى- إذن هذه الآية تفيد كلام رب العالمين -سبحانه وتعالى- لموسى -عليه السلام- واصطفائه له وتحميله أمانة الدعوة إلى الله -عز وجل- وإرساله إلى فرعون وقومه: ? وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? في مطلع الحديث عن فرعون سجلت هذه الآية عليهم كلمة الظلم ? أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? والظلم الذي وقع في هؤلاء الناس كان من وجهين:
(8/12)
---(7/205)
الوجه الأول: ظلمهم لأنفسهم حينما استكبروا على الله -عز وجل- فلم يخضعوا لسلطانه ولم يؤمنوا به، بل راحوا يتظاهرون بإنكار رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهذا ظلم لأنفسهم.
الوجه الثاني: ظلم آخر وقع على بين إسرائيل، كان يقتل أبنائهم ويستحي نسائهم، وقد استعبدهم فرعون، وهذا أيضًا ظلم لهم، ثم قال رب العالمين: ? قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ ? قوم فرعون: هذا عطف بيان من الظالمين، فكأن الظالمين وقوم فرعون يدلان على معنى واحد، وقعوا في الظلم ورب العالمين -سبحانه وتعالى- يدعوهم إلى الرجوع إليه وإلى تقواه -سبحانه- يقول: ? أَلاَ يَتَّقُونَ ? هلا يرجع هؤلاء الناس إلى الله -عز وجل- فيسلم لدعوة النبي المرسل إليهم؟ ويتابعوه على الهداية الربانية التي جاء بها من عند رب العالمين سبحانه وتعالى؟!!
(8/13)
---(7/206)
ثم بعد أن كلف موسى -عليه السلام- بأن يذهب إلى فرعون قال لربه هذه الكلمات؛ ولذلك نحن نقول: بأن رب العالمين كلم موسى -عليه السلام- وناداه وناجاه، وأن موسى -عليه السلام- كلم ربه ومولاه، فالله -عز وجل- أرسل موسى بقوله: ? وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ?10? قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ ? هذا إبلاغ من الله -عز وجل- وإرسال منه لموسى عليه السلام، رد موسى -عليه السلام- على ربه، واعتذر بأمور هي أيضًا من وجهه سليمة: ? قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ?12? وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ?13? وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ? قال رب إني أخاف أن يكذبون، لما أمر الله -عز وجل- موسى -عليه السلام- أن يذهب إلى فرعون قال هذا القول؛ لأن التكذيب يدعو إلى الخوف، فحينما يرسل إنسان ما لقوم يخبرهم بأمر فيكذبوه، لاشك أن الخوف يدخل في قلبه، وربما يستقر في نفسه، والخوف مدعاة إلى ضيق الصدر؛ ولذلك بعدما قال: ? إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ? قال: ? وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي ? لما فيه من لدغة كانت، كما ذكر ذلك كثير من المفسرين، وقد أشار موسى -عليه السلام- إلى ذلك، وذكر ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه أن موسى -عليه السلام- دعا ربه وقال: ? وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ?27? يَفْقَهُوا قَوْلِي ? [طه: 28].
وهنا دعا موسى -عليه السلام- وطلب من ربه أن يرسل معه من؟
(8/14)
---(7/207)
هارون، ولاشك أن إرسال هارون مع موسى فيه تقوية له، وتدعيم له، أمام هذا الطاغية؛ لأن فرعون كما سيأتي بعد قليل بغى وطغى وتكبر، وكان يفعل أفعالًا عظيمة؛ ولذلك موسى -عليه السلام- كان بحاجة إلى من يشد أزره ويأخذ بيده، ولما طلب هارون استجاب الله -عز وجل- له، وقال رب العالمين -سبحانه-: ? قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ? [القصص: 35]، ? قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ?12? وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ?13? وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ? وهذا الذنب وضحه رب العالمين -سبحانه وتعالى- في آية أخرى: ? وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ? [القصص: 15] هذا هو الذنب الذي فعله موسى -عليه السلام- وهذا أمر لاشك عظيم، حينما قتل موسى -عليه السلام- منهم نفسًا، ولما قتل منهم نفسًا لاشك أنهم توعدوه وهددوه وجاء إليه رجل أخبره بأن القوم يأتمرون به ليقتلوه؛ ولذلك دخل الخوف في نفس نبي الله موسى -عليه السلام-.
وينبغي أن نعلم أن موسى -عليه السلام- تاب إلى الله -عز وجل- من هذه الفعلة، وأن رب العالمين -سبحانه وتعالى- تاب عليه: ? قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? [القصص: 16].
(8/15)
---(7/208)
ثم يستمر السياق بعدما طلب موسى -عليه السلام- من ربه، وذكر أنه خائف وطلب هارون معه، وسأل ربه -سبحانه وتعالى- أن يحلل عقدة من لسانه، كما ذكر ذلك في آيات أخرى في سورة أخرى رب العالمين -سبحانه وتعالى- أكد على موسى أن يذهب إلى فرعون، ونفى عن الخوف، فقال: ? قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ?15? فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?16? أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ? كلا: لاشك، كما هو مقرر في علم اللغة حرف زجر، فالله -عز وجل- يزجر موسى -عليه السلام- أن يخاف، ويأمره بالذهاب وأن يذهب إلى فرعون بالآيات التي يرسله رب العالمين -سبحانه وتعالى- بها ويخبره ربه بأنه -سبحانه وتعالى- معه فيقول: إنا: بصيغة التعظيم: ?إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ?، والمعية كما هي مقررة عند أهل السنة تنقسم إلى قسمين:
المعية العامة: وهي تشمل كل المخلوقات فالله -عز وجل- مع جميع المخلوقات بعلمه معية عامة، فلا يقع شيء في هذا الكون إلا ورب العالمين مشاهد له، وعالم له جل في علاه.
(8/16)
---(7/209)
والمعية الخاصة: هي معية النصر والتأييد والحفظ والرعاية وهذه هي المرادة هنا، وهنا فيه طمأنة لموسى -عليه السلام- والله -عز وجل- في آية أخرى يقول لهما: ? إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ? [طه: 46] أسمع ما يقال وأرى ما يحدث أو ما يفعل، ? قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ ?15? فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ ?، هذا تأكيد من الله -عز وجل- لموسى: ? فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?، يعني اذهب إلى فرعون وأخبره أنك مكلف من قبل الله -عز وجل- أنك مرسل من قبل الله -تبارك وتعالى- ونلاحظ أن الله -عز وجل- أفرد كلمة الرسول في سورة الشعراء وثناها في سورة طه؛ والسبب في ذلك أو توجيه ذلك كما ذكر بعض أهل العلم أن كلمة الرسول مصدر وصف به هذا مصدر وصف به الرسول المرسل، وطالما أنه مصدر وصف به يأتي بصيغة واحدة للمذكر والمفرد والمثنى والجمع، طيب لماذا ثني في سورة طه؟
قيل هذا خروج عن هذا الأصل، وقيل: إن هناك جواب آخر وهو أنه لما كانت دعوة كل رسول واحدة، كل رسول دعوته واحدة، وكل رسول يشترك مع أخيه أيضًا -الرسول الآخر- في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- وإلى توحيد الله -عز وجل- وإلى الإيمان بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قبل ربه، فلما اشتركوا جميعًا في هذا الأمر، فهم وإن كانوا أفرادا كثيرين إلا أنهم لما اشتركوا في دعوة واحدة فصح أن يرجع إليهم الخطاب بلفظ واحد: ? إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?16? أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ?، يعني خلي بيننا وبين بين إسرائيل، دعنا إن لم تستجب أنت، دعنا ندعو هؤلاء الناس، سهل لنا الطريق، افسخ لنا المجال ندعو هؤلاء إلى الله -تبارك وتعالى- ونعلمهم بما كلفنا رب العالمين -سبحانه وتعالى- به.
(8/17)
---(7/210)
ثم يستمر السياق فيقول فيه رب العالمين -سبحانه-: ?قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ?18? وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ?19? قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ?20? فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ?21? وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ? هنا إيجاز بالحذف ولاشك، الآية الأخيرة التي معنا ? أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ? الآية التي تليها: ? قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا ?، فهنا لاشك محذوف دل عليه السياق هذا المحذوف ما هو؟
أن موسى وهارون ذهبا إلى من؟ إلى فرعون ودعاه إلى الله -تبارك وتعالى- وطلبا منه أن يؤمن بالله -عز وجل- وأن يتابعهما فيما جاء به من عند الله -تبارك وتعالى- فرد فرعون عليه بقوله على موسى بالذات؛ لأنه له مع موسى موقف، له مع موسى قصة صادقة: ? قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ?، ألست أنت الذي تربيت على فراشنا؟ وأكلت على مائدتنا؟ ألست أنا الذي رعيتك ونميتك؟ وفعلت، وفعلت حتى مكث سنينًا كبيرة معنا؟ ومع ذلك: ? وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ? هذا كلام من؟
(8/18)
---(7/211)
كلام فرعون ردًا على موسى -عليه السلام- الحقيقة موسى -عليه السلام- نبي رسول، مهذب مؤدب، لا ينكر لإنسان له فضل عليه؛ ولذلك لم يشتغل بالجواب على فرعون فيما ابتدأ به الكلام عنه، فرعون قال له: ? قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ?18? وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ? يعني ذكر له هذين الأمرين، موسى -عليه السلام- اشتغل بالأمر الثاني، أما الأمر الأول فهو مسلم به؛ لأنه حقًا وفعلًا نشأ في بيت من؟
(8/19)
---(7/212)
نشأ في بيت فرعون، ولم ينكر ذلك: ? قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا ?، لم يرد عليه، ولما قال: ? وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ?، بدأ موسى -عليه السلام- يرد على الأمر الثاني: قال له: ? قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ? وأنا من الضالين أولًا قوله: ? وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ? التوجيه الصحيح لقوله: ? وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ?، يعني الكافرين بنعمنا، التي أنعمنا بها عليك، يعني فرعون يقول لموسى أنت جحدت وكفرت النعمة التي تفضلت بها عليك، حينما نشأت وليدًا بيننا وأكلت معنا من طعامنا، و نمت على فراشنا، وتعاهدناك بالرعاية والتربية وغير ذلك موسى -عليه السلام- يرد عليه قائلًا: ? قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ?، لم ينكر ذلك، ولكنه ذكر أنه فعل هذه الفعلة قبل أن يوحى إليه، وقبل أن يرسله رب العالمين -سبحانه وتعالى- وكلمة الضلال تطلق في القرآن الكريم وفي لغة العرب على أكثر من معنى، تطلق على أكثر من معنى، تطلق كلمة الضلال على الذهاب عن حقيقة الشيء، وما يمكن أن يتعلمه الإنسان، يعني في هذه الآية يقال لموسى إنه من الضالين لماذا؟ لأنه ذهب عن حقيقة أمر هذا القتل، ولم يعلمه من قبل، ولم يكن له علم بشريعة أو توجيه بدين، وهذا الضلال المذكور هنا هو المذكور للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في قوله: ? وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ? [الضحي: 7]، وجدك ضالًا يعني: وجدك ذاهبًا عن الطريق المعلوم الذي يجب أن تتعلمه -صلوات الله وسلامه عليه- هذا هو المعنى الأول لكلمة الضلال.
(8/20)
---(7/213)
المعنى الثاني لكلمة الضلال: هو الذهاب عن حقيقة الإيمان إلى الكفر، وهذه المسألة هي المعنية، أو هذا المعنى هو المعني في قول الله -تبارك وتعالى-: ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ? [الفاتحة: 7] فالضالين المذكورين هنا في الآية المراد بهم من؟
المراد بهم الذين ذهبوا عن الإيمان إلى الكفر، طيب أي معنى هنا يمكن أن نصرفه إلى قول الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: ? قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ? المعنى الأول الذي هو الذهاب عن حقيقة الشيء؛ لعدم العلم به، فموسى -عليه السلام- أنا لم أكن أعلم ولم تكن لدي رسالة ولم يوحي رب العالمين -سبحانه وتعالى- بشيء من ذلك؛ ولهذا قال: ? فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ?، فعلًا موسى -عليه السلام- لما أُخبر كما أشرت سابقًا بأن الملأ يأتمرون به ليقتلوه خرج خائفًا يترقب -صلوات الله وسلامه عليه- فارًا من هؤلاء القوم الظالمين، وأخبر فرعون أنه فر لهذه العلة، ولما فر أكرمه رب العالمين -سبحانه- ولذلك قال: ? فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ? رب العالمين -سبحانه وتعالى- اصطفاني وأيدني وأرسلني رسولًا، وكلفني بأمانة، والحكم المراد به هنا النبوة والرسالة، وأكدها بقوله: ? وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ? يعني أرسلني ربي -سبحانه وتعالى- إليك كي أخرجك ومن معك من ظلمات الجهل والشرك والضلال والانحراف إلى نور الإيمان والعلم والتوحيد.
ثم قال موسى -عليه السلام- لفرعون: ? وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ? ما المراد بهذه العبارة؟ في الحقيقة فسرت بقولين:
(8/21)
---(7/214)
القول الأول: إن موسى -عليه السلام- يقول لهذا الرجل: أي نعمة تتكلم بها عليّ، وحقًا لك عليّ نِعَم، ولكن هذه النعمة اليسيرة التي فعلتها عليَّ لا تساوي شيئًا إلى جانب استعبادك لبني إسرائيل، وظلمك لبني إسرائيل، فإن كنت أنت قد فعلت معي شيء من المعروف فما وقع منك من ظلم واستكبار وبغي في الأرض على بني إسرائيل أعظم بكثير مما تفضلت به عليَّ، هذا معنى أول.
القول الثاني: وهناك معنى آخر، وهو أيضًا جميل رد به موسى -عليه السلام- على هذا الرجل وهو أن موسى -عليه السلام- يريد أن يقول له أنت تفضلك في الحقيقة على لم يكن منك أنت، وإنما هذا باستعبادك لبني إسرائيل، وهم الذين عملوا عندك، وهم الذين أتوا بهذا المال، وأنت ما أنفقته عليَّ، إنما أنفقته من مال بني إسرائيل عندما استعبدتهم، وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بين إسرائيل.
(8/22)
---(7/215)
بعد ذلك يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى-: ? قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ?23? قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُم مُّوقِنِينَ ? هذه الآيات تبين أن فرعون يتظاهر بإنكار رب العالمين -سبحانه وتعالى- وكان يُعلم قومه بذلك، ويعلن أمام قومه ذلك، فمرة يقول لهم: ? أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى ? [النازعات: 24] ومرة يقول لهم: ? مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ? [القصص: 38] ولاشك هنا في هذه الآية أن موسى -عليه السلام- دعاه، لاشك أن فرعون سأله بأي رسالة جئت؟ ومن الذي أوحى وأرسل إليك؟ لاشك أن موسى -عليه السلام- أخبره أن ربه هو الذي بعثه وهو الذي أرسله، وهو الذي يؤيده -سبحانه وتعالى- فيستفسر هنا فرعون، يستفصل من موسى -عليه السلام- قائلًا: ? وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ? تأملوا يا أخوان الآيات القرآنية وسياق القرآن في مثل ذلك، وكيف يستفيد الإنسان من هذا المنطق إن واجه قومًا كفرعون؟ موسى -عليه السلام- لما سأل فرعون عن ربه، عن رب موسى: ? وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ?، من هو هذا الرب الذي تخبرني به؟ ماذا قال له موسى عليه السلام؟ أشار له إلى الآيات الكونية: ? قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُم مُّوقِنِينَ ? ربي هو خالق هذا الكون، وقال له في عبارة جميلة مختصرة: ? رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ? يعني الكون كله بقدرة الملك الكبير -سبحانه وتعالى- ربي الذي تسأل عنه الذي خلق هذا الكون، وأوجد هذا الكون، وسير هذا الكون، وأنتم تشاهدون هذا الكون، وما ينبغي لكم بعد هذه الرؤية وهذه المشاهدة وأنتم تعلمون علم اليقين أنكم لن توجدوا شيئًا من ذلك، لو أيقنتم لآمنتم برب العالمين -سبحانه وتعالى- ولاشك أن فرعون -عليه لعنة الله- كان مقرًا في داخل نفسه وقرارة نفسه بأنه عبد مربوب مقهور؛ ولذلك قال الله -عز وجل- عنه كما في(7/216)
(8/23)
---
سورة النمل: ? وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ? [النمل: 14] جحدوا بهذه الحقيقة، وهي أن الله ربهم واستيقنتها، يعني قلوبهم مستيقنة تمامًا، وزاد الألف والسين والتاء وهي حروف الطلب؛ ليضخم المعنى بالمبنى كلما تزيد حروف الكلمة كلما يزيد معناها، فهم على يقين تام وفرعون على يقين تام بأن الله -عز وجل- ربه وخالقه ومالكه، وهو الذي يدبر هذا الكون، وأما فرعون لا يملك شيئًا وإنما الأمر كما قال الله عنه: ? فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ? [الزخرف: 54] وموسى -عليه السلام- يعرف بتعليم الله له أن فرعون يؤمن بأنه عبد مربوب مقهور بدليل أن موسى -عليه السلام- قال لفرعون: ? لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ? [الإسراء: 102]، هذا أمر واضح جدًا، أنت مستبصر منه، وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا، يعني هالكًا؛ ولذلك في سيرة فرعون، وفي قصة فرعون أنه أظهر ما كان عنده، وذلك لما بدأت أمواج البحر تتلاطم من هنا ومن هناك قال: ? آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ? [يونس: 90] فأفصح في هذا الوقت عما يقوم في نفسه، ولكن قد انتهى الأمر، ولات ساعة مندم لا يقبل منه في هذا الوقت مثل هذا الندم، أو مثل هذا الاعتراف؛ ولذلك موسى -عليه السلام- أحسن في قوله، وفي رده على فرعون: ? رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُم مُّوقِنِينَ ?.
(8/24)
---(7/217)
فرعون وإن كان ملكًا جبارًا مهيمنًا في الأرض مستكبرًا على خلق الله -عز وجل- مستعبدًا لنبي إسرائيل إلا أنه من أجهل الجاهلين ما استطاع أن يرد على موسى -عليه السلام- ظلمة الجهل والشرك والكفر والإلحاد ظاهرة بادية عليه؛ ولذلك ما استطاع أن يجيب بكلمة، غاية الأمر أنه نظر إلى ما حوله، وقال كما ذكر الله -عز وجل- عنه قال لمن حوله: ? قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ ? يعني ألا تعجبوا من هذا الكلام؟! طيب أين ريك أنت؟ أين مواجهتك أنت؟ حاد عن الجواب؛ لأنه لا يوجد لديه جواب.
(8/25)
---(7/218)
موسى -عليه السلام- عبد رسول مُكلم فقهه ربه وعلمه، لما وجد هذا الضعف ظاهر على فرعون، وأنه نظر إلى قومه واستعان بهم، وقال لهم: ? أَلاَ تَسْتَمِعُونَ ?؟ فوجه موسى -عليه السلام- الخطاب إليهم، كي يستثير ما لديهم، ويدفع فطرتهم إلى الظهور، فوجه الخطاب إلى من؟ إلى قوم فرعون قائلًا لهم: ? قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ? هذا الرب الذي يسأل عنه فرعون، هو ربكم الذي خلقكم وهو رب آبائكم أيضًا الذين ذهبوا ولا تشاهدونهم الآن، الذي خلقكم وخلق من قبلكم، هو رب العالمين -سبحانه وتعالى- هنا أُسقط في يد فرعون، فلم يجد ملجًأ يلجأ إليه إلا الاستهزاء والسخرية من موسى -عليه السلام- فقال لقومه: ? قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ? هذا الرسول الذي يكلمكم مجنون لا يدري ما يقول، وهذه حجة المنقطع عن الحجة، الذي لا يستطيع أن يدخل مع من يجادله في الكلام أو في حلقات من المناقشة والحوار، وموسى -عليه السلام- يعرف ما يقول له؛ لأنه نبي مؤيد من قبل الله -تبارك وتعالى- وهنا موسى -عليه السلام- لم يلتفت إلى قول فرعون لقومه: ? إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ? وإنما تابع إفحامه لفرعون بقوله: ? قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ? ربي الذي أدعو إليه هو رب المشرق ورب المغرب وما بينهما أيضًا، إن كان لديكم عقل، وأفهم من قول الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية رب المشرق والمغرب أنه -سبحانه وتعالى- كما أنه هو الذي يملك هذا الأمر لا يستطيع أحد أن يملكه، فهو الذي يشرق الشمس من المشرق ويغربها في المغرب، وكأني بموسى -عليه السلام- يريد أن يقول لفرعون ربي الذي أدعو إليه هو الذي يفعل ذلك فإن كنت مستطيعًا فعله فافعل أنت ذلك!!
(8/26)
---(7/219)
وهنا أتذكر موقف الذي حاج به إبراهيم في ربه، حينما إبراهيم -عليه السلام- يدعوه إلى الله -عز وجل- فأيضًا سأله من ربك؟ سياق القرآن يبين هذا: ? إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ? وجدها سهلة: ? قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ? [البقرة: 258] وفي هذا توجيه لأهل العلم ولعلي سبق أن أشرت لكم به، ولكن الشاهد هنا معي أن أتى إبراهيم -عليه السلام- بآية برهانية كونية أفحمته وأن يجد عنها مناصًا قال: ? قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ? [البقرة: 258].
فكأن موسى -عليه السلام- أيضًا يفحم فرعون بهذه الحجة ربي هو رب المشرق والمغرب فإن كنت أنت ربًا وتستطيع أن تفعل ذلك ففعل ذلك، وهل يستطيع أن يفعل هذا؟
(8/27)
---(7/220)
لا يستطيع أن يفعل هذا، لعلكم تشاهدون من هذا ا لحوار الذي دار بين موسى وفرعون، بين موسى -عليه السلام- وبين الطاغية فرعون، أما موسى -عليه السلام- ألقمه الحجة وتفوق عليه فيها، وهنا انقطع فرعون ولم يستطع جوابًا وإنما لجأ إلى ما يلجأ إليه الطغاة في كل زمان ومكان، يستغلون ويستخدمون ما لديهم من قوة ونفوذ عندما ينقطعون أمام الحجة والبرهان؛ ولذلك قال لموسى -عليه السلام- متوعدًا مهددًا: ? قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ? لو ذهبت إلى إله غيري وأثبت أن هناك ربًا لهذا الكون غيري، سأفعل بك وأفعل وعلى رأس ما ذكر هو السجن لموسى -عليه السلام- وفي السياق القادم -إن شاء الله- سنرى أنه توعد من آمن بموسى -عليه السلام- بوعيد آخر، ولكنه هنا يتوعد هذا النبي المرسل من قبل الله -تبارك وتعالى- بالسجن، فقال له موسى -عليه السلام- وهو يخاطبه بالحجة والبرهان: ? قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ ? ما رأيك لو أتيتك ببرهان واضح بحجة بينة بدليل يجعلك تسلم، هل تؤمن به؟ ففرعون طلب ذلك قال: ? قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ? طلب فرعون من موسى أن يأت بهذا البرهان؟ والله -عز وجل- قد أيد موسى -عليه السلام- بآيات من عنده، جاءت بين يدي موسى -عليه السلام- واضحة ظاهرة، وأيضًا أفحمت فرعون، ولهذا الحديث بقية تأتي -إن شاء الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم أكتفي لضيق الوقت وانتهاء وقت البرنامج وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-.
في الحلقة الماضية
كان السؤال الأول: اذكر القولين في معنى يبدل في قول الله تعالى: ? فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ? [الفرقان: 70]، مدعمًا إجابتك بالدليل؟
(8/28)
---(7/221)
وكانت الإجابة: القول الأول: أن الله -تبارك وتعالى- يبدل حالهم من أن يعملوا السيئات يغير الله حالهم فيفعلون الحسنات وبدلًا من قتال المسلمين أصبحوا يقاتلوا المشركين.
والقول الثاني: أن الله -تبارك وتعالى- إذا شاء بدل سيئاتهم إلى حسنات فتبدلت السيئات بتوبة صادقة إلى حسنات كما ورد في الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إني لأعرف آخر أهل النار خروجًا منها وآخر أهل الجنة دخول الجنة يؤتى برجل فيقال ألم تفعل كذا وكذا فيقول بلى يا رب ولا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا فيقال له إن الله أبدلك هذه السيئات حسنات فيقول إني عملت ذنوبا أخرى لم أرها، فقال أبو ذر فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه)
جواب سديد وصريح.
والسؤال الثاني: اشرح قول الله -تبارك وتعالى-: ? وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ? [الفرقان: 73]،؟
وكانت الإجابة: أن معنى الآية أن المؤمنين إذا ذكروا أو إذا تليت عليهم آيات الله لم خروا عليها متأملين، فالآية لم تنف خرورهم ولكنها نفت خرورهم عليها صمًّا وعميانًا كما يفعل الكافرون فالآية فيها دلالتان:
الدلالة الأول: المنطوق أن عباد الرحمن إذا ذكروا بآيات الله خروا عليها متأملين لما فيها.
الدلالة الثانية: دلالة المفهوم أن الكافرين إذا ذكروا بآيات الله -تبارك وتعالى- خروا عليها صمًّا وعميانًا؛ وذلك لقول الله تعالى: ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ? [لقمان: 7]
ما شاء الله جواب سديد وطيب وموفق -إن شاء الله-.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة:
(8/29)
---(7/222)
السؤال الأول: ماذا تفهم من قول الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم-: ? فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا ? [الكهف: 6]، وكيف يستفيد الدعاة إلى الله تعالى من هذه الآية؟ نحن نود يعني أن نستفيد من هذا القرآن الكريم عمليًا في واقعنا اليومي.
والسؤال الثاني: اذكر معنيين من معاني كلمة الضلال في القرآن الكريم؟ وأيهما المراد بقوله تعالى: ? قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ? [الشعراء: 20].
(8/30)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس التاسع : تابع تفسير سورة الشعراء (32 - 51)
الدرس التاسع
تابع تفسير سورة الشعراء (32 - 51)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، ويسرنا كما ذكرت أن يتجدد اللقاء بالجميع مع تفسير سورة الشعراء، وسنتناول -إن شاء الله تبارك وتعالى- بعضًا من آياتها، وسيدور الحديث حول الآيات التي سنستمع إليها بعد قليل في محاول ثلاث:
المحور الأول: تأييد الله لموسى بالعصا وموقف فرعون من هذه المعجزة.
المحور الثاني: موسى عليه السلام يواجه السحرة في الميدان.
المحور الثالث: فرعون يهدد السحرة بعد إيمانهم بالله وهم لا يأبهون به.
