(21/26)
---
هي قاعدة سد الوسائل أو سد الذرائع كما يقولون.
ثم ختم رب العزة والجلال هذه التعليمات الربانية الحكيمة بقوله: ?وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?31?? هذا التزييل يا إخواني مهم لماذا؟ لأن الله -عز وجل- أمر بأوامر في هذه الآيات والعبد لا شك يقع في التقصير، ويقع ووقوعاً قد لا يكون سهلاً ميسوراً وعلى كل وقع وقوعاً شديداً أو وقوعاً سهلاً ميسوراً عليه في كل الأحوال أن يرجع وأن يتوب إلى رب العزة والجلال، والله -عز وجل- في آيات كثيرة من القرآن الكريم يأمر عموم أهل الإيمان بالتوبة ولكنه ينعتها يعني يصفها في بعض الآيات ويأمر بها بأن تكون توبة نصوحاً ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا? [التحريم: 9] وقال أهل العلم التوبة النصوح لها أركان أو شروط:
شروط التوبة النصوح:
- منها أن يقلع الإنسان عن الذنب الذي اقترفه.
- ومنها أن يندم على ما فعل.
- ومنها أن يعزم على أن لا يعود إلى هذا الفعل أبداً.
وأبشر عموم المؤمنين أنهم إن تابوا وعملوا الصالحات وتقبلهم رب العباد بدل الله سيئاتهم حسنات، وهذه مهمة وفائدة عظيمة جدًا للتقوى، الله -عز وجل- بعدما ذكر ما ذكر من محرمات وهي من الكبائر التي ذكرها في سورة الفرقان استثنى التائبين فقال: ?إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ? [الفرقان: 70] فتوبوا إلى الله جميعاً كما ذكر ربكم في كتابه يا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون يعني تنالون الظفر بالمطلوب، الظفر بالمطلوب هو النعيم والاستمرار على هذا النعيم وأسأل الله -عز وجل- لي ولكم وللمشاهدين والمشاهدة توبة نصوحة يقبلها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.
(21/27)
---(4/325)
الأخت الكريمة من مصر تقول: أريد أن أسأل فضيلة الشيخ: أنا أعمل مدرسة في مدرسة بنات, وأشعر أن شغلي مهم، لكنني لم أرتدِ النقاب، وأشعر أنه حرام أنني لم أرتدِ النقاب؟ فما هو رأي فضيلتكم؟
إجابة أسئلة الحلقة الماضية:
وكان السؤال الأول: "النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين منهج تربوي قويم" تحدث عن هذا الموضوع مستدلاً بحديث للنبي -صلى الله عليه وسلم-؟
وكانت الإجابة:
تقول الأخت الكريمة: لقد تضمنت الآية إجراءً وقائياً للمجتمع من إشاعة الفاحشة قولاً أو فعلاً فلهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة فذلك رادع لمن تسول له نفسه بإشاعة الفاحشة ولو عقدنا مقارنة بين ماض سالف وهو ما حدث لعائشة -رضي الله عنها- المسلمة القانتة العابدة ومع ذلك وفي موقف نسيت فيه وأنقذفها أحد الرجال المتقين الذين لا ريب فيهم كما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه ما دخل بيته إلا وهو معه، أين أولئك الذين تسرعوا في الحكم وما تثبتوا مما نراه اليوم من امرأة بكامل زينتها، يخلو بها رجل في مكتب واحد أو في سيارة واحدة أو أنَّى كانت الخلوة وعذرهم المهمة مهمة عمل والاختلاط لابد منه للتقدم لهؤلاء، أقول: أنا أرى تقدمي في مصحفي وسنة نبيي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهما لا أريد ولن أخضع لكم، أما ترى معي يا شيخ أن ما نراه من صور لنساء عاريات وأفلام خليعات دسوها علينا في الإنترنت والجوالات والألعاب والمسلسلات؟ وللأسف من مسلمين ومسلمات من إشاعة الفاحشة أما من متعظ من هذه الآيات قال -صلى الله عليه وسلم-: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، أرجو التعليق من فضيلة الشيخ.
(21/28)
---(4/326)
جزاها الله خيراً،هو في الحقيقة فعلاً جواب متميز كما ذكرت وإشارتها لطيفة وقد أشرت إليها في نهاية لقائي في اللقاء الماضي وأدعو كل من يشيعون الفاحشة بألوان مختلفة متعددة بين الناس وقد قلت: الفن الخليع وهم يقولون عنه: الفن الراقي، أو أدب مكشوف أو مجلات هابطة أو ما إلى ذلك، أو قنوات تشيع الفاحشة بين الناس كل هذه أمور ومسائل يجب أن يكف عنها عموم المؤمنين وبهذه المناسبة أدع المؤمنين أن ينصرفوا عن مثل ذلك، فلو انصرفوا هم لضاقت مساحة هذه الفواحش كثيراً، لو أن المؤمنين انصرفوا عن هذه الوسائل التي تغريهم بهذه الفاحشة وتظهرها فيما بينهم ستتقلص بيننا كثيراً، فلنبدأ نحن ولنأخذ بنصيحة الأخت التي أجابت هذا الجواب وأشكرها عليه.
السؤال الثاني: اذكر مع التعليل حكم من قذف أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-؟
وكانت الإجابة:
الحكم فيمن قذف أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (اجتنبوا السبع الموبقات) وذكر منها: (قذف المحصنات المؤمنات الغافلات)، فعائشة بريئة ومن قذفها كافر ملعون في الدنيا والآخرة قد وجبت له النار، والسبب ما ورد في أقوال العلماء ومنهم:
- الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- قال: «أجمع العلماء قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به فإنه كافر معاند للقرآن».
- وابن شهاب قال: «والحاصل أن قذفها كيفما كان يوجب تكذيب الله في إخباره وهذا يوجب له النار ومن كَذَّبَ اللهَ فقد كفر».
الجواب صحيح، والحمد لله.
كان هناك سؤال من الأخت المتصلة أنها مدرسة وتشعر بألم لأنها لم تلبس النقاب، فما رأي فضيلتكم؟
(21/29)
---(4/327)
على أية حال جزاها الله خيراً، أعتقد أنها استمعت إلى ما قلت، وما نقلته من نصوص وأقوال لأهل العلم في هذه المسألة، والإنسان حسب دينه ينزل نفسه على الأحوط ودفع الريبة فالأولى بالمرأة المسلمة أن تحتجب كليةً عن الرجال الأجانب وخاصة في مثل هذه الأزمان، وبالنسبة للأعمال وما إلى ذلك، فأنا أقول وأناشد: لو أن جميع المسلمات التزمن بهذا المشروع وبهذا الأدب الراقي حتى ولو قلنا بأنه مندوب مثلاً، ألا يضع هذا جميع المسئولين أمام هذه الظاهرة فيسلموا لها، ويعملوا لأن يكون المجتمع كله مجتمعاً نظيفاً وتؤسس له مؤسسات خاصة تقوم به وترعى أهله وأصحابه، فلو أن جميع المسلمات أتين بالواجب أو بالمشروع أو بالمندوب على قول في مثل هذه المسألة لنظف المجتمع تمامًا، ومسألة العمل وما إلى ذلك المرأة تنزل ذلك أو هذه الأحكام على نفسها قدر ما تستطيع ورب العزة والجلال يقول: ?فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن: 16] وقد بينت من خلال حديثي ما يكفي في مثل ذلك والله أعلم.
الأخ الكريم من الأردن يقول: في قوله تعالى: ?قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ?، بينما في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (غض البصر) ما الجمع بين ?يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ? وعند النبي -صلى الله عليه وسلم-: (غض البصر)؟
السؤال الثاني: عَبَّرَ الله -عز وجل- الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء الطفل مفرد وكلمة الذين جمع, فكيف الجمع بينهما؟
ما هو حد الطفل الذي لم يظهر على عورات النساء؟
فضيلة الشيخ سؤاله الأول: كيف نجمع بين قول الله -عز وجل-: ?قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ?، وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- (غض البصر)؟
(21/30)
---(4/328)
الآية ?يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ? لأنه كما أشرت وذكرت أن الغض ليس لكامل البصر فالإنسان لن يغض بصره عن كل شيء، وإنما سيغض عن الأشياء المحرمة ولذلك جاءت "من" هنا للتبعيض، ?يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ?؛ لأن بعض النظر مباح، كأن ينظر الإنسان إلى زوجته أو إلى ابنته أو ما إلى ذلك وإلى أمه وإخوانه وما إلى ذلك، هذا نظر مباح، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (غض البصر) هذا كلام في الجملة، ويحمل على محذوف، غض البصر إلى المحرم، فلا تعارض بينهما بحمد الله تعالى، واللغة في هذا واسعة.
سؤاله الثاني عن قول الله -عز وجل-: ?أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا?؟
هذا مفرد وضع موضع الجمع، وهذا شائع في لغة العرب، كأن نقول: الحاج وقف على عرفة، ونقصد الحجاج فهذا مفرد وقع أو جاء مكان الجمع وهذا أسلوب عربي معروف، ولا شيء فيه.
سؤاله الثالث: ما هو حد الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء؟
أنا قلت: الطفل الذي يمكن أن يظهر على المرأة هو الطفل الذي لا يدرك من أخبار النساء وأحوالهن شيئًا لا يعرف حركة ولا تصرف يمكن أن تفعله المرأة فبعض العلماء قالوا: الذي لا يميز بين الحسناء والشوهاء، يعني الجميلة مثلاً أو القبيحة ونصصت في كلامي -على ما أذكر- أنه إن كان مراهقاً أو عنده تطلع لشيء عند النساء ويدركه ويعلمه فلا تظهر عليه المرأة.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: يا شيخنا الفاضل هل مشاهدة المرأة للمشايخ في التلفاز لسماع المحاضرات المرئية أو مشاهدة البرامج العلمية يعتبر من عدم غض البصر؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً، علماً أنه لا يوجد لدي قنوات فضائية غير قناة المجد.
(21/31)
---(4/329)
الحمد لله يعني المسألة سهلة في مثل هذا بمعنى أنها لو نظرت كالرجل المرأة الأولى ثم بعد ذلك لا تديم النظر لأنها هي تسمع وليست بحاجة فالرجل يتكلم ولا يفعل حركات أو معينة تحتاج إلى أن تستفيد منها في نظر أو غيره، فأنها لو شاهدت وقع عينها على الرجل وهي تتكلم فلا تديم ولا تطيل هذا النظر لعدم الحاجة إليه، وهذا أسلم لقلبها وبعداً عن وقوع فتنة في أي موطن من المواطن، والله أعلم.
الأخت الكريمة من مصر لها سؤالان: سؤالها الأول: هل لأهل الزوج دخول البيت دون استئذان على اعتبار أنهم يدخلون بيت أخيهم؟
أنا قلت في حديثي بأن صاحب البيت عندما يدخل على زوجته يستحب له أن يستأذن فما بالنا بغيره، وقلت بأنه يجب الاستئذان على الأم، وعلى البنت وعلى الأخت وعلى العمة، وعلى الخالة حتى لا يرى عورة أو يرى شيئًا لا يجب عليه أن يراه، فما بالك بأهل الزوج ولا أدري ماذا تقصد بأهل الزوج، إن كان تقصد الرجال فهو محرم أصلاً أن يروها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- شدد في هذا، وقال: (الحمو الموت) وقيل الحمو: يعني أقارب الزوج، وإن كانوا نساءً فعليهن أيضاً أن يستئذن على كل حال.
سؤالها الثاني: هل للزوج حق في عدم دخول أي فرد من أفراد عائلة الزوجة وبالأخص أحد الوالدين أو الأخ مثلاً وجزاكم الله خير؟
في المنع يعني؟
نعم.
(21/32)
---(4/330)
هو في الحقيقة النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر بأنه على المرأة ألا تدخل إلى بيتها من لا يرغب زوجها فيه إدخاله، ولكن أقول لعموم الرجال، يجب أن تكون العلاقة طيبة بين الرجل بين أهل زوجه، وبينهما صلة ونسب وارتباط وبناءً عليه فلا يقف الزوج حائلاً أمام أن يأتي إليه أقارب الزوجة بل عليه أن يرحب بهم وأن يضيفهم وأن يقوم بما يجب بأمثالهم وهذا في الحقيقة فيه ما فيه من التقارب وفيه ما فيه من المحبة والألفة بين الرجل وزجه وبين المجتمع بصورة عامة، فأنا أدعو في مثل هذا الأزواج إلى أن يحرصوا على مثل هذه العلاقات الاجتماعية خاصة مع هؤلاء الأقارب.
الأخ الكريم يقول: نهى الله -تبارك وتعالى- عن إبداء المرأة زينتها إلا للمحارم واستثنى المحارم -جل وعلا- ففي قوله تعالى: ?أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ? هل يمكن حمل الاستثناء في هذه الآية على الخدم الموجودين الآن في البيوت؟
(21/33)
---(4/331)
هذا سؤال نحتاج إليه الآن، طبعاً لا يمكن حمله بحال، لا يمكن حمله بحال؛ لأن الخادم الذي يعمل في البيت هذا أجير، والآية نصت على من يملكه الإنسان ملكاً، لماذا؟ لأن الحاجة داعية إلى أن يطلع وإلى أن يظهر، والمرأة إن كان عندها عبد فهي تملكه وهي سيدته والحاجة داعية إلى مثل ذلك، أما الأجير أو الخادم فلا يجوز له بحال من الأحوال وأنت أحسنت في هذا أنا كنت أود أن أنبه إليه، ولكنه فاتني؛ لأن الناس اليوم في بيوتهم يتوسعون في هذا، تخرج المرأة مع السائق، وتخرج على الخادم، ونحن قد سمعنا عن مصائب تحدث نتيجة هذا الإهمال في مثل هذه الأمور ولكن الله -عز وجل- حرم على المرأة أن تبدي زينتها لغير محارمها وهذا الخادم أو الأجير ليس محرماً بحال من الأحوال، ولم يقل أحد أبداً من أهل العلم بأنه محرم، ولكن هذا مما أتى به الناس تساهلاً من عند أنفسهم ويجب عليهم أن يقلعوا عنه، وختام الآية التي كانت معنا ينفع هنا: ?وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا? من كان عنده شيء من ذلك فليتب إلى الله -عز وجل- ولا يعود إلى مثله أبداً، فإنه باب فتنة عظيم.
الأخ الكريم من الإرمارات يقول: هناك بعض النساء من أخوات المسلمات يضعن ثيابهن في صالات الأفراح والبعض منهن يلبسن ملابس غير لائقة ويقولون لا يوجد رجال، فهل يجوز هذا الفعل؟ وجزاكم الله خير.
(21/34)
---(4/332)
في الحقيقة المرأة لا تضع لباسها بحال من الأحوال في غير بيتها لأنها في المكان الذي هي فيه من أدراها أنه لا يدخل عليها غريب؟ من أين لها أن لا ينظر إليها أحد؟ فهي قد ترى أن الأبواب محكمة مثلاً ولكن قد يكون هناك أماكن قد أعدت من قبل كي ينظر من في قلبه مرض، فالمرأة يجب عليها أن تحظر من ذلك، وخاصة في زمن التقنية الحديثة، الآن فمع الناس اليوم أجهزة المحمول والنقال والجوال وما إلى ذلك ويُصور بها ما يُصور فالمرأة إذا فعلت ذلك حتى ولو كان هناك مجموعة من النساء وفعلت هذا الأمر فمن يضمنها أن تُصور وأن يراها غيرها ممن ليس بمحرم لها، أو ليس من النساء ويضطلع على شيء من زينتها.
هذا في الحقيقة تساهل شديد جداً من النساء وأنا أعلم أن هذه أمور تقع ولكن أوجه القول لعموم المؤمنات وأقول: اتقين الله -سبحانه وتعالى- فيما أنتم عليه، الأمر صعب جداً والفتنة واقعة وحاصلة وعلى أهل الإيمان أن يتيقظوا لفتن الشيطان ووسائله المؤدية إلى فساد المجتمع والقضاء عليه والعياذ بالله -تبارك وتعالى- والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (ما تركت فتنة على أمتي أشد من النساء) فالمرأة وضعها خطير وعلى المرأة أن تتقي رب العزة والجلال في بدنها وفي تصرفاتها وفي تحركاتها وما إلى ذلك، وألا تضع شيئًا من ثيابها في غير بيتها أمام زوجها، وأنا قلت أيضاً بأنه لا يجوز للمرأة أن تظهر على محارمها وكذلك فيما أراه والله أعلم على النساء إلا بما تدع الحاجة إليه كالشعر والرقبة مثلاً والرجلين وما إلى ذلك أما أن يظهر شيء من صدرها أو من ظهرها أو ما إلى ذلك فأقول: لا يجوز هذا بحال من الأحوال لشريعة ربنا ودفعاً على كل حال للريبة والفتنة والابتلاءات التي يقع فيها الناس اليوم.
الأخت الكريمة من الكويت تقول: ماذا عن الصم البكم الذين لا يستخدمون إلا لغة الإشارة وعليهم أن ينظروا للشفتين ولكل حركة ليدركوا ما يدور حولهم؟
(21/35)
---(4/333)
على كل حال لهم سعة -إن شاء الله تعالى- ونسأل الله -عز وجل- أن يعافيهم، وليكن كل تصرفاتهن بالمعروف.
الأخ الكريم يقول: هل يجوز للمرأة لبس البنطال الواسع أو الضيق؟
الحقيقة لم يُعرف عند النساء المسلمات أن تلبس المرأة البنطال دون أن يكون عليه شيء، لو لبست البنطال واسعاً أو ضيقاً يجب عليه أن تأتزر فوقه بإزار ولا تلبسه هكذا.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: لماذا لم يرد ذكر الأخوال والأعمام في هذه الآيات؟
قلت بأن الآية لم تستقصِ جميع المحارم وفي آية سورة مثلاً الأحزاب، ?لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ? [الأحزاب: 55] لم تستقصِ أيضاً جميع المحارم، هنا ذكر أشياء وهناك ذكرت أشياء، وليس معنى عدم ذكرها هنا أنها لا تدخل، فقد دخلت في آيات أخر وبينها نبينا -صلوات الله وسلامه عليه-، وعلمت بفضل الله -تبارك وتعالى- والراجح كما ذكرت من أقوال أهل العلم وعليه جمهور الفقهاء أن العم والخال من المحارم.
الأخ الكريم من السعودية يقول: ألا يدل قوله تعالى: ?وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا? على رجحان قول ابن مسعود؟
لاشك أن هذا يعني يدل على ما ذكرت وغيره أيضاً يدل وأشرت إليه ولعل أكثر منه في الدلالة ?وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ?؛ لأنها لا يمكن أن تضرب بخمارها الذي على رأسها على جيبها ألا وهو صدرها ومكان القطع، يعني مكان الطوق الذي يكون في القميص كي تدخله في رأسها، لا يمكن لها أن تضرب بخمرها على هذا الصدر أو على مكان القطع من مكان القميص إلا إذا سترت بذلك وجهها وهذا كله يؤيد قول عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- ويرجحه.
الأخ الكريم يقول: في الحقيقة أن السؤال يتكون من نقطتين اثنتين: الأولى: ما حكم الدين فيمن يطالبون بنسب ولد الزنا لأبيه؟
(21/36)
---(4/334)
النقطة الثانية: هل إذا اعترف الوالد بولده يعد هذا مبرراً بنسبته إليه؟
السؤال الأول: ينادون بنسب ولد الزنا لأبيه إن ثبت أنه من زنا لا ينسب إليه، ولكن المسألة النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) (الولد للفراش) بمعنى: أن المرأة إذا كانت ذات زوج وعندها زوج، وفرض أنها زنت فينسب الولد في هذه الحالة لمن؟ للزوج، إلا إذا اعترفت المرأة وأقرت أو لم يأتها الرجل في فترة الحمل لغيابه أو ما إلى ذلك، ففي هذه الحالة لا ينسب إليه، هذا بالنسبة للسؤال الأول.
هل إذا اعترف الوالد سواء كان من زنا أو من زواج عرفي يعد هذا مبرراً بنسبة الولد إليه؟
إذا اعترف بأنه ابنه؟
نعم، سواء من زنا أو من زواج عرفي.
يعني وقع من زنا وليس زواجاً، لا ينسب إليه.
أو زواج عرفي؟
زواج عرفي هذا يحتاج إلى تفصيل إذن، يعني كيف تم وما إلى ذلك والشروط وأركانه تحققت فيه الزوجية أو لم تتحقق؛ لأن كلمة الزواج العرفي كلمة مطاطة تدخل اليوم في أمور متعددة.
الأخت الكريمة من مصر تقول: هل استعمال الهاتف له آداب استئذان كالرن ثلاث مثلاً ولا نزيد على هذ؟
(21/37)
---(4/335)
بالنسبة لعدم التواجد بالنسبة للهاتف وما إلى ذلك فلو زاد أرى بأنه لا شيء فيه، لماذا؟ لأنه قد لا يتنبه الإنسان غالباً إلى درجة الجوال أو البيت أو الهاتف وقد يعتمد بعض من في البيت بعضهن على بعض أو يعتمد بعض الرجال على بعض في أن هذا يرد أو هذا يرد إنما بخلاف الطارق على الباب، يعرفون أن رجلاً قائماً شاهداً موجوداً يقومون للرد عليه، ولكن يمكن أن نقول هنا فائدة: لأن الإنسان إذا دق ثلاث مرات أو زاد رابعة من باب مثلاً الاحتياط ووجد أنه لا يوجد جواب لا يكثر من التكرار في مثل ذلك والناس اليوم أيضاً الحمد لله تعالى إن أراد ألا يرد في حالة من الأحوال فهو إما أن يغلقه أو أن يجعله صامتاً أو ألا يجعل هاتف البيت مشبوكاً للاتصال أو ما إلى ذلك، يعني الوسائل التي تمنع الإنسان في عدم الرد دون أن يحرج أحداً كثيرة وله فيها مخرج والحمد لله.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
السؤال الأول: هل يقدم السلام على الاستئذان أم يقدم الاستئذان على السلام؟ اذكر الصواب في ذلك مع الدليل.
السؤال الثاني: اذكر ثلاثة من فوائد غض البصر؟
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.
(21/38)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الثاني والعشرون
الدرس الثاني والعشرون: تفسير سورة النور
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم.
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين والمشاهدين والمشاهدات ونلتقي بعون الله وفضله وتوفيقه في هذا اللقاء مع بعض آيات من سورة النور، وهذا اللقاء يشتمل على عدة محاور هي كالتالي:
المحور الأول: الزواج ومكانته في الإسلام.
المحور الثاني: وجوب التعفف عن الحرام.
المحور الثالث: الله نور السماوات والأرض.(4/336)
ولنستمع الآن إلى آيات اللقاء من الأستاذ الكريم فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(22/1)
---
?وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ?32? وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِهُّهنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?33? وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ?34? اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيِمٌ ?35??.
جزاك الله خيراً.
(22/2)
---(4/337)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ?102?? [آل عمران: 102]، ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ?1?? [النساء: 1]، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ?70? يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ?71?? [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله -تبارك وتعالى- وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد،
الآيات التي استمعنا إليها الآن تشتمل كما ذكرت على محاور متعددة المحور الأول بعنوان:
المحور الأول: الزواج ومكانته في الإسلام:
(22/3)
---(4/338)
وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ? إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني الكريم، وهذه الآية فيها أمر من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بالزواج وفيها أيضاً بيان لجمل من الأحكام المتعلقة بذلك، وسأحللها وأبينها الآن -إن شاء الله تعالى-، ولكني أود قبل أن أدخل فيما تشتمل عليه هذه الآية من أحكام، أن أذكر كلمة عن الزواج ومكانته وأهميته في الإسلام، ذلك أن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- خلق هذا الخلق وشاء -سبحانه وتعالى- أن يخلف الناس بعضهم بعضاً، عن طريق التزاوج أو التناسل لحكمة أرادها رب العزة والجلال سبحانه, وهيأ الإنسان سواء كان رجلاً أو امرأةً لأداء هذه المهمة وأودع فيه من الغرائز ما تدفعه إلى أن يسكن إلى المرأة، ولذلك كان ولابد من تشريع حكيم ينظم هذا الأمر حتى تستقيم الأسر وحتى تنجو المجتمعات من الفساد والانحراف وما إلى ذلك، فكانت شريعة الزواج في الإسلام من الشرائع التي شرعها رب العزة والجلال سبحانه، وأرادها كي تستمر هذه الحياة بالطريقة المشروعة النظيفة السليمة التي فيها يجتمع الرجل مع المرأة في إطار مشروع مؤيد من قبل رب العزة والجلال وعلى هدي وسنة نبينا -صلوات الله وسلامه عليه-، ولذلك نجد أن القرآن الكريم بين في كثير من آياته أن الزواج نعمة من الله -عز وجل-، بل آية من آياته: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً? [الروم: 21]، ومن ذلك أن الله -عز وجل- أيضاً في كتابه بين أن الزواج من سنن وهدي الأنبياء والمرسلين ويقول رب العزة والجلال في كتابه مخاطباً النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والخطاب له أيضاً خطاب لأمته: ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً? [الرعد: 38]،(4/339)
(22/4)
---
ومن دعاء عباد الرحمن الذين وصفهم ربهم -سبحانه وتعالى- بصفات جليلة عالية كريمة في سورة الفرقان أنهم يقولون كما ذكر الله عنهم: ?وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ?74?? [الفرقان: 74]، ولذلك نجد أن الزواج أيضاً من هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو كما أنه من هدي الأنبياء والمرسلين السابقين نجد أنه أيضاً بصورة خاصة ينص نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذه الشريعة المحمدية على أن الزواج من هديه وسنته -صلوات الله وسلامه عليه-، ولذلك في حديث الرهط الثلاثة الذين أتوا إلى بيوت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وسألوا عن عبادته فكأنهم تقالوها، يعني عدوها قليلة، وقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبناءا على أنهم نظروا على أن هذه العبادة قليلة من وجه نظرهم فقال: وكانوا ثلاثة: (فقال أحدهم: أما أنا فإني لا أتزوج النساء أبداً، وقال الآخر: وإني سأصوم الدهر أبداً، وقال الثالث: وأنا سأقوم الليل أبدا) يعني لا ينام، سمعهم النبي -صلوات الله وسلامه عليه-، فخرج عليهم وقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أنتم الذين قلتم هذه الكلمات؟ فأخبروه بأنهم هم الذين قالوها، فقال -صلوات الله وسلامه عليه- وتأملوا إلى الكلمات المضيئة في مثل ذلك: أما أنا فإني أعلمكم بالله وأتقاكم لله وأخشاكم لله، ومع ذلك فإني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء)، ثم قال هذه الكلمة الكريمة التي هي تشريع نبوي كريم مؤيد من ربنا -سبحانه وتعالى- قال: (هذه سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) إذن هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يتزوج الإنسان, ولذلك ذهب بعض الفقهاء إلى أن الزواج واجب على من كان قادراً عليه ويخشى على نفسه العنت، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قطع(4/340)
التبتل عن
(22/5)
---
عثمان -رضي الله تعالى عنه- ونهاه عن ذلك، وأخبر من انقطع للعبادة بأن لزوجه عليه حقاً ولأهله عليه حقاً، ولولده عليه حقاً، وأنه يجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه.
ولهذا أقول يا أمة الإسلام: الزواج ينظم غرائز الإنسان ثم هو بعد ذلك آية من آيات الله -عز وجل- في الكون، به يعني بسببه يستمر دولاب الحياة كما يقولون ويخلف الناس بعضهم بعضاً لأن الإنسان يخلف غيره، فالابن يخلف أباه وما إلى ذلك وهذه من سنة الله -سبحانه وتعالى- في هذا الكون، الله -عز وجل- أراد أن يعمر العباد هذا الكون، والكون يعمر بهذا الأداء أو عن طريق التناسل والتزواج، ولذلك حث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على أن يتزوج العبد الولود الودود؛ لأن إنجاب الأولاد وتكوين الأسر وما تستلزمه من رعاية وتربية وعطف وحنان يدعو إلى ذلك، ولهذا يقول صلوات الله وسلامه عليه: (تزاوجوا توالدوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة).
(22/6)
---(4/341)
أما المراد بالإنكاح في قوله تعالى: ?وَأَنْكِحُوا? يعني زوجوا، هو التزويج و?الأيَامَى? جمع أيم، وهي كلمة تطلق على من لا زوج له من النساء والرجال سواء كان قد تزوج قبل ذلك أو لم يتزوج، إذن ?وَأَنْكِحُوا? يعني تزوجوا، ?الأيَامَى? يعني أن يتزوج الرجل إذا كان ليست عنده امرأة والمرأة هي أيم أيضاً بمعنى أن تتزوج إن لم يكن لها رجل، والله -عز وجل- في هذه الآية بعدما أمر بهذا الأمر بالزواج وقال: ?وَأَنْكِحُوا الأيَامَى? قال: ?مِنْكُمْ? وهذه الكلمة تفيد: يعني أنكحوا الأيامى من المسلمين، وقد جاءت آيات أخر في كتاب الله -عز وجل- تصرح بمفهوم هذه الآية وذلك كقوله تعالى: ?وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ? [البقرة: 221]، إذن هذه الآية صرحت وبينت معنى قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ? حينما يقول ربنا: ?وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ? [البقرة: 221]، ولهذا أقول: لا يجوز بحال من الأحوال أن تتزوج امرأة مسلمة أن تتزوج كافراً، ونحن نسمع في بعض الأحيان وخاصة في بلاد الغرب أن بعض المسلمين يتساهل فيزوجون بناتهم ومن لهم سلطان عليهم بالرجال الكفرة، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال لقوله تعالى: ?وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ? وللآية المصرحة بذلك في قوله: ?وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا? [البقرة: 221]، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في سنته ومعلوم هذا في سيرته أنه كان يفرق(4/342)
(22/7)
---
بين الرجل وبين المرأة إن كانت المرأة مسلمة والرجل كافراً.
أما الرجل فيجوز له أن يتزوج الكتابية وهي مستثناة من عموم الكفار, يجوز للرجل أن يتزوج المرأة الكتابية وهذا متثنى من عموم النهي عن التزوج بالكفار، وقد ورد هذا صريحاً في سورة المائدة، وسورة المائدة من آخر ما نَزَلَ من كتاب الله -تبارك وتعالى- والله -عز وجل- قد أباح ذلك في قوله: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ? [المائدة: 5]، تأملوا هذا الشرط، يعني أنه يجوز للرجل المسلم أن يتزوج الكتابية يهودية كانت أو نصرانية بشرط أن تكون عفيفة. وفي الحقيقة هذا مقصد من الشارع لأمر هام، ألا وهو الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، لأن العصمة تكون في يد الرجل والقوامة في الإسلام لمن؟ للرجل، والرجال سيتبعون أو الذرية من الرجال والنساء والأطفال بنين وبنات سيتبعون الرجل، والرجل حينما يكون قيماً ويتعامل مع المرأة بالمعروف، ويدعوها إلى دين الله -تبارك وتعالى- بنسبة عالية كبيرة أنها ستدخل في الإسلام وتتبع النبي -عليه الصلاة والسلام- وعلى أقل تقدير إذا لم تدخل هي في الإسلام فعلى الأقل أن تكون ذريتها مسلم، بدلاً من أن تنجب من رجل كافر ذرية كافرة, ستنجب من مسلم ذرية تعبد الله -سبحانه وتعالى- وتوحده.
(22/8)
---(4/343)
وأنا أقول هذا اليوم, وأود أن أنبه على نقطة مهمة، للأسف الشديد، بعض من يتزوج بنساء أهل الكتاب هو الذي يفرط في دينه ويقصر في تعاليم ربه، وهي التي تجره إلى كثير من الآثام والمعاصي، فهو بهذا يخالف التشريع فبدلاً من أن يكون قيماً عليها ويدعوها إلى الدين ويكون ذرية مسلمة في بيته تعبد الله -سبحانه وتعالى- وتوحده إذا به هو ينقلب أو يبتعد على أقل تقدير عن التمسك بالدين الذي بعث النبي -صلوات الله وسلامه عليه-، وفي الحقيقة أقول: على المسلمين اليوم أن يبتعدوا عن نساء أهل الكتاب، ليس لأن هذا محرمٌ فهو مباح له في كتاب الله -تبارك وتعالى- ولكن لضعف من يذهب إلى هذه البلاد اليوم ويتزوج من هناك ويتأثر بأحوال هؤلاء الكافرين والكافرات، وبحمد الله وبفضله يوجد فيض كثير وزيادة مطردة في النساء المسلمات وعلى المسلم أن يعف النساء المسلمات من باب الأولى وإن كان الأمر مباحاً له، وأركز أيضاً على أمر ذكرته آنفاً وأشارت إليه الآية ألا وهو إذا تزوج الرجل بامرأة من أهل الكتاب عليه أن يلاحظ أن يتزوج امرأة عفيفة حتى لا تفسد عليه فراشه، وحتى لا تخونه في عرضه، وهذه مسألة تحتاج إلى شيء من التثبت وتحتاج إلى شيء من التحري، وتحتاج إلى قدر كبير من الاحتياط.
(22/9)
---(4/344)
?وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ? يعني من المسلمين، ?وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ? يعني أنكحوا الصالحين وتأملوا كيف أن الإسلام يشير إلى مثل ذلك، وهذه الآيات تركز على هذا المعنى لأنه ليس القصد فقط أن يتزوج الإنسان ثم لا يقيم في هذه الأرض الدين لله -تبارك وتعالى-، لأن الغرض أن تتحقق العبادة التي وُجد من أجلها الإنسان رجلاً كان أم امرأة، وبالتالي يجب على المسلم حينما يتزوج يعف نفسه عن الحرام ثم بعد ذلك تنتج منه بعد ذلك ذرية طيبة صالحة تؤمن بالله -تبارك وتعالى- وتستجيب لهدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذه إشارة حينما قال ربنا: ?وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ? يعني هي دعوة أيضاً إلى أن يزوج الإنسان الصالحين من المملوكين والصالحات من المملوكات يعني من العبيد، وقد بينت آية سورة النساء أن الحر لا يتزوج الأمة إلا بالشروط المذكورة في هذه الآية التي في سورة النساء، وهي في قول الله -تبارك وتعالى- وهذا حكم فقهي يجب أن نتنبه إليه: ?وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ? [النساء: 25]، هذه الآية فيمن يريد من الرجال الأحرار أن يتزوج بمن؟ بأمة يعني بامرأة من العبيد، هذه الشروط بمعنى أن تكون محصنة حتى لا تخونه؛ لأنه قد يقع من هذه المرأة تساهل في مثل هذه الأمور، وأن يكون الإنسان الذي يريد أن يتزوج من هذه الأمة غير(4/345)
(22/10)
---
قادر على أن يتزوج من حرة، ويخاف العنت على نفسه، يعني يخاف أو يخشى الوقوع في الزنا.
قد يقول قائل: ولماذا شرطت الآية هذه الشروط؟ لأن هذا فيه مصلحة للإنسان وللإسلام لأن الولد سيتبع أمه في هذه الحالة والحر لا يحب أن يكون ولده عبداً.
?وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ?، قبل أن أنتقل من هذه الجزئية اليسيرة وأنا أتكلم عن الزواج وعن مكانة الزواج في الإسلام أود أيضاً أن أهمس بصوت مرتفع في آذان أولياء الأمور سواء كانوا عندهم أولاد أو عندهم بنات أن يبسطوا مسائلهم مع إخوانهم المؤمنين، اليوم في المجتمعات الإسلامية بصورة عامة توجد أزمة اجتماعية خطيرة وهي بلوغ السن الكبير للرجل وبلوغ المرأة إلى سن يعني يتجاوز مرحلة الاستمتاع بها والتمكن من أن تنتج وأن تنجب ذرية تقوم على شئونهم وترعى أحوالهم وتخدمهم بالأمر المناسب الذي يليق بهم وتعتني بتربيتهم, كل ذلك بسبب ما وضعته المجتمعات الإسلامية وللأسف الشديد من قيود وشروط كلها من باب الحرج والمشقة على أنفسهم، يعني الإنسان من نفسه هو الذي يضيق على نفسه في هذه المسألة، أقول هذا عند قولي: ?وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ? حينما قلت: بأن الحر له أن يتزوج العبدة بشروط، إن لم يستطع وإن لم يكن عنده مال يمكن أن يتزوج به الحرة، ولماذا نضيق على المسلمين من الرجال هذا التضييق والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- زوج رجلاً على خاتم من حديد؟!! زوج رجل امرأة صالحة، امرأة .... يعني نساء اليوم يعني لا أستطيع أن أعقد مقارنة بين صحابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من الرجال ومن النساء؛ لأن هؤلاء القوم زكاهم ربهم -عز وجل- في كتابه وأثنى عليهم في كتابه, وشهد لهم ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه، وأثنى عليهم نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- ومع ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يزوج امرأة من نساء المسلمات(4/346)
الصالحات
(22/11)
---
القانتات الحافظات للغيب يزوجها على خاتم من حديد، ويزوج آخر بشيء من القرآن كان معه، ما عنده مهر, ما عنده مال من فقط تأسيس بيت أو يدفع كذا هناك اليوم وضعت وأنتم تعلمون ربما أكثر مني في هذا، يعني وضعت شروط ووضعت قواعد وسن الناس في هذا قوانين على أنفسهم شددوا بها على أنفسهم، وأصبحت البيوت اليوم تئن مما فيها، وهذه دعوة لإخواني المسلمين بصورة عامة محبة لهذه المجتمعات الإسلامية في الله -تبارك وتعالى-، أن يتبسطوا وأن يسهلوا وأن يراعوا أمور الشباب, وولي الأمر عليه أن يتفهم وضع المجتمعات وما هي فيه والفتن المظلمة التي تحيط بالناس من كل جانب، ولنعلم جميعاً أننا خلقنا لنعبد الله -سبحانه وتعالى-، لا لكي يكون الإنسان عنده كذا وكذا في هذه الحياة الدنيا، فهذه الدنيا ذاهبة وآتية, والعبرة فيها وما يجب أن يخرج الإنسان بفائدة منها هو تقوى الحق -تبارك وتعالى-، وذلك يكون بعبادة الله -عز وجل- بما شرع وفقاً لهدي النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-.
وأقول هذا قبل قول الحق -تبارك وتعالى-: ?إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ? أقول حتى تتفتح الآذان لهذه الجملة من هذه الآية لماذا؟ لأن البعض هذا يقول بأن هذا وعد من الله -عز وجل- وقد يتزوج الإنسان ولا يتحقق له الغنى، الآية تقول: ?إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ? والجواب عن هذا:
(22/12)
---(4/347)
أولاً: هذا أمر مربوط بالمشيئة هذا أمر أو وعد من رب العزة والجلال مربوط بالميشئة فقد يشاء الله -عز وجل- لإنسان فقير أن يتزوج فيأتيه الغنى من الله -عز وجل- ولا يشاء ذلك لآخر, والله -عز وجل- كما جاء في سورة التوبة ربط مثل هذا بالمشيئة: ?وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ? [التوبة: 28] فربط الغنى في سورة التوبة بالمشيئة والقرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً، وللعلماء في معنى هذه الآية أيضاً توجيه لطيف: يقول عبد الله بن عباس أولاً: الله -عز وجل- رغب المسلمين في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى، واللفتة التي ذكرها المفسرون في هذه الآية وهي: أن من تزوج لله -عز وجل- طاعة لرب العزة والجلال وغضاً لبصره وطلباً للذرية، هذا يعمل طاعة، والذي يفعل طاعة أيضاً موعود من الله -عز وجل- أن تفتح له أبواب الخير، وهذا جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ?2? وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ?3?? [الطلاق: 2، 3]، ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً? [النحل: 97]، فهؤلاء لما فعلوا هذه الطاعة، وتزوجوا لله -تبارك وتعالى- وغضوا أبصارهم عن الحرام وعفوا أنفسهم بالزواج وهم فقراء, لما تعبدوا الله -عز وجل- بهذه الطاعة يمن ربنا -سبحانه وتعالى- عليهم بالتيسير كما قال: ?وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ? [الأعراف: 96]، فآمنوا يا أيها المؤمنون واتقوا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، ويسروا أموركم ييسرها رب العزة والجلال لكم، وهي دعوة أيضاً إلى أن الإنسان لا ينظر إذا أتى إليه ... رجل عنده امرأة، أتى إليه رجل يخطب منه بنته عليه ألا ينظر إلى ماله، ولا إلى وضعه في المجتمع ولا إلى ما(4/348)
(22/13)
---
هو عليه ولكن قبل كل شيء عليه أن ينظر إلى دين الرجل، (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) عليه أن ينظر إلى الدين، كذلك الرجل لا ينظر إلى مكانة المرأة الاجتماعية، أو ما هي عليه من جمال أو ما هي عليه من حسب ونسب ومال وما إلى ذلك، ولكن عليه أن ينظر إلى صاحبة الدين، فإذا نظر إلى صاحبة الدين وكانت فقيرة وتزوجها يرجى له الغنى بفضل الله -تبارك وتعالى-، وإن لم يتم وعد الله -عز وجل- له في الدنيا بالغنى الذي يريد وكان عابداً لله -سبحانه وتعالى- كانت له جنة النعيم، والدنيا ما هي إلا ساعة، ولا يمكن أن أقارنها كما ذكرت آنفاً في بداية هذه الحلقات، بالحياة الدائمة والنعيم المقيم الذي أعده رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لمن آمن به واتقاه.
وفي مسند الإمام أحمد أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والحديث حسن، يقول: (ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الحرية والعتق، والغازي في سبيل الله -تبارك وتعالى-) يعني المجاهد في سبيل الله -عز وجل-.
وتختم هذه الآية بقول الله -عز وجل-: ?وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ? تأملوا الختام, القرآن من عند الله -عز وجل-، يا أيها الإخوة يا أيها الأغنياء أنتم مهما يكن عندكم فأنتم فقراء, أما الواسع, أما الذي خزائنه ملأى, أما الذي بيده الدنيا والآخرة، وبيده كل شيء، ويملك كل شيء، فهو -سبحانه وتعالى- واسع عليم، وهذه لفتة لمن يترفع عن أن يزوج الفقير، أنت يا عبد الله مهما يكن عندك فأنت في ضيق ولست في سعة، فأنت محدود ولست متفتحاً تفعل ما تشاء، وما لديك إنما هو وديعة عندك، فاتق رب العزة والجلال، وتذكر أن الله -سبحانه وتعالى- هو وحده الغني وأنت فقير مهما أوتيت ومهما كان لديك: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ?15?? [فاطر: 15].
ثم بعد ذلك أدخل في المحور الثاني في هذا اللقاء وهو بعنوان:(4/349)
(22/14)
---
المحور الثاني: وجوب التعفف عن الحرام:
وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ? لما ذكر الحق -تبارك وتعالى- تزويج الحرائر والإماء من الرجال والنساء ذكر من ليس لديه مال ولا يتمكن من الزواج فقال: ?وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ? والآية تأمر من لا يجد كفاية في الزواج أن يتعفف عن الحرام، ولا يقربه، وهذه الآية يجب أن نضمها إلى قول الحق -تبارك وتعالى- فيما سبق أن ذكرته في هذه السورة: ?قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ? [النور: 30]، هذا هو الاستعفاف، أن تستعف عن الحرام وعن مقدمات الحرام، وعن السعي إلى الحرام ومن ذلك غض البصر والوسائل المؤدية إلى الوقوع في الفاحشة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، ومن ذلك قول الحق جل ذكره: ?وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ?32?? [الإسراء: 32]، وقد سبق أن ذكرت أن الحر إذا لم يستطع أن يتزوج امرأة حرة وأمكنه أن يتزوج أمة له أن يتزوجها بالشروط المذكورة, وأعيد هذا عند قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا? ولو صبر لكان خيراً له من زواج أمة.(4/350)
ثم يقول سبحانه وتعالى: ?وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا? هذا أمر من الله -تبارك وتعالى- للسادة أن يكاتبوا العبيد والإماء الذين هم تحت أيديهم إن طلبوا منهم ذلك، يعني الإنسان يكون عنده عبد أو أمة ويطلب العبد أو تطلب الأمة أن تكاتبه يعني أن تعقد بينه مكاتبة في أنها تؤدي أو أن يؤدي له المال الذي سيتفقان عليه، ثم بعد أدائه تصبح حرة ويصبح العبد حراً، هذه الآية تبين هذا الحكم، وتدعو إليه وترغب فيه،
(22/15)
---
وقد اختلف العلماء: هل هذه الآية أمر إيجاب من الله -عز وجل- على السادة الذين يملكون العبيد والإماء أن يكاتبوهم إذا طلبوا منهم ذلك؟ أم أن المسألة دائرة على الأمر بالإرشاد والاستحباب؟ اختلف العلماء في ذلك وجمهور أهل العلم على أن الأمر أمر إرشاد واستحباب، أن الأمر أمر إرشاد واستحباب، واستدلوا على ذلك بقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) لأن هذا ماله، فلا يلزم به، أما من قال بأن هذه الآية أمرت بذلك وأن الأمر للوجوب، قالوا لأن ظاهر الأمر ذلك، ولأن عمر -رضي الله تعالى عنه- لما طلب سيرين والد محمد بن سيرين لما طلب من أنس وكان عبداً عنده أن يكاتبه فأبى أنس فجاء عمر -رضي الله تعالى عنه- وضرب أنساً بالضرة، لأنه امتنع عن أن يكاتب سيرين الذي هو والد محمد بن سيرين.
الإمام الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- قال: ضرب عمر -رضي الله تعالى عنه- ضربه لأنس بالدرة لا يعني أن ذلك أمراً على الوجوب وإنما يمكن أن يكون قد ضربه على الأمر المندوب المؤكد في الاستحباب، يعني هو أمر مستحب ومندوب وقد ضربه على ذلك.(4/351)
والرجل أو السيد عليه أن يساعد العبد إن كان عنده شيء من ذلك، وطلب منه أن يكاتبه ولكل خير في ذلك، يعني للعبد فيه خير، وللسيد فيه خير، الخير الذي للعبد هو أنه يعتق، والخير الذي للسيد فيه أنه يؤدي إليه شيئاً من المال الذي اتفقا عليه وقد لا يمكن أن يحققه له العبد وهو تحت يده؛ لأن العبد قد يكون عنده ولا يتمكن من أن يعطي سيده المال أو أن يحقق أو أن يرجع له المال الذي سيعطيه له لو كاتبه عليه، لماذا؟ لأن هذا سيدفعه إلى العمل، ويجعله ينشط ويجتهد كي يجمع المال لسيده حتى تعتق رقبته.
(22/16)
---
والله -عز وجل- لما قال: ?وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ? قال: ?إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا?، ?إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا? قال بعض أهل العلم: المراد بالخير هنا هو الأمانة، وقال بعضهم: إن علمتم فيهم صدقاً، وقال بعضهم: إن علمتم فيهم حيلة وتكسباً، لماذا؟ لأن الذي عنده حيلة وتكسب سيستطيع أن يؤدي لسيده هذا المال.
أود أن أشير إلى كلمة موجودة في تفسير الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- وهي أنه قال: بأن العبد يؤدي لسيده النجوم المتفق عليها، لأن هذه قد تستشكل عند بعض طلبة العلم، كلمة النجوم المراد بها ماذا؟ يعني المواقيت التي اتفقا عليها، وعبر عن المواقيت أو المواعيد أو الأشهر المتفق عليها بالنجم لأن العرب أمة أمية، لا تعرف الحساب وكانوا يربطون ذلك بالنجوم، فيقولون: إذا جاء نجم كذا سأعطيك كذا فيقال على العبد أن يعطي لسيده النجوم التي اتفقا عليها، يعني يعطيه المال في الوقت الذي وقع بيهم اتفاقية عليه.
(22/17)
---(4/352)
?وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ? ذكر الإمام ابن جرير وتابعه الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- وقالوا بأن هذا هو الأولى والصواب، أن ?وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ? يعني أعطوهم حقاً من مال الزكاة، ولهم نصاب في ذلك، لأن الله -عز وجل- في آية سورة التوبة ذكر الأرقاء من القوم الذين يستحقون الزكاة، وتصرف إليهم أموال الزكاة، ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ? [التوبة: 60]، فقول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ? يعني أعطوهم جزءً من الزكاة يعني الأغنياء يساعدوا هؤلاء الذين كاتبوا أسيادهم كي تعتق رقابهم ساعدوهم بجزء أو بشيء من المال من مال الزكاة لأن لهم سهماً فيه، والله -عز وجل- قد نص عليه في كتابه.
(22/18)
---(4/353)
وقيل أيضاً: بأنه على السيد أن يضع على العبد أو الأمة التي كاتبته جزءاً من المال، فإن اتفقا على شيء فيما بينهم فعلى السيد بعد ذلك أن يحط شيئًا أو جزءاً ولو يسيراً من هذا المال، وهذا إرشاد قرآني كريم يسعى فيه الإسلام إلى تحرير الرقاب، وبالتالي الغرب الكافر حينما يشوش على الإسلام ويذكر بأن الإسلام يدعو إلى الرق، والعبودية واتخاذ الإماء ويفرق بين السادة والعبيد هم في الحقيقة كذبة في ذلك؛ لأن الإسلام اتخذ من الوسائل الكثيرة ما يدعو به العبد أو الأمة إلى الحرية، والوقت لا يتسع لأن أذكر شيئًا من ذلك، فكم ذكر رب العزة والجلال في القرآن الكريم أن عتق الرقاب مكفر لكثير من الأمور المخالفة التي تقع من الإنسان ولا يرضاها رب العباد -سبحانه وتعالى-، كل ذلك وسائل جعلها الله -سبحانه وتعالى- مشروعة كي يحرر الإنسان من الرق الذي يقع فيه، وهم يخافون من الرق؛ لأنهم يخافون على أنفسهم إن قام لهم المسلمون ولعله يأتي ذلك -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
(22/19)
---(4/354)
ثم يقول سبحانه: ?وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا? ذكر أهل العلم من المفسرين أن أهل الجاهلية كانوا يطلبون من إمائهم أن يقعوا في الفاحشة -والعياذ بالله تعالى-، وأن يأخذوا عليها أجراً ويأخذون هم يعني السادة يأخذون هذا الأجر، وقد جاء في صحيح مسلم وفي آخره يعني في آخر صحيح مسلم في كتاب التفسير وهو كتاب التفسير من أواخر ما جاء في صحيح مسلم: أن عبد الله بن أبي بن سلول إمام وزعيم المنافقين، هو فيه طبعاً إمام في الصلاح والخير ونسأل الله أن نكون جميعاً منهم، وهناك أئمة في الفجور والنفاق والكفر والشقاق -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وهذا الرجل سيد من سادات المنافقين في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، (كانت عنده إماء) وليست أمة واحدة، (قيل: ستة، فكان يرسلهن للفاحشة وكل واحدة منهن تأتيه بالمال فيأخذه هو)، فيستفيد منه وكذلك حينما إذا حملت وأتت بولد فيصبح عبداً له فيكثر بذلك ماله، ويصبح بدلاً من أن يكون سيداً لعشرة سيداً لعشرين ولثلاثين وما إلى ذلك، ولذلك قال الحق -تبارك وتعالى-: ?وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ? يعني على الزنا: ?إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا? أولاً أيضاً كلمة ?إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا? خرجت مخرج الغالب في ذلك، فهي لا مفهوم لها، يعني أغلب من يكره على الزنا من هؤلاء الإماء تكون محصنات؛ لأن غير المحصنة منهن لا تكره على ذلك، بل هي تسعى إليه، ولكن حينما نقول: خرج مخرج الغالب، حتى لا يأخذ الإنسان بمفهوم المخالفة، فيقول: إذن يجوز للسيد أن يذهب بالأمة غير المحصنة لكي تأتي بهذه الفاحشة، هذا لا يجوز بحال من الأحوال، وإنما هذا خرج مخرج الغالب، ولأن غالب من يقع في هذه الفاحشة من يكره على هذه الفاحشة تكون من المحصنات.
(22/20)
---(4/355)
?وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا? يعني تبتغوا عرض الحياة الدنيا من خراجهن ومهورهن وأولادهن، وهذا المال الذي يأتي بهذه الطريقة أو من هذا الأسلوب هو مال خبيث، وصاحبه يأكل مالاً حراماً، والله -عز وجل- قد حرمه كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشار إلى أمور أخر حرمها أيضاً من الأموال الخبيثة، ومنها: هذا مهر البغي، النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث) حلوان الكاهن التي هي تقال حلاوة، يعني أجره الذي يأخذه، المال الذي يأخذه, ويدخل في الكاهن العراف وصاحب الرمل والمنجم والذي يدعي السحر، هؤلاء الناس المشعوذين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويدعون أنهم يعلمون الغيب وما إلى ذلك، هؤلاء كلهم أتوا باطلاً ومنكراً وإثماً عظيماً عند رب العزة والجلال سبحانه والمال الذي يأخذونه مال غير طيب وهو مال خبيث، مال محرم، كذلك ثمن القلب خبيث، وحتى لا يستشكل أحد الإخوان لأن في هنا أمامه بين يديه في تفسير ابن كثير ذكر أحاديث حول هذا ومنها: كسب الحجام، (مهر البغي خبيث وحلوان الكاهن خبيث وكسب الحجام خبيث)، فهل كسب الحجام خبيث وقد انتشرت الحجامة كثيرًا في أيامنا هذه؟
(22/21)
---(4/356)
هذه المسألة اختلف أيضاً في العلماء والراجح فيها كما رجح ذلك الإمام البخاري -رحمه الله تبارك وتعالى- وكذلك الإمام ابن حجر: أن كسب الحجام ليس خبيثاً بإطلاق؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في صحيح البخاري: (احتجم وأعطى الحجام أجره) يعني النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- احتجم وأعطى الحجام الأجرة على هذه الحجامة ولذلك قيل: بأن النهي الوارد هنا إنما هو للتنزه، يعني كراهة تنزيه، وليست كراهة تحريم، وقالوا: لأن هذا منافٍ للمروءة، وفيه كسب أو فيه دناءة في هذا الكسب، وقال بعضهم: هذا يكون محرماً على الحر، يعني الحر إذا حجم إنسان لا يأخذ منه مال، أما العبيد ويدخل فيهم إذن من يتخذها حرفة أو مهنة إذا أخذه فهو دناءة منه ولكنه مال مباح له للأحاديث الصحيحة الواردة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أنه احتجم وأعطى الحجام أجرته).
(22/22)
---(4/357)
ثم يقول سبحانه وتعالى، الحقيقة الوقت يمر ولا أريد أن أقف كثيرًا حول هذه الآيات حتى آتي إلى آخرها -إن شاء الله تعالى-، الآية التي معي الآن ذكرت فعلة المشركين وأشرت إلى فعل عبد الله بن أبي الذي كان يذهب أو يرسل الإماء كي يفعلن الفاحشة ويرجعن إليه بالمال، الله -عز وجل- بعدها يقول: ?وَمَن يُكْرِهُّهنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? ومن يكرهن يعني هذه الآية تفيد، وهي أولاً رحمة من الله -عز وجل- بعباده، أن المكره على فعل شيء لا إثم عليه فيه، فالإنسان إذا بغض الشيء ولم يحبه وأجبر عليه أو أكره عليه ووقع فيه، والإكراه لا شك له حد، يعني الإنسان ليس كل شيء يقال: أنا أكرهت عليه، فمجرد لون من ألوان التهديد أو قطع شيء من المال أو الأرزاق أو ما إلى ذلك، كل هذا لا يعد من باب الإكراه وإنما هناك إكراه معتبر، وقال العلماء: حد الإكراه المعتبر الذي يخاف الإنسان فيه على نفسه، كأن يهلكه أو يخاف على ولد له، أو يخاف على أخذ ماله كله، أو رميه في العراء والضياع بين الذئاب والأسود وما إلى ذلك، هذا من الخوف المعتبر، أما إن كان مجرد تهديد أو مجرد أن يناله شيء من التضييق أو تقليل من المال، أو إساءة ولو يسيرة في بدنه أو ما إلى ذلك، فلا يعد هذا إكراهاً معتبراً، والله -عز وجل- قد رفع الإثم والجناح فيمن وقع محرم وقد أكره عليه حتى بإنطاق كلمة الكفر له كما قال -سبحانه وتعالى-: ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ? [النحل: 106]، ومن ذلك أن الله -عز وجل- أباح الميتة للمضطر ?فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ? [البقرة: 173]، وهذا كما أشرت من سماحة الإسلام ويسيره.
(22/23)
---(4/358)
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ?وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ?34??، هذه الآية في الحقيقة آية كريمة جليلة، ولها ارتباط قوي ببعض الآيات السابقة، أولاً: ?وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ? لو تذكرتم معي أول آية في سورة النور: ?سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ?1?? [النور: 1]، فهذه الآيات البينات جاءت في هذه السورة وهنا في هذه الآية أشار رب العزة والجلال إلى أن فيما أنزله على عبده ونبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- فيه ما فيه من الآيات البينات، حيث شرعت الشرائع وبينت الأحكام ونستفيد نحن من ذلك وجوب الاتعاظ بهذه الآيات؛ لأن الله في أول السورة قال: ?لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ?، وهذه هي الفائدة المرجوة من هذه الآيات البينات الواضحات المفسرات التي جاءت من عند الله -تبارك وتعالى-، يستفيد منها الإنسان في دينه، ليعمل بطاعة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، فليتأمل العبد المسلم والمرأة المسلمة هذه الآيات البينات في كتاب الله -عز وجل- وتذكرهم بالله -تبارك وتعالى- والله -سبحانه وتعالى- يجعل هذه الآيات تربط بين قلوب العباد وتؤلف بينهم وجعلهم يسلكون الطريق الصحيح السليم الموصل إلى رب العزة والجلال.
(22/24)
---(4/359)
هذا عن الآيات البينات والأهم الذي أود أن أتي إليه وأشير إليه الآن، ?وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ? قال بعض العلماء في الحقيقة كلمة جميلة جداً في هذه الآية أولاً: ?وَمَثَل? معطوفة على الآيات البينات، قال: ?وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ? يعني قصة عجيبة جاءت في هذه الصورة وهي مما قصه الله -عز وجل- من قصص السابقين، ما هي القصة العجيبة الواردة في هذه السورة؟ هي اتهمام أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- بالإفك، وتبرئة الله -سبحانه وتعالى- لها، هذا مثل، ذكر في هذه السورة وهو يشبه أمثلة متعددة في كتاب الله -عز وجل-، أذكر منها ما يلي:
يوسف -عليه السلام- اتهم من امرأة العزيز بالفاحشة قالت لزوجها: ?مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ? [يوسف: 25]، ويوسف -عليه السلام- بريء، والله -عز وجل- أيضاً برأه، وجاءت تبرئته في كتاب الله -تبارك وتعالى- من المرأة التي اتهمته هي, يعني المرأة التي اتهمته هي التي ذكرت براءته -عليه الصلاة والسلام-، هي قالت: ?مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءً? [يوسف: 25] ولما جاء الملك يسأل النسوة الذين قطعن أيديهن قال: ?قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ? [يوسف: 51]، التي قالت قبل فترة يسيرة: ?مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءً? [يوسف: 25]، قالت: ?الآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ? [يوسف: 51].
(22/25)
---(4/360)
كذلك المثل الآخر مريم -عليها السلام-: اتهمها بعض من الناس ومنهم اليهود وهم كما تعلمون مجرمون، اتهموها بالفاحشة لما حملت في عيسى -عليه السلام-، وهي امرأة شريفة فاضلة طاهرة ولكنهم اهموها بقولهم: ?قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا? [مريم: 27]، ولكن الله -عز وجل- برأها فقال: ?وَمَرْيَمَ ابْنتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ?12?? [التحريم: 12].
كذلك هنا المثل الوارد في هذه السورة هو مثل يقصد به أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-؛ لأنه كأمثال الذين خلوا من قبلنا, كيوسف -عليه السلام- وكمريم -عليها السلام- وها هي أم المؤمنين عائشة اتهمت من أهل الإفك والزور والضلال والمنافقين وبعض ضعفة المسلمين بهذه الفرية العظيمة ولكن الله -سبحانه وتعالى- أيضاً هو الذي برأها في كتابه.
?وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ?34??، وحقاً والله إن هذا القرآن وهذه الآيات فيها موعظة للمتقين، فيها زجر للإنسان عن الوقوع فيما حرم الله -تبارك وتعالى- فيها زجر عن أن يقع الإنسان في المآثم أو أن يفتري على الآخرين، أو أن يسب المحصنات المؤمنات الغافلات وما إلى ذلك، ومن المواعظ الواردة في هذه الآية ما شرعته من أحكام ومنها إقامة الحد على الزاني، وألا تأخذنا به رأفة ومنها عدم الخوض في الكلام الباطل، فقوله تعالى: ?لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا? [النور: 12]، إلى آخر ما اشتملت عليه هذه الآية أو السورة من مواعظ، والقرآن الكريم مليء بالمواعظ التي جاءت في كتاب رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(22/26)
---(4/361)
أدخل بعد ذلك في المحور الثالث في هذا اللقاء وهو بعنوان:
المحور الثالث: الله نور السماوات والأرض:
وتحته الآية الكريمة الجميلة في وصف رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وضرب المثل لقلب المؤمن وهي قوله سبحانه: ?اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ?، أقف أولاً لأن الآية تحتاج إلى شرح وتحليل لكلماتها كلمة كلمة: ?اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ?، النور: من أسماء الله -تبارك وتعالى-، من أسماء الله الحسنى، والله -عز وجل- في كتابه يقول: ?وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا? [الزمر: 69]، فالنور من أسماء الله الحسنى، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر: (أن حجاب الله -عز وجل- النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وبنور الله -عز وجل- استنار كل شيء، استنار عرش الرحمن بنور الله -تبارك وتعالى- استنارت السماوات والأرض واستنار القمر، واستنار كل شيء في الوجود بنور رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، كما قال عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: (إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السماوات والأرض من نوره -سبحانه وتعالى-)، نور السماوات والأرض من نور الله -عز وجل-، ونور العرش من نور الله -تبارك وتعالى-، ولذلك أنزل الله -سبحانه وتعالى- كتابه نورًا، الكتاب الذي نزل من عند الله -عز وجل- أنزله نورًا لماذا؟ لأن من أسماء الله -تبارك وتعالى- النور، ومن أفعال الله -سبحانه وتعالى- النور، فالنور من أسماء الله -عز وجل- وهو فعل من أفعال الله -تبارك وتعالى-، فالقرآن نور وبعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نور، وتوفيق المؤمنين للإيمان والطاعة والهداية والفلاح أيضاً نور، من فعل رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(22/27)
---(4/362)
?اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ? ?مَثَلُ نُورِهِ? أقف عندها قبل: ?كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ? هنا الضمير على أي شيء يعود؟ هذا ذكر أهل العلم فيه بعض الأقوال:
- أولها أنه يعود إلى الله -تبارك وتعالى-، ويصبح المعنى مثل هداه يعني هدى رب العزة والجلال في قلب المؤمن، وبالتالي يكون الضمير في قوله تعالى: ?مَثَلُ نُورِهِ? يعود إلى من؟ يعود إلى الرب -تبارك وتعالى-.
- وقيل الضمير في مثل نوره: يعود إلى العبد، ويصبح المعنى: مثل نور الإيمان في قلب من؟ في قلب المؤمن.
مثله إيه: ?كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ? قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-: «المشكاة موضع الفتيلة والمصباح هو النور الذي يخرج من الفتيلة»، وقيل المشكاة هي الكوة بلغة العرب، والكوة: يعني الجدار، الفتحة في داخل الجدار، يقال لها: مشكاة، والمصباح هو السراج الذي وضع في هذه الكوة، ?كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ? ما شأن هذه المشكاة وهذا المصباح؟ قال: ?الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ? يعني أن هذا الضوء الذي يخرج من الفتيلة أو من السراج في زجاجة، والضوء حينما يكون في كوة وفي زجاجة يكون مشرقاً؛ لأن مكانه سيكون محدوداً، والإنسان إذا أراد أن يركز الضوء جعله في مكان محدود، فهذا يكون أقوى في إعطاء ضوء أكثر
?كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ? يعني لشدة ضوئها ولمعانها شببها بماذا؟ شبهها بالدر بكوكب دري، وذلك في شدة الضياء وفي شدة النور، وفي شدة اللمعان.
(22/28)
---(4/363)
ثم بين ربنا -سبحانه وتعالى- من أين يستمد هذا النور الذي في هذا المصباح قال: ?يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ? يعني أنه يوقد من هذه الشجرة المباركة، وهي شجرة الزيتون، وهي شجرة مباركة، الله -عز وجل- أقسم بها في كتابه، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أخبرنا بأن نطعم هذا الزيت وأن ندهن منه، فهو طعام وغذاء وشفاء بإذن الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه يخرج من شجرة مباركة، وتأملوا وصف رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بعد ذلك لهذه الشجرة المباركة قال: ?يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ? فيها أقوال متعددة:
- القول الأول: وهو ما رجحه ابن جرير وابن كثير وكثير من المفسرين: أنها ?لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ? يعني: أنها ليست في جهة المشرق باستمرار، فلا تأتيها الشمس من جهة المغرب، ولا غربية يعني: ليست في جهة المغرب باستمرار، فلا تأتيها الشمس حينما تطلع في أول النهار، بل هي في مكان بادٍ ظاهرٍ تسطع عليها الشمس من كل جانب فيعطي ضوءها قوة ويعطي زيتها جمالاً وطعماً وما إلى ذلك، هذا هو القول الأول، وهو أرجح الأقوال في معنى قوله تعالى: ?لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ?.
- القول الثاني: قالوا: ?لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ? يعني: أنها وسط العشب، ووسط الأشجار فلا تصيبها الشمس باستمرار، وهذا في الحقيقة قول ضعيف.
- وبعضهم قال: الإشارة في قوله: ?يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ? وهذا أضعف منه أن هذا المراد به هو: المؤمن، و ?لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ? مراد بهما: اليهود والنصارى.
ولكن أرجح الأقوال كما ذكرت أنها في مكان مرتفع وفي مسطح واسع فسيح تأتيها الشمس من كل جانب، والإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- رجح هذا القول الأول.