ولنستمع إلى الآيات من الشيخ عبد الرحمن:
(9/1)
---(7/223)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ?32?وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ?33? قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ?34? يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ?35? قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ?36? يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ?37? فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ?38? وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُّجْتَمِعُونَ ?39? لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ?40? فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ?41? قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ?42? قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُّلْقُونَ ?43? فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ?44? فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ?45? فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ?46? قَالُوا آمنا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ?47? رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ?48? قَالَ آمنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ?49? قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ?50? إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَّغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ? [الشعراء: 32-51].
(9/2)
---(7/224)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله:
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ? [أل عمران: 102]، ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً? [النساء: 1]، ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ?70? يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ? [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله -تبارك وتعالى- وخير الهدي هدي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أما بعد:
مع المحور الأول في هذا الآيات، وهي آيات كريمة كما سمعناها، فيها لقاء عظيم بين الحق والباطل، وانتصار الحق على الباطل بفضل الله وتوفيقه، والمحور الأول بعنوان: تأييد الله لموسى بالعصا وموقف فرعون من هذه المعجزة، لاشك بداية أقول عنونت لهذا المحور بهذا العنوان تأييد الله لموسى بالعصا رغم أنه -عليه السلام- أيد بآيات آخر، ولكن العصا هي محور الحديث في هذا اللقاء، وهي أعظم ما أيد به موسى -عليه السلام- وفي ذلك يقول رب العالمين -سبحانه-: ? فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ?32? وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ?، أقف عند هاتين الآيتين:
(9/3)
---(7/225)
أولًا في الآيات السابقة وفي اللقاء السابق ختمنا الآيات بقول موسى -عليه السلام- لفرعون لما أنكر بعثته، وجحد رب العالمين -سبحانه- وأنكر متظاهرًا بهذا الإنكار، قال له موسى -عليه السلام-: ? قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ ? فوافق فرعون على ذلك: ? قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ? [الشعراء: 30-31]، عقب القرآن على ذلك مباشرة فألقى موسى عصاه فهذا يفيد ويدل أن الله -عز وجل- ولاشك- أوحى لموسى -عليه السلام- بهذا الأمر، وهو الذي أمره بأن يلقي عصاه، ولاشك أيضًا أن موسى -عليه السلام- عرف أن في هذا إعجاز سيؤيد به من رب العالمين -سبحانه وتعالى- وما كان من موسى -عليه السلام- إلا أن امتثل أمر ربه إليه، فألقى عصاه كما أمره ربه، وعند إلقائه لها تغير حال هذا العصا، وذكر القرآن أنها أصبحت ثعبان مبينًا واضحًا ظاهرًا جليًا كبيرًا بشكل مخيف، هنا قال: ? فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ?، وفي سورة طه ? فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ? [طه: 20]، وفي سورة النمل قال: ? كَأَنَّهَا جَانٌّ ? [النمل: 10]، فهل هذا تناقض لا-حاشا وكلا- وأن يكون في كتاب الله تناقض؛ ولكن الجواب على ذلك؟
أن الحية اسم للجنس؛ لجنس ما يدب فصائل هذه الحشرات التي تعود إلى الحية فإذا صارت شيئًا وحجمًا كبيرًا قيل لها ثعبان، وعند تحركها وخفتها واضطرابها كأنها جان، هذه معجزة عظيمة أيد الله -تبارك وتعالى- موسى -عليه السلام- وسيستمر اللقاء معنا في هذا اليوم حول هذه المعجزة الكريمة، وكيف كان تأييد الله -عز وجل- بها لموسى -عليه السلام- كبيرًا، وأنه انتصر على فرعون، وفيها مسائل عقدية سأتحدث عنها -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
(9/4)
---(7/226)
بعد ذلك أيضًا أظهر موسى -عليه السلام- بتأييد الله له معجزة أخرى وهي الواردة في قوله تعالى: ? وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ?، يعني كانت يده في جيبه فأخرجها -عليه السلام- من جيبه فإذا هي بيضاء تتلألأ كالقمر، وهذا يفيد أنها أصبحت على هيئة غير الهيئة التي عليها موسى -عليه السلام- عندئذ لم يسلم فرعون، ولكن الآيات التالية وأود من أخواني أن يفقهوا معي روح هذه الآيات ومعناها تفيد أن فرعون مع ادعائه العظمة والجبروت والسلطان كان في غاية الركاكة والضعف؛ لأنه لما حصل ما حصل من موسى -عليه السلام- ما استطاع هو أن يواجه موسى -عليه السلام- بل ماذا قال، قال: ?قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ?109? يُرِيدُ أَن يُّخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ?110? قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ?111? يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ? [الأعراف: 109-112]، هذه كلمات منهزم، هذه كلمات يبدو من خلالها هزيمة فرعون، وأنه لا يستطيع أن يواجه موسى بدليل أنه لجأ إلى الملأ، وقال للملأ الذين التفوا حوله، جماعته حاشيته خدمه مناصروه معاونه قال لهم: ? إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ?، يعني عنده إلمام وعلم كبير بالسحر، ثم أوعز إلى جماعته وقومه إيعازًا نفسيًا عجيبًا وخطيرًا، والقرآن الكريم يوحي ويذكر هذه المعاني، ونحن علينا أن نتأملها وأن نتدبرها ما هو الإيعاز النفسي؟ قال: ? يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ?، ترى فرعون يريد أن يجعل قومه يهبون في مواجهة موسى بأقصى ما يفعلون، وذلك حينما يوحي إليهم بأن موسى -عليه السلام- قادم لإخراجهم من وطنهم وأرضهم، والإنسان لاشك يعز عليه المكان الذي يعيش فيه؛ فيه بيته، فيه أهله، فيه جماعته، فيه ماله، فيه حركته وتصرفاته وغير ذلك، فيعز عليه أن(7/227)
(9/5)
---
يخرج وإلى أين سيذهب؟
ففرعون لعنه الله لاحظ هذا، وحاول أن يلجأ إليه كي يدفع قومه دفعًا قويًا شديدًا إلى أن يواجهوا موسى -عليه السلام- وموسى -عليه السلام- ما جاء ليخرجهم من أرضهم، وما يريد ذلك، وإنما هو فقط صلوات الله وسلامه عليه يريد أن يخرجهم من هذه التبعية لهذا الرجل الملحد إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى- ثم في نهاية الآية يظهر أيضًا ? يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ ?، يظهر ضعف فرعون، يا فرعون أنت تدعي الإلوهية وتدعي الربوبية فهل مدعي الإلوهية والربوبية، فهل مدعي الربوبية والإلوهية يشاور قومه وعبيده؟ هنا يشاورهم قائلًا: ? فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ? يعني هذه دلائل على بشرية فرعون، وأنه يعلم ذلك، وأنه ليس بملك على الحقيقة، ولا إله ولا رب وإنما هو عبد مملوك مربوب لله رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(9/6)
---(7/228)
هنا يطلب المشورة من قومه، وقومه لاشك جماعة من السفهاء كما قال الله عنهم فماذا يقولون له؟ قالوا: ? قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ?، أرجه وأخاه: يعني أخره وأخر أخاه، وأرسل في المدائن وتحدث ونادي في المدائن ابعث إليهم اطلب من أطراف مملكتك ليجتمع السحرة جميعًا عندك: ? يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ ?، وسحَّار للمبالغة، يأتوك بأعلى قمم السحرة، أفضل ما لديهم من قوة وإمكانيات وسحرة مهرة، يمكن أن يواجهوا بها من؟ يواجهوا بها موسى -عليه السلام- ولاشك أن موسى -عليه السلام- مؤيد بتأييد الله -تبارك وتعالى- له، والله -تبارك وتعالى- أخبر في كتابه أن هؤلاء الناس مهما فعل رب العالمين -سبحانه وتعالى- بهم كي يدخلوا في دين الله -تبارك وتعالى- لن يدخلوا فيه؛ لأن الله -عز وجل- طبع على قلوبهم ولم يرد هدايتهم؛ ولذلك قالوا لموسى -عليه السلام- وقالوا: ? وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ? [الأعراف: 132]، يعني هم أعلنوا ذلك، ولكن النصر والتأييد حليف موسى -عليه السلام- ويأبى الله -عز وجل- إلا أن يتم نوه.
(9/7)
---(7/229)
فرعون أرسل في المدائن حاشرين؛ لكي يأتي بأمهر السحرة في أطراف مملكته كلها، وأتى السحرة، وقال القرآن عن ذلك: ? فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ?38? وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُّجْتَمِعُونَ ?39? لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ?، جمع السحرة من أطراف المملكة، جمعوا من أماكن متعددة، وأتوا لميقات يوم معلوم، يعني اليوم قد حدد، وهذا أيضًا فيه تأييد لموسى -عليه السلام- لأن جمع هذا الحشد الهائل في هذا المكان الواسع الذي سيجتمعون فيه، وسأبين لكم أن هذا الاجتماع كان في وسط المدينة بدلالة القرآن؛ لكي يسهل الذين يأتون إلى المكان يسهل عليهم الإتيان إليه، وتكون نسبة الحضور فيه قوية كبيرة؛ لأنه لن تلحقهم مشقة في حضورهم في هذا المكان، وكان اليوم يومًا مشهودًا، قيل يوم معلوم، يوم عيد عندهم، وجاء في سورة طه أنه يوم الزينة لديهم، وكان في وسط البلد كما أشرت ونفهم ذلك من قول الله تعالى في سورة طه: ? فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَانًا سُوًى ? [طه: 58]، فكلمة سوى صفة لماذا؟
(9/8)
---(7/230)
صفة للمكان يعني مكان مستوي في وسط المدينة التي نحن فيها، وفعلًا اجتمع هؤلاء الناس في ميقات يوم معلوم ? وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُّجْتَمِعُونَ ?؟ يعني قال قوم فرعون، وفرعون لقومه، تعالوا، هلموا، استمعوا؛ لتحضروا هذه المناسبة، ولاشك أنهم يطمعون في أي شيء؟ في القضاء على موسى -عليه السلام- ولكن كان في هذا تأييد من الله -عز وجل- لموسى -عليه السلام- حينما سينتصر كما سنرى بعد قليل أمام هذا الجمع الهائل على هؤلاء الذين اجتمعوا لمواجهته صلوات الله وسلامه عليه ? وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُّجْتَمِعُونَ ? لماذا؟ ? لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ? أود أن أقف هنا وقفة لأبين لأخواني منطق الكفر في كثير من الأزمنة والأمكنة، هؤلاء ربنا طبع على قلوبهم، هؤلاء المفروض يقولون نتبع الحق، وإنما قالوا لعلنا نتبع السحرة، أنتم إذا جئتم في هذا المكان وتريدون بيان لون من ألوان المواجهة، وفي هذه الحالة يجب أن تتبعوا من؟ المنتصر، وأن تتبعوا الحق، فهم عندهم السحرة يطمعون في أن يكونوا هم الذين ينتصرون على موسى -عليه السلام- وبالتالي قالوا هذا القول: ? لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ?، قوم قريش، قوم النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين بعث فيهم قالوا هذه الكلمة، هل أحد من الشباب يستطيع أن يذكر لي قولًا يشابه هذا القول؟
(9/9)
---(7/231)
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، الواجب لو كانوا يعقلون، اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأهدنا إليها أو فجعلنا نسلكه؛ لأنه حق، وهم قالوا بأنه حق، ولكن هذا هو منطق الظالمين دائمًا، هذا من غباوة المشركين وجهل الكافرين أنهم لا يبحثون عن الحق المؤيد بالدليل؛ ولذلك قالوا: ? لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ? عندئذ اجتمع السحرة وأتوا في الميدان أمام فرعون وأرادوا أن يواجهوا موسى -عليه السلام- وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ? فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ?41? قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ?، هؤلاء السحرة على دين قومهم، على دين ملكهم الذي يقوم عليهم، وقد تسلط عليهم وعندما ناداهم فرعون من المدائن واجتمعوا عنده طمعوا في أن تكون لهم منقبة وأن تكون لهم مزية على غيرهم من الناس؛ لأنهم أتوا ليواجهوا النبي الرسول الذي يواجه طاغيتهم فرعون، فانتهزوا هذه فرصة وأتوا، وعندما اجتمعوا إلى فرعون قالوا له: ? أَإِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ?، يريدون طمعًا وجاهة، ولاشك أن هذه الوجاهة تكون في المال وفي المكانة، يعني تكون لهم حظوة عند فرعون ويعطيهم أيضًا جائزة ومالًا؛ ولعل فرعون فهم هذا فوعدهم بالأجر الكبير، وبالمكانة والحظوة عنده، كي يدفعهم إلى أي شيء؟ كي يدفعهم إلى أن يواجهوا موسى -عليه السلام- فلم يكتفي بوعده لهم بأجر ومال، وإنما قال لهم: ? قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ?، ومثل هؤلاء يضعفون أمام المال ويضعفون أمام قوة السلطان عندما يكونون من أتباعهم ثم يستمر اللقاء بعد ذلك وآتي إلى المحور الثاني لكي أبين طبيعة المواجهة التي وقعت بين موسى -عليه السلام- وبين فرعون.
(9/10)
---(7/232)
والمحور الثاني بعنوان: موسى -عليه السلام- يواجه السحرة في الميدان، وفي ذلك يقول رب العالمين -سبحانه-: ?قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُّلْقُونَ ?43? فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ?44? فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ?45? فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ?46? قَالُوا آمنا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ?47? رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ?، ما أجمل هذه الآيات التي تبين هذا اللقاء الحاسم بين هذا الطاغية وبين موسى -عليه السلام-؟!!
لما اجتمع موسى والسحرة في الميدان كان لابد أما أن يبدأ موسى -عليه السلام- وإما أن يبدءوا هم في سورة طه: ? قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ?65? قَالَ بَلْ أَلْقُوا ? [طه: 65- 66]، قال بعض أهل العلم يلاحظ في ذلك أدب موسى -عليه السلام-؛ لأنهم لما ابتدءوه وخيروه وأسند الأمر إليهم ولم يبتدئ هو وينتهزها فرصة في ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
(9/11)
---(7/233)
في الآية التي معنا: ? قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُّلْقُونَ ?، ما عندكم افعلوه، كأن هذا فعلًا منطق رجل مؤيد بالحق من قبل رب العالمين، يقول لهم: ما لديكم من أمور تودون أن تضعونها وأن تلقونها في الأرض فافعلوا ذلك، يعني يعطيهم إيحاء هو أيضًا بأنه لا يأبه بما عندهم، وبما سيلقونه على الأرض، فألقوا ما عندهم فلما ألقوا ما بأيديهم أصبحت الحبال والعصي كما نطق القرآن الكريم تتحرك، لما ألقوا حبالهم وعصيهم على الأرض صارت تتحرك في الميدان أمام من؟ أمام الناس هذا أولًا، موسى -عليه السلام- وافق أن يبتدئوا هم، فلما ابتدئوا وألقوا حبالهم وعصيهم أصحبت هذه الحبال والعصي تتحرك على أرض الميدان الذي دار فيه اللقاء بينهم وبين موسى -عليه السلام- عندئذ ألقى موسى عصاه، ولاشك أنه بأمر رب العالمين -سبحانه- وتأمل الآية بحرف الفاء: ? فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ? تلقف يعني تأخذ وتذيب وتأكل كل ما ألقاه هؤلاء على هذه الأرض من الحبال والعصي التي أصحبت تتحرك، فإذا هي تلقف ما يأفكون، وكلمة ما يأفكون تدل على بطلان ما أتوا به؛ لأن الإفك هو الكذب والافتراء والبهتان، هؤلاء أيضًا السحرة كانوا يعتزون بقوة فرعون غاية العزة، ومع ذلك هل أفادتهم هذه العزة؟ هو يظهر هذا الاعتزاز لما أتوا إلى إلقاء الحبال والعصي: ?قَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ?؛ لأنهم لا يعرفون إلا هو، ولا يؤمنون إلا بهذا الطاغية، وسيرون بعد قليل نهايته وإلى ما سيئول أمره إليه، وكيف أنه خاوٍ وفاض، لا يملك شيئًا لا في الدنيا ولاشك بعد ذلك في الآخرة، هؤلاء ألقوا الحبال والعصي وقالوا بعزة فرعون يعني معنى بعزة فرعون يعني أننا سننتصر بعزة فرعون، هؤلاء السحرة قيل بأنهم كانوا جماعة كبيرة للغاية، بعضهم قال اثنى عشر ألفاً، وبعضهم ذكر أربعين، وبعضهم قال سبعين، وبعضهم زاد، وبعضهم قال...، وفي الحقيقة هذه الروايات(7/234)
(9/12)
---
لم يثبت منها شيء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والقرآن الكريم سكت عن عدد السحرة ونحن ما علينا إلا أن نسكت، طالما أن القرآن الكريم لم يعلمنا بذلك، ونحن نأخذ الوحي من كتاب رب العالمين -سبحانه وتعالى- فنقف عند فقط عند حدود ما ورد في كتاب الله -تبارك وتعالى-.
لما ألقى موسى عصا وأكلت وابتلعت وهي عصا أيضًا تحركت، كل ما على الميدان من الحبال والعصي التي ألقاها هؤلاء السحرة، أدرك السحرة وهم لاشك مهرة في السحر وصلوا فيه الغاية، أدركوا عندئذ أن ما لديهم من أعمال وما فعله موسى -عليه السلام- وما واجههم به ليس من قبيل السحر، هم وإن كانوا يضحكون على الناس بما لديهم أو بسحرهم كما سنأتي بعد قليل في بعض المسائل، وسأقف عن نوعية وطبيعة سحرهم أدركوا من خلال عصا موسى -عليه السلام- أن هذا لا يمكن أن يكون سحرًا قال بعض أهل العلم؛ لأن هؤلاء وضعوا مادة الزئبق على الحبال والعصي، فلما أصابتها حر الشمس أصبحت الحبال والعصي تتحرك، وهم ليست لهم مقدرة بأمر يمكن أن يواجهوا به عصا موسى -عليه السلام- وأدركوا أن ما أيد به موسى -عليه السلام- ليس سحرًا، وإنما هو أعجاز أيد به من قبل رب العالمين -سبحانه وتعالى- والله أبطل سحر هؤلاء السحرة: ? فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?118? فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ ? [الأعراف: 118- 119].
(9/13)
---(7/235)
هؤلاء إذن لما وجدوا هذا الأمر، وكانوا لاشك كما ذكرت من أعلم الناس في السحر، وفي هنا فائدة يعني ما أريد أن أطيل لأنتهي من هذه الآيات: وهي أن الله -عز وجل- كان يؤيد أنبيائه ورسله بمعجزات من جنس ما يدور عند أقوامهم، فلما كان في قوم فرعون وعند فرعون وفي عهد فرعون السحر منتشرًا ظاهرًا معلومًا متداولًا أيد الله -عز وجل- موسى -عليه السلام- بمعجزات من طبيعة ما عند هؤلاء الناس، كما أيد الله -عز وجل- نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- بمعجزة القرآن الكريم، وهو إنما قد أؤيد بغيرها من المعجزات الحسية إلا أن أعظم معجزة دائمة باقية معجزة القرآن الكريم، وكان القرآن الكريم بلسان عربي مبين، واحتوى على ألوان متعددة من البلاغة والفصاحة والإعجاز والبيان؛ ذلك ليواجه به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المشركين الذين بلغوا أيضًا الغاية البشرية في الأعجاز والفصاحة والبلاغة والبيان، ويعلموا عند المواجهة أن هذا حقاً كلام رب العالمين؛ لأن القرآن تحداهم أن يأتوا بمثله فما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
(9/14)
---(7/236)
إذن عصا موسى ابتلعت كل ما وضعه هؤلاء السحرة، وظهر للسحرة أنهم على جهل وضلال، وأن ما كان من موسى -عليه السلام- إنما هو ولاشك إعجاز مؤيد به من قبل رب العالمين -سبحانه وتعالى- الذي كان موسى -عليه السلام- يدعو فرعون إليه، عندئذ قال القرآن الكريم: ? فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ?46? قَالُوا آمنا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ?47? رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ? الله أكبر على هذا الإيمان الذي يمكن أن أطلق عليه إيمان ولد في لحظة، هم قبل قليل يقولون بعزة فرعون، يلقون الحبال والعصي ولا يعرفون لهم ربًا ولا إلهًا، وإنما مستندهم في الأمور فرعون، ثم بعد ما تأكل العصا هذه الحبال لاشك في لحظة مباشرة يتحولون من سحرة كفرة قائلين بعزة فرعون يتحولون إلى عباد لله -عز وجل- ساجدين يعني أتوا بأفضل لون من ألوان العبودية لله ألا وهو السجود، بأن يضع العبد جبهته وأشرف وأعلى مكان فيه ويخر به لله -تبارك وتعالى- على الأرض، فعل هؤلاء السحرة ذلك: ? فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ?، ثم عبروا عما قام في قلوبهم: ? قَالُوا آمنا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ?، يعني أنهم يريدون أن يقولوا لفرعون أنت لست ربًا ولا إلهًا؛ لأنهم ما قالوا آمنا بربنا، وإنما قالوا آمنا برب العالمين، يريدون أن يقولوا لفرعون أنت مربوب مثلنا؛ لأن فرعون من العالمين، وأن يبينوا لأقوامهم أنهم أيضًا جُهَّال حينما اتبعوا هذا الرجل، ثم أكدوا إيمانهم بالله حينما قالوا: ? رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ?، وهذا عطف بيان من رب العالمين، بهذا ينتهي هذا المشهد الكريم الذي ظهر فيه انتصار نبي الله موسى -عليه السلام- وأيده ربه -سبحانه وتعالى- بهذه المعجزة الكريمة الكبيرة الذي اعتلى بها على فرعون، وآمن السحرة الذين كان فرعون يتقوى بهم ويعدهم بالأجر الكبير والمنزلة العالية الرفيعة آمنوا وتركوا من؟ وتركوا فرعون، آمنوا بالله وتركوا فرعون، كل ذلك كان من معجزة التي أؤتيها موسى(7/237)
(9/15)
---
-عليه السلام- وهنا مسائل قبل أن أنتقل إلى المحور الثالث تتعلق بهذه الآيات وهي في مسألة السحر، سأشير إليها إشارات يسيرة -إن شاء الله تبارك وتعالى-:
المسألة الأولى: ما هو السحر في اللغة والاصطلاح؟
السحر في اللغة: كل ما خفي ولطف سببه، كل شيء دقيق سببه خفي لطيف يقال عنه سحر؛ ولذلك النميمة نقول عنها ماذا؟ نقول بأنها سحر، وفي الأمثال يفسد النمام في ساعة ما لا يفسده الساحر في سنة؛ فالنميمة تعمل عمل السحر، ويقال لها سحر في اللغة، كذلك البلاغة والبيان والفصاحة أيضًا يطلق عليها سحر؛ ولهذا جاء إن البيان لسحرا هذا تعريف السحر في اللغة.
وفي الاصطلاح: رقى وعقد وتمائم تؤثر وعزائم تؤثر بإذن الله -تبارك وتعالى- وتفرق بين الرجل وزوجه وتمرض وغير ذلك مما هو معلوم في السحر.
المسألة الثانية: هل السحر حقيقة أو هو تخيل لا حقيقة له؟ هذه مسألة مختلف فيها بين أهل العلم؟ الحقيقة، والتحقيق في ذلك: أن السحر له حقيقة واقعة، قد يسألني سائل يقول كيف له حقيقة واقعة والآيات التي نحن بصدد الحديث عنها: ? يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ? [طه: 66]، نقول لاشك أن هناك لون من ألوان السحر فيه تخيل، وهو أيضًا سحر، ففي آية سورة الأعراف: ? سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ? [الأعراف: 116]، فكونه يسحر العين حتى يخيل للعين أن الساكن متحرك والمتحرك ساكنًا يكون هذا من باب السحر، ولاشك إلى جانب أنه لو لم يكن للسحر حقيقة، ما أمرنا رب العالمين -سبحانه وتعالى- أن نستعيذ به في كتابه: ? وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ? [الفلق: 4]، النفاثات: التي هما السواحر التي ينفثن على عقد يفعلنها وتؤثر إذا شاء رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
المسألة الثالثة: حكم تعلم السحر؟
(9/16)
---(7/238)
جمهور العلماء على أن السحر كفر، وأن تعلمه والعمل به كفر، وقال الإمام الشافعي -رحمه الله-: نأتي للساحر ونقول له صف لنا سحرك؟ فإن كان سحرك كسحر عباد الكواكب والنجوم والذين يستخدمون الجن ويعبدونهم من دون الله -سبحانه وتعالى- فهذا كفر، وإن وصف سحره بأدوية وعقاقير وأدخنة وغير ذلك فهذا كبيرة من الكبائر، وليس بكفر، والصواب: أن السحر كفر بدليل قول الله -تبارك وتعالى- في كتاب في سورة البقرة: ? وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ? [البقرة: 102]، فلا تكفر بماذا؟
بتعلم السحر فدل ذلك على أن السحر كفر، وختم الله -عز وجل- الآيات التي تحدثت عن السحر في سورة البقرة قال: ? وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ? [البقرة: 102]، وكونه لا خلاق له في الآخرة، نفي الخلاق يدل على أنه لا حظ ولا نصيب له وهذا لا يكون إلا للكافرين، ويمكن أن نستدل أيضًا بقول الله -تبارك وتعالى-: ? وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ? [طه: 69]، بأن السحر كفر لماذا؟ قالوا؛ لأن نفي الفلاح بالكلية لا يكون إلا عن الكافرين.
المسألة الرابعة: حكم حل السحر على المسحور التي تعرف بالنشرة، حكم حل السحر عن المسحور؟
بعض العلماء أجاز حل السحر عن المسحور، وبعضهم لم يجز، والصواب في ذلك أن حل السحر عن المسحور يكون بطريقين:
طريق محرم.
وطريق جائز.
حل السحر عن المسحور بسحر مثله فهذا كفر وحرام ولا يجوز؛ لأن ذلك يدعو إلى تعلم السحر والعمل بالسحر فحل السحر بسحر مثله لا يجوز.
(9/17)
---(7/239)
أما حل السحر بالرقى الشرعية والتعاويذ قراءة آيات من القرآن الكريم فهذا من الأمور المباحة الجائزة المشروعة، طيب ورد حديث في مسند الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- (سئل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان) النشرة ما هي؟ هي حل السحر عن المسحور وسمي حل السحر عن المسحور بالنشرة؛ لأنه ينشر به عن صاحبه من الداء ما خامره من الداء، يعني يرفع ويزال ما وقع به، ومن هنا سمي إزالة السحر عن المسحور نشرة، في حديث جابر هذا سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان فكيف نوفق بين هذا الحديث وبين قولنا حل السحر بالتعويذات الشرعية وبالرقى الشرعية جائز؟ نقول معنى سئل عن النشرة أن في كلمة النشرة للعهد يعني سئل عن النشرة المعهودة عند أهل الجاهلية، فقال هي من عمل الشيطان؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يتقربون إلى الجن والشياطين ويعبدونهم من دون رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
أما الرقى والتعويذات الشرعية فهي ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد رقى بها وأباحها وأقرها النبي صلوات الله وسلامه عليه، كما في حديث اللديغ وغيره، وأيضًا عندنا المعوذتين: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس أيضًا هي من التعويذات الشرعية التي تقال في مثل هذا الموقف.
(9/18)
---(7/240)
المسألة الخامسة: في المسائل التي تتعلق بأحكام السحر وهي: أنه يجب أن نعلم وهذه مسألة مهمة أن سحر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لا يستلزم نقصًا ولا محالًا شرعيًا ولا يطعن به على رسالته -صلى الله عليه وآله وسلم- فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي، وكان سحره واقعًا في أمر محدود معين، يظن أنه يأت أهله أي أنه قد أتى أهله -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن قد فعل، أما هو -عليه الصلاة والسلام- فكان معصومًا في النبوة والرسالة والتبليغ صلوات الله وسلامه عليه، والسحر مرض، وهو نوع من الأعراض البشرية والنبي -عليه الصلاة والسلام- بشر رسول يمكن أن يعتريه ما يعتري غيره من سائر البشر؛ ولذلك تعجبني كلمة للإمام الحافظ ابن حجر-رضي الله تعالى عنه- ذكر فيها المبتدعة الذين أنكروا السحر، وبين أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد سُحر وأن سحره لا يتعارض مع عصمته في الرسالة والبلاغ صلوات الله وسلامه عليه، في ذلك يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وهو يتكلم عن حديث سحر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وزعموا أنه يحط من منصب النبوة والرسالة ويشكك فيها، قال وهذا كله مردود؛ لأن الدليل قام على صدق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما يبلغه عن ربه وهو معصوم في التبليغ صلوات الله وسلامه عليه.
أود أن أسال سؤالًا يتعلق بسورة الفرقان، في سورة الفرقان قال الكافرون بعضهم لبعض ولأهل الإيمان: ? إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ? [الإسراء: 47]، ما معنى كلمة مسحورًا في هذه الآية؟
أي هذا الرجل يقول كلامًا لا يدري معناه.
(9/19)
---(7/241)
يعني هم يريدوا أن يقولوا ليس معنى كلمة مسحورًا أن السحر قد أصابه، وإن كانوا قد زعموا في بعض المواطن وإلا هم لم يسلموا بذلك، فهم كما ذكرت لكم آنفا في لقاءات السابقة في سورة الفرقان عجزوا عن مواجهة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عجزوا عن ذلك عن مواجهته، والتحدي كان قائمًا لهم بالقرآن وما استطاعوا وهذه الآيات جاءت في سياق بشرية النبي -صلى الله عليه وسلم-: ? وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ ? [الفرقان: 7]، إذن مسحور يعني رجل به رئة، والرئة يقال عنها سحر، أو أنه يأكل ويشرب وليس مسحورًا من السحر.
المحور الثالث: بعنوان فرعون يهدد السحرة بعد إيمانهم بالله والسحرة لا يأبهون به.
السحرة كما ذكرنا سابقًا خضعوا لرب العالمين وسبحان مقلب القلوب -سبحانه وتعالى- الذي حولهم من قوم كافرين لا يؤمنون إلا بفرعون، بعزة فرعون وفي لحظة يقولون: ? آمنا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ?47? رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ?، وهذه الآيات في هذا في هذا المحور تبين أيضًا مدى عظمة الإيمان الذي قام في قلوب هؤلاء، فرعون يهدد السحرة بعد إيمانهم، وفي ذلك أنه قال: ?قَالَ آمنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ?.
(9/20)
---(7/242)
الإنسان يعجب أيها الإخوة الكرام من نطق هؤلاء المتجبرين، هؤلاء يقولون: إن الناس عندهم عبيد، حتى قلوب الناس تحت أيديهم وتصرفاتهم، من هذه الآية نفهم ذلك يعني فرعون ما اكتفى أن يستعبد أبدان قومه؛ ولكنه أيضًا يستعبد العقول والقلوب، بدليل أنهم لما آمنوا لموسى -عليه السلام- وبرب موسى وتابعوا موسى -عليه السلام- غضب فرعون وواجههم كيف تؤمنون به قبل أن أذن لكم، طيب الإيمان مسألة قلبية، ثم بعد ذلك يظهر أثره على الجوارح، وهذا ما لا يملكه فرعون ولا يملكه غيره؛ ولكن هذا شأن المتكبرين، أنهم يستعبدون الناس ويحاولون أن يسيطروا حتى على العقول.
(9/21)
---(7/243)
ثم تظهر هذه الآية جهل وسخافة فرعون، وأنه حقًا يمكن أن نقول أنه مع كفره كان رجلًا أحمقًا حتى في دنياه؛ لأنه قال لهؤلاء السحرة: ? إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ?، هذا غباء منه، موسى -عليه السلام- لم يلتق بالسحرة من قبل؛ فرعون هو الذي ناداهم من الآفاق فمن أين أتلقى بهم وكيف علمهم موسى -عليه السلام- ومن أين تعلموا السحر على يديه وهل موسى -عليه السلام- كان ساحرًا؟ هم تربوا عندك يا فرعون وكانوا وهم يؤلهونك أنت ولم يسبق لهم لقاء بموسى -عليه السلام- ولكن هذا هو الهوس الذي دخل على فرعون لما وجد هؤلاء السحرة آمنوا برب موسى وهارون؛ ولذلك قال: ? آمنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ?، ثم منطق أيضًا الجبابرة واضح وظاهر عليه، هذا الذي يملكه ? فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ? هذه كلمة تهديد ووعيد قبل أن يهدد أو أن يذكر نوعية العذاب الذي يوقعه عليهم يعطي هذه الإشارة بالتهديد الشديد فلسوف تعلمون، وأعتقد أن هذه عبارة لغوية نعرفها ونعتمد بها، لو ظلمك إنسان تقوله طيب، ترى ماذا أفعل فيك، أو ماذا سأفعل بك؟ كذلك فرعون قبل أن يذكر له نوعية العذاب المؤلم الذي سينزله بهم يتوعدهم ويتهددهم بهذه الكلمة فلسوف تعلمون، ثم يذكر لهم نوعية الوعيد الطاغية: ? لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ?، يعني إذا قطع اليد اليمنى يقطع الرجل اليسرى يعني يريد أن يعمل لهؤلاء شلل كامل إن صح التعبير، وتشويه أيضًا في الخلقة، ولم يكتف بذلك، بل قال: ? وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ?، وجاءت في سورة طه أنه يصلبهم في جذوع النخل، ولاشك أن فرعون يبلغ بهذا التهديد مداه؛ لأن قوله: ? وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ? يفيد أنه سيقطع الأيدي والأرجل من خلاف وسيصلبهم في جذوع النخل وهم أحياء حتى يموتوا وهم على هذه الهيئة.
(9/22)
---(7/244)
ماذا قال هؤلاء السحرة لفرعون وبأي شيء واجهوه؟ قالوا كلمات عجيبة جدًا تنبئ عن مدى إيمان هؤلاء القوم: ? قَالُوا لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ?50? إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَّغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ?، آيتين جميلتين هما ختام هذا اللقاء قالوا لا ضير يعني لا نبالي بك ولا نأبه بتهديدك ووعيدك، رغم أنه مؤلم إلا أنهم ما التفتوا إليه، وما تأثروا من نوعية هذا التهديد؛ ولذلك في سورة طه واجهوه بأعنف من هذا: ? فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ? [طه: 72]، هنا قالوا لا ضير لا نأبه بك، افعل ما تشاء، وهذا رد على التهديد بليغ.
ثم بعد ذلك: ? إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ? [الأعراف: 125]، ذكر بعض أهل العلم أن هؤلاء أحبوا ربهم حبًا شديدًا ليس مجرد إيمان، هؤلاء أحبوا ربهم حبًا شديدًا وتمنوا الرجعة إلى الله -عز وجل- والانقلاب إليه فقالوا: ? إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ?، والآية الثانية تبين كيف أنهم طمعوا في مغفرة الله -عز وجل- ورجائه، وكيف أن الإيمان حوَّلهم إلى أناس من نوع جديد بعد ما كانوا يقولون بعزة فرعون، يتمنون الرجعة إلى الله: ? إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ?، ويطمعون فيما عند الله، ويقدمون بين يدي هذه الكلمة اعتذارًا إلى ربهم؛ لأنهم أخطئوا في حق الله لما تبعوا فرعون: ? إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَّغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ?؛ لأنهم -الخطيئة- كانوا يتابعون فرعون، كان يدعي الإلوهية فيزعمون ذلك الربوبية فيزعمون ذلك ثم بعد ذلك هذا الطمع بني عندهم على قولهم ? أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ?، يعني أول المؤمنين بالله من قوم فرعون وكان الأمر كذلك، وبهذه الكلمات ننهي هذا اللقاء وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(9/23)
---(7/245)
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: ماذا يفهم من قول الله -تبارك وتعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: ? فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ? [الكهف: 6]، وكيف يستفيد الدعاة إلى الله من هذه الآية؟
وكانت الإجابة: قوله تعالى: ? بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ?، أي مهلكها وهذه الآية تدل على حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على دعوة المشركين إلى التوحيد وتصور حاله كرجل حريص أن يسلم هؤلاء المشركين وعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يتعلموا من هذه الآية، وأن يكونوا حريصين كل الحرص، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- على هداية الناس، وأن يكونوا محبين لنفع الآخرين، وكل ما ارتقى علم الإنسان في العموم كل ما كان رحيمًا بالمدعوين حريصًا على هدايتهم بالطريق المستقيم.
إجابة طيبة وسديدة.
والسؤال الثاني: اذكر معنيين من معاني كلمة الضلال في القرآن الكريم وأيهم المراد في قوله تعالى: ? قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ? [الشعراء: 20]؟
وكانت الإجابة: يطلق الضلال في القرآن الكريم وفي لغة العرب على أكثر من معنى منها:
المعنى الأول: وهو الذهاب عن حقيقة الشيء لعدم العلم به، فيقال لموسى أنه كان من الضالين في الآية الكريمة؛ لأنه ذهب عن حقيقة هذا الأمر وهذا الضلال المذكور للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ? وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ? [الضحي: 7]، أي ذاهبًا عن الطريق المعلوم الذي يجب أن تسلكه.
المعنى الثاني: الذهاب عن حقيقة الإيمان إلى الكفر وهذا المعنى هو المراد بقول الله -تبارك وتعالى-: ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ? [الفاتحة: 7]الفاتحة، أي الذين انحرفوا عن الإيمان عن الكفر.
إجابة طيبة وسديدة.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة:
(9/24)
---(7/246)
السؤال الأول: يعتمد على الذكاء، وقد تعمدت ذلك، وهو سهل الحمد لله ولكن قد لا أكون قد ذكرته نصًا، كيف توجه طلب موسى من السحرة إبراز ما عندهم من السحر والسحر كفر؟
والسؤال الثاني: اذكر حكم تعلم السحر وما حكم حل السحر عن المسحور؟
(9/25)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس العاشر : تابع تفسير سورة الشعراء (52 - 89)
الدرس العاشر
تابع تفسير سورة الشعراء (52 - 89)
بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
ونحمد الله -عز وجل- أن يسر لنا الجمع أيضًا لنواصل الحديث في تفسير كتاب الله تعالى ومن سورة الشعراء و إن شاء الله عز وجل- سيدور الحديث في هذه اللقاء حول ثلاثة محاور:
المحور الأول: خروج موسى -عليه السلام- بقومه وإغراق فرعون في البحر.
المحور الثاني: إبراهيم-عليه السلام- يدعو قومه إلى التوحيد.
المحور الثالث: أدلة إبراهيم -عليه السلام- على وجود عبادة الله وحده دون سواه وهذه المحاور تتحدث عنها آيات من سورة الشعراء سنستمع إليها الآن من الشيخ عبد الرحمن، فليتفضل.
(10/1)
---(7/247)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبعُونَ ?52? فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ?53? إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ?54? وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ?55? وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ?56? فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ?57? وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ?58? كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ?59? فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ?60? فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ?61? قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ?62? فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ?63? وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ ?64? وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ?65? ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ ?66? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ?67? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?68? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ?69? إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ?70? قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلَّ لَهَا عَاكِفِينَ ?71? قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ?72? أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ?73? قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ?74? قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ?75? أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ ?76? فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ?77? الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ?78? وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ?79? وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ?80? وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ?81? وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَّغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي(7/248)
(10/2)
---
يَوْمَ الدِّينِ ?82? رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ?83? وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ ?84? وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ?85? وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ?86? وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ?87? يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ?88? إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ? [الشعراء: 52- 89].
أحسنت وجزاك الله خيرًا، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين وبعد:
هذه الآيات التي استمعنا إليها قبل قليل هي تتمة الحديث عن نبي الله موسى -عليه السلام- ثم ذكرٌ لقصة خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- ونبدأ الآن فيما ذكر رب العالمين -سبحانه وتعالى- عن نبيه موسى -عليه السلام- وذلك تحت المحور الأول الذي هو بعنوان: خروج موسى -عليه السلام- لقومه وإغراق فرعون في البحر، وتحته هذه الآيات وهي قول الله -جل ذكره-: ?وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبعُونَ ?52? فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ?53? إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ?54? وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ?55? وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ?.
(10/3)
---(7/249)
في اللقاء السابق انتهينا إلى انتصار موسى -عليه السلام- على فرعون، وأن السحرة آمنوا برب العالمين -سبحانه وتعالى- السياق ينتقل مباشرة إلى أمر الله -عز وجل- لموسى -عليه السلام- بأن يخرج ببني إسرائيل من بلده حتى لا يظلمهم فرعون ويبغي عليهم، ولاشك أيضًا أن موسى -عليه السلام- بقيَّ بقومه فترة يعبدون الله -سبحانه وتعالى- وأن رب العالمين -سبحانه- قد أجرى آيات أخرى كثيرة أيَّد بها موسى -عليه السلام- وهذا أتعب فرعون وجنده، ولاشك أن القرآن يوجز إيجازًا، ولكننا من خلال استعراض الآيات وفهمها يمكننا أن نفهم ذلك فالسحرة الذين آمنوا برب موسى وهارون وبرب فرعون أيضًا على الحقيقة قتلهم كما ذكر ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- عن ابن عباس وغيره قتلهم فرعون، وبقيَّ قوم آمنوا موسى -عليه السلام- يعبدون الله -عز وجل- ولاشك أن فرعون كان ظالمًا يؤذي هؤلاء المؤمنين فأوحى رب العالمين -سبحانه وتعالى- إلى موسى -عليه السلام- وأمره أن يخرج بقومه ليلًا متجهًا إلى جهة الشرق، إلى جهة البحر الأحمر، قال رب العالمين: ? وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي ?، ثم أعلمه بأن فرعون وقومه سيخرجون ورائك ? إِنَّكُم مُّتَّبعُونَ ?، هذا الفعل غاظ فرعون وأثر فيه، فما كان منه إلا أرسل أناسًا ينادون في أطراف مملكته أيضًا حتى يجمع قومًا يسلك بهم طريقًا ليصل إلى موسى -عليه السلام-? فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ ?، جمع مدينة، مدائن مملكته، قومًا يدعون الناس إلى أن يجتمعوا إليه، وكان مما ذكر لهؤلاء عن موسى -عليه السلام- ومن معه ? إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ?54? وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ?، يلاحظ هنا أن فرعون وصف موسى ومن معه بوصفين يحملان الذنب:
الوصف الأول: ? إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ ?، يعني طائفة لا نبالي بهم ولا نأبه بهم وهذا تناقض مِن مَن؟
(10/4)
---(7/250)
هذا تناقض من فرعون؛ لأنه لو أن هذه الطائفة فعلًا لا يأبه بهم ولا يبالي، فلم يرسل وينادي في أطراف مملكته؟ ليحشد هذا الجمع الهائل، ويؤكد أن هؤلاء طائفة وشرذمة كما ذكر وصف هؤلاء بالقلة ? إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ?.
الصفة الثانية التي تحمل الذنب: ? وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ? يعني يأتون بأفعال من وجهة نظره تغيظ فرعون؛ وذلك أنهم لما عبدوا رب العالمين -سبحانه- وخرجوا على هذا الطاغية، لاشك أن هذا أمر يؤثر فيه ويغيظه ويتعبه، ثم وصف نفسه ومن معه بصفة مدح، فقال: ? وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ? إن أردت أن أعبر تعبيرًا معاصرًا عن هذا؛ يعني فرعون يريد أن يقول: الأمر تحت سيطرتي؛ لأن هؤلاء عندي لهم الاستعداد وأنا أحذر من أفعالهم؛ ولذلك أتخذ من الوسائل والأسباب التي تمنع أن يفعلوا في أطراف مملكتي أي شيء هكذا، ذم فرعون موسى ومن معه ومدح نفسه بهذه الفعلة، مباشرة القرآن الكريم يأتي بسياقه العظيم؛ ليبين ما حدث لهذا الطاغية، وقبل أن يذكر ربنا -سبحانه وتعالى- هلاك فرعون وقومه، يبين أنه -سبحانه وتعالى- أخرجهم، وأنه فاعل لذلك على الحقيقة، مما تفضل الله -سبحانه وتعالى- عليهم به من ألوان النعيم، ويسارع ربنا -سبحانه وتعالى- بذكر ذلك قبل أن يذكر خاتمتهم وسوء مصيرهم؛ ليبين جزاء وفاقًا لمن كذب بالله رب العالمين؛ ولذلك يقول رب العالمين -سبحانه- مباشرة قبل أن يذكر هلاك فرعون ومن معه:
(10/5)
---(7/251)
? فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ?57? وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ?58? كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ?، هؤلاء القوم كانوا يعيشون في نعمة عظيمة وكانوا يتمتعون بأفضل ألوان المتع والنعيم، كانت عنده جنات، كان عنده النعيم، كان عنده ملك كان لديهم جاه، كان لديهم سلطان كانت لهم قصور عالية كانت عندهم أموال عظيمة المعبر عنها ? وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ?، ثم يبادر سياق القرآن الكريم ليبين ويؤكد قبل أن يعلم ربنا -سبحانه وتعالى- بهلاك فرعون أنه -سبحانه وتعالى- أورث كل هذا النعيم لبني إسرائيل، ورب العالمين -سبحانه وتعالى- يورث هذه الأرض لأهل التقوى والإيمان؛ ولذلك قال في آيات أخرى مبينًا أنه أورث بني إسرائيل ملك فرعون ? وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ? [الأعراف: 137]، وهذا يفيد أن سلطان فرعون كان عظيما ? وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ? [الأعراف: 137]، ويقول رب العالمين في آيات أخرى: ? وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ? [القصص: 5].
(10/6)
---(7/252)
لأن هؤلاء يستحقون أن يرثوا هذا الملك، وهذه الأرض بأن العاقبة للمتقين كما أخبر بذلك رب العالمين -سبحانه وتعالى- بعد ذلك خرج موسى بقومه كما أخبرت الآيات، وجمع فرعون أمة عظيمة كي يخرج وراء موسى -عليه السلام- وكان هذا ما ذكره ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه في هذه الآيات ? فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ?60? فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ?61? قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ?، ما أعظم هذا الموقف الكريم؟! موسى -عليه السلام- خرج ومعه قوة لا تقهر معه رب العالمين -سبحانه وتعالى- ونستفيد من قوله ? وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي ?، أنه خرج ليلًا، ونفهم من قوله -تبارك وتعالى- أيضًا وجاء النص على ذلك في القرآن ونفهم أيضًا من قوله تعالى: ? فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ?، أن فرعون تبع موسى والتقى معه وقت شروق الشمس؛ لأن الله قال ? فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ?، ثم قال ? فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ ?.
(10/7)
---(7/253)
موسى -عليه السلام- خرج ومعه رب العالمين -سبحانه وتعالى- حتى وجد البحر أمامه وفرعون بعد أن حشد قوة هائلة حشد قوة عظيمة جدًا خرج وراء موسى -عليه السلام- فأصبح موسى -عليه السلام- ومن معه أمام البحر وخلفهم فرعون وجنوده هنا نظر قوم موسى -عليه السلام- فوجدوا فرعون قادم إليهم، فما كان منهم إلا أن قالوا ?إِنَّا لَمُدْرَكُونَ?، تعبير بقوله: إنا لمدركون يفيد أنهم سيهلكون وأنهم توقعوا ذلك بسبب ظلم الطاغية -فرعون- وربما كان قبل وقت قريب قد قتل السحرة أمام أعينهم؛ ولذلك توقعوا أن يهلكوا في هذا الموطن على يد هذا الطاغية ? فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ?، فرد موسى -عليه السلام- عليهم بقوة الرجل النبي المؤمن الذي يثق في ربه -سبحانه وتعالى- ويعلم أن رب العالمين يؤيده بمدد من عنده، فهو لم يهب فرعون ولم يخش منه ولم يخف منه يومًا ما، وفرعون يكاد أن يدرك موسى -عليه السلام- وفرعون لاشك معه من الأسلحة ما معه، ومن العتاد ما معه ومن القوة البشرية ما معه، وموسى أمام البحر ليست معه سفينة وليست معه وسائل حربية كالتي عند فرعون، ومع ذلك؛ لأنه يثق في وعد الله ونصر الله -عز وجل- يعرض عن قول قومه ? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ?، ويقول لهم ? قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ?، ما أعظم هذه الثقة في الله عز وجل؟! ما أعظم اليقين في رب العالمين سبحانه وتعالى؟! وهذا اليقين تأتي الآية التي بعده تبين أن موسى -عليه السلام- فعلًا ألقى ظهره على ركن متين، وأنه اعتمد على من يقول للشيء كن فيكون.
قبل أن أنتقل إلى هذا النقطة أود أن أشير إلى مسألة عقدية في دقيقة واحدة ? فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ?:
(10/8)
---(7/254)
المعتزلة ينفون رؤية الله -عز وجل- في الدار الآخرة، ويقولون بأن الرؤية يلزم منها الإحاطة والكيفية، هذه شبهة قامت في أذهانهم قالوا: لو قلنا إن الله -عز وجل- يراه أهل الإيمان في الدار الآخرة كما نطق بذلك القرآن الكريم وصح بذلك الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا يلزم من ذلك أن الذين يشاهدون رب العالمين ويرونه يحيطون به -سبحانه وتعالى- ويدركونه، ونحن نرد عليهم بهذه الآية ونقول: بأن الرؤية لا يلزم منها الإحاطة والكيفية؛ لأن فرعون وموسى وكلا الفريقين تراءى رأي كل واحد منهما الآخر، ولكن فرعون لم يدرك موسى -عليه السلام- ومن معه، فالرؤية أثبتها رب العالمين -سبحانه- ولكن الإدراك لم يقع ? فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ?، ثبتت الرؤية ونفى الإدراك ? قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ?؛ ولذلك قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى- في عقيدته: والرؤية حق لأهل الجنة من غير إحاطة ولا كيفية؛ ليدفع قول المعتزلة الذين قالوا بأنه يلزم من الرؤية الإحاطة والكيفية، ونحن نقول: بأن الرؤية تقع دون إحاطة أو كيفية، تعالى جد ربنا -سبحانه- وعظم سلطانه، ولا يشبه ربنا -عز وجل- أحدًا من خلقه، ولا يحيط برب العالمين -سبحانه وتعالى- أحد من خلقه.
(10/9)
---(7/255)
لما قال موسى -عليه السلام- ? إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ?، بيَّن له ربه -سبحانه وتعالى- لون الهداية والتوفيق الذي هداه إليه، وذلك في قوله -سبحانه-: ?فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ?63? وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ ?64? وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ?65? ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ ?66? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ?67? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ?، الله -عز وجل- بعد ما قال موسى ? إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ?، تأتي الهداية كما ذكرت وبحرف الفاء الذي يفيد الترتيب والتعقيب المباشر مباشرة بعدما قال موسى -عليه السلام- بثقة المؤمن في ربه ? ِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ?، أوحى الله إليه قال رب العالمين ? فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ?، بعض المفسرين رحمهم الله -تبارك وتعالى- يذكرون حول هذا أن موسى حاول أن يضرب البحر بعصاه فلم يفعل وكل هذا لم يرد له أثر عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ونحن نقفوا الأثر، ونقف عند الثابت عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وما جاء في كتاب الله، رب العالمين أخبرنا أن الله -عز وجل- أوحى إلى موسى -عليه السلام- أن يضرب البحر بعصاه، فضرب البحر بعصاه، وكلمة فضرب البحر لم تذكر في هذه الآية، وهذا أيضًا من الإيجاز وحذف ما يعلم جائز، وهذا من بلاغة القرآن الكريم ? فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ?، هنا محذوف فضربه فأنفلق، نفَّذ موسى -عليه السلام- أمر ربه إليه، وضرب البحر بعصاه فانفلق البحر ? فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ?، وهذه معجزة جديد كانت للعصا التي في يد موسى -عليه السلام-، مرة ألقاها على الأرض فإذا هي حية(7/256)
(10/10)
---
تسعى، ومرة يضرب بها البحر فينفلق البحر، وهذا معجزة تشتمل في الحقيقة على عدة معجزات تنبهوا لهذا:
المعجزة الأولى: انفلاق البحر. هذه معجزة لما ضربه موسى -عليه السلام-.
المعجزة الثانية: أن جانبي البحر أصبحا كالطود العظيم يعني كالجبل العظيم يعني لما ضرب موسى -عليه السلام- البحر أنفلق البحر، وبعد ما انفلق البحر أصبح جانبي البحر بعد الافتراق كالجبل العظيم.
المعجزة الثالثة: ما جاءت عن السدي ومجاهد وغيرهما أنه كانت هناك عيون في البحر؛ لأن البحر أيضًا انفلق إلى اثني عشر طريقًا، وهذه معجزة أخرى، وكان بين كل طريق عيون يرى بعضهم منها بعضًا.