(22/29)
---(4/364)
?يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ? يعني يكاد زيتها لصفائه ونقائه يضيء ولو لم تمسسه نار، فإذا مسته النار لا شك أنه سيضيء إضاءة بالغة ثم يقول سبحانه: ?نُورٌ عَلَى نُورٍ? هذه نور مركب، البعض يظن أن النور متضاعف هنا أو النور غير النور، لا، هذا نور مؤكد بالنور، حتى يصبح ماذا؟ حتى يصبح نورًا قوياً، ولذلك قيل المعنى أو المراد بقوله تعالى: ?نُورٌ عَلَى نُورٍ? يعني بذلك إيمان العبد فهو نور وعمل العبد أيضاً نور، وقيل: المراد نور الزيت ونور النار، فنور الزيت مع النار يعطي إضاءة ولمعاناً قوياً.
وبعد قول الحق -تبارك وتعالى-: ?نُورٌ عَلَى نُورٍ? يرغب أهل الإيمان في الطاعة، ويذكر فضله على أهل الهداية، فيقول: ?يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ? أي يرشد لهدايته ويختار لتوفيقه والعمل بطاعته من يشاء من عباده، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه- يقول: (سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول:)-والحديث صحيح- (إن الله خلق خلقه في ظلمة، إن الله -عز وجل- خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره)، وهذا يؤكد أن من أسماء الله النور، وأن من أفعال الله -عز وجل- النور، (إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، ثم قال: جف القلم على علم الله -تبارك وتعالى-).
?وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيِمٌ? يعني يضرب الله -عز وجل- الأمثال للناس ليعقلوها ويفهموها لأن الأمثال تقرب المعقول وتقرب الأمور المعنوية من الأمور المحسوسة والله يقرب للعباد ذلك لأنه -عز وجل- هو المطلع على كل شيء، ويعلم ما بالعباد من حاجة إليه فيضرب لهم الأمثال كي يعقلوا ويتذكروا ويتدبروا.
(22/30)
---(4/365)
ولذلك هنا فائدة في هذه الآية وهي: أن الإيمان ينور قلب العبد المؤمن، الإيمان ينور قلب العبد المؤمن؛ لأن هذا مثل كما قال أهل العلم وكما قال المفسرون ضربه الله -عز وجل- للإيمان الذي في قلب المؤمن، وأن قوله: ?نُورٌ عَلَى نُورٍ? يعني إيمان المؤمن وعمل المؤمن، هذا نور على نور، وبالتالي أقول بأن المؤمن الذي يعيش في طاعة الله -عز وجل- يعيش في نور، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يدعو ربه: (اللهم اجعل أمامي نورًا وخلفي نورًا وعن يميني نورًا وعن يساري نورًا ومن فوقي نورًا ومن تحتي نورًا واجعلني نورًا) -صلوات الله وسلامه عليه-، وعلى العبد أيضاً مرة أخرى أن يسعى لتحصيل هذا النور في الدنيا، حتى يناله في الدار الآخرة.
(22/31)
---(4/366)
وأذكركم بقول الله -تبارك وتعالى-: ?يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? [التحريم: 8]، وبالتالي أقول: على العبد أن يسعى في تحصيل هذا النور في الدار الآخرة، «أستسمحك دقيقة يا أخي الكريم؟»، لأنه في الحقيقة وقفت على كلمات جميلة، للإمام الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى-، وفي الحقيقة يعني تعجبني كلمات هذا الإمام لورعه وزهده وما أجرى الله -عز وجل- عليه من ضياء لامع في كتاباته فهي فيض من الله -عز وجل- وفق هذا الرجل إليه، يذكر -رحمه الله تبارك وتعالى- كلمات جميلة وهو يشرح هذه الآية يقول: «سَمَّى الله -سبحانه وتعالى- نفسه نورًا وجعل كتابه نورًا، ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- نورًا» -هو يعني أن الرسول جاء بالنور -صلى الله عليه وآله وسلم- وليس نورًا حسياً مادياً كما يزعم بذلك كثير من المتصوفة- «وجعل الله -عز وجل- أيضاً دينه الذي أنزله على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نورًا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورًا يتلألأ, قال الله تعالى: ?اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ?»
وقد فُسِّرَ بأنه منور السماوات والأرض، فسر بهذا، وإلا فأيضاً ?اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? ومن أسمائه النور، والذين يذكرون في التفسير بأن الله منور السماوات والأرض أو هادي أهل السماوات والأرض فهذا تفسير لهذه الآية ولا يتعارض مع اسم الله -سبحانه وتعالى- النور، لأنني كما ذكرت بأن النور من أسماء الله -عز وجل- وهو فعل من أفعاله أيضاً, فتنوير السماوات والأرض وتنوير عرش الرحمن من أفعال النور -سبحانه وتعالى- يعني من أفعال الله -عز وجل-.
(22/32)
---(4/367)
ثم يقول -رحمه الله-: «فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض» وهذا إنما هو فعله وإلا فالنور الذي من أوصافه وقائم به ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- قال: (قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بخمس كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه) القسط المراد به العدل، يعني يرفع أناساً ويخفض أناساً؛ لأن ميزانه بالعدل والحق، يرفع أهل الإيمان، ويخفض أهل الطغيان والعياذ بالله تعالى، (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وفي صحيح مسلم عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: (سألت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه) وبهذا الحديث أختم هذا اللقاء وأصلي وأسلم على المبعوث بالنور المبين من لدن رب العالمين والله أعلى وأعلم.
إجابات الحلقة الماضية:
كان السؤال الأول: هل يقدم السلام على الاستئذان أم العكس؟ اذكر الصواب مع الدليل؟
وكانت الإجابة:
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبدأ بالسلام قبل الاستئذان، وفي الحديث عن كلدة بن حنبل -رضي الله تعالى عنه- قال: (أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخلت عليه ولم أسلم فقال له -صلى الله عليه وسلم-: ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، انتهت الإجابة.
الإجابة في الحقيقة صحيحة، والاستدلال في موطنه، وهو أن يعني السلام قبل الاستئذان ولكن لو توسعت الإجابة ووضحت حتى يفهم من يتحدث إليه الإنسان لو سئل أو أن نعرف معاني القرآن الكريم؛ لأن الله -عز وجل- بدأ بالاستئذان في الآية قبل السلام، فنحن نقول: بأن هذا ليس مراداً به الترتيب والواو هنا لمطلق التشبيه ليس إلا، وبالتالي لا يتعارض الآية مع الحديث.
(22/33)
---(4/368)
السؤال الثاني: اذكر ثلاثة فوائد لغض البصر وكانت الإجابة؟
وكانت الإجابة:
فوائد غض البصر كثيرة ذكرها ابن القيم -رحمه الله تعالى- ومنها:
- يمنع أثر السهم المسموم الذي يصل إلى القلب فيفسده ويكسب القلب قوة ونوراً.
- ثانيًا: يورث الفراسة الصادقة فيصل للصواب فيما يأتي ويذر.
- ثالثًا: يسد على الشيطان مداخله إلى قلب الإنسان.
هذا الجواب صحيح في الحقيقة وجزاه الله خيراً.
الأخت الكريمة من سوريا تقول: أريد أن أسأل ما هو السن المناسب للزواج بالنسبة للرجل في خضم هذه المعمعة من النساء السافرات وهل هناك حرج في تزويج الشاب إذا كان ما زال صغيراً خوفاً عليه من الفساد، رغم أنه ما زال طالباً، فيقوم أهله بالصرف عليه وعلى زوجه، ريثما ينتهي من طلب العلم؟.
في الحقيقة الزواج في الإسلام مربوط بالقدرة والكفاءة عليه، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، والباءة هي المؤنة والقيام بحقوق الزوجية، فمن كانت تتوفر فيه هذه القوامة حتى ولو كان صغير السن، فلا حرج في أن يزوج أصلاً، وإن كان وسع الله -عز وجل- على ولي الأمر وزوج ابنه وكان هذا يقع كثيراً في الزمن الماضي فأمر يشكر عليه، ونقول له: جزاك الله خيراً بل ندعو عموم المسلمين من أهل الاستطاعة إلى أن يفعلوا ذلك.
الأخ الكريم من سوريا يقول: أرجو الإيضاح حول ما ذكره الله تعالى في سورة النور: ?وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ? ألا يشمل مال الرجل الذي تعيش عنده الفتاة؟ وهل هو محصور فقط في مال الزكاة الذي سبق وذكر أثناء الدرس؟ ولماذا شدد الله في القرآن على موضوع الزنا وما يؤدي إليه؟ نرجو ذكر بعض الأسباب للتوضيح وجزاكم الله خير.
(22/34)
---(4/369)
جزاه الله خيراً على سؤاله، في الجزئية الأولى: ?وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ? هذا الخطاب يشمل أو يوجَّه لعموم الناس، والفقهاء اختلفوا في هذه المسألة بالنسبة للسيد عموم الناس يعني يعطون من مال الله -تبارك وتعالى-، الذي أعطاهم من حيث أنهم يخرجون زكاة أموالهم وهذا مصرف من مصارف الزكاة فليدفعوه إلى من؟ إلى الأمة أو إلى العبد، هذا عموم الناس أما السيد فقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقالوا بأنه لو أعطاه من مال الزكاة لرجع إليه، ولهذا قلت: بأن على السيد أن يحط شيئًا مما كاتب عليه العبد أو كاتب عليه الأمة، يعني يحط شيئًا من المال، يعني يضع شيئًا من المال، فإن اتفقا مثلاً على ألف أو أكثر أو أقل فالعبد إذا اجتهد وقام وأدى ففي هذه الحالة يستحب له أن يضع عنه شيئًا من المال، ولا يأخذ منه جميع المال وعموم المسلمين بعد ذلك يعطون لهذا العبد أو للأمة من مصرف الزكاة وقد نص الله -سبحانه وتعالى- في كتابه على ذلك.
بقية السؤال.
يقول: ولماذا شدد الله في القرآن على موضوع الزنا وما يؤدي إليه؟.
لا شك أن الزنا جريمة بشعة لأمور متعددة:
(22/35)
---(4/370)
أولاً: هي خيانة للزوج، وتدنيس لعرضه، وإدخال عليه ما ليس منه، وتتسبب في مشاكل بعد ذلك اجتماعية خطيرة جدًا، ويترتب على ذلك أيضاً أمور لا تمت إلى الإسلام بصلة، بمعنى أن ولد الزنا يلحق بأبيه وليس منه، هذه من مفاسده، يلحق بالرجل، يعني مثلاً لو زنت امرأة وأتت بولد ليس من زوجها، وهي تحت فراش الزوج، ينسب هذا الولد لمن؟ سينسب للزوج، وسيأخذ إذن من تركته، وكل هذه مفاسد اجتماعية خطيرة، وإلى جانب ما توصل إليه اليوم ونحن نقول هذا لأنه أمر معلوم، ما توصل إليه اليوم العلم الحديث وفي السابق كانوا يعرفون شيئًا من ذلك، وكانوا يعبرون عنه بالسيلان والزهري وما إلى ذلك من الأمراض الخطيرة التي تفتك بالذين يرتكبون هذه الفواحش واليوم تعرفون مرض نقص المناعة المكتسب المعروف اليوم في العالم، وكم من الملايين مرضى بهذا الداء الخطير الذي فيه قضاء على حياتهم بسبب هذه الجريمة النكراء, وقد بلغت هذه الجريمة في الفحش أعلاه لما قال الله -عز وجل-: ?وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ?32?? [الإسراء: 32]، قال أهل العلم: الشيء الفاحش أو كلمة الفحش لا تطلق إلا على ما عظم فحشه يعني صار أمراً مستقبحاً للغاية وعظم فحشه وقبحه وضرره، هذه كلمة يسيرة, الحقيقة بعض إخواننا من أهل العلم لهم كتب في جرائم الزنا -والعياذ بالله تعالى- وما يؤدي إليه من فساد خطير ويستحسن للإنسان أن يقف على شيء من ذلك ليدرك جرم هذه الجريمة ويعلم في نفس الوقت عدل الإسلام والتشريع الحكيم الذي جاء من عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ليقطع دابر هذه الفاحشة وما يمكن أن يؤدي إليها.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: كيف يمكن الجمع بين غض البصر ورواية: نظر أمنا عائشة -رضي الله عنها- للأحباش وهم يلعبون ونظر المؤمنات للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب فيهم؟.
(22/36)
---(4/371)
قلت بالنسبة لغض البصر الموجه للرجال واجب عليهم، بالنسبة للنظر إلى النساء، وقد ذكرت بعضاً من الأحاديث المؤيدة لذلك، كقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة) ولما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفجأة، قال: (اصرف بصرك)، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى المرأة بحال، حتى ولا إلى الزينة الخارجة، يعني لا يلتفت إليها وإذا وقع النظر عفواً أو فجأة على المرأة وهي تسير في طريق أو جالسة في مكان أو هي داخلة بيت الله -عز وجل-، عليه أن يصرف بصره مباشرة.
أما بالنسبة لغض المرأة بصرها عن الرجال فهي مطلوبة بهذا أيضاً خاصةً إذا كان هذا النظر سيؤدي إلى شيء من الفتنة أو يكون من باب التلذذ بالرجل وما إلى ذلك، ومع ذلك أقول: بأن الرأي الراجح إن احتاجت المرأة أن تنظر إلى الرجال في أمر مشروع ونظراً ليست فيه استدامة بل أمور مؤقتة؛ لأن الوارد عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- وقصتها صحيحة في البخاري ومسلم وغيره لم تكن حياتها كذلك، وإنما كان أمراً مؤقتاً وهي نظرها إلى الأحباش، وأذكر أنني سئلت في الحلقة الماضية، بأن الرجل يأتي في مثل هذه القنوات التي نتحدث فيها وهي قنوات خير وتبث للمسلمين علماً نافعاً وتدعوهم إلى العمل الصالح، فالمرأة تنظر خاصةً في مثل تعدد القنوات في هذا العصر ودعوتها إلى كثير من الأمور المحرمة فهي بدائل صحيحة نافعة مفيدة للأمة فلو نظرت المرأة في مثل هذه الحالة لترى فأنا قلت: لا بأس عليها في هذا ولكن الأولى لها ألا تديم النظر فإن نظرت لكي تستفيد شيئًا من الكلام أو لتربط نفسها وقلبها وعقلها بالمتحدث في مسألة معينة أو جزئية معينة وحتى لا ينصرف ذهنها إلى شيء آخر، فأرجو أن لا يكون في هذا بأس -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
(22/37)
---(4/372)
وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الوارد في سنن الترمذي وغيره: (لما دخل عبد الله بن أم مكتوم بيت النبي -عليه الصلاة والسلام- وكانت فيه أم سلمة وميمونة -رضي الله تعالى عنهما- ونظرا إليه ونهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: احتجبا عنه، فقالا له: إنه أعمى يا رسول الله -قالتا له ذلك- فقال: أوعمياوان أنتم)، هذا في الحقيقة هذا حديث ضعيف وليس حجة في هذا الباب.
الأخ الكريم من العراق يقول: عندي سؤال بالنسبة لكشف الوجه واليدين واجب ولا سنة بالنسبة للمرأة؟
السؤال الثاني: لمشكاة في قوله تعالى: ?كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ? يعني هل نقدر أن نشبها بالمصباح؟
وبالنسبة للزواج من الكتابية هل بشرط أن تكون ملتزمة, وما يمكن أن توجد في الوقت الحاضر كتابية ملتزمة؟
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من العراق سؤاله الأول: عن كشف اليد الوجه واليدين بالنسبة للمرأة.
(22/38)
---(4/373)
في الحلقة الماضية يعني فصلت القول في ذلك وقلت بأن نفس الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- يعني اختلفوا في هذه المسألة وقد ذهب عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- وجماعة معه إلى أن الوجه والكفين عورة، ولا يجوز للمرأة أن تبدي شيئًا من ذلك، وذهب ابن عباس ومعه طائفة أيضاً إلى أنه يجوز للمرأة أن تكشف ذلك عند أمن الفتنة، ولا تضع ما يعرف اليوم مما تضعه النساء وما إلى ذلك، وقلت: بأن أرجح الأقوال وأولاها وأقواها في هذه المسألة أن تتستر المرأة كاملة؛ لأنها فتنة ولأن الجمال منصب في الوجه وذكرت أيضاً في اللقاء الماضي لأنه فيه قرائن في الآية ?وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَ? [النور: 31]، تدل على أن المراد بذلك هي الزينة الظاهرة من الثياب وما إلى ذلك لأن ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها هو الذي يقال عنه زينة، ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها هذا هو الزينة، أما لم يأتِ في لغة العرب أن الزينة تطلق على جزء من بدن المرأة وشيء فيها, فهذا دليل يرجع على أن كشف الوجه وكذلك اليدين لا يجوز والأولى ألا تكشفهما المرأة.
ولكن أقول: لو أن امرأة تسترت في جميع بدنها ولم تبدِ إلى وجهها وكفيها فلا يصيبها الإنسان بشيء من الأذى أو الكلام الساقط أو يطعن عليها في شرفها ودينها وما إلى ذلك، والله أعلم.
سؤال الثاني عن قول الله -عز وجل-: ?كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ? هل يمكن أن تشبه هذه الآية بالمصباح؟.
هي الآية ذكرت الإيمان ونور الإيمان في قلب المؤمن، وما هو عليه بالمصباح المضيء، بالمصباح المضيء وأنا قلت بأن المشكاة هي الكوة ولعل هذا هو الراجح، يعني الفتحة في الجدار والمصباح هو السراج المضيء في هذه الكوة، وأشارت إليه الآية هكذا لأنه إذا كان محصوراً في مكان ضيق كان ضوؤه أشد، وظهر ضوؤه بشدة, وهذا هو هو نور الإيمان في قلب المؤمن.
(22/39)
---(4/374)
سؤاله الثالث: هل موجود في هذا الزمان امرأة كتابية ملتزمة؟.
هل يوجد في الزمان، أنا لا أعرف ولا أرغب في ذلك، إن بحث هو ووجد فليخبرنا إذن.
الأخ الكريم يقول: في قول الله -عز وجل-: ?وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?، ألا تعد المرأة الكتابية مشركة؟ وإن كان هناك استثناء نرجو التوضح؟.
لا شك أن المرأة الكتابية مشركة، وقد جاء في بعض الآثار عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: (لا أرى شركاً أعظم من أن تقول: بأن ربها ثلاثة)، ولكن نقول هذه الآية عامة، خصصتها آية سورة المائدة، فالآية عامة في المرأة أولاً، يعني أن المرأة المسلمة لا تنكح برجل كافر أبداً، والآية عامة في أن يتزوج الرجل من امرأة كافرة أو مشركة أيضاً بصورة عامة ولكن أهل الكتاب خصصتهم آية سورة المائدة، آية أهل الكتاب فقط، وبالشروط التي هي مذكورة وهي أن تكون محصنة أو أن تكون عفيفة، وسورة المائدة من آخر ما نزل في كتاب الله -تبارك وتعالى-، تعرفون أن القرآن الكريم فيه عام وفيه خاص، ?وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ? هذه آية عامة، خصصت بآية سورة المائدة، ويبقى العموم فيها لغير أهل الكتاب، فلا يجوز للإنسان مثلاً أن يتزوج كافرة ملحدة أو من يعرفون بالهندوسي أو البوذيين أو السيخ أو ما إلى ذلك، لا يجوز للإنسان أن يتزوج من هؤلاء، واستثني أهل الكتاب فقط من المشركات، وهن مشركات ونسأل الله أن يتوب عليهن.
?وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ? [النور: 31]، في هذا دليل كاف على أن الزينة هي المقصود بها زينة المرأة الخارجية؟.
(22/40)
---(4/375)
هذا أيضاً من الأدلة، وأذكر في اللقاء الماضي أشار أحد من المستمعين معنا إلى هذا الأمر وقلت: بأن هذا فيه قاعدة عظيمة جدًا في الإسلام وهي ما تعرف بقاعدة سد الذرائع لأن الضرب بالرجل مباح، ولكنه لما كان يؤدي إلى هذا الفعل فحرم من أجل ذلك، ويشمل هذا ليس فقط أنها تضرب ليظهر صوت ما برجليها، هذه الآية يدخل فيها كل ما يمكن أن تفعله المرأة من كلمة أو حركة تبدي شيئًا من ذلك.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة..
السؤال الأول: ما المراد بكلمة ?الأيَامَى?؟ وهل يجوز أن يتزوج الحر الأمة بإطلاق؟ وضح ذلك.
السؤال الثاني: ما معنى: ?لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ?؟ وما المراد بقوله تعالى: ?يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ?؟
وانتهت الأسئلة.
(22/41)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الثالث والعشرون
الدرس الثالث والعشرون: تفسير سورة النور
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين والمشاهدين والمشاهدات, ويسعدني في هذا اللقاء أن أتناول بعضاً من آيات سورة النور التي أنا بصدد الحديث عنها والكلام حولها -بإذن الله -تبارك وتعالى-, و-إن شاء الله تعالى- محاور هذا اللقاء هي كالتالي:
المحور الأول: أذن الله ببناء المساجد ورفعها وعمارتها وتطهيرها.
المحور الثاني: أهل الإيمان لا تلهيهم تجارة عن ذكر الرحمن.
المحور الثالث: مثلان ضربهما الله تعالى للكفار.
المحور الرابع: الكون يسبح لله وهو ملك له دون سواه والآن نستمع إلى آيات هذا اللقاء:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(23/1)
---(4/376)
?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ ?36? رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ?37? لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ?38? وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ?39? أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ?40? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ?41? وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ?42??
(23/2)
---(4/377)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ?102?? [آل عمران: 107]، ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً?1? ? [النساء: 1]، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ?70? يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ?71? ? [الأحزاب: 70].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله -تبارك وتعالى- وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ثم أما بعد.
أيها الكرام بعدما استمعنا إلى هذه الآيات من كتاب الله -عز وجل- أبدأ -بعون الله وتوفيقه- في دراستها وتأملها وبيان شيء من معانيها، والآية الأولى معنا في هذا اللقاء تندرج تحت المحور الأول منها وهو:
المحور الأول: أذن الله برفع المساجد وعمارتها وتطهيرها:
(23/3)
---(4/378)
وأبدأ -بقول الله جل ذكره-: ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ? الله -تبارك وتعالى- لما ضرب مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة وكان أكثر ما يقع ذلك في المساجد وهي بيوت الله -تبارك وتعالى- في أرضه عقب رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بالإشارة إلى بيوته وإلى أمره بإقامتها كما سيأتي بيان ذلك بعد قليل -إن شاء الله تعالى-.
وأود أن أقول في مقدمة يسيرة بأن قول الله -عز وجل-: ?فِي بُيُوتٍ? يشير إلى أن هذه البيوت ألا وهي مساجد الله -عز وجل- في أرضه هي أحب البقاع إلى الله -تبارك وتعالى- ففيها يجتمع المسلمون ويتم بينهم ما يتم من الترابط والتآلف والتحابب وما إلى ذلك وفيها تؤدى الشعائر التعبدية لله -عز وجل- وفي تعقد حلقات العلم وفيها وفيها مما هو معلوم لدى كثير من الناس اليوم ولكن المهم أن يستفيد المؤمنون من بيوت الله -تعالى- في أرضه وأن يعمروها كما أمر ربنا -عز وجل- في كتابه لأن هذه البيوت هي أشرف بقاع الله تعالى في أرضه وهي التي تبني الرجال وتصنع الأبطال وكانت مساجد المسلمين في السابق وأقول -إن شاء الله تعالى- إلى يومنا هذا منارات إشعاع وعلم تهدي الناس إلى الحق وإلى طريق الله المستقيم بل إن مساجد المسلمين كانت وأقول -إن شاء الله تعالى- وستظل كانت بمثابة جامعات عالمية ربما لم ترقى جامعات اليوم إلى أن تخرج رجال الذين خرجتهم هذه المساجد فلو نظرنا إلى الحرمين الشريفين وما يؤديانه من دور كبير في الإرشاد والتعليم والتوجيه والناس يؤمون المسجدين من قديم الزمن لتلقي العلم والعبادة لوجدنا في ذلك شيئا عجبا وكم من أناس شدوا الرحال ولم يكونوا يعرفوا شيئا فتعلموا العلم هناك وألقى الله -عز وجل- في قلوبهم الهداية والنور والتوفيق.
(23/4)
---(4/379)
وإذا تحدثت عن كبار المساجد أشير أيضا إلى جامع الزيتونة في تونس وهناك يعد بمثابة جامعة جامع القرويين في المغرب جامع عمرو بن العاص والأزهر في مصر كل هذه جوامع رائدة كانت تمسك بزمام الأمور في البلاد وتؤدي حقا رسالة المسجد التي أراد الله -عز وجل- أن تقوم بدورها المساجد.
فالمساجد أيها الإخوة المخاطبون لها مكانتها ولها قيمتها في الإسلام ومما يدل على ذلك أن أول شيء فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بمجرد أن وطأت قدماه المدينة النبوية قام ببناء مسجد قباء -صلى الله عليه وآله وسلم- ولما انتقل منه بعد أيام معدودة إلى مكان مسجده الآن وبركت ناقته -صلى الله عليه وآله وسلم- مكان المسجد قام -عليه الصلاة والسلام- بتشييد مسجده المبارك -صلوات الله وسلامه عليه- والله -عز وجل- يخبر في كتابه أنه أمر وأذن ووصى -عز وجل- أن تقام هذه البيوت ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ? ويدخل في رفع بيوت الله -عز وجل- بناؤها وتنظيفها وترميمها وكنسها وخدمتها والاعتناء بها وإقامة الشعائر التعبدية فيها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه ..... إلى سائر ما هو معلوم من دور المسجد بصورة عامة فليس المقصود من قوله تعالى: ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ? أن تقام أعمدة وأبنية فحسب وإنما ترفع وهذا أمر واجب وهذا أمر مطلوب لأن في رفعها تمهيداً ومقدمة للقيام برسالة المسجد ومباشرة ما يمكن أن يحدث في هذا المسجد من علم وعبادة ومعرفة وانطلاق للدعوة إلى الله -عز وجل- وما يؤديه المسجد من دور اجتماعي كبير وما إلى ذلك؛ ولذلك نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته يحض ويحث عموم المسلمين إلى أن يسارعوا في عمارة المساجد وبنائها فمثلاً في حديث الصحيحين من رواية عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنه قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم –: من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)(4/380)
(23/5)
---
وهذه في الحقيقة جائزة عظيمة جداً لمن أحب أن يكون له مقعد في الجنة يقول رب العزة والجلال وبأمره ببناء بيت لهذا الرجل الذي بنى لله -سبحانه وتعالى- في هذه الدنيا التي نحيا فيها الآن مسجداً لله -عز وجل- وفي المقابل يحذر رب العزة والجلال من القوم الذي يصدون عن سبيل الله -عز وجل- ويسعون في خراب بيوت الله في أرضه ?وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَ? [البقرة: 114]، شتان بين من يبني بيوت الله -عز وجل- ويقوم على الحفاظ عليها وعلى مدارسة وطلب العلم فيها وعلى تنفيذ هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في بنائها وأعني بذلك عدم الزخرفة والزينة والتوسع في البنيان وما إلى ذلك وأعني بذلك أن يستغل المسجد استغلالاً صحيحاً بمعنى أن يقوم على هدي من الله -عز وجل- كما جاء في كتابه وعلى هدي من سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- في بعض أحاديثه ذكر بعضاً من الأعمال التي تمارس في المسجد وماذا للمسلم الذي يقوم بفعها (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله -تبارك وتعالى- يتلون كتاب الله -عز وجل- ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).
(23/6)
---(4/381)
ثم يقول رب العزة و الجلال بعد أن أمر وأذن ووصى بأن تقام بيوته في أرضه: ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ ? قال -سبحانه وتعالى-: ?وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ? وهذه فائدة عظيمة يجب على عموم المسلمين أن يقفوا عندها وأن يتأملوها, لماذا أقيمت المساجد؟ لماذا أمرنا بأن نرفع بيوت الله -عز وجل- في أرضه وأن نقوم بالاهتمام بها وبالعناية بشأنها وبما تحتاج إليه؟ كل ذلك ليذكر اسم الله -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه، وتأملوا قول الحق -جل ذكره-: ?قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ?29? ? [الأعراف: 29]، فقوله: ?وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ? بعد أمره لنا أن نقيم وجوهنا عند كل مسجد يدل على أن المساجد لم تبنَ إلى لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها وحده دون سواه ويؤكد هذا المعنى بعض آيات الله -عز وجل- أيضا في القرآن كقوله -سبحانه وتعالى-: ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا ?18? ? [الجن: 18]، بيوت الله -عز وجل- يجب أن يُخلص فيها الدين لله -سبحانه وتعالى- ولذلك من هذا المنطلق نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بناء المساجد على القبور, ولعن من يفعل ذلك, لماذا؟ لأن هذا فيه دعوة إلى الشرك -والعياذ بالله تعالى- وإننا نحد كثيراً في المساجد التي أقيمت على القبور يدخل العبد يصلي فيها -إن زعم- لله عز وجل وبعد أن يصلي أو قبل أن يصلي يتوجه إلى صاحب القبر أو إلى صاحب الضريح رافعاً أكف الضراعة إليه يدعوه دون الحق -تبارك وتعالى- ولذلك بيوت الله -عز وجل- في أرضه التي أمر ربنا -سبحانه وتعالى- بإقامته لا يذكر فيها إلا اسم الله -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه. ومن هنا كما ذكرت النبي -صلى الله عليه وسلم- يلعن من يبني مسجداً على القبر (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا إني(4/382)
(23/7)
---
أنهاكم عن هذا) وهناك من الأحاديث ما يربو على أعداد كثيرة للغاية تبين هذا المعنى وتوضحه, وأيضاً طالما أن الله -عز وجل- قال: ?وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ? نستفيد من ذلك أن المساجد وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في سنته لا يباع فيها ولا يشترى ولا ترفع فيها الأصوات وما إلى ذلك, والنبي -عليه الصلاة والسلام- في سنته أمرنا بأننا إذا وجدنا من يبيع أن يشتري في المسجد في بيت من بيوت الله -عز وجل- أن ندعو عليه وأن نقول له: (لا أربح الله بضاعتك) وإذا وجدنا من ينشد ضالته ينشد شيئاً فقده ينشده في المسجد أن نقول له: (لا رد الله عليك) يعني لا رد الله عليك ما تدعو به أو تنادي عليه في داخل المسجد وفي البخاري أيضاً: (أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سمع أصواتا في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرج فوجد رجلين قد ارتفعت أصواتهما في مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو لا يعرفهما فاستدعاهما من أين أنتما؟ قالا: من الطائف, فقال لهما -رضي الله عنه-: لو كنتما من أهل هذه البلدة لأوجعتكما ضربا) العلة في ذلك أن هذه المساجد لم تبنَ إلا لإقامة ذكر الله -تعالى- فلا يرفع فيها صوت إلا إذا كان يتوجه به صاحبه إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ?وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ? ومما يقام في بيوت الله -عز وجل- في أرضه ما ذكرته بعد ذلك هذه الآية ?يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ?، ?يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا? يعني يسبح القائمين فيها لله -عز وجل- ?بِالْغُدُوِّ? المراد بالغدو: أول النهار والآصال ما يكون في آخر النهار ونستفيد من ذلك العناية والاهتمام بصلاتي الفجر والعصر لأن الأولى في أول النهار والآخرة في نهاية النهار وقد ذكر بعض أهل العلم وأشار إلى ذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- أن الفجر والعصر هما من أول ما افترض الله -عز وجل- على عباده ونقول بأن لله -سبحانه وتعالى- خص هذين(4/383)
الوقتين بالذكر
(23/8)
---
لمكانتهما عند الله -سبحانه وتعالى- وشرفهما عنده, والنبي -عليه الصلاة والسلام- أشار إلى ذلك في سنته لما قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار).
وقد قرأ الجمهور: ?يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا? يسبِّح بالبناء للفاعل وفاعله إذن سيكون رجال، وهنا إذا قرأ القارئ على قراءة الجمهور وهي القراءة التي نقرأ بها اليوم علينا ألا نقف على والآصال؛ حتى لا نفصل بين الفعل والفاعل لأن هذا لا يستحسن في لغة العرب فنقول: ?يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ ?36? رِجَالٌ ?37?? وعلى قراءة يُسبَّح بالبناء للمفعول فالوقت على والآصال سيصبح كلاماً تاماً و?رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ? ستكون جملة مستأنفة بعد ذلك ?يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ?.
ثم ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- من هم هؤلاء القوم الذين يسبِّحون له بالغدو والآصال هذا يأتي في المحور الثاني وهو بعنوان:
المحور الثاني: أهل الإيمان لا تلهيهم تجارة عن ذكر الرحمن:
وتحته هذه الآية: ?رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ? قول الله -عز وجل- هنا: ?رِجَالٌ? يدل على همم عالية؛ لأن الوصف بالرجولة وصف كريم وصف له مكانته خاصة حينما يصف به رب العزة والجلال بعض الناس لأن الله -سبحانه وتعالى- وصف به قوما آخرين في آية أخرى في سورة الأحزاب فقال: ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ?23? ? [الأحزاب: 23]، فقوله هنا ?رِجَالٌ? كلمة مدح لهؤلاء القوم وتدل كما ذكرت إلى أن هؤلاء القومن لهم همة عالية وعندهم تنافس وتسابق إلى فعل الخيرات.
(23/9)
---(4/384)
ويفهم أيضاً من قول الله -تبارك وتعالى- هنا: ?رِجَالٌ? وقبله ?يُسَبِّحُ لَهُ? يعني في المساجد لله -عز وجل- بعدها ?رِجَالٌ? أن النساء لسن كالرجال في حكم الخروج إلى المساجد, فصلاة الجماعة واجبة على الرجال ولكنها ليست بواجبة على النساء, وهناك من هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعض الأحاديث الواردة عنه التي تبين وتفيد هذا الحكم وهذا المعنى وهو أن النساء لسن كالرجال في حكم الخروج إلى المساجد لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- يقول: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها) هو هنا يبين -صلى الله عليه وسلم- أنه كلما كانت المرأة في داخل قعر بيتها وليس في فنائه وتصلي يكون ذلك أقرب إلى التقوى, وكما ذكرت ذلك الآن أذكر أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قال هذا الحديث أمر الأزواج بألا يمنعن أزواجهن إذا طلبن الخروج إلى المساجد, يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تكون الأمور متوازنة النبي -عليه الصلاة والسلام- بين أولاً أن صلاة المرأة في بيتها أفضل لها من صلاتها في المسجد وقد يقول قائل: حتى في بلاد الحرمين؟ أقول بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذا الكلام وهو في المدينة النبوية وهذا الكلام ينطبق إذن على ذهاب النساء إلى مسجده -عليه الصلاة والسلام- ونحن نعلم بأن مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- له أجر كبير عن غيره من المساجد فهو يفضل سائر المساجد إلا المسجد الحرام ومع هذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك, ومع هذا أقول بأن المرأة إذا استأذنت زوجها في الخروج إلى المسجد فعليه ألا يمنعها من ذلك إذا كان هناك أمن من الفتنة لقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله -عز وجل-) ولكن إذا خرجت المرأة إلى بيت الله -عز وجل- فلا تخرج إلا بشروط معينة منها ما ذكرته مثلاً(4/385)
(23/10)
---
زينب زوجة عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- وروته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول: للنساء (إذا مست إحداكن طيباً فلا تشهد المصلى) إذا المرأة وضعت طيباً فلا تخرج من بيتها حتى تشهد الصلاة مع الجماعة لأنها في هذه الحالة ستؤدي إلى الفتنة ولذلك قال العلماء: للمرأة أن تخرج إلى المسجد بشروط منها ما ذكرته هنا زوج عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- وما فهم من بقية الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن التشريع الذي أتانا من عند الله -عز وجل- وجماع ذلك ما أطلق عليه الفقهاء عند أمن الفتنة, يعني أنها تخرج إذا لم تفتن غيرها فلا تتزين ولا تتطيب ولا تمشي في الطرقات تزاحم الناس في دخولهم وخروجهم وألا يكون في مظهرها ما يؤذي رجال المسلمين كخلخال أو ما إلى ذلك, كل هذا منهي عنه إذا خرجت المرأة إلى المسجد وإذا لم تفعل ذلك لا شك أن منعها في هذه االحالة هو المتعين؛ ولذلك أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لو أدرك رسول الله -صلى الله عليه ,آله وسلم- ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد) ولكن لا يجوز لنا بعد هذا أيضاً أن نخالف هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وسنته بمعنى أن المرأة إذا التزمت بالشروط الواردة في الأحاديث النبوية واستأذنت من زوجها أن تذهب لتشهد المصلى مع المسلمين لتحصل علماً أو تشاهد جماعةً أو ما إلى ذلك فلا يمنعها زوجها وذلك عند أمن الفتنة.
(23/11)
---(4/386)
?رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ? أفادت هذه الآية أن الله -عز وجل- أثنى على هؤلاء الرجال وزكاهم بأن التجارة والبيع والشراء وما يحتاجون إليه من أمور الدنيا لا يلهيهم عن ذكر الله -تبارك وتعالى-، ومدهم بذلك ويفهم من هذا أن من أخل بهذه الصفات سيكون ماذا سيكون مذموماً لأن الله -عز وجل- أثنى على قوم ?لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ? وبالتالي من ألهته التجارة والبيع عن ذكر الله -عز وجل- فهو مذموم والله -عز وجل- قد نص على ذلك في كتابه: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ?9? ? [المنافقون: 9]، وكقوله ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?9? ? [الجمعة: 9] فوصف هؤلاء الرجال بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله أن من ألهته تجارته وبيعه عن ذكر الله -تبارك وتعالى- ليس من الرجال الذين أثنى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- عليهم.
ثم قال -سبحانه وتعالى-: ?لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ? هنا ذكر الله -عز وجل- إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فحسب وليس إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هي كل العبادات وإنما هو أشار بذلك إلى بعض العبادات المهمة الضرورية التي لابد للمسلم أن يأتي بها وهي في الواقع تؤدي إلى بقية ما افترض الله -عز وجل- على عباده؛ لأن من صلى لا يمكن بحال من الأحوال أن يترك الصيام أو يترك الحج إن قدر عليه لأن الصلاة ستأمره بالمعروف وستنهاه عن المنكر.
(23/12)
---(4/387)
ومن أعطى زكاة ماله لم يقصر في أن ينفق في سبيل الله -عز وجل- على الفقراء والمساكين وطلبة العلم والمحتاجين وما إلى ذلك والله -عز وجل- لم يقتصر هنا على عبادة واحدة من العبادات وإنما أشار إلى العبادات كلها في ذكره لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ومعنى ذلك أن العلماء قالوا بأن العبادات تتنوع إلى أربعة أنواع عبادات قلبية وعبادات قولية وعبادات بدنية وعبادات مالية لو نظرنا إلى قوله تعالى:?وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ? نجد أن ذكر الله -عز وجل- لهذين فقط يؤديان إلى الأربعة أنواع كاملة فإقام الصلاة يكون فيها عبادة قلبية لأن العبد مطلوب منه أن يخشع في صلاته بقلبه ويؤدي فيها عبادة قولية لأنه يقرأ فيها القرآن ويسبح ويذكر الأوراد الشرعية الواردة في هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الصلاة، ثم بعد ذلك هو يقوم بجسده فتكون عبادة بدنية وإيتاء الزكاة عبادة مالية فتكون بذلك أنواع العبادات الأربع قد تحققت في قوله -تبارك وتعالى-: ?وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ?.
(23/13)
---(4/388)
ثم يقول سبحانه: ?يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ? ذكر الله -عز وجل- هنا أن الرجال الذين يسبحون له ويعبدونه ويقومون بالطاعات لله -عز وجل- يفعلونها وهم موصوفون بالخوف والوجل من الله -عز وجل- وذلك من يوم القيامة؛ لأنه يوم شديد فيه أهول عظيمة وقد سبق أن أشرت إلى ذلك عند بعض الآيات التي وردت معنا في هذا المعنى, فهم ?يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار? والله -عز وجل- قد ذكر عن هذا اليوم أشياء عظيمة فعلاً تجعل المتأمل يخاف مما هو مقدم عليه فتأمل مثلا قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ?18? ? [غافر: 18]، أو تأمل قول الله -عز وجل-: ?فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ?17?? [المزمل: 17]، وكقوله سبحانه عن أهل الإيمان وهو يؤكد هذا المعنى: ?إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا ?9? إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ?10?? [الإنسان: 9: 10]، والمراد بتقلب القلوب والأبصار هنا تقلب القلوب: حركتها واضطرابها وهذا سيكون بكل كافر ومقصر في حق الله -عز وجل- في يوم الدين ويمكن أن نفهم تقلب القلوب هنا من الآية التي ذكرتها آنفا وهي قول الله -عز وجل- ?وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ? وأنا أقول تتقلب تتحرك وتضطرب فلعلها تتحرك حتى تصل إلى حنجرة الإنسان أما المراد بالأبصار هنا فالمراد بها زيغانها ودورانها كما عبر القرآن الكريم عن ذلك في قوله: ?فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ? [الأحزاب: 19]، فكذلك تتقلب فيه القلوب والأبصار يعني أن الأبصار ستدور وستزيغ في هذا اليوم(4/389)
(23/14)
---
ثم يقول سبحانه: ?لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ? الظاهر أن اللام في قوله تعالى: ?لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ ? متعلقة بقوله ?يُسَبِّحُ? يعني هؤلاء الرجال يسبحون لله -عز وجل- ويخافون يوما لماذا؟ ?لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ? وهذا يفيد أن الله -سبحانه وتعالى- يتقبل منهم حسناتهم وأنه -عز وجل- يتجاوز عن سيئاتهم وأنه يضاعف لهم الحسنات ليجزيهم الله ماذا قال؟ ما قال: ما عملوا وإنما قال: ?أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ? وفيه إشارة إذن إلى مضاعفة الحسنات وقد نص الله على ذلك في آيات أخر في كتابه كقوله: ?إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ?40?? [النساء: 40]، وكقوله سبحانه: ?مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ? [الأنعام: 160]، وكقوله ?مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ? [البقرة: 245]، وقوله -عز وجل- هنا بعدها: ?وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ? فيه إشارة إلى هذا الفضل وإلى هذه الزيادة وإلى أن عطاء الله -سبحانه وتعالى- واسع.
(23/15)
---(4/390)
وقد قال بعض العلماء في هذه الآية فائدة عظيمة للغاية أرجو أن تعضوا عليها بالنواجز، قالوا: قول الله -عز وجل- هنا: ?وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ? هذه الزيادة هي كالزيادة في قول الله -سبحانه وتعالى-: ?لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ? [يونس: 26] فمعنى إذن ?لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ? يعني يضاعف لهم الحسنات ويعطيهم جزيل الثواب على ما قدموا و?يزيدهم من فضله? كقوله: ?لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ? وما المراد إذن بالزيادة في قوله: ?لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ?؟ الحسنى الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الله -تبارك وتعالى-, وقد فسر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في صحيح مسلم من حديث صهيب -رضي الله تعالى عنه-: (الزيادة بالنظر إلى وجه الله -تبارك وتعالى-) وبعد تفسير النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لا يمكن أن نلتفت إلى كلام غيره فقد أخبر -عليه الصلاة والسلام- بأن المراد بأن المراد بالزيادة في قوله: ?لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ? النظر إلى وجه الله وكذلك أيضا في قوله: ?لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ?35? ? [ق: 35]، وهنا نقول: ?لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ? إشارة إلى رؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة, وأقول ذلك لأن رؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة هي في الحقيقة أعظم ما يناله المؤمن من نعيم وهو يتنعم في أعظم درجات النعيم, أعظم وأعلى شرف لأهل الإيمان وهم يتنعمون في الجنة أن يأتيهم رب العزة والجلال من فوقهم ويقول لهم: السلام عليكم يا أهل الجنة وهو معنى قول الحق -تبارك وتعالى- في كتابه ?سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبِّ رَّحِيمٍ ?58? ? [يس: 58]، وهذا يدعونا إلى أن نتطلع وأن نسعى وأن نجتهد في أن نكون ممن يتطلعون إلى أن يروا رب العزة والجلال وهم(4/391)
(23/16)
---
يتنعمون في الجنة لأن هذا كما ذكرت هو أعلى نعيم أهل الجنة, ولذلك الإمام الحافظ بن القيم -رحمه الله تعالى- عقد فصلاً في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح تكلم فيه عن رؤية المؤمنين لربهم في الدار الآخرة وقدم لها بسطر أو كلام جميل قال: «هي الغاية التي شمر لها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون وسعى لها الساعون وحرمها الذين هم عن ربهم لاهون»
فعلى أهل الإيمان أن يسعوا في تحقيق هذا الفضل العظيم ?وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ? هو ختام جميل لهذه الآية وقوله: ?وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ? يدخل فيه إذن دخولاً أولياً تمتع المؤمن برؤية ربه في الدار الآخرة لأن هذا رزق يسوقه الله للعبد يمتعه به لأن الرزق هو ما يأتيك من قبل رب العزة والجلال ونحن ياعباد الله يأتينا رزق آناء الليل وأطراف النهار من الله -عز وجل- فالله -سبحانه وتعالى- تكفل بحياة كل حي في هذه الحياة الدنيا تكفل برزق الأحياء جميعاً ?وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ? [هود:6]، والرزق بيد الله -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه في الدنيا وأيضا في الآخرة كذلك, بل الرزق في الدنيا يأتيه ضعف أو يأتي عليك فيه تضييق أو أنك تنتقل وتتركه أو أنه ينقطع عنك لأي سبب من الأسباب أما رزق الآخرة فما له من نفاد كما قال الله -عز وجل-: ?إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ?54? ? [ص: 54]، وكما قال سبحانه: ?وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ?62? ? [مريم: 62] والرزق كما ذكرت بيد الله وحده فلا تبتغى الأرزاق إذن إلا من الله فعند الرزاق تبتغى الأرزاق ولذلك نعى الله -سبحانه وتعالى- في كتابه على من يطلبون الرزق من غيره: ?إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ(4/392)
الرِّزْقَ
(23/17)
---
وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ?17? ? [العنكبوت: 17]، ولذلك نجد أن مريم -عليها السلام- نسبت ما يأتيها من رزق إلى رب العزة والجلال سبحانه: ?كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ?37?? [آل عمران: 378 ]، وقوله هنا: ?واللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ? رغم أن الله -عز وجل- تكفل بأرزاق العباد جميعاً ليعلم الناس أن الغنى والفقر وأن السعة والضيق بيد الله -سبحانه وتعالى- فهو إذا شاء وسع على فلان وبسط له في رزقه وإن شاء ضيق على آخرين أو قصر عليه وضيق عليه في الرزق ولله -سبحانه وتعالى- فيما يفعل حكماً بالغة.
المحور الثالث: مثلان ضربهما الله تعالى للكفار:
(23/18)
---(4/393)
وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ? إلى آخر ما جاء في هذا في هذا السياق هنا ضرب الله -عز وجل- مثلين لنوعي الكفار وسأبين الآن ذلك بعد قيل, ولكني أود أن أشير أيضاً إشارة ذكرها الإمام ابن كثير عندكم في التفسير وهو أن الله -عز وجل- ضرب هنا مثلين للكفار وضرب أيضاً في أول سورة البقرة مثلين للمنافقين مثل ناري كما عبر عنه ومثل مائي، المثل النار لمن نفاقهم نفاقاً كبيراً غليظاً مستحكماً نفاقاً اعتقادياً قد استحوذ على عروقهم وعلى دمائهم وعلى أعصابهم وهذا وارد في قوله تعالى: ?مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ? [البقرة: 17]، أما المثل المائي فضربه للمنافقين الذين نفاقهم أخف من السابقين وهو ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى- أيضا في سورة البقرة: ?أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ? [البقرة: 19]، وقد ضرب الله -عز وجل- أيضاً مثلين للحق في ثباته وقوته وبقائه وللباطل في فنائه واضمحلاله وقد ضرب هذا المثل أيضاً في سورة الرعد في قول الله -تبارك وتعالى-: ?أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ? يشير إلى ما نزل من عند الله -عز وجل- ثم يبين أو يضرب المثل الأول للحق: ?فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ ? [الرعد: 17]، وهو الحق فيبقى في الأرض.
هذا مثل ضربه الله -عز وجل- للحق في قوته في ثباته في بقائه في نفعه, وضرب أيضا مثلا للباطل في فنائه واضمحلاله وذهابه.
(23/19)
---(4/394)
والآية التي معنا هنا ضربت أيضاً مثلين لنوعي الكفار المثل الأول: لمن بلغوا في الكفر مبلغاً عالياً عظيماً حتى صاروا فيه أئمةً, والمثل الثاني: للمقلدين لهؤلاء الكفار:
المثل الأول: للكفار الذين بلغوا كما ذكرت في الكفر مبلغاً عظيماً يقول الله عنهم: ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً ? السراب كما تعلمون هو ما يظهر للمسافر في الصحراء ويكون بعد منتصف النهار يظهر للمسافر كأنه ماء والمسافر غالباً يكون بحاجة إلى أي شيء؟ إلى الماء والآية حينما تقول: ?كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ? يعني تفيد أنه يسير في أرض فلاة لأن كلمة ?بقيعة ? تفيد أنها أرض منبسطة متسعة فهي أرض صحراء فيتوقع أن السائر فيها بحاجة إلى ماء فالذين كفروا, تأمل تشبيه الله -عز وجل- لأعمالهم التي عملوها في الدنيا حتى ولو كان فيها ما فيها من الخير ?أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ? والسراب هو ما يظهر كما ذكرت للمسافر بعد منتصف النهار في الأرض المنبطحة الواسعة الفسيحة. سراب يظهر لهذا المسافر ?يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ? هذا المثل ضربه الله -عز وجل- لمن بلغوا في الكفر مبلغاً كبيراً وهم كما أشرت وذكرت في نفس الأمر دعاه إلى كفرهم وإلى ضلالهم وهم يحسبون أنهم على شيء من الخير أو من السداد أو من التوفيق أو ما إلى ذلك وكل ذلك لا يكون والله -عز وجل- قد ذكر عن الكفار وأعمالهم في كتابه ما يوضح به معنى هذه الآية كقوله جل ذكره: ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا?23?? [الفرقان: 23]، قدم الله -عز وجل- يعني أتي بما قدموه وبما فعلوه وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً وقد ذكر الله -عز وجل- ذلك في أواخر سورة الكهف وبين وأخبرنا في قوله: ?قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً? من هم يا ربي؟ ?الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي(4/395)
(23/20)
---
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ?104?? [الكهف: 103: 104]، فهؤلاء الكفار الذين يظنون أن لهم نصيراً عند الله -عز وجل- وقد بلغوا في الكفر مبلغاً عظيماً ليس لهم عند الله في الآخرة من خلاق.
قد يقول قائل: أليس لهم في الدنيا نصيب؟ يعني إن فعلوا خيراً والله -عز وجل- أخبر أنهم ليس لهم حظ في الآخرة عند الله -عز وجل- نقول: لأن الله -عز وجل- إذا شاء أعطى من له خير منهم حظه في هذه الحياة الدنيا والله -عز وجل- قد نص على ذلك في كتابه: ?مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ?20? ? [الشورى: 20]، ?وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ? وكلمة هنا: ?ووجد الله عنده ? لما تأتي بعد قول: ?يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ ? هذه أعتقد لو قرأها عاقل وتأمل في معناها تجعله يقف ويتأمل ويتدبر إلى أين أنت سائر في الكفر؟ لأنه ?وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ ? يعني ووجد عقاب الله -عز وجل- ينتظره وما أعده الله -سبحانه وتعالى- لهؤلاء بعد أن أخبر -عز وجل- قبل كلمات أن ما فعله وسعى فيه وإن ظن أنه يفعل خيراً كالسراب الذي لا حقيقة له ويؤكد ذلك ما في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يقال يوم القيامة لليهود ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد عزير ابن الله فيقال لهم: كذبتم لأن عزيراً ليس ابن الله -تبارك وتعالى- ثم يقال لهم ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ? [المؤمنون: 19]، فماذا تبغون؟ فيقولون: يا رب عطشنا فاسقنا فيقال لهم: ألا تردون؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب ) يعني كأنها ماء هذا في الصحيحين (كأنها سراب فيقدمون عليه ويشربونه يحسم بعضها بعضاً فينطلقون فيتهافتون فيها) -والعياذ بالله(4/396)
تبارك
(23/21)
---
وتعالى- وهذا مثال كما ذكر الإمام الحافظ -رحمه الله تعالى- للجهل المركب أو للكفر الذي عند هؤلاء الناس, لماذا قال جهل مركب أو كفر غليظ؟ لأنهم دعاة على أبواب جهنم كفروا وكفرهم كفرا كبيرا إلى جانب أنهم أئمة في الضلال يدعون إلى الكفر وإلى الضلال -والعياذ بالله تعالى- ?وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ? لأنه -عز وجل- عالم بجميع المعلومات فلا يشق عليه العذاب عذاب هؤلاء ولا يشغله حساب واحد منهم عن حساب غيره حتى لا يظن أحد الملحدين أن هذه المليارات كيف سيحاسبها رب العزة والجلال؟ الله يقول له: ?وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ?.
(23/22)
---(4/397)
المثل الثاني: الذي هو أخف وأقل من المثل الأول لنوع الكفار الثاني ضربه الله -عز وجل- لأصحاب الجهل البسيط كما ذكر عنهم الإمام بن كثير -رحمه الله تعالى- وقال هؤلاء هم المقلدون لأئمة الضلال ويعجبني مثل ضرب في هؤلاء الكفار الذين كفرهم من نوع خفيف أو يسير أو بسيط لأنهم قلدوا فيه أئمتهم في الضلال والكفر قال: «مثلهم كما يقال في الأمثال فيما بيننا للرجل الجاهل أين تذهب؟ يسأل الجاهل أين تذهب؟ فيقول معهم فيقال له: فإلى أين يذهبون؟ فيقول لا أدري» فهؤلاء الكفار كفراً يسيراً حينما اتبعوا هؤلاء الناس صاروا كهذا الجاهل الذي لا يعرف أين يساق ولا أين يذهب قال الله عنهم باختصار شديد حتى الوقت يعاجلنا: ?أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ? البحر اللجي يعني البحر العميق ?يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ? قال ابن العباس -رضي الله تعالى عنه- في معنى: ?يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ?: هو ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ? [البقرة: 7]، يعني هي كقول الله -عز وجل- في هذه الآية وقال أبي بن كعب -رضي الله تعالى عنه- في قوله تعالى: ?ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ? قال: «الكافر يتقلب في خمسة من الظلم فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره -والعياذ بالله تعالى- يوم القيامة إلى الظلمة» ويعني بذلك نار جهنم ?وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ? يعني من لم يهده رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فهو حائر بائس والله -عز وجل- يقول: ?وَمَن يُّضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الرعد: 33]، يعني الله -عز وجل- إذا أضل عبدا لا يمكن للدنيا كلها إذا اجتمعت أن تهديه وأقول قول الله هنا: ?وَمَن يُّضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ?(4/398)
(23/23)
---
هذا يقابل ما قاله الله -عز وجل- في مثل أهل الإيمان: ?يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ? ولذلك نسأل الله العظيم بعرشه الكريم أن يجعلنا ممن يهديهم إلى نوره -سبحانه وتعالى-.
المحور الرابع: الكون يسبح لله وهو ملك له وحده دون سواه:
وتحته قول الله -تبارك وتعالى-: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ? سبق أن شرحت آية تشبه هذه الآية في سورة الحج وقلت هناك بأن كل ما في الكون يسبح لله -تبارك وتعالى- بنصل التنزيل ?تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ? [الإسراء: 44]، وقلت بأننا نسلم لخبر الله -عز وجل- ولا نقول: كيف تسبح الجبال؟ ولا كيف تسبح الحيوانات؟ لأن قوله: ?تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ? يفيد أن الإنس والجن والملائكة والجبال والشجر والدواب كما نص على ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم كل ذلك يسبح لله -تبارك وتعالى- وأنا ذكرت في الماضي بأن التسبيح واقع من هؤلاء على الحقيقة فلا أعود إليه الآن والفائدة التي أضافتها هذه الآية ما جاء في قوله ?وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ? يعني تفيد أن الطير في حال طيرانها تسبح لله -تبارك وتعالى- حتى الطير وهو في حالة طيرانه يسبح لله -تبارك وتعالى- وقد بين الله -عز وجل- أن إمساكه للطير صافات وقابضات من آيات قدرته -عز وجل- فقال كما في سورة الملك: ?أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ ? [الملك: 19]، وهذه آية وعلامة من آيات وعلامات قدرة الحق -تبارك وتعالى- ولذلك أقول بأن القرآن الكريم أشار إلى أن(4/399)
الجبال تعقل عن
(23/24)
---
الله -تبارك وتعالى- وأن الله -عز وجل- يخلق فيها إدراكاً تعرف به التسبيح لله -عز وجل-: ?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ ? [الحشر: 21]، وكما قال في الحجارة: ?وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ? [البقرة: 74]، وقوله -سبحانه وتعالى- هنا: ?كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ? اختلف العلماء في الضمير هنا صلاته وتسبيحه يعود إلى من؟ فقيل: يعود إلى الله -عز وجل- يعني أن الله علم صلاة كل وتسبيح كل وعليه فيكون ختام الآية ?وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ? تأكيد لقوله ?كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ? وقيل: الضمير يعود إلى المسبح والمصلي والمعنى كل قد صلاة نفسه وتسبيح نفسه ويصبح قوله تعالى في ختام الآية: ?وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ? تأسيس حكم جديد يفيد أن الله -عز وجل- لا يخفى عليه تسبيح هذه الكائنات فهو يعلمها ويعلم تسبيحها ويعرف زمانها ومكانها ولغاتها -سبحانه وتعالى جل في علاه- ثم يعقب ربنا على ذلك بقوله: ?وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ? في الحقيقة هذا الختام من لدن رب العزة والجلال وهو يفيد أن الله له ملك السماوات والأرض يفهم منه أن هؤلاء الكفار الذين لا يسبحون ولا يعظمون ويسيرون في غيهم وضلالهم وقد أخبر الله عنهم أنهم يعيشون في الظلمات ألا فليعلموا أنهم لن يخرجوا عن قبضة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لماذا؟ لأن الملك لله -عز وجل- وحده دون سواه, فهو مالكهم وإن تعالوا عن التسبيح العبادة له ويعلم أحوالهم وما هم عليه وقد يقولون: إن كان الملك لله في الدنيا فهي ستنتهي ولن يستطيع أحد بعد ذلك أن يجمعنا إلى الآخرة من جديد لدفع هذا الوهم يقول -سبحانه وتعالى-: ?وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ(4/400)
الْمَصِيرُ ? فالدنيا
(23/25)
---
والآخرة بيد الله -سبحانه وتعالى- وحده ليجزي المحسن على إحسانه والمسير على إساءته كما ذكر ذلك ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه فهو له الحكم في الدنيا والآخرة كما له -سبحانه وتعالى- الحمد في الدنيا والآخرة. وبكلمة الحمد أختم هذا القاء وأسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا له من المسبحين الحامدين, وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
يقول: ماذا ترون فيمن تزوج زانية ليسترها هل هو مثاب أم ديوث؟
الحقيقة هو لم يبين أمراً: هل هي تابت أم لم تتب؟ فإن تابت فعفى الله -سبحانه وتعالى- عنها وإن لم تتب ففي الحقيقة لا يفسد على نفسه فواتح, إن تابت فعفى الله عما سلف وجمهور أهل العلم على ذلك أما الزانية فتتزوج ويتزوجها الرجل بعد أن تتوب إلى الله -تبارك وتعالى- ومن تاب تاب الله -سبحانه وتعالى- عليه.
بالنسبة لآية ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ? الآية لا أدري الشيخ ما ذكر أحد أوجه التفاسير أنا مرت علي أن أعمالهم يوم القيامة يحسبون أنهم على شيء فما يجدون شيء يعني يعملون في الدنيا وفي الآخرة لا يجدون إلا الخسار والعقوبة؟
(23/26)
---(4/401)
في الحقيقة لو يمكن الأخ -جزاه الله خيراً- ركز معي فيما قلت يعني قلت: هؤلاء وهم يظنون أنهم يحسنون في أعمالهم لا جزاء لهم عند الله -تبارك وتعالى- فأعمالهم شبهها الله -سبحانه وتعالى- بمن يسير في الصحراء يظن أن أمامه ماءً وإنما هو سراب لا شيء فيه ولا شيء تحته ولا أمامه ولا فوقه وقلت بأن قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ? يعني وجد عقاب الله -عز وجل- وبالتالي لا شيء له في الدار الآخرة وأشرت أيضا تكملة للكلام إلى أنه لن ينال عند الله جزاء واستدللت بقوله تعالى: ?قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً ? وقلت بأنه إن فعل خيراً في الدنيا يوفاه في الدنيا إن أراد الله -عز وجل- ذلك لأن الخير منقطع عنه تماماً في الدار الآخرة وذكرت قول الحق -تبارك وتعالى- ?مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ?.
تقول: ما قول فضيلتكم يا شيخ في كتاب تنوير المقباس من تفسير ابن عباس؟
(23/27)
---(4/402)
في الحقيقة العلماء وطلبة العلم من المهتمين بالتفسير يقولون بأن ما فيه لم يثبت عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- يعني بعضه يعني تصح نسبته إليه والبعض لم يثبت عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- ولذلك فيه أحد الطلاب في جامعة أم القرى أخذ رسالة في مجلدين حقق فيها الأقوال المنسوبة إلى الإمام عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في التفسير بعد أن جمعها من هذا الكتاب ومن غيره فعلى كل لا يطمئن الإنسان لكل ما يأخذه في هذا الكتاب أنه من قول ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- فبعض من يروي عن ابن عباس روايته عنه منقطعة حتى إن هناك خلافاً كبيراً فالضحاك على أرجح الأقوال لم يلق ابن عباس وكتب التفسير مليئة بروايات الضحاك عن ابن عباس والراجح أن الضحاك لم يلق ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- فالمسألة تحتاج إلى تثبت وإلى بحث وإلى تحرٍ فالكتاب الذي أشارت إليه لا يمكن نسبته برمته إلى عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- ولكن فيها ما هو متصل إليه والكثير منه لم تثبت نسبته إليه كما ذكر ذلك كثير من أهل العلم.
ما الحكم لو أن شخصاً بنى مسجداً تحت بيته قد يكون غرفتين؟
هل هذا يعتبر من باب (من بنى لله مسجدا)؟
السؤال الثاني: فيه مسجد في البلدة التي نحن فيها هناك قبر ملحق بالمسجد في غرقة مفصولة عن المسجد والشيخ الذي يقيم الجمعة فيه هو أفضل شيخ في هذه البلد من ناحية الخطبة التي يلقيها فهي خطبة مفيدة علمياً وباقية المساجد ليست في قوة الأولى؟
السؤال الثالث: هناك طبيب يكون عنده في عيادته مرضى درجة حرارتهم عالية لا يستطيع أن يصلي الجماعة في وقتها فلو رجع وصلى في البيت هل هذا حرام أم ماذا؟
السؤال الأول: الإمام ابن كثير ذكر في تفسيره أن الله -سبحانه وتعالى- ضرب مثلين مثلاً نارياً وآخر مائياً أنا لا أفهم ما المقصود بالضبط بالمثل الناري والمثل المائي خاصة أنه يُذكر كثيراً في كلام العلماء؟
(23/28)
---(4/403)
السؤال الثاني: تفسير قوله تعالى: ?مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ? كنت سمعت أحد المشايخ ممن يتكلمون فيما يسمى بالإعجاز العلمي يقول: إن الإعجاز العلمي الحديث اكتشف أن هناك فعلا موجاً داخل البحر وآخر الموج الذي نراه فوق البحر فكنت أود أن أعرف رأيكم في الإعجاز العلمي أو ما يسمى بالتفسير العلمي بالقرآن؟
الأخت كان لها ثلاثة أسئلة السؤال الأول أن أحداً بنى مسجدا تحت المنزل هل يعتبر ذلك داخلا في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (من بنى لله مسجدا)؟
في الحقيقة أدعو المسلمين ومن وسع الله تعالى عليهم أن يبني المسجد استقلالاً وإن كان الإنسان محباً للخير ولكن ضاقت به الأمور عن أن يبني مسجداً مستقلاً دون أن يستفيد من خدمة كأن يكون يبني بيتاً فوقه أو ما إلى ذلك إن كانت نيته وهذه لا يعلمها إلا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أن يقيم هذا المكان كي يعبد الله -عز وجل- فيه بنية صادقة خالصة متقرباً به إلى الله -عز وجل- فأرجو له الخير -إن شاء الله- وأن يكون ممن قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من بنى مسجداً أو بيتاً لله تعالى بنى الله له بيتاً في الجنة) لأن ما نسمع أن البعض قد يحاول أن يبني مسجداً لكي يأخذ ترخيص للبناء أو يدخل مرافق أو ما إلى ذلك فهذه حيل في الحقيقة لا تكون سليمة بحال من الأحوال ولو بنى بنية صالحة صادقة طيبة وهذا ما عنده وقدمه فأرجو -إن شاء الله تعالى- أن ينال خيراً من وراء ذلك.
سؤالها الثاني عن قبر ملحق بالمسجد وهذا المسجد فيه أفضل شيخ في قريتها؟
(23/29)
---(4/404)
في الحقيقة القبر إن كان في داخل المسجد أو ملحق به ولا أفهم هل هناك باب يؤدي إلى المسجد وليس هناك فاصل بين القبر أو المسجد أو لا يوجد فعلى كل حال إن كان ملحقا بلا فاصل فلا يصلى فيه لأنه ذريعة إلى الشرك بالله -تبارك وتعالى- وهذا يغرر العامة على أن هذا شرع أو من دين الله -عز وجل- فيذهبون إليه ولا يعلمون فإن كان الأمر بأن القبر ملحق بالمسجد وليس بينهما فاصل فهذا مدعاة إن لم يكن بالفعل يؤدي إلى الوقوع في الشرك -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ولا يهم في هذه الحالة جودة الخطيب من عدمها وإن كان الأمر كذلك فأنصح أن يقوم بعض أهل الخير من هذه القرية فينصحون الإمام ويبينون له الحق في هذه المسألة وينصحونه في أن يعلم الناس ألا يتوجه أحد إلى هذا القبر وإن كان هناك باب يفتحه إلى هذا القبر فليغلق هذا الباب يعني هذا على أقل تقدير ما يمكن أن يفعلوه أو يقوموا به.
سؤالها الثالث فضيلة الشيخ عن أخ طبيب ومثلت بأنه يأتي مريض درجة حرارة عالية؟
هذا فيما يمكن أن نقول عنهم: أصحاب الأعذار فأصحاب الأعذار المريض في عمله أو مثلا من يحرس أمراً لو تركه لحصل ما حصل وما إلى ذلك عليه أن يصلي بعد الناس والله -عز وجل- يعلم خفايا العباد ويعلم المعذور من غير المعذور فإن كان معذوراً في علاج أو ما إلى ذلك فهذا لا حرج عليه -إن شاء الله تبارك وتعالى- وهذا من يسر التشريع وكرم رب العالمين.
سؤاله الأول: عن أن ابن كثير -رحمه الله تعالى- قال: ضرب الله مثلين واحدا ناريا والآخر مائيا فما معناهما؟
(23/30)
---(4/405)
الحقيقة المثل قال: نارياً لأنه ذكر فيه النار وهو للمنافقين نفاقاً اعتقادياً الذي هو في قوله تعالى: ?مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ? إلى آخره وذكر بعض العلماء بأن هؤلاء النور الذي في النار يذهب ويلقون في النار وتوجد إشارة في الآيات تدل على ذلك وتشير إليه أما المثل المائي لأنه ذكر فيه الماء ونفاق القوم الذي ذكروا في المثل الثاني أقل من نفاق القوم المذكورين في المثل الأول لأنه أشار إلى أن هؤلاء يظهر لهم الحق أحيانا ويلوح وأحياناً ينحرفون ويغيب عنهم هذا الحق فتنطمس بصائرهم لذلك فهذا معنى مائي ومعنى ناري أما قصده في أننا نسمع كلمة ناري الآن من بعض المتحدثين وما إلى ذلك فنقول هذه أمثال ضربها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في كتابه ونحن حينما نأتي ونتكلم اليوم يجب أن ننضبط في ألفاظنا بالألفاظ الشرعية بمعنى أنني لا آتِ أنقل كلمات من هذا المثل وأنزلها مثلا على أمر آخر يعني مثلا بعض الناس سألني يوم الأحد الماضي قال فلان عنده بدعة فأنا يمكن أن أقول عنها بدعة نارية فأنا قلت ماذا تعني بنارية؟ أن البدعة تؤدي إلى النار أما إن أردت أن تطلق فقل لهذه بدعة ضلالة لماذا؟ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (كل بدعة ضلالة) ومن منهج أهل السنة والجماعة أنهم يلتزمون بالألفاظ الشرعية الواردة في الشرع الحكيم لأن انحراف الناس كان من ورائه استخدامهم لألفاظ غير شرعية فالذين مثلاً أنكروا صفات الرب -تبارك وتعالى- مثلا لما استخدموا بعض الألفاظ الشرعية وتوسعوا في هذا الباب كان في ذلك مدعاة إلى أن يؤولوا أو ينكروا صفات الرب -تبارك وتعالى- فالالتزام بالألفاظ الشرعية الواردة عن الشرع الحكيم هذا هو الواجب في باب التشريع.
سؤاله الثاني فضيلة الشيخ ما رأي فضيلتكم في التفسير العلمي للقرآن الكريم ؟
التفسير العلمي للقرآن الكريم ينقسم إلى قسمين كما ذكر ذلك كثير من أهل العلم:
(23/31)
---(4/406)
- إما أن يكون التفسير العلمي إما أن يكون التفسير العلمي مبنية على حقائق وليست نظريات قد ثبتت بالفعل ولا تتعارض يعني تتفق مع آيات القرآن الكريم فنحن في هذه الآية نقول هذا من إعجاز القرآن الكريم يعني لا نفرح بالتفسير العلمي نفسه ونقول بأن انظر ماذا وجدنا فيما رأيناه اليوم لا نحن نقول بأن القرآن الكريم الذي نزل قبل أربعة عشر قرناً من الزمان تأملوا كيف أبان وأظهر وجاء في طياته ما يشير إلى معنى وجد مثلا في هذا الزمان فتكون الحادثة واقعة وحقيقية وتنزل على القرآن الكريم وليس القرآن الكريم هو الذي ينزل عليها يعني أنا لا أطوع الآية للحدث العلمي وإنما أجد أن الحدث العلمي قد وافق كتاب الحق -تبارك وتعالى- أما إن كانت مجرد نظريات وغير ثابتة والبعض يلوي نصوص القرآن الكريم كما هو معروف اليوم بعض الناس تستخدم حتى حروف القرآن الكريم وينظرون في هذه الحروف ويستدلون بها على بعض أحداث أو على بعض أمور أو على أرقام معينة مذكورة في القرآن الكريم كل هذا ليس من كتاب الله -تبارك وتعالى- ولا يجوز للعبد أن ينشغل به لأنه مضيعة للوقت إلى جانب أنه قد يؤدي به إلى الانحراف عن فهم كتاب الله -تبارك وتعالى- والقصد من كل ذلك ألا نلوي قرآن ربنا الآيات الواردة في كتاب الله -عز وجل- كي ننزلها على الواقع بل إن وافق الواقع كتاب الله -عز وجل- نقول هذا إعجاز للقرآن هذا سبق للقرآن هذا جاء ذكره في كتاب الله -تبارك وتعالى- وما عداه فيجب أن يغلق هذا الباب والله أعلم.
ذكرت فضيلتكم أنه لا يجوز التحدث في المساجد بصوت عالٍ فهل هذا يخص التحدث بصوت عال فقط أم التحدث ككل؟
(23/32)
---(4/407)
لا شك أن النهي هنا عن التحدث بما لا ينبغي في المسجد بصوت مرتفع أو بشيء من الحق ولكنه يشوش على الآخرين لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشار إلى أنه إذا أتى الإنسان المسجد أن يكون عليه السكينة والوقار وأمر -صلى الله عليه وسلم- ألا يرفع المصلون أصواتهم فوق صوت بعض حتى لا يؤذي بعضهم بعضاً ولا يشوش بعضهم على بعض فالسكينة والوقار والهدوء في بيت الله -عز وجل- وخفض الصوت مدعاة لتحصيل العلم النافع وأيضاً مدعاة لزكاة النفس وطهارتها وصدق الوقوف بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والشاهد أن المقصود من رفع الصوت هو الرفع الذي يؤذي من هو في داخل المسجد أو أن يكون ليست هناك حاجة إلى رفع صوت، يعني نتعامل في المسجد مع شيء من الأدب وخفض الجناح.
هل يجوز للمرأة أن تتزين وتضع الطيب أثناء الصلاة في بيتها؟
لا حرج في ذلك, في بيتها.
تتزين كأن تزين الوجه مثلا
لا حرج في ذلك طالما في بيتها وبما لا يمنع وصول الماء إلى البشرة وما إلى ذلك فتزين المرأة بما تضعه على وجهها إن لم يكن مانعا من وصول الماء فهو أمر لا شيء فيه.
سؤاله الأول: يقول إذا دخل شخص المنزل وسلم على أهل البيت وسمعته أثناء نومي في غرفتي هل يجب علي رد السلام إن لم يرد عليه غيري؟ هل يجب أن أسمعه صوتي ؟
طالما أنك سمعت فآنسه وسلم عليه يعني رد عليه السلام وحقق حديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- طالما أنه لا يوجد إلا أنت في البيت أو لم يسمعه إلا أحد غيرك وأنت قد سمعت فتنال أجراً على ذلك ولك في هذا فضل -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
سؤاله الثاني بالنسبة للبيع والشراء في المسجد هل يدخل في ذلك إذا أعطيت شخصاً مالا ليشتري لي شيئاً ليس بغرض التجارة وأيضاً هناك من يقوم بتدريس الأطفال في المسجد بالأجر هل يجوز فعله؟ كذلك نجد أحياناً إعلانات معلقة على باب المسجد عن أمور تدر أرباحاً لصاحبها فما حكم ذلك؟
(23/33)
---(4/408)
بالنسبة للقضية الأولى هو إعطاؤه لشخص مالاً يشتري له شيئاً هذا ليس بيعاً ولا شراءً وإنما هو تكليف بأمر جائز فلا حرج فيه.
أما من يدرس مقابل أجرة فالعلماء أباحوا ذلك وليس في الحقيقة الأجر المأخوذ في هذه الحالة على التدريس فحسب وإنما هو على حبس وقته لأنه يمكن أن يعمل في هذا الوقت عملاً يدر عليه دخلاً ولكنه في هذه الحالة حبس وقته يعني أخذ من وقته لهذا العمل فما يتقاضاه هو على حسب أو مقابل إعطائه هذا الوقت للتعليم وصرفه إليه وبالتالي لا يكون قد باع أو اشترى.
الأمر الثالث: الذي أشار إليه بالنسبة للإعلانات أنا كلما دخلت مسجداً وتمكنت أن أرفع إعلاناً إن رأيته فيه يدعو إلى بيع وشراء فأقطعه لأن من وجهة نظري لا فرق بين هذا الإعلان المكتوب الذي يشغل الداخل إلى بيت الله -عز وجل- لأن بعض الناس أحياناً إذا دخل تعرفون من السنة إذا دخل أحدكم المسجد أن يسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويصلي عليه ثم يقول الدعاء الوارد في ذلك اللهم اغفر لي ذنوب وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج يقول: اللهم افتح لي أبواب فضلك فبعد أن يسلم أيضا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فواضع هذه الأشياء تشغل كثيراً الناس والناس يتهافتون على مثل ذلك فهو قائم اليوم هذه الإعلانات من وجهة نظري مقام الإعلان عن البيع والشراء في المسجد فلا توضع ولا تترك في بيت الله -تبارك وتعالى-.
يقول: حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك) هل يدخل فيه ما يفعله بعض المتسولين حيث أنهم يقومون بعد تسليم الإمام ويطلبون الإعانة بصوت مرتفع في داخل المسجد؟ وما الذي ينبغي فعله حيال ذلك؟
(23/34)
---(4/409)
أيضا في الحقيقة لا يسمح ولا يجوز لأصحاب المسجد أو المسؤولون فيه أن يتركوا أي واحد يقوم في داخل المسجد ويطلب شيئاً من ذلك وإن كان هناك حاجة لأحد فليكن في خارج المسجد وأيضا أنا أقول بأن كثيراً من هؤلاء القوم في الحقيقة يتسولون ويقفون أمام أبواب المساجد أو يقومون بإعلانات في داخل المساجد وقد رأيت حالات أنا شخصيا رأيت حالات متعددة في مثل ذلك وليست في الحقيقة كما يصورون بل في واقع الأمر هم لا يحتاجون وبالتالي على المسلم أن يكون لبقاً في التصرف مع هؤلاء الناس وعليه أيضاً أن يبحث في إخراج ماله أو في إخراج صدقته كي تخرج إلى من يحتاج إليها.
تقول: إذا كانت المرأة خارج المنزل وأدركتها الصلاة وهي في السوق مثلاً فهل تحتاج لإذن من زوجها لدخول المسجد وليس لديها وسيلة اتصال لتأخذ الإذن أم ترجع وتصلي في بيتها ولو تأخرت في صلاتها فأيهما أولى؟
في الحقيقة طالما أنه أذن لها لتخرج إلى الشارع فوجودها في السوق الآن وصلاتها في داخل المسجد هو الأفضل لها في ذلك الوقت لأنها في خارج البيت وهي في الشارع وقد أذن لها به وكونها في الشارع والمسجد أيضاً في الطريق فالأمر فيه سيان وواحد فيدخل في الإذن العام ألا وهو خروجها من خارج بيتها يعني يصبح دخولها المسجد والصلاة في هذه الحالة يعد داخلاً ضمن الإذن العام في خروجها إلى خارج البيت وصلاتها في هذه الحالة أولى لها وأفضل في أنها ستؤدي الصلاة في وقتها وحتى لا تتأخر وهذا أيضاً يحجبها بعض الوقت على أن تكون في الخارج في الشارع للرائح والجاي.
يوجد في بعض المساجد من يستغل مكبر الصوت للإعلان عن وفاة أحد الأشخاص في المنطقة مثلاً أو البحث عن طفل تائه فهل هذا يدخل في النهي؟
(23/35)
---(4/410)
في مثل هذه الحالات أرجو ألا يكون في هذا بأس بشرط ألا يتكرر مثل ذلك وأنصح في هذه المناسبة أن يكون هناك غرفة ملحقة بالمسجد توجد فيه الإذاعة حتى يتم هذا الإعلان من داخل هذه الغرفة ولا يكون في داخل المسجد فلما يعلم ويكون هناك سماعات في الخارج والداخل سماعات الداخل تغلق وتعمل سماعات الخارج فقط ويكون الإعلان في غرفة ملحقة بالمسجد فنكون بهذا الحمد لله قد برئنا من أن نكون قد أعلنا في داخل المسجد ما نخاف من أن ندخل تحت الوعيد بسببه ونكون قد أدينا فائدة خاصة إن كان هناك طفل تائه أو مريض بحاجة مثلاً إلى دم أو نقل دم أو ما إلى ذلك فأرجو أن يجتهد إخواننا حينما يسمعون هذا الكلام في أن تكون غرفة الإذاعة غرفة ملحقة بالمسجد وعند الإعلان أن يغلق السماعات التي تظهر الصوت في داخل المسجد وأن تكون السماعات خارج المسجد هي التي تعمل فقط وبهذا نكون قد حققنا المصلحتين إن شاء الله -تبارك وتعالى-.
يقول في قول الله -تبارك وتعالى-: ?رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ? أرجو من سيادتكم بيان كيفية ذكر الله -تبارك وتعالى-؟
(23/36)
---(4/411)
ذكر الله -تبارك وتعالى- يجب أن يكون مع العبد آناء الليل وأطراف النهار وخلاصة القول فيه لأن الآيات أشارت إلى الذكر في الصلاة وما إلى ذلك والتسبيح النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ذكرت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (كان يذكر الله على كل أحواله) -صلوات الله وسلامه عليه- والفقهاء يستدلون كان يذكر الله على كل أحواله يعني وهو على وضوء على طهارة أو على غير طهارة ونحن نستفيد أيضاً أنه يذكر الله -عز وجل- في جميع أحواله يعني كان لا ينصرف وقتاً عن ذكر الله -تبارك وتعالى- والعبد المسلم لو تأمل في حياة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سيجد هذه الحياة كلها مليئة بذكر الله -تبارك وتعالى- فأنت صلاتك لله -عز وجل- ذكر استماعك للأذان وترديد كلماته والدعاء بعده ذكر إذا دخلت بيتك ذكرت الله إذا دخلت المسجد ذكرت الله خرجت من بيتك خرجت من المسجد ذكرت الله جلست على طعامك ذكرت الله أكلت ذكرت الله انتهيت من الطعام ذكرت الله قابلت إخوانك فسلمت عليهم وتواصيت، أمرت بمعروف ونهيت عن منكر ذكرت الله سبحت الله -عز وجل- بالتسبيحات الواردة في السنة في النهار في الليل في المساء الأذكار الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كل هذا من ذكر الله -عز وجل- فعلى المسلم أن يتأمل في السنة النبوية ويبحث عن الأوراد والأذكار التي كان يقولها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويلتزم بها ويكون بهذا ذاكراً لله -تبارك وتعالى-.
السؤال متشابه السؤال الذي مرت قبل ذلك الذي هو عن المقابر نحن عندنا المسجد كله حوله مقابر في قرية بسيطة فداخل المسجد فيه ضريح لكن بابه اتجاهه للخارج وليس للمسجد ثم لما عملوا توسعة للمسجد قال جماعة إن هناك مقابر دخلت المسجد وغير متأكدين, أحياناً يقولون: فيه قبور هنا في المسجد في هذه التوسعة وأحياناً ينكرون ونحن لا نعرف الحقيقة والمسجد الآخر بعيد عنا فهل الأفضل أن يصلي الواحد منا في البيت أم يصلي في المسجد؟(4/412)
(23/37)
---
الحقيقة أناشد عموم المسلمين أن يتعلموا هذه القضية من جيلهم وأن يكفوا عن مثل ذلك فالإنسان يعجب حينما يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديث متعددة وينهى -عليه الصلاة والسلام- عن بناء المساجد على القبور واتخاذ القبور مساجد وعن إيقادها وما إلى ذلك ثم بعد ذلك نجد إلى اليوم من يدافع عن هذا أو من يعمله, والأخ -جزاه الله خيراً- هو الآن يستفسر عن مثل ذلك ولكني أنتهز هذه الفرصة في أنني أوجه كلامي للمخاطبين يجب أن ترتفعوا عن هذا الفعل أقول يجب لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن من اتخذ القبور مساجد وأخبر أيضا -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مالك وغيره: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجدا) والنهي عن اتخاذ القبور مساجد يشمل النهي عن الصلاة فيها لأن الصلاة في هذه الحالة مدعى إلى أن توجه إلى صاحب القبر ونحن وحينما نتكلم بهذا الكلام لستُ بعيداً فالذي يذهب إلى هذه المساجد ويصلي فيها يشاهد من ينتهي إلى الصلاة ثم يذهب إلى صاحب القبر يدعوه فينصرف وهو بين يدي الله -عز وجل- وفي مقام الخشية الخشوع والخضوع والطلب وهو ساجد وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد, ثم بعد ذلك لا يدعو الذي يسمع السر والنجوى ويعلم السر ما ظهر وما خفي يتركه ويذهب إلى مخلوق ضعيف ميت لا يملك من أمره شيئاً فلابد يا إخواننا المسلمين أن تتنبهوا لهذه القضية ولهذه المسألة وأن تحرصوا على أن تبنوا مساجد لله -عز وجل- خالصة كما قال الله في كتابه ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا? وأرى كما ذكر كثير من أهل العلم أن المساجد التي بها قبور لا تجوز الصلاة فيها لأنها إن لم يقع فيه المصلي في الشرك فهي مدعاة أو وسيلة أو ذريعة إلى الوقوع في الشرك -والعياذ بالله تبارك وتعالى- والله تعالى أعلم.
(23/38)
---(4/413)
السؤال الأول: اذكر حديثاً في فضل بناء المساجد. وهل يجوز بناء المساجد على القبور أيد ما تقول بالدليل؟
السؤال الثاني: ضرب الله مثلين للكفار في هذه الآيات اذكرهما مع الشرح والتوضيح؟
(23/39)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الرابع والعشرين
الدرس الرابع والعشرون: تفسير سورة النور
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين والمشاهدين والمشاهدات ويسرني في هذا اللقاء أن ألتقي بكم ومع تتمة آيات من تفسير سورة النور بإذن الله -تبارك وتعالى- وسيدور حديث هذا اللقاء حول المحاور التالية:
المحور الأول: الله تعالى يصيب بالغيث من يشاء ويصرفه عن من يشاء.
المحور الثاني: خلق الله الكائنات كما أراد.
المحور الثالث: المنافقون يظهرون خلاف ما يبطنون.
المحور الرابع: استجابة أهل الإيمان لما جاء عن الله ورسوله -عليه الصلاة والسلام-.
المحور الخامس والأخير: تمكين الله في الأرض لأهل الإيمان.
ولنستمع الآن إلى آيات هذا اللقاء مع الأستاذ الكريم, فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(24/1)
---(4/414)
?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ ?43? يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ?44? وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?45? لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ?46? وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ?47? وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ?48? وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ?49? أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ?50? إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?51? وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ?52? وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ?53? قُلْ(4/415)
(24/2)
---
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ?54? وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ?55?? .
أحسنت، جزاك الله خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم وسلك سبيلهم ونهج نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد،
المحور الأول: الله تعالى يصيب بالغيث من يشاء ويصرفه عن من يشاء
(24/3)
---(4/416)
فمع المحور الأول من هذا اللقاء وهو بعنوان: الله تعالى يصيب بالغيث من يشاء ويصرفه عن من يشاء، ويبتدء هذا المحور بقول الحق -تبارك وتعالى-: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا? الله -عز وجل- في هذه الآية يخبر عن تمام تصرفه في الملك -عز وجل-، وهو أنه -سبحانه وتعالى- يسوق السحاب شيئًا فشيئا لأن كلمة "يزجي السحاب" تفيد أنه يسوقه قليلاً قليلاً لأن السحاب أول ما ينشأ يكون ضعيفاً في أول نشأته وقوله هنا: ?أَلَمْ تَرَ? المراد بالرؤية هنا الرؤية البصرية؛ لأن الإنسان يشاهد السحاب ونزول المطر بعينه، فالله -عز وجل- يزجي السحاب يعني يسوقه شيئًا فشيئاً لأن بدايته تكون ضعيفة كما ذكرت، ثم بعد ذلك يؤلف ربنا -سبحانه وتعالى- بينه أيضاً يعني يجمع بينه ويؤلف بينه ويضم بعضه إلى بعض، ثم بعد ذلك يجعله ركاماً أي متراكماً بعضه يعلو بعض، أو بعضه يركب فوق بعض، والسحاب كما هو معلوم يكون طبقات مختلفة.
الله -عز وجل- يخبر ويدعوا الناس إلى أن يتأملوا في ذلك لأنهم يشاهدوه ويعرفوا من خلاله أثر قدرة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، (كلمة غير مفهومة)، فعل ذلك هو الله -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه؛ لأنه نسب الأمر أولاً إلى نفسه فقال: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ? -سبحانه وتعالى-.
(24/4)
---(4/417)
ثم بعدما أشار إلى السحاب وإلى أنه يؤلف بينه وإلى أنه يضم بعضه إلى بعض قال بعد ذلك: ?فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ? ?الْوَدْقَ? المراد به هنا المطر، و ?يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ? يعني من خلله وهي الفرج التي تكون موجودة في السحاب وهي مخارج القطر الذي ينزل من عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، ولذلك لما قال: ?فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ? عقب على ذلك بقوله: ?وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ? .
هنا لو لاحظتم أيها المشاهدون الكرام تجدون أن حرف من الجار تكرر ثلاث مرات، ?وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ? قال بعض النحاة:
- "من" الأولى: بابتداء الغاية، والثانية: للتبعيض، والثالثة: لبيان الجنس، ويصبح معنى الآية أن الله -عز وجل- ينزل من بعض الجبال التي في السماء شيئًا من البَرَد وهو يعني بذلك أنه توجد جبال كثيفة مليئة بالماء الجامد والله -عز وجل- ينزله بأمره من السماء.
- وقيل: بأن "من" الأولى: هي لابتداء الغاية، والثانية أيضاً: مثلها لابتداء الغاية، وتصبح على هذا تأكيداً لمن الأولى ويصبح المعنى بناءاً على ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- ينزل المطر من السماء أو من السحاب، وليس بمعنى أنه ينزل قطعاً من الجبال التي تكون في السماء.
- وقد ذكر بعض النحاة أقوالا أخر في معنى هذه الآية ولكن الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- اقتصر على ذلك وهو أراد أن يبين بأن الآية إما أن تفيد أن في السماء جبالاً فيها قطع من الماء وأن الله -عز وجل- ينزل منها البرد.
- وقيل أيضاً في الآية بأن المطر الذي ينزل من السماء إنما هو ينزل من فرج أو مخارج السحاب الذي يزجيه رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(24/5)
---(4/418)
?وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ? قال بعد ذلك: ?فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ? يعني يصيب برحمته -سبحانه وتعالى- بهذا المطر النازل من السماء من يشاء من عباده, والمطر رحمة من الله -عز وجل- يتفضل به على العباد، وقد ذكر ذلك في كتابه: ?وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ? [الشورى: 28]، فسمى ما ينزل من عنده من السماء -سبحانه وتعالى- رحمة، وهو حقاً كذلك، والله -عز وجل- يمنح هذه الرحمة لمن يشاء ويعطيها لمن يشاء من عباده، وهو أيضاً يصرفها عن من يشاء من عباده.
وفي قول آخر: أن في قوله تعالى: ?فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ? يعني يصيب بالبرد وهي قطع الثلج المتجمدة ?مَن يَشَاءُ? عقوبة منه -سبحانه وتعالى-، لأن هذا كما ذكر المفسرون في السابق قالوا: يصيب الزرع والثمار وما إلى ذلك ونحن نقول اليوم يفسد أيضاً غير ذلك مما يضعه الناس اليوم خارج البيوت، وما هو قائم على الزجاج كالسيارات وغير ذلك، فإذا نزل مثل هذه القطع الجامدة من السماء بهذه القوة وبهذا السقوط لا شك أنها ستأثر وبالتالي يصبح ?فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ? نغمة منه -سبحانه وتعالى- على هؤلاء، ?وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ? يعني لا ينزل هذا البرد ألا وهو قطع الثلج الجامد على من يشاء من عباده رحمة منه -سبحانه وتعالى- بهم.
(24/6)
---(4/419)
ثم أقول هنا أيها الكرام: يجب أن نعلم أن الله -عز وجل- يسوق السحاب وينزل المطر من عنده -عز وجل- رحمة منه بعباده إذا قاموا بحق نعم الله -سبحانه وتعالى- عليهم، وفي صحيح مسلم حديث جميل يؤكد هذا المعنى ويوضحه، يخبر فيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيقول: (بينا رجل يمشي في أرض فلاة إذ سمع صوتاً في سحابة تقول: اسقي حديقة فلان، ثم نظر فوجد السحاب التي فوقه قد انتقل إلى أرض أو إلى حديقة معينة، ثم نزل عليها لا غير، فذهب هذا الرجل يتتبع الأرض التي نزل فيها الماء، فوجد حديقة فيها ثمر وزرع ووجد رجلاً هناك، فسأله عن اسمه، فسأله لم لا تسألني، لماذا تسألني عن اسمي؟ فقال له: إني سمعت في السحاب الذي هاهنا ماءه صوتا يقول: اسقي حديقة فلان -وكان هذا هو الرجل الذي قائم في مزرعته ويخدمها ويزرعها واسمه هو الذي سمعه هذا الرجل في السحاب- ثم قال له هذا الرجل الذي سمع الصوت من السحاب: أخبرني عن شأنك، فقال له: أما وقد قلت ما قلت، فإنني أقسم ما يخرج من هذه الأرض ثلاثة أصناف: آكل أنا وعيالي ثلثاً وأتصدق بثلث وأرد فيها ثلث)، فعلم هذا الرجل أن الله -عز وجل- سخر هذا السحاب وأمر ربنا -عز وجل- الماء النازل من السماء أن ينزل بالاسم على حديقة هذا الرجل لأنه يؤدي حق الله -تبارك وتعالى- فيها، فيطعم منها هو وأولاده، ويتصدق بثلث الخارج من الأرض، وما بقي من الثلث الآخر يرده مرة أخرى كي يعود إلى الزرع من جديد، فهاهنا هذا الرجل لما كان مطيعا لرب العزة والجلال ساق ربنا -سبحانه وتعالى- وسخر له الماء النازل إلى السماء باسمه وهو سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الشيء، يعلم هذا الرجل ويعلم ما يفعل، وهو الذي أمر هذا السحاب وذكر اسم هذا الرجل الذي يقوم ويزرع هذا الزرع ويتصرف فيه هذا التصرف.
(24/7)
---(4/420)
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ?يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ? ?يَكَادُ? من أفعال المقاربة، يعني يقارب شدة ضوء البرق يذهب بأبصار من تأمله، ونظر فيه، وذلك لقوته ولشدة لمعانه ?يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ? لمن ينظر ويتأمل في هذا البرق يكاد أن يذهب بصره لشدة هذا المنظر ولما يراد وهذا يدل على أنها أثر من آثار نعمة الله -سبحانه وتعالى- أيضاً على العباد؛ لأن رب العزة والجلال يلفت النظر إلى ذلك، ويقول: تأمل والله -عز وجل- حينما يسوق هذه الآيات ليعرف العباد شيئًا من قدرته -سبحانه وتعالى- في الكون، فأنت إذا عرفت هذه الآيات ونظرت فيها وتأملتها أدركت عظمة رب العزة والجلال سبحانه، وأدركت قوته سبحانه، وأدركت أن له جنود يسخرهم -سبحانه وتعالى- كما يشاء ومن ذلك هذا البرق، ?يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ? .
(24/8)
---(4/421)
ثم يقول -سبحانه وتعالى- موجها الخطاب إلى الجميع ?يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ?44?? معنى ?يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ? يعني يراوح بين الليل وبين النهار، ويدخل هذا في هذا وهذا في هذا، ومنه يفهم أيضاً أنه ينقص من الليل في النهار، وينقص من النهار في الليل، ونحن نعلم أن الليل والنهار لا شك أنهما يختلفان باختلاف الفصول والشهور، فمرة يكون الليل طويلاً ومرة يكون قصيراً وما إلى ذلك وهذا هو من تقدير الله -عز وجل- لليل والنهار، وما كان ذلك إلا للاعتبار والاتعاظ؛ لأن هذا فيه منافع كثيرة لك أنت أيها الإنسان، فكون الليل والنهار يتراوحان عليك وترى الشمس والضياء وترى الهدوء والسكينة وعدم الضياء والإزعاج وترى شيئًا من الحرارة وترى شيئًا من البرودة وهذه أمور تحتاج إليها الكائنات الحية فأنت إذا نظرت في ذلك وعرفت أن هذا من فضل الله -سبحانه وتعالى- عليك وما فعل الله -عز وجل- بك ذلك إلا لكي تراوح أنت أيها الإنسان بين حاجاتك ومتطلباتك دعاك ذلك إلى التأمل والتدبر لتصل من خلال هذا التأمل إلى الإيمان بوجود الله -عز وجل- وإلى إفراده وحده بالعبادة دون سواه، لأنه هو الذي فعل ذلك، وهو الذي رعاك في كل ذلك وهو الذي تفضل عليك بكل ذلك ولهذا صدق الله في قوله: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ? وهذه الآية كقول الله -سبحانه وتعالى-: ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ ?190?? [آل عمران: 190].
المحور الثاني: خلق الله الكائنات كما أراد
(24/9)
---(4/422)
المحور الثاني في هذا اللقاء بعنوان خلق الله الكائنات كما أراد وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ? الله -عز وجل- بعدما أشار إلى ما يحدث في هذا الملأ أو في هذا الكون الأعلى ألا وهي السماوات وما بثه الله -عز وجل- فيها من سحاب وألف بينه وإنزال هذا السحاب أو من هذا السحاب مطرا ينزل على العباد، أشار ربنا -سبحانه وتعالى- إلى الكائنات الأرضية التي تدب على هذه الأرض وفي هذه الكائنات ما يراه الإنسان من العجب من آيات قدرة رب العزة والجلال أولاً: خلق الله -عز وجل- هذه الكائنات كلها من أين؟ خلقها -سبحانه وتعالى- من ماء وهذا الماء الذي خلق الله منه الكائنات نراه أن الله -عز وجل- أيضاً جعلها متفرقات متباينات ليست على درجة واحدة، لا في الخلق ولا في السورة ولا في السير ولا في التناسل ولا في الطعام، ولا في الشراب، وما إلى ذلك، يعني صور متباينة متفاوتة مختلفة، رغم أنهم جميعاً خلقوا من أصل واحد، ?وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ? ثم ذكر التنوع الموجود بينهم فقال: ?فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ? كالحية، والحية في الحقيقة لا تمشي على بطنها، لا تمشي، وإنما تزحف على بطنها، والله -عز وجل- سم زحف الحية وما يشبهها من ما يزحف سماه مشيا إما من باب الاستعارة أو من باب المشاكلة لأنه ذكر بعد ذلك مشي من يمشي على رجلين ومن يمشي على أربع، فقال: ?فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ? والذي يمشي على رجليه من؟ الإنسان والطيور، ?وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ? كالأنعام وسائر الحيوانات، وهناك أشياء أخر تزيد على الأربع في السير والمشي، ولم يذكرها رب العزة والجلال سبحانه، كالعقارب والعناكب وما إلى(4/423)
(24/10)
---
ذلك، هذه تسير على أكثر من أربع، والقرآن لم يذكرها لقلتها، ولعدم مشاهدة الناس كثيرًا لها، ولأنها لا تؤثر بالضرورة المباشرة في حياة الإنسان فقد لا يلتفت بعض الناس إلى كثير منها، والله -عز وجل- أشار هنا إلى نماذج مما خلقه -سبحانه وتعالى- من ماء، وهذه النماذج تبين أن الله -عز وجل- خالف بين أصناف ما خلق، وجعل أفضل خلق لمن؟ أفضل خلق للإنسان يعني الإنسان لو نظر إلى نفسه وإلى ذاته، فيعرف وسيعلم أنه أفضل الكائنات على الإطلاق في الخلق والمنظر والصورة والهيئة وما إلى ذلك، وهذا يجعل الإنسان أن يسارع هو بالاستحابة لله -تبارك وتعالى- قبل غيره، وإذا كان كما ذكرت آنفاً إذا كان الكون كله يسبح لله -عز وجل-، وإذا كان الإنسان هو أفضل الكائنات على ظهر هذه الأرض فالواجب عليه إذن أن يكون هو من أفضل العابدين لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
وبعد أن ذكر -سبحانه وتعالى- هذا التباين في الخلق، أراد أن يشير إلى قوته وحكمته وإرادته في هذا وعزته وأنه لن يغالبه أحد في هذا فقال: ?يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ? يخلق الله -عز وجل- ما يشاء بقدرته ولذلك عقب عليها بقوله: ?إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? فالله -عز وجل- لم يلجئه أحد إلى أن يخلق من يمشي على بطنه ومن يمشي على رجلين ومن يمشي على أربع ومن يشمي على أكثر من ذلك، ولكنه فعل ذلك -سبحانه وتعالى- بحكمته وقوته وقدرته ولم يشاركه أحد في الكون كله في إيجاد شيء من ذلك.
(24/11)
---(4/424)
ثم بعد ذلك يقول سبحانه وتعالى: ?لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ?46?? ، بعدما أشار الله -سبحانه وتعالى- في هذه الآيات والآيات السابقة إلى ما أشار كرر هذه الآية مرة ثانية وقد ذكرها قبل آيات قريبة أيضاً في سورة النور، وهي تشير أن ما نزل من عند الله -تبارك وتعالى- ما هي إلا آيات واضحات بينات، تبين للناس وتدعوهم إلى الإيمان والعمل الصالح وتقوى الله -تبارك وتعالى- والله -عز وجل- في هذه الآية بالذات أشار إلى أنه أنزل هذه الآيات البينات ولكنه لم يهدي إليها إلا البعض من الناس فحسب، فهذه الآيات البينات قد يراها المؤمنون والكافرون، وقد يراها الصادقون والمكذبون، وقد يقف على حقائقها المنافقون، ولكنهم لا يهتدون في طريقهم إلى الله -تبارك وتعالى-، والله -عز وجل- أنزل هذه الآيات البينات والذي استفاد منها واهتدى إليها وسلك الطريق الموصل إلى الله -عز وجل- فيها هم أهل الإيمان الذين آمنوا بالله واتبعوا بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رسول الهدى والرحمة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
ويستفاد من قوله: ?لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ? أن الله -عز وجل- أنزل في القرآن الكريم الحكم والحكم والأمثال والنماذج التي تهدي الناس إلى طريق الله -تبارك وتعالى- لأن قوله -عز وجل-: ?وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? عقب قوله: ?لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ? تفيد أن هذه الآيات البينات اشتملت على هداية من أراد الله -سبحانه وتعالى- له الهداية، ولو نظر العبد بعين البصيرة، في آيات الله -تبارك وتعالى-، وتأملها وسأل ربه الهداية والتوفيق إليها وكان ذلك بصدق وإخلاص منه هداه رب العزة والجلال من خلال هذه الآيات.
المحور الثالث: المنافقون يظهرون خلاف ما يبطنون
(24/12)
---(4/425)
المحور الثالث في هذا اللقاء بعنوان: المنافقون يظهرون خلاف ما يبطنون، وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ?47?? الله -عز وجل- في هذه الآية وفي آيات تالية أيضاً قليلة يخبر هنا عن المنافقين وعن أحوالهم، ويبين شيئًا من صفاتهم وعلى رأس الصفات التي إن صح التعبير أن أقول امتاز بها المنافقون، أو تميز بها المنافقون عن غيرهم أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويظهرون على قسمات وجوههم ما يخالف ما انطوت عليه قلوبهم، يعني يظهرون على وجوههم أو يحاولون أن يتظاهروا أمام أهل الإيمان بما ليس فيهم على حقيقة الأمر، وهذه الآية تفضحهم بهذا وتبين أن هؤلاء الناس ليس عندهم إلا كلام، وقلوبهم لا تنطوي على شيء من الإيمان بدليل أنهم يقولون بألسنتهم فقط، ?وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا? ثم بعد ذلك، عند الواقع والتطبيق وعند الدعوة إلى الاتباع، وإلى الرجوع إلى القرآن والسنة، تجدهم في إعراض واستكبار وتول عن ما جاء من عند الله عن ما جاء من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولذلك قال: ?ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ? [آل عمران: 23]، وهذه الآية تفيد أن الإيمان قول وعمل لأن هؤلاء قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ولم يعملوا شيئًا مما اشتملت عليه ألسنتهم بالقول، مجرد كلام ليس إلا، فالله -عز وجل- كذبهم في ذلك، وبين أنهم ليسوا من أهل الإيمان، ولا يمكن أن ينخرطوا مع المؤمنين بحال من الأحوال.
(24/13)
---(4/426)
ثم بعد ذلك وبعد أن ذكر الله -عز وجل- هذه الحقيقة عن أهل النفاق ذكر -سبحانه وتعالى- أمرا يبرهن على ما ذكره، يعني قال بأنهم يتولون إذا دعوا إلى الله -عز وجل- أو ?ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ? [آل عمران: 23]، قال بعدها مباشرة مبرهناً على هذه الحقيقة ?وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ?48?? .
هؤلاء يتولون ويستكبرون ولا يلتزمون طاعة الله ولا طاعة رسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، وليس عندهم إلا مجرد الكلام، كلمة ينطقون بها بألسنتهم دون أن يقوم في قلوبهم شيء من ذلك، الدليل على هذا ما قالته هذه الآية أنهم: إذا دعوا إلى الله -عز وجل- وإلى رسوله صلوات الله وسلامه عليه ليحكم بينهم ?إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ? ، استكبروا عن آيات الله -عز وجل-، استكبروا عن حكم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، والآية تفيد أن الكافرين والمنافقين معرضون عن اتباع والتحاكم إلى كتاب الله وهدي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذه سمة من سمات الكافرين والمنافقين والله -عز وجل- يقول في المنافقين: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ?60? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ?61?? [النساء: 60، 61]، هذه سمات المنافقين هذه سمات المكذبين أنهم يتولون، أنهم يعرضون أنهم إذا دعوا إلى الله -عز وجل- تولوا وتركوا التحاكم إلى كتاب الله وإلى هدي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذا يدل أن النفرة عن التحاكم إلى كتاب الله(4/427)
(24/14)
---
-عز وجل- وعدم الرضوخ لحكم الله علامة وأمارة وسمة ومظهر من مظاهر المنافقين والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
ثم تذكر الآيات شيئًا غريباً عن هؤلاء الناس: ?وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ?49?? هؤلاء أصحاب المنافع، هؤلاء الذين يبحثون عن الدنيا ومناصبها وما يحتاجون إليه منها، هؤلاء الناس إن كان لهم منفعة في أن يأتوا إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أتوا إليه، لا يأتون إليه لاعتقاد منهم أنه يجب الرجوع إلى الله وإلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دينا وشرعاً وتحاكماً وأمراً وإنما إن كانت لهم مصلحة والآية القرآنية في غاية من الروعة والفصاحة والبيان ?وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ?49?? تعبير بـ ?مُذْعِنِينَ? هنا يفيد شيء عجيب عن طبيعة هؤلاء الناس ونفوسهم؛ لأن الإذعان هو الإسراع مع الطاعة، فهؤلاء إن كانت لهم مصلحة وفائدة في أن يحضروا إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أتو وليس أتو فقط وإنما أتو مسرعين مطيعين ملبين لماذا؟ لما يعود عليهم من نفع، ولذلك رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- يفضحهم في هذه الآيات ويقول: ?أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ? والله كل ذلك لم يكن، وكل ذلك أنه يحيف الله عليهم ورسوله، لا يمكن أن يكون، ولكن الأمر ما ذكر عنهم أولاً، وكل واحد مما ذكر في هذه الآية وقد ذكر الله -عز وجل- ثلاث صفات تمثلت ووقعت في هؤلاء الناس:
- أولها: ?أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ? والمراد بالمرض هنا النفاق، وهذه يعني الكلمة تدعونا أيها المشاهدون والمخاطبون أن نعتني بسلامة ونظافة القلوب، وتبرئتها وتطيرها من الدنس والمرض لأن الله -عز وجل- وصف قلوب المنافقبن بالمرض فقال: ?أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ? هذا هو الأمر الأول، وهذا كفر والعياذ بالله تعالى.
(24/15)
---(4/428)
- ?أَمِ ارْتَابُوا? يعني هل هم في شك وارتياب مما جاء من عند الله ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
- ?أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ? ، هل رب العزة والجلال بحاجة إلى هؤلاء كي يجور عليهم أو يظلمهم، وهو الحكم العدل -سبحانه وتعالى-.
وكل واحدة كما ذكرت من هذه الأمور كفر والعياذ بالله -تبارك وتعالى-، ولذلك ربنا يقرعهم ويبكتهم ويوبخهم بهذه الآية لأن الهمزة في أول هذه الآية: ?أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ? للتوبيخ والتبكيث والتقريع، وكون الله -عز وجل- لا يحيف عليهم، يعني لا يجور عليهم في الحكم، وكذلك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هو الحق الذي لا محيد عنه.
ولذلك قال الله عنهم أو أضرب عنهم قولهم الأخير فقال: ?بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ? يعني الله -عز وجل- لا يحيف عليهم، ولا يجور عليهم، وكذلك رسوله -صلى الله عليه وسلم- ففي قلوبهم مرض وهم في شك وارتياب مما جاء به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، والآية لما أضربت عن قولهم: ?أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ? ذكرت حكماً لهم آخر ألا وهو وقوعهم في الشرك، لما قال: ?بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ? لأن الظلم على الإطلاق يدخل فيه الشرك والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
المحور الرابع: استجابة أهل الإيمان لما جاء عن الله ورسوله -عليه الصلاة والسلام-
(24/16)
---(4/429)
المحور الرابع بعد ذلك: استجابة أهل الإيمان لما جاء عن الله ورسوله -عليه الصلاة والسلام-، استجابة أهل الإيمان كلمات طيبة في أهل الإيمان لما جاء عن الله وعن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولنتأمل هذه الآية التي هي تحت هذا المحور: ?إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا? لما ذكر الله -عز وجل- حال المنافقين في الإعراض والتولي وهي تبين بهذا أنه ما كان ينبغي لهم ذلك، أتبعه بذكر حال أهل الإيمان، وهي أنهم يسارعون في الاستجابة لله -تبارك وتعالى-، ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فالمنافقون كانوا لا يسمعون ولا يستجيبون، ويتولون ويعرضون، ولا يحتكمون إلى الله وإلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أما أهل الإيمان: ?إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَ? وهذا كما ذكرت وأشرت علامة من علامات أهل الإيمان، ألا وأنهم يستجيبون للرحمن: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ?20? وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ?21?? [الأنفال: 20، 21]، وعدم السماع في الحقيقة عدم الاستماع لكلام الله وكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدم النزول إلى حكم الله -عز وجل- والرضاء به هو في واقع الأمر، من صفات اليهود أيضاً، اليهود أيضاً تميزوا بالانصراف عن الله وعن النبي المرسل إليهم، الله -عز وجل- يقول لهم في كتابه: ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا? قالوا ماذا؟ ?قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا? [البقرة: 93]، أما شعار أهل الإيمان فإذا دعوا إلى الله(4/430)
(24/17)
---
ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذه منقبة عظيمة لأهل الإيمان، وكانت أيها الكرام كانت أيها الإخوة الكرام منقبة عالية وفضلاً عظيماً لصحابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكان السمع والطاعة والاستجابة لله ولرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، كان سبباً في أن ييسر الله على المسلمين وأن يخفف عنهم والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين وغيرهما، لما نزل قول الله -عز وجل- ?للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ? [البقرة: 284]، حقاً لو تأملنا هذه الآية نجدها شديدة، ?وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ? [البقرة: 284]، يعني مجرد ما يقوم في النفس دون عمل يحاسب الله -عز وجل- عليه، هذا ظاهر هذه الآية وكان حكماً أنزله الله -عز وجل-، لما سمع هذه الآية الصحابة اشتد ذلك عليهم وذهبوا إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وجثوا على الركب من شدة الأمر وقوالوا: (يا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كلفنا من العمل ما نطيق كلفنا بالصلاة كلفنا بالصوم كلفنا بالجهاد كلفنا بالصدقات، هذه نطيقها وقد نزلت عليك آية لا نطيقها وهي: ?وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ? [البقرة: 284]، فقال له -صلى الله عليه وآله وسلم-: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فاستجابوا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما قرؤوها أنزل الله -عز وجل- في إثرها: ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ(4/431)
بَيْنَ
(24/18)
---
أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ?285?? [البقرة: 285]، لما نزلت هذه الآية وكانوا قد قرؤوها من قبل بأمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نسخ الله -عز وجل- قوله: ?وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ? فقال: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا? [البقرة: 286]، قال الله قد فعلت) إلى آخر ما جاء في هذه الآيات، الشاهد من ذلك أن السمع والطاعة كان منقبة عظيمة لأصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وعلينا معشر أهل الإيمان أن نسمع ونطيع كسمع صحابة النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، كي يتداركنا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- برحمته، وحتى ندخل في أهل الفلاح؛ لأن الله قال: ?إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?51?? [النور: 51].
حصر الله -عز وجل- الفلاح في هؤلاء الناس المستجيبين لله ولرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وخلاصة القول في الفلاح أنه هو الفوز بالمطلوب والنجاة من الكروب، الإنسان يفوز بما يحب، الإنسان يتحصل على ما يريد مما تقر به عينيه وأيضاً ينجيه رب العزة والجلال من البلاء والمكروه، وما يؤلمه وما يمكن أن يؤثر فيه من جميع النواحي سواءً كان في نفسه أو ماله أو بدنه، فيكون مفلحاً فالحاً في الدنيا وفي الآخرة.
(24/19)
---(4/432)
ثم يقول سبحانه مؤكداً ما سبق أن ذكره من الاستجابة والطاعة والدخول إلى التحاكم لله والرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، يؤكد ذلك فيقول: ?وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ?52?? ، هذا في الحقيقة تأكيد، وبيان أن من يمتثل أوامر الله وأوامر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وينتهي عما نهياً عنه، يكون بذلك من الفائزين، بعد أن ذكر الله -عز وجل- في ختام الآية السابقة أنه من المفلحين، فيجمع له بين الفوز وبين الفلاح، وأخشى أن يضيق بي الوقت، أريد أن أقف وقفة يسيرة جداً عند هذه الآية، وأنتقل إلى غيرها، تأملوا معي: قال الله -عز وجل-: ?وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ?52?? لو تأملتم تجدون أن الله -عز وجل- ذكر في هذه الآية حقاً مشتركاً بينه وبين رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وحقاً يختص به وحده دون سواه، الحق المشترك بين الله وبين رسوله -صلى الله عليه وسلم- هو الطاعة، قالوا: ?وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ? هذا حق مشترك بين الله وبين رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم ذكر الحق المختص به وحده دون سواه، وهو: تقوى الله -عز وجل- وخشيته، ولذلك قال: ?وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ? ما قال: ويخشى الله ورسوله؛ لأن الخشية عبادة يتوجه بها العبد إلى الله -تبارك وتعالى-، ولذلك قال: ?وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ? ، وللرسول -صلى الله عليه وسلم- حق آخر أيضاً لم يذكر في هذه الآية وإنما ذكر في آيات أخر، ألا وهو النصرة والتوقير له -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقد نص الله على ذلك في قوله: ?فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [الأعراف: 157]، ترون ختام الآيات: مفلحون فائزون يطابق بعضه بعضاً.
(24/20)
---(4/433)
الشاهد مما أردت أن أبيه في هذه اللفتة أن الله -عز وجل- ذكر فيها حقين:
- الحق الأول: حق يشترك فيه الله مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، ألا وهو السمع والطاعة.
- الحق الثاني: خشية الله وتقواه، وهذه خاصة لله وحده دون سواه.
ثم بعد ذلك تعود الآيات مرة أخرى إلى الحديث عن المنافقين، وعن أعمال المنافقين وتفضح شيئًا من أحوالهم فيقول سبحانه: ?وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ? هذه في الحقيقة آية حينما نقرأها الآن ونشاهد بعضاً من المنافقين الذين نتعامل معهم نجد أنها تنطبق تماماً عليهم، وهي تجعلنا أيضاً نزداد يقيناً في أن ما نزل من كتاب الله -سبحانه وتعالى-، هو حقاً كلام الله -عز وجل-.
(24/21)
---(4/434)
المنافقون يخبر الله -عز وجل- عنهم في هذه الآية، أنهم إذا أمروا بالخروج في سبيل الله -عز وجل- والجهاد بأموالهم وأنفسهم أقسموا أيمانات مغلظة أنهم سيخرجون، والحلف عند المنافقين لكي يتستروا على أعمالهم أمر واضح مكشوف، قال الله عنهم: ?يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ?96?? [التوبة: 96]، ويبين الله -عز وجل- في كتابه أنهم يتخذون هذه الأيمان دروعا واقية لهم، حتى لا يفتضحوا، وحتى لا يظهر أمرهم أمام الناس، ?اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?2?? [المنافقون: 2]، فهم دائماً يقسمون ويحلفون ويتخذون هذه الأيمان وسيلة إلى تغطية ما هم عليه في واقع الأمر، من كفر وبعد عن الاستجابة لله ولرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولذلك نهاهم الله -عز وجل- عن الحلف، نهاهم عن ذلك و قال: ?قُل لاَ تُقْسِمُوا? يعني لا تحلفوا ?طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ? يعني نحن علمنا وعرفنا أخباركم والذي يتكلم بذلك الذي يطلع على السر والنجوى -سبحانه وتعالى- خلصنا طاعتكم طاعتكم هذه -يعني أيمانكم- مكشوفة لنا، طاعة ظاهرة، طاعة في الكلام، قول باللسان ليس إلا، طاعة إيه؟ ?قُل لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ? ، وقيل: ?قُل لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ? يعني افعلوا طاعة بالمعروف دعوكم من هذه الأيمان الكاذبة وافعلوا أمرا بمعروف ونهيا عن المنكر وقوموا لله -سبحانه وتعالى- قانتين طاعة معروفة من غير قسم ومن غير حلق.
(24/22)
---(4/435)
ثم يقول سبحانه ويختم أن يذيل هذه الآية بما يشعرهم أن الله -سبحانه وتعالى- خبير بأعمالهم مطلع على قلوبهم ?إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ? وفي ضمن ذلك هو -سبحانه وتعالى- خبير بمن يطيعه وخبير أيضاً بمن يعصيه وبالتالي نقول للمنافقين الحلف الصادر منكم أيها المنافقون، إن خفيت حقيقته على المخلوق، فلا يخفى على علام الغيوب -سبحانه وتعالى-.
ثم بعدما ذكر الله -عز وجل- عنهم هذا الأمر وفضحهم بهذا البيان وبين أنهم يتخذون أيمانهم دروعا واقية كما ذكرت، أمرهم مرة أخرى إلى طاعة الله وطاعة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هلموا إن كنتم صادقين في أيمانكم بالاستجابة إلى هذا الأمر، ?قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا? ?قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ? -صلى الله عليه وسلم- سبق بيانها ?فَإِن تَوَلَّوْا? ولا شك أنهم سيتولون، ولا شك أنهم سيعرضون ماذا يكون الأمر وماذا يكون الحال؟ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر قد كلف به وهم عليهم أمور قد كلفوا بها، والأمر فيها كما قال الله: ?فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ? أي على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما حمل، ألا وهو إبلاغ الرسالة، صلوات الله وسلامه عليه، بلاغ الرسالة أداء الأمانة إقامة الحجة هذا مما حمله صلوات الله وسلامه عليه، والله -عز وجل- في كتابه يقول له: ?فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ?21? لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ?22?? [الغاشية: 21، 22]، ?إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ? [الشورى: 48]، -صلى الله عليه وآله وسلم-، ?إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ? [الرعد: 7]، فالله -عز وجل- يخبر عن وظيفة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذه الآية أمام هؤلاء القوم ويقول مهمته -عليه الصلاة والسلام- هو(4/436)
(24/23)
---
البيان والبلاغ وقد فعل -صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك، ?فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ? يعني أنتم عليكم أيضاً حملاً يقع على عاتقكم بعدما قام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بتبليغ الرسالة، وهذا الحمل هو قبول ما جاء به رسول الهدى والرحمة صلوات الله وسلامه عليه، وإذ قد فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- البلاغ وقام بالبيان فقد برء -صلى الله عليه وآله وسلم- بذلك من أفعالكم، وقد برء -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- من أن تحتجوا على الله -عز وجل- يوم القيامة بأنه لم يبلغكم رسالة ربه، ولذلك يؤكد مرة أخرى القرآن الكريم أن وظيفة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هي البلاغ ?وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ? .
المحور الخامس والأخير: تمكين الله في الأرض لأهل الإيمان
(24/24)
---(4/437)
المحور الخامس في هذا اللقاء: تمكين الله في الأرض لأهل الإيمان وتحته آية عظيمة في كتاب الله -عز وجل- تحققت ووقعت على ظهر هذه الأرض، كما سيتبين لنا -إن شاء الله تعالى- بعد قليل، قال تعالى: ?وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ? أقف عند هذا المقطع من الآية وهو وعد من الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- ولكل من آمن وعمل الصالحات متبعا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعده هؤلاء جميعاً ربنا -عز وجل- أن يجعلهم خلفاء في هذه الأرض أي أئمة على الناس، ومنهم يكون الولاة وبهم تصبح البلاد ويخضع الناس لله -تبارك وتعالى-، وتكون السيطرة والنفوذ لأهل الإيمان، وهذه الآية تدل على أن الإيمان بالله -عز وجل- والعمل الصالح سبب للتمكين في الأرض، الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والعمل الصالح لماذا؟ لأن الله قال: ?وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? فنص على الإيمان والعمل الصالح، فبالإيمان والعمل الصالح يتحقق وعد الله للمؤمنين بالاستخلاف في الأرض، وهذه الآية كقوله جل ذكره: ?وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ?40? الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ? [الحج: 40، 41]، ماذا يفعلون؟ ?آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? ?أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ?41?? [الحج: 41]، وقوله سبحانه: ?كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ? الضمير في ?قَبْلِهِمْ? يعود على من؟ أرجح الأقوال أنه يعود على بني إسرائيل، لأن الله -عز وجل- أيضاً مكن لبني إسرائيل في الأرض فترة من الزمن، وقال ربهم لهم: ?عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي(4/438)
(24/25)
---
الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ? [الأعراف: 129]، وقال سبحانه: ?وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ?5? وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرونَ ?6?? [القصص: 5، 6]، فقوله: ?كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ? يراد به من؟ يراد به بنو إسرائيل على الراجح؛ لأن الله -عز وجل- مكنهم من الأرض في فترة من الفترات، وكانوا أمة قوية كبيرة تبعوا موسى -عليه السلام- لما آمنوا به وصدقوه قبل أن ينحرفوا ويغيروا ويبدلوا ويصبحوا خنازير الله في أرض الله -سبحانه وتعالى-.
(24/26)
---(4/439)
وهذه الآية لو نظرنا أيها الكرام للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وصحبه ولأهل الإيمان وسيرتهم سنجد أن وعد الله قد تحقق للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولخلفائه الراشدين، لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن تبعه من الخلفاء الراشدين هم الذين قاموا بالإيمان والإسلام وطبقوا القرآن تطبيقا عمليا بحيث لم يوجد أمة على ظهر الأرض قامت بالدين كما قام صحابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولذلك أقول: خلال ربما ربع قرن من الزمان مكن الله -عز وجل- للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولصحابته في الأرض، تأملوا السيرة واقرأوا التاريخ، النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة لم يقبض إلى ربه -عليه الصلاة والسلام- إلا بعد ما دان جزيرة العرب كلها بالإسلام، وأطراف الشام وبلاد البحرين وولي الأمر بعده أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- فسار سيرا سليماً على نمط النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وحارب المرتدين وقمع الله -عز وجل- به الخارجين ومكن الله له في الأرض وفتح أيضاً بعض البلاد والعباد حتى جاء الفاروق -رضي الله تعالى عنه- ففتح بلاد الشام كلها، وأكثر بلاد فارس وفتح كثيرًا من البلاد وسيطر على أكثر ما يمكن أن نقول عنه بالكرة الأرضية، ثم كان عهد الخليفة الزاهد الراشد التقي النقي الورع عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه- دخلت المشارق والمغارب وبلادهما في دين الله -تبارك وتعالى- فوصلت الفتوحات إلى ما بعد ما بعد بلاد المغرب غرباً ووصلت إلى أقصى بلاد المشرق شرقاً حتى بلاد الصين، وأقيمت الحدود ونفذت وطبقت في هذه الديار وجاءت الأموال إلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، حيث كان الخراج يجبى من سائر أقطار الدنيا، إلى مدينة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كل ذلك كان من تمكين الله -عز وجل- لقوم صدقوا مع الله -سبحانه وتعالى- في الإيمان والطاعة والاستجابة والأعمال الصالحة فمكنهم رب العزة والجلال(4/440)
(24/27)
---
-سبحانه وتعالى- على قدر ما قدموا وجاء بعدهم قوم أيضاً مكنوا على قدر ما قاموا بالإيمان والعمل الصالح ولما قصر المؤمنون وضعفوا في فترات متعددة من التاريخ نالهم ما نالهم، ولو رجعوا إلى الله -عز وجل- والتزموا الطريق القويم وسلكوا الصراط المستقيم، وحققوا الإيمان بالله كما يجب أن يكون والطاعة والاستجابة له ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، لملكهم كما ملك من كان قبلهم ووعد الله حق وصدق، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في حديثه يقول: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منه) ونحمد الله ونشكره على أن الإسلام في كل مكان، ودين الله -عز وجل- قد بلغ الآفاق وفي كل قطر من أقطار الدنيا نجد من يشهد لله بالوحدانية، ولنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بالرسالة، ونحن نستبشر بوعد الله -تبارك وتعالى-، ونأمل أن يعود للمسلمين الكيان الذي كانوا عليه أيام الخلافة الراشدة، وأن يتمكنوا تمكن من كان قبلهم، ونحن أيضاً ننظر بعين كلها تفاؤل وكلها أمل حينما نعلم بأن مهما يكون على هذه الأمة ومهما يحدث لها من فترات ضعف إلا أن فيها بقية ظاهرة متمسكة بالحق إلى قيام الساعة، كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم وعد الله وهم كذلك).
(24/28)
---(4/441)
ثم يقول سبحانه: ?وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ? الآية الأولى في الاستخلاف وتحقيق الوعد من الله -عز وجل- وتتمة هذه الآية تبين أن الله سيمكن لهم الدين، يعني يثبته، والمراد بالدين هنا إيه؟ هو دين الإسلام ?وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ? لأن الله -عز وجل- ارتضى الإسلام ديناً، كما قال: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا? [المائدة: 3]، وكل دين سوى دين الإسلام فهو دين باطل، ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ? [آل عمران: 19]، وقال سبحانه: ?وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ?85?? [آل عمران: 85]، ثم وعد رب العزة والجلال بأن يبدل هؤلاء الذين خافوا أيام الضعف وأيام إيذاء المشركين إذا آمنوا وعملوا الصالحات، ?وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا? ، وقد تحقق ذلك.
أيضاً في حديث الصحيحين: (جاء رجل إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- شكى الفاقة -يعني الفقر- وشكى الآخر قطع الطريق، وكان علي بن حاتم -رضي الله تعالى عنه- موجوداً عند النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال له يا علي: هل رأيت الحيرة؟ قال: لم أرها، ولكني سمعت به) والحيرة في بلاد العراق (قال: لئن طالت بك الحياة لترين الضعينة تخرج من الحيرة إلى الكعبة لا تخاف أحداً إلا الله)، وقد تحقق ذلك والحديث طويل ولا أتمكن لضيق الوقت أن أذكره، وهو في الصحيحين وغيرهما.
(24/29)
---(4/442)
ثم ختم رب العزة والجلال هذه الآية بقوله: ?يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ? ، ?يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا? قيل: هذه جملة حالية، والمعنى أنهم آمنوا وعملوا الصالحات ومكنوا في الأرض حالت عبادتهم لله وحده دون سواه، وقيل بأنها: استئنافية من باب ثناء الله -عز وجل- على هؤلاء القوم الذين مكنهم واستخلفهم بأنهم يعبدون الله ولا يشركون به شيئًا، وهي تفيد أن من عبد غير الله -عز وجل- وأن من أشرك بالله -تبارك وتعالى- فهو كافر ومآله إلى النار وبئس المصير وهو فاسق ولذلك قال سبحانه: ?وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ? وأكتفي بهذا وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إجابات الحلقة الماضية:
كان السؤال الأول: اذكر حديثاً في فضل بناء المساجد وهل يجوز بناء المساجد على القبور؟ أيد ما تقول بالدليل؟
وكانت الإجابة:
ذكر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في ذكر فضل بناء المساجد قال: (من بنى مسجدًا لله يريد به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة).
ثانيًا: لا يجوز بناء القبور على المنازل، وقد جاءت الأدلة الشرعية تثبت ذلك فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فالمساجد ما جعلت إلا لتوحيد الله تعالى قال تعالى: ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا ?18?? [الجن: 18].
الجواب كما ذكرت صحيح وأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في سنته في كثير من الأحاديث لعن من يتخذون القبور مساجد وهذا يفيد من يبني المساجد على القبور ومن يعبد الله -سبحانه وتعالى- فيها؛ لأنه يكون أو تؤدي إلى الشرك والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
السؤال الثاني: ضرب الله مثلين للكفار في هذه الآيات اذكرهما مع الشرح والتوضيح؟
وكانت الإجابة:(4/443)
(24/30)
---
المثل الأول: لرؤساء الكفر والضلال ومن يدعون إليه وهم يحسبون أنهم على خير فشبههم الله تعالى مثل السائر في الصحراء يرى السراب من بعيد يراه ماءاً يغيثه من شدة الحر ولكنه إذا وصله لم يجده شيئًا غير الخيبة وهؤلاء يحسبون أنهم على حق بصدهم عن الهدى في الحياة الدنيا فإذا انقضت الحياة وأفضوا إلى ربهم حين يجدون عذاب الله لهم بالمرصاد وقد قال الله تعالى: ?قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً ?103? الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ?104?? [الكهف: 103، 104].
المثل الثاني: هذا المثل للمقلدين لأئمة الكفر والضلال ساروا مثل الجاهل الذي لا يدري أين يذهب فقد أعمى الله أبصارهم وقلوبهم فمثلهم كمثل الذي تحيطه وتلفه الظلمات من كل ناحية وصوب، فلا يرى الحق في الدنيا ولا يهتدي إليه، فهو يتقلب في خمس ظلمات ومصيره إلى الظلام ومن لم يهده الله فقد خسر وهلك.
ما شاء الله الحمد لله الجواب متقن وصحيح.
(24/31)
---(4/444)
الأخ الكريم من السعودية يقول: جاء في هذه السورة قول الله تعالى: ?وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?22?? [النور: 22]، وجاء بعدها: ?إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?23?? [النور: 32]، فجاء في الشرح للآية الأولى حفظكم الله أن الكبائر لا تحبط الأعمال وفي الآية الثانية اللعن والعذاب الأليم، نرجوا لو تفضلتم التبسط في الشرح والتوضيح كيف يتم الجمع بين عدم إحباط الكبيرة للأعمال واللعن وهو الطرد من رحمة الله والعذاب الأليم، حيث أنني قد فهمت أنها قد وردت في من رمى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وجزاكم الله خيراً؟.
(24/32)
---(4/445)
في الحقيقة أشكر الأخ الكريم على دائماً ما يتحفنا به من مداخلات مفيدة ونافعة، جزاه الله خيراً، في الحقيقة ما ذكرته من أن الكبائر لا تحبط الأعمال، هذه مسألة عقدية واضحة، فالكبيرة التي يرتكبها الإنسان يعاقب عليها بما أوعد الله -سبحانه وتعالى- عليها، إن كانت بالنار أو بالعذاب مثلاً أو باللعن أو بالطرد أو بحد من الحدود أو ما إلى ذلك هذه لها عقابها الذي شرعه رب العزة والجلال وقاله، أما الأعمال الصالحة التي يفعلها الإنسان، فالكبيرة التي يرتكبها لا تُبحط هذه الأعمال الصالحة التي فعلها، والقرآن الكريم واضح في ذلك، وسأبسط هذا من كلام أيضاً بعض أهل العلم واضح في هذا لماذا؟ أنا استدللت بهذا وذكر أهل العلم هذا الدليل لأن الله -عز وجل- وصف مسطح -رضي الله تعالى عنه- ولقبه بلقب المهاجرين بعدما قذف أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- رغم أنه أقيم عليه الحد، ورغم أنه متوعد بعذاب الله -عز وجل- على هذه الجريمة، إلا أن الله -سبحانه وتعالى- لم ينف عنه الهجرة، فالهجرة عمل صالح هذا العمل الصالح لم تبطله هذه الجريمة، ومما يؤكد هذا أيضاً من فعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما جاء في موقف حاطب بن أبي بلتعة، لما أبلغ المشركين بمقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- بفتح مكة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد قال: (اللهم خذ العيون والأبصار عن أهل مكة حتى نبغتهم فيها) وهو يريد بهذا أن لا تسيل الدماء وأن لا تكون هناك مواجهة حادة أو حامية بينه وبين أهل مكة؛ لأنه ذاهب إلى عشيرته وإلى بلدته وهو يريد أن يفتح القلوب قبل أن يفتح البلاد -صلى الله عليه وآله وسلم-، فما كان من حاطب إلا أن فعل ذلك، وأعلم أو أرسل خطاباً للمشركين يعلمهم فيه بمقدم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إليهم، الله -عز وجل- أخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم- كما هو معروف في السيرة وأرسل النبي -عليه الصلاة والسلام- وعلي وآخر وأتى بالخطاب ولم يعلم به(4/446)
(24/33)
---
أهل مكة والحمد لله -تبارك وتعالى-، لما جاء الخطاب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وسأل حاطب: (ما حملك على ما حملت فقال ما قال الشاهد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه قد نافق)، فماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال له: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) هذه في الحقيقة جريمة كبرى، ولذلك الإمام النووي -رحمه الله تعالى- لما جاء يتكلم في الشرح على هذا الحديث قال: "باب حكم الجاسوس إذا كان مسلماً"، لأن فيه هذا خيانة، خيانة للدين، خيانة للأرض التي يعيش عليها الإنسان خيانة للدولة الإسلامية ومع ذلك ومع وقوعه في هذا الأمر قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لعل الله اطلع على أهل بدر)؛ لأنه قد شهد بدراً، فهذه الخيانة التي وقعت منه -رضي الله تعالى عنه- وتاب منها لم تنف إيمانه الصالح الذي عمله من قبل ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ذكر قاعدة مهمة جداً عند أهل السنة والجماعة فقهها في هذا الباب ضروري؛ لأنها خفيت على كثير من الفرق التي لم تفقه وتفهم هذه القضية، قال وذكر هو بالنص في مجموع الفتاوى أن غاب عن الخوارج مسألة مهمة جداً وهي، أن الشخص الواحد قد يجتمع فيه ما يستحق به الثواب وما يوجب عليه العقاب، يعني الإنسان يفعل أفعال صالحة فتكون له حسنات في مقابلها، ويفعل أفعال سيئة فيجازى ويعاقب إذا أراد الله -عز وجل- بسببها، وكلاهما في شخص واحد، ولذلك قال بأن الشخص قد يجتمع فيه الإيمان والكفر، قد يجتمع فيه الإيمان وشعبة من شعب الجاهلية، قد يجتمع فيه الإيمان وبعض شعب النفاق, وبالتالي يحب من جانب ويبغض من جانب آخر.