(10/11)
---(7/257)
المعجزة الخامسة: أن الطريق الذي سار عليه موسى -عليه السلام- أصبح طريقًا جافًا يبسًا، قال الله في سورة طه ? فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَّ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى ? [طه: 77]، ومن المعلوم أن التراب إذا كان عليه ماء أصبح طينًا والإنسان لا يستطيع أن يجري أو أن يمشي بسهولة على هذا، ولكن الله -عز وجل- بأمره وقدرته جعل هذه الأرض التي انفلق عنها البحر طريقًا يبسًا يعبر منه موسى -عليه السلام- ومن معه ? فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ?63? وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ ?، أزلفنا بمعنى قربنا يعني قربنا فرعون وجنده؛ ليتحقق عقاب الله وهلاك الله لهؤلاء، قرب الله -عز وجل- البحر وقرب فرعون إلى البحر، ? وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ ? ثم تعلن الآيات نجاة موسى ? وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ?65? ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ ? يعني أغرقنا الآخرين يعني أغرق الله -عز وجل- فرعون وقومه بعد ما خرج موسى -عليه السلام- إلى الشاطئ الآخر ومن معه سالمًا مؤيدًا موفقًا بتأييد رب العالمين، شاهد فرعون المنظر فأمر جنده -ولاشك- أن يتبعوا أيضًا موسى -عليه السلام- فلما نزلوا جميعًا في داخل البحر أمر الله -عز وجل- البحر أن ينطبق عليهم فغرقوا عن آخرهم ? ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ ?.
(10/12)
---(7/258)
ثم يتفضل رب العالمين -سبحانه- على كل من يستمع كتاب الله -عز وجل- ويبين أن نعمته كبيرة، وأنه تأييده لأهل الإيمان عظيم، وأن نجاة موسى ومن معه آية وعلامة تدل على قدرة رب العالمين -سبحانه- وأنه ينصر أوليائه، وأن رب العالمين -سبحانه وتعالى- يعز دينه؛ ولذلك قال ?نَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ?67? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ?، يعقب على هذا رب العالمين، ويذكر أنه هو العزيز، بمعنى أنه قد قهر كل شيء، وعزَّ على كل شيء.
ثم يذكر أيضًا اسمًا آخر من أسمائه ألا وهو اسم الرحيم، وقد يقول قائل وأين الرحمة هنا بعد أن أهلك هؤلاء القوم ولم يعاملهم ربنا برحمته؟ نقول: الرحمة هنا لموسى ومن معه، وأن العزة التي قهر بها الظالمون كانت لفرعون ومن معه، وأيضًا يمكن أن نجيب بجواب آخر ولا بأس بأن يجتمع في ذلك الجوابان، وهي إمهال رب العالمين لفرعون، ومن معه رحمة من الله -عز وجل- أن أمهلهم إلى أن أغرقهم هذا الإمهال، ويعني لم يعجل لهم بالعقوبة.
نأتي بعد ذلك إلى المحور الثاني في هذا اللقاء، وهو بعنوان: إبراهيم -عليه السلام- يدعو قومه إلى توحيد الله تعالى في ذلك.
ثم يقول رب العالمين ?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ?69? إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ?70? قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلَّ لَهَا عَاكِفِينَ ?71? قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ?72? أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ?73? قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ?74? قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ?75? أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ ?76? فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ?.
(10/13)
---(7/259)
هذه هي القصة الثانية التي جاءت في سورة الشعراء وهي قصة خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- وفي الحقيقة جاءت بعد قصة موسى -عليه السلام- وهي أيضًا فيها تسلية للنبي -عليه الصلاة والسلام- لماذا؟
لأن المشركين كذبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- كما كذب فرعون موسى -عليه السلام- أهلك الله فرعون وهذا أو هذه الآيات تتلى على أسماع المشركين لعلهم يتنبهون في أن الله -عز وجل- كما أهلك المكذبين بموسى يهلك هؤلاء الظالمين أيضًا، وتأتي قصة إبراهيم -عليه السلام- لتبين أيضًا محاورة إبراهيم لقومهم وذكره لدلائل التوحيد، وتبين أيضًا للمشركين أن ادعائهم أنهم يحبون إبراهيم -عليه السلام- وأنهم يتبعونه أن هذا ادعاء باطل، وأن إبراهيم كان موحدًا وهؤلاء ليسوا على التوحيد في شيء وبها تسلية من جانب آخر للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لماذا؟ في مطلع هذه السورة ذكرت حزن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على كفر الكافرين وشرك المشركين، وهذا الآيات أيضًا تبين حزن إبراهيم -عليه السلام- على كفر أبيه فهناك وجه شبه بين هذا وبين هذا نأتي إلى هذه الآيات بالتفصيل ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ?، اتل يعني اقصص على المؤمنين وأسمع أيضًا المشركين الذين لا يؤمنون بهذا القرآن العظيم ذكرهم بهذا الكتاب وبهذه القصة العظيمة واتل عليهم نبأ، نبأ المعنى الخبر ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ?69? إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ? إبراهيم -عليه السلام- واجه أمة عكفت على عبادة الله -تبارك وتعالى- لا يعرفون إلا الشرك وكان شركهم في أي شيء في عبادة الكواكب والنجوم والأصنام التي أيضًا نحتوها أيضًا بأيدهم وكسرها بيدي إبراهيم -عليه السلام- كما جاء ذكر ذلك في سورة الأنبياء وإبراهيم -عليه السلام- بدأ حياته على التوحيد، يعني إبراهيم -عليه السلام- بدأ حياته على التوحيد، يعني إبراهيم كان من مقتبل عمره موحدًا لرب(7/260)
(10/14)
---
العالمين، الدليل على ذلك من سورة الأنبياء ? وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ ? [الأنبياء: 51].
فالله -عز وجل- أثبت له ذلك مسبقًا فإبراهيم إمام الحنفاء إمام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه هنا يناقش قومه ويسألهم هو يجهل ما تعبدون لا يعرف ولكنه يبكتهم لعبادة غير الله -تبارك وتعالى- ويلزمهم بهذا السؤال الحجة على أن الآلهة والأصنام المزعومة لا تعبد من دون رب العالمين -سبحانه وتعالى- ? قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ?70? قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلَّ لَهَا عَاكِفِينَ ?.
إبراهيم -عليه السلام- يعلم كما ذكرت أنهم يعبدون أصنامًا وهنا يلزمهم الحجة ويقرهم على أنفسهم أيضًا أنهم يعبدون أين أصنامًا ويفتخرون أكثر فيقولون:? فَنَظَلَّ لَهَا عَاكِفِينَ ?، يعني لم يكتفوا بأنهم يعبدون أصنام فقط ويقررا هذا فإنما ذكروا مباهين مفتخرين بأنهم يعكفون على هذه الأصنام وكلمة فنظل لها عاكفين، تفيد أن هذا العكوف هذا كان بالنهار؛ لأن العرب يقولون: ظل يفعل كذا إذا كان يفعله بالنهار، وبات يفعله كذا إذا كان يفعله بالليل.
(10/15)
---(7/261)
لما ذكروا ذلك لإبراهيم -عليه السلام- فإبراهيم -عليه السلام- أقام عليهم الحجة بكلام يسير، لو عقل هؤلاء لفقهوه، قالوا نعبد أصناما أقروا بأنهم كانوا يعبدون أصنامًا، وهنا حاورهم إبراهيم -عليه السلام- وبين لهم بطلان عبادتهم لغير الله لما قال لهم ? قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ?؛ لأنه من المفروض أن الإنسان لا يعبد ولا يسأل إلا من يسمعه لكي يدرك طلبه هذا شيء والشيء الثاني أن الإنسان يدعو من يسمع مثله يعني يكون أيضًا يتصف بصفة السمع أما أن يدعو الإنسان يدعو من هو أقل منه من الصفات التي يتمتع بها فهذا ضلال في العقد والاعتقاد والفكر والسلوك، فإبراهيم -عليه السلام- يدعوهم من هذا الباب كيف تدعون وتسألون أصنامًا لا تسمع فلا تعرف هذه الأصنام عنكم شيئًا وإذا لم تسمع ولم تعرف عنكم شيئًا ولم تقف على حاجتكم فيما تسألونها إياه فهي أيضًا لا تستطيع لا نفعكم ولا دفع ضر عنكم؛ ولذلك عقب على ذلك بقوله: ? أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ?، هذه حجة بليغة ذكرها خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- قومه قوم إبراهيم لم يجدوا جوابا ما عندهم جواب هم كاذبون أفاكون، لم يجدوا إلى حجة ذكرها المشركون أيضًا بعد ذلك ألا وهي حجة التقليد، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون يعني ما عندهم دليل وما استطاعوا أن يجيب على خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- بعد أن بين لهم فساد عبادتهم لغير الله -تبارك وتعالى-.
(10/16)
---(7/262)
وقولهم: ? قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ? نستفيد منها فائدة عظيمة جدًا أيها الأخوة الكرام ألا وهي فساد التقليد، فلا ينبغي للإنسان أن يقلد الناس في الباطل وإنما يجب عليه أن يعبد ربه بحجة وبرهان؛ لأن هؤلاء لما قلدوا الآباء، وكان الآباء على ضلال مبين وقعوا هم أيضًا في أي شيء وقعوا في الضلال المبين، بدأ إبراهيم -عليه السلام- يجادلهم أيضًا من جانب آخر بعد أن انقطعت حجتهم ومجادلته لهم في هذه المرة، كانت عبارة عن استخفاف إبراهيم -عليه السلام- بما يعبدونه من دون الله -تبارك وتعالى- وأن هذه الأصنام المزعومة والآلهة الباطلة لا تملك شيئًا؛ ولذلك قال لهم إبراهيم -عليه السلام- قال ? قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ?75? أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ ?، وهو هنا جاء بالآباء؛ لأنهم ذكروا أنهم يفعلون ذلك اقتداء بمن؟
اقتداء بآبائهم مقلدين لهم: ? قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ?75? أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ? يعني هذه الأصنام أنا عدو لها وكذلك هي عدوة لي طيب قد يسأل سائل: يقول الأصنام هذه حجارة لا تشعر وإبراهيم يعرف ذلك فكيف تكون هي فيها إحساس وشعور حتى توصف بأنها عدوة بإبراهيم عليه السلام؟
كيف نجيب، نقول إبراهيم -عليه السلام- يخاطبهم بما يعتقدون فهم لما عبدوا الأصنام والحجارة من الله تعالى كأنهم نزلوها منزلة من يعقل وفيه إحساس وشعور ومن هنا قال لهم إبراهيم -عليه السلام- هذا القول فإنهم عدو لي.
(10/17)
---(7/263)
الأصنام كثيرة لم يقل إبراهيم فإنهم أعداء لي، وإنما قال فإنهم عدو لي، قال علماء اللغة: إن كلمة العدو والصديق تأتي بالمفرد والجمع على سواء وفي ذلك قول الله تعالى ? أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ? [الكهف: 50]، فأفرد كلمة العدو؛ لأنها تأتي في المفرد والجمع سواء، ثم استثنى إبراهيم -عليه السلام- ربه -سبحانه وتعالى- فقال ? إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ? جل في علاه، استثنى ربه ومولاه الذي خلقه ونجاه ويسر أمره، وهو الذي يتولى ما يحتاج إليه.
وقول إبراهيم -عليه السلام- هنا لهؤلاء الناس وإعلانه الاستخفاف بما يعبدونه من دون الله -تبارك وتعالى- هو شأن غيره من الأنبياء، فالأنبياء والمرسلين -صلوات الله عليهم- فالأنبياء والمرسلين -صلوات الله عليهم أجمعين- كانوا يوجهون أقوامهم بمثل هذه العبارات؛ لأنهم يعرفون أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، وهكذا قال نوح -عليه السلام- لقومه ? فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ ? [يونس: 71]، ما استطاعوا وهود -عليه السلام- قال ? إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ?54? مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ ? [هود: 54 - 55]؛ لأنه متوكل على رب العالمين، كما ذكرت ذلك الآيات، وهنا إبراهيم -عليه السلام- يواجه قومه بذلك ويتبرأ منهم، ويعلن أنه عدو لآلهتهم، وأنهم بهذا لا يأبه بهم وإنهم على ضلال مبين ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ? [الزخرف: 26].
(10/18)
---(7/264)
آتي بعد ذلك إلى المحور الثالث وهو بعنوان: أدلة إبراهيم -عليه السلام- على وجوب عبادة الله وحده دون سواه، لما ذكر إبراهيم -عليه السلام- أن هذه الأصنام لا تملك شيئًا ولا تنفع ولا تضر، وأنه عدو لها، واستثنى رب العالمين -سبحانه- ذكر إبراهيم -عليه السلام- الأدلة المقنعة، وقد ذكرها ربنا في كتاب حتى يفهم المشركون أن عبادتهم لغير الله باطلة، استثنى إبراهيم -عليه السلام- ربه بأنه يتصف بصفات الجلال والكمال، وأنه حقًا هو الذي يعبد وحده دون سواه ذكر إبراهيم -عليه السلام- خمس صفات لمن يعبده لا تتحقق في غير رب العالمين -سبحانه وتعالى- هذه الصفات الخمس هي التي جاءت في قول الله -تبارك وتعالى- ?الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ?78? وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ?79? وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ?80? وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ?81? وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَّغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ?.
نعود بعد ذلك ونقف وقفات يسيرة عند كل صفة من هذه الصفات التي وصف بها إبراهيم -عليه السلام- ربه ومولاه ? الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ? أول صفة الخلق والهداية، وكلاهما من أعظم الأدلة على وجوب عبادة الله وحده دون سواه، نحن نوجه الخطاب للمشركين وللملاحدة أيضًا الأفاكين، ونقول لهم: أنظروا إلى أنفسكم من أين أتيتم؟ من الذي أخرجكم من العدم إلى الوجود؟ من الذي خلقكم هو رب العالمين -سبحانه وتعالى-؛ ولذلك رب العالمين -عز وجل- يشير في آيات كثيرة إلى خلقه للإنسان، وإلى تطور هذا الخلق ويستدل بذلك على أنه هو الإله الواحد الذي يجب أن يعبد دون سواه، وتأمل مثلًا ما جاء في سورة الذاريات ? وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ? [الذاريات: 21]، يعني الإنسان دليل نفسه على نفسه من أنه مخلوق مربوب وأن خالقه هو رب العالمين -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه.
(10/19)
---(7/265)
هنا لفتة جميلة يا أخوان في قوله إبراهيم ? الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ? خلقني بصيغة الماضي ويهدين بصيغة المضارع فلماذا كان ذلك؟ قيل لأن الخلق للذات الواحدة لا يتجدد يعني ربنا لم يخلق صالح وإبراهيم ومحمد يخلقه ابتداء مرة واحدة التغير يأتي في الأطوار، إنما الخلق لا يتجدد، إنما الهداية تتجدد ويحتاج إليها العبد في كل وقت وفي كل حين، وهو بحاجة إلى أن تستمر معه الهداية؛ ولذلك جاءت بصيغة المضارع الذي يدل على الحال وعلى الاستقبال ? الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ?، هذه الصفة الأولى وضمير الفصل هنا أيضًا وقد جاء في الآيات التي تلي ذلك يفيد التأكيد وأن رب العالمين -سبحانه- هو الخالق على الحقيقة وهو الذي يهدي على الحقيقة.
? الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ?78? وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ? الذي يملك الأرزاق ويسوقها هو رب العالمين -سبحانه وتعالى- حقًا رب العالمين هو الذي يطعم العباد ويسقيهم، ما يأتي إنسان ويقول: لا والله هذا أنا بسعي في الأرض وقوتي وفكري ومالي آكل وأشرب، نقول له من الذي يسوق المطر النازل من السماء على هذه الأرض ومن الذي ينبت الزرع الذي يأكله الناس جميعًا وتأكله الأنعام أيضًا على هذه الأرض؟ الذي يفعل ذلك هو رب العالمين -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه؛ ولذلك صدق رب العالمين في قوله في سورة العنكبوت: ? فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ? [العنكبوت: 17].
(10/20)
---(7/266)
ابتغوا يعني اطلبوا الرزق من الله -تبارك وتعالى- وصدق الله في قوله ? وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ? [الذاريات: 22]، ? إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ? [الذاريات: 58] -سبحانه وتعالى- ? الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ?78? وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ?79? وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ? تأملوا سياق الآيات لنستمتع ببلاغة القرآن الكريم وأدب الأنبياء والمرسلين حينما يوجهون الخطاب لرب العالمين -سبحانه- أو أن يكون الأمر متعلقًا بجناب ذي الجلال والإكرام.
قال إبراهيم ? وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ?، تستفيد من مرضت أنه أسند المرض إلى نفسه ولم يسنده إلى الله من باب الأدب فاعل المرض من؟ هو رب العالمين -سبحانه وتعالى- الذي يمرض العباد، والذي يشفي العباد كل ذلك بقدر، ولكن من باب الأدب لا يضاف ذلك إلى رب العالمين -سبحانه- وحتى هذا الأدب عرفه وتعلمه مسلمو الجن، المسلمون من الجن الذين اسلموا على يد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تعلموا هذا الأدب الراقي فلم يسندوا الشر إلى رب العالمين -سبحانه- رغم أنه لا يقع شيء في الكون إلا والله خالقه، قال رب العالمين عن الجن أنهم قالوا ? وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ? [الجن: 10].
(10/21)
---(7/267)
جاءوا بالفعل المبني للمجهول حتى لا يسندوا الشر إلى رب العالمين -سبحانه- ? وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ ? ما قالوا أراد رب العالمين، ولكن أريد وهذا من باب الأدب في جناب رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهذا ما فعله إبراهيم ? وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ?، المرض بقدر الله -تبارك وتعالى- ورب العالمين -سبحانه وتعالى- هو الذي يشفي العباد والذهاب إلى الأطباء وغير ذلك ما هو إلا وسائل وأسباب مشروعة، إن كانت سليمة، أما الذي يشفي على الحقيقة فهو رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
ثم جاءت الصفة الرابعة ? وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ?، نحن نلمس بلاغة القرآن الكريم، في هذه الآية ما جاء بضمير الفصل، الذي يدل على التأكيد، يعني أدخله في الآية السابقة: ? وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ?، لماذا؟ لأن الإنسان قد يظن بأن هناك أسباب يباشرها الإنسان في الشفاء أنها هي التي تشفيه، فيأتي التأكيد إنما الموت والإحياء ما ادعاه أحد لنفسه إلا مجنون، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه يميت أو أنه يحيي، فرب العالمين -سبحانه وتعالى- هو الذي يحيي ويميت، والموت والإحياء أمارة كبيرة جدًا على أن الله -عز وجل- هو الخالق الرازق الرب المالك المتصرف الذي يفعل ما يشاء؛ ولذلك في سورة البقرة رب العالمين يخاطب المشركين ويستدل على وجوب عبادة الله وحده والرجوع إليه وحده وإتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي يحييه وهو الذي يميته.
(10/22)
---(7/268)
يتعجب من كفرهم بعد أن أحياهم ربهم ويميتهم ? كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ? [البقرة: 28]، فما ينبغي للإنسان بعد اتصاف ربه بهذه الصفات أن يذهب إلى غير الله -تبارك وتعالى- وتأتي الصفة الخامسة ? وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَّغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ? أطمع: يعني أرجو، فالطمع رجاء، وهذا أيضًا من أدب إبراهيم -عليه السلام- وتواضعه لربه -سبحانه- وهل لإبراهيم خطيئة؟ حتى يقول ? وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَّغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ?؟ وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الأنبياء منزهون عن الكبائر، ولكن يمكن أن تقع منهم الصغائر ولا يصرون عليها يتوبون منها والله -سبحانه وتعالى- يتوب عليهم وقيل في إبراهيم -عليه السلام- أنه ذكر كلمات اعتذر بها لربه ومولاه لما قال لقومه عندما كسر الأصنام ? بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ? [الأنبياء: 63]، اعتبر هذا ألزام من إبراهيم -عليه السلام- لهؤلاء، ولكن اعتبر ذلك إبراهيم تورعًا منه صلوات الله وسلامه عليه ذنبًا فيستغفر ربه -سبحانه وتعالى- من ذلك.
لماذا قال ? وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَّغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ?، ما قال خطيئتي وفقط أو في الدنيا مثلًا قال لماذا خص يوم الدين؟ قال أهل العلم؛ لأن المغفرة يظهر أثرها في يوم الدين عندما يدخل رب العالمين العبد جنته ويغفر له ما سلف من ذنبه إن كان.
(10/23)
---(7/269)
بعد هذه الدعوات المباركات وهذا الثناء العطر من إبراهيم -عليه السلام- على ربه ومولاه توجه إبراهيم -عليه السلام- أيضًا لربه بخمس دعوات، وفي الحقيقية هذه الدعوات جاءت بعد ثنا ء إبراهيم -عليه السلام- على ربه؛ ولذلك ذكر أهل العلم بأن تقديم الثناء على الله -عز وجل- قبل الدعاء من المهمات، وكان هذا دأب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أما دعوات الخمس التي دعاها إبراهيم -عليه السلام- ربه فهي الواردة في قول الله جل ذكره:
الدعوة الأولى: ? رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ? حكمًا يعني علمًا وألحقني بالصالحين يعني بعبادك الصالحين، وهذا يدل على أن إبراهيم -عليه السلام- لا يريد جاهًا ولا مالًا ولا دنيا وإنما يريد ما يقربه إلى ربه ومولاه وأن يكن من عباد الله الصالحين، وقد أعطاه ربه -سبحانه وتعالى- ذلك وذكر ربنا لنا هذا في القرآن ? وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ? [النحل: 122].
الدعوة الثانية: ? وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ ? هذا من إبراهيم -عليه السلام- في الحقيقة طموح إن صح التعبير يريد أن يكون له ثناء، وذكر حسن فيمن يأتي بعده وفي هذا فائدة، ليس إبراهيم -عليه السلام- يريد من ذلك يعني مكانة عند الناس، وإنما يريد أن تستمر دعوة التوحيد بعده صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن ذكر إبراهيم هو ذكر للتوحيد الذي كان عليه إبراهيم -عليه السلام-؛ ولذلك طلب من ربه ومولاه يذكر ذكرًا جميلًا وأن يثنى عليه ثناء حسنًا فيمن يأتي بعده والمقصود بقوله ? وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ ?، يعني في الدنيا ممن يأتي بعدي ويخلفني.
(10/24)
---(7/270)
الدعوة الثالثة: بعدما دعا ربه بالذكر الحسن والثناء الجميل في الدنيا طلب الآخرة قال: ? وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ?، طلب أيضًا جنة النعيم والفضل من رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهذا دأب الأنبياء والصالحين نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- كان من دعائه: اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مبدلين -صلوات الله وسلامه عليه-، ولما جاد بنفسه -صلى الله عليه وسلم- وهو في سكرات الموت قال: اللهم الرفيق الأعلى، وهكذا يدعو إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- يدعو ربه أن يجعله من ورثة جنة النعيم.
الدعوة الرابعة: يقول ? وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ? هذه هي الدعوة الثالثة، وإبراهيم -عليه السلام- كان يطمع في أن يؤمن أبوه، ولكنه لم يؤمن، وظل على كفره، وإبراهيم -عليه السلام- هنا دعا بالمغفرة لأبيه، ولكن هذه الدعوة كانت مقيدة، وذكر القرآن الكريم ذلك، وأنا أقول هذا حتى نوجز عاقبة البراء من المشركين يأتي أحد ويقول: والله إبراهيم دعا لأبيه وهو كافر لا؟ ? وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ? [التوبة: 114].
(10/25)
---(7/271)
الدعوة الخامسة والأخيرة: ? وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ?، وهذه أيضًا يعني دعوة من إبراهيم -عليه السلام- لتكون له مكانة عن الله -عز وجل- وقد جاء في البخاري ومسلم أن إبراهيم لقي أباه وعليه غبرة وقترة ودعا ربه بأن لا يخزيه في أبيه والله أخبره بأنه قد حرم الجنة على الكافرين وأود أن آتي إلى ختام هذا اللقاء بذكر هاتين الآيتين ? وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ?87? يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ?88? إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ? حقيقة لا تحتاج هذه إلى كلمات وإنما تحتاج إلى عمل أن يكون قبل العبد سليمًا، قيل سليمًا بالتوحيد وترك الشرك، وقيل سليمًا بالسير على السنة وترك البدعة، وعلى كل فإبراهيم -عليه السلام- كان من أصحاب القلوب السليمة، وأثنى عليه ربه بذلك فقال: ? إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ? [الصافات: 84] نسأل الله -عز وجل- أن يسلم قلوبنا من الشك والشرك والرياء والنفاق وأن يجعلنا من أصحاب القلوب السليمة كإبراهيم ونبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-.
بالنسبة لأسئلة الحلقة الماضية كان السؤال الأول: كيف توجه طلب موسى من السحرة إبراز ما عندهم من السحر والسحر كفر؟
وكانت الإجابة: لأن قصد موسى -عليه السلام- بذلك قصد حسن يستوجبه المقام؛ لأن إلقاءهم قبله يستلزم إبراز ما معهم من مكائد السحر واستنفاد أقصى طرقهم ومجهودهم، فإذا فعلوا ذلك كان في إلقائه عصاه بعد ذلك اقتلاعها لجميع ما ألقوا به من إظهار الحق وإبطال الباطل ما لا جدال بعده في الحق لأدنى عاقل
إجابة طيبة وأضيف إليها فقط أن الحق لا يظهر إلا بهذا الطريق في مثل هذا الموقف.
والسؤال الثاني: اذكر حكم تعلم السحر وما حكم حل السحر على المسحور؟
(10/26)
---(7/272)
وكانت الإجابة: حكم تعلم السحر الجمهور على أن تعلمه كفر، والعمل به كفر، والدليل على قوله تعالى: ? وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ? [البقرة: 102]، وحكم حل السحر عن المسحور أو النشرة قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سئل عن النشرة هي من عمل الشيطان، وهذا في المسند من حديث جابر والمقصود في هذا الحديث النشرة المعهودة عند أهل الجاهلية وهي بالتقرب للجن والشياطين وحل السحر بسحر مثله كفر، والجائز حل السحر بالقرية المأثورة والقرآن الكريم.
جواب صحيح سديد.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟.
السؤال الأول: لما ضرب موسى -عليه السلام- البحر ظهرت عدة معجزات اذكر ثلاثة منها.
والسؤال الثاني: استغفر إبراهيم -عليه السلام- لأبيه وهو كافر فكيف توجه هذا الاستغفار مع ذكر الدليل؟
والحمد لله.
(10/27)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس الحادي عشر : تابع تفسير سورة الشعراء (90- 122)
الدرس الحادي عشر
تابع تفسير سورة الشعراء (90- 122)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، ويسرنا -إن شاء الله تبارك وتعالى- أن نبدأ درسنا - إن شاء الله- جل ذكره، وذلك بشرح آيات من سورة الشعراء، وهذه الآيات تدور حول المحاور التالية:
المحور الأول: ذكر ما يكون في يوم الدين من نعيم للمؤمنين وعذاب للكافرين.