(24/34)
---(4/447)
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والحديث في الصحيح لما عير أبو ذر -رضي الله تعالى عنه- بلالاً بأمه وقال له: (يا ابن السوداء) أبو ذر -رضي الله تعالى عنه- صحابي جليل أيضاً ممن رضي الله -تبارك وتعالى- عنهم، وهو جبل في الإيمان -رضي الله عنه- ماذا قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ قال له: (أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية) فلا يمتنع أن يجتمع في الشخص الواحد إيمان وشعبة من شعب الكفر، أو إيمان وشعبة من شعب النفاق، أو إيمان وشعبة من شعب الجاهلية أو أن يكون عنده معاصي يذم ويعاقب، وإيمان صالح يثنى عليه ويمدح به، وهو معنى ما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (لا يكره مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) لعل في هذا التوضيح كفاية -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
الأخ الكريم من مصر يقول: ?رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ?37?? [النور: 37]، وفي آية أخرى: ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ? [الأحزاب: 23]، لماذا اختص الله -سبحانه وتعالى- الرجال دون النساء؟ وهل يوجد علاقة بين الآيتين؟
(24/35)
---(4/448)
السؤال الثاني: بسم الله الرحمن الرحيم ?وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?114?? [البقرة: 114]، ما الذي يجري في مساجد العراق ونحن صامتون ونسمع أنهم يقولون قد تم تدمير واحد وعشرين مسجد، لا مائة مسجد، لا حول ولا قوة إلا بالله، ما هو دور كل مسلم ودور أولي الأمر؟ ودور العلماء في هذه الأحداث المؤسفة؟ ماذا نفعل؟ وجزاكم الله خير.
بالنمسبة للسؤال الأول في قوله: ?رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ? [النور: 37]، قلت بأن كلمة ?رِجَالٌ? هنا كلمة ثناء ومدح من الله -تبارك وتعالى- ولا شك أنها تفيد أن النساء لسن كالرجال في هذا الحكم من ناحية إقامة الصلاة، بمعنى أن الآية تشير وتفيد إلى أن إقامة الصلاة في المساجد هي واجبة على الرجال دون النساء، وللمرأة أن تذهب بالشروط التي سبق أن ذكرتها ربما في اللقاء السابق، ومنها عموماً أو ملخصها أن يؤمن من خروجها الفتنة، ولا مانع كما ذكرت أن تذهب المرأة إذا أذن لها زوجها في ذلك، وبالشروط التي أشرت أيضاً إليها وبالتالي أقول: إن كلمة ?رِجَالٌ? هنا في الآية الأولى فيها حكم يتعلق بالرجال دون النساء؛ لأن صلاة الجماعة واجبة على الرجال وليست بواجبة على النساء.
(24/36)
---(4/449)
الأمر الثاني هي الآية الثانية: هذه الآية الثانية جاءت في سورة الأحزاب وهي تتحدث عن غزوة الأحزاب وما لاقاه المؤمنون في هذه الغزوة، وهذه الغزوة كانت شديدة جداً على المسلمين؛ لأن قريشاً أتت وقد أحاطت بالمدينة وتعلمون بأن الخندق صنع وقام المسلمون به كي يمنعوا المشركون من أن يهجموا على المؤمنين في المدينة النبوية وتآلب المشركون حول المدينة مع المشركين من مكة، كما أن اليهود يهود بني قريظة نقضوا عهدهم مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وبالتالي كان وقع هذا الأمر على المؤمنين صعب جداً وشديد، ومع ذلك فالله -عز وجل- اختار لنبيه صحابة كراما فعلا يعني تحملوا هذه المصاعب وتحملوا هذه الشدائد وتحملوا هذا الكرب الذي عاشوه من الخوف والجوع والأحوال الجوية القاسية وأنا أتذكر هنا ما جاء في السيرة أن أحد الصحابة ذهب إلى بلاد الشام وهذا في سيرة ابن هشام فقابله رجل من التابعين فقال له: هل صحبتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتبعتموه؟ قال له نعم، فقال له: لو رأيناه ما تركناه يمشي على الأرض، -صلى الله عليه وسلم-، فقال له هذا الصحابي: لقد كنا نجهد في اتباعه، لقد كنا نجهد يعني: نبذل جهداً بالغاً في اتباعه -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو المطلوب منهم ثم قال: وإني لأذكر في ليلة في غزوة الأحزاب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لنا: (من يذهب فيأتيني بخبر القوم ثم يرجع -يضمن له النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع- وأسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة) قال: فلم يقم أحد من شدة البر ومن شدة الخوف ومن شدة الجوع، ثم قال أحد الصحابة قم، قال: فلم يكن لي بد من أن أقوم.
(24/37)
---(4/450)
الشاهد إن كان الغزوة أمرها شديد، فمن كان فيها رجال أفنى الله -سبحانه وتعالى- عليهم، ومنهم من أفضى إلى ربه، ومنهم من بقي يؤدي رسالته أيضاً في هذه الحياة، وتجاه دين الله -تبارك وتعالى-، ففي كل الآية ثناء على هؤلاء الرجال وآية سورة الأحزاب في سياق الحديث عن هذه الغزوة وصدق هؤلاء المؤمنين فيها، وصدق أيضاً من مات في أحد وبدر وغير ذلك وممن عذب من أهل الإيمان على أيدي المشركين كل هؤلاء يمدحهم رب العزة والجلال ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ? [الأحزاب: 23]، ولا شك أن النساء يلحقن بالرجال إن أصابهن ما أصاب الرجال وصبرن على ذلك، ولكن لعل التعبير في هذه الآية: ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ? ؛ الجهاد أيضاً فرض على من؟ فرض على الرجال دون النساء، والله أعلم.
الأخت الكريمة من مصر تقول: جاء في تفسيركم: ?وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ? [النور: 31]، إلى ?وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ? [النور: 31]، أنها تفرض النقاب من الله فهل نفهم من ذلك بفرضية النقاب؟ وإذا كان فرضاً فلم الخلاف إذن حول كونه فضل وليس فرض، حيث أنه كثر الجدل في هذا الموضوع؟ ولم تكشف المرأة وجهها في الحج والعمرة والصلاة وهل أحاديث كشف الوجه ليست صحيحة؟ وما رأيكم في الزوج الذي يخير زوجته بين الطلاق والنقاب؟ هذه أسئلة ولي رجاء هو أن تقوموا بتفسير القرآن كاملا حيث أننا نرى في فضيلتكم يا فضيلة الدكتور علم ابن كثير وروحانية سيد قطب، وجزاكم الله عنا خيراً وجعلنا في ميزان حسناتكم -إن شاء الله-.
(24/38)
---(4/451)
بالنسبة للسؤال الثاني في الحقيقة جزا الله الأخ على غيرته على بيوت الله -تبارك وتعالى- وهذا شأن كل مسلم وهذا الواجب على كل مسلم وإلا في الحقيقة ما يدور في العراق اليوم يحزن له كل غيور على دين الله -عز وجل- وعلى البيوت التي يذكر فيها اسم الله -عز وجل- وحده دون سواه، وبالتالي نحن نقول بأن هذا ابتلاء من الله -عز وجل- على هذه الديار وفتنة ألمت بهم ووقعت بهم وندعوهم في الوقت ذاته إلى أن يقفوا على الهدي الوارد في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن يصلحوا فيما بينهم على كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ندعوهم إلى ألا يتفرقوا شيعا وأحزابا وألا يكونوا على ما هم عليه والعبرة بأن نرد أمرنا كله إلى الله وإلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فيجب على المسلمين كافة وعلى من يشهد لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة أن يعرف الحق الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى-، وهذا الحق نفهمه لأن الجميع يقول الكتاب والسنة، نفهمه على ضوء ما فهمه سلف هذه الأمة من كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى رأس هؤلاء السلف جميعاً الخلفاء الراشدون الأربعة، هؤلاء صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- من خيرة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ونحن نحب جميع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونثني عليهم جميعاً لأن الله رضي عنهم وزكاهم فيجب على عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتعلموا ذلك وأن يعرفوه، وأن يدينوا لله -عز وجل- بهذا الاعتقاد الذي هو عليه أئمة أهل السنة والجماعة، ونحن نجد الحمد لله في البلاد الإسلامية رجال يعني يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلقد صدرت توجيهات متعددة من بلاد الحرمين ومن مصر ومن غير هذه الديار توجه هؤلاء الناس وتدعوهم بالعود إلى كتاب الله -تبارك وتعالى- وإلى هدي النبي -صلى(4/452)
(24/39)
---
الله عليه وآله وسلم-، وما يدور هناك لا شك أنه لا يرضي مسلماً بحال ونحن ندعوهم والأمر -إن شاء الله تعالى- إن وقفوا وقفة صالحة مع الله -عز وجل- أن يرجعوا هم بأنفسهم إلى كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن يرفعوا راية الكتاب والسنة عندئذ -إن شاء الله تعالى- سيوفق ربي -عز وجل-، إلى ما يحب ويرضى وستتطهر هذه البلاد من كل معتد أثيم ووقت إذ نقول: ?فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?45?? [الأنعام: 45].
الأخت الكريمة كان لها عدة أسئلة سؤالها الأول: هل النقاب فرض؟.
(24/40)
---(4/453)
في الحقيقة في اللقاءات السابقة التي تحدثت عنها ذكرت أقوال أهل العلم في هذا والمسألة في الحقيقة الخلاف فيها يعني خلافاً قوياً وليس سهلاً ولكل ولكل وجهته ولكنا نقول: مع الابتلاءات الواقعة بين المسلمين اليوم وكثرة الفتن وأننا نحب أن يكون المجتمع المسلم مجتمعاً طاهراً نظيفاً يعني تنتشر فيه الفضيلة ويتجنب أصحابه الرذيلة من كل معانيها على المرأة أن تغطي مكامن الفتنة في جسدها كله فإذا تغطت المرأة وانتقبت فهو أولى وخير لها، وأنا أذكر أنني قلت: لو أن امرأة كشفت عن وجهها وكفيها فقط فلا يعني تعنف بسبب ذلك أو يحصل فراق بينها وبين زوجها بسبب ذلك، أو يؤدي هذا الأمر إلى شيء من الشجار أو النزاع أو الخلاف؛ لأن الخلاف في كشف الوجه وعدمه خلاف دائر وسائر وواقع حتى بين صحابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولكن الأولى والأفضل بنا أن نلتزم به حتى نأمن الوقوع في الفتن وحتى نتجنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، هذا ما أدعوا إليه وأدعوا إخواني جميعاً إلى أن يتفهموه وإن كانت الأخرى كما أقول: وهو أن المرأة إذا كشفت وجهها فلا ينبغي يعني أن تقوم الدنيا وتقعد من أجل ذلك وأن تتفرق البيوت أو يحصل النزاع بين الابن وأبيه أو بين الرجل وبين امرأته أو بين البنت وبين أبيها وما إلى ذلك، الأمور لا تحتاج إلى مثل ذلك، ولكن يجب علينا عند الفتن، أقول: يجب عند الفتن أن نحاول أن نسدها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، فمن قال بالعلماء بإباحة كشف الوجه، واليدين قال بأنها تغطى عند الفتن، لأن الهدف من التشريف أن يحمي الإسلام والمسلمين، الهدف من التشريع أن يكون مجتمعاً سليماً نظيفاً أن توجد الطهارة والعفاف في البيئة الإسلامية فإذا وجد ما يعكر ذلك ينهى الإسلام عن ما يؤدي إلى فحش والفساد والانحلال والله أعلم.
أعتقد فضيلة الشيخ أن بقية أسئلتها أجبتم عنها ضمني.
(24/41)
---(4/454)
إنها تدخل أيضاً في الموضوع، ونشكرها الحقيقة على هذه الغيرة وعلى هذه التوجيهات ونسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
الأخ الكريم من المغرب يقول: هل سنحاسب على ما يخالج أنفسنا وإن لم نأخذ به؟.
في الحقيقة ورد عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث الصحيح في البخاري ومسلم وغيرها وأذكر أنه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: (إن الله تجاوز عن أمتي عن حديث النفس ما لم تتكلم به أو تعمل)، فالله -عز وجل- تجاوز عن حديث النفس ما لم تتكلم به أو تعمل، بس أستثني فقط جزئية أشار إليها بعض أهل العلم وهي أن هذا في جميع أقطاب الدنيا عدا مكة المكرمة، هذا في جميع أقطاب الدنيا؛ لأن الله قال: ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ? [الحج: 25].
الأخ الكريم يقول: ذكرتم فضيلتكم في قوله تعالى: ?وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ? الآية.. ذكرتم فضيلتكم جزاكم الله خيراً أن جملة: ?يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئً? جملة حالية وقيل أنها جملة استئنافية، فهل يمكن أن تكون شرطاً بمعنى أن الاستخلاف في الأرض والتمكين يتوقف على إفراد الله -جل وعلا- في العبادة؟.
(24/42)
---(4/455)
جزاك الله خيراً، هو في الحقيقة هذا المعنى الذي ذكرته بحالتي الإعراب لا تمنعان ما أردت بل إن هذه الآية والقرآن يفسر بعضه بعضاً، لما قال: ?وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? وعبادة الله -سبحانه وتعالى- هي من الإيمان به، فالوعد منصب عليهم على الإيمان والعمل الصالح ومن ذلك عبادة الله وحده دون سواه، ولكن الموقف الإعرابي هنا يبين موقع الآية وفهمها أو موضعها من السياق فكونها أنها تكون حالية تكون هؤلاء المؤمنين العابدين لله -تبارك وتعالى- أو الذين يعملون الصالحات يقومون بالدين حالة كونهم غير مشركين بالله -عز وجل-؛ لأن بعض الناس قد يكون في قلبه إيمان، وقد يكون به أعمال صالحة ولكنه وقع في الشرك، أما من يمكنوا في الأرض ومن يستخلفهم رب العزة والجلال يقومون بالأعمال الصالحة وبعبادة الله -تبارك وتعالى- ولا يشركون مع الله -سبحانه وتعالى- أحداً.
وعلى معنى أنها مستأنفة فهي أيضاً ثناء من الله -سبحانه وتعالى- عليهم وإذا كان الثناء فهي تعد أيضاً واجب تكليفي من الله -عز وجل-؛ لأنه أمر قائم أو قائمون به والله -عز وجل- أثنى عليهم بهم فيجب عليهم الاستمرار فيه، والله أعلم.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟.
السؤال الأول: اشرح قوله تعالى: ?أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ?؟
السؤال الثاني: لماذا كان استخلاف السابقين أتم وأكمل ممن جاء بعدهم؟
(24/43)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الخامس والعشرون
الدرس الخامس والعشرون: تفسير سورة النور
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم(4/456)
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين والمشاهدين والمشاهدات ونسأل الله في بداية هذا اللقاء دوام التوفيق والسداد ونحن في ختام سورة كريمة من سور القرآن الكريم وهي السورة الثالثة التي نختم بها لقائنا -إن شاء الله تبارك وتعالى- بعد أن تناولت في هذه الحلقات الحديث عن سورة الحج والمؤمنون وها نختم بإذن الله -تبارك وتعالى- وفضله في هذه الليلة سورة النور، وقبل البدء في الآيات المتعلقة بهذا اللقاء أطلب من الأخ الكريم أن يسمعنا إياها فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(25/1)
---(4/457)
?وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?56? لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ?57? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ?58? وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ?59? وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ?60? لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ(4/458)
(25/2)
---
عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ?61? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?62? لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?63? أَلاَ إِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ ?64??.
أحسنت، جزاك الله خيراً.
الحمد له وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وإمامنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد،
استمعنا معاً إلى آيات هذا اللقاء وتدور كما أشرت آنفاً حول خمسة محاور:
المحور الأول بعنوان: أمر الله المؤمنين بالاستقامة على الدين كما بين مآل الكافرين:
(25/3)
---(4/459)
وتحت ذلك قوله تعالى: ?وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?56?? يقول الله تعالى في الآية آمراً عباده بإقامة الصلاة وإقامة الصلاة على رأس العبادات التي أمر بها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وكما يذكر بعض أهل العلم بأنها الركن الأول بعد الشهادتين، هي الركن الثاني من أركان الإسلام ولكن لإبراز أهميتها يمكن أن يقال: الركن الأول بعد الشهادتين وهي تحقق حقاً العبودية لله -عز وجل-، كذلك أمر بإيتاء الزكاة وذلك ليكون هناك من الإنسان إحسان إلى خلق الله -تبارك وتعالى- كما أمر المؤمنون بطاعة الرسول -صلوات الله وسلامه عليه-، وبينت الآية أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة, وطاعة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- سبب لرحمة الله -تبارك وتعالى- لأن الله قال: ?لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ? وسواء قلنا بأن: "لعل" هنا للتعليل أو للترجي فالأمر فيها واحد؛ لأننا إن قلنا بأن "لعل" للتعليل فالتعليل أو العلل أسباب شرعية وإن قلنا بأن "لعل" للترجي فلا شك أن الله -عز وجل- ما فرض عليهم ذلك إلا رجاء أن يرحمهم -سبحانه وتعالى- والرجاء هنا في حق المخلوق؛ لأن المخلوق هو الذي يرجو لأنه لا يعرف العواقب، أما من يعلم ما كان وما سيكون ويعلم السر والنجوى -سبحانه وتعالى- فهذا أمر معلوم سلفاً لديه -عز وجل-.
هذه الآية أيضاً فيها بعض المباحث اليسيرة سأذكر منها ما يلي:
(25/4)
---(4/460)
الله -عز وجل- هنا أمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذه الأوامر يدخل فيها كل ما شرعه رب العزة والجلال مما أمر به ومما نهى الله -سبحانه وتعالى- عنه؛ لأن الرحمة لا تنال إلا من أتى بجميع ما أمر به النبي -عليه الصلاة والسلام- وكف عما نهى الله -عز وجل- عنه وإن وقع في تقصير أو في ضعف أو ارتكب منكراً أو ما إلى ذلك وتاب إلى الله -عز وجل- أيضاً كان معرضاً لغفران الله -تبارك وتعالى-، والله -عز وجل- وعد المؤمنين في آيات كثيرة من كتابه بأن يرحمهم وذكر بعض الأشياء التي هنا وأضاف إليها أشياء أخرى، ففي سورة التوبة مثلاً: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ? [التوبة: 71] وهنا نص من رب العزة والجلال على أنه -سبحانه وتعالى- سيرحمهم. والأمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هنا وقد أمر بها سابقًا للتكرير والتأكيد يعني كررها للتأكيد وللفت الانتباه إلى وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
(25/5)
---(4/461)
قد يقول قائل هنا فيه نقص لم يذكر طاعة الله؟ نقول: طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي طاعة لله، فمن أطاع رسول الهدى والرحمة -صلى الله عليه وسلم- فقد أطاع الله؛ لأنه ما أطاع الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا لأن الله -سبحانه وتعالى- أمره بطاعته، فطاعة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحقيقة وفي نفس الأمر هي طاعة لرب العزة والجلال، وأيضاً الله -عز وجل- عطف: ?وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ? عطف هذه الجملة على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهذا يكون من باب عطف العام على الخاص؛ لأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يدخلان في طاعة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- ويعطف العام على الخاص كما يعطف الخاص على العام أحيانًا لسبب إبراز ما أراد الله -سبحانه وتعالى- من النص عليه.
وأيضاً من الأبحاث في هذه الآية أن الله -سبحانه- قال: ?وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ? -صلى الله عليه وسلم- ولم يحدد لنا في أي أمر نطيعه -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذا للتعميم ليشمل كل ما جاء به النبي -صلوات الله وسلامه عليه-.
(25/6)
---(4/462)
ثم يقول سبحانه: ?لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ?57?? ينهى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- لأن ?لا? ناهية أن يحسب يعني أن يظن، أن هؤلاء الكفار سينجون من عذاب الله -تبارك وتعالى- وأن الوعيد لم يقع بهم وأخبر هنا ربنا -سبحانه وتعالى- أنه قادر عليهم ?لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ?57?? فلا يظن أحد أن هؤلاء الكفار مهما بلغوا في الدنيا مبلغاً عظيماً ومهما تزينت لهم الأرض بما هي عليها وتزخرفت ووصلوا إلى درجات عالية من التقدم أو غيره أنهم يسبقون رب العزة والجلال أو أنهم يفلتون من عذابه بل توعدهم بقوله: ?وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ?. وقد جاء النص على ذلك في آيات أخر من كتاب الله سبحانه وهذا كي يرتدع الكافرون والمشركون والمنافقون عن غيهم وضلالهم وافترائهم على الله وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، تأمل مثلاً في سورة التوبة لما ربنا -سبحانه وتعالى- يوجه إليهم الخطاب بقوله: ?وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ? [التوبة: 2] يعني يكفي هذا الخطاب الموجه إليهم لهؤلاء الكفار بعد أن تبرأ الله منهم، كما تبرأ منهم رسوله -صلى الله عليه وسلم- قال: ?وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ? [التوبة: 2] ?وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ?53?? [يونس: 53] لما استبعدوا البعث والنشور والجزاء والحساب والوقوف بين يدي الله وأنه لن ينالهم شيء من ذلك أقسم رب العزة والجلال وأكد على أنهم سيبعثون وليسوا بمعجزين رب العزة والجلال سبحانه وصدق الله في قوله: ?أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ?2? وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن
(25/7)(4/463)
---
قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ?3?? [العنكبوت: 2، 3] هؤلاء كذبوا وكفروا برب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والله -عز وجل- سيجمعهم وسيحاسبهم وأخبر ربنا في كتابه هنا أن ?مَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ?.
المحور الثاني: أمر الله المؤمنين أن يستأذنهم مماليكهم والذين لم يبلغوا الحلم منهم:
وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ?58?? بعدما فرغ رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- مما ذكره سابقًا من دلائل التوحيد ووعده لأهل الإيمان بالتمكين والتثبيت, عاد مرة أخرى ليذكر شيئًا من أمور الاستئذان وقد سبق أن تحدثنا عن آيات تتعلق بالاستئذان والسلام وما إلى ذلك، وهذا ليس تكراراً وإنما ذكر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في هذه الآية أحكاماً أخر تتعلق أيضاً بالاستئذان، فالآيات السابقة كانت في استئذان غير الأقارب بعضهم على بعض أو أنها في الاستئذان ممن لا يعيشون مع الإنسان في بيته، أما هذه الآية فتكلمت على من يملكهم الإنسان والأطفال الذين يعيشون معهم في البيت.
(25/8)
---(4/464)
وبينت الآية أنه هناك حداً في العلاقات حتى داخل البيوت وأن هناك مواقيت وأحوالاً يجب على الأطفال وعلى المماليك أن لا يدخلوا فيها بدون إذن على رب البيت وصاحبة البيت: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ? كم مرة؟ قال: ?ثَلاَثَ مَرَّاتٍ? ثم حددتها الآية ?ثَلاَثَ مَرَّاتٍ?.
ما هي الأوقات؟
- الوقت الأول: ?مِّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ?؛ لأن في هذه الحالة الإنسان يكون نائماً وقد يضع ثيابه وما إلى ذلك.
- الوقت الثاني: ?وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ? يعني في وقت القيلولة عند منتصف النهار.
- والوقت الثالث: ما جاء في قوله تعالى: ?وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ?.
ثم بين رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أن هذه عورات ثلاث, يجب على أن نعمل الأطفال والمماليك ألا يدخلوا على الرجل في البيت وزوجه إلا إذا قدما قبل أن يدخلا استئذاناً ليعلموا من هو في الداخل بأنهم داخلون، أو بأنهم متواجدون أو بأنهم يتحركون وسيدخلون إليهم وما إلى ذلك.
(25/9)
---(4/465)
أما ما عدا هذه الأوقات الثلاثة، فأباح الله -عز وجل- لهم أن يدخلوا على والديهم وأن يخرجوا دون استئذان والله -عز وجل- عَبَّرَ عن ذلك بقوله: ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ? يعني بعد هذه الأوقات ثم ذكر العلة في ذلك فقال: ?طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ? وتفيد كلمة ?طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ? أنه يشق الأمر لأنهم يطوف يخدمونكم، يخدمونكم وتتعلق بكم وبهم مصالح وتواجدهم مستمر بينكم فالاستئذان في كل الأحوال فسيشق ولا يمكن أن يكون أو أن يجعل لمن يطوف كمن لا يطوف، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- راعى هذا مع ما يحتاج إليه الإنسان من الحيوانات فقال في الهرة مثلاً: (إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات) لما كان دخولها البيت مستمراً ودائماً فيشق الاحتراز عن ذلك وبالتالي يكون مشقة لو لم تكن هكذا ولذلك قال الله -عز وجل-: ?طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ? وهذه رحمة من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بعباده.
(25/10)
---(4/466)
ثم أخبر -عز وجل- أنه -سبحانه وتعالى- يبين لنا الآيات ويضرب لنا الأمثال كي نعيها وكي نعقلها وكي نتعبد الله -سبحانه وتعالى- بهذه الأوامر الربانية التي أمر بها رب العزة والجلال في كتابه، ولو تتبعنا هذه الأوامر ونظرنا إلى ما شرعه الله -سبحانه وتعالى- سنجد أنه ينظم حياة الفرد والجماعة, وسأذكر بعض الفوائد المتعلقة بهذه الآية والتي تليها بعد أن أنتهي من التي تليها -إن شاء الله تبارك وتعالى- ولكني أود أن أقول هنا بأن حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- كان يعتب وينكر على الناس كثيرًا أنهم لا يعملون بهذه الآية وكان يقول بأن هذه الآية محكمة لم ينسخها شيء ولكن الناس لم يعملوا بها وكان يقول: «إني آمر جاريتي هذه أن تستأذن علي» وذهب ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- إلى هذا القول لما بدأ الناس يتخذون الستور؛ لأنه في السابق كانت الأبواب دائماً مفتوحة واليوم وبعد أن اتخذ الناس الحُجُب والستور يجب أيضاً إذا أرخي الستر أو أغلق الباب أن يستأذن من يريد أن يدخل إلى البيت، وأن يتعلم هذا الأمر سواءً كان مملوكاً أو كان طفلاً في الأوقات التي حددها الإسلام لأنها غالباً ما تكون أوقات عورة، أو أوقات خلوة وهذا بيان من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لأمته.
(25/11)
---(4/467)
ثم يقول سبحانه: ?وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ?59?? والله يا إخواني كما أكرر دائماً الذي ينظر إلى كلام الله -عز وجل- ويتأمل فيه سيجد خيراً ونفعاً عميماً عظيماً ويوقن حقاً أنه كلام رب العزة والجلال بعدما ذكرت الآية ما ذكرته من العورات الثلاث وأحكام الخدم أو العبيد والمماليك والأطفال ذكرت بعد ذلك حكم هؤلاء الأطفال إذا بلغوا الحلم بمعنى أن أمرهم سيعود إلى أمر غيرهم من سائر الأقارب لأن الطوافة التي يقومون بها من ناحية الخدمة وما إلى ذلك يكون قد شَبَّ ريعهم نوعاً ما وبدأت تقل أو تخف أو يكون عندهم من الوعي ومن الإدراك ما يجب عليهم أن يحتاطوا في مثل هذه الأمور ?وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ? وهذا أيضاً من تشريع رب العالمين ?كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ?.
وأود قبل أن أذكر بعض الفوائد في هاتين الآيتين أن أشير: بعض الناس يفهم أن الخدم الذين يخدمونه في البيت هم كالمماليك سواءً بسواء فينكشف عليهم في أي وقت ويخرج عليهم في أي وقت والمرأة ترى الرجل في أي وقت، والرجل يرى المرأة الخادمة على حالة لا يجب أن يراها عليها باعتبار أنها مملوكة، هذا خطأ فادح، فالأحكام هذه تتعلق فقط بملك اليمين، وهو من يملكه الإنسان وليس خادماً عنده بل يكون هو وليه يتصرف فيه بعد إذن الله -عز وجل- له كما يشاء هو.
هاتان الآيتان كما ذكرت فيهما فوائد عظيمة جداً وأذكرها سرداً في صورة سريعة:
(25/12)
---(4/468)
- الفائدة الأولى: أن السيد وولي الصغير مخاطبان بتعليم من تحت أيديهم من العبيد والأولاد العلم والآداب الشرعية؛ لأن الله -عز وجل- وجه الخطاب إليهم فقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ? فالخطاب موجه إلى السيد وإلى مربي أو معلم أو من يقود الطفل من ولي أمره بأن يفعل فيه ذلك.
- الفائدة الثانية: الأمر بحفظ العورات والاحتياط في ذلك، فالله -عز وجل- ما شرع هذا إلا لكي يحفظ عورة كل إنسان وكي يحتاط الإنسان لنفسه وهذا يفهم منه إذن أن يحتاط الإنسان في حفظ عورته.
- الفائدة الثالثة: أن المسلمين كانوا معتادين القيلولة، يعني كانوا ينامون أو يستريحون أو يقيلون ولو فترة يسيرة في وسط النهار والدليل على ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- ربط بها حكماً من الأحكام.
- الفائدة الرابعة: ينبغي للواعظ والمعلم أن يربط الحكم أو الحديث الذي يتكلم فيه بعلته؛ لأن الله -عز وجل- لما ذكر هذا الحكم علله بقوله: ?ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ? وهذا يدفع المستمع إلى أن يستجيب للمتكلم فهذه فائدة للدعاة والموجهين والمربين والمعلمين أن يربطوا الأحكام بعللها؛ لأن هذا فيه سرعة في القبول والجواب.
- الأمر الخامس أشير إليه إشارة وهي أن الإنسان عليه أن يستخدم من تحت يديه من الأطفال والعبيد فيما لا يشق عليهم فيه؛ لأن تعبير قول الحق -تبارك وتعالى-:?طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ? يفهم منه هذا المعنى، ألا يستخدم الإنسان من تحت يديه بشيء من المشقة وهذا شعار يجب أن يكون بين المسلمين, وأتذكر هنا وأنا في هذا اللقاء وتذكرتها الآن ما قاله العبد الصالح لموسى -عليه السلام- لما اتفقا على أن يعمل عنده عشر سنوات أو ثماني سنوات، في نهاية الاتفاقية ماذا قال له؟ قال: ?وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ? [القصص: 27] فهذا أمر جميل وخلق كريم يجب أن يسود بين أهل الإيمان.
المحور الثالث: رفع الجناح عن القواعد من النساء:
(25/13)
---(4/469)
وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ?60??، يخبر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أنه ليس على القواعد من النساء ما ليس على غيرهن، قال سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة: «المراد بالقواعد اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد» و?اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا ? أي لم يبق لهن تشوف إلى النكاح ولا رغبة فيه، فهؤلاء الإسلام شرع لهم إن أرادوا وأحبوا ذلك بشرط كما سيأتي ذكره أن يتخففن من الثياب، ?يَضَعْنَ? يعني يتخففن من بعض الثياب، كما ذكر ذلك الإمام ابن عباس وغيره من المفسرين وذكر أهل العلم في كتبهم أقوالا كثيرة عن السلف في معنى هذا، وأنه ليس على المرأة أن تتكشف ولا أن تتعرى بل الستر والحجاب واجب عليها مهما كان أمرها ولكنهم قالوا: تتخفف من الثياب الظاهرة بحيث يبقى عليها الخمار فكانوا يضعون ما يمكن أن يكون معلوماً عندنا إلى وقت قريب ما يعرف بالملائة التي كانت تلبسها المرأة فوق ثيابها، فهذه يمكن أن تتخفف منها المرأة بشرط أن تكون لابسة ثياباً سميكة كما عبر ابن كثير -رحمه الله تعالى-: «ثوباً صفيقاً» يعني ثقيلاً سميكاً لا يُشِفُ عن ما تحته، وهنا شرط إذا وضعت المرأة شيئًا من ثيابها الظاهرة، قال: ?غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ? فإن كان هذا الوضع إن كان سيؤدي إلى فتنة أو سيظهر شيئًا من الزينة أو يبرز شيئًا من الجمال أو يُعلِم بأمر خفي غير مشاهد غير محسوس فيجب ألا تفعل، ومع ذلك كله ومع هذه الإباحة قال الله -عز وجل-: ?وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ? ما أجمل هذه التوجيهات الربانية، قد يقول قائل: ولمَ هذا؟ بالنظر الآن في أحوال الناس وأوضاعهم تجد أن الإنسان أو المرأة إذا بلغ بها السن(4/470)
(25/14)
---
مبلغاً كبيراً وانقطع عنها التشوف إلى الرجال قد يصعب عليها أن تلبس من الثياب الثقيلة ما تشاء إما لمرض في القلب أو في غير ذلك من الأمور، وهذه أمور مشاهدة، وهذه من رحمة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وبهذه المناسبة أقول لكل الناس: لا تخافوا من الإسلام ولا من تطبيق شريعة الرحمن لأنها شريعة سهلة سمحة ميسورة تأملوا إلى هذا الحد يعني إن وجد هناك حرج في شيء من الأمور التي شرعها الإسلام سيسبب شيئًا من الضيق في بعض الأحيان لأناس أو ما إلى ذلك بلغ بهم الأمر مبلغاً عظيماً فيخفف الإسلام عنهم شيئًا من ذلك بما لا يتعارض مع الأسس ولا مع القواعد ولا مع الأصول التي يسير عليها المجتمع الإسلامي بصورة عامة، والله -عز وجل- بعد أن رفع الجناح عن وضع المرأة التي ليس لها تشوف إلى النساء وقد انقطع عنها الحيض ويئست من الأولاد وما إلى ذلك بعد أن ذكر كل هذا, أكد -سبحانه وتعالى- على الفضيلة، أكد على الفضيلة فقال: ?وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ?، وقوله: ?وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? هذا الختام فيه فائدة يعني يا أيها المستمع لا تظن أن الله يخفى عليه شيء بل -سبحانه وتعالى- يسمع كل شيء وعليم يعلم كل شيء وهذا فيه توجيه للمرأة التي يمكن أن تتخفف وهي لا تستحق أن تتخفف؛ لأن الذي يعلم أنه ليس لديها عندها تشوف إلى الرجال لا يعلم أحد ذلك إلا هي التي تعلم هذا الأمر، فلتتقي الله -عز وجل- ولتعلم بأن الله -سبحانه وتعالى- سميع عليم وكفى برب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وكفى بصفاته وجلال كماله علماً وإحاطة وسمعاً وبصراً إلى غير ذلك من صفات الجلال والكمال الثابتة لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
المحور الرابع: الله تعالى يسر الدين ورفع الحرج عن المؤمنين:
(25/15)
---(4/471)
الله تعالى يسر الدين وهذه رحمة من الله -عز وجل- لعباده، كما أنه -عز وجل- رفع الحرج عن أهل الإيمان وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ? إلى آخر ما جاء في الآية.
?لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ? اختلف المفسرون هنا، ما هو الحرج المنفي عن هؤلاء الثلاثة: عن الأعمى وعن الأعرج وعن المريض؟
قيل المراد بالحرج المنفي عنهم: الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى-، وتصبح هذه الآية كالآية مثلاً التي جاءت في سورة الفتح وهي يعني كما قال أهل التفسير خاصة في الجهاد في سبيل الله -عز وجل- والله -عز وجل- قد رفع الحرج عن هؤلاء الثلاثة.
وقيل: بأن الحرج المنفي هنا هو أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى ومع الأعرج ومع المريض, كان الناس في السابق من أهل الإسلام كانوا يتحرجون من الأكل مع هؤلاء الثلاثة، لماذا؟ كانوا يعتبرون أن الأعمى لا يرى الطعام كما يرونه هم، وأن الأعرج لا يتمكن من الجلوس كما يجلسون, وأن المريض لن يتمكن من الطعام كما يتمكنون، فكانوا من الورع يتحرجون من أن يأكلوا معهم حتى لا يسبقوا الأعمى في الطعام ولا الأعرج الذي لا يتمكن من الجلسة كما ينبغي ولا من المريض الذي أيضاً قد يتأخر في الطعام أو لا يستوعب ما يستوعبه السليم، وهذا يعني يبين أيضاً كيف أن الإسلام ورب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- يشرع هذه التشريعات لهؤلاء العباد.
(25/16)
---(4/472)
وقيل: بأن رفع الحرج هنا المراد به أن المسلمين كانوا إذا ذهبوا إلى الغزوات خلفوا من بعدهم يعني من أصحاب الأعذار وكان أصحاب الأعذار يتحرجون من أكل الطعام الذي تركه أصحاب البيوت، فنفى الله -سبحانه وتعالى- عنهم هذا الحرج وقال: ?لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ? ثم قال: ?وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ? إلى آخر ما جاء مما عطف رب العزة والجلال عليه وقد تلوته قبل قليل.
ما معنى: ?وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ?؟ هذا أمر معلوم الإنسان مباح له ويأكل من بيته كما يشاء، فلم ذكر الله -عز وجل- ذلك ونص عليه؟ قيل ليعطف عليه ما بعده، لكي يعطف عليه ما بعده، وفي قوله -سبحانه وتعالى-: ?وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ? يفيد أن الإنسان يكون هو وإخوانه كأنه نفس واحدة، والله -عز وجل- أيضاً بناءً على هذا رفع الحرج عن الأكل في بيوت الآباء والأبناء وإن لم يذكر أحد منهم في هذه الآية كذلك الأمهات، كذلك الإخوان والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، ليس على الإنسان جناح أو حرج أن يأكل في بيوت هؤلاء.
ثم قال سبحانه: ?أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ? يعني بذلك البيوت التي يملك الإنسان التصرف فيها بإذن أصحابها وذلك كالعبيد والخدم في البيت إن صرحت له بذلك فيحق له لأنك تملك يمينه والله -عز وجل- يقول: ?أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ? فأنت ملكته، فإن ملكته ومكنته من أن يتصرف في ملكك بغير إذنك فيباح له أن يأكل وأن يطعم منه ما يشاء، كذلك أيضاً صديقك، والنفس تطيب من أن يأكل الصديق من مال أو من طعام صديقه وذلك لا شك أنه بالمعروف.
(25/17)
---(4/473)
ثم يقول سبحانه: ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ? هذه الجملة مستأنفة لبيان حكم آخر هو من جنس ما قبله وهو أن الأكل في البيوت جائز سواء كان الناس يجتمعون على الطعام أو يأكلون متفرقين، طيب لماذا نفى الله الجناح في ذلك؟ ولعله نعرف جميعاً أن من السنة ومن المستحب أن يجتمع الناس على الطعام، فلمَ رفع الحرج عن هذا؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث ولقد حسنه الشيخ الألباني -رحمه الله تبارك وتعالى- قال: (اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه)، يعني يبارك لكم رب العزة والجلال في هذا الطعام، وهنا يرفع الحرج عن أن نأكل فرادى أو مجتمعين، ذلك أن الأمر قد يستدعي أن يأكل الإنسان وحده، وكان بعض العرب لا يأكل وبعض أهل الإسلام أيضاً كان لا يأكل إلا إذا وجد أكيلاً معه، وقد اشتهر عن حاتم الطائي كما ذكرت كتب الأدب أنه كان إذا وُضِعَ له الطعام كان لا يأكله إلا إذا التمس ضيفاً يجلس معه على طعامه، فالله -عز وجل- رفع الحرج عن ذلك وبين أن الأمر داخل تحت الإباحة في أن يأكل الإنسان وحده أو أن يجتمع رغم أن الاجتماع على الطعام أحب وأولى وأفضل وأطيب وأبرك.
(25/18)
---(4/474)
ثم قال -سبحانه وتعالى-: ?فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً? شرع الله -عز وجل- هنا في بيان أدب آخر وهو إذا دخلتم بيوتاً غير البيوت التي سبق ذكرها فسلموا على أهلها والسلام على أهلها بمنزلة السلام على أنفسكم، الله -عز وجل- ما قال: فسلموا على أهلها ولكن قال: ?فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ? لماذا؟ لأن المؤمنين كنفس واحدة، لما بينهم من التواد ومن التراحم ومن التعاطف وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- كلكم تحفظونه يدل على ذلك: (مثل المؤمنين… إلى آخر) والله -عز وجل- يقول: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا ? [النساء: 1] فالله -عز وجل- يأمر ويشرع هذا الأدب في أنك إذا دخلت بيتاً فسلم على أهل هذا البيت، ولو لم يكن فيه أحد أيضاً سلم، وقد ورد هذا عن السلف تسلم حتى إذا دخلت بيتاً لا يسكنه أحد فمن المستحب أو من السنة أن تسلم وأنت داخل على هذا البيت وهذا توجيه من رب العزة والجلال -سبحانه-، والله -عز وجل- أخبر أن هذه تحية طيبة مباركة لماذا؟ لأن السلام فيه أمن فيه تحية فيه بركة فيه نماء فيه زيادة فيه رحمة فيه دعاء ?تَحِيَّةً مِّنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً?.
ثم يبين -سبحانه وتعالى- ?كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ? لماذا؟ ?لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ? هذا تأكيد أيضاً لما سبق وقد يعني كرر الله -سبحانه وتعالى- ذلك ليرشد ويشير إلى فضل القرآن الكريم وأهمية القرآن الكريم، وأهمية الأحكام التي شرعها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم.
المحور الخامس: أهل الإيمان يتأدبون مع الرسول -عليه الصلاة والسلام-:
(25/19)
---(4/475)
وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?62?? في الحقيقة هذه الآية والتي تليها آداب رفيعة وتعاليم جليلة, علمنا إياها رب العزة والجلال سبحانه، وأرشدنا الله -عز وجل- إليها، فكما أمرنا ربنا -سبحانه وتعالى- أن نستأذن عند الدخول كذلك أمرنا أن نستأذن عند الخروج، ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ? بأداة الحصر ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ? ?كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ? يعني أمر يشملهم ويعمهم كصلاة جمعة أو صلاة عيد أو ما فيه مصلحة لهم، أو مشورة في أمر علمي أو جهاد أو ما إلى ذلك، أوجب الله -سبحانه وتعالى- عليهم ألا يتفرقوا في هذه الحالة إلا بعد الاستئذان من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(25/20)
---(4/476)
وأخبرت الآية أن من يفعل ذلك فهو من المؤمنين الكاملين؛ لأن إنما من صيغ الحصر والمعنى: لا يتم إيمان ولا يكمل إلا إذا تم ما ذكر: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ? وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أرشد إلى ذلك، فقال: (إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم, فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليس الأولى بأولى من الآخرة، أو بأحق من الآخرة) يعني السلام في الأول ليس بأولى ولا أحق ولا أوجب من السلام عند الانصراف، وهذا كما ذكرت وأشرت توجيه كريم من رب العزة والجلال وتعليم لهذه الأمة أن تفعل هذا مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ومن المعلوم أن أهل الإيمان كانوا يستأذنون من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن الذين كانوا لا يستأذنون منه هم المنافقون, -وستأتي إشارة إليهم بعد قليل- في سورة التوبة يقول رب العزة والجلال سبحانه: ?لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ أَن يُّجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ?44?إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ?45?? [التوبة: 44، 45] فإذا لم يقع الإذن فليعلم الإنسان أن فاعله منافق -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
ثم يقول -سبحانه وتعالى- مشيراً إلى أمر فيه تكريم وتعظيم وتبجيل ورفعة مكانة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ?لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ? صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(25/21)
---(4/477)
?لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ? ذكر بعض أهل العلم ?دُعَاءَ? مضافة إلى الرسول هل مصدر مضاف إلى المفعول ولا إلى الفاعل؟ يعني هل هو مضاف إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حالة كونه مفعولاً أو أنها فاعلاً؟
قال البعض: ?دُعَاءَ? مصدر مضاف إلى المفعول، ويصبح المعنى لأن هذا يبين المعنى: لا تجعلوا دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- كدعاء بعضكم لبعض في النداء وبالتالي لا يحق لمسلم أن ينادي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما ينادي غيره من آحاد الناس فلا يقول الإنسان: يا محمد مثلاً -صلى الله عليه وآله وسلم-، والله -عز وجل- لم ينادِ النبي -صلى الله عليه وسلم- باسمه مجرداً في القرآن الكريم, ما ناداه إلا بلفظ النبوة والرسالة -صلوات الله وسلامه عليه-، ولما ذكر قوله: ?مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رَّجَالِكُمْ? بعدها قال: ?وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ? [الأحزاب: 40] ولم تكن أيضاً نداءً، يعني ناداه قال له: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ? [الأحزاب: 45] حينما ناداه قال له: ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ? [المائدة: 41] إنما نادى موسى -عليه السلام- فقال له: ?يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي? [الأعراف: 144] وغيره من الأنبياء أما نبي الهدى والرحمة -صلى الله عليه وآله وسلم-، فلمكانته عند ربه نهى الله -عز وجل- أهل الإيمان أن يتعاملوا معه كما يتعامل بعضهم مع بعض، ولو رجعتم إلى أوائل سورة الحجرات والوقت يطول أن نستعرض مثل ذلك: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ? [الحجرات:1] الآية التي تليها: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ? -صلى الله عليه وسلم- ?وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ(4/478)
(25/22)
---
لاَ تَشْعُرُونَ? [الحجرات:1] ثم يبين ?إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ?3?? [الحجرات: 3].
فالحديث مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومخاطبة النبي -عليه الصلاة والسلام- ليست كمخاطبة آحاد الناس, وهل هذا أمر انتهى بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ بل هو باق إلى أن تقوم الساعة، فالأدب مطلوب مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من كل عبد يعرف قدر رسول الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه-.
ومعنى لا ترفع صوتك على صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي هو وارد في سورة الحجرات: يعني لا ترفعه لمن كانوا أحياء والنبي -عليه الصلاة والسلام- بين ظهرانيهم واليوم إذا رفعت قول شيخك أو إمامك فوق قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تكون بهذا قد رفعت صوت الإمام أو الشيخ أو من قلدته فوق صوت رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-، وكل هذا لا ينبغي من أهل الإسلام.
أيها المخاطبون الكرام: إكرام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومعرفة هذه الأمة بحقه أمر واجب علينا لمكانته -عليه الصلاة والسلام- عند ربه, وإذا نحن لم نقدر ذلك فمن يقدره إذن؟! نحن نرى آحاد الناس اليوم ممن كفروا وأشركوا أجرموا في حق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فعلى أهل الإيمان أن يبادروا بإكرام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وإجلاله ومعرفة قدره -صلى الله عليه وآله وسلم- ومكانته عند ربه وهو من هو -صلوات الله وسلامه عليه-.
القول الثاني في الآية: أنا قلت القول الأول: ?دُعَاءَ? مصدر مضاف إلى المفعول فيصبح المعنى: لا تجعلوا نداء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يعني دعاءه كنداء بعضكم بعضاً.
(25/23)
---(4/479)
القول الثاني: وهو ضعيف والأول أرجح: أن ?دُعَاءَ? دعاء مصدر مضاف إلى الفاعل ويصبح المعنى: لا تجعلوا دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليكم كدعاء غيره؛ لأنه هنا فاعل دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا تجعلوا دعاءه لأنه هو الذي يقوم بالدعاء، لا تجعلوا دعاءه -صلى الله عليه وآله وسلم- كدعاء غيره لماذا؟ لأن دعاءه -صلى الله عليه وسلم- مستجاب، ولكن الأول هو الراجح وتؤيده النصوص التي أشارت إلى الأدب مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(25/24)
---(4/480)
ثم يقول سبحانه: ?قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا? هذه الآية تخاطب المنافقين كانوا لا يطيقون أن يجلسوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى في الجمع وفي مواعظ الذكر وكانوا يتظاهرون بأنهم يحضرون ويحبون الاستماع وما إلى ذلك، مما يعني فضحهم فيه كتاب رب العزة والجلال -سبحانه- وهنا إشارة إلى شيء من ذلك كيف هذا؟ كان يلوذ بعضهم ببعض يعني يستتر, ?قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا? يعني يستترون كان يستتر بعضهم ببعض لماذا؟ حتى لا يشاهدهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد ذكر أهل التفسير أنهم كانوا يتركون مجلس النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويخرج الواحد منهم خفية ويلوذ بأخيه يعني يخرج من وراء ظهره أو يستتر فيه حتى لا يراه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذه الحالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخطب أو يأمر بأمر فيه مصلحة أو ما إلى ذلك والتعقيب بهذه الآية: ?قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا? بعد القول في أولها: أو الأمر من الله -عز وجل- لمن أراد أن ينصرف بالاستئذان يبين أن أهل الإيمان حقاً هم الذين كانوا يستأذنون، ويبين أيضاً أمراً آخر أشارت إليه الآية في أولها ولم أشر إليه, انتظرت إلى أن يأتي هذا الموطن وهو: أن إذا أذن شخص من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر الله النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأذن له إن شاء: ?فَأْذَن لِّمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ? وليس هذا فحسب ?وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ? فانظر الإذن كيف يعني أوقع هذا العبد المستأذن في رحمة رب العالمين ودعاء النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-، إذ كانت هناك مصلحة ورأى النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يأذن له فبها ونعمت، وإن لم يأذن له فالأمر راجع إلى من؟ إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، قد يأتي إنسان من المؤمنين ولكنه ضعيف فيستأذن وليس عنده ما يدعوه(4/481)
(25/25)
---
إلى ترك هذا الأمر فقد يكون ما يذهب إليه أمراً أقل من أن يكون مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فنجد ربنا -سبحانه وتعالى- يأمر بالاستغفار ليعفو عن الذلل أو القصور إن كان ثمة هناك ذلل أو قصور يكفيه أنه استأذن من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ?فَأْذَن لِّمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ?.
ثم يقول سبحانه: ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?63?? هذا وعيد من الله -تبارك وتعالى- لمن يخالف أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويترك سنته، الذي يخالف أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- ويترك سنة النبي وسبيله وطريقته ومنهاجه يتوعده رب العزة والجلال بأمر خطير، ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ? ما هو الشيء المتوعد به؟ ?أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?.
قال الإمام أحمد -رحمه الله تبارك وتعالى-: «أتدرون ما هي الفتنة؟ الفتنة هي الشرك، يخشى على العبد إذا رد بعض قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك» بسبب ماذا؟ أنه رد قول رسول الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه-.
والإمام أحمد أيضاً قد قال: «عجبت لقوم عرفوا الإسلام يذهبون إلى قول سفيان والله يقول: ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ?».
(25/26)
---(4/482)
وهنا أتوقف وقفة يسيرة جداً؛ لأن الأمة اليوم تقع في مشكلة عظيمة بالنسبة لاتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- وظهرت البدع وانتشرت وعمت وطمت في أرجاء المعمورة وما بقي ممن يتمسك بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهديه ويعض عليها بالنواجذ إلا القليل من الناس الذين زكاهم الله -عز وجل- في آيات كثيرة: ?إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ? [ص: 24] إلى غير ذلك من الآيات، فأقول لمن ترك هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: احذر هؤلاء الأئمة السابقين، الإمام أحمد بن حنبل يقول: «عجبت لقوم عرفوا الإسلام ويذهبون إلى قول سفيان» أتعرفون من هو سفيان؟ إما أن يكون سفيان الثوري، أو سفيان بن عيينة -رحم الله الجميع-، وعلى كل فكانوا جبالاً في العلم، كانوا أئمة في العلم وكانوا يترسمون هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومع ذلك الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ينعى على من عرف الحديث أن يقول: قال سفيان، وتأملوا ما هو أبعد من ذلك، عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- ذات يوم كان يحث على التمتع في الحج، التمتع في الحج معلوم، يعني أن يحرم المحرم بعمرة ثم يتحلل بعد أن يقوم بها، ثم يلبي في يوم الثامن من ذي الحجة يهل بعد ذلك بالحج، فيجمع في سفرته بين العمرة وبين الحج، فكان عبد الله بن عباس يحبذ ذلك ويدعو إليه فقال له رجل: (أنت تحث على المتعة وتأمر بها وكان أبو بكر وعمر ينهيان عن المتعة)، وورد هذا عن أبي بكر وعمر ولكن ليس لأن الحج مثلاً مفرداً أفضل ولكن ذكر بعض أهل العلم أن أبا بكر -رضي الله تعالى عنه- وعمر أرادا أن يكون بيت الله الحرام باستمرار هناك من يطوف حوله، فلو أن الناس والحال ضيقة في ذاك الوقت والمواصلات تكون معدومة أو شبه معدومة لدى الكثير من الناس وصعوبة الطريق ووعورته وعدم الأمن أو الجوع أو ما إلى ذلك فقد يذهب الناس إلى بيت الله الحرام قليلاً إلا في الحج، فأراد أبا بكر(4/483)
(25/27)
---
وعمر أن يكون البيت على مدار العام يطوف به معتمرون يلبون لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ويذكرون اسم الله في هذا المكان، الشاهد عبد الله بن عباس يحث على الحج ويحض عليه متمتعاً فجاء رجل قال: (إن أبا بكر وعمر كانا ينهيان عن المتعة)، ماذا قال عبد الله بن عباس؟ قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقولون: قال أبو بكر وعمر)، فإذا كان هذا قول ابن عباس في من؟ في من أمرنا بالاقتداء بهم، وهما لا يخرجان عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما صح عنه وذكره البغوي في شرح السنة: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) وفي حديث العرباض بن سارية -رضي الله تعالى عنه- لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، ومع ذلك إذا كان هذا عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- يذكر هذا في من؟ في أبي بكر وعمر وهما من هما، فما بالنا بغيرهما من آحاد الناس ممن لا يصل الواحد منهم -يعني ماذا نقارن؟!- كان إيمان أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- يزن أكثر من إيمان الأمة بأكملها فماذا نقول بعد ذلك؟!! كيف يأتي الإنسان اليوم ويأخذ كلام غيره المخالف لهدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويقبله, هذا لا يجوز بحال من الأحوال بل إن في هذا جرم عظيم وقد يؤدي بالإنسان إلى الوقوع في الشرك -والعياذ بالله تبارك وتعالى- لماذا؟ لأن فاعل ذلك يكون قد اتخذ مشرعاً غير الله وغير رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأن الأحكام التكليفية تشريع والذي وضعها رب العالمين وبلغها نبيه الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- ونحن لا خيار لنا معشر أهل الإيمان في أن نتبع أو لا نتبع, بل لابد من أن نتبع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأن نقتفي أثره وهذه هي علامة المحبة الصادقة لرسول الهدى والرحمة(4/484)
-صلوات الله
(25/28)
---
وسلامه عليه-.
ويكفي أن نتأمل بعض الآيات: ?وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا? [الحشر: 7] بل إن الطريق إلى الله من خلال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ?قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ? [آل عمران: 31] فهي دعوة مكررة إلى أهل الإيمان أن يقتفوا أثر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وبالتالي أقول: إن دعونا إلى سنته وجب لزاماً أن ننهى عن البدع المخالفة لهدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- احذر يا عبد الله أن تبتدع شيئًا في دين الله -عز وجل-؛ لأن البدع مظلمة الأرجاء, والمبتدع غالباً لا يرجع ولا يتوب عن بدعته بخلاف أهل المعاصي، أهل المعاصي يمكن أن يرجع ويمكن أن يتوب؛ لأنه يشعر بجرم وذنب المعصية أما صاحب البدعة يظن أنه على خير يظن أنه على معروف يظن أنه قائم على البر وبالتالي غالباً تجد المبتدع يموت على بدعته، فأمر البدعة إذن خطير ونهايتها مظلمة كما ذكرت ويكفي أن نتأمل الحديث الذي في صحيح مسلم وفيه يقول النبي -صلوات الله وسلامه عليه- كما روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) وكان -عليه الصلاة والسلام- إذا افتتح خطبه وأنتم تعرفونها وتسمعونها كثيرًا بعد حمد الله والثناء عليه والتشهد والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله -تبارك وتعالى- وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) فاحذروا يا أهل الإيمان من أن تقعوا في البدع إذن إذا وقعتم في البدعة ستقعون في الضلال والانحراف -والعياذ بالله تعالى- وعضوا على هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-(4/485)
وتعلموه كونوا أصحاب سنة بدل
(25/29)
---
أن تكونوا أصحاب بدعة وأنا أدعو أهل العلم وطلاب العلم ومن يحملون رايات الدعوة في بلاد العالم الإسلامي أن يدعوا إلى الله -عز وجل- على بصيرة وأن يثقفوا الناس في أمور دينهم على هدي كتاب الله وسنة رسوله الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه-.
ثم يقول سبحانه: ?أَلاَ إِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ ?64?? وهذا ختام حسن لهذه السورة الكريمة لأنها تذكر الإنسان بأمور متعددة:
(25/30)
---(4/486)
أولاً تذكره بأن ملك السماوات والأرض لله وحده -سبحانه- دون سواه، فهو الذي يملك السماوات وهو الذي يملك الأرض وبالتالي فهو أيضاً طالما أنه مالك وخالق ورازق فيتصف بصفات الجلال والكمال ومنها العلم ولذلك أثبتها هنا في هذه الآية لنفسه أثبت العلم لنفسه فقال: ?قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ? وقد هنا للتحقيق والتأكيد؛ لأن قد قد تأتي للتقليل وهي هنا للتحقيق، وهي هنا كما في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ? [المجادلة: 1] وهي أيضاً للتأكيد والتحقيق في قول المؤذن " قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة" يعني ثبت وحان وقت الصلاة ف?قَدْ يَعْلَمُ? هنا قد للتحقيق، قد يعلم ما أنتم عليه اليوم وما تقومون به والله -عز وجل- مضطلع عليه وهناك ملائكة تسجل وما إلى ذلك, والدليل على هذا أنه قال بعدها: ?وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ? وهذه تفيد أن المرد والمصير والمنتهى إلى من؟ إلى الله -عز وجل- على المؤمن والكافر والصالح والطالح والبر والفاجر أن يعلم أن المرجع والنهاية والمآب إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ولكن إذا رجعوا جميعاً ووقفوا بين يديه ماذا سيكون الأمر؟ قال: ?فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا? وهذا كما قال الله -عز وجل- في كتابه: ?يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ?13?? [القيامة: 13] ?وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ? قال الله: ?وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ? [الكهف: 49] فالعباد جميعاً سيرجعون ويقفون بين يدي رب العزة والجلال سبحانه وهو -عز وجل- بكل شيء عليم وهذا يردع الكافرين ويطمئن أهل الإيمان، فهو بكل شيء عليم فارتدع(4/487)
(25/31)
---
يا كافر وارجع إلى الله -عز وجل-؛ لأنه يعلم ما تعمل ويعلم ما أنت عليه ويطمئن أهل الإيمان في أن الله -عز وجل- لن يضيع أجر من أحسن عملاً لماذا؟ لأنه عدل ويعلم ما أنتم عليه.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إجابة أسئلة الحلقة الماضية:
وكان السؤال الأول: اشرح قوله تعالى: ?أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ?؟
وكانت الإجابة:
بعد إخبار الله -تبارك وتعالى- لنا عن المنافقين وأحوالهم وبين شيئًا من صفاتهم وذكر الصفة التي تميزهم كقولهم بألسنتهم ما يخالف قلوبهم، كذب الله -عز وجل- المنافقين وبين أنهم ليسوا من أهل الإيمان ولا يمكنهم أن ينخرطوا في هذه الحقيقة؛ لأن الإيمان قول وعمل وهؤلاء المنافقون يتولون عن ذكر الله -عز وجل- وعن ذكر رسوله -صلى الله عليه وسلم- فقد قال الله -عز وجل-: ?أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ?50?? [النور: 50] ومن هنا وجب على المرء أن يهتم بقلبه ويتفقده ويخلص النية لله -عز وجل- حتى لا يكون في القلب شيء لغير الله -عز وجل- فالله -عز وجل- وصف هؤلاء بمرض القلب فقال: ?أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ? أي علة أخرجت القلب عن صحته وأزالت حاسته فصار بمنزلة المريض الذي يُعرض عما ينفعه ويقبل على ما يضره؛ لأن المقصود بالمرض هنا هو الشرك -واليعاذ بالله منه- الذي دفع هؤلاء إلى الشك، فقد قال الله -عز وجل-: ?أَمِ ارْتَابُوا ? أي شكوا، واتهموه أنه لا يحكم بالحق وكون الله -تبارك وتعالى- لا يجور عليهم في الحكم قال الله -عز وجل-: ?بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ? فالله -تبارك وتعالى- لا يحيف عليهم ولا يجور عليهم وكذلك رسوله -صلى الله عليه وسلم-. انتهى..(4/488)
(25/32)
---
في الحقيقة جواب سديد وكلام كله توفيق يعني معظمه مما ذكرت يعني بالنص، وفيه الكفاية والحمد لله.
السؤال الثاني: لماذا كان استخلاف السابقين أتم وأكمل ممن جاء بعدهم؟
وكانت الإجابة:
كان استخلاف السابقين السابقين أتم وأكمل ممن جاء بعدهم؛ لأنهم أطاعوا الله وروسله -صلى الله عليه وسلم-، يقول الله -عز وجل-: ?وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ? [النور: 55] فالله -تبارك وتعالى- وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن يكونوا خلفاء في الأرض, بهم يصلح العباد وتنار العقول لأن الإيمان بالله -عز وجل- والعمل الصالح هو سبب التمكين في الأرض, ثم يقول الله -عز وجل-: ?كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ? [النور: 55] الضمير هنا عائد لبني إسرائيل والآية تشير إلى سبب تمكين بني إسرائيل في الأرض مدة من الزمان لأنهم كانوا أمة قوية كبيرة تبعت موسى -عليه السلام- قبل أن يفسدوا ويهلكوا فيصبحوا خنازير في الأرض، لذا كان التمكين الأتم والأكمل للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه من الخلفاء الراشدين؛ لأنهم قاموا بالقرآن الكريم حق القيام فمكنهم الله -عز وجل- في الأرض وقد تحقق ذلك والحمد لله فأصبح الإسلام هو الدين المقبول عند الله -عز وجل-: ?وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ?85?? [آل عمران: 85] والحمد لله على نعمة الإسلام. انتهى.
(25/33)
---(4/489)
ونحن نقول: الحمد لله على نعمة الإسلام, وجزى الله خيراً المجيب أو المجيبة على ما قالت وذكرت وقدمت وقد أشارت أو أشار المجيب إلى لفتة طيبة أركز عليها وهي أنه يجب علينا أن نتشبه بالسابقين الأولين ممن آمنوا وصدقوا وجاهدوا مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن نكون من التابعين لهم بإحسان حتى يتم لنا وعد الله -تبارك وتعالى-.
الأخ الكريم من السعودية يقول: أرجو مأجورين شرح تفسير قول الله –تعالى- في سورة الجن: ?إِلاَّ بَلاَغًا مِّنَ اللهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ?23?? [الجن: 23] حيث إنه من المعلوم أن الذي يخلد في النار هم الكفار والمشركين وليس العصاة أم يعصي هنا بمعنى يشرك أو يكفر وجزاكم الله خيراً؟
جزاه الله خيراً، أنا دائماً أقول بأن الأخ الكريم -جزاه الله خيراً- أسئلته موفقة.
يا أخي -بارك الله فيك- العصيان كلمة كبيرة تشمل الشرك وما دونه العصيان كلمة الشرك وتشمل ما دون الشرك، فالشرك معصية بل هو أعظم الظلم وأعظم المعاصي على الإطلاق ولو أن إنساناً أخذ ولو شيئًا يسيراً من إنسان أو ضربه بيديه أو ما إلى ذلك فقد وقع أيضاً في معصية وهذه المعاصي تتفاوت في جرمها وفي حجمها وما إلى ذلك فإن كانت المعصية تصل إلى حد الشرك -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فهذا مخلد في النار أبد الآباد لأن الله يقول: ?إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ? [المائدة: 72].
(25/34)
---(4/490)
أما سائر المعاصي التي تقع من أهل الإيمان ممن يشهدون لله صدقاً بالوحدانية وللنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالرسالة ويقومون ببعض أركان الإسلام أيضاً كالصلاة للخلاف الوارد في حكم تارك الصلاة، الذي يفعل ذلك يعني يشهد له بالرسالة ويصلي حتى ولو ترك بعض الصلوات ثم يرتكب معصية من المعاصي هذا بعد ذلك أمره إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- إن شاء عذبه الله -عز وجل- بقدر ذنبه وإن شاء غفر له ذنبه فهو داخل تحت المشيئة وإن دخل النار لا يخلد فيها للأحاديث الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهي كثيرة متواترة في شفاعته لأمته في يوم الدين وهناك شفاعة أرحم الراحمين، وشافعة الملائكة وشفاعة لأهل الإيمان، وشفاعة للشهداء وهذه من فضل رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- على هذه الأمة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح يقول: (لكل نبي دعوة مستجابة وإني ادخرت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة -إن شاء الله- من مات لا يشرك بالله شيئً) فليحذر الإنسان الشرك وليحذر سائر المعاصي بعد ذلك والذنوب، وإن وقع في شيء منها وذلت قدمه وارتكب معصية فأمره إلى الله -عز وجل- إن شاء عذبه بقدر ذنبه وأدخله النار ثم أخرجه منها وأدخله الجنة, وإن شاء غفر له ابتداءً وفي هذا يقول رب العزة والجلال: ?إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ? [النساء: 48] والله أعلم.
(25/35)
---(4/491)
الأخ الكريم من الجزائر يقول: وجدت في تفسير ابن كثير الآية رقم ثلاثين من سورة النور: ?قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ?30?? [النور: 30] الحديث التالي: عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم من تركه مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه) أخرجه الطبراني عن ابن مسعود مرفوعاً، سؤالي: شيخنا ألا يوجد تصحيف في لفظ: (تركه مخافتي) فقد أشكل علي؟
أعتقد أن المعنى لا شيء، أعد معنى الحديث، الحديث نفسه.
(إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم من تركه مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه).
المعنى صحيح، ليس هنا تصحيف، (من تركه) يعني من ترك النظر، والضمير هنا مذكر يبدأ بمذكر ألا وهو: النظر، ولا شيء فيه.
الأخ الكريم من مصر يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ ?36?? [النور: 36] أيهما أفضل: حضور جلسة علم في المسجد أم اتباع جنازة في نفس التوقيت؟
(25/36)
---(4/492)
في الحقيقة أيضاً هذا سؤال وجيه, وأقول كلمة قالها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأيضاً الإمام الحافظ الذهبي -رحمه الله تبارك وتعالى- في مثل أحاديث الفضائل وكيف يوازن الإنسان بينها وأي شيء يختار منها، فقد ذكر هؤلاء جميعاً: «أن الشيء في وقته يكون أفضل من غيره» ما معنى هذا؟ الجلوس في بيت الله -عز وجل- طلباً للعلم والذكر هذا قد يصل إلى حد الوجوب إن احتاج الإنسان إلى ذلك، وهو أمر مطلوب، ومتكرر, والجنازة أيضاً تستحب للإنسان أن يواسي إخوانه وأن يحضر الجنازة وله أجر عظيم إذا شهد الجنازة فصلى عليها وقام معها حتى تدفن، الجنازة لا تتكرر غالباً والمسجد طوال اليوم بين يديك، فإذا حضرت جنازة فاجمع بين هذا وذاك، تحضر الجنازة فيكون هذا في وقته، أو هذا العمل في حينه أفضل من أن تكون في المسجد ثم بعد ذلك تستدرك طلب العلم وما إلى ذلك والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: ذكرت فضيلتكم أنه لا يجوز أن تكون الخادمة من ملكات الأيمان، فهل يوجد الآن في هذا العصر ملكات أيمان؟ وإن كان يوجد فما شروط امتلاكها؟ وإن كان لا يوجد فما سبب زوال هذه النعمة؟
أما عندنا هنا فلا أعرف شيئًا من ذلك، ولكن يوجد في إفريقيا وفي بلاد المغرب وقد سمعت هذا من سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمة الله تعالى عليه- وكان يقول بأنه يعني عن طريقه من أراد أن يفك رقبة فهو له اتصال ببعض الناس الذين يملكون رقاباً هناك ويعني يمكن أن يقوم بالفداء أو وسيطاً في مثل هذا فما زال إلى يومنا هذا، أما وجود هذا الأمر كواقع عملي فلا يكون هذا إلا برفع راية الجهاد تحت إيمان المسلمين في سبيل الله -تبارك وتعالى-، وإذا غنم المسلمون من الكفار غنائم وكان فيها نساء فيكن في هذه الحالة ملك يمين, وتخلَّفَ ذلك لما نحن عليه ونسأل الله -عز وجل- أن يعيد لأمة الإسلام عزها ومجدها وتمكينها وقوتها ووقتئذٍ سيفرح المؤمنون بنصر الله.
(25/37)
---(4/493)
الأخ الكريم من مصر يقول: في الآية التي تقول: ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ ?36? رِجَالٌ ?37?? [النور: 36، 37] كلمة: ?رِجَالٌ? لم تذكر في القرآن إلا مع الإيمان فهل في ذلك إشارة إلى ميزان الرجولة؟ وهل يقصد بذلك الذكورة أم الأنوثة أم يدخل فيه الذكورة والأنوثة؟
في الحقيقة لما تحدثت عند هذه الآية قلت بأن هذا وصف وثناء من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وفي الآية التي معنا هنا: ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ ?36? رِجَالٌ ?37?? [النور: 36، 37] جعلت فرقاً بين الرجال والنساء في هذا الحكم، لأن الآية تتكلم عن رجال يقومون لله -عز وجل- في المساجد وصلاة الجماعة واجبة على الرجال وليست واجبة على النساء ولا بأس إذا أذن ولي الأمر للمرأة أن تخرج للصلاة بالشروط التي ذكرتها آنفاً، الشاهد من هذا أن كلمة ?رِجَالٌ? وصف أثنى الله -سبحانه وتعالى- به على من يقومون لله -عز وجل- بهذه العبادة, أما في ما جاء ذكر ?رِجَالٌ? في آيات آخر من القرآن الكريم كقوله تعالى: ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ? [الأحزاب: 23] فهذه جاءت في سياق غزوة الأحزاب، وما قدمه رجال من أهل الإيمان في سبيل رب العزة والجلال سبحانه، وهي أيضاً تشير إلى من قضى نحبه من السابقين الأولين في سبيل الله -عز وجل- سواءً كانوا في مكة أو في غزوة بدر أو في غزوة أحد أو في غزوة الأحزاب وما إلى ذلك، والمرأة تشارك الرجل إذا شاركت بعمل وكلفت به كما كان النساء يذهبن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويشاهدن المعارك ويداوين الجرحى وما إلى ذلك، يعني إذا قامت بعمل تشكر عليه وخدمة عهدت إليها بما يتلاءم مع طبيعتها وبالمعروف وبما هي عليه من ستر وحشمة ووقار يرجى لها أن(4/494)
(25/38)
---
تنال الجزاء الذي يناله الرجل -إن شاء الله تبارك وتعالى- والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: ذكرتم في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) فما حكم من يسب الشيخين ويدعي أنه يؤمن بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ويسب الصحابة علماً بأن أحد العلماء قال: لا فرق بينه وبين أهل السنة والجماعة؟
في الحقيقة تذكرت عنوان كتاب لأحد الزملاء: "من سب الصحابة ومعاوية فأمه هاوية" سب الصحابة منكر عظيم ومخالفة ومحادة لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأن الذي يسب من رضي الله تعالى عنه فيكون قد حاد الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-, وصحابة النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- اختارهم الله -عز وجل- لصحبة نبيه -عليه الصلاة والسلام- فيجب أن تكون لهم من المحبة ومن المكانة التي تليق بهم -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-، وقد غلى أو وقع في الغلو في الصحابة طائفتين: طائفة يعني بارزتهم العداء أو بارزت أمير المؤمنين علياً -رضي الله تعالى عنه- وهم من عرفوا بالخوارج وطائفة غلت في حبه ومدح علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- وكفروا سائر صحابة النبي ولم ينجوا من تكفيرهم إلا نفر قليل، وكلا الطرفين نقيض وكلاهما مذموم وكلاهما على غير الصواب وعلى غير الصراط المستقيم، أما أهل السنة والجماعة فيحبون جميع أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويعرفون لهم من الفضل ومن المكانة ما أنزلهم رب العزة والجلال فيها، ومن المعلوم لدى أهل السنة والجماعة في معتقدهم أنهم يرون أن ترتيب الخلفاء في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ولذلك الحديث: (كنا والصحابة متواترون نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان) وبعدهم لحق بهم الخليفة الرابع الراشد الزاهد علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- وكلهم ثقات عدول يجب أن يُحبوا وأن يوالوا وأن ينصروا وأن ننزلهم المنزلة التي(4/495)
وضعهم رب
(25/39)
---
العزة والجلال فيها، أما أن يتبرأ الإنسان من أحدهم أو أن يسب بعضهم أو أن يغلو ويرفع في بعضهم فيرفعه إلى مرتبة الألوهية أو النبوة أو أنه يعلم الغيب أو ما إلى ذلك كل هذه أمور خارجة عن الجادة أعني عن شرع الله وما سنه نبي الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه-، وأخيراً أقول: من سب الصحابة ومعاوية فأمه هاوية.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: متى وقت القيلولة؟ هل هو قبل صلاة الظهر أم بعده؟
وقت القيلولة كانت عند العرب قبل الظهر، أما اليوم فهي بعد الظهر ولا حرج في ذلك؛ لأن العلماء لما تكلموا فيها قالوا: عند منتصف النهار، فعند منتصف النهار، إما قبل النهار أو بعد منتصف النهار، خاصة أعمال الناس اليوم تكون متأخرة إلى ما بعد الظهر.
الأخت الكريمة من مصر تقول: سؤالي في قوله تعالى: ?وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ? [هود: 108] فألبس علي قوله: ?إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ? فهل يخرج أحد من الجنة بعد دخولها؟ وما هو التفسير الصحيح لها؟ وجزاكم الله خير؟
لا في الحقيقة لا يخرج أحد وهي وقت أو أن الله -عز وجل- يقول ?خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ? ثم بين رب العزة والجلال بعدها في أهل الإيمان قال: ?عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ? [هود: 108] ليدفع ما يمكن أن يهم على ذهن الإنسان والآية تفيد أن دخولهم وبقاءهم تحت مشيئة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، أما بالنسبة لأهل الإيمان فكما ختم الآية بقوله: ?عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ? يعني غير ناقص وغير مقطوع.
(25/40)
---(4/496)
تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : التفسير/ المستوى الثاني/طه ــ الأنبياء
التفسير - المستوى الثاني
تفسير سورتي طه والأنبياء من تفسير بن كثير
د/ عبد البديع أبو هاشم
تم تحميل الدروس من موقع (الأكاديمية الإسلاميةالمفتوحة)على الشبكة العنكبوتية
بواسطة أبو الليث العدني الرفاعي/اليمن ـ عدن
لاتنسونا من خالص دعائكم
للتنبيه حول ترتيب الدروس أو النواقص والأخطاء في التحميل أرجو التواصل شاكراًعلى بريدي الإلكتروني وهو :
Ghassanshareef123alsharef@yahoo
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (1) طه ( الآيات 1- 8)
الدرس الأول
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد:
إن شاء الله تعالى نستفتح الدروس بالتعريف بسورة طه ، ثم ببيان معاني المفردات التي تبدوا فيها غرابة في الآيات الثمانية الأولى من هذه السورة، ثم تناول ما يعتبر سبباً للنزول في هذه الآيات، وبعد ذلك: المعنى العام للآيات الثمانية الأولى من هذه السورة، باعتبار ترابطها حول موضوع واحد، ثم في النهاية دروس وعبر مستفادة من خلال هذه الآيات. ونستمع إلى الآيات الثمانية الأولى:(5/1)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ? طه ?1 ?مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى ?2 ?إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ?3 ?تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ العُلَى ?4 ?الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ?5 ?لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ?6 ?وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ?7 ?اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ?8 ? ? [طه: 1-8].
الحمد لله الذي خلق الأرض وطحاها ورفع سمك السماء وسواها، وبرأ ما بينهما من مخلوقات وأحصاها، وكل شيء منه - سبحانه وتعالى - مبداها وإليه منتهاها، وهو الله الذي له من الأسماء أحسنها ومن الصفات أعلاها، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ذلكم النبي - صلى الله عليه وسلم- الذي علم الأمة كل شيء حتى الطير في سماها،وبعد.
(1/1)
---
سورة طه إحدى سور القرآن الكريم وهي سورة نبدأ بتعريفها أولاً، فهكذا عرفت منذ أن أنزلها الله تعالى باسم طه، والراجح عند العلماء أن الذي سمى سور القرآن بأسمائها إنما هو الله- سبحانه- وهذا ما يقال عنه: إن أسماء السور توقيفية، أوقفنا الله عليها فليس لنا أن نتقدم عليها أو نتأخر بتغيير أو بتبديل إلا على سبيل بيان أمر معين في السورة أو أن السورة ركزت على هذا الموضوع، فبعض العلماء أحياناً يقولون على بعض السور: إنها سورة كذا، كما قالوا على سورة طه: إنها سورة موسى؛ لما فصل الله تعالى في هذه السورة من خبر نبيه موسى- عليه السلام- ولأن موسى هو الكليم فقال بعض العلماء: سورة الكليم، أما الاسم التوقيفي الذي أوقفنا الله عليه وعرفت به السورة من لدن عهد النبوة إلى الآن، إلى أن تقوم الساعة وثبتت به في المصاحف هو اسم "طه".(5/2)
هذه السورة جاءت بهذا الحجم الذي كتب في المصاحف، وحفظه الحفاظ، ويقرؤه القراء؛ غير أن تقسيم هذا القدر إلى آيات اختلف العلماء، وتنوعت أقوالهم في تقسيم هذا القدر إلى آيات، فبعضهم عد هذه السورة مائة وثلاثاً وأربعين آية، وبعضهم وصل بها إلى مائة واثنتين وثلاثين آية وما بين ذلك.[ 132-143]
(1/2)
---
هذا نريد أن ننبه إليه حيث لا يضر ولا ينفع أو لا يؤثر في فصاحة القرآن ولا في قداسة القرآن أن يختلف عد العلماء لآيات سورة معينة حيث إن الاختلاف يأتي في العدد وليس في المعدود، المعدود واحد فلو جاء عالم من هنا وعالم من هناك ولو جئنا بمصحف من هنا ومصحف من هناك، لو جئنا بمصحف منذ عهد سيدنا عثمان -رضي الله عنه- أو من عهد العلماء من بعد ذلك إلى الآن ومصحف من بلد آخر فنجد نص السورة نصاً واحداً لا يزيد كلمة ولا ينقص كلمة، الكل يقرأ نصاً واحداً، المصاحف كلها اشتملت على نص واحد، إنما اختلف العلماء وتنوعت أقوالهم في عد هذا القدر كم آية؟ وهذا كان له مبرره أو سببه، حيث إن بعضهم رأى أن الحروف المفردة في أوائل السور مثل حرفي: «طه» في أول هذه السورة و «الم» في أوائل بعض السورة وغيرها ونحوها رأوا أن هذه الأحرف تعتبر آية مستقلة، لأنها تقرأ على خلاف ما تقرأ به بقية السورة، فبعضهم عدها آية، وبعضهم رأى أنها حروفاً فلا تستقل بكونها آية ومن هنا اختلف العدد بين العلماء، بين واحد يعتبرها آية وآخر لا يعتبرها آية.
كذلك نظروا في البسملة هل هي آية من كل سورة تعد ضمن عدد آيات السورة أم أنها مجرد استفتاح لكل سورة عدا سورة براءة؟ هذا الاختلاف أيضاً حول البسملة - وهو اختلاف معتبر وله مبرراته- ترتب عليه زيادة العدد هنا مرة ونقص العدد هناك مرة أخرى.
(1/3)
---(5/3)
ثالثاً: اعتبارهم لما وقف عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء قراءته للآيات، هل كل وقف يعتبر آية؟ لا... النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد عنه أنه كان يقف عند رؤوس الآيات فبعضهم عد كل وقف ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم- رأس آية فزاد العدد عنده، وبعض العلماء سلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في أول الأمر فقط حتى يعلم الصحابة فواصل الآيات وخواتيمها، فلما أدرك الصحابة ذلك وتعلموه صار يقرأ قراءة تتوقف أو تتجه إلى بيان المعنى أكثر حيث إنه ربما قرأ آية مستقلة ووقف عند نهايتها، وربما قسم الآية على جزئين وربما قرأ آيتين معاً في قراءة واحدة فبالتالي لم يعد كل وقف للنبي - صلى الله عليه وسلم - آية كما عدها الآخرون، إنما اعتبر في ذلك فواصل الآيات وما يشبهها، ولهذه الأسباب تعددت كلمات العلماء في عد آيات بعض السور فهذا الاختلاف كما رأينا لا يضر حيث إنهم - جميعاً باختلافهم هذا- يقرؤون نصاً واحداً للسورة الواحدة دون اختلاف بينهم إنما الاختلاف فقط وقع في تقسيم هذا القدر من القرآن إلى آيات، فحينما نقرأ هذا في كتب التفسير لا ننزعج له ولا يذهب بنا الظن إلى أن عدد آيات السورة يزيد هنا وينقص هنا، إنما هو عدد فقط، يختلف فيه وحوله العلماء أما نص السورة فهو نص واحد وبالتالي فكلمات القرآن كلها واحدة عند جميع العلماء لا يختلف في شيء منها.
(1/4)
---(5/4)
سورة طه سورة مكية، وأرجح الأقوال والاعتبارات عند العلماء في المكي والمدني: أن المكي هو ما نزل قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. والمدني هو ما نزل بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. فهذه السورة مكية يعني: نزلت قبل الهجرة النبوية، والعلماء اهتموا بهذا وببيانه، حيث إن ما نزل من القرآن في العهد المكي كان له طابعه وكان له خصائصه، إنه يناقش قضايا معينة ويواكب فكراً معيناً ويواجه أحداثاً مخصوصة في ذلك العصر قبل الهجرة، ويعد الأمة في طفولتها وبدايتها؛ ولذلك تجد القرآن أو ما نزل من القرآن قبل الهجرة يراعي أموراً معينة ويخاطب مخاطبة مخصوصة تتلاءم مع المخاطب الموجود في العهد المكي: كافر صريح، جريء يصرح بالكفر عن نفسه دونما كتمان ودون تعريض إنما صراحة وينكر إنكاراً صريحاً فهذا يحتاج إلى مخاطبة معينة بخلاف المخاطب في المدينة، كان ما بين مسلم يقول: سمعنا وأطعنا، وما بين منافق يقول: سمعنا وفي الباطن يخفي الكفر ولا يتبع. وأهل كتاب من بني إسرائيل يتظاهرون أيضاً بالموافقة على هذا الحق المبين، ولكن قلوبهم أيضاً منكرة وجاحدة، فيختلف أسلوب الخطاب من مخاطب إلى آخر. راعى القرآن هذا الأمر ونزل في كل مرحلة بما يتناسب مع المخاطب، البيئة التي يعيش فيها وطبيعة معاملته ومقابلته للقرآن النازل عليه، ولا عجب فالقرآن كلام الله والله هو الحكيم - سبحانه وتعالى - ففعله وقوله كله حكمة متناسبة مع مقامها وظروفها، فكانت هذه السورة - سورة طه - سورة مكية؛ ولذلك كما سيتبين من محاورها سنجد أنها تراعي الأحوال الموجودة في العهد المكي.
سورة طه وغيرها من السور يتساءل حولها العلماء عادة في نقطة ومسألة من المسائل ألا وهي فضل السورة، هل لسورة طه أو لسورة كذا فضل؟ يقصد بهذا السؤال: هل لها خاصية من بين السور؟
(1/5)
---(5/5)
أثبت الله لبعض السور فضائل مخصوصة كسورة النور مثلاً قال الله في شأنها ? سورة أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ? [النور: 1] هذا تكريم وتشريف من الله لسورة النور، فكل القرآن سور أنزلها الله، وسرد الله أحكامها وجعل فيها آيات بينات، فكونه ينص على هذا في خصوص سورة معينة يدل على شرف وفضل هذه السورة بشكل زائد. هذه خاصية من خواصها. وحين يمتن الله تعالى على النبي - صلى الله عليه وسلم- بإنزال الفاتحة مع إنزال القرآن الكريم، ولكن يذكر الفاتحة ذكراً خاصاً مع ذكر عمومها كما قال سبحانه: ? وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المَثَانِي وَالْقُرْآنَ العَظِيمَ ?87 ? ? [الحجر87] لو قال: ولقد آتيناك القرآن العظيم فهذا يكفي يشمل سورة الفاتحة وغيرها، ولكن حين يخص سورة الفاتحة مع ذكر عمومها وهو القرآن فهذا يدل على شرف سورة الفاتحة، كما بينت السنة شرف فضائل بعض السور، ويؤخذ في ذلك ويعتمد فيه على الأحاديث الصحيحة فقط، في بيان خصائص بعض السور كخاصية سورة البقرة وآل عمران وسورة الزلزلة وسورة الصمد والمعوذتين وهكذا. أما السور التي لم يرد في فضلها شيء مخصوص فليس معنى ذلك أنها مفضولة فلا نقل: سورة كذا أفضل من سورة كذا، إنما القرآن كله فاضل غير أننا نذكر خصائص بعض السور.
(1/6)
---(5/6)
سورة طه لم يرد في فضلها- فيما أعلم- حديثاً صحيحاً يقال فيها، ولكن ثبت لها من الفضلِ الفضلُ العام للقرآن كله، فهي سورة من كلام الله، وكلام الله غير مخلوق وكلام الله أعلى كلام، والقرآن أحسن حديث تكلم الله به كما قال: ? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ ?[الزمر: 23] ومنه سورة طه والقرآن كله متعبد بتلاوته لا تصح الصلاة إلا به ? فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ? [المزمل: 20] وسورة طه تصلح للصلاة بها، وهذا أيضاً من فضلها أيضاً ومن شرفها (ومن قرأ من القرآن حرفاً فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) وكذلك الطاء حرف والهاء حرف وكل حرف من سورة طه يقرأ فعليه حسنة والحسنة بعشر أمثالها ويضاعف الله لمن يشاء وهكذا يثبت لسورة طه ولغيرها الفضل العام الثابت للقرآن الكريم .
سورة طه وكل سور القرآن الكريم سور متعانقة كحلقات في سلسلة واحدة بحيث تنتقل من سورة إلى سورة فلا تشعر بخلل ولا تشعر بقطع، إنما تنتقل بك السورة إلى التي تليها وكأنك تقرأ في سورة واحدة، وتقرأ في كلام متصل مع الأخذ في الاعتبار أنه ربما كانت السورة المنتهية السابقة مدنية مثلاً والسورة التي بعدها مكية أو العكس من سورة مكية إلى سورة مدنية وكأنك تقرأ كلاماً واحداً متصلاً لم يكن نازلاً على فترات هكذا وكأنه قيل في ساعة واحدة.
(1/7)
---(5/7)
فهذا يضفي على القرآن تناسقاً وتناسباً عظيماً كما قال ربنا- سبحانه وتعالى: ? أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ?82 ? ? [النساء: 82]، سورة طه بين سورة مريم وبين سورة الأنبياء في مكانها المناسب الحكيم جداً، مما يدلنا على غاية حكمة الله تعالى وعظمة حكمته، فسورة مريم ليس المقصود منها ذكر مريم وإنما ذكر منبت نبي الله عيسى- عليه السلام- من أين نشأ؟ ومن أين جاء؟ وكيف جاء الله به بطريقة عجيبة، فسورة مريم حديث عن سيدنا عيسى بن مريم- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- وأنه كان نبياً ولم يكن إلهاً، وأنه كان بشراً إلى آخر الحديث عن عيسى كما في سورة مريم.
وسورة طه يدور حديثها - كما سنعرف إن شاء الله- حول نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- بالأدلة التي تؤيد ذلك، لكن هذا محور حديثها، وبعد ذلك سورة الأنبياء السابقين وهكذا الأمور متصلة، هذا هو عيسى آية الله وهذا هو موسى كليم الله في سورة طه كدليل وبرهان على نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- وبعد ذلك سورة الأنبياء، فما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وهو حلقة من هذه السلسلة المباركة المضيئة، وهكذا تتناسب السورة بموضوعاتها الرئيسة وبمحورها الأساس التي تدور حوله بآياتها وموضوعاتها ولذلك - كما سيتبين إن شاء الله- هدف هذه السورة هو إثبات نبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بالأدلة التي تؤكد ذلك هذا هو هدفها المجمل، أما محاورها التي دارت حولها ويسميها بعض المفسرين: موضوعات السورة. السورة تكاد لا تخرج عن محاور ثلاثة:
المحور الأول: هو الذي نتحدث عنه في هذه المحاضرة وفي هذا اللقاء وهو: إثبات رسالة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم - الإخبار بذلك مع ما يؤكده.
(1/8)
---(5/8)
المحور الثاني: عرض قصة موسى- عليه السلام- عرضاً مفصلاً بما يشير ويوضح أن بعثة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم - ليست عجيبة من الأمر وليست بدعاً من القول ولا بدعاً من الرسالات، إنما هي حلقة موصولة بالرسالات السابقة قبلها كما جاءت ملخصة في قول الله تعالى ? إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى ?18 ? صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ?19 ? ? [الأعلى: 19،18] أي أن ما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - من أصل الديانة وهو التوحيد ومن أصول الفضائل والفرائض وما إلى ذلك إنما هو موجود في رسالة السابقين، فدين الله واحد هو الاستسلام لله - تبارك وتعالى- بالشريعة التي شرعها.
المحور الثالث: وأخيراً في محاور السورة: قضية البشرية مع الوحي: لماذا يوحي الله تعالى إلى البشرية؟ وما دور البشرية تجاه هذا الوحي؟ من خلال عرض مختصر لموقف من حياة سيدنا آدم - عليه السلام- حين أدخله الله الجنة وعرض عليه الأمر والنهي: كُلْ من الجنة كما شئت رغداً، ولا تأكل من هذه الشجرة فقط مثال للحلال الكثير، ومثال للحرام القليل، وقدر الله على آدم دون غيره من البشر، قدر على آدم فقط تقديراً أن يخطئ فيأكل من الشجرة بقدر الله؛ حتى يعلمنا الله تعالى أن الذي يوقعنا في الشر وفي العصيان إنما هو الشيطان بوسوسته وإغوائه و ما إلى ذلك، وكيف ننهض من كبوتنا من الشيطان بالتوبة، ? فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ?37 ? ? [البقرة: 37]، وكيف أننا خلقنا لا للأرض وإنما للجنة وإنما جعلت هذه الأرض تمهيداً ومزرعة للآخرة ? وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ?64 ? ? [العنكبوت: 64] ، أي لهي الحياة الحقيقية، فخلقنا الله في الأرض لنستثمر ما أعطانا الله من نعم في الحصول على أسباب دخول الجنة والترقي فيها بفضله وكرمه سبحانه وتعالى.
(1/9)
---(5/9)
هذه مقدمة نتعرف من خلالها على سورة طه، وهكذا برزت في ثلاث محاور وحول موضوع واحد أو هدف أساس وهو ثبوت نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم .
نبدأ هذه السورة بتناول الآيات الثماني الأولى منها ونبدأ الحديث في ذلك ببيان بعض المفردات التي تبدوا غريبة في هذه الآيات:
كلمة (طه ) الصحيح فيها أنها حروف: حرف الطاء وحرف الهاء، هذا هو ما يظهر منها، أما كلمة( لتشقى) فالشقاء من الشقاوة فأصل هذه الهمزة منقلبة عن واو، شقاء. والشقاء هو فرط التعب من العمل، من عمل وكد وتعب فقد شقي بعمله والشقاء كذلك - الشقاء المعنوي- هو هم وغم يصيب النفس، ويكون في القلب فيتعب البدن بناء على ذلك، وكأن القرآن أنزل لرفع الشقاء عن البدن وعن القلب، كما سيتبن تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
(1/10)
---(5/10)
? إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ?التذكرة: هي استظهار ما في الباطن من أمور قد نسيها الإنسان، وهكذا جاء القرآن يذكرنا بما فينا من فطرة كأننا ننساها ولا ننتبه إليها فقد جعل الله تعالى فطرة في البشرية وفي المخلوقات تهتدي بها إلى الله، ولكن البيئة التي ينشأ فيها الإنسان قد تنسي الإنسان هذه الفطرة وعواملها ومظاهرها وما تؤدي إليه من معارف، فإذا بهذا الدين يذكرنا بهذه الفطرة ولذلك تجد الدين مع الفطرة متجاوباً دائماً، سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- الرجل الذي أراد أن يباح له الزنا: أترضاه لأمك؟ لأختك؟ لابنتك؟ لعمتك؟ لخالتك؟ قال: لا. لا. لا. قال: وكذلك الناس فاقتنع الرجل بالفطرة فحينما يأتيه القرآن ويقول له: ? وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى ?[الإسراء: 32] يتجاوب النهي القرآني مع ما نطقت به فطرة هذا الرجل الذي كان يريد أن يستبيح الزنا بإذن شرعي من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لكن حدثه عن الزواج، فإذا بنفسه تستجيب وفطرته تتلاءم مع الأمر بالزواج، فجاء الدين بالقرآن والسنة يذكر البشرية بما فيها من فطرة سليمة قد عماها وغماها عن الإنسان ما يعيش فيه من أحداث وبيئة وأسرة ونحو ذلك كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم-(ما من مولود إلا يولد على الفطر فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) يعني يغيران الفطرة أي يطمسانها ويغطيان عليها بأمور أخرى، يوم أن تأتي الآيات الشرعية تزيح ذلك الغطاء فتبدوا الفطرة وتتجاوب وتتلاقى مع الشريعة، فالتذكرة هي استظهار ما في النفس من أمور قد نسيها الإنسان ? إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ? الخشية: يبدوا منها دائماً وغالباً معنى الخوف فيقال: خشي بمعنى خاف، لا.. ليس بهذا الصورة قد تؤدي إلى الخوف.. نعم، لكن الخشية: هي حسن التقدير للأشياء بما يؤدي إلى حسن الانتفاع بها، حينما أعرف الشيء الذي أمامي وأحسن تقدير قيمته وأثره وفعاليته أحسن استخدامه وأحسن التعامل معه. كشخص(5/11)
(1/11)
---
لا يعرف من أمامه فيعامل هذا كهذا ولا يميز بين الناس، ولكن حينما يعرف قدر هذا أنه عالم وهذا رجل كبير في السن، وهذا والد وهذا والدة, وهذا قريب وهذا غريب, وهذا مؤمن وهذا كافر وهكذا، عرف قيمة كل ما حوله فيستطيع حينئذ أن يعطي كل ذي حق حقه. الخشية هكذا ولذلك دعى سيدنا موسى - عليه السلام- فرعون عليه اللعنة بتوجيه من الله سبحانه وتعالى: ? هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ?18 ? وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ?19 ? ? هل الأنبياء يدعون الناس ليخيفوهم، الدين جاء ليخيفنا إنما جاء ليعطينا صورة حقيقية لما أمامنا وما حولنا فنتعامل مع كل شيء بقدره.
فرعون كان يؤله نفسه على الناس وليس بإله وكان يعبد آلهة من وراء الناس قال له الوزراء ? أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ? [الأعراف: 127] إذن كانت له آلهة يعبدها، حينما كان الناس لا يعرفون حقيقته عبدوه، حينما جهلوا أنه يعبد آلهة ظنوا أنه الإله الأعلى والأكبر كما ادعى عليهم، فموسى - عليه السلام- يدعو فرعون ليزيح الغشاوة من على عينيه وليزيح الريب من قلبه، فيرى أن الله الذي خلق السماوات وخلق الأرض وخلق الخلق وفعل كذا وأنعم بكذا، وجاد بكذا، هو الذي يحيي ويميت، حينما يعلمه عن الله علماً حقيقياً يعرف أن الله هو الرب الأعلى والإله الأوحد – سبحانه وتعالى- ويكف عن قوله: أنا ربكم الأعلى ، ماعلمت لكم من إله غيري.
لكن حينما غابت عنه هذه الحقائق ولو بكبره وطغيانه استطاع أن يقول هذا الادعاء الكاذب الذي تعجب منه الشيطان.
فالخشية هي حسن التقدير للأشياء عن علم ومعرفة وبالتالي نستطيع أن نتعامل معها بمعاملة حقيقية فنعطي كل ذي حق حقه.
(1/12)
---(5/12)
كلمة الثرى: الثرى هو التراب وما تحته. كلمة العرش ? الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ? العرش: خلق من خلق الله لم نره ولا نعلم حقيقته إلا بما ورد في السنة النبوية مما يصف العرش فهو عرش يليق بذات الله تبارك وتعالى ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ?11 ? ? [الشورى: 11]، استوى عليه استواء يعلمه الله ويليق بجلال الله - عز وجل- أما العرش فيما نفهم كبشر وخلق فالعرش هو ما يجلس عليه الملك حين يحكم في قضايا الناس، هو كرسي الملك كما قال الله تعالى عن بلقيس ملكة سبأ: ? وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ?23 ? ? [النمل: 23]، كرسي عظيم للملك تجلس عليه حينما تكلم وزراءها تستشيرهم في أمورها وهكذا.
الأسماء الحسنى: الأسماء جمع اسم والاسم هنا هو ما يطلق على الشخص أو على الشيء لتمييزه عن غيره، الواحد منا له اسم واحد وربما اسمان اسم حقيقي رسمي واسم شهرة مثلاً، لكن الذي له الأسماء هو الله- سبحانه وتعالى- الأسماء كلها الأسماء الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى هو الله وحده، أما أنا فلي اسم أو اسمان أما الذي له الأسماء هو الله - سبحانه وتعالى- وأسماؤه كلها حسنى وحسنى مؤنث أحسن تقول: الشيء الفلاني أحسن من كذا، هذا الكتاب أحسن من الكتاب الآخر وهذه الورقة أحسن من الورقة الأخرى هي الورقة الحسنى إذا أردت أن تأخذ القمة في التحسين تقول: هذه الورقة هي الحسنى يعني أحسن الأوراق، فحسنى مؤنث أحسن ككبرى مؤنث أكبر.
الله- سبحانه- صفاته كلها حسنى تصفه سبحانه بالجلال والكمال وتنفي عنه كل نقص لا يليق بذاته سبحانه وتعالى.
هذه مفردات في الآيات الثمانية الأولى بيَّنا معانيها حتى إذا دخلنا في معاني الآيات كنا على ذكر لهذه المعاني.
(1/13)
---(5/13)
أما سبب نزول هذه الآيات: فلا يشترط لكل آية سبب نزول فالله تعالى قد أنزل القرآن كله على سبب عام وهو هداية الخلق وإعجازهم أي إثبات عجزهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن هذا سبب عام وليتعبدوا به.
أما بعض الآيات وهو بعض قليل بالنسبة لبقية القرآن بعض الآيات وبعض السور بكاملها وخاصة في قصار السور نزلت على أسباب خاصة لحكمة أرادها الله- تبارك وتعالى- في تعليم هذه الأمة وتربيتها وربط الآية النازلة بحدث معين وهذا يكثر في آيات الأحكام وذلك ليعلمنا الله تعالى الحكم بطريقة عملية تطبيقية على حادثة مخصوصة بياناً عملياً وهذا أسلوب تربوي عالٍ نستفيده من القرآن الكريم.
(1/14)
---(5/14)
وأسباب النزول مصدرها الوحيد الرواية، ولذلك لابد أن تكون الرواية صحيحة، وفي هذا المقام أنبه إلى ما نبه إليه الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- حين ذكر رواية وكأنه أشار إلى ضعفها حين أخرج الإمام الطبري -رحمه الله تعالى- بغير إسناد عن الإمام مقاتل بن سليمان أحد المفسرين من التابعين -رحمهم الله تعالى- قال: قال: أبو جهل والنضر بن الحارث قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم- إنك لشقي بترك ديننا وذلك لما رأوا من جوده في بالعبادة واشتغاله بالرسالة وتبليغها وبذله العظيم من أجل ذلك، فقالوا له: إنك لشقي بترك ديننا. دين الجاهلية عموماً أي دين يخالف الدين السماوي هو دين يقتصر على الأكل على مراسم بسيطة لا يكلف الإنسان شيئاً ليس فيه تكاليف شرعية، فدين مريح جداً دين يدعو إلى النوم والكسل وترك العمل سواء في الدنيا أو في الدين، أما ديننا فدين يقيم الإنسان على قدمين وساقين عاملاً جاداً في حياته الدنيا والدينية فهو دائماً يدعونا إلى العمل من أجل عمارة الأرض، ومن أجل ادخار فرصة تدخلنا الجنة في الآخرة فلما رأوا جهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في العبادة وفي تبليغ الدعوة والرسالة قالوا: له إنك لشقي بترك ديننا فأنزل الله تعالى: ? طه ?1 ?مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى ?2 ? ? ولكن- كما سبق القول- هذا القول عن مقاتل -رحمه الله تعالى- كان بغير إسناد وما جهل إسناده يجهل الحكم عليه فلا يعتمد على مثل هذا.
المعنى العام لهذه الآيات يكون صياغة بما يستعمل في خطبة منبرية أو درس عام يقتصر على ذلك، أما تفسير الآيات فلا يحسن في هذا المقام الدعوي.
(1/15)
---(5/15)
فالمعنى العام لهذه الآيات أن نقول مثلاً: إن الله تبارك وتعالى يخبر في هذه الآيات الأولى من سورة طه يخبر خبراً صادقاً صحيحاً يثبت فيه رسالة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- وكأنها مُسلَّمة من المسلمات أي قضية مسبقة لا خلاف عليها؛ ولذلك ترك التصريح بها إلى الإخبار عن حكمة إنزال القرآن وأنها ليس الشقاوة ولكن السعادة التي تفوز بها البشرية العاملة بهذا القرآن في الدنيا والآخرة، ثم يبين الله تعالى مصدر هذه الرسالة ? تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ? فالخالق سبحانه وتعالى أو الخلاق الذي خلق كل شيء هو الذي أنزل الرسالات السماوية على مر العصور وختمها برسالة القرآن الكريم أنزلها على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- ولئلا يقول قائل يركب عقله ويتبع هواه ورأيه: لماذا ينزل الآيات ويشرع الأحكام دون غيره؟ ولماذا يتأخر العقل عن النص الشرعي فلا يتحكم فيه إلا بفهم وتلقي؟ فبين الله تعالى مبررات أنه هو الله الواحد الذي ينزل الرسالات والآيات ويشرعها فقال سبحانه وتعالى ? تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ العُلَى ? وأنه استوى على عرشه وهو الرحمن صاحب الرحمة العظيمة الذي لا يملك مثلها أحد وما بين الخلق جميعاً جزء واحد من مائة جزء من رحمة الرحمن سبحانه وتعالى وأنه ملك كل شيء فله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وأنه يعلم كل شيء يعلم السر وهو ما يسره الإنسان في نفسه عن غيره وأخفى من السر وهو ما يخفى على الإنسان الذي أسر في نفسه فإنه يسر عن غيره وهناك أسرار لا يعلمها هو، الله يعلم كل ذلك.
(1/16)
---(5/16)
لأن الله تعالى بذلك الوصف العظيم وبذلك الكمال الكامل الذي ليس كمثله شيء استحق عند العقلاء أن يكون هو الإله الأوحد الذي ينزل الآيات ويشرع الأحكام سبحانه وتعالى فتنتهي الآيات إلى قوله ? اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ? طالما هو هكذا فلا يعبد غيره، ولا يقدس سواه سبحانه وتعالى.
هذا معنى عام للآيات وبقيت لنا الدروس والعبر في هذه الآيات:
أولاً: طه: حرفان من الحروف الهجائية ك(الم) وغيرها مجموعها مختصرة أو مجموعها مع حذف المكرر أربعة عشر حرفاً افتتح الله بها تسعاً وعشرين سورة أربعة عشر حرفاً على نفس عدد الحروف الهجائية على أنها ثمانية وعشرين حرفاً في تسع وعشرين سورة على عدد الحروف الهجائية على من عدها تسعة وعشرين حرفاً بجعل الألف ألف مد وألفاً مهموزة وهذا سر من أسرار هذه الحروف ولذلك جمعها العلماء في جملة قالوا فيها: نص حكيم قاطع له سرهذه الجملة تجمع الأربعةعشر حرفاً.
تتلخص آراء وأقوال العلماء في هذه الحروف حيث كانت من السور في قولين: قول للسلف -رضي الله عنهم- وهو أن هذه الحروف سر من أسرار الله في كتابه، نؤمن بأنها قرآن وأنها من كلام الله ونفوض المعنى فيها إلى الله سبحانه وتعالى.
(1/17)
---(5/17)
والأجواء الإيمانية عند السلف كانت تساعد على ذلك، وهذا مذهب أسلم وأكرم وأبعد عن الشطط ثم جاء الخلف من بعد ذلك وكثرت التساؤلات عما في القرآن من مبهمات، حتى سألوا عن نملة سيدنا سليمان عليه السلام هل كانت ذكراً أم أنثي؟ ومن أي نوع كانت؟ وعن كلب أصحاب الكهف وما اسمه؟ وما نوعه؟ وكان كلب من؟ وهكذا. كذلك سألوا عن هذه الأحرف ما معناها؟ ما مؤداها؟ ولماذا تقرأ هكذا على خلاف قراءة الحروف والكلمات الأخرى؟ فـ (الم) في أول البقرة وغيرها تقرأ على خلاف ? أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ?1 ? ? [الشرح:1]، هي الحروف نفسها ولكن تقرأ هنا ألف لام ميم وهناك تقرأ (ألم نشرح) ، (ألم تر كيف فعل ربك) وهكذا فتساءلوا فاضطر العلماء إلى وضع معانٍِ لهذا الحروف، فقالوا كلاماً وآراء عدة منها: أن هذ الأحرف إنما هي رموز لبعض أسماء الله تعالى ورموز لبعض أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم- حتى قيل - وليس بصحيح - إن طه ويس من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم- وهذا ليس صحيحاً إنما الراجح فيها عند العلماء أنها حروف: الطاء هي الطاء والهاء هي الهاء مما نعرف في الأحرف، والمراد منها في وضعها هكذا الإعجاز بمعنى: أن الله تعالى يعجز ويثبت عجز البشرية عن الإتيان بمثل هذ القرآن بواسطة هذه الأحرف. حين قال الكفار ? إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ? [النحل:103] هذا القرآن جاء به من عند البشر وحينما قالوا أيضاً ? إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) ? [المدثر: 24] أي يأثره عن رَأيٍّ من الجن يتلقاه عن جني ويلقيه على الناس ويقرأه وبعضهم قال ? إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ? [النحل: 101] أي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفتري هذا القرآن من عنده، لما نسبوا القرآن لكلام الخلق، الله تعالى ناظرهم وحاجهم بالحجة فقال: الم، كهيعص، حم عسق، وهكذا طه يس ق ن ص هذه هي الكلمات التي ركبت منها كلمات القرآن وهي الحروف التي تركبون منها كلامكم فإن كان(5/18)
(1/18)
---
القرآن من عند الخلق فأنتم من أبرع الخلق في صناعة الكلام كانوا من أرباب البلاغة والفصاحة. أولئكم العرب الأولون كانوا أرباب الفصاحة والبلاغة وصناعة الكلام. كلامهم- بغض النظر عن موضوعه- يدرس إلى الآن في هذه القرون المتحضرة تحت عنوان الأدب والنصوص، فكانوا بلغاء فصحاء فإن كان القرآن من عند الخلق والبشر ? فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ?34 ? ? [الطور: 34] عجزوا ولم يقم أحد لهذا التحدي، قال تعالى: ? فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ? [هود: 13]، لم يقم أحد لهذا, قال الله تعالى: ? فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23) ? [البقرة: 23] عجزوا حتى عن الإتيان بسورة واحدة ولو مثل أقصر سورة في القرآن وهي سورة الكوثر سطر واحد من ثلاث آيات كلماتها وحروفها أقل حروف في سورة من القرآن عجزوا عن الإتيان بشيء من ذلك مع امتلاكهم لصناعة الكلام ومادة الكلام وهي هذه الأحرف، فثبت عجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن وبالتالي فالقرآن كلام الله - سبحانه وتعالى - لا يستطيع أحد أن يصل إليه لا بتأليفه ولا بمضاهاته ولا بمحاكاته - تبارك ربنا سبحانه وتعالى وتباركت آياته - هذه هي الأحرف التي في أوائل السور وسميت في كتب التفسير بالأحرف المقطعة، ولي تعقيب على هذا: أرى أن تسمى بالأحرف المفردة، فالمقطع هو ما كان موصولاً ثم قطع، لكن المفردة هو ما كان مفرداً وأصل هذه الحروف مفردة ثم تركب منها الكلمات، يضم حرف إلى حرف إلى حرف فتكون كلمة فأرى أن الألطف في ذلك أن تسمى بالأحرف المفردة ولا مشاحة في الاصطلاح على كل حال.
(1/19)
---(5/19)
في هذه الآيات المباركات يقول الله تعالى: ? مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى ?الخطاب المباشر للنبي - صلى الله عليه وسلم- ولكن الأمة مخاطبة بما خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم- في غير خصائصه، فالقرآن نزل عليه ونزل علينا كذلك، نزل إليه ونزل إلينا فالخطاب للكل أي ما أنزلنا عليكم القرآن لنشقيكم فالأحكام الشرعية والتكاليف الشرعية ليس المقصود منها إرهاق الخلق ولا إتعاب الأمة ولا إشقاءها وإنما المقصود من إنزال القرآن هو إسعاد الخليقة؛ لأن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض كما عرفنا وخلق البشر فيما بينهما ويعلم ما يضرهم وما ينفعهم فشرع لهم ما يضبط لهم حركتهم في هذا الكون، وصولاً بهم إلى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة ? مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى ? ولذلك جاء في ثنايا السورة فيما بعد ? فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ?123 ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى ?124 ? ? [طه: 123] إذن: من اتبع الهدى وهو القرآن اتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يضل ولا يشقى، وطالما لم يضل فلن يشقى؛ لأن الشقاء هو نهاية الضلال، ومن أعرض عن ذكر الله وعن القرآن فإن له معيشة ضيقة ضنكاً فيها النكد والتعب والعناء في الدنيا ويوم القيامة يحشر أعمى وتخيل رجلاً أعمى العين في الآخرة بين هذا الزحام الشديد في طريقه إلى النار - والعياذ بالله - كيف يسلك طريقه والملائكة وراءه تسوقه-نعوذ بالله من الضلال ومن الشقاء.
(1/20)
---(5/20)
فالقرآن الكريم والسنة المطهرة المراد من ورائها هو سعادة الخلق وبذلك نحسن الظن في الله سبحانه وتعالى: ? تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ العُلَى ? كما أشرنا سابقاً وبتفصيل أقول: إن هذا القرآن تنزيل أي نزل والنزول يكون من أعلى إلى أسفل، إذن لم يكن من الأرض منبت القرآن، لم يكن من عند بشر ولا من عند النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- إنما كان القرآن نازلاً من أعلى، والعلو الكامل لله- تبارك وتعالى- فهو من عند الله وكلام عالٍ ينبغي أن يحكم الناس ويضبط حركتهم وسكنتهم في حياتهم فهو الأولى بذلك من أي كلام آخر؛ لأنه كلام الله الذي خلق الكل ويعلم كل شيء سبحانه وتعالى ? تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ? هل رأت الدنيا خالقاً غير الله أو مع الله يقول الله تعالى متحدياً: ? هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ? يعني ليس هناك خالق غير الله تعالى في الحقيقة، وعند تحرير هذه المسألة ومناقشتها واقعياً لا تجد خالقاً مع الله ولا من دون الله لا شريك في الخلق ولا خالق يخلق خلقاً لم يخلقه الله، إنما الخلاق الوحيد هو الله سبحانه وتعالى الواحد الأحد.
(1/21)
---(5/21)
وبالتالي احتج الله تعالى بكونه خالقاً ليكون إلهاً، وهذه قضية تغيب على كثير ممن يريدون إثبات ألوهية الله . صف الله لمن أردت أن تصفه إليه بأنه هو الخلاق فلن تجد أحداً يشابه الله أو يشاركه في هذه الصفة، والله استعملها كثيراً فقال في أول ما أنزل: ? اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ?1 ? ? [العلق: 1] ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ?1 ? ? [الأعلى: 1] مجده واعبده ووحده ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ?1 ? الَّذِي خَلَقَ ? ثم طرح على العقلاء أطروحة يفكرون فيها بعقولهم ? أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ?[النحل: 17] هل يستويان هل تعبد من يخلق وتعبد من لا يخلق؟ أو هل تعبد من لا يخلق وتترك الخلاق؟ هذا لا يستقيم في عقل ولا في فكر، ثم تحدى فقال: ? هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ? [لقمان: 11] ثم تحدى الآلهة المزعومة من دونه سبحانه وتعالى فقال: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ?73 ? ? [الحج: 73] وإذا قيل: إن الإله فلان كفرعون مثلاً الذي ألهه الناس إن فرعون أضعف من الذباب فهذه إهانة عظيمة وتحقير عظيم لفرعون حين نوازن بينه وبين الذباب ونقارنه بالذباب قال القائل:
ألا ترى أن السيف ينقص قدرُه *** إذا قيل إن السيف أمضى من العص
(1/22)
---(5/22)
لو قارنت بين السيف والعصا فقد أهنت السيف فليست العصا من جنس السيف وليس السيف من جنس العصا نعم يضرب بكل منهما ولكن تختلف الجنسية وتختلف القوة, فإذا قارنت السيف بالعصا والعصا بالسيف فقد أهنت السيف، فإذا قارن الله تعالى الآلهة المزعومة عند الناس بالذباب الضعيف ذلك المخلوق الضعيف ففي ذلك تحقير عظيم لهذه الآلهة وبيان لقدرها أنها أضعف من ذلك الذباب وهذه حقيقة وليست مبالغة فالذباب سمي ذباباً لتذبذبه وكثرة حركته، وسرعة تحركه أما الصنم فإنه لا يتحرك, أما الإله الذي عبده الناس وخروا له سجداً كعجل بني إسرائيل ثابت مكانه ولا يملك من نفسه حركة، حينما كسر إبراهيم - عليه السلام- الأصنام عند قومه لم يستطع واحد من تلك الآلهة المزعومة أن يدفع عن نفسه ولا أن يدفع عنه غيره ولذلك سَخِر إبراهيم من قومه فقال: ? بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوَهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ?63 ? ? [الأنبياء: 63]، استهزاءً بالقوم وهكذا ربنا- سبحانه وتعالى- قال: ? تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ? ليدلنا على أن الذي خلق من حقه أن يأمر وينهى، من حقه أن يقنن للخلق حياتهم وأمورهم كما اختصرها الله في جزء من آية فقال: ? أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ?.
(1/23)
---(5/23)
? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ? [المؤمنون آية: (14) يزعم بعض الناس أن هناك خالقاً غير الله من خلال هذه الفاصلة في الآية إذن هناك خالقون آخرون. لا... لكن الله تعالى يكلم منكرين وكافرين يعتقدون أن الطبيعة تخلق وأننا وجدنا صدفة أو نشوءاً وتطوراً من قرد فصرنا آدميين وهكذا كما يزعم البعض، وأن هناك أشياء تخلق من دون الله فالله - عز وجل- كأنه يقول لهم - ولكن ضاعت اللغة منا فلا نستطيع أن نصل إلى هذا الفهم إلا بمراجعة التفاسير أما لغة اليوم فلا تعيننا على الوصول لهذا الفهم- كأن الله يقول لهم: على فرض المحال ونسلم لكم جدلاً أن هناك خالقين غير الله فانظر فيما خلق الله وما خلق غيره، فتجد الله أحسن الخالقين والعقل يقول لك: إذا عبدت فاعبد أحسن الخالقين، ففي النهاية أيضاً لا يعبد غير الله ولا يعبد مثل الله سبحانه وتعالى، الله تعالى فيما بقي من آيات بين لماذا هو الذي يشرع؟ فلأنه خلق كل شيء قال عن نفسه: ? ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ? [الأنعام: 102]، فما من شيء إلا والله خالقه - سبحانه وتعالى- ما من شيء خلق نفسه وما من شيء خلقه غير الله، كذلك لأن الله تعالى مستوٍ على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه يعني مغاير لهم لا يشابهه شيء ولا يناله شيء من خلقه أبداً، لا يبلغه ضرهم ولا نفعهم ولا يصل إليه أحد سبحانه وتعالى، إله بهذا الوصف وبهذا العلو العظيم حقيق بأن يشرع بأن يقنن بأن ينزل آيات فيها أحكام يلتزم بها الخلق ويلتزم بها العبيد لسيدهم الذي خلقهم فوصف الله نفسه بأنه استوى على عرشه استواء يليق بذاته - سبحانه وتعالى- واستواء يكمل به وصف الله - عز وجل- ويخالف به خلقه مهما استوى الملوك على عروشهم فاستواء الله يخالف ذلك كله وكل ما خطر ببالك فالله فوق ذلك، قال القائل: فالله غير ذلك، ولكن أرى أن يقال فالله فوق ذلك أي أعلى من ذلك وأسمى(5/24)
(1/24)
---
سبحانه وتعالى، فإذا استوى الملك ملك الملوك سبحانه وتعالى على عرشه فلا كلام لأحد ? الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ? ثم إنه لم يستو على عرشه خلافة في الملك فقط لفترة لكن له ملك كل شيء ? لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ? فما من شيء إلا وهو في ملك الله - تبارك وتعالى تعالى- ويعلم كل شيء أيضا ? يَعْلَمُ السِّر وَأَخْفَى?7 ? اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ?وتلك هي النتيجة وتلك هي الغاية من إرسال الرسالة وبعثة الرسل أن يعبد الله وحده، أن يقال في كل زمان وفي كل مكان: لا إله إلا الله لأنه لا خالق ولا ملك ولا عليم إلا الله سبحانه وتعالى.
إذن لا إله إلا الله ومن الله: له الأسماء الحسنى فاسماؤه كلها حسنى ولا تعد ولا تحصى أما قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ) قال العلماء في شرح هذا الحديث: أي أن لله من أسمائه الحسنى التي لا تعد ولا تحصى تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، وليست تسعة وتسعين اسماً مخصوصة وإنما الأمرعلى المشاع. الله يوفق لها من شاء من الطالبين الراغبين في معرفة ذلك فمن أحصاها معرفة وحفظاً وعملاً بمقتضاها فإن الله- عز وجل- يرزقه الجنة فنسأل الله تعالى أن يسعدنا بالقرآن الكريم وأن يهدينا إلى أسمائه الحسنى لندعوه بها ولنسعد بها في جنة الرضوان إن ربنا هو البر الرحيم، هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
نستقبل اسئلتكم
تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ما علاقة طه كحروف مقطعة بالسورة الكريمة؟
(1/25)
---(5/25)
علاقة هذه الأحرف -حيث كانت من السور- بسورتها تكلم فيها البعض بشي من المبالغة أو بشيء ليس بمستطرد في كل السور قالوا : إن اختيار الأحرف المعينة في سورة معينة كاختيار الطاء والهاء في بداية هذه السورة سورة طه ؛ لأن الطاء والهاء هي أكثر الحروف دوراناً في كلمات هذه السورة ، وكذلك قل في ص: فحرف صاد هو أكثر دوراناً في سورة ص يعني حينما تحصي أحرف السورة تجد هذه الأحرف هو أكثر عدداً من الأحرف الأخرى ولكن هذا اتفق في بعض السور ولم يتوفر في بعض آخر من السور فلا يعتمد إلا على إحصائية كاملة مستطردة يعني: توفي لنا في كل سورة. إنما الأمر أبعد [من ذلك]- فيم أرى والله أعلم- أن هذه الأحرف رغم أنها تقرأ حروفاً مفردة ولا تقرأ ككلمة إلا أن اجتماع حرفين أو حروفٍ من نوع خاص في بداية سورة محددة ذلك -والله أعلم- يتصل بموضوعها. فكلمة طه مثلا في بعض اللغات كما نبه بعض المفسرين تعني: يا رجل, فهي نداء على بعض اللغات على الإنسان عموماً بدءاً بأشرف الإنسانية جميعا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وانتهاء بكل رجل عاقل يصلح خطابه بالقرآن الكريم, وبالتالي فكأن الله تعالى ينادي بهذه الأحرف على كل إنسان رجلاً كان أو امرأة يكون أهلاً للتكليف وأهلاً للخطاب فيكلفه الله تعالى بما في هذه السورة ويخاطبه بما فيها يعني يا رجل أو يا إنسان اعلم أن محمداً بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم- نبي حق ورسول صدق بعثه الله تعالى كغيره من الرسل من قبل رحمة لأمته ورحمة للعالمين منذ بعثته إلى أن تقوم الساعة فهذا الربط فيما أرى يكون أولى. كما في سورة ص كلمة صاد وصف للبعير الذي أصابه شيء في أنفه فيرفع أنفه؛ لأنه إذا أصابه هذا الداء نزل وسال من أنفه شيء من السوائل فلئلا يسيل ويؤذيه ويتعبه يرفع أنفه إلى أعلى، فكانت كلمة صاد بهذه الكلمة المعروفة عند العرب تشبيهاً للكافرين في صدودهم وعنادهم وتكبرهم في رفع أنوفهم ورؤوسهم عن رسول الله -صلى(5/26)
(1/26)
---
الله عليه وسلم- وعما معه من الحق والقرآن تشبيهاً لهم في هذه الحالة بصورة الجمل المريض أي أنكم أنتم المعلولون وفيكم العلة كالجمل الذي أصابته تلك العلة فيرفع أنفه فالجمل معذور لكنكم غير معذورين في هذا تتطاولون بغير طول وتتكبرون بغير كبر فالعيب فيكم والصدود عندكم إنما هذا القرآن هو الحق وهذا النبي - صلى الله عليه وسلم- رسول صدق. وفي كل مقام ينظر في أمر الأحرف التي افتتح بها السورة المخصوصة والله أعلم.
معنا سؤالين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ما توجيه فضيلتك في قوله تعالى ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ?هل تقتضي أن هناك فاضل ومفضول؟
سؤال آخر: ذكرتم فضيلة الشيخ في بداية الدرس أن القرآن الكريم كله متصل ببعضه وله علاقة ببعضه كسلسلة واحدة فنرجوا من فضيلتكم زيادة توضيح علاقة سورة طه بما قبلها وما بعدها من سورة مريم والأنبياء وكذلك أن تدلنا على بعض كتب العلم التي تتكلم عن هذا الموضوع وهو علاقة كل سور القرآن بما قبله وما بعده؟
كان يطلب منكم توجيه في قوله تعالى ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ?
(1/27)
---(5/27)
بسم الله الرحمن الرحيم هذه الفاصلة في الآية أي خاتمة آية ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ? شبه بها بعض المغرضين على الإسلام يعني: صنعوا منها شبهة ليشككوا فيها المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن ويقولون: إن القرآن يثبت أن هناك من خلق غير الله أن الله خالق وهناك خالقون آخرون وهذا كلام غير صحيح إنما الخالق والخلاق هو الله- سبحانه وتعالى- كما سبق القول، فقلت في رد هذه الشبهة: إن المسألة تتعلق بأدب الحوار وأسلوب الجدل الصحيح الموصل إلى نتيجة سليمة، فالمجادل والمخاصم للقرآن الكريم وللدين الحق يعتقد أن هناك خالقاً غير الله - عز وجل- الله خالق وكذا خالق وكذا خالق وهؤلاء كافرون يعتقدون هذا، كما اعتقد البعض أن الدهر هو الذي يخلقنا والصدفة هي التي أنشأتنا وادعى البعض أن الإنسان كان أصله قرداً ثم سقط ذيله وارتفعت رجلاه المقدمتان فمشى على قدمين فقط فتقدم في خلقه وشكله فصار إنساناً، هذا كله يدعون أن هناك من يخلق غير الله - سبحانه وتعالى- فالله- عز وجل- يقول: ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ? أي على فرض وعلى احتمال احتملتموه أن هناك خالقاً غير الله فالله أحسنهم، هذا خالق وكذا خالق وكذا خالق، الله أحسن الخالقين كلهم يعني يلزمكم- أيها العقلاء- ألا تعبدوا إلا الله؛ لأن الله تعالى خلق خلقاً لم يخلقه أحد، خلق الله السماوات، خلق الله الأرض، خلق الله الجن والإنس والملك، خلق الله النجوم والأفلاك، خلق الله البحار، خلق الله ما في الأرض من درر وما في البحار من أسرار، خلق الله كل ذلك فأين ما خلقه من تقولون عنه إنه خالق؟ فالله أحسن الخالقين على الإطلاق على فرض أن هناك من خلق غير الله سبحانه وتعالى، وبالمثال لعله يتضح المقال حينما يكون الإنسان له عدة أصحاب، هذا صاحبي وهذا صاحبي وهذا صاحبي، ففضلت الصاحب الأدون على الصاحب الأعلى هناك صاحب وفيّ صدوق جداً, صاحب لم يحفظ صحبتي دائماً ولا(5/28)
(1/28)
---
يوفي لي على الدوام ففضلت الصاحب الأدني على الصاحب الأعلى فعتِب عليّ الصاحب الأعلى فقال: تفضل على فلاناً وتقدم على فلاناً وتصطحب فلاناً وتتركني وتعترف بفضل فلان وأنا لا؟ أنا أحسن أصحابك يعني يجب عليك أن تكون في صحبتك لنا أوفى معي وأصدق معي وأصلح معي من غيري, ولله المثل الأعلى وليس كمثله شيء، على فرض لو سلمنا جدلاً واحتمالاً أن هناك خالقين غير الله فالله أحسنهم والله أعلاهم والله أحكمهم خلقاً وبالتالي وجب على الناس أيضاً أن يعبدوا أحسن الخالقين وأكمل الخالقين وأحكم الخالقين - سبحانه وتعالى- ولكن الحقيقة أنه لا خالق إلا الله سبحانه والله أعلم.
كان سؤاله عن قولكم أن القرآن متصلا يريد زيادة في التوضيح خاصة سورة طه بما قبلها وما بعدها وما هي الكتب التي تتحدث عن هذا
(1/29)
---(5/29)
التناسب بين الآيات والسور وخاصة بين السور كما بينا في سورة طه له عند العلماء مسلكان: مسلك مشهور وشائع عند المفسرين فيقولون مثلا في هذا المسلك رابطين بين أمور ظاهرة في السورتين مثلا يقولون سورة مريم بدأت بالأحرف المفردة كهيعص وسورة طه بدأت أيضاً ببعض الأحرف المفردة إذن تشابهت السورتان من هذا الجانب. في سورة مريم ذكر الله نبيه عيسى - عليه السلام- وهو خاتم أنبياء ورسل بني إسرائيل وذكرالله في سورة طه سيدنا موسى- عليه السلام- وهو أول رسل بني إسرائيل، وعلى هذا يأتي الأمر على سورة الأنبياء مع سورة طه فيقولون مثلا: هذه السورة فيها ذكر نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم- وفيها ذكر سيدنا موسى - عليه السلام- وسيدنا آدم -عليه السلام- وفي سور الأنبياء ذكر أنبياء آخرين ورسل آخرين لم يذكروا في سورة طه، يقول مثلا سورة طه نوهت في آخرها عن الدار الآخرة بالوعد والوعيد وكذلك في سورة الأنبياء في آخرها أيضا ذكر ووعد ووعيد بالآخرى وما فيها من عذاب، هذا مسلك ظاهر يقارن فيه المفسر بين أمور ظاهرة في هذه السورة وأمور ظاهرة في السورة المجاوة ويعقد بذلك مناسبة بين السورتين وهذا وجه حسن ولكن أرى أن أحسن منه أن تعقد الصلة بين موضوعي السورة أو هدفي السورة كما قلت سورة مريم دارت حول محور معين وهو إثبات أن عيسى نبي الله ورسول الله حيث إن قومه أعلوه إلى درجة الألوهية فأعاده الله تعالى إلى نصابه الصحيح، ? قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِياًّ ?30 ? وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياًّ (31)وَبَراًّ بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِياًّ (32) ? [مريم: 30] وسورة طه فيها أن الكافرين من أهل مكة ومن هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة نزلوا بمحمد بن عبد الله عن درجة النبوة يدعون أنه مفتر وأنه يأخذ هذا الكلام من جني وأنه(5/30)
(1/30)
---
يسحر وأنه مجنون وأنه شاعر وأنه كذا كما ورد في آيات كثيرة من كتاب الله فنزلوا بنبي من أنبياء الله عن مرتبته الصحيحة وجعلوه كواحد من الخلق، واحد من البشر العاديين كما نزل بنوا إسرائيل أيضاً بموسى وآذوه وحاولوا قتله فالله تعالى رفع نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم- إلى مكانه الصحيح كما رفع موسى - عليه السلام - إلى مكانه الصحيح قبل ذلك كما جاء في قول الله تعالى ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) ?
[الأحزاب: 69]، أي لا تؤذوا نبيكم كما آذت بنو إسرائيل نبيهم موسى- عليه السلام- فسورة مريم تنزل بسيدنا عيسى من درجة الألوهية إلى درجة النبوة والبشرية وسورة مريم وسورة طه ترتقي بنبي الله محمد وتخبر عن ارتقاء الله بسيدنا موسى- عليه السلام- مما وضعه به قومه وأمته إلى مكانه الصحيح أنه كليم الله ونبينا - صلى الله عليه وسلم- رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين وهكذا فالربط بين هذين الموضوعين يكون أوثق ويكون أدق وأعمق، ومن الكتب التي اهتمت بهذا كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للإمام برهان الدين البقاعي - رحمه الله تعالى- وتفسير الإمام الفخر الرازي اهتم أيضاً بذكر هذه المناسبات بين السور وكذا بين الآيات وتبعه على ذلك الإمام محمود الألوسي في كتابه روح المعاني وللسيوطي كتاب في هذا المجال أيضاً في تناسب الآيات والسور هذا مثال للكتب التي اهتمت والأئمة الذين عنوا بهذه المسألة وهي عقد المناسبات بين الآيات بعضها ببعض وبين السور بعضها ببعض والله أعلم.