المحور الثاني: أهل النار فيها يختصمون.
المحور الثالث: مع نوح -عليه السلام- في دعوة قومه إلى الله تعالى، ومعنا آيات نسمعها من أخينا الفاضل عبد الرحمن فليتفضل.
(11/1)
---(7/273)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ?90? وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ?91? وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ?92? مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ?93? فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ?94? وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ?95? قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ?96? تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ?97? إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ?98? وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ?99? فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ?100? وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ?101? فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?102? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?103? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?104? كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ?105? إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?106? إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ?107? فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?108? وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ?109? فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?110? قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ?111? قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?112? إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ?113? وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ?114? إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ?115? قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ?116? قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ?117? فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?118? فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ?119? ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ(7/274)
(11/2)
---
الْبَاقِينَ ?120? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?121? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ? [الشعراء: 90 - 122].
أحسنت وجزاك الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد.
المحور الأول: في الآيات التي استمعنا إليها الآن بعنوان: ذكر ما يكون في يوم الدين من نعيم للمؤمنين وعذاب للكافرين وتحتوي هذه الآيات: ?وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ?90? وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ?91? وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ?92? مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ? في مطلع هذه الآيات يعجل ربنا -سبحانه وتعالى- البشرى للمؤمنين وذلك بجنات النعيم فما يبين مصير أيضًا الكافرين الذين كذبوا بالأنبياء والمرسلين والآيات في سياق الحديث عن نبي الله إبراهيم -عليه السلام- وقومه قد سبق قد كذبوا بدعوته وبرسالته -صلوات الله وسلامه عليه- فالله -عز وجل- يبين مصير هؤلاء وهؤلاء، من آمن بالأنبياء ومن كذب بهؤلاء، ويخبر أن الجنة أصبحت قريبة معدة للذين آمنوا وصدقوا المرسلين، وأن النار أيضًا ستسيء أعداء الدين، فيقول سبحانه: ? وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ? وقد قال ربنا عز وجل في سورة "ق": ?وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ? [ق : 32]. وكما ذكر أيضًا ذلك عن المؤمنين ذكر أيضًا عن الكافرين أن النار تسؤهم هنا قال سبحانه: ? وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ? يعني ظهرت وأصبحت مكشوفة ظاهرة بارزة، إنهم يرونها، ويقول أيضًا في آية أخرى: ? فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ? [الملك: 27]، وتسوء وجوههم، حينما يرون نار الجحيم -أعاذنا الله وإياكم من هؤلاء- ثم(7/275)
بعد ذلك يأتي
(11/3)
---
سؤال لهؤلاء ليس بمعنى الاستفهام على حقيقته، فالله -عز وجل- يعلم السر وأخفى، والأنبياء والمرسلين يعلمون أن ما دعي من دون الله -تبارك وتعالى- لا يملك لداعيه شيئًا، ومع ذلك يأتي الكلام بصيغة الاستفهام من باب التقريع والتوبيخ والتبكيت فيقال لهؤلاء المكذبين: ? أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ?92? مِنْ دُونِ اللَّهِ ? أين الذين سألتموهم وطلبتم منهم ورجوتم أن ينفعوكم أو أن يدفعوا عنكم شرًا، هذه نار جهنم قد ظهرت وبرزت، وانكشفت أمامكم فأين الذين كنتم تتعلقون بهم وتودون وتزعمون أنهم ينصرونكم من دون الله أو يدافعون عنكم إذا أتى عليكم مكروه، لا يستطيعون أن يجيبوا، وأنى لهم من جواب على هذا السؤال ? أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ?92? مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ? هل هذه الآلهة يمكن أن تنصركم أو أن تنصر هي نفسها؟ لا هذا ولا ذاك، وكما قال رب العالمين في سورة الأعراف ? وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ? [الأعراف: 192]، لا يستطيعون أن ينصروا غيرهم ولا يتمكنوا -أعني من عبد من دون الله -تبارك وتعالى- أن ينصر نفسه هو- وكانت النتيجة -نتيجة التكذيب بالأنبياء والمرسلين وعبادة غير الله رب العالمين- أن يدخل هؤلاء نار الجحيم؛ ولذلك قال سبحانه: ? فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ?94? وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ? كبكبوا جاء عن مجاهد -رحمه الله تعالى- أن معناها دوروا فيها، وقيل كببوا فيها، ولعلكم تلاحظون أن الكاف هنا مكررة، كبكبوا الكاف والباء، وهذا التكرير في اللفظ يفيد التكرير في المعنى، فكأن المعنى أنه ينكب في نار جهنم مرة بعد أخرى، وقد رجح ابن قتيبة -رحمه الله تعالى- أن معنى كبكبوا يعني أُلقوا على رءوسهم، كبكبوا فيها هم ومن صار على دربهم، ومن كان من أهل الغواية والضلالة، ومعهم من؟ قال رب العالمين:(7/276)
? وَجُنُودُ إِبْلِيسَ
(11/4)
---
أَجْمَعُونَ ? وبالتالي لنا أن نتساءل: هل العابد والمعبود كلاهما سيدخل نار الجحيم؟
الجواب قد أخبر رب العالمين -سبحانه وتعالى- بذلك، وورد أيضًا استثناء مهم يجب أن نذكره، قال الله -عز وجل- موجهًا الخطاب للمشركين: ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ? [الأنبياء: 98]، وهذا يؤكد ويوضح ويكشف معنى قول الله -تبارك وتعالى-: ? فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ?94? وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ? هذا الآية لما نزلت ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ? قال بعض المشركين لبعض: بأن عيسى -عليه السلام- بناء على ذلك سيكون في الجحيم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يزعم أن عيسى -صلوات الله وسلامه عليه- أحد الأنبياء والمرسلين، فكيف يكون النبي الرسول في نار الجحيم؟ فنزل قول رب العالمين سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ?101? لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ?102? لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ? [الأنبياء: 101- 103] بل إن الآيات ساقت لهم من النعيم ما ساقت؛ لتدفع شبهة هؤلاء المشركين المكذبين الزاعمين بأن الأنبياء والمرسلين إن وقع من غيرهم عبادة لهم أنهم سيكونون معهم في الجحيم، حاشا وكلا، وبالتالي أقول: كل من عبد من دون الله -عز وجل- ولا يرضى بأن يعبد من دون الله لا يغال بشيء أبدًا أمام رب العالمين ولا يناله شيء من السوء عندما يشرك به أحد المشركين؛ لأنه لا يرضى بذلك، فلو أن قومًا عبدوا نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- أو عيسى ابن مريم كما عبد من طائفة اليوم أو غير ذلك أو(7/277)
عبد بعض الناس أحدًا من الملائكة
(11/5)
---
أو الأولياء أو الصالحين هل نقول أن هؤلاء تشملهم الآية: ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ?؟ أو أنهم يدخلون فيها تحت قوله: ? فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ?؟ حاشا وكلا؛ لأن الله قال: ?إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ?
المحور الثاني في هذا اللقاء بعنوان: أهل النار فيها يختصمون وتحته قول رب العالمين ? قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ?96? تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ?97? إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ?، هذه الآيات يبين ربنا -سبحانه وتعالى- فيها أن العابد سيخاصم المعبود في يوم الدين، وتقع بينهم خصومة، لماذا؛ لأنهم وقعوا في ضلال مبين، قالوا والله: ? قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ?96? تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ?97? إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ?، يقولون لمن عبدوهم من دون الله -عز وجل- ويعترفون على أنفسهم ويشهدون ويقرون أنهم كانوا في ضلال مبين وذلك حينما سووا بين الخالق والمخلوق، وما كان لعاقل أن يسوي بين من فطر السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، وبين المخلوق العاجز الضعيف، هذه الآيات عمومًا تفيد أن هناك سيقع في يوم القيامة خصومة هؤلاء العابدين وبين المعبودين، وقد جاءت آيات في القرآن الكريم بشيء من التفصيل وخاصة -انتبهوا لهذه المسألة- أن المخاصمة والخصام سيقع بين الضعفاء والمستكبرين؛ لنأخذ عبرة؛ ولنقول للضعفاء لا تلهث وراء المتكبرين، فلا يغتر الإنسان بحال قوم وصلوا في الدنيا إلى مناصب عالية أو رفيعة، ثم هم بعد ذلك عن الله -تبارك وتعالى- بعيدون لا يغرنا هذا الأمر، والضعفاء الذين ينظرون إلى المستكبرين ويتبعونهم ستحدث بينهم خصومة في يوم الدين ويذكر رب العالمين -سبحانه وتعالى- في كتابه ما(7/278)
سيجري بين الضعفاء وبين المستكبرين، ومن ذلك
(11/6)
---
قول رب العالمين -سبحانه وتعالى- في كتابه: ? وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ? [سبأ: 31] الضعفاء يقولون للمستكبرين لولا أنتم لآمنا بالله -عز وجل- لأنهم سيقولون كما في سورة الأحزاب ? رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ ? [الأحزاب: 67] لما يقول المستضعفون للمستكبرين يرد المستكبرون عليهم ? قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ ? [سبأ: 32]، هل نحن منعنا عنكم الهداية التي أتتكم من الأنبياء والمرسلين أنتم: ? بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ? [سبأ: 32]، فيقول المستضعفون لهم: ? وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا ? [سبأ: 33] وتأمل الجزء الأخير من الآيات: ? وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ? [سبأ: 33] وهذا يفيد أي حسرة تقطع قلوب هؤلاء المشركين المكذبين الذين عبدوا غير رب العالمين -سبحانه وتعالى- وسورة "ص" يصرح أيضًا رب العالمين فيها أن أهل النار سيتخاصمون يقول سبحانه: ? إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ? [ص: 64]، وقبلها: ? هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ ?59? قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ? [ص: 59- 60].
(11/7)
---(7/279)
وفوق كل ذلك يا أهل الإيمان أهل النار في جهنم يلعن بعضهم بعضًا بنص كتاب الله -تبارك وتعالى- أن تقع بينهم خصومة وقع بينهم عداء، يعني أنما يجري بينهم حتى وهم في طبقات الجحيم لاشك أنه سيكون أمر عظيم، واللعن يقع من كل واحد للآخر، كما قال الله -عز وجل-: ? كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا ? [الأعراف: 38]، كلما دخلت أمة من هؤلاء المكذبين المشركين إلى النار لعنت أختها، وهذا يدل على الخصومة التي ستقع بينهم، وفي المقابل إذا تخاصم أهل النار ماذا يكون عليه أهل الإيمان بينهم من المودة ومن القرب ومن الصفاء ومن المحبة ومن التلذذ بالنعيم على سرر المتقابلين كما أخبر بذلك رب العالمين، وفي هذا يقول الله -عز وجل- ? الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ? [الزخرف: 67]، ما استثنى رب العالمين -سبحانه وتعالى- إلا من آمن به واتقاه، ثم بعد ذلك يستمر السياق فيخبر ربنا -عز وجل- عن أهل الجحيم أنهم يقولون ?وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ ?99? فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ?100? وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ?101? فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?102? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?103? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ? هذا اعتراف من المشركين المكذبين الذين لجئوا إلى غير الله -عز وجل- وأن المجرمين كانوا هم السبب الحقيقي في ضلالهم، ولكن هل ينتفع من هذا الاعتراف والإقرار؟ هل هذا الندم وهو قولهم: "وما أضلنا إلى المجرمون" هل هذا يفيدهم في تخفيف عنهم العذاب عنهم؟ يقولون هذا القول ثم بعد ذلك يتلفتون هنا وهناك ويتمنون أماني ذكرتها الآيات ? فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ?100? وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ? يعين أن كل من كان حولهم من أصحابهم وأحبابهم ومن كان على نهجهم ومسلكهم، كل واحد منهم أصبح في واد آخر بعيد(7/280)
(11/8)
---
عن الآخر لا ينفعهم ولا يدافع عنهم ولا يمكن أن يشفع فيه، ويقول المجرمون هذا القول عندما يرون شفاعة رب العالمين وملائكة الرحمن والأنبياء والمرسلين وأهل الإيمان في إخوانهم المؤمنين، وهذه كلها شفاعات ثابتة بنص القرآن الكريم وسنة نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- ولذلك أود أن أتعرض لمسألة يسيرة يشوش بعض الناس من أصحاب المذاهب الفاسدة بها على أهل التوحيد من خلال هذه الآية، المعتزلة ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر ويقولون بأن الله نفى الشفاعة في القرآن الكريم عن الظالمين فقال: ? فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ?، وفي آية أخرى ? فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ? [المدثر: 48]، وهذا في الظالمين، ويعتبرون بذلك أن الظلم يدخل فيه أي كبيرة يفعلها الإنسان، ونحن نقول الظلم عند الإطلاق لا يشمل إلا أكبر الظلم وأعلاه ألا وهو الشرك بالله -تبارك وتعالى- وبالتالي فالشفاعة في أهل الكبائر ثابتة في سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهذه الآيات لا تتعارض يعني ما جاء فيها من نفي للشفاعة لا يتعارض مع الآيات المثبتة لها، فالشفاعة المنفية هي عن الكافرين والمشركين أو شفاعة الآلهة التي عبدت من دون الله -عز وجل- فيمن عبدوهم؛ لأن هذه الآلهة الباطلة لا تملك أن تشفع، ولا تملك شيئًا من الشفاعة، هذه الشفاعة المنفية، أما الشفاعة المثبتة هي الشافعة في أهل الإيمان، والله -عز وجل- يقول: ? مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ? [البقرة: 255]، فأثبت الشفاعة ولكنها لا تكون إلا بإذن رب العالمين سبحانه، ولا تكون إلا بعد رضاه كما قال أيضًا في آية أخرى: ? وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ? [الأنبياء: 28]، والله -عز وجل- لا يرضى عن المشركين ولا عن الكافرين؛ ولذلك نقول من شروط الشفاعة المهمة: أن يموت العبد على التوحيد الخالص لرب العالمين -سبحانه وتعالى- وذلك في الحديث الصحيح المتفق(7/281)
عليه من
(11/9)
---
رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- (لما سأل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ النبي -عليه الصلاة والسلام- أجابه بعد مقدمة لطيفة لأبي هريرة -رضي الله عنه- تبين حرصه على الحديث والشاهد من كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، وفي رواية: من قال لا إله إلا الله صدقًا من قلبه).
فهذه شفاعة ثابتة ولكن لأهل التوحيد، أما الشفاعة المنفية هنا فهي للشرك والمشركين، فهم يقومون الشفاعة ولكن من يشفع فيهم؟ وقد أشركوا برب العالمين ويعترفون بحقيقة مهمة أيضًا في يوم الدين، أنه ليس لهم صديق يدافع عنهم ولا يقف إلى جوارهم بخلاف من؟ بخلاف أهل الإيمان، فأهل الإيمان يشفع بعضهم في بعض، وقد جاءت روايات كثيرة في صحيح الإمام مسلم في كتاب الإيمان تبين ذلك والوقت يضيق عن سرد بعض هذه الروايات? فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ?100? وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ?.
ثم تخبر الآيات بعد ذلك أن هؤلاء المشركين تمنوا أمرين:
الأمر الأول: الرجعة إلى الدار الدنيا.
والأمر الثاني: وعد منهم بعمل الصالحات.
(11/10)
---(7/282)
يقولون ? فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? هذه الآية اشتملت على هذين الأمرين: الأمر الأول: ? فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ?، وهذا أمر سيطلبه المشركون في يوم الدين، وكلمة "لو" هنا بمعنى: "ليت للتمني" يعني يتمنون الرجعة، ورب العالمين في سورة الأعراف يقول: ?هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ? [الأعراف: 53]، فيطلبون الرجعة إلى الدار الدنيا بعد ذلك؛ للأمر الثاني ألا وهو العمل الصالح؛ لأنهم قالوا في هذه الآية فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين والأعمال الصالحة من الإيمان والله -عز وجل- قد كذبهم في طلبهم هذا.
الأمر الأول: قضى الله -عز وجل- بأن من خرج من هذه الحياة الدنيا أنه يعود ولا يعود؟ أنه لا يعود.
(11/11)
---(7/283)
الأمر الثاني: أنهم لما طلبوا الرجعة وعدوا بعمل الصالحات مع الإيمان كذبهم رب العالمين فيه فقال في سورة الأنعام: ?وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?27? بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ? [الأنعام: 27- 28]؛ ولذلك نحن نقول: إن الله -عز وجل- يعلم ما كان ويعلم ما سيكون؛ ودليلنا على ذلك من عند الله المحيط الذي نسلم به وأيضًا هذه الآية تعد نصًا في ذلك، فلو سألك إنسان ما الدليل على أن الله -عز وجل- يعلم ما سيأتي بعد؟ والآيات الواردة مثلًا في القرآن الكريم تدل على العلم بإطلاق، ونحن نقول بأنه يعمل ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون نستدل على ما لم يكن لو كان كيف يكون بهذه الآية ? وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ?.
ثم يقول رب العالمين سبحانه بعد ذلك? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?، إن في ذلك لآية يعني لعلامة على صدق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في دعوته الناس إلى الله -عز وجل- وعلى صدق وعد الله -عز وجل- في أن الجنة لأهل الإيمان وأن النار لمن؟ للمكذبين الكافرين، وفيها آية وعلامة على نهاية الظالمين ومأوى المؤمنين في الجنة ونعم المآل ونعم المصير.
ثم يقول سبحانه مثنيًا على نفسه مادحًا لها ? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?، وفي هذا أيضًا تسلية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كأن الآية تقول: بأنه -عز وجل- قادر على تعجيل الانتقام للكافرين، لكنه يمهل عقوبتهم؛ لأنه -سبحانه وتعالى- أيضًا رحيم، "فعزيز" تفيد على أنه قادر على تعجيل الانتقام، ولكن "رحيم" تفيد إمهال رب العالمين -سبحانه وتعالى- لهؤلاء المكذبين الظالمين.
(11/12)
---(7/284)
المحور الثالث في هذا اللقاء: مع نوح -عليه السلام- في دعوة قومه إلى الله تعالى وتحته قول الله جل ذكره: ?كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ?105? إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?106? إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ?107? فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?108? وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ?109? فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ? لما قص الله -عز وجل- قصة موسى وإبراهيم عليهما السلام أتى بعد ذلك بذكر قصة نوح -عليه السلام- وذكر قصة نوح -عليه السلام- فيها تسلية للنبي -عليه الصلاة والسلام- لماذا؟
لأن قصة نوح عجيبة مكث بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله -عز وجل- ألف سنة إلا خمسين عامًا، عمر مديد، أعوامًا متعددة، بل مئات من الأعوام والسنين، ومع ذلك أخبر رب العالمين أنه ما آمن معه إلا قليل، فعندما يذكر الله -عز وجل- هذه للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تكون في هذا تسلية للنبي -عليه الصلاة والسلام- عندما يكذبه قومه ويردون دعوته، ونوح -عليه السلام- هو أول رسول أرسل على ظهر هذه الأرض، آدم كان نبيًا، أما أول رسول أرسل على ظهر الأرض هو نوح -عليه السلام- والدليل على ذلك أيضًا حديث الصحيحين في البخاري ومسلم وغيرهما من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- أن أهل الموقف عندما يذهبون إلى نوح يطلبون منه الشفاعة يقولون: أنت أول رسول أرسلك الله إلى أهل الأرض، وأول رسول أيضًا؛ لأنه كان بين أدم ونوح عشرة قرون كلها على التوحيد فلما وقع الشرك في البشرية أرسل الله -تبارك وتعالى- نوحًا -عليه السلام- يدعو الناس إلى الله -تبارك وتعالى- ويدعوهم إلى عبادة الله -عز وجل- وحده بعد أن دب فيهم الشرك.
(11/13)
---(7/285)
رب العالمين هنا يقول: ? كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ? سبق أن قلت لكم في سورة الفرقان عند مجيء سياقي لهذه الآيات أن قول الله -عز وجل- قوم نوح المرسلين، وما كذبوا إلا نوحًا فقط؟ لماذا؛ لأنهم لما كذبوا بنوح -عليه السلام- يكون قد كذبوا بكل الرسل؛ لأن دعوة جميع الأنبياء والمرسلين دعوة واحدة، فالتكذيب بنبي هو في الحقيقة تكذيب لجميع الأنبياء والمرسلين؛ ولذلك نحن نقول للذين يزعمون أنهم مؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون بنبينا -صلى الله عليه وسلم-: كذبتم؛ لأنكم لو آمنتم حقاً بأنبيائكم لصدقتموهم في متابعة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ ولأن جميع الأنبياء والمرسلين السابقين أخذ الله العهد عليهم أن يؤمنوا بالنبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- فعلى أتباعهم إذن على أن يحاكوهم في مثل ذلك، وبالتالي فمن كذب بني من الأنبياء يكون قد كذب بجميع الأنبياء والمرسلين، ونحن نحمد رب العالمين يا أهل الإيمان بإيماننا بجميع الأنبياء والمرسلين، ونحن في إيماننا بهم لا نفرق بين أحد منهم، ومع هذا نقتدي ونهتدي ونتبع نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- نتبع نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- قال الله تعالى ? كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ?105? إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?، أيضًا بعض الناس عنده إشكال في هذه الآية كيف يكون نوح أخ لهؤلاء وهم كفرة مكذبون؟ والأخوة تقتضي الموالاة والنصرة؟ وليس هناك موالاة ومودة ونصرة بين مؤمن ومشرك أو كافر؟
نقول قال الله تعالى: ? إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?؛ لأنه لما كان نوح -عليه السلام- واحدًا منهم قال الله -تبارك وتعالى- ? إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ ?، والعرب يقولون: يا أخا بني تميم، يريدون الواحد من بني تميم، نلاحظ أيضًا أن نوح -عليه السلام- فعل في دعوته إلى الله -عز وجل- في هذا الآيات فعل أمرين عظيمين لقومه:(7/286)
(11/14)
---
أولًا: خوفهم بالله -تبارك وتعالى- ونفهم هذا التخويف من قوله ? إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ? يعني ألا تخافون من الله -تبارك وتعالى- فتدخلوا في دعوتي وتستجيبوا لرسالتي وتتركون الشرك الذي أنتم عليه وتعبدون الله عليه وحده دون سواه.
ثم يقول لهم الأمر الثاني: ? إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ? يعني صادق في دعوتي إليكم، إلى الله -تبارك وتعالى- ويكرر عليهم الأمر بالتقوى، وأن يدخلوا في طاعته، ويتابعوه على رسالته، فيقول: "فاتقوا الله وأطيعوه" وهذه كلمات من طيبة من نوح -عليه السلام- وقد جاء في كتب بعض التفسير أنه كان أيضًا مشهورًا بالأمانة صلوات الله وسلام عليه، فإذن حينما قال لقومه: ? إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ?، يذكرهم بوصف قد اشتهر بينهم فيه، كما كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يشتهر بين قومه بالصدق والأمانة وسائر الخصال الحميدة، صلوات الله وسلامه عليه، وقال لهم نوح -عليه السلام- كما في سورة الأعراف: ? أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ? [الأعراف: 62].
(11/15)
---(7/287)
ثم ذكر لهم نوح أيضًا -عليه السلام- أنه لا يسألهم أجرًا على دعوته ? وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ?، فالأنبياء والمرسلون لا يطلبون من الناس أجرًا مقابل دعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى- بل وينشرون الخير ويقدمونه للناس ولا ينتظرون منهم جزاء ولا شكورًا، إنما أجرهم على رب العالمين -سبحانه وتعالى- كل الأنبياء والمرسلين كانوا دعاة إلى الله -عز وجل- ولا يأخذون أجرًا من أقوامهم ولا ينتظرون منهم أدنى شيء يقدمونه لهم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يقدم المثل الأعلى والنموذج الرفيع في ذلك -صلوات الله وسلامه عليه- فقد قال لقومه كما ذكر الله عنه في سورة ص: ? قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ? [ص: 86].
ولذلك يعجب رب العالمين من قوم لم يؤمنوا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو يدعوهم إلى الله -عز وجل- ويبذل لهم الخير مجانًا؛ ولذلك يقول الله في سورة الطور ? أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ?؟ [الطور: 40] يعني هل أنت تطلب منهم مالًا وهذا المال يثقل عليهم دفعه وبالتالي إن صرفوا على دعوته ولم يكن نبينا -صلوات الله وسلامه عليه- يفعل شيئًا من ذلك وفيه هنا توجيه لأهل العلم أن يبذلوا العلم للناس ولا ينتظرون منهم شيئًا، وإنما يقدمونه لوجه الله الكريم جل فيه علاه، وهنا سؤال في هذه الآية: لماذا كرر الله -عز وجل- الأمر بالتقوى مرتين على لسان نوح عليه السلام؟
قال لقومه أولًا: ? أَلَا تَتَّقُونَ ?، ثم بعد هذا قال: ? وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ?109? فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?؟
نقول في الجواب على ذلك: أن كلمة التقوى حقاً كررت مرتين؛ ولكنها في سياقين مختلفين، وبالتالي لا يعد تكرارًا لا فائدة من ورائه.
(11/16)(7/288)
---
الأمر الأول: جاء الأمر بالتقوى من نوح -عليه السلام- تذكيرًا لهم بعد أن أخبرهم أنه رسول من رب العالمين سبحانه، وأنه جاء لينذرهم عقوبة الدار الآخرة إذا لم يؤمنوا ويتابعوا نوحًا -عليه السلام- فهو يأمرهم بالتقوى؛ ليخوفهم من عذاب الله -عز وجل- هذا في الأمر الأول.
جاء الأمر بالتقوى ثانية بعد ما أخبرهم أنه لا يسألهم أجرًا فهو لما أنذرهم أمرهم بالتقوى ولما أخبرهم أنه لا يسألهم على دعوته أجرًا أيضًا أمرهم بعد ذلك بالتقوى فالمعنى في كلا الحالتين إذن مختلف.
قوم نوح ردوا على نوح دعوته، وأخباره لهم أنه لا يريد شيئًا على دعوته ردوا عليه بهذه الكلمات فقالوا: ?قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ?111? قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?112? إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ?113? وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ?114? إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ?.