(1/31)
---(5/31)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أرجو توضيح الفرق بين اعتقاد السلف وأهل السنة والجماعة في مسألة الاستواء على العرش وبين الفرق المنحرفة في هذا الباب من الأشاعرة والمفوضة. ثانياً: وأقترح أن التفسير بطريقة منهجية تناسب مستوى طالب العلم بخلاف طريقة ذكر المتن المعنى العام الإجمالي وإنما عن طريق ذكر كلام صاحب التفسير الإمام ابن كثير والتعليق عيها وجزاكم الله خير
يرجو أن توضح اعتقاد السلف في الاستواء والاعتقادات الآخرى المنحرفة
(1/32)
---(5/32)
اعتقاد السلف في مسألة الاستواء وغيرها من الأمور المشتبهة أو المتشابهة أن السلف كانوا يثبتون ما أثبته الله تعالى لنفسه مع تفويض العلم بحقيقة هذا الشيء إلى الله تعالى حيث لا علم لنا به وأزيد جزئية فهماً عن العلماء - رحمهم الله تعالى- وعدم فتح ملفات هذه الآيات وخاصة على الملأ كما فعل الإمام مالك -رحمه الله تعالى- حين دخل عليه رجل فسأله عن قول الله تعالى ? الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ? فقال - رحمه الله تعالى- "الاستواء معلوم" نعلم أن الله استوى على عرشه كما أخبرنا في القرآن "والكيف مجهول" كيفية استواء الله على عرشه مجهول لم نره ولم ينقل لنا وصفه أكثر من هذا ? الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ? "والإيمان به واجب" لأنه خبر في القرآن فلابد أن نؤمن بالأخبار القرآنية أن نصدق بها فلا بد أن نصدق أن الرحمن مستوٍ على عرشه وإن لم نعلم طبيعة هذا الاستواء والإيمان به واجب "والسؤال عنه بدعة" فكأنه يدعو إلى عدم التفصيل في هذه الأمور وخاصة بعيداً عن المتخصصين أما في المجالس العامة والمحافل العامة والخطب والدروس التي يحضرها بسطاء الناس لا يحسن الكلام في هذا مع أني أظن وأعتقد أن الحاضرين للإمام مالك طلاب العلم عنده لعلهم أعلم من علماء عصرنا ومع ذلك قال فيما بينهم: والسؤال عنه بدعة وقال أيضاً:"ولا أظنك إلا رجل سوء أخرجوه عني". وطرده من مجلسه فنؤمن بها كما جاءت دون تفصيل فيها، استوى الرحمن على عرشه بما لا نعلمه، وبما يليق بذاته سبحانه وتعالى وهذا هو المذهب السلفي وهو أحكم وأفضل وأسلم، أما الجزئية الثانية في السؤال وهو اقتراحك أن يكون التفسير بطريقة منهجية إنما هذه هي الطريقة المنهجية العلمية أن يعرض التفسير هكذا، أما قراءة كتاب محدد إذن فنقصر علمنا وفهمنا على كتاب معين في التفسير ولعلك تدري أو لا تدري أن كل مفسر له صناعة أصلية, الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- كان محدثاً قبل أن يكون(5/33)
(1/33)
---
مفسراً، الإمام القرطبي كان فقيهاً قبل أن يكون مفسراً, الإمام الرازي كان عالماً في العقيدة ومسائل الاعتقاد قبل أن يكون مفسراً. حينما فسروا القرآن غلبت عليهم صناعاتهم فلو اقتصرنا على كتاب واحد وأوقاتنا لا تتسع لاستعراض كل الكتب فنأخذ تفسيراً واحداً فقط ومشرباً واحداً ورأياً واحداً وما ميزته عن غيره حتى نستأثر به عن غيره، إنما هذه الطريقة يتم فيها جمع ما قاله المفسرون أو معظمهم على الأقل وصياغة ذلك في أسلوب موحد فمن استمع إلى هذا الدرس وقرأ بعد ذلك في ابن كثير يجد لما سمعه صدى وإذا قرأ في غيره كالقرطبي أو الرازي أو الألوسي أو نحو ذلك من التفاسير الأخرى يجد لما استمع في المحاضرة ظلاً من الظلال موجودا وهكذا فالمعلومة هنا تكون أعم وأسع وأشمل وكل يقرأ في التفاسير بما يستطيع وبما يتمكن فكل يتيسر له تفسير ولا يتيسر له تفسير آخر فنرى أن هذه هي الطريقة الأمثل من القراءة بتفسير معين إنما القراءة بتفسير خاص هذا يكون على يد عالم ومن متعلم يقرأ هذا التفسير ثم يقرأ غيره، يدرس مدارس التفسير على مفسر معين, وأوقاتنا في هذه الأيام لا يتيسر فيها ذلك نرجوا أن ييسر الله لنا ولك وللسامعين جميعا الخير.
تسأل: السلام عليكم ورحمة الله: يقولون إن طه هو اسم من أسماء الرسول -صلى الله عليه وسلم- فما قولكم في هذا؟
(1/34)
---(5/34)
لعله قد سبق القول في هذه المسألة قولاً سريعاً أو إشارة سريعة أنه ممن قالوا في معاني هذه الأحرف قالوا: إنها أسماء للسور, قالوا أيضا: إن "الم" الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد - عليه الصلاة والسلام- يعني هي رموز لأسماء كريمة وشريفة وفاضلة كذلك قالوا: إن طه ويس أسماء للرسول - صلى الله عليه وسلم- إنما ذلك لم يصح الله تعالى يقول: طه كما قال: الم كما قال: ص إذا قلنا: طه اسم من أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم- فـ كهيعص اسم مَن وحم اسم مَن وطس اسم مَن فهذا قول لم يصح وليس عليه دليل صحيح وديننا يعتمد على الدليل، وقد ورد في صحيح الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عدد أسماءه فقال (أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب فلا نبي بعدي وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي يوم القيامة) وأنا كذا وأنا كذا فهذه أسماء سمى بها نفسه وما ينطق عن الهوى ? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) ? [النجم: 4] ولكن لم يَرِد أنه سمى نفسه بـ" طه" ولا بـ"يس" ولم يرد ذلك عن الصحابة -رضي الله عنه- في نداءاتهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانوا يقولون: يا نبي الله ويا محمد ومحمد فعل كذا ولم يرد عنهم أنهم قالوا: طه أو يس كاسم يطلق على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلنا ما يرد وما لم يرد فالكف عنه أولى وأسلم والله أعلم.
(1/35)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (2) طه ( الآيات 9- 16)
الدرس الثاني
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد.
فكنا في المحاضرة السابقة مع الآيات الثمانية الأولى مع سورة طه ، ونطرح حول هذه الآيات ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول:(5/35)
اختصر أقوالَ العلماء حول الحروف المفردة في أوائل السور؟
السؤال الثاني:
اذكر بعض الصفات التي اتصف الله تعالى بها من خلال الآيات السابقة في أول سورة طه؟
السؤال الثالث:
يزعم البعض أن اسم طه من أسماء الرسول - صلى الله عليه وسلم- ، ناقش هذا الزعم؟
وسنتحدث اليوم إن شاء الله تعالى عن الآيات الثمانية الأخرى من الآية التاسعة حتى الآية السادسة عشرة.
من خلال هذه العناصر :
أولاً: معاني المفردات الغريبة في الآيات .
ثانياً : المعنى العام المجمل للآيات .
ثاثاً: ثم نتحدث عن فوائد القصص في القرآن الكريم بشكل مجمل بمناسبة ذكر قصة سيدنا موسى - عليه السلام- .
وفي خلال هذه القصة كما ورد في الآيات نتناول :
1- عودة موسى - عليه السلام- من مَدْيَنَ إلى مصرَ .
2- ثم نداء الله لموسى - عليه السلام- بالنبوة .
3- وبعد ذلك حديثٌ عن يوم القيامة، من خلال الآيات كركن من أركان العقيدة ، وأساس من أسس الدين كله ، الذي أنزله الله من السماء للبشرية كلها .
4- ثم أخيراً وجوبُ ثبات المؤمن أمام التحديات الصادة عن العقيدة الصحيحة .
هذه هي العناصر التي نتناولها إن شاء الله تعالى من خلال الآيات الثمانية الثانية.
(2/1)
---(5/36)
بسم الله الرحمن الرحيم: ? وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ?9 ? إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ?10 ? فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ?11 ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ?12 ? وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ?13 ? إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ?14 ? إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ?15 ? فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ?16 ? ? [طه: 9- 16] .
تبارك ربنا من قائل حكيم، نحمده -سبحانه وتعالى- على نعمة الدين ، ونعمة القرآن .
أولاً: مع بيان المعاني للمفردات الغربية في هذه الآيات .
1- يقول الله تعالى: ? وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ? كلمة حديث هنا معناها الخبر ، أي: هل أتاك خبر موسى - عليه السلام-؟ والحديث في الأصل : هو اسم للكلام الذي يُحكى به أمرٌ حدث.
2- ?فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُو ? امكثوا : من المكث وهو البقاء في المكان ، وقد يكون لأجل أو لغير أجل، كما في شأن أهل النار ? قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ? [الزخرف آية: (77)]، أي باقون خالدون أبداً .
3- قول سيدنا موسى - عليه السلام- لأهله ? إِنِّي آنَسْتُ نَاراً ? ، آنست : من الإيناس ، وهو الإبصار البَين الذي لا شبهة فيه أي رأيت ناراً حقيقيةً لا شك فيها ولا سراب في رؤيتها.
4- أما قوله ? آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ ? فالقبس : هو ما يؤخذ من النار مع بقاء أصلها، كأن تؤخذ شعلة من نار ، تبقى النار على أصلها ، وتؤخذ منها هذه الشعلات ، والواحد منها قبس.
(2/2)
---(5/37)
5- أو ? أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ? الهدى : دلالة الإنسان على طريقه ، وعلى بغيته في الدنيا وفي الأرض ، ولكن إذ نسب الهدى إلى الله سبحانه وتعالى فيقصد به : الدلالة على ما يوصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة . وسيدنا موسى - عليه السلام- قصد حينما رأى النار قصد الهداية المحسوسة المعروفة في الدنيا ، أن أجد عند النار صاحبها الذي يدلني على طريقي الذي ضل مني، ولكنه وجد هناك من هدى المهتدين من العالمين جميعاً، وهو الله سبحانه وتعالى ناداه بأمر النبوة ، فنال بذلك هدايةَ طريقة في الدنيا ، وهداية طريقة إلى الجنة في الآخرة هو ومن آمن به .
6- ? اخْلَعْ نَعْلَيْكَ ? النعلان : هما شيءٌ يلبس في القدم ، وما يلبس في القدم أنواع وأشكال، لكن ما يسمى بالنعل هو شيء من الجلد الغليظ، يجعل تحت القدم ويشد برباط من جلد أو نحوه من فوق القدم لوقاية الرجل من ألم المشي على التراب والحصى ، وهذه الصورة تدل على البساطة في اتخاذ متاع الدنيا من ملبس ونحوه ، وعدم التكلف في ذلك، وكان نبي الله موسى - عليه السلام- مع فضله وخيرته وشرفه كان ينتعل وكان النبي - صلى الله عليه وسلم- أيضا وهو أشرف الخلق كان يلبس النعل، ولذلك قال: ( صلوا في نعالكم فإنهم لا يصلون في نعالهم ) من باب المخالفة للأمم من غيرنا فأبيح لنا ذلك .
7- أما قول الله تعالى: ? إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ? فكلمة طوى : اسم وقيل وصف للمكان الذي نودي فيه موسى - عليه السلام- بالنبوة، قيل : اسم لهذا المكان، وادي اسمه طوى، وقيل : وصف له بمعنى أنه مقدس كله، وقيل: من الطي ، أي: مقدس مرة بعد مرة، فقد قدس الله ذلك الوادي أكثر من مرة، بإنزال النبوات فيه، وقيل غير ذلك، يأتي تفصيلة في الشرح إن شاء الله.
(2/3)
---(5/38)
8- أخيرا كلمة الهوى ? اتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ? اتبع هواه ، الهوى : كلمة مقصورة أو بألف مقصورة بخلاف هواء فهي بألف ممدودة، هوى، الهوى : هو كل ما مالت إليه النفسُ البشرية في مخالفة ما شرع الله -سبحانه وتعالى .
ثانياً : المعنى العام والمجمل لهذه الآيات :
والتي إن كانت موضوعَ خطبة أو درسٌ عام ، فهذا هو تناولها، فنقول مثلا: -فليس نصاً ولكن هذا على سبيل المثال في التعبير بالمعنى - فنقول وبالله التوفيق :
في هذه الآيات المباركات ، ربنا -سبحانه وتعالى- يُقَدم ويقص قصة سيدنا موسى - عليه السلام- على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- وهو في بداية عهد النبوة في مكة المكرمة ، يقدم له قصة موسى بأسلوب بليغ يبدأه بالسؤال ? وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ? حتى ينتبه السامع والمخاطب - صلى الله عليه وسلم- .
ثم يذكره بماضي الزمان ? فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً ? كان في عودته - عليه السلام- من أرض مدين إلى مصرَ بعد غياب طال قرابة العشر سنوات أو يزيد ، قضاها مع حميه ووالد زوجته سيدنا شعيب - عليه السلام- كما قيل في ذلك، وقيل رجل صالح اسمه شعيب غير النبي ، أيا ما كان، قضى هذه العشر سنوات مع حميه وفي بيت زوجه هناك ثم عاد بها إلى أرض مصر وهي موطنه الأول ، وهي مسقط رأسه الذي ولد فيه ، فبالحنان الفطري إلى مسقط الرأس ، وبالتوجيه والتدبير الإلهي لإجراء قدره سبحانه وتعالى ، عاد موسى بعد هذا الأجل .
وهو في طريقة في ليلة شاتية ممطرة باردة ، ولذلك لما رأى النار قال ? لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ ? القبس يٌضيء الطريق في الظلام .
أو أجد على النار هدا : دل ذلك على أنه ضل طريقه في هذه الليلة المظلمة ، وهذا شأن البشر أن يضل طريقه في الظلام ولا يهتدي إليه .
(2/4)
---(5/39)
وفي آية أخرى مرادفة لهذه القصة أيضا قال: ? أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ? [النمل: 7]، تصطلون : يعني تستمتعون وتنتفعون بالنار من خلال فوائدها التي جعلها الله فيها ، كما قال الله سبحانه وتعالى ? أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ ?71 ? أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ ?72 ? نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ ?73 ? فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ?74 ? ? [الواقعة: 74] .
ثم إذا جاء إلى النار وأتى إلى مكانها وهي في قمة جبل في نهاية الوادي ، إذا بصوت يناديه ولا يعرف من أين هذا الكلام ولا كلام من ، ولذلك قال الله تعالى: ? نُودِيَ يَا مُوسَى ? نودي ، ولم يقل : ناداه الله، لأن موسى - عليه السلام- أول ما وصله النداء ما كان من المناي عليه ، فنسب الفعل إلى مجهول ? نُودِيَ يَا مُوسَى ?11 ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ?12 ? ? .
هكذا يؤهله فيعرفه من المنادي ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ? وقال له : ربك . لكي يؤانسه في هذه الوحشة وفي هذه الظلمة وفي هذه الغربة، ? فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ? لأن الوادي مقدس، وينبغي أن تخلع نعليك في الأرض المقدسة . وقيل : غير ذلك من أن موسى - عليه السلام- كان يلبس نعلين اتخذتا من جلد حمار ميت، ورد هذا كما ذكره ابن كثير عن علي بن أبي طالب وغيره من السلف ، وقيل : غير ذلك . في النهاية هو إشعار لموسى - عليه السلام- بجلال الموقف، وقداسة المكان ، وجلال وهيبة الخطاب مع الله سبحانه وتعالى ، فأمره أن يخلع نعليه وليس في ذلك دليل على أن نخلع نعلينا عند الصلاة، هذا له حكم آخر وله استدلال آخر، أما هنا فكان موقفاً خاصاً بنبي الله موسى - عليه السلام- ? فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ?12 ?? .
(2/5)
---(5/40)
?وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ? اختاره الله تعالى للنبوة والرسالة ولكلامه من بين العالمين ? وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ? يهيئة نفسيا لتلقي رسالة سوف توحى إليه .
والوحي يكون بإشارة خفية سريعة يفهم منها كلام يقين .
ثم طرح عليه ربنا سبحانه وتعالى أصول الأمر ، فذكر ثلاثة أصول:
أولا: الوحدانية.
ثانيا: الأمر باشتغال العبد بعباة ربه.
ثالثا: ثبوت يوم القيامة كحقيقة لا بد منها .
فيقول الله تعالى: ? إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ? [طه : 14]، وخص الصلاة من بين العبادات مع أنها أشرفها؛ لأن الصلاة لها خصوصية فهي عبادة دائمة لا تسقط أبدا ولا تقوم على الاستطاعة إنما الكل يقدر عليها، على أية حال كان، حتى أن من عجز عن القيام والقعود فيها صلى راقداً ، أو صلى بحركة قلبة، حتى إن من فقد طهورها من ماء وتيمم بالتراب يصلي على حالها أيضاً ولا يترك الصلاة حتى من كان في خضم الحرب والاشتباك مع العدو لا يتركها ، وإنما يصلي على حاله ومعروفة صلاة المجاهدين بصلاة الخوف، وفي كل حال وعلى أي وضع لا بد للعاقل القادر على أداء الصلاة بشكل ما أن يؤديها ولا تسقطع عن أحد أبدا .
ولذلك رأى بضع العلماء ورأيهم أميل إليه أنه لا تقضى الصلاة عمن فوتها، بل يرى الإمام بن تيمية -رحمه الله تعالى- أن من ترك الصلاة عمداً لا يسمح له بالقضاء فتظل في رقبته يعفو الله عنه أن يحاسبه عليها ولكن يعوض نقص ذلك بما تيسر له من السنن والنوافل، أخذا بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم- ( من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك ) فالصلاة لا تترك إلا نسياناً أو أن تترك نوماً أما أن يتركها اليقظ والمتذكر لها فهذا ممنوع ، ولذلك يعاقب بعدم السماح له بقضائها، فخص الله الصلاة هنا لشرفها من بين العبادات الأخرى .
(2/6)
---(5/41)
ثم قال الله تعالى: ? إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ? آتية لا محالة ، لا ريب فيها ، ? أَكَادُ أُخْفِيهَا ? ولا أظهرها في الدنيا بعلمها ، وتحديد وقتها لأحد ، ولا لنبي من الأنبياء ، ولا لملك من الملائكة ، إنما اقتصر الله -سبحانه وتعالى- على الإحاطة بعلمها ، ولكنه يظهرها في حينها وفي وقتها لا يجليها لوقتها إلا هو سبحانه وتعالى .
? إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ? ولماذا الساعة والقيامة ؟ يبين الله حكمتها ? لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ? بما كسبت من خير ، وبما اكتسبت من شر ، كلٌ يعاقب أو يحاسب و يثاب على عمله ? فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ?7 ? وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ ?8 ? ?.
وبالتالي فينبغي على كل مسلم عبر الزمان كله ومع الأنبياء أجمعين بدءاً بالأنبياء وانتهاءا بالبسطاء من العامة ، الكل ينبغي أن يتمسك بهذه العقيدة ، وأن يصر عليها ، ويثبت عندها ، ولا يصرفه عنها أي صارف ، ولا يصده عنها أي صاد بشبهة يثيرها أو بحجة يدعيها ، فإن يوم القيامة حق ، ومن كفر بيوم القيامة والحساب والجنة والنار فقد كفر وهلك .
? فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ? [طه : 16]، ومن خلال ذلك يبين الله تعالى أن الدين يصدون عن العقيدة السليمة هم أؤلئك الذين يتبعون أهوائهم بالبدع والخرافات والآراء الشخصية والتعصبات المذهبية ، سلمنا الله وعافانا من هذا الذلل.
هذا بالنسبة للمعنى العام للآيات من خلال هذه الآيات .
ثالثاً : من خلال هده الآيات تتضح لنا بعض الدروس:
أولا : تعليق على القصص في القرآن الكريم لماذن يذكر الله القصة في القرآن؟
لابد أن نعلم أن ذلك ليس لمجرد التسلية ، ولا لمجرد التحكي ولا فقط لإثبات بعض الوقائع التاريخية ، لا ، وإن كان يؤخذ من القرآن كل هذا .
(2/7)
---(5/42)
فقصص القرآن جميل للتسلية ، إذا سلينا به أنفسنا ، وقضينا معه أوقاتنا بيننا وبين أولادنا ، بدلاً من قصص خرافي يخيفهم أو يفزعهم قبل النوم، أو يشغلهم بمعلومات خيالية لا تفيدهم ، فلو شغلناهم بقصة النملة التي كانت في عهد سليمان - عليه السلام- بقصة الهدهد ، بقصة نبي الله موسى ، رجل خرج من مصر لكذا وذهب إلى كذا وتزوج كذا، قصة جميلة ، والله تعالى يصف قصة سيدنا يوسف - عليه السلام- بأنها أحسن القصص، ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ ? [ يوسف: 3]، فالقصص القرآني جميل ، ومن أجمله قصة نبي الله يوسف - عليه السلام، وأجمل من كل ذلك ما ورد من قصة نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم- فهو خير الخلق وحبيب الحق -عليه الصلاة والسلام.
لكن قال الله تعالى: ? لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ? [يوسف: 111]، فقصص القرآن يفيد في الإفادات العامة ، ولكن الغرض الأول منه هو بعض أمور، تجتمع حول كلمة العبرة :
1- منها توضيح أسس الدعوة إلى الله عند جميع الأنبياء :
(2/8)
---(5/43)
ليعرف الناس ممن يقرأون القرآن أن الدين واحد عند الله كما قال : ? إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ ? [آل عمران: 19]، ليس إسلامنا بالقرآن ، وإنما الاستسلام لله تبارك وتعالى على حسب الشريعة التي شرعها في كل زمان ، وبمجيئ شريعة القرآن والسنة ، بمجيئ شريعة بني الله محمد - صلى الله عليه وسلم- وجب الاستسلام لله على منوال هذه الشريعة الخاتمة ، لا يقبل الله شريعة أخرى غيرها، إنما نصدق بالحق الذي سبقنا، تصديقاً مجملاً ، أما تفصيل الأحكام وتفصيل الدين فنأخذه من الشريعة الخاتمة ، القصص القرآني نجد فيه ومن خلاله أن أصول الاعتقاد أصول الأحكام أصول العبادات أصول الأخلاق والمعاملات ثابتة واحدة ، منذ نبي الله نوح - عليه السلام- إلى نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم- الكل اشتركوا في ذلك الكل اعتقدوا وحدانية الله تبارك وتعالى بعد وجوده.
ثانيا: اعتقدوا جميعا في الرسول الذي أرسل إليهم وآمنوا به وآمنوا بالرسالة التي معه ، الكل آمن بيوم القيام كحقيقة ضرورية ، وركن من أركان العقيدة، وهكذا .
2- كذلك القصة في القرآن من شأنها أن تثبت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم- كمتحمل للرسالة، المتحمل للرسالة ومكلف بإبلاغها لقوم فيهم المؤمن وفيهم الكافر وفيهم المنافق تقابله عقبات ومعوقات قد تصرفه وتقعده عن مواصلة الأمر، فالداعي إن لم يجد ما يثبته ويعينه ويحفزه ربما تفتر عزيمته وينقطع نفسه فلا يصل إلى غايته .
أما الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعا فإن الله تعالى قد ثبتهم وأيدهم ، فحينما يقص الله على نبيه محمد -عليه الصلاة والسلام- قصة نبيه موسى أو غيره ، وكيف أن الله ثبته في مواجهة قومه ؟ وكيف صبره الله تعالى ليتحمل أذى قومه ؟ وكيف وكيف ؟ فإن هذا يثبت قلب رسول الله عليه الصلاة والسلام .
(2/9)
---(5/44)
ويجد أنه لم يحدث له مثل ما حدث لمن كان قبله ، وأن من كان قبله صبروا كثيراً ، فينبغي عليه أن يصبر أيضا كما قال الله تعالى : ? فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ? [الأحقاف : 35]، أمره أن يصبر كما صبر السابقون .
ونهاه أن يتعجل كما تعجل يونس بن متى -عليه سلام الله- قال تعالى: ? وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ? [القلم: 48] .
وهكذا فالقصة تثبت قلب صاحب الرسالة -عليه الصلاة والسلام -في تحملها وفي أدائها وفي مواجهة الناس بهذه الرسالة وهذه الشريعة الجديدة عليهم .
3- كذلك نحن كمؤمنين حينما تقص علينا قصة في القرآن نجد فيها ما يثبتنا على الإيمان فالمؤمن يصاب دائماً في دينه ، بمعنى : في سبيل دينه كما قال تعالى: ? أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ? [العنكبوت: 2]، لا بد أن يفتن الإنسان في سبيل دينه، كان يثبت أو لا ، الله يعلم المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب ولكن يريد الله سبحانه وتعالى أن يظهر أحدنا أمام نفسه ، وأن يكشف له غطائه عن قلبه ، فربما يدعي الإيمان وما هو بمؤمن ، وربما يظن في نفسه أنه ليس على إيمان وعلى شيء ، وبعض الصحابة كان يقول يا رسول الله ! هلكنا ، لأمر بسيط وقع فيه ربما ضحك مع أهله ، ولم يبكي مع أهله كما بكى عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فيشدد على نفسه ، فالقصة تبين له أنه مؤمن وأن الله تعالى يقبل منه عمله هذا ، تثبت المؤمنين على أي وضع كانوا ، تثبتهم على الإيمان ، وتجعلهم كذلك يتحملون الأذى في سبيل الله ، كما حدث للمؤمنين السابقين مهما كانوا قلة ، مهما كانوا مستضعفين ، فالله سبحانه وتعالى ختم لهم حياتهم في الدنيا بالنصر ، وجعل مواقفهم كلها في ميزان حسنانتهم ، فيثبت المؤمن بقراءة قصة من القصص القرآني الذي يحكي حال المؤمنين مع أنبيائهم .
(2/10)
---(5/45)
4- الكافر المعاند والغافل الجاحد حينما تعرض عليه قصة من القرآن قراءة أو سماعا ، لو أنه ألقى سمعه واستشهد قلبه ، لو أنه نظر في هذه القصة ، وأخذ منها العبرة لعلم أن مصيره محتوم بالهلاك ، ومختوم بالدمار والردى فيأخذ لنفسه عبرة ، وينتهي لنفسه عما هو فيه ، ويراجع حساباته مع نفسه ، ليجد أنه كان على ضلال مبين ، فيعز نفسه بالإسلام والاستسلام لله رب العالمين ، وبالاتباع لنبيه -عليه الصلاة والسلام- فالقصة في القرآن لها فوائد عظيمة جدا .
5- وهنا بالمناسبة سؤال قد يدور بالأذهان ، لماذ كانت قصة موسى - عليه السلام؟ ولمإذن كثر الحديث عن موسى في القرآن ؟ حتى قيل : كاد القرآن أن يكون لموسى يعني أن يكون كله حديثا عن موسى - عليه السلام- فقد مات موسى - عليه السلام- قبل نزول القرآن فلن يكون له بمعنى أنه شريعته ، إنما يكون كله حديثا عن موسى - عليه السلام ، وعن بني إسرائيل.
نقول لأن موسى - عليه السلام- هو آخر رسول قبل رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم ، وما عيسى إلا نبي من أنبياء بني إسرائيل ، لكن لما أنزل الله مع عيسى لوح المواعظ وهو الإنجيل ، الذي كسر ، أو محاه الله في زمان موسى وحرم منه بني إسرائيل المادين الذين لم يردوا بعبادة إله لأنه غائب عن أعينهم ، وأرادوا إله محسوساً ملموساً حتى قالوا لموسى: ? لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ? [البقرة: 55]، فلما نهرهم وزجرهم في ذلك ، استغيبوه وهو في لقاء ربه ليتلقى التوراة ، واتخذوا عجلاً جسداً له خوار ، وقالوا عنه : هذا إلهكم وإله موسى فنسي، وأخذوا يعبدونه من دون الله عز وجل ، هؤلاء الماديون لهذا الحد البعيد المفرط لهذا الحد الضال ، الله تعالى حرمهم من المواعظ التي كانت في التوراة ليزدادوا غياً في ماديتهم ، جزاءا من جنس العمل، ثم بعثه مع عيسى - عليه السلام- لمؤخرة بني إسرائيل ، فُيعتبر صاحب الرسالة الأساس هو موسى - عليه السلام .(5/46)
(2/11)
---
وموسى - عليه السلام- لقي من بني إسرائيل عنتاً وشقائاً وإذىً لم يلقه عيسى - عليه السلام- ولم يلقه غيره من الأنبياء ، فكان مثالاً قائماً مليئاً بالأمثلة والمقامات التي يعتبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
وأمته أمة بني إسرائيل هي أخر أمة قبلنا ، وأولادهم وأحفادهم يعايشوننا في هذا الزمان ، وإلى ذلك الوقت ، فالعبرة فيهم أوضح ، والنظر فيهم أقرب من أن يضرب الله المثل في مثل هذا المقام بقوم نوح البعيدين أو من بعدهم من الأمم الأخرى فكان ذكر موسى - عليه السلام- أكثر مناسبة في مثل هذا المقام .
ثانياً : والله تبارك وتعالى يستفتح هذه القصة بسؤال: ? وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ? .
وليس هذا هو المقام الوحيد ، إنما كثيراً ما يبدأ الله تقديم المعلومة بسؤال: ? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ ? [الغاشية: 1]، ? هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ? [الإنسان: 1]، ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ ? [الفيل: 1]، ? أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ? [الشرح: 1]، وهكذا ، أسئلة.
عرف العلماء حديثاً وقد سبقهم القرآن ، أن المعلومة التي تقدم عن طريق سؤال تكون أوقع في النفس ؛ لأن السؤال ينبه السامع ويحفز انتباهه ويستحضر ويستشهد قلبه ، فإذا ما ألقيت عليه المعلومة رسخت في قلبه ، وسكنته دون أن تخرج مرة ثانية .
واستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم- هذا الأسلوب التعليمي الرائع، قبل أن يعرفه علماء التربية والتعليم ، عرفه النبي - صلى الله عليه وسلم- وقدمه .
(2/12)
---(5/47)
وذات مرة من مرات كثيرة أيضا، يقول لأصحابه ويريد أن يضرب لهم مثلا للمؤمن ، فقال : ( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن ) يسأل الصحابة ما هي هذه الشجرة، فجال الناس في شجر البوادي ، فيقول ابن عمر رضي الله عنهما راوي الحديث : فوقع في نفسي أنها النخلة ، ولكني كرهت أن أتكلم وفي القوم أبو بكر وعمر ، ودلَ ذلك على فضل ابن عمر وأدبه رغم صغر سنه ، حيث تورع أن يتكلم بالجواب الصحيح ، وإن كان يعلمه ؛ لأن في القوم أبا بكر وعمر وهما الشيخان من الصحابة -رضي الله عنهما- فلا يحسن أن يسكت أبو بكر وعمر ولا يدريان الجواب ، ويتكلم واحد صغير مثل ابن عمر رضوان الله عليه.
وهكذا استفتح النبي - صلى الله عليه وسلم- الملعومة بسؤال، حتى ينبه الناس ، فيلقى على أسماعهم وفي قلوبهم أن النخلة مثل للمؤمن في رفعتها ، وعلوها وفي ترفعها عن الدنايا وعن الأذى وعما في الأرض من أذى ، وعن أذى الناس حيث يلقونها بالحجر فتلقيهم بأحسن الثمر إلى آخر ذلك من فوائد.
هكذا كانت بداية هذه القصة أو عرض هذه القصة، الذي يبدأ بعودة موسى - عليه السلام- من أرض مدين إلى أرض مصر .
(2/13)
---(5/48)
ثالثاً: كان قد خرج من مصر فاراً من ظلم فرعون ، الذي بلغ البلاد والآفاق وعرفوه ، ذهب إلى أرض مدين ، وهناك قدر الله له أن يلتقي بذلك الرجل الذي يسمى بشعيب إن كان هو النبي أو غيره ، على قولين عند المفسرين ، وقدر الله له أن يتزوج بابنة من ابنتيه ، وعاش معهما أكرم الأجلين وأكبرهما عشر سنوات، ثم عاد إلى مصر ، وفي عودته ناداه الله تعالى في ذلك الوادي ، ناداه بنداء النبوة، كانت هذه العودة عودة فطرية من حيث أن الإنسان يميل إلى مسقط رأسه ، ولعل أمه كانت هناك وأخته في مصر كما تعلمون ، وكان قومه كذلك بني إسرائيل في مصر لا يزالون تحت ظلم الفراعنة ، فعاد إلى قومه وإلى أرضه التي ولد فيها، وفي الطريق في الوادي المقدس ناداه ربه سبحانه وتعالى بالنداء الذي سنستعرضه الآن إن شاء الله تعالى.
رابعاً: هذا النداء كان نداء فيه لطف من الله عز وجل ، حيث استدرج موسى - عليه السلام- إلى أعلى الوادي ، لأن المقام علي ، ولأنه يخاطب من الله عز وجل الذي وصف بالعلو فوق خلقه جميعاً علو يليق بذاته سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ، وهناك استدرج موسى بنار، والنار كان يتخذها الناس قديماً فيشعلونها ويورونها فوق الجبال وفي قمم الجبال والوديان حتى يراها السالك في الطريق، فيستضيئ بها ، ينتفع بها ، يستدفئ بها ، يجد عندها هدى ، وبعض الكرماء -وكان الكرماء قديماً كثيرين- كانوا يشعلون ناراً حتى يمر بها عابر السبيل فيلجأ إلى صاحبها فيكرمه ويعطيه ما يحتاج إلى القرى والضيافة ، - قرى يعني: إكرام الضيف - والضيافة والطعام والشراب، وربما احتاج إلى راحلةً فأعطاه إكرام ابن السبيل الذي كان موجوداً قديماً وأكد الإسلام على كرمه وإن كان هدم الآن ، وليس له حق في غالب الأحيان، ناداه الله نداءاً لطيف .
(2/14)
---(5/49)
خامساً: فلما أتاها نودي أن يا موسى، في وصف القرآن لموقف موسى - عليه السلام- يعطينا أيضا درساً على الطريق وعلى الهامش، كيف نحفظ أهلنا في سفر؟ فأجلسهم في مكانهم وهو الذي ذهب إلى النار ربما يجد هناك شيء غير متوقع ، فيكون أهله في سلامة ? فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً ? الرجل هو الذي يتحمل العناء والشقاء من أجل خدمة أهله في الدنيا، فهو الراعي عليهم ، وهو الكفيل لهم ، وهو الذي يشقى بنفقتهم ، وذلك كله في ميزان حسناته، إن كسبه من حلال وطلبه من الله سبحانه وتعالى شديد المحال ، وأنفقه في خير حلال، فكل ذلك يكون في ميزان حسناته ، ويكون درهم أنفقه على أهله خير من ألف درهم أنفقه في سبيل الله .
(2/15)
---(5/50)
سادساً:ثم ناداه الله عز وجل ? يَا مُوسَى ?11 ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ? هذا اسمه نداء النبوة يعني ليس فيه تكليف، إنما إخبار بالنبوة، ليس فيه تكليف بإبلاغ الرسالة ، إن كان فيه تكليف فهو تكليف شخصي ، ? يَا مُوسَى ?11 ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ? إني أنا ربك ، هذا الأسلوب المؤكد ، هذه الجملة فيها إن ، إني حرف توكيد ، وأنا ربك ، أنا ضمير والضمائر من الأسماء ، وربك اسم أيضاً، تعريف الطرفين كما يقول العلماء ، هذا يدل على تأكيد المعنى في الجملة أن يكون طرفاها اسمين ? أَنَا رَبُّكَ ?، وأضاف الربوبية إلى ضمير موسى - عليه السلام- كأن موسى يشعر من خلال هذا الخطاب، أن الله هو ربي أنا كله لي ، ومن كان الله له فماذا يحتاج بعد ذلك ففيها إيناس شديد، استعمل هذا الأسلوب سيدنا يوسف - عليه السلام- حينما استوحش أخوه من خلال ما صنع له من غطاء الملك في متاعه ثم أخذ به في ديوان الملك على أنه سارق، جلس يوسف إلى أخيه وأسر إليه ? إِنِّي أَنَا أَخُوكَ ? [يوسف: 69]، ولم يقل إني أنا يوسف، نعم أنت يوسف ولكنك ملك وأنا متهم بالسرقة ، فليس فيها إيناس لكن حينما يقول له : إني أنا أخوك، كأنه قصر أخوته عليه ، ففي هذا إزالة للوحشة وملءٌ لقلبه بالإيناس العظيم، ولله المثل الأعلى .
الله تعالى يؤانس موسى في تلك الليلة المظلمة الموحشة الشاتية الباردة، وفي ذلك السفر المنقطع به في السبيل، فقد ضل طريقه، قال: ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ? ، تخيل كم يكون موسى مطمئنا بمثل هذا التعريف؟ فعرف الله اسم كليمه ، فهو خلقه، ? أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ? [الملك: 14]، يعلم أن هذا هو موسى ، ويعلم كل شيء عنه وعن غيره ، ولكن لا يعرف موسى من المنادي عليه، فعرفه الله بنفسه، ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ? ، فمن أراد أن يتعرف إلى إنسان بدأ أولاً بتعريف اسمه ، يقول : أنا فلان . ثم يتكلم بعد ذلك، هذا من سنن التعريف .
(2/16)
---(5/51)
سابعاً: ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ?12 ? ? ، كما قيل : لأن النعلين كانتا من جلد حمار ميت .
والجلود يجوز اتخاذها والانتفاع بها إذا كانت لحيوان يؤكل لحمه، ولو كان ميتاً ، والحمارلأنه لا يؤكل لحمه، فربما كان جلده كذلك، وفي ذلك تفصيل للفقهاء .
ولكن أجمعوا تقريبا على أن الخنزير كل ما فيه حرام، شعره وذفره وذهنه ولحمه وجلده ، كل ما فيه حرام وإن أباحوا اتخاذ الجلود الأخرى ولنا شريعتنا ولمن سبق شريعتهم.
لكن هذا قول ذكره الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن بعض من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وغيرهم من السلف .
ثامناً : كما ذكر أيضاً أن الوادي مقدس ، وقال البعض : لأن الله تعالى تجلى على الوادي، فتقتديس لله وتعظيما فليكن موسى حافيا بغير نعلين، لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى ، أمره أن يخلع نعليه، وعلل ذلك بقوله: ? إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ? .
ذكر علي بن أبي طلحة رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما في تلك الصحيفة المباركة، صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وهي أصح ما ورد عن ابن عباس في التفسير ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن طوى اسم للوادي، وهذا هو الظاهر ، ولكن قيل طوى تعني الضيق الغائر، يعني وادي سحيق أو نازل بعض الشيء، وضيق في مساحته ليس متسع ، وقيل لأن موسى طواه مشيا، حتى وصل إلى أعلاه ليكمله ربه سبحانه وتعالى .أقوال في هذا أظهرها أنه اسم للوادي .
تاسعاً: ? وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ? فالنبوة بدليل هذه الجملة من الآية اختيار من الله تعالى ، ليس فيها تمرن ، ولا تمرس ، ولا تدريب ، ولا شيء، إنما هي اختيار واصطفاء من الله عز وجل كما قال تعالى: ? قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ? [الأعراف: 144] .
(2/17)
---(5/52)
والإمام ابن كثير رحمه الله تعالى، ذكر قولاً غير منسوب لأحد، بلفظ قيل، وكلمة قيل، عند المحدثين كابن كثير، تشير إلى التضعيف والتمريض، لكنه قول لا يضر ولا ينفع، إنما قد يفيد إفادة لو ثبت من سند صحيح .
فقال رحمه الله تعالى : فقيل: إن الله تعالى قال : أتدري لما خصصتك بالكيم من بين الناس؟ لماذا جعلت المكلم من بين الناس ؟ قال موسى: لا. قال ربنا سبحانه وتعالى: لأني لم يتواضع إلي أحد تواضعك .
فلما كان تواضع موسى - عليه السلام- تواضع شديدا جداً، خصه الله بالكليم وكان تواضع نبينا عليه الصلاة والسلام ? لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ? [البقرة: 285]، ولكن نثبت الحق، لما كان تواضعه أعظم كان تكليم الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام أعظم، فكلم الله موسى على الأرض، على الجبل، ولكن كلم الله نبيه محمد عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج في السماوات العلى وأمره بالصلاة له ولقومه .
كلم الله موسى من وراء حجاب حتى أنه طلب النظر قال: ? قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ? [الأعراف: 143]، ومنع من النظر لكن أذن للنبي عليه الصلاة والسلام أو كأنه أذن له بالنظر وسئل، والحديث في مسلم، هل رأيت ربك، قال ( رايت نورا ) وقال عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى ( نور أنى أراه ) ، كيف أراه؟ حجبه نور الله عز وجل أن يرى الله فالله عز وجل ? لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ? [الأنعام: 103]، فكان إكرام الله تعالى لنبيه محمد -عليه الصلاة والسلام- أعظم من إكرامه لنبي الله موسى - عليه السلام ، لكن اختار الله موسى على من كان في زمانه فكان أفضلهم وأشرفهم جمعيا، ونبينا عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق أجمعين.
(2/18)
---(5/53)
تاسعاً: ? وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ?، استمع لما أوحيه إليك الآن وبالتالي ومن باب الأولى، ينبغي أن يستمع وهو تلقائيا سيستمع لما سيوحى إليه بعد ذلك بعد أن يعرف أنه صار نبيا مكلما من الله تبارك وتعالى.
عاشراً: ? إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا ? جملة مؤكدة تأكيداً عظيماً، تخبر بوحدانية الله عز وجل ، وهذه هي أعظم الحقوق لله على العبيد أن يعبدوه وحده لا شريك، لا وجود لإله في الأرض ولا في السماء إلا الله، سبحانه وتعالى ، ? وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ? [الزخرف: 84]، يعني : هو المعبود وحده في السماء، يعبده أهل السماء، ويؤلهونه وهو المعبود كذلك في الأرض يؤلهه من يؤلهه من أهل الأرض ، وهو الواجب له العبادة بالتوحيد في السماء بين ملأها ، وفي الأرض بين ملأها ، لا يعبد غيره ومن عبد من سواه فإنها هي عبادة باطلة، وفاعلها مبطل على غير حق.
الحادي عشر : ? إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا ? هذا هو حق الله على العبيد أعظم حق وبه دخول الجنة مهما كانت الذنوب ، وإن كانت التوبة مطلوبة، لكن جاء من رحمة الله في الأحاديث القدسية قوله سبحانه وتعالى فيما رواه عنه رسولنا - صلى الله عليه وسلم-: ( يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة ) والحديث حسن كما نبه على ذلك أهل الفن.
(2/19)
---(5/54)
الثاني عشر: ثم قال: ? فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ? العمل الذي ينبغي أن يشتغل به الخلق إنما هو العبادة عباة الله وحده لا شريك له، العباة على أساس لا إله إلا الله ، والعبادة ليست الصلوات والزكوات والصيام والحج فقط، إنما هي كل عمل صالح ينفع الخلق ويرضي الرب سبحانه وتعالى ويبتغى وجه الله ، فالإنسان قد يعبد ربه بلقمة يأكلها حين يبدأ بتسمية وينتهي بتحميد ويأكل على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم- ما استطاع، ويأكل بيده اليمنى وينوي بطعامه هذا التقوي على الطاعة ويأكله من حلال ويتفكر ? فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ? [عبس: 24]، يتفكر في طعامه كيف خلقه الله وأنبته من الأرض ؟ أو جعله في حيوان ؟ كيف أساغه له ؟ وجعله سهلا في التناول ؟ سهلا في الأكل؟ سهلا في التذوق؟ سهلا في الهضم؟ جعل له مخرجاً في كل مكانظ كل شيء منه وكل عنصر يذهب إلى مكانه.
نعم كثيرة، من فعل ذلك فقد عبد الله بطعامه، وقد عبد الله بنومه ، وقد عبد الله بعبادات مشروعة وبعادات يفعلها كل الخلق، لكنه يحول حياته كلها عبادة لله كما قال ربنا: ? قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ? [الأنعام: 162] .
(2/20)
---(5/55)
الثالث عشر : لكن أدوم العبادات ، ومن أشرف العبادات ، ومن أفضل العبادات الصلاة ؛ فهي عبادة شاملة، فيها يصوم الإنسان فلا يجوز فيها الأكل والشرب ، الأكل والشرب نسياناً في الصيام يعفى عنه ، الأكل والشرب نسياناً في الصلاة يبطلها، فصيام الصلاة أشد من صيام الصيام، في الصلاة لابد من استقبال القبلة، وهي الكعبة المباركة وهي التي يقصدها الناسك بالحج والعمرة، في الصلاة زكاة حين نغلق محالنا ونترك محالنا ونترك كسب أرزاقنا لوقت ما لنؤدي الصلاة، فكأننا تصدقنا بهذا الوقت، وما يمكن أن يكون فيه من كسب أو عمل، تلك الحركات التي نؤديها تزيكة، بخضوعنا لله عز وجل عن أبداننا وعن صحاتنا فيها النطق بالشهادتين، فيها أركان الإسلام جميعاً ، وفيها أخلاق جميلة، حتى قيل إن الصلاة مدرسة دينية شرعية.
والمجال لا يتسع لتفصيل ذلك ، ولكن مع التفكر نجد ذلك ، وخاصة عند من خص هذا الكلام بتفسير في كتاب أو بحث مستقل ، إنما هذه إشارة تشير إلى حكمة تخصيص الله تعالى للصلاة .
وقد خصت الصلاة كثيراً، تذكر دائما مثالا للعبادات، ومعها الزكاة في أحيان كثيرة ولكن هنا خص الصلاة وحدها، فقال : ? وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ? .
الرابع عشر : وهذا يدل على أن أصل الصلاة موجود في كل الشرائع السابقة، كانت موجودة عند سيدنا موسى - عليه السلام- ، موجودة هكذا عندنا، لكن ربما تختلف الهيئة في كم فريضة ؟ وكيف تصلى ؟ وكذا . وفي أي مكان ؟ فالأمر فيه شيء من التنوع، من فضل الله ورحمته بما يتنساب ويتلائم مع ظروف كل أمة، لكن أصل الصلاة موجود في كل شريعة كما كلف الله موسى بذلك، وقال عيسى - عليه السلام- لدى ولادته ? وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياًّ ? [مريم: 31]، وهكذا.
(2/21)
---(5/56)
الخامس عشر : ثم ختام أركان العقيدة المهمة، الأركان المهمة المذكورة في هذه الآيات ، الأصول الأساس في هذه العقيدة، الإيمان باليوم الآخر ? إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ? الساعة هي القيامة ، التي يقوم فيها الناس لرب العالمين ، ولما كانت في ساعة، أي : في توقيت محدد معين سميت بالساعة ، ولما كانت حقا لا ريب فيه سميت بالحاقة ، ولما كانت تقرع الناس بأحداث وأهوال عظيمة سميت بالقارعة، وهكذا لها أسماء كثيرة ولكل اسم معناه .
وتعدد الأسماء هنا يدل على ضخامة هذا الحدث ، فيوم القيامة يوم لا يوم مثله، كما قال ربنا: ? ذَلِكَ اليَوْمُ الحَقُّ ? [النبأ: 39]، كل يوم له نهاية أما يوم القيامة فلا نهاية له، يوم طويل مديد حياة مستمرة أبدية، ما خلقنا الله إلا لها، ولكن منا من يختار الجنة، جعلنا الله فيها، ومن الناس من يختار الدنيا والنار نعوذ بالله .
السادس عشر : وأخفى الله وقت الساعة لحكمة ؛ لأن الإنسان لو علم متى ستكون الساعة لما التزم بأمر ولا بنهي شرعي ، حتى إذا اقتربت الساعة فعلاً، لتاب إلى الله قبلها بقليل وأصلح أمره وعاد إلى دينه، كما يقول بعض الناس : حينما أكبر وأتزوج وتسير لي أسرة أبد الصلاة إن شاء الله ، حتى انتهي من هذه الهموم أولا .
تقول المرأة : لما أتزوج أتحجب . تؤجل الحجاب إلى ما بعد الزواج، ويكون مسؤلاً ، وهكذا عن بيت ،يؤجل الصلاة حتى يظهر المشيب فيه، يقول: أني ما زلت شباباً ، أريد أن أفرح بشبابي ، وبعد شبابه يريد أن يتوب .
وهل ضمنت أن تبلغ ذلك المدى ؟ إن الساعة العامة مجهولة ، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ولا تحديد لها عندنا إلا أنها تأتي يوم جمعة ، فقط، أية جمعة؟ الله أعلم .
(2/22)
---(5/57)
قد يقول القائل: إذاً أنا فيما أريد طول الأسبوع، ويوم الجمعة أغتسل وأصلي أنه قد تقوم الساعة، لا ! قد تقوم ساعتي أنا كفرد في أي يوم، ونرى من الناس من يموت يوم السبت أو يوم الأحد أو الاثنين أو كذا ، في أي يو، م غير يوم الجمعة، فهناك ساعة عامة للكون كله والموجودين فيه وهي الساعة الأخيرة وهناك لكل إنسان ساعة، ( ومن مات قامت قيامته ) كما روي ذلك في حديث فيه شيء من الضعف، ولكن معناه صحيح .
من مات قامت قيامته الخاصة به فيعرف مصيره ويعرض عليه مقعده من الجنة أو النار ويعرف حسابه وهكذا إلى أن تقوم الساعة العامة الطامة الصاخة.
السابع عشر : الساعة والقيامة، أمر ضروري أنكره كثير من السفهاء، من ينكره فهو سفيه لم يستعمل عقله وإن كان له عقل؛ ذلك لأن العمل والسعي والنعم لا بد عليها من حساب ، ولو لم يكن هناك من حساب لكانت الدنيا عبساً، هذا بصحته يعيش بها ويموت عليها، وهذا بمرضه يعيش مريضاً ويموت مريضاً، هذا غني عاش يتمرغ في غناه ، وذاك فقير تعذب وشقي بفقره ، وهذا وهذا ، اختلاف الفرص بين الناس .
هذا صبر وذاك شكر أم لم يشكر ، أيها خير، لا بد أن يأتي يوم تتكافئ فيه الفرص وتتعادل فيه المقامات .
كذلك قالها مفكر كافر لما تفكر في أحوال الخلق ، في حياتهم وفي موتهم، نتج عنده أنه لابد من يوم تتكافأ فيه الفرص ، وتتعادل فيه المقامات وبالتالي يجد كلُ إنسان مساواته بالآخر.
فلو كان فقير تعذب بفقره في الدنيا أو مريض ونحوه ولكنه صبر على قضاء الله فإنه يوم القيام خير من غني ذي أموال أو ذي سلطان أو ذي صحة وعافية لم يشكر الله على نعمه، فالصابر يكون خيراً من عدم الشاكر يوم القيامة، ولو صبر هذا وشكر ذاك لكان كلاهما على خير.
(2/23)
---(5/58)
الثامن عشر : فينبغي على المؤمن أن يثبت على هذه العقيدة ، توحيد الله عز وجل ، عبادة الله وحده لا شريك له بإخلاص وباتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم- الإيمان بيوم القيامة ، لأن الإيمان بيوم القيامة يصلح الفرد وبالتالي يصلح المجتمع، قال تعالى: ? كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ ?5 ? لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ ? [التكاثر: 5، 6]، لو أن علم العقيدة الصحيحة وعلم يوم القيامة يدرس للناس في المدارس في الإعلام يذيع بينهم في كل مقام حتى يصل إلى درجة اليقين لتخيل كلُ إنسان القيامة بين تعينيه ، فيرى الجنة والنار .
وتخيل موظفاً يرى الجنة والنار أمامه، هل تمتد يده إلى رشوة ؟! لا يمكن أبداً ، هل يعصي الله عاص؟! إلا سفيها ، فليس من القوم، إلا سفيها سفه نفسه وضل عن طريقه ولم يرى ما يجري أمامه من آيات عظام، لذلك دعانا الله إلى التمسك بهذه العقيدة فقال: ? فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ? [طه: 16]، لا يصدنك عنها ، أي : عن هذه العقيدة، وخاصة عن يوم القيامة من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى .
التاسع عشر : وهنا ننتبه إلى شيء أخير، وهو أن المعركة بين الحق والباطل قائمة لا تخمد أبدا، وأن هناك من شياطين الإنس والجن من يفسد على الناس عقائدهم ، بالبدع والخرافات والضلالات وإبعادهم عن العقيدة السلمية حتى يقعوا في الحرج وفي الحرمان من جنة الله سبحانه وتعالى ، فينبغي الحذر على الأقل من هؤلاء ، وإلا فالتصدي لهم بالثبات عن العقيدة وبنشر العقيدة الصحيحة التي كان عليها رسولنا - صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح من بعده .
نسأل الله أن يرزقنا حسن الاتباع والثبات على الأمر والرتشد وأن يرزقنا الله عز وجل حسن الخاتمة حتى نكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(2/24)
---(5/59)
إجابات الأسئلة التي عرضها الشيخ في أول الحلقة :
إجابة السؤال الأول:
أن هذه الحروف سر من أسرار الله تعالى في كتابه نؤمن بأنها قرآن وأنها من كلام الله ونفوض المعنى فيها إلى الله تعالى ، وهي أحرف من جنس ما نتكلم به ، والمراد منها في وضعها الإعجاز.
إجابة السؤال الثاني:
أن الله خالق السماوات والأرض ، ثانيا: الرحمن . ثالثا : مستوي على العرش استواءً يليق بجلاله . رابعاً: يعلم السر وأخفى . خامساً: لا إله إلا هو، سادسا، له الأسماء الحسنى.
إجابة السؤال الثالث:
إذا قلنا : طه اسم من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم. فـ كهيعص اسم من، وحم اسم من ؟! وطس اسم من؟! فهذا قول لم يصح وليس عليه دليل صحيح ، وديننا يعتمد على الدليل، وقد ورد في صحيح الإمام مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم- عدد أسماؤه فقال: أنا محمد وأنا أحمد وأنا العاقب وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي يوم القيامة وأنا كذا وأنا كذا، فهذه أسماء سمى بها نفسه، ? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى ?3 ? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ?4 ? ? [النجم: 3، 4]، ولكن لم يرد أنه سمى نفسه بطه ولا بياسين، ولم يرد ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم في ندائاتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم- فكانوا يقولون: يا نبي الله! ويا محمد ! ومحمد فعل كذا، ولم يرد عنهم أنهم قالوا، طه أو يس، كإسم يطلق على النبي - صلى الله عليه وسلم- فلنا ما يرد وما لم يرد فالكف عنه أولى وأسلم والله أعلم .
أسئلة المشاهدين :
سؤال :
كيف نوفق بين : أن الهوى ما مالت إليه النفس مخالفاً لما شرع الله ، وبين قول النبي - صلى الله عليه وسلم- ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لا تعارض بين هاذين القولين ، مع التنبيه في البداية على أن هذا الحديث ضعفه أهل فن علم الحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به ) وإن كان ضعف الإسناد لا يعني ضعف المعنى .
(2/25)
---(5/60)
فالهوى : ما مالت إليه النفس في مخالفة شرع الله سبحانه وتعالى . هذا هو الهوى المذموم في القرآن والسنة وفي العقل وفي كل شيء .
أما إذن كان الهوى تابعا لما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- يعني نفسي لا تميل إلا لما سنه النبي - صلى الله عليه وسلم- فهنا ميل النفس في موافقة شرع الله فهذا لا حرج فيه، نفسي تميل إلى الأكل باليمين، نفسي تميل إلى الصلاة بالليل نفسي تميل إلى قراءة القرآن نفسي تميل إلى الصلاة بالليل، نفسي تميل إلى التيمن في كل شيء ، وهكذا نفسي تميل إلى ما جاء في الشريعة، فهذا هوى طوع لشرع الله عز وجل ، فهذا هوى محمود، لكن إذا استقل الهوى باتجاه مخالف لاتجاه الدين ، فهذا هو الهوى المذموم المنهي عنه.
سؤال :
قلتم أن عيسى - عليه السلام : نبي من أنبياء بني إسرائيل . كيف يكون ذلك ؟ وهو من أولي العزم من الرسل ؟ وقد قال الله عز وجل : ? فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ? [الأحقاف : 35]، وكذلك حديث الشفاعة يثبت أن رسول فكيف توجهون ذلك
أجاب فضيلة الشيخ :
لو تدبرت الأمر ورجعت إلى الكلام ، الحديث في المحاضرة ، قلت : أنه في الأصل قلت إنه في الأصل نبي من أنبياء بني إسرائيل ، ولكن لما أوتي الإنجيل فكان به رسولا، يعني نال الرسالة بنزول الإنجيل عليه ، لكن هو أصل متمم لرسالة موسى - عليه السلام- وليس مبعوثا برسالة مستقلة ولذلك الإنجيل كله مواعظ فقط ، لا تجد فيه أحكاماً، والشريعة لا تخلو من أحكام ، وبهذا يكون عيسى - عليه السلام- نبياً باعتباره داعياً برسالة سيدنا موسى - عليه السلام- ويعتبر رسولاً كذلك ثبتت له الرسالة، بأنه أوتي رسالة الإنجيل، فجمع بين الوصفين، لكن أردت أن أنبه إلى ذلك النقطة فقدمت النبوة على الرسالة، والله أعلم.
سؤال :
(2/26)
---(5/61)
الكثير يعتقد أنه ما دام مسلماً ويعيش وسط المسلمين فحتماً ولا بد أن يموت على الإسلام ،وبالتالي فهو من أهل الجنة حتى ولو عذب في النار قبل ذلك ، ويبنى على ذلك ترك كثير من الأعمال بناءً على هذا الاعتقاد ، فكيف يواجه طلب العلم بالأدلة هذا الأمر عند دعاوى المسلمين؟
أجاب فضيلة الشيخ :
هده لفته طيبة لواقع عريض بين الناس فعلاً : يظن الكثيرون أنهم طالما كانوا مولدين في مسلمة وحملوا أسماء المسلمين وسجل في هوايتاتهم وبطاقاتهم وأوراقهم الشخصية أن الديانة مسلم يزعم بذلك أنه مسلم ومؤمن وموحد بالله عز وجل وأنه على خير وأن محمداً عليه الصلاة والسلام سوف يأخذ بشفاعته، إلى آخر ذلك من الآمال العريضة .
وكما يدعون أنه حسن ظن بالله، ولكن ورد في الحديث أن من أحسن الظن بالله أحسن العمل ( ولو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل ) الإيمان ليس بالتمني كما ورد في الحديث ، ( ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ) لا بد أن يكون قلبي مقراً بالإيمان، ووقر ، يعني : ثبت لثقله ، شيءٌ ثقيل، وقر في القلب وثبت فيه وصدقه العمل بالبدن والجوارح .
فمسلم ولا يصلي ، مسلمة ومتبرجة، مسلم يصلي ويستبيح بعض المحرمات ، أو يترك عمداً بعض الواجبات المفروضة، فهذا تناقض يتناقض مع نفسه، فطالب العلم عليه أن يبين هذا للناس بقدر استطاعته وبقدر ما يفهمه الناس ، فلا بد أن يدخل لكل مدعو من مدخله الصحيح بقدر ما يفهم ويعي ، فمن كان يفهمُ المعاني القرآنية ، والمعاني الحديثية، يقدم له الدليل .
من كان لا يعي هذا أو ربما تعلم المجادلة فيظن أنك تفسر القرآن وتشرح الحديث على وفق هواك ، وعلى حسب ما ترى من فكر ، فقدم له الحجة العقلية ، بعد أن تقرأ الآية أو الحديث ، اطرح عليه استدلال العقل فهذا قد يقنعه وصولاً به إلى الهداية بهذا تواجه مثل هذا الصنف من الناس، وضربُ الأمثلة في ذلك نافعٌ جداً .
(2/27)
---(5/62)
فلو اقترضت منك مثلا ذهبا، واقترضت منك فضة واقترضت منك ريالات ، ودينارات، ثم قضيت دينك الذي عندي في الذهب والفضة فقط، وباقي العملات قلت لك هذا كفاية، أنا قضيت دينك هكذا وأديت ما علي ، أهذا يكفيك ؟ الكل يقول : لا يكفيني . لا بد أن آخذ حقي بكامله ، كذلك فرض الله علينا فروضاً وواجبات لابد أن تؤدى جميعاً، ونهانا عن أمور لابد أن تجتنب جمعيا ولا بد أن يؤخذ الدين كله ? أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ? [البقرة: 85]، نسأل الله أن يهديهم وأن يجري الحجة على ألسنتنا بين أيديهم. اللهم آمين.
سؤال :
تقول الآية في سورة هود: ? وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ? [هود: 89]، فسيدنا شعيب قريب جداً من قوم لوط، فكيف يكون هو شعيب الذي في قصة سيدنا موسى ؟ فأرجوا التوضيح ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(2/28)
---(5/63)
قلت أن هذا قول من الأقوال أنه نبي الله شعيب ، ولكن القرآن لم يثبت واحداً بعينه ولنا ما ثبت في القرآن ، يعني : القرآن في قصته وفي سرده للأحداث يترك أسماء الشخص وأسماء المكان يبهم هذه الأشياء لأنه لا تتعلق بها فائدة، بغض النظر إن كان شعيب النبي أو شعيب آخر، فهذا لا يفيد ولا يضر ، ولكن قول يقوله بعض المفسرين ربما اطلع عليه والآخر لم يثبت عنده مثل ذلك، فقالا : رجل صالح اسمه شعيب ، فتحديد المبهمات في القرآن الكريم أولاً لا بد أن يكون تحديداً قائماً على نص ثابت ، وطالما سكت عنه القرآن فتحديده غالباً لا يفيد ، أو لا تتعلق به الفائدة ، فلا يفيد إفادةً إصيلةً في العبرة التي سيقت من أجلها القصة، فلا نزاع في هذا سواء كان هو أو غيره الرأيان مذكوران عند المفسرين، والله أعلم.
سؤال :
هل قدسية وادي طوى قدسية خاصة في شريعة موسى - عليه السلام؟ أم تدخل في شريعتنا أيضا؟
أجاب فضيلة الشيخ :
إذا كان وادي طوى قد شرف بتكليم الله لموسى هناك وإنزال بعض الرسالات هناك فيبقى المكان مقدساً عندنا وعند من سبقنا ؛ لأنه حدث فيه ما هو خير وما شرفه الله به ، فالمكان يشرف بما وقع فيه من وقائع طيبة ، فلا مانع أن نقدسه أيضاً كما قُد\س في زمان موسى - عليه السلام- والله أعلم .
سؤال :
ما الفرق بين ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ? و ? إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ? ولماذا استعمل الله هذه في الآية والآخرى في الآية التي تليها ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
ملحظ جميل، البداية كما قلنا: كان موسى في وحشة ووحدة وغربة وضلال عن الطريق الذي يسير فيه ، وفي ظلمة ، فيحتاج إلى مآنسة ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ? تؤنس عن قول الله ? إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ? ؛ لأن كلمة رب تطلق على الراعي المربي الذي ينعم ويتفضل ويقضي الحوائج ويجبر الكسور .
(2/29)
---(5/64)
ومن ذلك رب الأسرة ، ورب المال يرعاه ويستثمره ويحافظ عليه، ورب العمل، فحينما بدأ الله موسى بأول كلام ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ? فذكْر لفظ الرب هنا أنسب من ذكر كلمة الله، ذلك الاسم الذي اختص الله تعالى به ، ولم يتسمى به غيره سبحانه وتعالى ، وفيه الجلال والهيبة والمهابة ، كما قال تعالى ? الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ? [الحج: 35]، ولم يقل الذين إذا ذكر ربهم.
فإذا ذكر الله ينبغي أن توجل القلوب وهو الرب نعم، لكن كلمة الله لها جلالها لها مهابتها لها أثرلها على النفس.
أما كلمة رب ، ففيها معنى الرحمة ، والرباية ، والرعاية ، والعناية ، مما يؤنس سيدنا موسى - عليه السلام- في مثل هذا الموقف الموحش الذي كان فيه .
لكن حينما أعلن الله عن نفسه كإله: ? إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ? يعني أن الله الواحد الذي لم يتسمى بهذا الاسم ولم يعرف بهذا العنوان غيري ، فكان هذا مقام إعلان التوحيد فسمى الله نفسه باسمه الذي لم يتسمى به سواه. والله أعلم.
سؤال :
ماذا لو أن شخص كان تاركاً للصلاة لفترة من الزمن ، ثم رجع وتاب وأقام الصلاة واجتهد بالنوافل ألا تجب توبته ما قبلها
أجاب فضيلة الشيخ :
(2/30)
---(5/65)
ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ( التوبة تجب ما قبلها ) يعني تمسح ما قبلها ، هنا في تارك الصلاة، تمسح ذنبه من حيث ترك الصلاة، لكن تلك الصلوات التي فاتت ما تعويضها التوبة مسحت الذنب نفسه ، ولكن بقي لهذا التائب أن يعوض ما فاته من رصيد عظيم ضيعه ، فكيف يعوضه ، وهنا يقول كما أشرت سابقا، الإمام ابن تيمية وتبعه ابن القيم، وغيرهم، قال: " إنه لا يسمح له بقضاء الصلاة التي ضيعها عمدا وإنما يعوض ذلك بكثرة النوافل " فكما جاء في الحديث في الحساب يوم القيامة ( أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة ) ثم جاء فيه فإن وجد في صلاته نقصا قال: ( انظروا هل لعبدي من تطوع ) فإن كان له عوض نقص الفريضة بما له من تطوع أو كما جاء في الحديث .
وبعض الفقهاء رأي : تارك الصلاة لفترة طويلة لا تعرف هكذا، يقضي مع كل فريضة فريضةً أخرى مما سبق، حتى يطمئن أنه قضى ما عليه، فالرأي الأول أقرب إلى الدليل والثاني أقرب إلى العقل، وأكثر طمأنينية لنفس تارك الصلاة، حينما يشعر أنه أدى الفرائض التي فاتت أو كثيراًمنها فهذا يعني يعطيه طمأنينة، لكن الذي أميل إليه أنه يكثر من النوافل. والله أعلم.
سؤال :
? إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ? [طه: 15]، لماذا استخدم لفظ أكاد دون غيره ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
قال المفسرون : في اللفظ في استعمال كاد هنا إشكال ، لأن كاد فعل من أفعال المقاربة، يعني اقتربت من أن أخفيها، هذا هو المعنى اللغوي ، ونقيس عليه أيضا ? إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ? [الأحزاب: 24]، حينما نقول : كان محمد وكان علي وكان إبراهيم وكان فلان طيبًا . وكان زيد كريماً، كان الزمان يتحكم في المخلوق في الإنسان يحده، لكن الله تعالى لا يحده زمان ولا يحده مكان .
(2/31)
---(5/66)
وبالتالي فتفسير الكلمة في جنب الله يختلف في تفسيرها في جنب الخلق ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ? [الشورى: 11]، ? إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ? [الأحزاب: 24]، كان ولا يزال، لا ينقطع وصفه ولا ينتهي عند حد معين، فلا نقول كان هذا كان لفظاً ماضياً والماضي يأتي بعده مضارع والمضارع يقتضي التجدد والحدوث، فربما تغير هذا الوضع ، لا ، هذا نقوله في الخلق، أما في الله عز وجل فكان كما يقول في الماضي والحاضر والمستقبل، كله بالنسبة لله واحد حيث لا يحده زمان .