(11/17)
---(7/289)
وما إن دعا نوح -عليه السلام- قومه كما ذكرت إلى الله أجابوه بهذه الكلمات ? أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ?!! يعني الضعفاء أسافل القوم الذين لا وزن لهم ولا مكانة؟ أين المكانة الاجتماعية؟ أين المكانة المالية؟ أين التقدم العلمي والتقني عند هؤلاء؟ الذين يزعمون الإيمان؟ هذا منطق الكافرين، قياسهم فاسد، ونظرتهم وضيعة، قالوا أنؤمن لك، هل تود أن نسير ونحن وضعفاء الناس على سواء: ? أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ? وهذه دعوة في الحقيقة قالها المشركون للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والإسلام وكل نبي ورسول لا يفرق بين أتباعه بين غني وفقير ولا شريف أو وضيع؛ لأنه يدعو جميع الناس إلى الله -تبارك وتعالى- والتفاضل بين الناس لا يكون بالشرف والوجاهة أو المال والمكانة، وإنما يكون بأي شيء يكون بتقوى رب العالمين، قال الله -عز وجل- ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? [الحجرات: 13].
(11/18)
---(7/290)
المشركون طلبوا من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا الأمر الذي ذكره قوم نوح جاءوا إليه وقالوا له اجعل لنا يومًا، وللضعفاء أو الفقراء يومًا، يعني قالوا كيف نجلس مع بلال وصهيب وغير هؤلاء، وهم يعتبرون أنهم من كبراء الناس ومن سادات الناس، فلا يليق بهم أن يجلسوا مع الضعفاء، ولا مع الفقراء، منطق الكافرين واحد، قوم نوح يقولون: ? أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ?؟ وأيضًا جاء المشركون إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأبت نفوسهم أن يجلسوا مع ضعفاء أهل الإيمان، اجعل لنا يومًا ولهؤلاء يومًا، وسيأتي بيان أن الله -عز وجل- نهى النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يطرد أهل الإيمان ويقبل على هؤلاء المجرمين، ولكني أود أن أذكر الذين يتبعون الأنبياء والمرسلين، وخاصة في بداية أمرهم هم الضعفاء من الناس، القلة من الناس؛ ولذلك هرقل يعلم ذلك من خلال دعوة الأنبياء والمرسلين هرقل سأل أبو سفيان هل ضعفاء الناس يتبعون النبي -صلى الله عليه وسلم- أم كبرائهم فأخبره بأن ضعفاء الناس هم الذين يتبعون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما قالوا ذلك لنوح قال نوح -عليه السلام- لهم: ? قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?112? إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ?، أنا لست مسئولًا عن التنقيب عن قلوب هؤلاء الناس وعلى عن أفعالهم وإنما فقط أدعوهم فقط إلى الله -عز وجل- وعليهم أن يتبعوني ويخلصوا في إيمانهم لله، ثم بعد ذلك حسابهم على الله -عز وجل- ونفهم من سياق الآيات أن هؤلاء المستكبرين إذن الذين أبت نفوسهم أن يجلسوا مع ضعفاء المؤمنين طلبوا من نوح -عليه السلام- أن يطرد هؤلاء المؤمنين الضعفاء، الآية ليس فيها ذكر ذلك ولكن الله بعدما قال ? إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ? ذكر قول نوح -عليه السلام-: ? وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ?، نفى نوح -عليه السلام-(7/291)
(11/19)
---
هذا الأمر عن نفسه، ورد عليهم بأنه لا يمكن أن يفعل ذلك؛ لأنه جاء نذيرًا من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- يدعو الناس إلى الله، وفي سورة هود: ? وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ? [هود: 29]، وكما طلب قوم نوح من نوح -عليه السلام- أن يطرد هؤلاء المؤمنين الضعفاء طلب أيضًا المستكبرون من قريش من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يطرد من آمن معه من المستضعفين، والله -عز وجل- نهاه عن ذلك في قوله: ?وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ? [الأنعام: 52] بل إن رب العالمين سبحانه يأمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يصبر على هؤلاء، يعني أنت لست بحاجة إلى وجاهة، ولا إلى كبراء القوم، ?وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطً? [الكهف: 28]، وأنا تعمدت أن أذكر هذه الآية؛ لأبين ماذا وصف الله -عز وجل- أو بأي شيء وصف الله -عز وجل- أهل الإيمان وبأي شيء وصف الله هؤلاء المستكبرين؟ قال في أهل الإيمان ويكفيهم هذا الأمر أنهم لجئوا إلى الله يريدون وجه الله -تبارك وتعالى- بخلاف هؤلاء المستكبرين الذين قال الله فيهم: ? وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ? [الكهف: 28].
(11/20)
---(7/292)
ثم يستمر السياق بعد ذلك فيقول فيه رب العالمين: ?قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ?116? قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ?117? فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?118? فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ?119? ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ?120? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?121? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ?، كما ذكرت ظل نوح يدعو قومه إلى الله -تبارك وتعالى- وهم أصروا على الكفر وطلبوا منه ما طلبوا، فلم يستجب نوح -عليه السلام- لطلبهم، ورد عليهم أفكهم وبهتانهم عندما طلبوا منه أن يطرد هؤلاء المؤمنين لما لم يفعل ولم يستجب لقولهم هددوه بالطرد والرجم ? قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ?، وهذا في الحقيقة يعني من أقصى العقوبات التي يمكن أن يفعلها هؤلاء المكذبين مع نبي الله نوح -عليه السلام- والإنسان يعجب حقاً عندما يأتي نبي بهذه الصفات يبين للناس الحق ويدعوهم إلى الله -عز وجل- ولا يكلفهم مالًا ولا يطلب منهم شيئًا، ثم بعد ذلك يتوعدوه ويتهددوه وليس بوعيد سهل أو ميسور، وإنما وعيد شديد ألا وهو الرمي بالحجارة، عندئذ توجه نوح إلى ربه ومولاه وقال: ? قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ?117? فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? يلاحظ هنا أن نوح -عليه السلام- لجأ أولا إلى ربه ومولاه وطلب منه دعوتين:
الدعوة الأولى: أن يغرق أهله، وجماعته الذين كذبوا به.
(11/21)
---(7/293)
الأمر الثاني: أن ينجيه ومن آمن معه قال: ? فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?، ? فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ?، الفتح هو الحكم، وهذا الحكم هو طلب من نوح -عليه السلام- أن يغرق قومه، وقد جاء تفصيل ذلك في سورة القمر هنا قال الله -عز وجل- ? قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ?117? فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ? في سورة القمر ?وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ? [القمر: 10- 13]، هذا هو الطلب الأول أو الدعوة الأولى التي توجه بها نوح -عليه السلام- لربه.
(11/22)
---(7/294)
الدعوة الثانية: أن ينجيه ربنا -سبحانه وتعالى- ومن آمن معه، ولقد استجاب الله دعاء نوح -عليه السلام- فأغرق من كذب به ولم يؤمن بالله ويوحده وأهلكهم ونجا نوحًا -عليه السلام- ومن آمن معه، واستجاب الله دعائه، وقد أخبر ربنا في كتابه فقال ? وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ?75? وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ? [الصافات: 75- 76]، هذا تفضل من الله -عز وجل- على أهل الإيمان ? فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? قال الله -عز وجل- معقبًا على ذلك بالفاء مبينًا أنه -سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير، وأنه يستجيب دعاء من دعاه بصدق ويقين، وقد كان نوح -عليه السلام- من هؤلاء؛ ولذلك قال رب العالمين سبحانه ? فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ?، الفلك المشحون المملوء؛ لأن نوحًا -عليه السلام- خرج بقومه وأخذ من كل صنف أودعه الله -عز وجل- في الأرض زوجين، كما أمره رب العالمين -سبحانه وتعالى- وكان يصنع سفينة، ويضيق الوقت أن أبين مثل هذه الأمور، وهي مذكورة في كتاب الله -عز وجل- وركبها هو ومن آمن معه، والله -عز وجل- نجاه وهو في هذا الفلك، ومن كان معه فيها، كما قال الله في الفلك المشحون لكي تقر نوح -عليه السلام- من هؤلاء المكذبين.
(11/23)
---(7/295)
تفيد الآيات أن الله -عز وجل- نجا نوحًا أولًا، ثم أغرق قومه بعد ذلك وهذا يفيد أن نوح شاهد قومه وهم يغرقون؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يقول: ? فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ?119? ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ?؛ لأن "ثم" تفيد الترتيب مع التراخي، وهذه في الحقيقة نهاية الظالمين، وتفضل رب العالمين على الأنبياء والمرسلين، ومن صار في ركابهم، والآية تفيد أن الأنبياء والمرسلين كانوا يلجئون إلى الله -تبارك وتعالى- ويطلبون منه ما يحتاجون إليه، فنوح -عليه السلام- ما قال بأنه أول رسول إلى أهل الأرض، وهو الذي يمكنه أن ينجي قومه، ولكنه توجه إلى رب العالمين -سبحانه وتعالى- ? فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ? [النجم: 10]، ثم يختم ربنا -عز وجل- هذه الآيات بقوله: ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?121? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?، وقد سبق أن بينت أن آية بمعنى علامة، وهذه تفيد أن الإنسان عليه أن يعتبر، وأن يتعظ من هذه المواقف وأن يعلم أن رب العالمين قوي قادر فهو العزيز الرحيم جل في علاه، وبهذا ينتهي درسنا في هذا اللقاء وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: لما ضرب موسى -عليه السلام- البحر ظهرت عدة معجزات اذكر ثلاثة منها؟
وكانت الإجابة: أولًا: انفلاق البحر، ثانيًا: أن جانبي البحر أصبحا كالطود العظيم أي الجبل العظيم، ثالثًا: الطريق الذي صار عليه موسى أصبح يابسًا. انتهت الإجابة
إجابة صحيحة.
والسؤال الثاني: استغفر إبراهيم لأبيه وهو كافر، كيف توجه هذا الاستغفار مع ذكر الدليل؟
(11/24)
---(7/296)
وكانت الإجابة: كان إبراهيم يطمع في أن يؤمن أبوه، ولكنه لم يؤمن، وظل على كفره، ولكن هذه الدعوة مقيدة كما قال تعالى: ? وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ? [التوبة: 114].
ما شاء الله جواب سديد.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة:
السؤال الأول: ما معنى "فكبكبوا"؟ وهل كل معبود من دون الله يلقى مع عابده في النار؟ وضح ذلك؟
والسؤال الثاني: اشرح قول الله تعالى ? فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?.
(11/25)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس الثاني عشر : تابع تفسير سورة الشعراء (123- 191)
الدرس الثاني عشر
تابع تفسير سورة الشعراء (123- 191)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد.
الإخوة والأخوات طلبة هذه الأكاديمية العلمية المباركة سلام الله عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ويسعدنا بفضل الله -تبارك وتعالى- أن يستمر معنا هذا اللقاء في تفسير آيات من كتاب الله -عز وجل- ومن سورة الشعراء وسيدور حديثي في محاور أربعة في هذا اللقاء:
المحور الأول: هود -عليه السلام- يدعو قومه إلى الله تعالى.
المحور الثاني: خبر القرآن عن نبي الله صالح -عليه السلام-.
المحور الثالث: لوط -عليه السلام- ينهى قومه عن ارتكاب الفواحش.
المحور الرابع: شعيب -عليه السلام- يدعو قومه إلى عبادة الله وإيفاء المكيال والميزان.
وهذه المحاور سنستمع إلى الآيات التي تتحدث عنها -إن شاء الله تبارك وتعالى- من الأخ عبد الرحمن فليتفضل.
(12/1)
---(7/297)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ?123?إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?124?إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ?125?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?126?وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ?127?أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ?128?وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ?129?وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ?130?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?131?وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ?132?أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ?133?وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ?134?إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?135?قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ?136?إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ?137?وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ?138?فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?139?وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?140?كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ?141?إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?142?إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ?143?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?144?وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ?145?أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ ?146?فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ?147?وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ?148?وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ?149?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?150?وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ?151?الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ?152?قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ?153?مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ(7/298)
(12/2)
---
مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ?154?قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ?155?وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?156?فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ?157?فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?158?وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?159?كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ?160?إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?161?إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ?162?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?163?وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ?164?أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ?165?وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ?166?قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ?167?قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ?168?رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ?169?فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ?170?إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ?171?ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ?172?وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ?173?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?174?وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?175?كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ?176?إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?177?إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ?178?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?179?وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ?180?أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ(7/299)
?181?وَزِنُوا
(12/3)
---
بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ?182?وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ?183?وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ?184?قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ?185?وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ?186?فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ?187?قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ?188?فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?189?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?190?وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ? [الشعراء: 123 - 191].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين وبعد:
المحور الأول كما ذكرت في هذا اللقاء هود بعنوان: هود -عليه السلام- يدعو قومه إلى الله تعالى، وقصة هود هي القصة الرابعة في سياق هذه السورة الكريمة المباركة بعد أن تحدت عن قصة موسى وإبراهيم ونوح عليهم السلام، وتبدأ بقول الله جل ذكره: ?كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ?123?إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?124?إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ?125?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?126?وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ?.
(12/4)
---(7/300)
لعلكم تلاحظون أن فاتحة هذه القصة هي نفسها أيضًا فاتحة قصة نوح -عليه السلام- ولذلك لن أعيد الحديث عنها، ولكني فقط أود أن أطرح بعض الأسئلة لأطمئن أن الأمر لديكم معلوم فمثلًا: ? كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ? كذب عاد هودًا -عليه السلام- كذبوا رسولًا واحدًا، فلم قال القرآن الكريم: ? كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ?؟
حين يكذب قوم بالنبي أو برسول واحد معنى ذلك أنهم كذبوا بجميع الرسل.
صحيح التكذيب بنبي واحد هو تكذيب لجميع الأنبياء والمرسلين؛ لأن دعوتهم واحدة.
أيضًا ? إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ ?، وقد سبق أن قلت بأن قاعدة وعقيدة الولاء والبراء يجب أن تكون معلومة لدى كل مؤمن، فكيف يكون هودًا -عليه السلام- أخو لهؤلاء المكذبين؟
والجواب:
في لغة العرب أخا القوم يعني واحدًا منهم
نعم، وقد ذكرت فيما مضى يا أخا بني تميم يعني يا واحدًا من بني تميم، وأود أن أذكر أخواني بهذا في مفتتح هذا اللقاء؛ لأن هذا سيرد أيضًا ويتكرر معنا في القصص التالي، وبالتالي أصبح معلومًا لنا إن شاء الله تبارك وتعالى.
غاية الأمر هو أن أقول بأن هودًا -عليه السلام- أرسل إلى قوم عاد، وكانوا يسكنون الأحقاف، والأحقاف مدينة قريبة من حضرموت.
(12/5)
---(7/301)
بعد ذلك جاءت الآيات وبينها رب العالمين -سبحانه وتعالى- في قصة هود -عليه السلام- فقال: ? أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ?128?وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ?129?وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ?130?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ? هود -عليه السلام- في مقدمة دعوته إلى الله -عز وجل- يذكر قومه بنعم الله -تبارك وتعالى- عليه، وكانوا في الحقيقة يعني من أصحاب الأموال والزروع والخيرات والنعيم الكثير للغاية، وكانت لديهم حضارة عظيمة، لعل أصدق تعبير عنها ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى- في سورة الفجر: ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ?6?إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ?7?الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ? [الفجر: 6- 8].
هذا القول الكريم من الرب الكريم -سبحانه وتعالى- يذكر فيه أن هؤلاء القوم وما عندهم من حضارة لم تكن عند أحد غيرهم بحال؛ ولذلك هود -عليه السلام- يذكرهم بما عندهم، هو ذكر ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ? أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ?. ما هو الريع؟ هو المكان المرتفع، وكانوا يبنون على الأمكنة الرفيعة العالية أمكنة أيضًا من باب اللهو والافتخار لا للحاجة إليها وهذا هو الذي نعاه القرآن الكريم عليهم.
الأمر الثاني الذي ذكرهم به هود -عليه السلام-: ? وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ?، أرجح الأقوال في كلمة مصانع كما ذكر الحافظ ابن كثير في أول قول في هذا المعنى أنها مآخذ الماء، يعني أماكن تجمع الماء، يمكن أن نقول أو نعبر عنها في عصرنا الحاضر بالعيون أو الآبار، فكانوا أيضًا يتخذون هذه الآبار، والقرآن الكريم أشار إلى أيضًا أنهم كانوا يتوسعون فيها، ويفعلونها أكثر من الاحتياج؛ لأنه قال ? وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ?، يعني كأنكم ستبقون أبد الآباد فتوسعتم فيها.
(12/6)
---(7/302)
الأمر الثالث الذي ذكرهم به هود -عليه السلام-: ? وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ? وكانوا أصحاب قوة وبطش وبغي على عباد الله -تبارك وتعالى- في أرض الله -سبحانه وتعالى-.
هذه ثلاثة أمور ذكرهم بها هود -عليه السلام- وبعد أن قال لهم ذلك -صلوات الله وسلامه عليه- أمرهم بتقوى الله عز وجل؛ لأن ما هم فيه من نعيم إنما هو منَّة من رب العالمين -سبحانه وتعالى- هذه الأموال هذه البنايات الضخمة هذه الزروع هذه المياه والأنهار إنما هي تفضل من رب العالمين -سبحانه وتعالى- ? فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?، هذا أمر بالتقوى بصورة مجملة ويستمر السياق ويأمرهم أيضا هود -عليه السلام- بتقوى الله -عز وجل- ويذكر شيئًا من التفصيل الذي أجمله في قوله تعالى: ? وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ?132?أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ?133?وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ?134?إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?، هنا بعدما قال لهم أولًا فاتقوا الله وأطيعون كرر بعد ذلك وأجمل بعض النعم التي أعطاهم رب العالمين إياها حينما قال: ? وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ?، يعني أن الله -عز وجل- أعطاكم مددًا كثيرًا بأشياء وأمور أنتم تعلمونها، ثم شرع في تفصيل ما أمدهم ربهم -سبحانه وتعالى- به، فذكر بعضه في قوله: ? أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ?133?وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ?134?إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?، هذه نعم الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء القوم، ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه يذكرهم بها ويأمرهم بتقوى الله -سبحانه وتعالى- ثم يبين رأفته بهم ورحمته بهم وهذا شأن الأنبياء والمرسلين، أنهم بأممهم كانوا يحرصون غاية الحرص على أن يكونوا في دين الله -عز وجل- ومع ذلك في تكذيبهم يقول لهم: ? إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ? بماذا أجابوه؟
(12/7)
---(7/303)
تأملوا منطق المشركين ?قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ?136?إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ?137?وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ?138?فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?139?وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ?.
هود -عليه السلام- بعد ما ذكر قومه بنعم الله -تبارك وتعالى- عليه أو أمرهم بتقواه وأخبرهم أنه يخاف أن ينزل بهم عذاب الله -عز وجل- لتكذيبهم بالنبي المرسل إليهم صلوات الله وسلامه عليه ردوا دعوته: ? قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ?، وهذا هو منطق الكافرين، قال الله -عز وجل- عن الكافرين في أوائل سورة البقرة: ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ? [البقرة: 6]، وأخبر رب العالمين أيضًا: ? إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ? [يونس: 96]، وهؤلاء القوم قالوا لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه: ? سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ ?، قال الله بعد ذلك: ? إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ? قال عن هؤلاء القوم وقد قالوا هم ذلك لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وقرئ ? إِنْ هَذَا إِلَّا خَلُقُ الْأَوَّلِينَ ? بمعنى أخلاق الأولين؛ لأن الأولين كانوا يقولون ذلك لأنبيائهم، وأيضًا دعاهم هؤلاء الناس ومشركي العرب تبعوا هؤلاء أيضًا فقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وعن الكتاب المنزل إليه: ? وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ? [الفرقان: 5]، فاحتجوا أيضًا بأخلاق الأولين وقرئ: ? إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ?، ومعناها إن هذا إلا دين الأولين، وأفادوا بذلك أنهم يتبعون من؟ يتعبون آبائهم وأجدادهم وما(7/304)
(12/8)
---
كانوا عليه في ضلال.
ثم بعد ذلك ذكر القرآن الكريم عنهم أنهم قالوا كلمة تنبئ عن أمرين قاما في نفوس هؤلاء الناس: ? وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ?.
هذا القول منهم يفيد أنهم أولًا كانوا يتعالون على نبيهم صلوات الله وسلامه، ويشعرون أنفسهم أنهم في قوة، وأنه لا ينالهم شيء من العتاد.
الأمر الثاني: ? وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ?، يفيد أنهم لن يؤمنوا بالبعث والنشور والجزاء والوقوف بين يدي الله -تبارك وتعالى-، القرآن الكريم هنا اختصر اختصارًا ربما نحن نحتاج إليه في هذه السورة لما قال: ? فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ ?، هكذا اختصر القرآن الكريم في هذه السورة، وذكر أن هؤلاء كذبوا نبيهم فأهلكهم رب العالمين -سبحانه وتعالى- وقد ذكرت آيات أُخر تفصيل العذاب الواقع على هؤلاء، وقد ذكرتها لكم سابقًا في سورة الفرقان، وقد ذكرها رب العالمين في أوائل سورة الحاقة: ? وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ? [الحاقة: 6]، آخر ما جاء في هذه الآيات.(7/305)
المحو الثاني معنا في هذا اللقاء بعنوان: خبر القرآن عن نبي الله صالح، وتحته هذه الآيات: ?كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ?141?إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?142?إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ?143?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?144?وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ? نقول مفتتح هذه القصة أيضًا كغيرها من القصص، غاية الأمر أني أقول بأن نبي الله صالح -عليه السلام- أرسل إلى هؤلاء القوم، وكانوا يسكنون في قرية معروفة اليوم، تعرف بمدائن صالح، تبعد عن المدينة النبوية قرابة أربعمائة كيلو مترًا، كانوا يسكنون هناك، وبعث الله -سبحانه وتعالى- إليهم هذا النبي الكريم، والآن نود أن نعرف من خلال هذه الآيات ماذا قال لهم نبيهم؟ وبماذا ردوا عليه؟ وما هي النهاية التي كانت على هؤلاء؟
(12/9)
---
قال الله -تبارك وتعالى- ?أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ ?146?فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ?147?وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ?148?وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ?149?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?150?وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ?151?الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ?، بدأ صالح -عليه السلام- بعد ما أخبرهم بأنه رسول من رب العالمين، وأنه لا يسألهم أجرًا وغير ذلك، أيضًا بدأ بتعداد نعم الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء قائلًا: ? أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَا هُنَا آمِنِينَ ? يعني هل تظنون أنكم ستبقون في أماكنكم آمنين، لا تتحولون ولا يحيق بكم العذاب، وهذا أيضًا إجمال من نبي الله صالح -عليه السلام- لشيء من نعم الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء.(7/306)
ثم فصل هذا الإجمال في قوله: ? فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ?، يعني أنتم اليوم آمنون ومعكم الجنات ومعكم العيون، وأيضًا قال لهم: ? وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ?، الزروع والنخل من ضمن الجنات، فالنخل زرع، ولكن صالح -عليه السلام- أفرده لهم بالذكر، وهذا يفيد أهمية النخل، وفوائد النخل، والعرب يعرفونه يدركون تمامًا قيمة هذه الثمرة الطيبة المباركة وما فيها من فوائد عظيمة، وكان الناس في الزمن الغابر كانوا يكتفون بتمرات قليلة تشبعهم ويطعمون بها، والحقيقة أن النخل نعمة من الله -تبارك وتعالى- على عباده، فيها وفي شجرها فوائد عظيمة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد ضرب للمؤمن مثلًا بها كما هو معلوم في السنة.
(12/10)
---
ثم ذكر لهم شيئًا من النعيم آخر ? وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ?، يعني بيوتًا فارهة، بيوتًا عظيمة، وحقًا كانوا يفعلون ذلك، كانت أيضًا عندهم حضارة عظيمة جدًا كبيرة، كانوا يأتون إلى الجبال فينحتون منها مساكن رائقة، ومساكن عظيمة، فيها فن معماري متقدم، وكانوا ولا شك يستمتعون بذلك، هذه نعمة من نعم الله -تبارك وتعالى- عليهم بعد ما عددها عليهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه أمرهم أيضًا بتقوى الله -تبارك وتعالى- وأن يدخلوا في طاعته فقال ? فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?، ثم نهاهم عن طاعة المسرفين منهم، وذكر أن هؤلاء المسرفين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وقد ذكر أهل العلم أن هؤلاء المسرفين هم السادة والكبراء فيهم، وهم القوم الذين كانوا يدعونهم ويزينون لهم عبادة غير الله -تبارك وتعالى-، هكذا قال لهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ونود أن نعرف الآن بأي شيء أيضًا أجابوه؟
(12/11)
---(7/307)
قالوا: ? قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ?153?مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ?154?قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ?155?وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?156?فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ?157?فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?158?وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?، كل نبي وكل رسول كان يحرص غاية الحرص على هداية قومه، يأمرهم أولًا بتقوى رب العالمين سبحانه، ثم يعدد فضل الله -تبارك وتعالى- عليه، وبعد ما يعدد هذا الفضل يأمرهم مرة أخرى بتقوى الله -تبارك وتعالى- لعلهم بعد التذكر يتذكرون، ولكن الكافرين كانوا يأبون الدخول في طاعة الأنبياء والمرسلين، ويردون عليهم دعوتهم ولا يستجيبون لرسالتهم، وهكذا فعل قوم صالح -عليه السلام- ردوا عليه قائلين: ? إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ?، كلمة من المسحرين تحتمل أمرين:
الأمر الأول: إنما أنهم أرادوا أنت رجل مسحور، أصابك سحر، وبذلك أصبحت لست من العقلاء، لا تدري ما تقول، وبالتالي اعتبروا دعوة نبيهم إلى الله -عز وجل- من باب عدم العقل بل هي من باب الجنون.
(12/12)
---(7/308)
الأمر الثاني: قالوا إنما أنت من المسحرين: يعني أنت من البشر، ونحن لا نتبع بشرًا مثلنا كما ذكر الله عنهم في هذه الآية أنهم قالوا ذلك بعد ما قالوا: ? إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ?153?مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ?، يعني أنت واحد منها طالما أنك بشر مثلنا فنحن لن نبتع رجلًا مثلنا على هيئتنا وعلى حالتنا، وكأنهم كانوا يريدون ملكًا أو غير ذلك، ولما كذبوه وطعنوا في رسالته ولم يستجيبوا لدعوته؛ إما لأنه لا يعقل بأنه مسحور مجنون، إما أنه من البشر عندئذ طلبوا من نبيهم آية طلبوا معجزة أخرى تؤيده قالوا له: ? إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ?153?مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ? طلبوا منه آية يثبت بها صدق رسالته وأنه مرسل من قبل الله -تبارك وتعالى- في كتب التفسير ذكروا أن صالحًا -عليه السلام- لجأ إلى ربه ومولاه، وطلب منه آية ومعجزة، وقيل بأنهم طلبوا منه ناقة عشراء، هذا طلبهم فطلبها صالح -عليه السلام- من ربه فأعطاه الله -تبارك وتعالى- إياها، وقيل خرجت هذه الناقة من الصخر أمامهم على الهيئة التي طلبوها هم، وقال لهم نبيهم عندئذ: ? قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ?، يعني أنها تشرب يومًا الماء وأنتم تشربون الماء يومًا آخر، فهي تروح على الماء في يوم فتشربه، وهم يوردون الماء يومًا آخر، ثم حذرهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه بأن ينزلوا بهذه الناقة شيئًا من العذاب: ? وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?، ولكنهم ما استجابوا لذلك، وعاشت بينهم الناقة، وكانوا يستفيدون من لبنها ويشربونه، هذه نعمة من نعم الله -تبارك وتعالى- تتم هذه النعمة أيضًا بأمرين:
الأمر الأول: أن الله -عز وجل- أجاب طلبهم لما طلبوا من نبيهم معجزة فأعطاهم الآية التي طلبوها.
(12/13)
---(7/309)
الأمر الثاني: أن هذه الآية التي طلبوها فيها نفع عظيم لهم، نهاهم نبيهم أن يمسوا هذه الناقة بسوء ولكنهم ما استجابوا لذلك، وإنما قال الله عنهم: ? فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ?، وقد فصل رب العالمين -سبحانه وتعالى- في آيات أخر، أنهم عقروا الناقة، ويستفاد من مجمل الآيات أنهم جميعًا تمالوا على قتلها، وأنهم أعطوا صاحبهم السلاح الذي يضرب به الناقة، يعني يستفاد من هذا أنهم جهزوا السلاح له، ووقفوا إلى جواره، وأيدوا فعله، كما قال رب العالمين -سبحانه وتعالى- في سور القمر: ? فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ? [القمر: 29].
فتعاطى يعني تعاطى السيف الذي قتل به الناقة، وأيضًا ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- في سورة الشمس أن أشقى القوم هو الذي تولى عقر هذه الناقة، كما قال رب العالمين: ? إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ? [الشمس: 12]، يعني أشقى القوم هو الذي تقدم وضرب هذه الناقة، ? فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ?، قال الله مباشرة: ?فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ?، ورب العالمين -سبحانه وتعالى- أجمل هذا العذاب، ولكنه فصَّل في آيات أخرى: ? إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ? [القمر: 31]، صيحة واحدة أصبحوا ? كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ?، أتدرون ما هو هشيم المحتظر؟
هشيم المحتظر هذا هو العلف الذي يبقى من النباتات المختلفة أو بقايا مثلًا القمح والأرز، العيدان هذه التي توضع تحت الحيوانات في الحدائق، هذه الصيحة جعلتهم هكذا: ? كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ?، قد يقول قائل: لماذا لما ندموا لم يقبل الله توبتهم؟ قد ندموا لماذا لم يقبل رب العالمين -سبحانه وتعالى- توبتهم؟ لأنه قال: ? فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ?157?فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ?، يعني دل ذلك على أن أخذ الله لهم بالعذاب بعد الندم الجواب عن ذلك؟
(12/14)
---(7/310)
أنهم لم يندموا على فعلهم هذا، وإنما ندمهم كان خوفهم من عذاب الله -تبارك وتعالى- وقيل بأن هذا الندم لم يقع منهم إلا عند نزول العذاب عليهم وبالتالي لم تكن هناك ساعة يمكن أن يقبل الله -تبارك وتعالى- منهم توبة.
المحور الثالث في هذا اللقاء: لوط -عليه السلام- ينهى قومه عن ارتكاب الفواحش. ومقدمة هذه القصة كمقدمة القصص السابقة: ?كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ?160?إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?161?إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ?162?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?163?وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ?، وأنا سأتجاوز الوقوف عند هذه الآيات؛ لأنها أصبحت معلومة لنا، وكما أنني أيضًا أتجاوز: ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?139?وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?، يعني نتجاوز الوقوف عندها، وإن كانت تحمل معان عظيمة للغاية، فيها تعظيم وتمجيد لرب العالمين، وبيان لقوة الله -عز وجل- وآثار هذه العظمة وأنه سبحانه يقول للشيء كن فيكون.
(12/15)
---(7/311)
بعد ذلك أود أن أذكر أن نبي الله لوط -عليه السلام- قبل أن أذكر ما وجاه به قومه كان في زمن إبراهيم -عليه السلام- وقد بعثه الله -تبارك وتعالى- إلى قرية يقال لها سدوم وهو ابن أخ لإبراهيم -عليه السلام- قد ذكر الإمام الحافظ ابن كثير أن هذه القرية متاخمة بجبال بيت المقدس، ولوط -عليه السلام- دعا قومه إلى عبادة الله وحده، ثم بعد ذلك واجه الانحراف الخلقي العظيم الذي كان لدى هؤلاء الناس وظهرت هذا المواجهة في قوله لهم: ? أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ?165? وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ?، افتتح لوط -عليه السلام- دعوته لهم وواجههم في انحرافهم بهذا القول: ? أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ? يعني أنتم خصصتم بهذه المسألة دون العالمين، ويدل على ذلك أيضًا أن لوطًا -عليه السلام- قال لهم كما جاء في سورة الأعراف: ? وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ? [الأعراف: 80]، فهؤلاء القوم أو هؤلاء الناس هم الذين ابتدعوا هذه الفاحشة في البشرية؛ ولذلك حرصْت على أن أعنون لهذه القصة، ولهذا المحور بأن لوطًا -عليه السلام- ينهى قومه عن ارتكاب الفاحشة، وقوم لوط -عليه السلام- هم الذين ابتدعوها وكانوا أول الناس إتيانًا لهذه الفاحشة: ? أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ?، ثم ذكره بالطريق الصحيح، بالصواب، بالفعل المستقيم الذي به يكون النسل وتسير الحياة إلى أن يشاء رب العالمين ? وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ?، وما فعلوا ذلك إلا لأنهم قوم بغاة، قوم معتدون، كما قال لهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه: ? بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ?.
(12/16)
---(7/312)
بأي شيء أجابوه؟ قالوا: ?قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ?167?قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ?168?رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ?169?فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ?170?إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ?171?ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ?172?وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ?173?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?174?وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ?، تأملوا بماذا أجابوه بعد أن نصحهم صلوات الله وسلامه عليه؟ فهددوه بالنفي والطرد من بلدته وإخراجه من القرية التي كان يعيش فيها، ولعل هؤلاء الناس والله أعلم كانوا يطردون من لا يكون على شاكلتهم، كأن هذا كان أمرًا معتادًا عندهم، وما زال معتادًا في البشرية اليوم، كل طاغية لا يوافقه بعض الناس على فساده وطغيانه فإنه يؤذيهم ويخرجهم من البلاد، أو ينكل بهم، أو ما إلى ذلك مما هو مشاهد في دينا الناس.
هؤلاء القوم أيضًا كانوا من البغاة المعتدين الجبارين كما ذكر عنهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، هددوه بالنفي والإخراج من القرية التي هو فيها، لما فعلوا ذلك بين لهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه أنه كاره لما هم عليه من الفعل: ? قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ?، والقالين يعني المبغضين له بغضًا شديدًا.
(12/17)
---(7/313)
ثم بعد ذلك توجه إلى ربه بالدعاء بأن ينجيه رب العالمين -سبحانه وتعالى- من هؤلاء، وطبعًا نحن لا نعجب من هذه الدعوة المباركة التي توجه بها لوط -عليه السلام- لأننا قد تعلمنا من كتاب ربنا أن هؤلاء القوم كانوا لا يأنفون أن يأتون أي بيت لكي يفسدوا فيه بهذا المنكر، وقد قص الله -تبارك وتعالى- علينا في سورة الأعراف وفي سورة هود: كيف أنهم لما أتت الملائكة إلى لوط -عليه السلام- أتوا إلى بيته يريدون إتيان الفاحشة بالملائكة الذين نزلوا ضيوفًا على لوط -عليه السلام- يعني قوم أصبحوا من السوء بمكان، ومن هنا توجه لوط -عليه السلام- ودعا ربه: ? رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ ?، فاستجاب الله -تبارك وتعالى- دعوة لوط -عليه السلام- وقال: ? فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ?.
ولما قال رب العالمين ذلك وأكد أنه نجاه ونجا أهله وأتى بصيغة الجمع استثنى العجوز التي في الغابرين ألا وهي زوج لوط -عليه السلام- التي كذبته، وكانت تشارك قومه وتؤيدهم في هذه الفاحشة، وقد ذكر كثير من المفسرين أنها كانت تقول لأقوامها وتخبرهم بخبر لوط -عليه السلام- إذا أتى إليه أحد يزوره حتى يأتي هؤلاء الناس فيطلبون الفاحشة من هؤلاء الضيوف؛ ولذلك استثنى القرآن هذه العجوز التي في الغابرين، ومعنى في الغابرين الباقين في العذاب مع الأقوام الذين أهلكهم رب العالمين -سبحانه وتعالى- ? إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ?.
(12/18)
---(7/314)
بعد ما أخبر رب العالمين أنه نجا لوطًا -عليه السلام- قال: ? ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ?، تدمير الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الناس جاء ذكره مفصلًا في آيات أخرى وذلك مثلًا في قول الله -تبارك وتعالى- في سورة هود: ? فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ?82?مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ? [هود: 82- 83]، جاء في كتب التفسير عن مجاهد وقتادة وغيرهما أن جبريل -عليه السلام- رفع قرىً اللوطية قيل كانوا أربع وقيل ثلاث، رفعها على طرف جناحه إلى السماء حتى يستمع أهل السماء نباح كلابهم، يعني صياح كلاب هؤلاء الناس ثم قلبها بعدما رفعها من أصلها من على الأرض، رفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل عاليها سافلها ولم يكتف ربنا -سبحانه وتعالى- بذلك بل أخبر بعد ذلك قال: ? وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ?، قيل بأن كانت هناك حجارة تسقط على من نجي منهم من هذا السقطة، يعني قد يكون هناك تحت ركام الأنقاض من لم يمت من هؤلاء الناس، فأيضًا عاقبهم رب العالمين -سبحانه وتعالى- بإرسال هذا المطر وهي الحجارة السجيل المعلمة قيل كل حجر كان عليه اسم صاحبه الذي يموت به أو يضربه به، وهذه طبعًا معجزة أخرى وآية وعلامة على قدرة من؟ قدرة رب العالمين -سبحانه وتعالى-؛ ولذلك صدق الله في قوله حينما يختم هذا القصص الكريم بقوله: ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?174?وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?.
(12/19)
---(7/315)
المحور الرابع: في هذا اللقاء شعيب -عليه السلام- يدعو قومه إلى الله تعالى وإيفاء الكيل والميزان. وتحته قوله الحق -تبارك وتعالى-: ?كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ?176?إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ?177?إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ?178?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ?179?وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ? أصحاب الأيكة هم أهل مدين على الصحيح، وأن بعض أهل العلم يقول بأن شعيب -عليه السلام- أرسل إلى أصحاب الأيكة وإلى مدين فيعتبر أصحاب الأيكة غير مدين، ولكن سياق القرآن الكريم، وما ذكره رب العالمين -سبحانه وتعالى- عن دعوة شعيب -عليه السلام- يفيد أن أصحاب الأيكة هم أهل مدين: ? إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ? هنا لم يقل أخوهم، وإن ذكر في سورة هود: ? وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ? [الأعراف: 85]، قال هنا نفى المثل، وهذه نفي حقيقي؛ لأنه لا ينتسب إليه في الكفر الذي هم عليه، هنا يوجد وجه ولا لا يوجد؟ يوجد وجه.
(12/20)
---(7/316)
بعد ذلك أتجاوز أيضًا الآيات بمعنى واحد؛ لأدخل إلى صلب دعوة شعيب -عليه السلام- وقد عنونت إلى إيفاء المكيال والميزان: قال لهم صلوات الله وسلامه عليه: ?أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ?181?وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ?182?وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ لا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ?183?وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ?، هنا شعيب -عليه السلام- واجه قومًا يبخسون الناس حقوقهم، فكانوا إذا تعاملوا مع الناس بالكيل والميزان إن كان لهم حق أخذوا حقهم كاملًا مستوفيًا، وإن كان للناس حق يعني هم الذين يكيلون للناس بخسوا الناس أشيائهم، فجاء هود -عليه السلام- ليعالج أيضًا هذا المرض الخطير ألا وهو الظلم وأكل أموال الناس بالباطل؛ ولذلك قال لهم: ? أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ?، يعني لا تبخسوا الناس أشيائهم أو فصل لهم كيفية إعطاء الناس حقوقهم بطريقة صحيحة سليمة؛ وذلك في قول الله: ? وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ?، القسطاس المستقيم الميزان يعني زنوا بالميزان الصحيح بالميزان السليم وحذرهم من أن يبخسوا الناس أشيائهم مبينًا أن هذا فساد في الأرض يعني أن فعلهم هذا ضلال وانحراف: ? وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ?183?وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ?، وتلاحظون أن كل رسول بعد ما يدعو قومه إلى الله -عز وجل- ويذكرهم بنعم الله -تبارك وتعالى- عليهم يعيد الأمر بالتقوى أيضًا من جديد وغالبًا ما تأتي إضافة مع الأمر بالتقوى هنا جاءت إضافة: ? وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ?، يعني يريد أن يقول لهم اتقوا الذي خلقكم من الذي خلقهم؟ رب العالمين، وقال أيضًا لهم: ? وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ? هو الذي خلق آبائهم، نستفيد هذا من الجبلة؛ لأن الجبلة(7/317)
(12/21)
---
بمعنى الخلق، وفي هذا قال رب العالمين عن الشيطان: ? وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ? [يس: 62]، يعني خلقًا كثيرًا هذا ملخص عن دعوة شعيب -عليه السلام- لهؤلاء الناس وأمرهم بالميزان المستقيم والقسطاس السليم الصحيح، وأن يعطوا الناس حقوقهم ولا يظلموا الناس أشيائهم، ردوا عليه كما رد المكذبين من قبله بالأنبياء والمرسلين، وهنا فائدة أولا أقرأ الآيات التي فيها الرد قالوا: ?قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ?185?وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ?186?فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ?187?قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ?، قالوا إنما أنت من المسحرين ذكرناها قبل قليل في قصة ثمود -عليه السلام- ذكرناها قبل قليل في هذا اللقاء، وبالتالي أقول بأن قلوب أهل الكفر تشابهت القلوب فتشابهوا في الأقوال والأفعال، قالوا بمثل ما قالوا ? وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ?، وزادوا على ذلك برميه بالكذب ? وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ?، فهؤلاء القوم كانوا أيضًا من الانحراف والضلال ويعني استعظام القوة بدليل أنهم طلبوا التعرض لعذاب الله -تبارك وتعالى- قائلين: ? فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ?187?قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ?، أسقط علينا كسفًا من السماء يعني قطعًا من السماء، وقيل جانبًا من السماء يعني جزءًا من السماء إن كنت من الصادقين، أجابهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه: ? قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ?، إن كنتم تستحقون العذاب أنزله ربي سبحانه وتعالى بكم، وفعلاً وحقًا كانوا يستحقون العذاب، ونزل عليهم من رب العالمين سبحانه وقال رب العالمين: ?فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ(7/318)
كَانَ عَذَابَ
(12/22)
---
يَوْمٍ عَظِيمٍ ?189?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?190?وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ?، رب العالمين -سبحانه وتعالى- عاقب هؤلاء القوم وأخذهم بالعذاب في ألوان متعددة، يعني مثلًا في سورة الأعراف أخبر ربنا -سبحانه وتعالى- أنه أخذتهم رجفة بأنهم أرجفوا نبيهم قالوا: ? لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ? [الأعراف: 88]، وفي سورة هود أخبر رب العالمين أنه أخذهم بالصيحة، وهنا أخبر بأنه أخذهم بعذاب يوم الظلة عذاب يوم الظلة معناه:
قيل أن الشمس كانت عليهم مسلطة لمدة سبعة أيام كاملة، ولا يجدون شيئًا يتقون به حرارة الشمس، ثم بعد ذلك ظهرت لهم قطعة من السحاب فاجتمعوا حولها كي يستظلون بظلها فلما استمعوا أخذهم رب العالمين بالصيحة والرجفة وأهلكهم بلهيب هذه النار التي أحرقتهم، ويختم رب العالمين هذا القصص بقوله: ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?190?وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ?، هذه سبع قصص ذكرناها في هذا السياق القرآني الكريم، وتنتهي بذلك قصص رب العالمين في سورة الشعراء؛ لنبدأ في آيات أخرى نختم بها هذه السورة في اللقاء القادم -إن شاء الله تبارك وتعالى-. وأصلي وأسلم على نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: ما معنى فكبكبوا فيها وهل كل معبود من دون الله يلقى ما عابده في النار؟
(12/23)
---(7/319)
وكانت الإجابة: عند مجاهد أن كبكبوا فيها أي دوروا فيها، وقيل تكرير الكاف والباء يفيد الزيادة، فكأن يكبون على وجوههم مرة بعد الأخرى نسأل الله العافية والسلام، ورجح ابن قتيبة أنهم ألقوا على رءوسهم وليس كل معبود من دون الله يلقى مع عابده؛ لأنه حينما نزل قول الله تعالى: ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ? [الأنبياء: 98]، قال بعض الصحابة لبعض: إن عيسى -عليه السلام- بناء على ذلك سيكون في الجحيم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يزعم أن عيسى أحد الأنبياء والمرسلين، فكيف يكون النبي والرسول في الجحيم، فنزل قوله تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ? [الأنبياء: 101].
الجواب صحيح ولكن لعل يعني الكاتب بدل ما يقول أحد المشركين قال أحد الصحابة أو قال الصحابة بعضهم لبعض، ولكن المشركين هم الذين زعموا أنه بناء على ذلك أن عيسى بن مريم وغيره من الصالحين الذين عبدوا من دون الله سيكونون في الجحيم فرد الله -تبارك وتعالى- ?نَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى?.
والسؤال الثاني: اشرح قول الله -تبارك وتعالى- ? فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? [الشعراء: 118]؟
وكانت الإجابة: الفتح هو الحكم، وهذا الحكم أن يغرق الله قومه، وتفصيل ذلك في سورة القمر قال الله تعالى: ?فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ?10?فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ?11?وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر? [القمر: 10- 12].
الجواب سديد والحمد لله.
هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة:
السؤال الأول: اذكر معاني الكلمات الآتية: (ريع، مصانع، خُلق الأولين)؟
(12/24)
---(7/320)
والسؤال الثاني: فصِّل القول في العذاب الذي نزل على قوم لوط مستدلًا بما تقول بالقرآن الكريم؟
وأحب أن أنوه أعزائي المشاهدين بأن الحلقة القادمة -إن شاء الله- من حلقات التفسير ستكون الأخيرة في هذه الدورة المباركة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(12/25)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس الثالث عشر : تابع تفسير سورة الشعراء (192- 227)
الدرس الثالث عشر
تابع تفسير سورة الشعراء (192- 227)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل. اللهم إنا نعوذ بك أن نضِل أو نُضل أو نذِل أو نُذل أو أن نظِلم أو نُظلم أو أن نجهل أو يُجهل علينا.
أما بعد:
ويسرني أن أواصل الحديث في تفسير سورة الشعراء وسننتهي منها بحول الله وقوته في هذا اللقاء، وسيدور الحديث حول الآيات التي سنستمع إليها بعد قليل في خمسة محاور:
المحور الأول: القرآن الكريم تنزيل رب العالمين؛ لإقامة الحجة على الناس أجمعين.
المحور الثاني: متاع الدنيا لا يمنع عذاب الآخرة وعجز الشياطين عن النزول بالقرآن الكريم.
المحور الثالث: أمر الله لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بتبليغ الرسالة والتوكل على الله وحده.
المحور الرابع: الشياطين تنزل على الكاذبين المجرمين.
المحور الخامس: الشعراء غاوون وصالحون؛ ولنستمع الآن إلى هذه الآيات من أخونا عبد الرحمن فليتفضل.
(13/1)
---(7/321)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ? وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?192? نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ?193? عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ?194? بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ?195? وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ?196? أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ?197? وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ?198? فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ?199? كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ?200? لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ?201? فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ?202? فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ?203? أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ?204? أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ?205? ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ?206? مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ?207? وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ?208? ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ?209? وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ?210? وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ?211? إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ?212? فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ?213? وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ?214? وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?215? فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ?216? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ?217? الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ?218? وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ?219? إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ?220? هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ?221? تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ?222? يُلْقُونَ(7/322)
(13/2)
---
السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ?223? وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ?224? أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ?225? وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ?226? إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ? [الشعراء: 192- 227].
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك، وعلى آله و أصحابه ومن سلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد.
أيها الأحبة في الله المحور الأول في هذه اللقاء القرآن الكريم: القرآن الكريم تنزيل رب العالمين لإقامة الحجة على الناس أجمعين.
(13/3)
---(7/323)
وتحته ما جاء في قول الله جل ذكره: ? وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?192? نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ?193? عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ?194? بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ? هذه الصورة التي كنا نتحدث فيها وعشنا معها بعض الحلقات، تحدث -عز وجل- فيها عن قصص بعض الأنبياء والمرسلين، وهذا القصص كانت لنا فيها عبرة، وختم الله -عز وجل- كل قصة من هذه القصص بقوله: ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ?8? وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ? [الشعراء: 8- 9]، وقد اشتملت هذه السورة على سبع قصص من قصص أنبياء الله ورسله، ثم ختم رب العالمين -سبحانه وتعالى- هذه القصص بالإشارة والإشادة بما أنزله على نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وفي ذلك إثبات لنبوة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويكفي أن الله -تبارك وتعالى- اختار قلب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لصفائه ونقائه واستعداده لحمل هذه الكلمات التي أوحى الله بها إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(13/4)
---(7/324)
وقوله سبحانه: ? وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? يفيد أن القرآن الكريم كلام الله -تبارك وتعالى- وأنه نزل من عند الله جل ذكره، وأنه ليس كلام أحد من البشر ولا من المخلوقين بحال، فهو كلام الله جل ذكره، وآيات كثيرة في كتاب الله ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- فيها أنه أنزل القرآن الكريم على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ? تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ? [الزمر: 1]، وآيات كما ذكرت تأتي بهذه الصيغة ألا وهي صيغة التنزيل، وتفيد نسبة هذا الكلام إلى الله -تبارك وتعالى- تفيد هذه الآيات نسبة الكلام الذي نزل من عند الله -عز وجل- إلى رب العالمين -سبحانه وتعالى- وكلمة أيضًا "تنزيل" تفيد رب العالمين في أعلى عليين؛ لأن الشيء لا يقال له نزل إلا نزل من علو إلى أسفل، والله -تبارك وتعالى- كما هو معتقد أهل السنة والجماعة استوى على عرشه بائن من خلقه -سبحانه وتعالى- جل جلال ربنا وعز سلطانه -سبحانه وتعالى- ثم تأتي إشادة أكثر بالقرآن الكريم حينما يبين رب العالمين أن الذي نزل بالقرآن الكريم من عنده سبحانه؛ هو جبريل -عليه السلام- ويصف الله -عز وجل- جبريل بالروح الأمين، بالروح الصادق، واليهود يبغضون جبريل، وقد أشرت إلى ذلك فيما مضى، والرافضة أيضًا يبغضون جبريل -عليه السلام- ظنًا من بعضهم أنه خان الرسالة، ونزل بها على علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- وهذا من سفاهة عقولهم، والمقام لا يحتاج الآن أن نناقشهم فيما هم عليه من معتقدات باطلة في ذلك ولكن حسبي هذه الإشارة: ? وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?192? نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ?193? عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ? على قلب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد ذكرت أن هذا يفيد صفاء قلبه صلوات الله وسلامه عليه، واستعداده -عليه الصلاة والسلام- لتلقي هذا الوحي، وهذا الكلام الذي نزل من عند(7/325)
(13/5)
---
الله -تبارك وتعالى- وصبروا نزول القرآن على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يعلن به الناس كما قال الله -تبارك وتعالى- في ذلك: ? وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ? [الأنعام: 19]، ? كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ? [الأعراف: 2].
فالله -عز وجل- أنزل هذا القرآن كي يستنير الناس بهديه، ويبشر به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المتقين المؤمنين، وينذر به أعداء الله -عز وجل- الذين لم يستسلموا بما جاء من عنده سبحانه، وقطعًا للعذر وإقامة للحجة نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، حتى يفهمه المستمعون، ولاشك أن العرب هم أول الناس الذين خوطبوا بالقرآن الكريم، فنزل القرآن الكريم بلغتهم كي يعقلوا عن الله -تبارك وتعالى- وستأتي إشارة إلى أنهم لاشك تأملوا القرآن، وعرفوا معانيه، وأنه كلام الله المعجز، ولكنهم مع ذلك لم يؤمن الكثير منهم بكلام الله -تبارك وتعالى-، ثم يستمر السياق ويشيد ربنا -سبحانه وتعالى- بالقرآن الكريم، وبالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تثبيتًا لدعوته ودعوة لعموم الناس إلى أن يدخلوا في رسالته، وهذه الآيات تقيم الحجة على السامعين بصدق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
يقول رب العالمين: ?وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ?196? أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ?197? وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ?198? فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ?.
(13/6)
---(7/326)
الله -عز وجل- يخبر أن هذا القرآن الكريم في زبر الأولين، والزبر جمع زبور، وهو الكتاب، والقرآن الكريم معنى أنه في زبر الأولين يعني أن الكتب السابقة عليه، قد أخبرت عن هذا القرآن الكريم، وعن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المبعوث بهذا القرآن الكريم، آخر الأنبياء وخاتمهم قبل نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- هو عيسى بن مريم، وقد قال لقومه: ? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ? [الصف: 6] والله -عز وجل- قد أخذ العهد والميثاق على جميع الأنبياء والمرسلين إن بُعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهم إحياء أن يدخلوا في رسالته، وأن يتابعوه على دعوته، وقد سبق أن ذكرت لكم الآية التي تتحدث أيضًا عن ذلك، ولولا ضيق المقام لتوسعت في مثل ذلك لأخاطب عموم الناس في كل الديانات، وأقول لهم أدخلوا في دين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فكل الأنبياء والمرسلين وأخاطب خصوص أتباع الأنبياء والمرسلين الذين يزعمون أنهم يتبعون أنبياءهم أن فكروا فيما أنتم عليه، فأنبيائكم لو كانوا موجودين لدخلوا في دين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولتبعوه على دعوته؛ فأولى بكم أنتم يا أتباع الأنبياء والمرسلين أن تسلموا للنبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ثم يبين رب العالمين -سبحانه وتعالى- عناد المشركين، وأنهم قوم يتعنتون، وأن كفرهم ناشيء عن التكذيب والعناد للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بدليل أن الله قال: ? وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ?، يعني لو أن القرآن الكريم نزل على رجل أعجمي، لا يعرف كلمة واحدة من اللغة العربية، أيضًا ما آمن به هؤلاء الكفار لماذا يعني؟
(13/7)
---(7/327)
القرآن الكريم نزل على النبي وهو أميُّ لا يقرأ ولا يكتب، والله -عز وجل- أعتبر ذلك إعجازًا ومعجزة في حق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ودعوة إلى أن يسلم الناس بقوله؛ لأنه رجل لم يجلس إلى معلم، ولم يتلق تعليمه من أحد من البشر، ولم يذهب إلى أماكن يمكن أن يأخذ منها شيئًا من أخبار السابقين، ولا يقرأ ولا يكتب، ثم بعد ذلك يأتي بهذا الكلام المعجز للعقول والأفهام، هذا أمر عجيب، والله -عز وجل- يتنزل في الخطاب مع هؤلاء أكثر، ويقول: لو نزل على غير عربي أصلًا لكفرهم وعنادهم وتعنتهم أيضًا لن يؤمنوا بهذا القرآن الكريم، ومصداق ذلك في قول الله -عز وجل-: ? وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ? [الأنعام: 111]، يعني حتى لو أن الله -عز وجل- أنزل إليهم الملائكة وكلمهم الموتى بصدق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وجاءتهم الآيات من كل طريق ومن كل مكان، أيضًا ما آمنوا إلا إذا شاء رب العالمين -سبحانه وتعالى- إيمان واحد منهم.