أيضاً كاد الله تعالى لا يوشك أن يقترب من الشيء إنما يفعله أو لا يفعله يحققه سبحانه وتعالى ، فالله عز وجل يقول ? أَكَادُ أُخْفِيهَا ? ، يعين أخفيتها، وقال أبو علي الفارسي أحد علماء اللغة، قال : إن معنى ? أَكَادُ أُخْفِيهَا ? للإشكال الموجود في هذا الاستعمال، أي : أكاد أظهرها، يعني أوشك ظهورها ، أي اقتربت الساعة من أن تظهر ، هذا معنى ? أَكَادُ أُخْفِيهَا ? يعني كدت أظهرها ما بقي عليها إلا القليل، فهي التي اقتربت لكن الله يقيمها الآن أو بعد فترة قصيرة أو طويلة كما يشاء سبحانه وتعالى فليس فيها ما يفهم عن طريق الخلق كما تقول كما تقول في قول الله تعالى: ? قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ ? [الأحزاب: 18]، قد يعلم هذه معناها عندنا في حقنا نحن المخلوقين، قد يعلم ، وقد لا يعلم، طالما قد يعلم ، إذن فقد لا يعلم ، لكن في حق الله قد يعلم يعني حقا يعلم ، كما هي القاعدة المعروفة قد قبل الفعل الماضي تفيد التحقيق ، قد علم علم بالفعل، قد يعلم، يعني ربما يعلم وربما لا يعلم ، هذا في شأن المخلوقين ، لكن إذن أضيفت إلى الله عز وجل فلا يراد بها إلا التحقيق ، فمعناها دائما حقا يعلم الله المعوقين منكم ، حقا يعلم الله المتسللين منكم وهكذا. والله أعلم.
سؤال :
ما قولك في العقيدة الأشعرية؟ وما نصيحتكم لي ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(2/32)
---(5/67)
خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم- وقال - صلى الله عليه وسلم- عن افتراق الأمة كما افترق السابقون ، قال: ( وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة . قالوا : انعتهم لنا يا رسول الله . قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي ) فكن على عقيدة السلف مهما كانت ، ولا تكن مع مخالفها تضمن الطريق السليم ، وتأمن على نفسك من الفتن ، ومن السقوط في البدع ، وخاصة في مجال العقيدة ، فإنها بدعتها أخطر من بدعة العبادة ، وأخطر من بدعة المعاملات ؛ فبدع العقيدة قد تدخل في الكفر، فاحذر منها ، وكن على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وسلف الأمة رضوان الله تعالى عليهم، جعلها الله على الاعتقاد الصحيح دائم حتى نلقاه وهو راضي عنا.
سؤال :
ما أقوى القولين أن شعيب هو نبي الله شعيب أم نبي صالح
أجاب فضيلة الشيخ :
بعدما ذكرنا أنه لا فائدة في تحديد هذا الإبهام ، لا ينبغي مثل هذه السؤال ، لو كانت فائدة تتعلق بذكر اسمه لذكره الله باسمه وشخصه في القصة ، ولكن ذكره الله بلفظ رجل وانتهى الأمر على ذلك، أو بوصف آخر، لكن ما حدد الله اسمه ، فلا داعي للجري وراء ما سكت عن القرآن ، فما سكت عنه إلا لأنه لا تتعلق به الفائدة أو العبرة ، ونسلك هذا في كثير من مبهمات القرآن ، أو في كل مبهمات القرآن إلا ما طلبته الحاجة ، ولا داعي للإسراف في هذا لأنه يجرنا إلى كلام يضيع الوقت ، وقال عنه العلماء : علم لا ينفع وجهل لا يضر .
حمار العزيز ، أو الحمار الذي مر على قرية، ونملة سليمان ، وهدهده ، وكلب أصحاب الكهف ، وفيل أبرهة ، وكذا كانوا من أي نوع ، وكانوا بأي شكل، وكانوا بأي حجم ، هذا كلام وصل إلى أن تكلم فيه المفسرون وذلك فيما أظن والله أعلم، تكلموا في هذا من باب إشباع رغب الناس ، ومحاولة الجواب على تساؤلاتهم البعيدة التي ما كان السلف يسألون عنها.
(2/33)
---(5/68)
الله قال : إنه رجل من الصالحين وذكر طرفا من قصته، وانتهى الأمر من هو هذا لا يفيدنا إنما يفيدنا خلقه، كيف كان مع موسى - عليه السلام- كيف استقبله ؟ كيف اختاره زوجاً لإحدى ابنتيه ؟ كيف عرض عليه الأمر ؟ كيف وكيف؟ هذه هي المواقف التي يجب أن نلتفت إليها في قصة القرآن بعيدا عن مكان القصة تاريخ القصة بالضبط ، القرية التي كانت فيها الشخص الذي كان بطلا فيها أو كان له دورا فيها ، كل هذا لا يفيد إفادة ضرورية إفادة ضرورية في العبرة والقصة التي أراد الله تعالى أن يعلمنا إياها . والله أعلم.
سؤال :
كيف كان تواضع موسى - عليه السلام- لله تعالى ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
كيف بالتفصيل ، هذا لا يُعلم، ما قرأت فيه شيئاً، لكنَ الإمامَ ابنَ كثير رحمه الله تعالى ذكر هذا القول وكما قلت ذكره بصيغة التضعيف، لكن ذكر من أخبار موسى - عليه السلام- أنه كان الذكر لله تبارك وتعالى، وعظيم الشكر له ، ذكر عنه أنه شديد البر بأمه وكانت له فضائله الكثيرة كان ستورا على نفسه، يستر نفسه مع أنه سترا مبالغ فيه، حتى لا يظهر شيء حتى من فوق عورته، يعني ما زاد عن عورته كان يغطيه أيضا، حتى قال فيه بني إسرائيل: إنه ما يستر نفسه هذا التستر إلا لعيب فيه، في جسده من الداخل، فذات يوم الله برأه فجعله يغتسل في شاطئ بحر ووضع قميصه على حجر ثم خرج بعد اغتساله ليلبس ملابسه ، فإذا بالحجر بأمر الله يجري من أمامه والملابس عليه وهو يجري وراءه بعصاه وهو يقول اثبت حجر، اثبت حجر ، اثبت حجر ، يعني قف يا حجر، ولكن الحجر مأمور من الله وليس مأمور من موسى - عليه السلام- ، فانطلق الحجر يجري يسبق موسى، حتى وقف بأمر الله على قوم ، مجموعة من بني إسرائيل جالسن فأراهم الله سبحانه وتعالى موسى كما ولدته أمه ، ليعلموا أنهم مفترون كذابون أفكاون افتروا على نبي الله موسى ما ليس فيه، كآية من آيات الله .
(2/34)
---(5/69)
ذكر هذا في شأن موسى - عليه السلام- وقال الله تعالى ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً ? [الأحزاب: 69]، فكان - عليه السلام ، عظيم الصلة بالله تبارك وتعالى، أما تفصيل ذلك ، فما وجدته بتفصيل ، والله أعلم، وتكثر فيه أخبار بني إسرائيل التي لا يعتمد عليها.
(2/35)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (3) طه ( الآيات 17- 41)
الدرس الثالث
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وصلِّ علينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
إخواني وأخواتي المستمعين والمستمعات طلبة العلم، علمنا الله وإياكم الخير، أحييكم في هذا اللقاء، لنقضي جولة جديدة مع سورة طه، ونبدؤها بطرح الأسئلة على المحاضرة السابقة.
يقول السؤال الأول: ماذا يعني بدء حديث موسى بالسؤال عنه؟ ? وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ? [طه: 9] ؟
السؤال الثاني : ماذا نفهم من قول الله تعالى: ? إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا ? [طه: 14]؟ في أول كلام الله مع موسى -عليه السلام-؟
السؤال الثالث : استخرج من الآيات السابقة أصولاً ثلاثة؟ هي أسس في كل الشرائع؟
وفي هذه الحلقة - إن شاء الله تعالى- وفي هذا الدرس نتناول من الآية السابعة عشرة وحتى قول الله تعالى: ? وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ? [طه: 41] نتناولها من خلال ثلاثة عناصر:
العنصر الأول: إعداد الله تعالى لموسى -عليه السلام- لتلقي المعجزة.
العنصر الثاني أوالموضوع الثاني: هو استعداد موسى -عليه السلام- لممارسة الدعوة روحياً ومادياً.(5/70)
الدرس الثالث والأخير: تثبيت الله تعالى لفؤاد موسى -عليه السلام- بتذكيره بنعمته.
ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد.
ونبدأ بسماع الآيات من أخينا الأستاذ عبد الرحمن فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(3/1)
---
? وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ?17 ? قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ?18 ? قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ?19 ? فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ?20 ? قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى ?21 ? وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى ?22 ? لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى ?23 ? اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ?24 ? قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ?25 ? وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ?26 ? وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ?27 ? يَفْقَهُوا قَوْلِي ?28 ? وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي ?29 ? هَارُونَ أَخِي ?30 ? اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ?31 ? وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ?32 ? كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ?33 ? وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ?34 ? إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً ?35 ? قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ?36 ? وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ?37 ? إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ?38 ? أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ?39 ? إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ(5/71)
سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ?40 ? وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ?41 ? ? [طه: 17- 41].
(3/2)
---
تبارك ربنا -سبحانه وتعالى- من رب عظيم حليم كريم، حيث يقدم لنا هذه القصة التي احتشدت فيها العبر ونبدأ حديثنا - كما تعودنا- ببيان معاني بعض المفردات التي تساهم في فهم الآيات بعد ذلك.
وردت كلمة ? أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا ? التوكؤ على الشيء هو الاعتماد عليه عند المشي ونحوه، ولذلك لا يقال: أتوكأ على الجدار إنما أستند إلى الجدار. إنما التوكؤ يكون على العصا ونحوها، وجاء في وصف العصا ? وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ? الهش أن يجعل الراعي عصاه المعقوفة يقال عنها في لغة مصر: العكاز التي التوى طرفها أن يضع عصاه المعقوفة في غصن الشجرة، ويهز الغصن حتى تتساقط الأوراق فتأكلها الأغنام والأنعام.
فكان موسى -عليه السلام- يهش بعصاه الأشجار حتى يوفر الطعام للأغنام التي يرعاها وما من نبي إلا ورعى الغنم -عليهم جميعاً الصلاة والسلام- وقال في وصفها أيضًا ? وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ? مآرب جمع مأربة كمظالم جمع مظلمة، وهي الحاجةُ والغرض أي لي فيها منافع وحاجات أخرى أقضيها بواسطة العصا.
قال الله لموسى ? وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ? الجناح من الإنسان هو العضد وما تحته إلى الإبط العضد الذي هو أعلى الذراع، ارتباط الذراع مع الكتف هذا هو العضد وما تحته من الإبط.
وسمي جناحاً لأنه موضع الجناح من الطير. الجناح يكون في هذا المكان عند الطيور.
قول الله تعالى: ? آيَةً أُخْرَى ? آية أخرى يعني معجزة أخرى، كانت المعجزة الأولى في هذا اللقاء هي العصا, وكانت المعجزة الثانية في هذا اللقاء والأخرى هي اليد، كما سنتعرف على تفصيل ذلك إن شاء الله.
(3/3)
---(5/72)
? اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ? الطغيانُ هو الزيادة عن الحد. وفرعون لم يكفر كفراً عادياً، مجرد إنكار لله -سبحانه وتعالى- أو رد لرسالته أو تكذيب لرسوله موسى -عليه السلام- بل ادعى أنه إله وادعى أنه الرب الأعلى والإله الأوحد -لا إله إلا الله- فكان كفره طغياناً عظيماً، كما طغى على الخلق في ظلمهم واستعباد بني إسرائيل.
دعا موسى ربه فقال: ? رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ? شرح الصدر المقصود به توسعته بنزع ما فيه من خواطر تضيقه وقد شرح الله صدر رسولنا - صلى الله عليه وسلم- مادياً ومعنوياً أما الشرح هنا فهو معنوي فقط.
وكأن موسى -عليه السلام- يطلب من ربه -سبحانه وتعالى- أن ينزع من قلبه شدة الغضب، وكان غضوباً في الحق، شديد الغضب لله، وللعدل، فكأنه في مواجهته لفرعون أراد أن يكون حليماً ليصبر على أذاه ? قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ? اجعله واسعاً يتحمل ما ألاقي من فرعون وقومه.
? وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ? كان سيدنا موسى -عليه السلام- ذا عقدة في لسانه عقد لسانه يعني: عن نطق بعض الحروف، وقيل: عن بعض الكلمات فلا يبينها كما يبين بقية الكلام، فربما لا يفهمه من تعود على كلامه، ومن طالت عشرته.
فدعى ربه -سبحانه وتعالى- أن يحل هذه العقدة أو يحل منها لكي يفهمه قومه والمدْعوُّون إذا أمرهم بطاعة الله وأمرهم بشريعة الله سبحانه ? وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ?.
(3/4)
---(5/73)
وقال أيضاً: ? وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي ? ليست كلمة وزير بالمعنى الوظيفي المعروف في زماننا؛ إنما بمعناها الواقعي الفعلي ،أي: اجعلي مؤازراً، مقوياً، معيناً، ومنها قوله تعالى: ? اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ? أصل الأزر هو الظهر، والإنسان إذا أراد أن يتقوى على عملٍ ما شدًّ أزره وربط ظهره برباط، يلف حول وسطه شيئاً ما يشده على ظهره ليتقوى على ذلك على العمل، وسمي الثوب الذي يستر أسفل البدن إزاراً؛ لأنه يعقد عند الأزر أي عند أول الظهر.
قال الله -سبحانه وتعالى- لأم موسى: ? اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ? التابوت: مقصود به صندوق من الخشب على قدر طول الإنسان ليوضع فيه، وكان معروفاً في بني إسرائيل ? فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ ? اليم: مقصود به البحر، وسمي به البحر؛ لأن اليم في الأصل هو الماء، ? فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ ? الساحل: هو الشاطئ، ? فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ? أهل مدين- كما عرفنا عرضاً في حلقة سابقة- هم قوم نبي الله شعيب -عليه السلام- كانت تلك القرية هناك وبعث فيهم سيدنا شعيب -عليه السلام- وأصل مدين: ولد من أولاد نبي الله إبراهيم -عليه السلام-
قول الله تعالى لموسى ? وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ? الفتنة تطلق على الاختبار، وقد يكون الاختبار بالنعمة وقد يكون بالمصيبة كما قال تعالى: ? وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ? [الأنبياء: 35] ويرجح أن المراد بها هنا في قصة موسى -عليه السلام-ما كان من شدة في حياة موسى -عليه السلام- إنه لقي شدة في حياته قال بعض العلماء - كما ذكر الإمام ابن كثير- رحمه الله- "كانت هذه الشدة عقوبة له على قتل الرجل القَبَطِيّ وإن كان لا يقصد القتل لذاته".
هذا بيان حول المعاني لبعض المفردات الغريبة في بعض الآيات التي استمعنا إليها.
(3/5)
---(5/74)
ويقال في المعنى العام: إن الله -تبارك وتعالى- لما نادى موسى -عليه السلام-بالنبوة وقال له: ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ? [طه: 12] وعلمه الأصول فقال: ? إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ?14 ? إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ? [طه: 14، 15] وبهذا يبعثه إلى أمة من الأمم وإلى خلق يدلهم على وحدانية الله -تبارك وتعالى- وجدية الحياة الدنيا بدليل أن هناك قيامة وحساباً يحاسب الله فيه العباد.
(3/6)
---(5/75)
ولا بد لكل نبي أو رسول يبعث إلى الناس من معجزة فعلم الله تعالى موسى وأراه من آياته الكبرى آيتين: آية العصى حيث حولها له ثعباناً وحية عظيمة. كما جعل يده التي هي سوداء في لونها أو تميل إلى السواد حولها إلى بيضاء من غير سوء، أو أذى أو مرض من برص ونحوه إنما بقدرة الخلاق -سبحانه وتعالى- بمجرد أن ضمها إلى جناحه وجعلها في جنبه أو وضعها في جيبه كما أمره الله –سبحانه- وبهذا التأييد العظيم يقوي الله تعالى قلب موسى -عليه السلام- ليوجهه فيقول: ? اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ? فلما رأى موسى أنه مبعوث إلى طاغية وهو يعرف ذلك الطاغية وكم طغيانه وعظيم بغيه خشي على نفسه من مواجهته أنه لا يقوى على هذه المواجهة، فتقوى، وهذا نبل من سيدنا موسى -عليه السلام- أن يعرف قدر نفسه وأن يتزود لمهمته فالمسألة ليست عنترية ولا شجاعة شعارية يطلقها بشعار إنما المسألة واقع ومواجهة حقيقية ? قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ?25 ? وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ? [طه: 25، 26] هذا في نفسه أما مع الناس فقال: ? وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ?27 ? يَفْقَهُوا قَوْلِي ?28 ? وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي ?29 ? هَارُونَ أَخِي ?30 ? اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ?31 ? ? [طه: 27- 31] قوي به ظهري أي: قوني به في هذا الأمر وعلى هذه المهة ? وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ? [طه:32] أي اجعله نبياً مثلي ولكن ليس رسولاً فموسى رسول وهارون نبي عليهما السلام.
حتى نصل بهذا يا ربنا إلى ذكرك وتسبيحك بشكل يليق بك شكل عظيم، وذكراً كثيراً يملأ طول يومنا وطول ليلتنا فنكون دائماً على ذكرٍ لك.
(3/7)
---(5/76)
استجاب الله لموسى -عليه السلام- ? قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ? ولكي يؤكد له ذلك ولكي يطمئنه من هذا الخوف ويثبته في تلك الوحشة حين يقابل فرعون قص الله على موسى خبراً ربما لم يكن يعرفه حتى هذه الساعة بهذه التفاصيل الدقيقة فقال له بما يرسخ في قلب موسى -عليه السلام: إننا اعتنينا بك عناية عظيمة وصنعناك على أعيننا أو على عيننا صناعة تحميك من فرعون وبطشه وظلمه، فالذي حماك وأنت طفل صغير لا حول لك ولا قوة ولا يملك أحد لك شيئاً يحميك عند مواجهته بالدعوة. فقص الله عليه هذا الخبر ليثبت فؤاده ويطمئنه إلى مستقبل أمره ? وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ?37 ? إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ?38 ? أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ? في هذا الجو العدائي في هذا الجو الغادر ? وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ? فأحبتك امرأة فرعون وسكت عنك فرعون ورفعت عن المدى والسكاكين التي كانت تذبح كل ذَكَرٍ يولد في بني إسرائيل فحمى الله – تعالى- نبيه موسى وهو طفل صغير بسياج من المحبة ألقاه في القلوب، فكان كل من رآه أحبه وذلك ليصنع على عين الله ترعاه عين الله -تبارك وتعالى- ويلاحظه الله بعينه ويراه فيحميه من كل شيء يقترب منه أو يؤذيه وهكذا، حتى أصابتك المخافة العظيمة حين قتلت نفساً من بني فرعون ومن ملأ القَبَطين -وهم أهل مصر يومها- كانوا يسمون قَبَطَاً بغض النظر عن دينهم، فلم تكن هناك يومها يهودية ولا نصرانية ولا إسلام إنما بدأ موسى يدخل مصر ليدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- مما عرف بعد ذلك بدين اليهودية فكان أهل مصر في ذلك الزمان يسمون بالقَبَط، فلما قتلت هذه النفس توعدك فرعون بالقتل وتتبع خطاك وأثرك فنجيناك من الغم وفتناك فتونا بالخروج من مصر وترك أمه وأهله وملأه من بني(5/77)
(3/8)
---
إسرائيل والغربة في أرض مدين وما لاقى في الطريق من مصاعب وما لقي هناك من غربة حتى آواه الله تعالى وأكرمه بزواجه وصحبته للرجل الصالح ثم بالنبوة في عودته وهكذا يكرم الله تعالى الأنبياء. ولأتباع الأنبياء حظ وافر من إكرام الله - عز وجل-
هذا عن المعنى العام للآيات، وهو مرور سريع عليها وأخذ الفائدة الضرورية منها وهذا ما يعرف بالتفسير الإجمالي.
أما العناصر التي قدمناها والموضوعات التي قسمنها حولها الآيات فكان الموضوع الأول: إعدادَ الله لموسى -عليه السلام- لتلقي المعجزة.
(3/9)
---(5/78)
موسى -عليه السلام- في هذا الموقف الأول، ما كان يعرف رسالة ولا نبوة كما قال الله لنبيا -عليه الصلاة والسلام- ? مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ? [الشورى: 52]، ما كان يدري شيئاً عن شيء في هذا المجال مجال النبوة والرسالة وما كان يتوقع أنه سيكون رسولاً وقال: (أتاني آتنٍ) ولا يعرف ما هو هكذا كان نبي الله موسى -عليه السلام- ذهب إلى النار ليقتبس منها قبساً أو يأخذ جذوة أو يجد على النار هدىً، فإذا به ينادى ? يَا مُوسَى ?11 ? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ? [طه: 11، 12] كانت المسألة مفاجأة وبغتة، ولذلك مثله يندهش، والبشر يخاف في هذه الوحشة ومنادٍ خفيّ ينادي عليه باسمه الذي لا يعرفه في هذا المكان أحد، وفي ظلمة لا يراه فيها أحد، فكان الأمر مدهشاً لنبي الله موسى ومخيفاً -عليه السلام- فناداه الله –تعالى- وعرفه بنفسه أنه: هو الله لا إله إلا هو... إلى آخره ثم أراد الله - عز وجل-- أن يؤيده ويثبته ويعلمه كيف تكون المعجزة، فقال الله تعالى: ? وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ? ولم يسمها الله لم يقل ما تلك العصى وإلا فقد أجاب، ? وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ? ما هذه التي في يمينك؟ قلنا قبل ذلك: طالماً كان السائل يعرف الجواب، فالسؤال المقصود منه ليس الاستفهام والاستعلام والاستخبار إنما خرج مقصود السائل إلى أمر آخر، السائل هنا هو الله - تبارك وتعالى- يعلم الغيب والشهادة، ويعلم ما في يمين موسى وما بين يديه وما خلفه وما بين ذلك، ولكن يسأل ليقرر موسى بما في يده، وليلفت نظر موسى إلى ما في يده، موسى قادم من طريق وعر في صحراء وفي جبال، ونزل في طريقه في منازل، فربما وضع عصاه وحين أراد الذهاب مرة أخرى، ربما أخذ شيئاً غير العصا وهو لا يدري، فربما أمسك ثعباناً ميتاً أو حياً أو نحو ذلك من أشياءَ أخرى ولم يدرِ أنه أخذ شيئاً غير العصا فحينما يرى ما في يده انقلب إلى حية ربما يطرأ في ذهنه(5/79)
(3/10)
---
أنه أمسك بشيء غير العصا، فأراد الله أن يحقق له ما في يده أولاً، وأن يقرر هو بما في يده، فقال موسى وكأني به ينظر إلى ما في يمينه ليتحقق منها فقال ? هِيَ عَصَايَ ? وأضافها إلى نفسه أي: عصاي التي أعرفها وأعهدها عصاي التي أنتفع بها في مآرب كثيرة، ? قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ? فإذا ما جعلها الله بعد ذلك ثعباناً يعلم موسى أن هذا الثعبان كان عصاه، وكان في يده عصا بالفعل، وهذا الموقف يذكرنا بموقف سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- حينما جاءه جبريل أول مرة في الغار مأموراً من الله -تبارك وتعالى- أن يقول له: اقرأ الله؟ يعلم أن نبيه لا يقرأ. الله يعلم أن محمداً بن عبد الله لا يقرأ وجبريل يعلم ذلك أيضاً، ومع ذلك يأمره بما لا يستطيع، ومعروف أن الأمر بما لا يستطاع عبث والعبث محال على الله -تبارك وتعالى- إذن أراد الله أمراً آخر: أراد الله بقوله ? اقْرأْ ? [العلق: 1] ليؤكد في نفس النبي -عليه الصلاة والسلام- وفي نفس من تقص عليه هذه القصة أنه - صلى الله عليه وسلم- كان لآخر لحظة قبل النبوة لا يقرأ ولا يعرف قراءة وليس عنده في حفظه ما يقرؤه فإذا ما علم شيئاً يقرؤه شيئاً عظيماً أيقن أن هذا من عند الله، فلم يرَ رؤيا ثم قام وتكلم بها ولم يلقن علماً ثم قام ليعلمه وإنما جاءه جبريل يقظة وقال له اقرأ، قال: ما أنا بقارئ ويضمه جبريل ضمة شديدة تبلغ من رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الجهد والتعب، ضمة ملك ثم يرسله، أي: يتركه من بين ذراعيه ليكرر عليه الأمر ثانية ? اقْرأْ ?، يقول: (ما أنا بقارئ) ويضمه ثم يرسله ? اقْرأْ ? الثالثة (ما أنا بقارئ) ويضمه ثم يرسله ثم يقول له: ? اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ?1 ? خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ?2 ? اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ?3 ? الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ?4 ? عَلَّمَ(5/80)
الإِنسَانَ
(3/11)
---
مَا لَمْ يَعْلَمْ ?5 ? ? [العلق: 1- 5] ينطلق النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى بيته حيث خديجة وهو يرتعد وترتعد فرائسه أي أعلى كتفه من شدة الخوف وهول المفاجأة ليقول: حدث كذا وكذا وكذا، وأقرأني ? اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ? ويقرأ الآيات التي سمعها، من أين؟ لم تكن من حفظه أولاً ولم تكن عنده قبل ذلك، إنما جاءته هذه الساعة فيعلم أنها من قبل هذا المصدر وليست في نفسه قبل ذلك، وليست من تعليم أحد له غير هذا الآتي الذي أتاه وعرف بعد ذلك أنه الوحي وأنه جبريل -عليه السلام-
فكان السؤال ? اقْرأْ ? تقريراً وتحقيقاً أنه - صلى الله عليه وسلم- ما كان يقرأ ولا يعرف القراءة إلى تلك اللحظة التي جاءته فيها النبوة.
كذلك سيدنا موسى -عليه السلام- يقول الله له: ? وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ? الله يعلمها وموسى يعملها وكان السؤال لتحقيق موسى من العصا وليتأكد ويستوثق مما في يمينه فيوقن بأنها عصاه التي يعرفها، فإذا ما انقلبت حية أو ثعباناً يسعى يعلم أن هذا تغير من عند الله، وتحويل بإعجاز الله -تبارك وتعالى- ولم يحمل شيئا خطأ أو سهوا من الأرض.
(3/12)
---(5/81)
وهنا نلاحظ أن موسى -عليه السلام- استطرد أو أطال بعض الشيء في الحديث قال: ? هِيَ عَصَايَ ?، وكان هذا يكفي ولكن قال: ? أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ? ولعل القرآن أوجز حديثاً كان أطول من ذلك، هذا هو الذي ورد في القرآن. والقرآن قائم على الإيجاز والاختصار بلاغة عظيمة، قال العلماء في ذلك: إن موسى -عليه السلام- لما آنس ربه، أحب لقائه فأطال الحديث مع الله، كما يلقى الحبيب حبيبه فيحب الحيث معه ولله المثل الأعلى ? قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا ? عرفنا التوكأ هو الاعتماد على الشيء عند المشي ونحوه أتوكأ عليها وما من نبي إلا وحمل العصا -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يحملونها قبل النبوة لطبيعة الأرض وطبيعة الحياة هناك، وبعد النبوة تمسكوا بها فإن كانت عادة صارت سنة بعد النبوة تصير سنة عن الأنبياء وحملها يه بركة وفيه نفع، لكن الأعراف التي تتغير تنكر بعض السنين نسأل الله الهداية والثبات.
فالعصا من عادة الأنبياء ومن سننهم ونبينا -عليه الصلاة والسلام- كان يحمل العصا يغرزها في الرمال أحياناً بين يديه ليصلي إليها كسترة ويضعها أحياناً ويضع عليها الثوب كالرداء الذي يكون على الكتفين ونحوه من ثوب يستتر وراءه ليقضي حاجته أحياناً في الخلاء، وأحياناً كان يمسكها وهو يفكر أو يحدث أصحابه فينكت بها في الأرض كما ورد في الأحاديث فلها فوائد عظيمة.
فسيدنا موسى -عليه السلام- كان يتوكأ على هذه العصا من ضمن المنافع ويهش بها على غنمه ? وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ? إذن كان يرعى الأغنام، ونبينا -عليه الصلاة والسلام- كان يرعى الغنم أيضاً لقومه على قراريط أي على أموال قليلة.
(3/13)
---(5/82)
وعرفنا أن الهش هو إسقاط أوراق الأشجار حتى تأكلها الأنعام والأغنام حين لا يكون هناك عشب في الأرض ? وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ? يدفع بها الأذى، يرد بها من اعتدى، يتناول بها الشيء البعيد، يتحسس بها في الظلام، وهكذا لها منافع كثيرة في حياة الإنسان، يعرفها من أمسك بها ومن اصطحبها في حياته ? وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ? قال أي: -رب العزة والجلال- قال: ? قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ? ألق هذه العصا الإلقاء: هو طرح الشيء أي: اطرحها اتركها من يدك ? فَأَلْقَاهَ ? استجابة فورية لأمر الله – تعالى- وإن كان موسى وقد صار نبياً مكلماً لا يعلم حكمة إلقاء العصا فلم يقل: ولماذا ألقيها يا رب؟ وهذا درس نستفيده في الطاعة لله -سبحانه وتعالى- أنه ينبغي إذا سمعن[ قال الله ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-] ينبغي أن نطيع فوراً واستسلاماً وإن لم نعلم الحكمة من الأمر أو الحكمة من النهي ? قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا ? وحرف الفاء في العطف يدل على الترتيب والتعقيب أي السرعة، استجاب موسى بسرعة ولم يفكر؛ لأن الله يكلمه ثقة في الله - عز وجل- ألقى عصاه، وهذا شأن المؤمنين دائماً يقولون: سمعنا وأطعنا ? فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ? فجأة إذا الفجائية فوجئ موسى -عليه السلام- بأن عصاه التي تحقق منها وعرفها وعهدها صارت حية تسعى وفي بعض الآيات الأخرى ? فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ? [الأعراف: 107] ثعبان أم حية؟ بعض المشككين يشككون بهذا يقولون: القرآن تعارض، فقال مرة ثعباناً ومرة حية، ما المانع أن يكون الله جعلها مرة حية ومرة ثعباناً؟ ولكن الجنس حيات، والثعبان واحد من الحيات فالحية تشمل الذكر والأنثى، وهنا أنبه إلى أن الخطأ في التفسير وكذلك في فهم السنة أحياناً كثيرة يَعرضُ لنا ونقع فيه بسبب أننا نفسر الآية أو الحديث بلغتنا المعاصرة التي تواضعت(5/83)
(3/14)
---
جداً عن اللغة العريبة التي أنزل بها القرآن ونطق بها الحديث النبوي الشريف إنما ينبغي أن يفهم كلام الله باللغة التي أنزل الله بها كلامه، ويفهم كلام رسول الله -عليه الصلاة والسلام- باللغة التي كان يتكلم بها، وقد أوتي جوامع الكلم، وقرر العلماء قاعدة قالوا: ينبغي أن يُفهم الكلام عند قائله، يعني بلغة قائله، وبما يريده قائله، لا بما يريده السامع ولا بما يفهمه السامع.
هكذا فالثعبان أو الحية الجنس واحد لا خلاف ولا تعارض فإذا هي حية تسعى أي تجري على الأرض، قال الله – تعالى-: ? خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ ? فقد خاف موسى كما جاء في آيات أخرى ? فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ? [النمل: 10]، أي: ولى ولم يلتف ولم ينوِ الرجعة فناداه الله – تعالى- وثبته ? خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ ? فطالما قال الله – تعالى- لا تخف فلا خوف. فمال إليها موسى وتناولها وفي ذلك بعض الكلام الذي في غنى عن ذكره وإن كان قد سطر في بعض كتب التفاسير من أن الحية كانت شكلها كذا طولها كذا أنيابها كذا أنها أكلت شجرة بقطمة واحدة، ابتلعت حجراً مثل كذا كل هذا كلام سكت عنه القرآن والاكتفاء بما ذكر الله أولى وأحسن إلا أن يأتي ذلك من طريق صحيحة يُطمأن إليها ومن رواية صحيحة يعتمد عليها في هذا الجانب.
(3/15)
---(5/84)
أما هذه التفاصيل فلا داعي لها - علم لا ينفع وجهل لا يضر- أخذها موسى فإذا بها عصا وهي عصاه التي عهدها قبل ذلك، عادت كما قال تعالى: ? خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى ? بمجرد أن لسمتها يده عادت الحية عصا كما كانت وذلك ليتعلم موسى أن الله - عز وجل- حينما يفعل المعجزة؛ أو يؤدي المعجزة لرسوله ويجريها على يده يعلم أن المعجزة تغيير للحقائق؛ فهي تخالف السحر، السحر تخييل للعين بتغيير حقيقة الشيء ? يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ? [طه: 66]، لكن هذا ما كان تخيلاً كان سعياً حقيقياً، فالسحر تخييل للعين وإظهار للشيء على غير صورته الحقيقية إنما المعجزة قلب للحقيقة أو تحويل للحقيقة من صورة إلى صورة أخرى ربما لم تكن من جنسها فالحية ليست من جنس العِصي، فليست عصا، وليست العصا من الحيات حول الله شيئاً إلى شيء آخر.
والمعجزة كما عرفها العلماء: أمر خارق للعادة، يعني لا يفعله أي إنسان لم يتعود علي الناس لو ألقت الدنيا كلها عصياً في الأرض لن يتحول شيء من ذلك إلى حية حقيقية أو ثعبان حقيقي وقد حدث هذا مع سحرة فرعون كما سنعلم -إن شاء الله- اجتمع السحرة وألقوا حبالهم وعصيهم ولكن لم تتحول إنما خيل إلى الناس الناظرين لهذا المشهد خيل إليهم وإلى موسى -عليه السلام- من سحرهم أي: من سحر السحرة، أنها تسعى شكل كشكل السعي حركة وهمية إنما ما كان من عصا موسى هذه المرة وفيما يأتي من مرات كان تحويلاً حقيقياً لأصل الشيء.
فالمعجزة: أمر خارق للعادة يظهره الله –تعالى- على يد أنبيائه ورسله تأييداً لهم.
قد يكون هذا قبل النبوة أو بعدها إلا أنه قبل النبوة يسمى: إرهاصاً. الإرهاص: هو المعجزة قبل النبوة، ولكن تسمى إرهاصاً، أي: تمهيداً وبشرى بأن هذا الإنسان بأن هذا الرجل سوف يكون نبياً، أما بعد النبوة وبعد إتيان الرسالة فتكون معجزة.
(3/16)
---(5/85)
وعكس المعجزة الإهانة: هي أمر خارق للعادة أيضاً للعادة يظهره الله –تعالى- على يد مدعي النبوة كذباً إهانة له، كما وقع ذلك لمسيلمة الكذاب حينما سمع أن نبي الله محمداً -عليه الصلاة والسلام- رد عين أحد أصحابه التي أخرجت ردها مكانها وتفل فيها من ريقه الشريف فصحت وعادت كما كانت حتى يقول صاحبها: والله لكانت أصح من السليمة أي: من العين التي لم تصب، فظن مسيلمة أن المسألة بتفلة وبشيء من الريق، فراح يعمل لنفسه معجزة، فتفل في عين رجل المصابة فعميت العين السليمة، من المفترض والأمر الطبعي أنه لا تصاب العين السليمة بما وقع في العين المريضة من أذى، هذا الاتصال لا يكون مباشراً إلا في ظروف ضيقة أو ربما حالات نادرة كما يحدد ذلك أهل الطب، إنما تصاب عين تبقى العين الأخرى كما هي ربما يصيبها شيء من الأذى الخفيف، لكن أن تعمى هذا مخالف للعادة وخارق لها فحينما تفل مسيلمة- لعنه الله- في عين الرجل المصابة أعمى الله عينه السليمة وما ذنبه؟ أنه وقف لدجال لكي يعالجه إنما العلاج يكون لأهل العلاج، فأظهر الله على يد مسيلمة أمراً خارقاً للعادة؛ لكي يهينه بذلك، وليعلم الناس أنه ليس نبياً وليست هذه معجزة فكانت العصا معجزة لنبي الله موسى -عليه السلام- حين حولها الله – تعالى- إلى حية تسعى وكانت هي المعجزة الكبرى كما جاء في سورة النازعات ? فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى?21 ? فَكَذَّبَ وَعَصَى ? [النازعات: 20] وعرفنا من قبل أن الكبرى مؤنث أكبر المذكر أكبر والمؤنث كبرى، فهذه الآية الكبرى؛ لأن الله بدأه بها وكان حالها عجيباً العصا استعملها سيدنا موسى -عليه السلام- حينما ناظر بها السحرة ألقى ما في يده ? فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ? [الأعراف: 117]، أكلت حبال وعصي السحرة مع كثرتها أكواماً كثيرة فذُكر أن السحرة كانوا مئات الآلاف جمعوا من أنحاء مصر فعندهم حبال وعصي كثيرة جداً ابتلعتها حية موسى ثم عادت عصا مرة(5/86)
(3/17)
---
أخرى بالحجم الأول التي كانت عليه، فكانت معجزة عظيمة، ضرب بها الحجر - بإذن الله وأمره- حين استسقى لقومه ? فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ? [البقرة: 60]، ضرب بها البحر - بأمر ربه ووحيه- ? فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ ? [الشعراء: 63]، ولذلك كانت العصا هي الآية الكبرى أكبر معجزة أوتيها سيدنا موسى -عليه السلام- ثم أعطاه الله معجزة أخرى ولعل هذه المعجزة الأخرى في هذا الموقف إشارة إلى أن العصا ليست هي المعجرة الوحيدة ولا المعجزة الأخيرة يعني سنأيدك بمعجزة بعد معجزة فاطمئن يا موسى فقال له -سبحانه وتعالى- ? وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ? [طه: 22]، واضمم يدك إلى جناحك أي ضعها تحت إبطك، فعرفنا أن الجناح: العضد ما تحت الإبط أي خبئها تحت إبطك أو ضعها في جيبك كما في آية أخرى والجيب عادة، نجعلها تحت الإبط، أو في فتحة قميصك فالجيب يطلق أيضاً هذا اللفظ يطلق على فتحة القميص الذي يدخل منه الرأس عند لبس الثياب، المهم دون اختلاف في هذا كله أمر الله موسى -عليه السلام- أن يخبئ يده ثم يخرجها ليراها بيضاء على غير العادة، وذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن الإمام الحسن البصري -رحمه الله تعالى- أن يده كانت كالمصباح، رآها بيضاء مشعة فيها بياض شديد من غير برص فالبرص بياض يصيب الجسم، هذا بياض سليم آية من آيات الله تعالى، ? وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ? أي من غير مرض أو علة ? آيَةً أُخْرَى ? لنريك من آياتنا الكبرى وهذا وعد بآيات وآيات وقد آتى الله موسى -عليه السلام- تسع آيات يأتي تفصيلها - إن شاء الله تعالى- في حينه وموعده، ? اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ?، هذا تكليف من الله تعالى وتوجيه إلى موسى -عليه السلام- وهو عائد من أرض مدين أن يحدد وجهته: توجه إلى فرعون أولاً لتدعوه ولتخلص بني إسرائيل(5/87)
من تحت
(3/18)
---
وطأته، لكي يأخذ بني إسرائيل بعد ذلك إلى أرض أخرى فيعلمهم توحيد الله- سبحانه- والتبعية لرسوله -عليه السلام- والانتظام مع منهج الله في هذا الحياة فيرقى بهم ويسموا وليعزهم ويحررهم بعد استعبادهم تحت أقدام الفراعنة ? اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ? وهنا قال موسى -عليه السلام- ? رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ?25 ? وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ? هنا طلب موسى -عليه السلام- الاستعداد لهذه المهمة، الدعوة من المهام الثقيلة جداً، من أعظم المهام ومن أثقل المأموريات ولذلك لم يكلها الله – تعالى- إلى آحاد الناس إنما اختار لها رجالاً رجالاً رجالاً اصطفاهم من بين خلقله وحملهم رسالته كل رجل في قومه حتى بعث محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم- للبشرية جميعاً منذ أن أذن الله له بالرسالة ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ? [الأعراف: 158] ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ? [الأنبياء: 107]، فهؤلاء الأنبياء والرسل، هؤلاء الدعاة الأول في الأقوام: رجال، رجال اصطفاهم الله تعالى واختارهم، ليس لأحد من الخلق مثل ما لهم من صفات الكمال البشري والرجولة والقوة والصبر والرحمة والصفات العظيمة التي يسموا بها الإنسان، فلو حققت بين أي رسول من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وبين أفراد قومه جميعاً وأفراد أمته لن تجد له نظيراً في أمته فهو أصفاهم وأعلاهم وأحسنهم وأفضلهم وأكرمهم بكل المقاييس، ثم من بعد ذلك يصطفي الله تعالى للدعوة رجالاً آخرين، يدعون بدعوة الأنبياء والمرسلين؛ ولذلك من الدعاة من يجمع الله عليه الناس ومن الدعاة من لا يجد قبولاً عند الناس هذا أمر الله -تبارك وتعالى- يصطفي الله لدينه من يشاء، فمهمة الدعوة ثقيلة ولذلك ينبغي أن نعين الدعاة وأقل عون نعينهم به: الدعاء، أن ندعوا لهم بالثبات والحفظ وأن يحفظهم الله –تعالى- بعينه كما حفظ(5/88)
الأنبياء وأن يقويهم
(3/19)
---
الله –تعالى- وأن يثبتهم وأن يدفع الأذى عنهم وأن يمكنهم من قولة الحق وهداية الخلق، وهكذا وإلا فباب المعونة والمساعدة كثير أو كثيرة جداً وباب واسع نستطيع أن نعاونهم بقدر ما نستطيع وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يعرضون أنفسهم وأموالهم وحياتهم على رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ويوفرونها لخدمة هذه الدعوة العظيمة الدعوة إلى توحيد الله تبارك وتعالى، ولهذا طلب موسى من ربه أن يعينه ويقويه فطلب إمداداً وإعداداً روحانياً وإعداداً ووإمداداً مادياً أما الروحاني فقال فيه ? رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ? كان موسى -عليه السلام- شديد الغضب في الحق كما قلنا، وكان قوياً في البدن قوياً جداً بلغت قوته إلى أنه حينما وكز الرجل القَبَطِي وكزه يبعده هكذا: تنح لا تتشاجر مع الإسرائيلي يبعده ويقصيه فقط سقط المصري ومات إذن كانت وكزة موسى قاتلة وكزة شديدة طبيعته هكذا -عليه السلام- وكان شديد الغضب في الحق لا يتحمل أن يرى منكراً أو ظلماً ولذلك حينما أمره الله بالتوجه إلى فرعون ويعرف فرعون وظلمه وتخيل ماذا يكون في هذه المواجهة. قال: ? قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ?12 ? وَيَضِيقُ صَدْرِي ? ليس لأنهم كذبوه ولكن لأنهم كذبوا رسالة الله، فربما لا يتحمل هذا الموقف فيعجل بشيء لا يرضي الله - عز وجل- أو لا يكون ملائماً لمقام النبوة ? قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ?12 ? وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي ? [الشعراء: 12، 13] من الغضب ينعقد اللسان فلا ينطق النطق المفهم ? فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ? [الشعراء: 13] وهنا يقول: ? رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ? عرفنا أن شرح الصدر المطلوب فيه والمقصود منه توسعة الصدر من الخواطر التي تضيقه ومنها الغضب ومنها شدة الغضب ومنها سرعة الغضب ومنها القوة فهذا كله يجعل الصدر ضيقاً أحياناً، خاصة عندما يرى الإنسان ما لا يحسن(5/89)
وكان نبينا -عليه الصلاة
(3/20)
---
والسلام- لا يغضب لنفسه أبداً كان على حلم عظيم ولكن كان يغضب حتى يظهر الغضب في وجهه ويحمر وجهه لو رأى حرمة من حرمات الله تنتهك ولو كان أمراً يستصغره الناس في أعينهم، دخل حجرته يوماً عند عائشة وهو على الباب رأت مفاجأة أعدتها له كزوجة رأى وسادة موضوعة في مقابل الباب ليراها أول ما يدخل غير أن الوسادة وغطاء الوسادة كانت عليه صورة، فغضب -عليه الصلاة والسلام- حتى عرفت عائشة الغضب في وجهه فقامت إلى الوسادة وجذبتها وأخذت غطاءها وأزالت هذه الصورة بشكل أو بآخر حتى رضي النبي - صلى الله عليه وسلم- فكان يغضب إذا انتهكت حرمة من حرمات الله، ولكن لا بد مع الغضب ما يضبطه أو مما يضبطه من الحكمة والأناة وسعة الصدر والحلم وهكذا ولذلك يطلب موسى أن يزوده ربه بهذه الكرامة ? رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ?25 ?وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ? فعلاً الدعوة صعبة، الطبيب يعالج المريض أمامه جثة وقد درس وجرب هو ومن قبله أن العقار الفلاني ينفع في الداء الفلاني كذا يعالج كذا ويتفاعل مع كذا فيتم الشفاء- إن شاء الله- لكن الداعي يخاطب قلباً يخاطب خاطراً فلا يدري الداعي إن كان المدعو معه بقلبه أو ينصرف عنه فيستجيب أو لا يستجيب ويقول الله تعالى لرسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم- في شأن عبد الله ابن أم مكتوم -رضي الله عنه- حينما جاءه فانصرف عنه انشغالاً بكبار قريش يقول : ? وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ?3 ? ? [عبس: 3] وقال: وما يدريك: فعل مضارع يدل على التجدد والحدوث أي ستظل جاهلاً دائماً يا نبي الله بأن هذا المدعو يتزكى أو لا يتزكى، ينتفع أو لا ينتفع، لا يستطيع النبي - صلى الله عليه وسلم- ولا الداعي مهما كان علمه أن يصل إلى معرفة: إن كان هذا المدعو يستجيب أو لا يستجيب، يتذكر أو لا يتذكر، يهتدي أو لا يهتدي. ما يعرف هذا، لكي يواصل جهده في الدعوة.
(3/21)
---(5/90)
وهنا يطلب نبي الله موسى -عليه السلام- أن ييسر الله له هذا الأمر فطمأنه الله -تبارك وتعالى- على ما سأل ? وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي ?29 ? هَارُونَ أَخِي ?30 ? ? أجابه الله في هذا فقال: ? قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ?36 ? وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ?37 ? ? وذلك حينما كان طفلاً وأراد فرعون أن يقتله كما كان يقتل ذكور بني إسرائيل الغلمان الصغار فحماه الله –تعالى- بسياج رقيق من المحبة ألقاه في قلب امرأة فرعون ولم يستطع فرعون أن يتكلم بغير هذا مع امرأته فتركه ليكون قرة عين لامرأته حيث كانت لا تنجب وربى الله موسى على عينه في بيت عدوه وعلى مائدة عدوه فرعون اللعين وحتى كَبِرَ وصار شاباً كبيراً وحدث منه ما حدث من قتل الرجل القَبَطيّ فدله الله –تعالى- بواسطة رجل خرج لينصحه بأن فرعون يريد قتله فخرج موسى -عليه السلام- من مصر قاصداً أرضاً أخرى فكان التوجه بفضل الله وتدبيره إلى أرض مدين وبهذا نال غربة وكربة في السفر والانتقال وهذا كان كالعقوبة له على قتل هذه النفس، واستفاد العلماء من هذا تعظيم الله تعالى لقدر النفس البشرية وإن كانت على غير دين التوحيد فالنفس لا تقتل إلا بحق لأن هذا الرجل الذي قتل وإن كان بغير قصد لم يكن صاحب شريعة ولم توجه له رسالة ليكفر بها أو يؤمن إنما كان -كما يقال- من أهل الفطرة يعني: لم يبعث له نبي فنفسه نفس معصومة حتى يخاطب بالرسالة فيكفر فيستباح الجهاد معه هذا والله تعالى أعلى وأعلم. ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا ونعوذ به من علم لا ينفع، ربنا زدنا علماً نافعاً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
إجابات الأسئلة
إجابة السؤال الأول:
بدأ الحديث بالسؤال لجذب الانتباه.
نعم، جيد.
إجابة السؤال الثاني :
(3/22)
---(5/91)
بدأ الله حديثه بقوله تعالى: ? إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا ? [طه: 14] على أن أول ما يريده الله من عباده توحيده وإفراده بالعبادة وهو دليل على عظمته -سبحانه وتعالى-
بارك الله فيكم.
إجابة السؤال الثالث:
الأصول الثلاثة:
الأصل الأول: الوحدانية توحيد الله.
الأصل الثاني: الأمر باشتغال العبد بعبادة ربه.
الأصل الثالث: ثبوت يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
نعم هذه هي الأصول الثلاثة المشترطة هي توحيد الله -تبارك وتعالى- والعبادة من الخلق والاعتقاد في يوم القيامة كيوم حساب.
ما سبب العقدة التي كانت في لسان موسى -عليه السلام- ؟
? هَذَا خَلْقُ اللَّهِ ? [لقمان: 11] يخلقنا الله- تبارك وتعالى- خلقاً على هيئة معينة والأصل أننا نخلق بخلقة كاملة أما ما يصيب الخلقة من نقص أو عجز في بعض الأجزاء والأطراف وما إلى ذلك، هذا غالباً ما يكون بسبب علة من البشر تحدث في الحمل أو قبل الحمل أو نحو ذلك أو أي إصابة لكن شأن الله -تبارك وتعالى- أن يخلق المخلوق كاملاً هذا شأنه في الخلق جميعاً، ولعل الشاهد والمصدق على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم- : (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء لا ترون أو قال: لا تجدون من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونه) الشاهد في قوله تعالى (كما تلد البهيمة بهيمة جمعاء) يعني: كاملة الخلقة (لا تجدون فيها من جدعاء) أي من قطع، من نقص (حتى تكونوا أنتم تجدعونه) حتى تكونوا أنتم تقطعونها، كما كانوا في الجاهلية يقطعون أذن البهيمة التي أرادوا تقديسها، وتعظيمها وربما يجدعون أنف البعير، يقطعون جزءاً من أنف البعير لعلة عندهم.
(3/23)
---(5/92)
أقول: إذا خلق الله البهيمة خلقاً كاملاً فمن باب أولى أن يخلق الخلق الذي كرمه خلقة كاملة، إنما هذه الأمور التي نراها في خلقة الإنسان من نقص أو عيب أو فوات أو ما إلى ذلك هذا غالباً يرجع إلى أسباب مادية أثناء الحمل أو أثناء الولادة أو ما بعد ذلك. أما سبب لثغة موسى -عليه السلام- فهذا أمر لم نجد له طريقاً صحيحة ولم نجد له رواية تعتمد عليها ربما وجدت بعض أخبار إسرائيلية تنقل هذا الكلام.
لكن كخبر صحيح يعتمد عليه أظنك غير واجد لهذا ومعرفته أيضاً لا تفيد في شيء إنما هكذا خلق موسى -عليه السلام- والله أعلم.
كما هو معلوم من عقيدة أهل السنة والجماعة أن القرآن غير مخلوق تكلم الله به حقيقة منه المحكم ومنه المتشابه إلى آخر المعتقد، فهل تكرار قصة موسى مع فرعون من متشابه القرآن؟ وما الحكمة من تكرار قصة موسى مع فرعون كثيراً في القرآن الكريم وفي مواضع شتى دون غيره من الأنبياء؟
السؤال الثاني: جاء في قوله تعالى عن موسى ? وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ?27 ? يَفْقَهُوا قَوْلِي ? فما صحة قصة أن سبب العقدة في لسان موسى أن فرعون أراد اختباره وهو طفل صغير بين تمرة وجمرة، فتناول الجمرة فأدت إلى العقدة في لسان موسى ؟
نرى كثيراً من المسلمين من يضع آيات قرآنية في ألواح تعلق على الحائط فهل يجوز ذلك؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من هم أهل الفترة؟ وما مصيرهم يوم القيامة؟
بالنسبة لتربية موسى -عليه السلام- في قصر الملك أنه لما أخذته امرأته الملك قالت هذا قرة عين، سمعت أن زوجته قالت أجعله قرة عين لي ولك. قال فرعون: قرت عين لكي. وفعلاً أصبح قرة عين لها بحيث أنها دخلت في الدين ولكن فرعون لم يدخل وهذا دائماً يدل على أن البلاء موكل بالمنطق هل هذا صحيح؟
إجابة السؤال الأول:
(3/24)
---(5/93)
القرآن الكريم كلام الله غير مخلوق تكلم الله به حقيقة ومنه المحكم والمتشابه، المحكم بمعنى الواضح المعنى الذي لا يشتبه معناه وهذا في الآيات في آيات التكليف، حتى لا يشتبه معناها علينا فنعلم ماذا يريد الله منا، بالأمر والنهي، ومن المتشابه الذي اشتبه معناه، أي نعرف معناه اللغوي عندنا نحن الخلق ونعرف أن الله – تعالى- وصف به نفسه أما كيفيته بالنسبة لله فأمر متشابه؛ لأننا لا نعلمه كوصف الله باليد والوجه ونحو ذلك، هذا متشابه ? وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ? [آل عمران: 7]، إنما نعلم أن لله يداً أن لله وجهاً، أن الله استوى على عرشه استواءً يليق به -سبحانه وتعالى- كيف؟ الله أعلم، كيفية ذلك لا يعلمها إلا الله -سبحانه وتعالى- قصة موسى -عليه السلام- ليست من هذا المتشابه؛ لأنها واضحة وصريحة وليس فيها ما يشتبه فيه إنما قد تكون من المتشابه بمعنى آخر فكلمة متشابه في اللغة تطلق على ما أشبه بعضه بعضاً، وقصة موسى تكررت في القرآن كثيراً، في مواقف وبأشكال تكاد تكون متشابهة، يعني تكاد تكون قصة موسى في سورة كذا شبيهة بسورة كذا شبيهة بسورة كذا، ولكن بينها اختلافات ففي كل مقام يسوق الله تعالى من القصة، ما يتناسب مع الحكمة المرادة في هذا المقام والمعنى المطلوب في هذه السورة فليس المسألة سرد تاريخ لفلان إنما اقتتطاف من القصة الطويلة مواقف معينة بطريقة معينة، أحياناً يذكر الله تعالى هذا الموقف بتفصيل وأحياناً يختصره فقصة موسى في سورة النازعات مثلاً غير سورة طه، غير سورة الأعراف، غير سورة يونس، غير سورة كذا، كل سورة لها طبيعة في عرض القصة، وذلك حسب ما فيها من مراد وهدف السورة تهدف إليه ويريد الله أن يعلمنا هذا المراد من خلال تلك السورة، فإن قلنا: إن قصة موسى متشابهة مع عرضها هنا وهنا وهنا، فهذا ممكن، لكن ليست من المتشابه المعروف الذي استأثر الله بعلمه، إنما هي من المحكم المعلوم الواضح.(5/94)
(3/25)
---
هذا كان في السؤال الأول. أما فيما ذكر في سبب لثغة سيدنا موسى -عليه السلام- وأن فرعون عرض عليه في صغره جمرة وغيرها فأخذ الجمرة ووضعها في فمه وظن أنها شيء يؤكل ولم يأخذ التمرة، فلسعت لسانه وأثرت فيه بحيث لا يستطيع نطق بعض الأحرف فيما بعد ذلك، هذا وارد في القصة كقصة، لكن مصدره بنو إسرائيل وهذا- كما قلنا- يعني لا يلتفت إليه طالما سكت الله عنه ولا تتوقف عليه القصة أو الفائدة والعبرة فينبغي السكوت عنه أحسن، هذا كان حدث في نبي الله موسى -عليه السلام- وحينما جاءته الرسالة طلب من ربه أن يفصح في لسانه فأفصح الله لسانه وجعله يتكلم بوضوح بشكل يجعل من يخاطبه موسى ومن يكلمه يفهم خاطبه وكلامه.
إجابة السؤال الثالث: ما حكم وضع الآيات على الحائط؟
تعليق الآيات على الجدران الآيات القرآنية هو لون من ألوان تعظيم القرآن ولكن يصاحبه إهانة للآيات المعلقة، حينما نضع الآيات فوق رؤوسنا، على الجدران فهذا إعلاء للقرآن نعم ولكن ما أنزل القرآن ليعلق على الجدران ولا ليحمل في أوراق مقطعة كما يحمل البعض أجزاءً من القرآن للبركة والحفظ والصيانة وكذا إن كان ولا بد فليحمل مصحفا ًكاملاً ربما قرأ فيه ساعة أو مرة.
(3/26)
---(5/95)
تعليق الآيات على الجدران يصيبها بوقوع الغبار عليها ويتقادم الزمان بالورقة المكتوب عليها أو باللوحة فتقطع وربما تلقى هنا أو هناك أو تسقط على الأرض يوماً أو ما إلى ذلك فالقرآن نزل لنعلقه في قلوبنا ولنظهره في أعمالنا منهجاً كاملاً للحياة يضبط حركتنا وسكنتنا ولم ينزل القرآن لنعلقه فوق الجدران، وإن كان مظهر هذا التعليق تعظيماً للقرآن فالأحسن عدم تعليق الآيات القرآنية وإن كان ولا بد فلتعلق صور الأشياء الطبعية صورة الشمس صورة- ليس الشمس وضحاها- إنما صورة الشمس في إشراقها أو غروبها كذلك صورة البحار، الجبال وما إلى ذلك من طبيعة الكون التي خلقها الله -سبحانه وتعالى-، فتذكر بقدرة الله وعظمة الله وتزين المكان أما القرآن فهو زينة للقلب وزينة للحياة كلها وليس للجدران والله أعلم.
أهل الفترة من هم ؟ وما مصيرهم يوم القيامة؟
أما من هم أهل الفترة ؟ فهذا سؤال وجيه نعرفه ونتلمس إجابته فأهل الفترة هم الذين لم يأتهم رسول ولم تنزل إليهم رسالة، فلم يحضروا وصول رسول إليهم ليكلمهم برسالة الله ماتوا قبل بعثة رسول معين فيما بين رسولين ولم يأتهم رسول في حياتهم لم يسمعوا بدعوة السماء فهؤلاء أهل فترة يعني أهل زمان فتر فيه الوحي وانقطع، فلم يحضروا وحي السماء لا من سابق ولا من لاحق.
فمثلاً الناس في زماننا لم يروا رسولاً ولم يحضروا نزول رسالة ولكن هم مخاطبون بالرسالة التي أنزلت على نبي الله محمد - صلى الله عليه وسلم- نحن مكلفون بذلك.
(3/27)
---(5/96)
أما ما مصيرهم، طبعاً مثلهم مثل والد النبي - صلى الله عليه وسلم- وأمه والذين ماتوا قبل أن يكون محمد بن عبد الله رسولاً ماتوا من العرب قبل مجيئ الرسالة الخاتمة هؤلاء اسمهم أهل فترة أي لم يأتهم وحي، مصيرهم: والله لا أرى لهذا فائدة، يعني أولى من أن نبحث عن مصير أهل الفترة نبحث عن مصيرنا نحن وينشغل كل واحد منا أين سيصير؟ إلى جنة - نسأل الله ذلك وأن يجمعنا جمعاً طيباً- أو إلى الأخرى- نعوذ بالله منها- فهذا هو ما نهتم به، أما أهل الفترة فالله – تعالى- سيحكم بينهم يوم القيامة ويفصل بينهم والعلماء لم يصلوا إلى حد متفق عليه بينهم إنما اختلفت فيه الآراء لعدم ورود نص ثابت في ذلك وهذا والله أعلم.
كان السؤال الثاني: هل البلاء موكل بالمنطق؟
أنا أذكر بسؤال الأخت سؤال بالمنطق قصدها بالنطق، فقط للتذكير أي:كلمة تقال قد يقع القدر بسببها بالإنسان
كلام الله لموسى، البعض يتكلم أن الكلام هذا كان معنوياً أو كان أن الله خلقه في السماء ثم تكلم الكلام لم يكن كلاماً بصوت وحرف من الله إلى موسى، فنرجوا من سماحة الشيخ التوضيح؟
قلتم: إن الله تعالى بعث موسى باليهودية وكنت قد سمعت بعض المشايخ يقولون: إن الله تعالى بعث موسى بالإسلام وبعث عيسى بالإسلام ولما حرفه الناس تسموا باليهودية والنصرانية فأي القولين أصح يا شيخنا؟ وجزاك الله خيراً
هل كان كلام الله موسى -عليه السلام- كلاما معنوياً أم كان كلاماً حقيقياً؟
الله تعالى قال: ? وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ? [النساء: 164] وكان من شرف سيدنا موسى -عليه السلام- أن الله – تعالى- كلمه فلا بد أن يكون كلمه، تكلم الله وسمع موسى من وراء حجاب، أما أن نقول بلفظ وبحرف الله أعلم، ما سمعنا، وهذا يحتاج إلى نص ثابت صحيح.
إنما كلمه الله تعالى كلاماً يليق بذاته – سبحانه- لا نعرف طبيعته أما أن يكون كلاماً قلبياً فهذا لا ميزة فيه، فقد كلم الله تعالى غير موسى كذلك.
(3/28)
---(5/97)
فقول الله تعالى ? وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ? [النساء: 164]، هذا يؤكد على أن الله كلم موسى كلاماً صريحاً يليق بذاته -سبحانه وتعالى- يعلم الله طبيعته وحقيقته وكيفيته. والله أعلم.
هل بعث الله جميع الأنباء بدين الإسلام أم أن لكل رسول دين معين؟.
لعلي قلت جزاك الله خيراً على هذا التعليق ولكن لعلي قلت فيما أذكر: سميت بعد ذلك اليهودية لم يبعث الله موسى باليهودية ولا عيسى بالنصرانية وإنما هذه التسميات جاءت فيما بعد سمي دين موسى باليهودية فيما بعد موسى، وسمي شريعة عيسى بالنصرانية فيما بعد نسبة إلى الناصرة، لكن الدين الذي بعثه الله تعالى للبشرية جميعاً وبعث به الأنبياء هو دين الإسلام قال الله تعالى: ? إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ ? [آل عمران: 16]، وقال الله -تبارك وتعالى- على لسان نبيه إبراهيم الخليل -عليه السلام- : ? يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [البقرة: 132]، اسم الدين كله الإسلام وهو دين واحد، دين الله دين واحد ليست هناك أديان سماوية، باللفظ الدقيق ليست هناك أديان سماوية إنما هو دين سماوي واحد له شرائع متعددة كل شريعة لأمة، فالمتعدد هو الشرائع وليس الدين فالدين واحد واسمه الإسلام بمعنى: الاستسلام لله -تبارك وتعالى- حسب الشريعة التي شرعها لنا من كان من زمان نوح يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن نوحاً رسول الله. في زمان إبراهيم وأن إبراهيم رسول الله وأن موسى رسول الله وأن عيسى رسول الله كل يؤمن برسوله الذي بعث إليه، وكلما جاء رسول إلى أمة طولبوا أن يحققوا لله التوحيد في العبادة لا إله إلا الله وأن يحققوا التوحيد في الرسالة بألا يتبعوا وألا يقلدوا إلا من بعثه الله رسولاً إليهم فالدين ما بلغهم إياه، حتى جاء نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- فكان الكل كل من حضره وشهده مطالباً بأن يقول: أشهد أن لا(5/98)
(3/29)
---
إله الله وأشهد أن محمداً رسول الله وهذا هو الإسلام الاستسلام لله على شريعة القرآن التي جاءتنا أما كلمة يهودية وكلمة نصرانية فهذه تسميات حديثة تسمى بها اليهود في زمانهم بعد موسى -عليه السلام- وتسمى بها النصارى إلى اليوم وربما رفضوها وسموا أنفسهم بشيء آخر. والله أعلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل كلمة -عليه السلام- تقال للأنبياء خاصة أم حتى للصالحين؟ وجزاكم الله خيرا؟
كلمة -عليه السلام- وردت في القرآن الكريم على الأنبياء. وورد في شأن رسولنا -عليه الصلاة والسلام- : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ? [الأحزاب: 56]، فنقول - صلى الله عليه وسلم- أما الأنبياء فحدهم أن يقال: -عليه السلام- كما جاء في القرآن: ? وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَياًّ ? [مريم: 33]، ? وَسَلامٌ عَلَيْهِ ? [مريم: 15]، كذا ويذكر الله الأنبياء كما في سورة الصافات ? سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ? [الصافات: 109]، ? سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ ? [الصافات: 79]، لم يقل: صلاة وسلام.
يجوز كذلك إطلاق السلام على بعض الناس أو آحاد الناس كما نقول: السلام عليكم يسلم بعضهم على بعض، لكن لا يحسن أن يكثر هذا حتى لا يختلط الأنبياء بغيرهم فنقول: مثلا المهدي -عليه السلام- أو الشيخ فلان -عليه السلام- ندعوا له بدعاء آخر كما جاء في شأن الصحابة -رضي الله عنهم- وهم علية أمتنا ورد فيهم ? رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ? [المجادلة: 22] أو رضي الله عنهم مثلا، فنقول هكذا بدعوة ندعوها لمن نذكره من إخواننا المسلمين لكن كلمة -عليه السلام- تكاد تكون مشيرة إلى الأنبياء السابقين عدا نبينا - عليه الصلاة والسلام- والله أعلم.
(3/30)
---(5/99)
من المعروف عن حياة الفراعنة تجمعهم حول نهر النيل فهل لفظ اليم يحتمل أن يكون نهر النيل؟ وهل قصر أحد اليم في هذه الآية على نهر النيل وهل الساحل يمكن أن يكون شاطئ النيل أم أن الساحل هو ساحل البحر فقط؟
السؤال الثاني: ? أَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ? الظاهر بالنسبة للغتنا المتردية أن مثل ما يفعل رعاة الغنم يعني يوجهون الغنم، وحرف الجر على يساعد على هذا المعنى فهل الآية تحتمل هذا المعنى أم أنه كما قلت فقط وجزاك الله خيراً ؟
أما الجزئية الأولى: فالمقصود باليم هو نهر النيل فعلا وهذا كان فيه.
أما الهش فهو كما ذكرت من خلال ما ذكر العلماء أنه إسقاط أوراق الشجر على الأغنام لكن يستعمل هذا اللفظ في زماننا في لغتنا غير المنضبطة - أو كما ذكرت- بمعنى توجيه الشيء، فنهش كذا ونهش كذا حتى نهش الذباب ونهش الدجاج ونهش الدابة نقول لها: هش يعني: نطردها بهذه الكلمة كلمة طرد وتوجيه ولو إلى غير وجهة هذا من الاستعمال العادي العام في زماننا أما معنى الكلمة هو "هش الأشجار" ولذلك كلمة "على" تساعد على المعنى الذي ذكر، فعلى تفيد الفوقية ? أَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ? لو كانت بالمعنى الذي سألت عنه لكانت الآية وأهش بها غنمي فقال أهش كذا لكن أهش على كذا إذن أهش شيئاً على غنمي والمهشوش هنا هو الأشجار، أي وأهش الشجر على غنمي حتى أوفر لهم الأوراق الخضراء ليأكلوها. والله أعلم.