ثم يقول سبحانه: ?كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ?200? لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ?201? فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ?202? فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ?203? أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ?، معنى كلمة سلكناه: يعني أدخلناه، "كذلك سلكناه في قلوب المجرمين" أي أدخلناه في قلوب المجرمين، والضمير في سلكناه اختلف فيه أهل العلم:
(13/8)
---(7/328)
فقال بعضهم: يعود إلى التكذيب والإنكار، يعود إلى تكذيب المشركين وإنكارهم لبعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يعني سلكنا التكذيب والإنكار والجحود لبعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- في قلوب هؤلاء المجرمين، وهذا يدل على قضاء الله -سبحانه وتعالى- وقدره، وخلقه لكل ما يقع في هذا الكون.
وقول آخر: أن الضمير هنا يعود إلى القرآن الكريم، ويرجح بعض أهل العلم ذلك، ويكون المعنى على أن الضمير يعود إلى القرآن الكريم أن الله -عز وجل- أدخل القرآن في قلوب هؤلاء المشركين حتى فهموه وعقلوا معناه، وعرفوا دلالاته؛ لأنهم كانوا فصحاء يعرفون العربية، ويفهمون الكلام البليغ، الذي اشتمل على قمة البلاغة والبيان والفصاحة، وكان بعضهم ينهى بعضًا أن يجلس إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى لا يؤثر القرآن في قلبه؛ ولعل هذا -والله أعلم- هو الراجح أن الضمير يعود إلى القرآن الكريم.
أن الله أدخل القرآن الكريم في قلوب هؤلاء المشركين فعرفوه وعرفوا معناه ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا به، ولن يؤمنوا ويصدقوا إلا لغاية ذكرها القرآن الكريم: ? حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ?، ولكن العذاب الأليم لا يعرفه أحد وقته، ليس هناك من البشر من يعرف وقت قيام الساعة، ولا متى يحيق العذاب؟ في الدار الآخرة بالذات على الكافرين والمكذبين والمجرمين، والله -عز وجل- قد أثبت هذا هنا في كتابه: ? فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ?.
(13/9)
---(7/329)
وهذا أمر مقرر في الشريعة الإسلامية، فعلم الساعة من الغيب الذي لا يعلمه إلا رب العالمين -سبحانه وتعالى-: ? يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ? [الأحزاب: 63]، في حديث جبريل لما سأل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن علم الساعة ووقتها: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، وبالتالي لو جاء إنسان وادعى أن الساعة ستكون في عام كذا، وفي وقت كذا، وفي شهر كذا، نقول له: كلامك مردود عليك؛ لأن الله -عز وجل- أخبر في كتابه في سور متعددة في سورة الأعراف وفي سورة الأحزاب وفي سورة النازعات وفي كثير من سور القرآن الكريم أن الساعة تأتي بغتة، وأن علمها عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- تقوم الساعة بغتة والناس لا يشعرون، عندئذ سيتمنى الكافرون أن لو أنذروا وأمهلوا؛ ليعملوا، فيقولوا: ? فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ?، يتمنوا الإمهال والتأخير لعلهم يعملون، وقد طلبوا ذلك والله -عز وجل- قال في سورة إبراهيم: ? وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ? [إبراهيم: 44]، يعني سيطلبون ذلك من رب العالمين -سبحانه وتعالى- وقد أنذرهم الله في هذه الدنيا وأعلمهم وأخبرهم أنه من سيخرج من الدنيا لن يعود إليها أبدًا.
(13/10)
---(7/330)
ثم بيَّن رب العالمين -سبحانه وتعالى- أيضًا شدة تكذيب هؤلاء، وتهكم بهم رب العالمين في قوله: ? أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ? في الحقيقة من سفاهة المشركين، هم كفار، ويكذبون بمن أرسل إليهم، ومع ذلك يستعجلون العذاب، وهم يعلمون ولاشك بأس الله وشدة الله -تبارك وتعالى-، ولكن الكفر يغطي على القلوب فلا تعقل، وقد طلبوا من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- استعجال العذاب، قال الله -تبارك وتعالى-: ? وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ ? [العنكبوت: 53].
لولا أن رب العالمين -سبحانه وتعالى- قد قضى أزلًا، وقدَّر أن لهذا العذاب وقت؛ لنزل بهم عذاب رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهذه الآية أيضًا تفيد إنكار الله -عز وجل- عليهم بكفرهم، وهي أيضًا لهم تهديد في نفس الوقت، يدركوا ويتأملوا، هذا تهديد من رب العالمين أنتم تستعجلون العذاب، لاشك أن العذاب سيأتيكم لا محالة.
وهذا واضح في المحور الثاني، الذي هو بعنوان: متاع الدنيا لا يمنع عذاب الآخرة، وعجز الشياطين عن النزول بالقرآن الكريم.
(13/11)
---(7/331)
وتحته قول الله -تبارك وتعالى-: ? أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ?205? ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ?206? مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ?، يخبر رب العالمين -سبحانه وتعالى- أنه لو أمهل هؤلاء الناس فترة من الزمن، وتمتعوا في الدنيا بأشد ألوان النعيم، هل هذا النعم الذي سيشبعون ويرتعون ويتمتعون فيه هل يمكن أن ينفعهم إذا نزل بهم عذاب الله -سبحانه وتعالى-: ? أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ?205? ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ?206? مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ? وهذا كقول الله الحق -تبارك وتعالى-: ? يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ ? [البقرة: 96]، يعني مهما طال به الأجل وأخذ من الدنيا واستمتع بها بقدر ما استمتع لن ينفعه ذلك إذا وقف بين يدي الله -تبارك وتعالى- وسينزل به عذاب الله -تبارك وتعالى- وهذا يصدقه قول الله جل ذكره: ? وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ? [الليل: 11]، وبالتالي كلمة العوام غني الدنيا غني الآخرة، يقول أصحاب الجاه والسلطان في الدنيا هم كذلك أيضًا في الآخرة، وكلام العامة بأن الله لولا رضاه عن الذين أعطاهم هذا وهم كفار ما أعطاهم كل هذا كلام باطل وإنما هو في الحقيقة إمهال واستدراج لهؤلاء المكذبين، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بين أن نعيم أهل الدنيا والله لن ينفع صاحبه بحال من الأحوال إذا نزل بالعبد المكذب عذاب الله في يوم القيامة.
(13/12)
---(7/332)
في صحيح مسلم وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من الكفار) أنعم أهل الدنيا من الكفار يعني أقول قارون يمكن القرآن الكريم ما حدثنا عن رجل كان لديه من الكنوز تعجز العصبة القوية من الرجال عن حمل المفاتيح فقط التي هي كنوز لهذا الرجل، من هو أنعم أهل الدنيا يعلمه رب العالمين -سبحانه وتعالى- يؤتى به يوم القيامة فيغمس في النار غمسة واحدة، ولن يبقى أبد الآباد، ولا ساعة ولا ساعتين، لا غمسة واحدة، ثم يقال له هل رأيت نعيمًا قط؟ تلذذت بنعيم تشعر به، الآن هل تشعر أنك قد تنعمت عشر سنوات عشرين سنة مائة سنة؟ فيقول: لا والله ما رأيت نعيمًا قط، وفي المقابل يؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة يعني أفقرهم أتعبهم حالًا الذي ضيق عليه، الذي قد يكون مر بفترات فيها شدة فيها صعوبة، فيها ضيق وغير ذلك مما يمكن أن يمر بأهل الإيمان، وقد كان بعضهم يقتل ظلمًا وعدوانًا في سبيل الله -تبارك وتعالى- يؤتى بأبأس هؤلاء من أهل الجنة فيغمس في الجنة غمسة واحدة، ثم يقال له يا عبدي هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت بؤسًا قط.
إذن هذا النعيم الذي فيه الكفار اليوم، والله ليس أمارة على أنهم أفضل من غيرهم عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولا حتى لهم شيء من الفضل.
(13/13)
---(7/333)
ثم يقول رب العالمين سبحانه: ? وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ ?208? ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ? هنا يخبر رب العالمين -سبحانه وتعالى- عن عدله التام، وهو أنه سبحانه لا يؤاخذ العباد ولا يهلك قرية من القرى التي كذبت إلا بعد إقامة الحجة عليهم؛ وهذا تمام عدل رب العالمين -سبحانه وتعالى-: ? إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ? [النساء: 40]، ومن عدل الله -سبحانه وتعالى- وحكمته أنه لا يعذب إلا بعد إقامة الحجة على العباد ببعثة الأنبياء والمرسلين، وأذكر أنني قد تحدثت في بعض المسائل العقدية حول هذا المعنى، ولا أود أن أقف عندها لضيق الوقت، فمعتقد أهل السنة والجماعة إن إقامة الحجة على العباد تكون لبعثة الأنبياء والمرسلين، بخلاف بعض الفرق الكلامية، الذين اعتبروا العقل هو مناط التكليف، ولكن عند أهل السنة أن الله لا يؤاخذ أحدًا من العباد إلا بعد إقامة الحجة الرسالية عليهم، وليست أي حجة عقلية وغيرها، وإنما الحجة الرسالية بدليل قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ? [الإسراء: 15]؛ ولذلك أقولها كلمة مختصرة الحجة أقيمت على العباد بالشرع ولا بالعقل؟
بالشرع
بالشرع، الحجة تقام على العباد بالشرع الذي ينزله رب العالمين -سبحانه وتعالى- على أنبيائه ورسله، وهذا من كمال عدل رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
(13/14)
---(7/334)
ثم بعد ذلك يعود السياق أيضًا إلى الحديث عن القرآن الكريم، وتنزيل القرآن الكريم، وأن القرآن الكريم فوق مقدور جميع المخلوقات، فيقول سبحانه: ? وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ?210? وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ?211? إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ? هذا الكتاب الكريم -القرآن الكريم- الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هذا الكتاب الذي نزل من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- يخبر ربنا -عز وجل- في هذه الآية: أن الشياطين تعجز عن أن تتنزل بهذه القرآن الكريم أو أن تنطق به، وذكرت هذه الآيات ثلاثة أوجه تجعل من المستحيل أن تنزل الشياطين بالقرآن الكريم:
الوجه الأول: أنه لا ينبغي لهم ما معنى لا ينبغي لهم؟
يعني أنه ليس من بغيتهم ولا من طلبهم؛ لأن القرآن الكريم كتاب هداية، كلام كله حق، كله نور، كله ضياء، والشياطين وما هم عليه من أفعال على عكس ذلك، فهم لا يريدون الخير ولا الضياء ولا النور، فكيف يتنزلون بهذا الأمر الذي هم ليسوا على شيء منه! فالوجه الأول أنه لا ينبغي لهم؛ لأنه ليس من طلبهم ولا من الأمر الذي يبحثون عنه ولا يريدونه.
الوجه الثاني: أن الله -عز وجل- أثبت عجزهم عنه وكفى ذلك لما قال: ? وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ? فقال: أولًا: أنه لا ينبغي لهم، والأمر الثاني أنهم لا يستطيعون النزول بالقرآن الكريم.
(13/15)
---(7/335)
الوجه الثالث: فهو ما جاء في قوله سبحانه: ? إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ?؛ لأن الله -عز وجل- قد حرص السماء بالشهب التي تحرق هؤلاء الشياطين إن أرادوا أن يسترقوا السمع من السماء حتى ينزلوا بشيء من القرآن الكريم، فالسماء قد حُرست تمامًا من أن يتسرب إليها شيطان واحد أثناء نزول القرآن الكريم وفي ذلك يقول رب العالمين سبحانه: ? وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ?8? وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ? [الجن: 8- 9].
المحور الثالث في هذه الآيات: أمر الله لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بتبليغ الرسالة، والتوكل على الله وحده، وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ?213? وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ?214? وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?215? فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ? التوحيد أصل الدين وأساسه؛ ولذلك جاءت آيات القرآن الكريم في الحث على إفراد الله -عز وجل- بالعبادة والتوجه له بجميع أنواعها، وبيان أنه -سبحانه وتعالى- هو المعبود وحده دون سواه، وأن غيره لا يعبد، أي كان هذا الغير، آية القرآن كما ذكرت كثيرة في ذلك، وهنا يأتي نهي للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعو مع الله إلها آخر، وهذا في الحقيقة تشريع لأمة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه يستحيل أن يدعو النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو إمام الموحدين، إمام الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، يستحيل أن يتخذ لله ندًا أو من دون الله -تبارك وتعالى- وليًا.
(13/16)
---(7/336)
وهذا واضح، وقد سبق أن بينته لكم فيما مضى أن الخطاب في القرآن الكريم إلى جهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمر مستحيل أن يقع فيه فالأمر برمته أن هذا من باب التشريع، وقد تكون فيه فائدة كما أشار إليها بعض أهل العلم، وهو أن هذا الأمر إذا كان قد وجه إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فغيره من باب ماذا؟ فغيره من باب أولى؛ لأن بعض الناس لما تأتي وتقول له: والله هذا فعل المشركين؟ يقول لك: أنا مشرك؟ أنت تقول على كذا؟ ويرفع نفسه وتأنف نفسه أن يستمع إلى كلمة حق في فعل باطل هو يفعله، والآية تخبر أن من اتخذ من دون الله -تبارك وتعالى- وليًا أنه يعذب في الدار الآخرة: ? فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ? وهذا يفيد أن المشركين سيعذبون أم لا؟ سيعذبون، بل أنهم سيعذبون في النار آبد الآباد؛ لأن أعظم المعاصي بإطلاق معصية الشرك بالله -تبارك وتعالى- وأنهم سلبوا حق الله وإعطائه لغير الله -تبارك وتعالى-، الله -عز وجل- قد حرم الجنة على أي مشرك، يشرك بالله -تبارك وتعالى- شركًا أكبر.
ثم بعد ذلك يأمر الله -عز وجل- نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن ينذر عشيرته الأقربين ? وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ?، وفي البخاري ومسلم وغيرها عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن هذه الآية لما نزلت على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (صعد الصفا ثم نادى: واصباحاه) يعني كلمة يريد من ورائها أن يجمع الناس إليه صلوات الله وسلامه عليه، فاجتمع الناس إليه فقال: (يا بني فلان لو أن خيلا وراء هذا الوادي أو خلف هذا الوادي وهو على الصفا تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدق؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، فقال لهم -صلى الله عليه وآله وسلم- إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فقام أبو لهب من بين الناس وقال له: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟
(13/17)
---(7/337)
والشاهد من الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما نزلت هذه الآية قام بتنفيذ أمر ربه إليه، في صحيح مسلم: (عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما نزلت عليه هذه الآية دعا قريشًا فعم وخص يعني عمَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- بالكلام قريشًا وخص أيضًا -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد أقربائه بالذكر، عمَّ وأخص فقال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئً).
ثم بعد ذلك خص النبي -صلى الله عليه وسلم- خص عمته صفية وخص ابنته فاطمة رضوان الله تعالى على جميع أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وفي كلٍ يقول: (أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئً) وهذا الإنذار الخاص الذي طلب من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن يقوم به للأقربين لا يتنافى مع الإنذار العام ولا يتنافى معه وأنذر عشيرتك الأقربين، لا يتنافى مع الأوامر الربانية الواردة، وقد ذكرت بعضها: ? وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ? [الأنعام: 19].
(13/18)
---(7/338)
ثم يأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- طالما أنه يدعو الناس إلى الله، فإذا الإدعاء إلى الله -عز وجل- بلين الجانب وخفض الجناح فيقول: ? وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?، -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا النبي -عليه الصلاة والسلام- كان في قمة الرحمة بما يدعوهم إلى الله -عز وجل- وأنا قد أشرت إلى ذلك لو تذكرون في أول سورة الشعراء التي معنا، وقلت لكم بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كادت نفسه أن تتمزق حسرة على كفر الكافرين، وأما الداعي كلما كان قريبًا إلى الله -عز وجل- كلما كان رحيمًا بخلق الله وبالعصاة؛ لأنه يرغب أن يرجعوا إلى طاعة رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولين الجانب وخفض الجناح هو كناية عن التواضع لمن يتعامل معه الإنسان ويدعوه إلى الله -تبارك وتعالى- أمر متحتم اليوم على الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- ونحن إذ نذكر هذه الآية يجب أن نستفيد من هذه التوجيهات الربانية التي خوطب بها نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وهناك آيات كثيرة في الحقيقة لضيق الوقت نذكرها: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ? [المائدة: 54]، فيا أهل الإيمان كونوا فيما بينكم أزلة، فيما بينكم رحمة، فيما بينكم لين جانب وتواضع وغير ذلك.
ثم بعد ذلك يأمر الله أيضًا نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالأمر الذي أشرت إليه مرارًا ألا وهو ترسيخ عقيدة الولاء والبراء في الأمة فأمر بلين الجانب مع من؟
(13/19)
---(7/339)
مع المؤمنين، أما مع الكافرين فيجب أن يتبرأ من أعمالهم لا تداهن يا عبد الله هؤلاء المجرمين المكذبين لا تواليهم، لا تنصرهم، بل يجب أن تعلن البراءة من أعداء رب العالمين، وهنا يقول الله -عز وجل- لنبيه وحبيبه ومصطفاه -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد أن أمرهم بأن يخفض جناحهم لمن اتبعهم من المؤمنين قال له: ? فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ?.
ثم يقول الله له: ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ?217? الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ?218? وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ?219? إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ?، وتوكل على العزيز الرحيم يعني سلم أمورك لله -تبارك وتعالى- لأن الله مؤيدك؛ لأن الله ناصرك؛ لأن الله معز أمرك؛ لأن رب العالمين -سبحانه وتعالى- هو الذي تولى شأنك، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قد سلم لربه في كل أمر.
(13/20)
---(7/340)
الله قال له: ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ?، وختام هذه الآية والوقت يضيق كما أشرت إلى أننا نقف عند كل كلمة من هذا الآيات، ذكر العزة هنا يفيد أنه غالب على أمره -سبحانه وتعالى- فأنت حينما تتوكل، تتوكل على ركن قوي متين، والله -عز وجل- قد أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم كثيرًا بأن يتوكل عليه كقوله سبحانه: ? وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ? [هود: 123]، وكقوله: ? رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ? [المزمل: 9]، ولعلكم تلاحظون لما جاء يأمر بالتوكل ذكر ما يدل على عظمته وجلاله وكماله وتمام قدرته سبحانه، فقال رب المشرق والمغرب، فإذا كان هو رب المشرق والمغرب، وهو رب المشارق والمغارب، فلمن يلجأ العبد إلى غير هذا القوي سبحانه وتعالى المتين؛ ولذلك قلت بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نفذ ذلك غاية التنفيذ، كان يقف بين يدي ربه خاشعًا متبتلًا فيقول: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك) وعندما ينام يقول ذلك (اللهم إني أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) صلوات الله وسلامه عليه.
(13/21)
---(7/341)
ثم بعد ذلك أيضًا تأتي الآيات تبين مزيد عناية وتكذيب للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حينما يفرده، رب العالمين وينص على أنه يراه، لما قال: ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ?، قال: ? الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ?، طب رب العالمين يرى كل ما خلق جل في علاه ولكن التنصيص على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه مزيد عناية بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذا كقوله: ? وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ? [الطور: 48]، قال: ? الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ?، يعني تقوم من فراشك للصلاة والركوع والسجود ? وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ?، يعني مع الساجدين يعني إن كنت وحدك وإن كنت تصلي مع جماعة مؤمنين.
(13/22)
---(7/342)
المحور الرابع: الشياطين تنزل على الكاذبين المجرمين، وتحته: ? هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ?221? تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ?222? يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ?، هذا أيضًا يا أخوان فيه تمجيد للقرآن الكريم، فبعدما أشار الله -عز وجل- على أنه أنزل القرآن وأن الشياطين تعجز على أن تنزل به أخبر على من تنزل الشياطين قال: ? تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ?، الأفاك هو الكاذب، والأثيم هو المجرم ? يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ?، يعني أنهم يحاولون استراق السمع، وهذا موجود لدى الشياطين وأشير إليه إشارة؛ لأن فيه سؤالًا عند هذا المعنى الشياطين تسترق السمع من السماء، فأحيانًا الجني يخطف كلمة مما قضاه رب العالمين -سبحانه وتعالى- يتبعه شهاب ثاقب، ولكن الجني قبل أن يتبعه الشهاب يلقيه إلى من هو أسفل منه، والأسفل منه يلقيه إلى من أسفل منه، إلى من هو أسفل منه حتى يلقيه في أذن وليه من الإنس، فتأتي هذه الكلمة فيكون فيها صادقًا؛ ولذلك لما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكهان قال: (ليسوا بشيء) -صلى الله عليه وسلم- فقيل يا رسول الله: إنهم يصدقون، إنا نأتي الكهان ويصدقون فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (تلك الكلمة يلقيها الجن في أذن وليه فيصدق مرة ويكذب في مائة مرة).
ولذلك أقول هنا وأشدد على النهي عن الذهاب إلى السحرة وإلى الكهان، وأقرر أيضًا ما قرره القرآن بأن علم الغيب لله وحده، فلا يعلم أحد الغيب إلا الله -سبحانه وتعالى-، طيب يأتي واحد الآن ويقول طب نحن ذهبنا إلى الكاهن أو للساحر فأخبرنا بكلمة حق وصدق فنقول: هذا يصدق مرة، هذه كلمة تلقاها من الجني، والحقيقة المقام طويل، ولكن لضيق الوقت لن نستفيض أكثر من هذا؛ لنشير إلى المحور الخامس في دقائق:
(13/23)
---(7/343)
المحور الخامس: وهو بعنوان: الشعراء غاوون وصالحون، وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ?224? أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ?225? وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ?226? إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ? سأذكر المهم والمفيد في هذه الآية، هل هذا فيه نهي عن الشعر؟ وخاصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت في الصحيح أنه قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خيرًا له من أن يمتلئ شعرً)، وكيف نوفق بين ذلك وبين سماع النبي -صلى الله عليه وسلم- للشعر من حسان بن ثابت وغيره في مسجده؟ وقوله -صلى الله عليه وسلم- لحسان: (اهجوهم وروح القدس معك)، وفي رواية (وجبريل معك)؟
(13/24)
---(7/344)
أقول الشعر من كلام الناس حسنه حسن وقبيحه قبيح، والله -عز وجل- لما ذكر الشعراء هنا وذكر من صفاتهم ? أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ?، يعني في كل طريق يبحثون عن الغيب، ويمدحون ويذمون بلا دلائل وبلا براهين إلا أن الله بعد ذلك استثنى منهم من آمن بالله -عز وجل- وعمل صالحًا وذكر الله كثيرًا فقال: ? إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ?، وتختم هذه الآية بقول الله -تبارك وتعالى-: ? وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ?، وهذا الختام أراه -والله تبارك وتعالى أعلم- أنه ختام سديد يتناسب مع القصص الذي ورد في السورة؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- أرى الظالمين مصارعهم حينما أهلكهم، وسيرون أيضًا حينما يقفون بين يدي الله -عز وجل- نتيجة ظلمهم: ? وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ?، وقد اخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: (أن الظلم ظلمات يوم القيامة)، وهذا يفيد أن يبعد المؤمنون على الظلم وأن يكونوا مع الظالمين، وأكتفي بهذا وأصلي وأسلم على نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: اذكر معاني الكلمات الآية: ريع، مصانع، خلق الأولين؟
وكانت الإجابة: الريع: هو المكان المرتفع وكانوا يتخذون منه بيوتًا في الأمكنة المرتفعة من أجل اللهو والافتخار وليس للحاجة إليها، مصانع: هي أماكن تجمع المياه وهي تناسب الآن الآبار والعيون، خلق الأولين: أي دين الأولين أو أخلاق الأولين بالقراءة الثانية خلق الأولين
يعني هي خلق الأولين أو خلق الأولين، تفضل.
والسؤال الثاني: فصِّل القول في العذاب الذي نزل على قوم لوط مستدلًا على ما تقول بالقرآن الكريم؟
(13/25)
---(7/345)
وكانت الإجابة: جاء عن مجاهد وقتادة أن جبريل -عليه السلام- رفع القرى اللوطية وكانت ثلاث أو أربع قرى رفعها بطرف جناحه إلى السماء حتى سمعت الملائكة نُباح كلابهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها ولم يكن عذبهم عند هذا الحد بل أسقط الله عليهم حجارة كل حجر عليه اسم صاحبه الذي يموت به قال تعالى: ? فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ?82? مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ? [هود: 82- 83]
الجواب سديد والحمد لله.
بارك الله فيكم يا شيخ وجعله الله في موازين حسناتكم هذه هي الحلقة الأخيرة
الحمد لله على التمام، ونسأله أن يكون تمام خير، وأن ينفعنا الله -عز وجل- بما نقول ونسمع، وأن يسبب خطوات أهل الإيمان على البر والتقوى، وأن ينفع كما قلنا طلاب العلم وطلاب الأكاديمية على وجه أخص، ونأمل وندعو الله -عز وجل- أن يحشرنا وأن يجمعنا في جنته كما جمعنا مع إخواننا وأحبابنا في مثل هذه اللقاءات المباركة.
(13/26)
---(7/346)