(3/31)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (4) طه ( الآيات 42- 56)
الدرس الرابع
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد.
ففي هذه المحاضرة نتناول الآيات: من الثانية والأربعين وحتى الآيات: السادسة والخمسين؛ بمشيئة الله تعالى وعنايته وتوفيقه.(5/100)
وكما تعودنا نتعرف بداية على معاني المفردات التي تبدو غريبة، وبعد ذلك نتناول التفسير الإجمالي للآيات المذكورة، ثم تحليل الآيات أو التفسير التحليلي للآيات باعتماد على تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- مع ذكر ما يسر الله تعالى من فوائد أخرى وذلك من خلال عناصر معينة.
العنصر الأول: من آداب الدعوة، وذلك من خلال الآيات وإلا فآداب الدعوة كثيرة وتكلمت فيها آيات عديدة وأحاديث أخرى من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل كثرة ذكر الله، تحديد الداعي لهدف الدعوة ومنطلقها، الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، الحرص على الهداية والتأميل فيها.
العنصر الثاني: اللقاء بين موسى وفرعون، وأول موقف للدعوة بينهما.
العنصر الثالث: تعريف موسى بربه - سبحانه وتعالى- أمام فرعون.
وبداية قبل أن ندخل في هذه التفاصيل نستمع إلى الآيات المباركات من أخينا الأستاذ عبد الرحمن فليتفضل مشكورا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
(4/1)
---(5/101)
? اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ?42 ? اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ?43 ? فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ?44 ? قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ?45 ? قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ?46 ? فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى ?47 ? إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ?48 ? قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ?49 ? قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ?50 ? قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى ?51 ? قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ?52 ? الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ?53 ? كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى ?54 ? مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ?55 ? وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ?56 ? ? [طه: 42: 56].
نعوذ بالله من التكذيب والإباء على الله -عز وجل- ونسأله الهداية والتوفيق.
معاني بعض المفردات الغريبة في هذه الآيات: وردت كلمة ? وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ?
(4/2)
---(5/102)
تنيا: من ونى يني، وهو الإبطاء في فعل الشيء والتأخر عن أدائه وأحياناً كثيرة يكون هذا عن ضعف، فلذلك يراد بتنيا أي ولا تضعفا، ولا تتأخرا في ذكري أو عن ذكري ولا تضعفا في ذلك ، وورد هذا المعنى وذاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من رواية علي بن أبي طلحة والطبري من طريق مجاهد كما ذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله. قال الله –تعالى- لموسى وأخيه ? فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ? كلمة لين: أصلها في الأجسام المادية والجسم اللين هو ناعم الملمس، يقال له: لين، وكذلك الشيء الذي يطوى ويثنى ليس صلباً ولا قاسياً، فهذا أيضاً يقال له: شيء لين وعود لين، ثم أخذت هذه الكلمة ووصفت بها المعاني فقال الله –تعالى- ? فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ? هو كلام يشتمل على ترغيب، وحسن عرض، دون تسفيه للمخاطب أو تجهيل، هذا الكلام يقال له: كلام لين وقول لين ، وقيل لفلان الذي حسنت عشرته قيل عنه: لين الجانب لتواضعه وحسن خلقه. قال موسى وأخوه والكلام لموسى، وأخوه تابع وهو هارون -عليه السلام- ? قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا ? يفرط من فرط، بمعنى سبق، والفرط هو السابق، وجاء في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وأنا فرطكم على الحوض أو قال: إلى الحوض) يعني أسبقكم إلى الحوض الشريف يوم القيامة- نسأل الله أن يسقينا من يده الشريفة.
(4/3)
---(5/103)
فالفرط هو الشيء السابق، والمعنى المراد في الآية ? إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ ? أي: أن يسبق إلينا بأذى قبل أن نتكلم، وكثير من الكافرين كان يفعل ذلك يبدأ الداعي بالصدود وبالعناد وبالإيذاء قبل أن يسمع من الداعي ما معه من دعوة، جاء على لسان فرعون اللعين أنه سأل موسى قائلاً: ? فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى ? فما بال؟ البال: هو الحال المهمة والله تعالى يقول: ? وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ? [محمد: 2]، أي: وأصلح حالهم، والبال أصله ما يخطر بالقلب فإذا هدأ القلب وحسن ما يخطر عليه من الخواطر فإن حال الإنسان يحسن ويستقر وتقر عينه ومعنى ? فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى ? أي: فما حالهم؟ وموسى يعرف برب العزة -سبحانه وتعالى- قال: ? الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً ? المهد في أصله هو ما يجعل للطفل من لفافة وملابس ناعمة رقيقة دافئة تتناسب مع نعومة جسمه وليونة بدنه، فإذا ما وضع في مهده استراح ونام، الله –تعالى- جعل لنا الأرض مع أنها من حصى ومن تراب وحجارة وسهول وجبال ووديان، جعلها مهداً أي هي بالنسبة لنا في السكنى والحياة كحال المهد بالنسبة للطفل وجاء في ذكر عيسى -عليه السلام- حينما أتت به مريم تحمله وقابلت قومها بذلك، وقالوا لها قولتهم المشينة فأشارت إليه: رداً عليه ? فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ? [مريم: 29]، أي كلموه هو: قالوا: ? فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المَهْدِ صَبِياًّ ? [مريم: 29]، فالمهد مهد الصبي والصبي المراد به الطفل الصغير الذكر أما البنت فتسمى جارية, والأرض مهد لنا أي: مريحة هذا يمشي فوقها وهذا يقعد وهذا يرقد وهذا يبني ويعلو بالبناء وهذا يحفر وينزل في باطنها وهذا يأخذ منها وهذا يضع فوقها كل يفعل حاجته فوق الأرض وفي الأرض وهي مذللة هادئة ناعمة لا تعصى على فاعل؛ لأن الله –تعالى- ذللها لبني آدم.
(4/4)
---(5/104)
? وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ? سلك: أي أدخل شيئاً في شيء، كما يسلك العقد فتوضع حباته في الخيط، فيقال: فلان سلك العقد، أي جعل حباته في السلك والله -تبارك وتعالى- أخذ هذه الهيئة الحسية المادية ليصور لنا عذاب الكافر في النار فقال: ? خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ?30 ? ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ ?31 ? ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ ?32 ? ? [الحاقة: 30- 32]، اسلكوه: أي ضعوا هذه السلسلة في داخله في جوفه، يغل فيها كما تغل الحبة وتسلك في سلكها عند نظم العقد، فالسلك هو إدخال شيء في شيء، فأدخل الله –تعالى- في الأرض حين خلقها فجاجاً وسبلاً ليسلكها الناس، الله –تعالى- جعل الأرض مهيأة لحياتنا فجل فيها فجاجا وسبلا تصلح لحياتنا وتبلغنا مقاصدنا. ? أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ? كلمة أزواج - لعله سبق بيانها في مرة أخرى أو مرة سابقة- أزواج معناها أنواع وأصناف، وكل ما تقابل وتلاءم مع غيره فهو زوج له، فالليل والنهار زوجان والسماء والأرض زوجان والله تعالى يقول: ? وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ? [الذاريات: 49]، فمعنى أن الله تعالى أخرج وأنبت لنا أزواجاً من نبات شتى، أي أصنافاً كثيرة بأشكال وأنواع وأحجام وطعوم مختلفة من النبات وهذا من حكمة الله –تعالى- ومن عظمته، ومعنى ? شَتَّى ? أي كثيرة، وهي كلمة جمع والواحد منها شتيت وجمعه شتى على وزن مريض ومرضى، من هذا الباب مريض ومرضى شتيت وشتى، وهو المشتت الكثير وإذا تشتت الشيء كثر فالمراد بهذا اللفظ هنا إظهار الكثرة،أي أن الله جعل من أصناف النبات الشيء الكثير جداً الذي يعظم على الحصر من حيث أشكاله وأنواعه وأصنافه وأطعامه وما إلى ذلك.
(4/5)
---(5/105)
? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى ? كلمة النهى، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى) يقصد في الصلاة، في الصف الأول من خلفه يكون أولوا الأحلام والنهى وهم أهل العقول، والنهى درجة من درجات العقل تنهى صاحبها عن فعل ما يسوءه هذه الحالة وهذه الصفة تسمى بالنهى، وهي اسم جمع، والواحد منها نهية، وتسمى كما جاء في القرآن تسمى عقلاً، وتسمى كما جاء في سورة الفجر حجراً ? هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ? [الفجر: 5]، أي هل هذا القسم والفجر وليال عشر إلى آخره هل هذا القسم فيه كفاية لذي عقل، لذي حجر؛ لأنه يحجر على صاحبه أيضاً أن يفعل ما يسوء فيكون الإنسان صاحب النهى وصاحب العقل وصاحب الحجر إنساناً قيماً ذا مروءة.
هذه بعض المفردات التي تبدوا غريبة في هذه الآيات المباركة.
المعنى العام للآيات:
وإجمالها في التفسير أن يقال: إنه بعدما أجاب الله موسى -عليه السلام- حين قال ? قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ?25 ? وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ?26 ? وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ?27 ? يَفْقَهُوا قَوْلِي ?28 ? وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي ?29 ? هَارُونَ أَخِي ? إلى آخر هذا الدعاء وكان هذا الدعاء استعانة على المهمة التي قال الله فيها لموسى: ? اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ? فرد موسى بهذا الدعاء قبل أن يذهب وقبل أن يلقى أخاه هارون -عليهما السلام- فأخبره الله تعالى أنه أجابه لهذا قال: ? قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ?36 ? وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ?37 ? ? [طه: 36، 37]، وفصل له هذه المرة حيث رعاه وصنعه على عينه حين كان صغيراً وليداً إلى أن كبر وصار مؤهلاً للنبوة فهذه هي المرة الأخرى وإن كانت سابقة.
(4/6)
---(5/106)
لما بين الله هذا البيان أنه أجابه على هذا السؤال وأكرمه وعني به أو اعتنى به قبل أن يسأل ودون أن يسأل فيما مضى، عاد الله تعالى إلى الأمر الذي أمره قبل ذلك، فقال: ? اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ? فهذا استئناف لما سبق وإعادة له لأنه هو الأمر المطلوب، فأمر الله تعالى موسى -عليه السلام- وقد لقي أخاه هارون ? اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ? لا تتأخرا ولا تتباطآ عن ذكري ولا تقصرا ولا تفوتا من ذكري شيئاً أي داوما على ذكري أثناء الدعوة.
(4/7)
---(5/107)
ثم وجههما -سبحانه وتعالى- للقول الذي ينبغي أن يقولاه له والرسالة التي ينبغي أن يبلغاها بالطريقة التي ينبغي أن يلتزم بها في الدعوة ? فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? وجاء في هذا البيان ? إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى ? إلى آخر ما أمر الله موسى -عليه السلام- وعلمه أن يقول لفرعون ودار الحوار بينهما حينما لقي موسى فرعون، والله -تبارك وتعالى- يطوي بعض مراحل هذا الطريق اختصاراً وإيجازاً في القرآن والإيجاز نوع من أنواع البلاغة فخير الكلام ما قل ودل وأحسن الحديث هو كلام الله رب العالمين -سبحانه وتعالى- فلم يقل: فأتياه فاستأذنا عليه فوقفا طويلاً حتى أذن لهما. كل هذا معروف أنهما سيستأذنان، ورجل طاغية لن يأذن بسرعة وهكذا، لكن طوى الله هذا لأنه يفهم ولأن الله يخاطب بهذا القرآن أمة وصفها بأنها أولو الألباب فقال: ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى ? فالله يخاطب العقلاء أما المجنون والسفيه فلا تكليف عليه، ولذلك ينبغي على المسلم أن يعلم أنه أذكى الناس وأنه مخاطب بإشارة مع العبارة الله يعبر بعبارة لا يعرفها الإنسان ثم يشير إليه بإشارة حيث يعرف مضمون هذا الكلام وذلك ليوجز الله تعالى في الكلام مع عباده.
فذكر الله حواراً عظيماً كان فيه فرعون معانداً، حينما سأل موسى فقال له: ? فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ? ولم يقل: فمن ربي؟ مع أن موسى قال له قبل ذلك: ? إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ? فكان ينبغي عليه أن يقول: فمن ربي الذي تدعيه، لكن قال بعناد وصلف وجحود قال: ? فَمَن رَّبُّكُمَا ? ونسب الربوبية أو نسب الرب إلى موسى وهارون وكأنه يتبرأ من ذلك- لعنه الله.
(4/8)
---(5/108)
ثم كان محاوراً مجادلاً مرائياً من المراء، كان يماري بالباطل ويجادل ليصرف موسى عن وجهته لا ليصل إلى حق معه، ولذلك لما عرف موسى ربه، قال: ? رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ?50 ? قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى ? أخذ الجواب الكافي في هذا السؤال لو أنه كان يعقل ويريد أن يسمع وينتفع ولكنه لا يريد، فخرج بموسى في حواره إلى دائرة بعيدة لا تفيد، ولم يدعِ موسى أنه يعلمها وليست من محل النزاع ولا من مقام الدعوة ولا دخل لنا ولا لموسى ولا لفرعون في ذلك ما لنا وما للسابقين؟ إلا أن ننتفع بأخبار الصالحين ? قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى ? وفي هذا الحوار يظهر ذكاء موسى -عليه السلام- فمهما كان فرعون مراوغاً وممارياً إلا أن أنبياء الله أذكى الخلق وأحلم الخلق، ولذلك حينما دعا موسى فرعون، قال له: ? إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ? ولم يقل له: إنا رسولا ربنا، ولكن أراد أن يلقنه أن ربنا هو ربك، ولما سأل فرعون قال: ? فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ? أشار إليه بإشارة لا تغضب الطاغية فالطاغية يغضب بسرعة فأشار إليه إشارة لطيفة فقال: ربنا الذي تسأل عنه ? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ? وأنت شيء من الأشياء من المفترض أن يفهمها ومن الواجب أن يفهمها ويلمحها لو كان يعقل أو كان من المبصرين ? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? أي هو الذي صنعك يا فرعون، وهو الذي خلقك وأعطاك هذه الصورة التي تفخر بها وتزعم بها أنك إله ، ثم لما جادل ومارى فرعون بسؤاله الآخر وقال: ? فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى ? أجابه موسى إجابة تكتمه وتسكته ولا يجعله يبدل حديثاً بعد ذلك، ? قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ? الله أعلم، لست مكلفاً ببيان هذا وليس هذا من مهامي ? قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ? وهنا تظهر براعة موسى -عليه السلام- وكان(5/109)
(4/9)
---
لإبراهيم مع النمروذ جدال عظيم كهذا ظهر فيه ذكاء إبراهيم ولنبينا -صلى الله عليه وسلم- الحظ الوافر من هذا الذكاء في دعوته مع خصومه ومع الأمة حين وجه إليها دعوة الله.
ثم واصل موسى التعريف بربه فقال: ? الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ? وقال أيضاً: إنه -سبحانه وتعالى- هو الذي خلق لكم النبات من الأرض تأكلون منه وأنعامكم تأكل، والنعمة في النهاية ترجع بطعمها ولذتها وفائدتها إليكم ? مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ? [النازعات: 33]، والأنعام في النهاية ذبيحة للإنسان فالمتعة كلها للإنسان، كل هذا تذكير بنعم الله -سبحانه وتعالى- ومواصلة للتعريف به أمام فرعون، وكأنه يثيره من بعيد ولكن يثير فيه الذكاء والنباهة والعقل فيقول: ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى ? إن كنت من أولي النهى يا فرعون هذا بتلميح وليس بتصريح لئلا يغضب و لئلا يفرط عليهم بالعقاب، كأنه يقول: إن كنت من أولي النهى والعقل والرجاحة تفهم هذه الآيات وتعتبرت بها فالذي خلقني أولى بعبادتي وليس له مثيل -سبحانه وتعالى- طالما هو الخلاق، طالما كان هو الرزاق، طالما فعل هذا الفعل العظيم وصنع هذا الصنع الكبير من الكون وما فيه من سماء ينزل منها ماء ومن أرض فيها فجاج وفيها نبات وفيها نعم كل هذا من الآيات التي يلمحها ويستفيد بها أولو النهى والعقول الراجحة.
(4/10)
---(5/110)
ثم خرج معه موسى -عليه السلام- من هذا البيان عن رب العزة -جل وعلا- ومن هذه الدنيا التي فيها المتاع للإنسان والأنعام إلى الدار الآخرة ? مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ? [طه: 55]، ويقدم هذا لأنه واقع ثم يقدم ما يشمئذ منه مثل فرعون من الموت ? وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ? [طه: 55]، ولكن ذكر الخلق أولاً يعمي فرعون وأمثاله عن الغضب بالثانية والثالثة، ? وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ? [طه: 55]، ? وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ? [طه: 56]، كان موقف فرعون اللعين في النهاية هو التكذيب والإباء أي الرفض لهذه الدعوة والله -تبارك وتعالى- في هذا الموقف يشير إلى أن فرعون كان على هذا الموقف الكفري إلى منتهى القصة، وإلى منتهى حياته ولذلك قال وأشار بذلك قال: ? وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ? [طه: 56]، ولم يكن فرعون يومها قد رأى الآيات كلها وإنما رأى العصا واليد فقط، كما فعلها موسى وقدمها له ولكن رأى الآيات الأخرى مع الأيام مثل الدم ومثل آية البحر وما إلى ذلك والضفاضع والجراد والقمل كل هذه آيات أرسلها الله مع موسى -عليه السلام- ومعجزات ولكن رغم كل هذا لم يؤمن فرعون- عليه اللعنة.
هذا حول المعنى الإجمالي للآيات ثم نتناول الآيات بشيء من التفصيل مما يعرف بالتفسير التحليلي وهو الوقوف عند دقائق الآيات وإشاراتها بقدر ما يتسع المقام-ونسأل الله -تعالى- التوفيق والسداد.
التفسير التحليلي:
أولاً: كثرة ذكر الله للداعية:
نرى في هذه الآيات موقفاً عظيماً للدعاة ينبغي أن يقفوا عنده فإن الله -تعالى- يلقن موسى وهارون -عليها السلام- طريقة الدعوة وأسلوب الدعوة وعدة وزاد الدعاة، ومن ذلك - كما أشرت سابقاً- بعض هذه الآداب ليست على الحصر وإلا فهي كثيرة وإنما نذكر بعضها إشارة وبما يتناسب مع الإيجاز في هذه الآيات المكية.
(4/11)
---(5/111)
أولاً: يقول الله -تعالى-: ? وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ? ذكر اللهِ وأثره في الدعوة، لابد للداعية أن يكون أكثر الناس ذكراً لله فإنه يأمر الناس بهذا ولذلك ينبغي أن يكون أكثرهم ذكراً لله هكذا أوصى الله وأمر موسى وهارون ? وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ? يعني لا تتوانى لا تتأخر لا تتباطأ لا تتكاسل عن ذكر الله -عز وجل- لا تكتفي بالدعوة على أنها هي العمل الذي تدخل به الجنة فقط، لا، بل ما ندعوا إليه الناس ينبغي أن نلتزم ونمتثل به في أنفسنا والأنبياء من قبلنا والرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم رسل يبلغون الناس ويأمرونهم وهم أنبياء قدوة في أنفسهم وكان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ألزم الناس وأطوع الناس لدين الله -عز وجل- ولشريعة الله. وتعلمون حديث الرهط الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته فلم يجدوه ووجدوا عائشة- رضي الله تعالى عنها- الفقيهة فسألوها عن عبادتها فأخبرتهم فنظروا إلى العبادة النبوية وجدوها قليلة فكأنهم تقالوها وكأنهم قالوا: هذا نبي فليفعل ما تيسر، يكفيه العمل القليل أما نحن فلم يغفر ذنبنا المتقدم والمتأخر ولم نعصم ولم نبشر بالجنة في أشخاصنا وإن بشرنا بشرى عامة للأمة فنحتاج إلى عبادة أكبر وأكثر من عبادة النبي -عليهم الصلاة والسلام- تصوروا هذا التصور وهذا الفهم (فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أرقد) لن أنام أبداً بقية عمري سأقيم الليل لله دائماً (وقال الثاني: وأما أنا، فأصوم النهار ولا أفطر) سأبقى طول عمري المتبقي صائماً كل يوم، كل يوم أصوم، حتى أصل إلى رضوان الله -عز وجل- (وقال الثالث: وأما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج) هذه المتعة التي أباحها الله -عز وجل- سأحرم نفسي منها طاعةً لله وتقرباً إلى الله - سبحانه وتعالى- وقيل: كان معهم رابع (قال: وأما أنا فلا آكل اللحم) رجال يقدرون على أنفهسم فيمنعونها مما تشتهي ومما تحب ، كل اختار الأمر الذي(5/112)
(4/12)
---
يصعب على نفسه فعله أو مفارقته، فعله كالصيام والقيام أمر صعب على النفس أن تستجيب لصاحبها في هذا، وترك الزواج وترك أكل اللحم شهوة نفسية تحبها فحينما نمنعها من ذلك فإنها تتأذى وتتألم وتدفع الإنسان إلى تحصيل هذه الشهوات والرغبات ( فلما جاء النبي -عليهم الصلاة والسلام- وأخبرته عائشة -رضي الله تعالى عنها- بذلك استدعاهم وقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ ، قالوا: نعم قال -عليهم الصلاة والسلام-: أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له وإني أقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) فكان النبي -عليهم الصلاة والسلام- أخشى الناس لله وأتقى الناس وأطوع الناس لله -تبارك وتعالى- وهكذا الأنبياء جميعاً وورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يذكر الله على كل أحيانه ، وسيدنا موسى -عليه السلام- ورد عنه (أنه سأل ربه يا رب علمني شيئاً أذكرك به) لأنه رأى أن كل الناس يقولون ما يقول من الذكر فيريد ذكرا خاصا يذكر الله به ولا يذكره به غير موسى -عليه السلام-، هذا يدل على مدى حبه لذكر الله وجهده العظيم في ذلك (فقال الله: يا موسى قل لا إله إلا الله، فقال -عليه السلام- كل الناس يقولونها يا ربن) ولا إله إلا الله كلمة مستمرة في الأجيال ومتكررة في الأمم كل أمة مطالبة بأن تقولها ولكن تقول: أشهد أن نبينا فلاناً رسول الله -عليهم جميعاً الصلاة والسلام- فقال الله تعالى-: (لو وضعت لا إله إلا الله في كفة والسماوات والأرض في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله) أعظم ما يذكر به الله: لا إله إلا الله، وقال النبي -عليهم الصلاة والسلام-: فيما نسب إليه (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله) فذكر الله عظيم وخاصة في مقام الدعوة؛ لأن الداعي يواجه مواجهة صعبة ربما يتعرض لأذى ربما يصاب بشيء ربما يضرب ربما يسجن ربما ربما وقال الله -تعالى- على لسان الحكيم لقمان -عليه رحمة الله ورضوانه- قال: ?(5/113)
يَا بُنَيَّ
(4/13)
---
أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ? [لقمان: 17]، فذكر الله يهون على الداعي هذا الأذى ويستعين به على ذلك والله تعالى قال: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?45 ? ? [الأنفال: 45]، فذكر الله زاد للداعية، وعرفت أذكار الصباح والمساء وأذكار الأحوال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ما يعرف بذكر اليوم والليلة فكان يذكر الله على كل أحيانه حتى قال العلماء في حكمة ما روي عن رسول الله -عليهم الصلاة والسلام- والحديث فيه ضعف كما نبه بعض أهل العلم ولكن يعني لا مانع من العمل به لأنه في الفضائل وفي ذكر الله سبحانه وتعالى- (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك غفرانك غفرانك)، فالعلماء -جزاهم الله خيراً- تحدثوا في حكمة الاستغفار بعد قضاء الحاجة فما كان الإنسان يفعل ذنباً حتى يستغفر منه فقالوا: كأن النبي -عليهم الصلاة والسلام- يستغفر الله تعالى عن هذه الفترة التي مضت منه دون أن يستطيع ذكر الله فيها، لأنه لا يجوز الكلام في الحمام ولا ذكر الله في هذا المقام، فلأنه سكت -وإن كان مضطراً هذه الفترة وإن كانت قصيرة- إلا أنه يستغفر بعدها فيقول: غفرانك غفرانك . غفرانك- والله أعلم بحقيقة الأمر.
هذا درس أو أدب من آداب الدعوة وهو: كثرة ذكر الله للداعية.
ثانياً: تحديد الهدف عند الداعي:
(4/14)
---(5/114)
من الآداب أيضاً في هذه الآيات تحديد الهدف عند الداعي والمنطلق الذي ينطلق منه، أين أذهب؟ وأين أدعو؟ وفيمن أضع التذكرة والموعظة؟ لابد أن أحدد الوجهة، لا أقابل أي إنسان، لا أكلم أي واحد بالنصيحة والموعظة، لا أعرض هذا الدين على كل إنسان هكذا وإنما ينبغي أن أضعه في مكانه اللائق، النبي -عليه الصلاة والسلام- جلس مع كبار قريش حينما طلبوا مجلساً خاصاً، وطمع بذلك في تأليف قلوبهم وجاءه الأعمى عبد الله بن أم مكتوم- رضي الله عنه- جاء؛ بقدر الله وبترتيب الله؛ ليقول للنبي -عليه الصلاة والسلام- علمني مما علمك الله. والنبي -عليه الصلاة والسلام- منشغل بهذا الأمر ولو نظر للأعمى أو كلمه وانصرف عن وجهاء قريش لانصرفوا عنه ، ولفاتت هذه الفرصة التي يطمع فيها النبي -عليه الصلاة والسلام- بخير كثير ولكن عبد الله أولى لأنه مسلم وجاء يطلب العلم فلا بد أن يجاب، ثم إنه رجل أعمى- بقدر الله - هو الذي جاء حتى لا يرى ما أمامه فيسأل ويكرر السؤال، عند ذلك ترك النبي -عليه الصلاة والسلام- عبد الله وتشبث بهذه الفرصة التي لو أسلم فيها كبراء قريش لأسلمت مكة كلها فتكون ضربة عظيمة يربح بها الإسلام خيراً كثيراً حسب التصور البشري ولكن الله -تعالى- يريد أن يعلمنا بدءاً من رسولنا -عليه الصلاة والسلام- أننا لا نضع الدين عند من يكرهه، عند من يبغضه، على حد قول القائل: لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير ستهينون الدر بهذا ولن ترفعوا قدر الخنزير فهو خنزير وهو رجس لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير فقال الله للنبي -عليه الصلاة والسلام- بعد معاتبته ? عَبَسَ وَتَوَلَّى ?1 ? أَن جَاءَهُ الأَعْمَى ?2 ? ? [عبس: 1، 2]، إلى آخره قال: ? كَلاَّ ? [عبس: 11]، وكأنه يرفض هذا العمل ? كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ? [عبس: 11]، أي ذكر فقط لكن لا تلح عليهم في قبول الدين، ودخول الإسلام ليس بالإلحاح ولا بكثرة الطلب إنما مجرد تذكرة وعرض، ? كَلاَّ(5/115)
(4/15)
---
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ?11 ? فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ?12 ? فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ?13 ? مَرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ?14 ? بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ?15 ? كِرَامٍ بَرَرَةٍ ?16 ? ? [عبس: 11- 16]، الدين عليّ عظيم، فلا يأخذه إلا من طلبه ومن سعى إليه فكان عبد الله بن أم مكتوم وهو أعمى خيراً من ملء الأرض من مثل كبراء قريش.
وقصة الثلاثة الذين جاءوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو في المسجد فدخل أحدهم فوجد فرجة في الحلقة حول النبي -عليه الصلاة والسلام- فجلس فيها ثم دخل بعده الثاني فلم يجد فرجة واستحيى أن يفرق بين اثنين أو صاحبين فجلس منشئاً حلقة جديدة حول الحلقة الأولى، وأما الثالث فأعرض وانصرف، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- ألا أخبركم بخبر الثلاثة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال -عليه الصلاة والسلام-: (أما الأول أو أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الثاني: فاستحيى فاستحيى الله منه وأما الثالث: فأعرض فأعرض الله عنه) قال تعالى: ? فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ?6 ? ? [التغابن: 6]، فلابد أن نحدد فيمن أدعو ولمن أقول ومن أعلم فربما نصحت من لا ينصح ربما أعطيت الدين لمن لم يرغب فيهين الدين، لابد أن أعظم الدين وأعززه، أرغب فيه من بعيد وأعرضه عرضاً جميلاً حسناً ولو بالقدوة الفعلية والحركة الواقعية في نفسي حتى إذا رغبه إنسان سيسألني ماذا تفعل؟ أراك ذاهباً وآيباً هكذا كم مرة تمر علينا ونحن نجلس في هذا المجلس على قارعة الطريق أين تذهب؟ وأين ترجع؟ قل له: أذهب أصلي ، أصلي لربي فإذا ما رغب في الصلاة، كلمه، كذا وكذا، فرصة، إذا ما جاءني وسألني هكذا أو رأيت فيه علامة القبول فأذكره بالله -سبحانه وتعالى- وأعطيه النصيحة.
(4/16)
---(5/116)
كذلك لابد من تحديد المنطلق لماذا توجهت إلى فلان بعينه؟ لماذا توجهت بالدعوة والنصيحة إلى هؤلاء القوم؟ إذن لا بد من دراسة المدعوين أولاً ومعرفة حالهم فرجل متشبث بالدنيا لا ألعن له الدنيا لن يقبل دعوتي إنما أذهب إليه وأذكره بأن يوظف دنياه من أجل آخرته، وكما يبني دنياه يبني آخرته وهكذا درس عظيم يحتاجه الدعاة على طريق الدعوة.
قال الله -تعالى-: ? اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ? اذهبا إلى فرعون لماذا فرعون؟ لأنه طغى، فحدد لهم الوجهة وحدد لهم المنطلق أن فرعون طغى وزاد عن الحد في كفره وعناده ومثل هذا يحتاج إلى من يذكره، فذهب موسى وهارون طائعين لله -تبارك وتعالى- ولقيا فرعون وبلغاه رسالة ربه -سبحانه وتعالى- إن كان يقبلها أو لا يقبلها.
ثالثاً: لين القول:
(4/17)
---(5/117)
وهنا نجد ربنا - سبحانه وتعالى- من رحمته يعلمنا الصورة التي ندعوا بها وهو الأدب الثالث في آداب الدعوة هنا لين القول، فرعون طاغية عظيم جبار، صاحب قوة وسلطة قالوا: كان أعظم في القوة وأعظم في الجبروت وليس أعظم من العظمة والتعظيم إنما أعظم في القوة والسلطان وكذا من ملوك زمانه وكان أطولهم فترة في الحكم فهو من أقدمهم ومن حاضرهم ولذلك كانت الدعوة معه لابد أن تكون بطريقة معينة ربما لا يهتدي إليها موسى بنفسه فعلمه الله تعالى: ? فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? قولاً ليناً كما قال ربنا لنا ولنبينا -عليه الصلاة والسلام-: ? ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم ? [النحل: 125]، أي إن تطلب الأمر الجدال والجدال هنا هو الحوار الحوار للوصول إلى الحق، أما الجدال بالباطل كما فعل فرعون فإنه المراء وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أنا زعيم ببيت بربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محق) أنا زعيم: أي كفيل. ببيت بربض الجنة: أي بأرض الجنة وتربتها. لمن ترك المراء وإن كان محقاً.
يعني حينما يدخل الأمر في الجدال بالباطل أنسحب، لا أقر خصمي على الباطل الذي هو عليه، ولكن لا أبادله الكلام، أكف عن الحوار عند ذلك، هذا أسلم لي وأحفظ وأعظم للحق الذي معي، ولكن الجدال بالحق فهذا خير، وكما ذكر عن الإمام الشافعي- رحمه الله- أنه كان إذا ناظر أحداً قال: « اللهم أظهر الحق على لسان خصمي » فغرضه إظهار الحق، ولا أطلب أن يكون الحق على لساني، لكن المهم أن يظهر الحق ولو على لسان خصمي.
(4/18)
---(5/118)
ذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن وهب بن منبه- رحمه الله- وهو من التابعين، قول ربنا -سبحانه وتعالى- في القول اللين، ما هو القول اللين الذي أراد الله أن يتكلم به موسى وهارون؟ وأعتقد أن هذا من باب التمثيل من هؤلاء العلماء يعني ذكروا للناس عبارات كمثال، تعتبر كمثال للقول اللين فقال وهب بن منبه: « قولا له إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة » وذكر كذلك الإمام ابن كثير عن الحسن البصري -رحمه الله- في هذا القول [ اعذرا إليه ] يعني قدموا الإنذار لينقطع عذره [ عرفناك وعلمناك ] فلا عذر لك بعد ذلك [ اعذرا إليه وقولا له إن لك رباً ولك معاداً وإن من بين يديك جنة ونار ] أي أمامك جنة ونار وكأنه مثال أيضاً للقول اللين، لكن أن يكون هذا الكلام هو بالتحديد الذي طلب الله أن يقال لفرعون فهذا يحتاج إلى نص يعتمد عليه يكون صحيحاً كما ذكر ابن كثير أيضاً عن ابن أبي حاتم -رحمه الله تعالى- وهو من أئمة الجرح والتعديل وله كتاب تفسير قيم في التفسير بالمأثور روي عنه أو ذكر عنه أثراً موقوفاً قال فيه: [ لما بعث الله -عز وجل- موسى إلى فرعون قال: أي موسى: رب أي شيء أقول؟ - ? فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ? قال موسى: رب أي شيء أقول؟ قال الله تعالى: قل: أهيا شراهيا ] وهذه لغة سريانية، ولذلك يستعملها السحرة كتسمية كاستفتاح لكلامهم ويزعمون أنها لغة سريانية وأنهم يعلمونها وهذه دجل منهم، لكن ذكر الإمام ابن أبي حاتم هذا، ونقله عنه ابن كثير -رحمه الله- وقال الإمام الأعمش وهو إمام لغوي قال: وفسر ذلك، أي: ومعنى أهيا شراهيا، أن الله -تعالى- هو الحي قبل كل شيء والحي بعد كل شيء ] يعني كأن معناها هو الأول والآخر قال:[ فسر ذلك: الحي الذي قبل كل شيء والحي بعد كل شيء فهو حي قبل أن يكون الأحياء وحي بعد أن يموت الأموات وبعد أن يفنى الخلق ] هذا طبعاً كما ذكرت وأكرر وأنبه هذا لعله كالأمثلة التي ضربها(5/119)
(4/19)
---
العلماء لكلمة القول اللين، يعني كيف يكون القول ليناً، هذه نماذج على هذا القول ولا نستطيع أن نعتمد قولاً منها أنه هو كلام الله لموسى -عليه السلام-.
لكن نلاحظ في الآيات بعض مظاهر لين القول كيف كان موسى لين القول مع فرعون أو كيف علم الله -تعالى- موسى ليونة القول مع فرعون -عليه اللعنة- قال الله -تعالى-: ? اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ?17 ? فَقُلْ هَل لَّكَ ? [النازعات: 17، 18] هل لك: مجرد عرض وهذه ليونة لم يلزمه، لم يجبره على ذلك، لم يضطره إلى قبول الدعوة إنما قال: هل لك؟ هل ترغب؟ وهذه ليونة في الخطاب ? أَن تَزَكَّى ? والتزكية: هي الطهارة أن تزكى وأهديك: الهداية شيء جميل يحبه كل إنسان ويكره الضلال وإن كان بعض الناس على ضلال ويزعم أنه على هدى، ? وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ? [الأعراف: 30]، فكل إنسان يزعم الهدى في نفسه لأنه يحبه، يحب الهداية ويبغض الضلال فذكر له موسى الهداية وأهديك إلى ربك: كلمة رب -كما مر بنا- كلمة فيها رحمة وفيها رعاية وفيها رباية وفيها إنعام وإكرام فهذه كلمة مرغبة ولم يقل: فأهديك إلى الله فتخشى، وعرفنا أن الخشية هي التقدير على علم، تقدير الأشياء على علم، فيعظم في النفس قدر هذه الأشياء يكون كل شيء بقدره ولذلك قال الله –تعالى- ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ? [فاطر: 28]، فالعلماء هم أعرف الناس بقدر الله وبحق الله العظيم ولذلك هم أكثر الناس خشية لله والأنبياء أعلم من العلماء ولذلك كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- أخشى الناس وأتقى الناس لله -سبحانه وتعالى-.
(4/20)
---(5/120)
كما جاء في الآيات التي معنا قال موسى : ? إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ? ولم يقل له: إن لم تصدق وإن لم تؤمن يا فرعون فلك العذاب الأليم، وسينزل الله عليك سخطه وعذابه وعقابه ، فهذا يثير فرعون ويزيده عناداً ولكن قال بهذه الليونة ? إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ? لعلك تلمح- أخي طالب العلم، أختي طالبة العلم- لعلكم تلمحون هذه الليونة في الخطاب ، واحد يقول لآخر: صلِّ لماذا لا تصلي؟ أنت كافر وفي النار، وآخر يقول له: لو صليت دخلت الجنة. الدعوة واحدة، ولكن هذا يدعو بلطف وبليونة وذلك يصد يقول: خلاص انتهينا بشرتني بالنار إذن خذ أنت الجنة وفز بها. ويعاند فالنفس طبيعتها هكذا ، فلا بد من الليونة في الخطاب وفي الدعوة حتى تؤتي الدعوة ثمارها، وقال موسى أثناء الكلام وفي ثنايا الخطاب والحوار ? وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى ? ذكر كلمة السلام وهي كلمة مرغبة للنفس ومحببة فيها ولكن لم يسلم على فرعون فإنه لا يستحق السلام بكفره وطغيانه هذا، ولكن يظهر هنا ذكاء الداعي إنه ذكر السلام ولكن صرفه إلى من إلى من يتبع الهدى، أي والسلام عليك يا فرعون إن اتبعت الهدى وإن لم تتبع فلا سلام ولا كلام.
وذكر في أخبار هارون الرشيد -رحمه الله تعالى- أن رجلاً قال له في موسم حج قابله فيه:[ هل تأذن لي يا أمير المؤمنين أن أنصحك أو أن أعظك وأغلظ عليك؟ قال: لا.. ] أنصحك وأعظك وأغلظ عليك: يعني أشدد في الدعوة وفي الموعظة والنصيحة، فهذا أمير [فقال لا. قال: ولمَ؟ قال: لأن الله بعث من هو خير منك لمن هو شر مني وقال ? فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? ] فالداعي تجمل دعوته طالما كانت حسنة وبقول لين.
الحرص على الهداية والتأميل فيها:
(4/21)
---(5/121)
من آداب الدعوة في هذه الآيات وهذا آخر أدب في هذه الآداب ذكراً فقط، وإلا فالله تعالى يعطي المتدبرين ما يشاء من فضله: الحرص على الهداية والتأميل فيها، ينبغي على الداعية أن يكون حريصاً على هداية الناس، ليس همه فقط أن يلقي بالتذكرة وأن يقدم النصيحة بأي شكل، المهم أنني بلغت وانتهى الأمر ولتفعلوا ما تفعلون ولكم الجنة أو لكم النار، أنا أديت ما علي وانتهى الأمر. لا.. لا يكن هكذا إنما ينبغي أن أكون حريصاً على الدعوة وعلى أن تفيد هذه الدعوة فيمن أدعوهم.
(4/22)
---(5/122)
كما جاء في شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم ? لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم ? [التوبة: 128]، والخطاب هنا للكفار قال: ? عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ? أي من العنت والتعب والشقاء في الحياة هذا يصعب على النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يتأذى لأن قومه شقوا بالكفر والعياذ بالله كان يتأذى من أجلهم حريص على هدايتهم ودخولهم في الإسلام، فيبذل في ذلك كل ما يملك من قوة وجهد ودعوة أما شأنه مع المؤمنين ? بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ? [التوبة: 128] -صلى الله عليه وسلم- فالداعي يكون حريصاً ولذلك تجد الحرص في موسى -عليه السلام- إذ يقول الله تعالى له: ? اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ ? اذهبا أمر، وموسى فعلاً يأخذ أخاه ويذهب إلى فرعون رغم شدة الموقف ورغم تخوفه من ذلك، والتأمين في الدعوة قول الله تعالى: ? لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? التذكر: أن يذكر الفطرة وأن يتجاوب مع الدعوة والنصيحة أو يخشى أن يقدر الأمر، على الأقل موسى هذا رسول من رب العالمين وفرعون كافر به لكن فلنترك موسى لحاله، موسى ادع كما شئت وليتبعك من اتبعك لا نتدخل في أمرك ولا شأن لنا بك والحرية ينبغي أن تشمل العقيدة كل يختار من الدين ما يشاء أما من اختار دين الإسلام فلا بد أن يلتزم به ? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ? [البقرة: 256]، عند عرضه على الكافرين هذا من المفروض وهذا مما يطرحه العقل أن يترك لصوت الحق مجال يتكلم من خلاله كما يترك لصوت الباطل مجال ومجالات يعلن عن نفسه من خلالها فاذهب يا موسى وقل للناس ما شئت، أما أنا فلا أتبعك مثلاً هذا إذا خشي فيقدر أن موسى هذا رسول والرسول عليه أن يبلغ فلا يملك من أمره نفسه شيئاً فيعطيه الفرصة ليبلغ الناس ويسمعه من يسمعه ويعرض عنه من يعرض عنه، لكن نلاحظ هنا كلمة لعل: فالداعي مهما كان ذكياً ونبيهاً ومهما(5/123)
(4/23)
---
كان قريباً من الله تعالى حتى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا يستطيع أحدهم أن يحدد إن كان هذا المدعو سيستجيب لي أو لا يستجيب لي إن كانت موعظتي هذه ستقيم الناس من هذا المجلس مقبلين على الله -عز وجل- أو معرضين أو منصرفين أو غير ذلك الله أعلم؛ ولذلك قال الله للنبي -عليه الصلاة والسلام-: ? وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ?3 ? أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ?4 ? ? [عبس: 3، 4]، وما يدريك كل ما في القرآن من قول الله تعالى: وما يدريك، فلم يدره. الله ما أجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بإجابة على المسألة التي قال عنها: وما يدريك، أما ما قال فيه: ما أدراك فقد أدراه وأجابه، كل ما قال الله فيه: ما أدراك أجابه، أجاب النبي -عليه الصلاة والسلام- فيه ? وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ?17 ? ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ?18 ? يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ?19 ? ? [الإنفطار: 16- 19]، لكن ? وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ? لم يقل كيف يزكى أو كان سيتزكى أو لا فلا يستطيع أحد أن يحدد إنما هي في دائرة الرجاء أنصح وأعظ وأرجو من الله تعالى أن يهدي القوم بنصيحتي وبموعظتي.
كذلك هذا الرجاء يجعلني أواظب على الدعوة ودائماً أنظر إلى الأمل، لكن لو علمت أن هؤلاء الناس لن يستجيبوا فلن أنصح ولن أعظ ولو رأيتهم مرة صدوا فلن أعاودهم بالدعوة، بل كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يعاود الناس في موسم الحج وفي غيره من المواسم ويعرض عليهم دين الله تعالى اليوم يقبل عليه اثنان وثلاثة وغداً وفي العام المقبل يقبل عليه أكثر وهكذا، فلابد من التأميل في الدعوة والله تعالى يقول ? فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ? [الأعلى: 9]، وإن: معناها الشك يعني لو كان أملك في انتفاع الناس بهذه التذكرة ولو أملاً ضعيفاً فذكر ولا تترك التذكرة.
(4/24)(5/124)
---
هذا حول هذه الدروس المهمة في الدعوة، وجاء في كلام موسى -عليه السلام- ? وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى ? وهذا السلام لم يكن للتحية فموسى لا يحيي فرعون وهو كافر، طاغية وإنما يرغبه في السلام. ودين الله دائماً يدعو إلى السلام الحقيقي الذي يضمن لكل إنسان كرامته وعزته وحريته المنضبطة بما شرع الله من حلال وحرام، ولذلك استعمل النبي -عليه الصلاة والسلام- هذه الكلمة في رسالته إلى هرقل عظيم الروم وإلى مسيلمة الكذاب، حينما عرض على النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يدعو أهل المدن وأن يترك له أهل البادية والأعراب فقال: لك المدر ولي الوبر. فرد عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- في رسالة وجاء فيها في ثنايا الكلام أيضاً ( ? وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى ?) عرف موسى بربه -سبحانه وتعالى- حينما ناقشه فرعون فقال موسى -عليه السلام- ? رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? في هذه الآيات وفي ذكر الله أنه خلق الأرض وسلك فيها سبلاً وأنه أنزل من السماء ماءً وأنبت النبات وجعل النعم وأنه أحيا الناس من الأرض وفيها يعيدهم بالموت والقبر ويخرجهم مرة أخرى للعرض والحساب يوم القيامة. هذا التعريف من أجمل التعاريف التي ينبغي أن يعرف الداعية الناس بربهم بواسطتها من أراد أن يعرف الناس على ربهم فليعرفه إليهم بنعمه، بقدرته، بعظمته، بجلاله ، بإنعامه -سبحانه وتعالى-، فإذا ما علم الإنسان أن وجوده في هذه الحياة الجميلة التي يحبها ويقبل عليها ويفتن بها، وجوده هذا كله إنما هو بدءاً من الله وتفضلاً من الله، ثم إذا علم أن كل نعمة ينعم بها ويتنعم بها إنما هي من الله ? وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ? [النحل: 53]، فهذا يدعو الإنسان إلى الإقبال على الله والاعتراف إلى الله تعالى بالجميل والفضل فيشكره على ذلك بعبادته وحده لا شريك له.
(4/25)
---(5/125)
وأولى النعم وأفضلها وأعظمها، وأساسها، نعمة الخلق، لولا أن الله خلقني ما انتفعت بنعمة من النعم ولا رأيت الحياة، ولا عرفت أحداً ولا عرفني أحد، فبداية الإنعام الخلق ? الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ? خلق فسوى ? الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ?2 ? وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ?3 ? ? [الأعلى: 2، 3]، خلق الخلق وسواهم في صور جميلة وقدر لكل مخلوق مهمة ودوراً في هذه الحياة وهيأه لذلك وجعله قادراً عليه وهداه إليه قال تعالى: ? وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ? [الذاريات: 56]، دورنا أن نعبد الله -سبحانه وتعالى- وأن نوحده لا شريك له في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله نوحده توحيداً كاملاً شاملاً عظيماً، فيه استسلام كامل لله -سبحانه وتعالى- هذا هو دورنا في الحياة وهدانا الله إليه بالفطرة التي تتعرف على ذلك من خلال الآيات الكونية وهدانا أيضاً بشريعة تفصل لنا الأمر أعظم تفصيل قال تعالى: ? وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ?10 ? فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ ?11 ? ? [البلد: 10، 11]، أي فهلا يقتحم العقبة؟ بما معه من علم شرعي -نسأل الله تعالى أن يعافينا من العقبات وأن يصحح إيماننا حتى نلقاه وهو راضٍ عنا غير غضبان إن ربنا هو الرحمن الرحيم- أشكر لحضراتكم إخواني طلبة العلم حسن الاستماع وحسن المتابعة وجزاكم الله خيراً ونفعنا الله وإياكم بهذه المجالس الطيبة وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أسئلة وإجابات:
1-السؤال الأول: نريد يا شيخ أن تتكلم عن الصبر في سبيل الدعوة إلى الله؟
السؤال الثاني: الأطفال الذين معهم قد تكون في الثانية عشر والثالثة عشر ولكنهم لا يصلون إلا وهم مكرهين على هذه الشيء ويتأسفون. وإذا رأوا غيرهم يقرؤن القرآن ولا يريدون أن يذهبوا إلى التحفيظ فكيف ندعوهم ونتعامل معهم لنحببهم في الخير وفي الصلاة ؟
(4/26)
---(5/126)
2-السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعض طلبة العلم للأسف يكون عندهم الله يسلمك خطأ في التعامل مع الناس فعنده علم ما شاء الله يستطيع أن ينفع به الأمة لكن للأسف عنده نقص في الأدب، بحيث إنه عندما يعطي دعوته تجده يكشر في الناس ما يسلم عليهم، فيعطي صورة لطلبة العلم وللناس سوء الهيئة فنتمنى من فضيلتكم أن توصوا طلبة العلم بالمحافظة على الأدب قبل العلم؟
فضيلة الشيخ الأخت في السؤال الأول كانت تريد منكم كلمة عن الصبر على سبيل الدعوة؟
بسم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، الصبر عدة للدعاة، لأنه في طريق الدعوة أشواك وعقبات وعوائق وأعظم الدعاة -صلى الله عليه وسلم- أوذي أيذاءً عظيماً لا يطيقه أحدنا، رمي بالحجارة وضع على ظهره سلخ الشاة والتراب، سال دمه الشريف من قدميه في الطائف ومن وجهه الشريف في إحدى الغزوات وكل ذلك ويمسح النبي -عليه الصلاة والسلام- الدم عن وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم) أي جرحوا وجه نبيهم -صلى الله عليه وسلم- ولم يدعُ عليهم ولم يلعنهم إنما صبر على أذاهم ليعاودهم بالدعوة مرة أخرى وفي الطائف رفض أن يطبق عليهم ملك الجبال الأخشبين أي الجبلين، وأن يهلكم الله تعالى جزاء ما آذوه.
(4/27)
---(5/127)
قراءة هدي الأنبياء والمرسلين في ذلك من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة يعطي للداعية زاداً عظيماً وقدوة كريمة في هذا الطريق وفي هذا المجال لابد للداعية قبل أن يتصدى للدعوة أن يتوقع هذا أن يتوقع هذا الخطر، فتوقع الخطر يخففه ويجعله هيناً على النفس بخلاف ما يقابلني فجأة بخلاف ما يقابلني بغتة فهذا يكون أثقل على النفس فإذا ما توقعت الخطر قبل وقوعه فهذا يكون أخف على نفسي وأوصل لدعوتي وكذلك نقرأ عن الصحابة -رضوان الله عليهم- وما لاقوه من شدة وعناء في حمل هذه الرسالة وفي أدائها لمن بعدهم ومن بعدهم كذلك التابعون -رحمهم الله- والعلماء وما بذلوا في ذلك وتعلمون كم أوذي الأئمة كالإمام أحمد -رحمه الله تعالى- حين ضرب في السجن في الفتة التي سجن من أجلها وسجن الإمام الشافعي -رحمه الله- وسجن نبي الله يوسف وهكذا طريق الدعوة محفوف بالمخاطر، ولذلك يتوقع الإنسان هذه المخاطر ويدعو الله بالعافية والسلامة وإن وقع شيء فليصبر عليه ومما يعينه على الصبر قراءته ومذاكرته لأحوال الدعاء السابقين بدءاً من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إلى العلماء الذين كانوا في سلف الأمة فهذا كله يصبر الداعية على ما يلقى من الأذى وحين يذكر أيضاً أن هذا كله له أجره المقابل عند الله -عز وجل- يوم القيامة فإنا تذكر أو ذكرى الجزاء الحسن يصبر الإنسان على ما في الدنيا من بلاء. نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا جميعا الصبر على حياتنا كلها وعلى تكبد الطاعة لله وخاصة على طاعة الدعوة وأن يجعلنا من الدعاة العاملين المخلصين المقبولين.
كان سؤالها الثاني فضيلة الشيخ على الأطفال من سن الثالثة عشر والرابعة عشر ولا يصلون ولا يريدون الذهاب إلى حفظ القرآن الكريم فكيف ندعوهم؟
(4/28)
---(5/128)
عفواً أختنا الكريمة، لكن ذكرتي السن ثلاث عشرة سنة واثنتى عشرة سنة بدأنا بالسؤال في وقت متأخر بعد فوات مراحل التربية، إنما ينبغي أن نلتزم بالهدي النبوي في التربية هذا يريحنا كثيراً كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- ( مروا -في رواية- علموا أودلاكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع) فإذا تتبعنا هذه المراحل استطعنا أن نجتاز بالولد مرحلة خطيرة إنه في الأول يقلد ويستجيب ويخاف ويرهب، لكن في هذه السن في الثانية عشرة في الثالثة عشرة في الرابعة عشرة وهكذا إلى ما فوق يبدأ ينضج، ويكبر جسمه وتعظم قوته شيئا فشيئا فيكون له رأي ويكون له رد خاصة في هذه الآونة التي تشيع فيها بين الناس كلمة ونداء وشعار الحرية، والناس لا يعرفون معنى الحرية. الله تعالى أعطانا حرية عظيمة جداً ولكن حرية منضبطة حتى البشر حين قننوا لأنفسهم الحرية قننوا حرية ولم يستطيعوا أن ينفلتوا بها يقولون أنت حر ما لم تضر إذن هناك ضوابط لا بد أن توضع حول مسألة الحرية لا نعطي أولادنا الحرية هكذا إنما لا بد أن يتربى الولد على افعل ولا تفعل خذ ولا تأخذ هكذا علمنا الله من خلال قصة آدم -عليه السلام- ? وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ? [البقرة: 35]، كل ما تشاء من هنا ولا تأكل من هذه بالذات تربية نفسية على طاعة الله -تبارك وتعالى- وعلى تقويم النفس حتى لا تأثرها شهواتها ونزواتها فالطفل من البداية يقلد بل نحن ندعوه فيما قبل السابعة ندعوه إلى التقليد ندعوه إلى المشاركة ليس في الصلاة فقط بل في الصلاة وذكرت الصلاة كرمز للعبادات كلها وأفعال الخير وأخلاق البر ثم إذا بلغ السبع نبدأ نعلمه ونأمره لكن فيما قبل كان يفعل ولا يفعل لا نحرج عليه ولا نضيق فعل خير وبركة نشجعه بكلمة طيبة لم يفعل ممكن نعاتبه بكلمة لكن عند السابعة نأمره ومع الأمر زجر وتعليم حتى يؤدي على علم ويعلم فوائد(5/129)
(4/29)
---
هذه الطاعة الصلاة أو غيرها منافعها وخيرها وبركتها فيفعل على قناعة إذا بلغ العاشرة إذن علمناه وأمرناه فترة تدريبية ثلاث سنوات على خصال الخير وأعمال الفضل عند العاشرة ينبغي أن يزجر بما هو أقوى من ذلك لو احتاج الأمر إلى الضرب فليضرب والضرب ليس كما يفهم أو كما يشيع عنا أعداؤنا تضربون الأولاد الصغار وعندهم يأخذون الطفل من أبويه إذا ضرباه أو ضربه أحدهما أنت لا تصلح لتربية الأولاد لا تضربه لا تجبره على شيء نحن نعيش حياة الحرية ويأخذونه منهما من الأبوين ويحرمونهما من ولدهما لأن أحدهما ضربه على فعل سيء فعله أو شيء طيب تركه، تأديباً له، إنما الضرب في الإسلام ضرب تخويف لا يكسر عظماً، ولا يخدش لحماً ولا يسيل دماً، ليس هذا مقصوداً أبداً في الإسلام نسمع بعض الناس ربما ألقى بولده من مكان عالٍ يرفعه فوق رأسه ثم يلقيه على الأرض يضربه بخشبة كبيرة ضربة لا يقوى عليها كبير لا.. ليس هكذا إنما المسألة تخويف فقط أن نرفع فوق رأسه العصا فإذا رآها خاف خلاص انتهيت يا أبي سأصلي سأفعل كذا كما تريد، خاف، هذا هو المطلوب وكذلك بالمناسبة ضرب الزوج لزوجته إن احتاج الأمر إلى ذلك هو ضرب تخويف وتقويم فقط ليس ضرب إهانة ولا ضرب تقبيح ولا ضرب تسفيه ولا ضرب تكسير ولا شيء مما يسمع عن بعض الناس هذه أخطاء شخصة أما في الإسلام فأباح هذا كأسلوب تربية في التعليم والتربية وعند ذلك أيضاً يفرق بينهم في المضاجع فإذا بلغ الطفل الثانية عشرة أو الثالثة عشرة وما فوق ذلك فإنه يكون قد تربى وتأدب فأتكلم هذا الكلام- أختنا أكرمك الله- من خلال وقائع شهدناها في الناس أنهم يتركون أولادهم كل هذه المراحل لا يقدمون لهم نصحاً وهو صغير يقولون: غداً يكبر ويعرف لا يزال صغيراً ويسامحونه وصار في العاشرة ويقول: صغير سامحوه لأنه طفل بريء لا يقصد لا يعلم لا كذا علموه وبعد أن يكبر يدخل في الثانية عشرة والثالثة عشر والخامسة عشرة ويرد على(5/130)
أبيه صلِّ
(4/30)
---
يقول: لا أصلي مالك ومالي أنا حر ، كل يحاسب على نفسه، فإذا ما قال هذا قيل له: ولدك احفظ ولدك ارعاه انتبه ولدك يفلت منك يقول: هو كبر خلاص، كبر ويستطيع أن يتعلم بنفسه ففي الصغر لم يعلمه وقال غداً يكبر ويعرف وحينما كبر لم يعلمه وتركه يتعرف بنفسه فلا يجد ربما المجال والمناخ مناسباً للتعليم وإنما هناك مفاسد ومخاطر كثيرة ولا ينبغي أن نغفل عن التحديات الحادة والقاسية تجاه الأجيال القادمة من أولادنا وأحفادنا نسأل الله لهم الهداية والثبات ? رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ? [الفرقان: 74]، ومن كانت سبباً في هذا الكلام وفي هذه النصيحة أختنا الكريمة، نسأل الله أن يهدي لها أولادها إن كان عندها من تشكو منه وأن يهدي لنا أولادنا جميعاً. اللهم أمين.
كان الأخ الكريم كان يحكي خطأ بعض طلبة العلم ونقص الأدب والتكشير وعدم السلام إلى آخره من تلك الأخلاق فما رأيكم؟
(4/31)
---(5/131)
والله في القرآن الكريم وفي السنة وفي سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- هيكل إن صح التعبير ونظام ومنهج عظيم جداً للدعوة وفقه بعيد للداعية لو فقهه لأفاد وأجاد ولكن فعلاً هذا ملاحظ أن كثيراً من بعض الشباب الذين يحبون الدعوة ويرغبون في إصلاح الناس والأخذ بأيديهم تغلب عليهم الغضبة في وجوههم والقسوة في كلامهم أحياناً مع من يدعونه وربما هجروه ويقول الهجر والزجر في الله قبل أن يعلمه وأن يكلمه ما علمه شيئاً ولا نصحه ولكن يقول: أهجره في الله ولا يسلم عليه حتى، هذا تسبيق بالشر، تسبيق بالفرار من مقام الدعوة إن لم تدعو هذا فمن تدعو إذن، تريد واحداً ليناً هيناً طيباً يصلي معك تنصحه تقول له: أنت لا تضع كذا هكذا ضعها هكذا وهناك من يشرك بالله ولم تعلمه التوحيد وهناك من لا يصلي أصلاً ولا يسجد لله وتتركه في غيه وترك الصلاة ذاك أولاً من هاك إذا نظرنا إلى بدن الأمة جميعاً إلى المجتمع والحي الذي أعيش فيه والمعارف الذين أعرفهم فتارك الصلاة أولى بالنصيحة ممن يصلي ويخطئ فأقدم هذا على هذا وكل في حينه، لا أترك هذا ولا هذا ولكن أقدم الأولويات في الدعوة فالداعية كما قال أهل الدعوة كالطبيب غير أن مهمته أخطر لأن الطبيب يعالج جثة أمامه على السرير فيضع السماعة هنا ويتحسس بيده ويعرف علة البدن، أما الداعية فإنه يخاطب قلباً غيبياً لا يراه ولا يحسه ولذلك فمهمته في تشخيص الداء وفي وصف الدواء وإعطائه مهمة في غاية الصعوبة في غاية الشدة، فلابد للداعية أن يكون بشوشاً ضحوكاً كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- يتبسم وكان ضحكه التبسم وكان يلاطف الناس ويكلمهم ويستقبلهم ويعرض نفسه عليهم كنبي وصاحب رسالة -عليه الصلاة والسلام- فأرجو من إخواني الذين يتصدون للدعوة أن يبشوا في وجه الناس (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) (بشر ولا تنفر ويسر ولا تعسر) وديننا يسر ولكن في التزام أوامره وأخذ شرائعه أو شعائره أخذها هذا هو اليسر أما(5/132)
(4/32)
---
الفظاظة والقسوة والغضبة والعبوس في الوجه فهذا ينفر من حال الداعية ويجعل الناس لا يستجيبون طبعاً بدون تفريط لا المسألة لها ضابط أيضاً بدون تفريط لا نخالط الناس في باطلهم حتى يسمعوا كلامنا في دعوتنا كعلماء بني إسرائيل كانوا يناصحون الناس لا تشربوا الخمر لا تزنوا لا تفعلوا كذا ثم يؤاكلونهم ويشاربونهم ويجالسونهم أنت ماذا تفعل هذا حرام يا شيخ حرام عليك هذا لا يجوز، تعالى تعالى نأكل ويأتي بالأكل، أما سمعت ما حصل؟ ويحكي له قصة ويجلس معه أتذهب معي إلى المكان الفلاني؟ ويذهب معه فلعنهم الله تعالى وقال: ? كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ? [المائدة: 79]، مع أنهم نهوا أو نهى بعضهم بعضا فتناهوا لكن مع اعتبر الله بهذا التناهي ولا أعده أو ولا اعتبره تناهياً ولا نصيحة، إنما قال ? كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ? لأن هذا التناهي لا يأتي بثمرة فلا بد أن ينضبط الأمر فنبش في وجه الناس ونيسر لهم ونبشرهم بالخير ولكل مقام مقال كما قيل في ذلك، وتعلمنا من حياة الدعاة يفيدنا في هذا وأن نتعلم تقديم الشيء على الآخر لأن هذا أولى من ذاك هذا والله أعلم.
4- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما دمت أتابع الدروس عن طريق قناة المجد العلمية هل من الأفضل لي أن أحفظ كتاب الله –تعالى- برواية حفص، أم أستمر بالحفظ برواية ورش مع العلم أنني درست قواعد التجويد الخاصة برواية ورش لمدة ثلاثة سنوات والحمد لله؟
(4/33)
---(5/133)
أختنا الكريمة، أسأل الله أن يعافينا وإياكِ وطلبة العلم جميعاً من التردد، فالتردد أمر يقطع طريق طلب العلم، إنما انظري الأولى، والأحب إلى النفس، الأولى أولاً والأحب إلى النفس أو الأرغب إلى النفس ثانياً من العلوم، قراءة ورش أو حفص، كلها خير، لكن خذي جهة، وحددي الغرض إن كان قومك يقرؤون بقراءة ورش تعلمي قراءة ورش أولاً أو رواية ورش أولاً وإن كان قومك وأهلك يقرءون بقراءة حفص عن عاصم، فخذي بهذه القراءة خذي بقراءة قومك أولا تعلميها وانشديها واحفظيها ودققي فيها حتى إذا انتهيتي انطلقي إلى أي قراءة أخرى وأرجو لو أعانك الله -سبحانه وتعالى- نسأل الله أن يعيننا وإياك والجميع أن تأخذي قراءة من القراءات المهجورة فورش عن نافع ربما كانت كثيرة وهكذا القراءة الثانية خذيها من القراءات غير المعروفة حتى تحفظ كل القراءات في الأمة بك وبغيرك وبهذا وذاك كل يحفظ قراءة ، مع العلم ولعلك تعلمين هذا أن المسلم والمسلمة لا يطالب بأكثر من قراءة ولا بأن يجمع القراءات كلها لكن إذا جمعها فخير وبركة جمع بعضها فلا مانع اكتفى بقراءة واحدة قال النبي -عليه الصلاة والسلام- (بأيها قرأت أجزأك) وقال ( كلها كاف شاف) فخذي قراءة قومك أولاً وأتقنيها ثم ثني بقراءة أخرى ثم ثلثي بقراءة بعدها وهكذا قراءة فقراءة لكن بداية بقراءة قومك، لأن هذه هي التي تسمعينها من الناس، وربما تعلمينها لغيرك والناس يطلبون تعلمها وكذلك في العلوم أيضاً واحد يقول: أتعلم علم الحديث أولاً ثم تجد بعد ذلك يقول التفسير جميل، ثم ينطلق من التفسير فيقول: لا.. لا.. علم العقيدة هو الأساس وهكذا. لا مانع أن نجمع هذا مع هذا، من كان عنده جهد ووقت وفراغ وهمة فليجمع إن كان يستطيع وإلا فليبدأ بأي علم ترغب فيه نفسك ويكون أسرع في تحصيله، ثم بعد ذلك يأتي بعلم ثانٍ وثالث ورابع وهكذا كما فعل علماؤنا -رحمهم الله تعالى- علمنا الله وإياكم الخير.
(4/34)
---(5/134)
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه الحلقة على الإخوة والأخوات من طلبة الأكاديمية العلمية حتى يستطيعوا الإجابة عليها في الدرس المقبل - إن شاء الله -.
أثناء المذاكرة نحاول أن نعد الجواب على هذه التساؤلات التي تذكرنا بما قيل أثناء المحاضرة أو ببعضه.
السؤال الأول: كيف تستفيد كداعية من خلال آيات هذه المحاضرة؟
السؤال الثاني: اذكر شيئاً -شيئاً يعني ما يحضرك وما تستطيعه فليس له حد معين- اذكر شيئاً من ملامح دقة الحوار وأدبه كما عرضه القرآن بين موسى وفرعون؟ طبعاً في حدود هذه الآيات؟
ثالثاً وأخيراً: حتى لا نشق عليكم، ما فائدة الذكر للداعية؟ ما فائدة ذكر الله للداعية؟
ونسأل الله تعالى أن يفهمنا وإياكم العلم وأن يلهمكم حسن الجواب وشكر الله لكم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
(4/35)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (5) طه ( الآيات 57- 67)
التفسير
الدرس الخامس
طه : 57 : 67
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه وبعد:
ففي هذه المحاضرة - بعون الله تعالى- نتناول الآيات من سورة طه من الآية السابعة والخمسين، وحتى الآية السادسة والسبعين وهذه الآيات المباركات حوت موضوعات ثلاثة بارزة:
الموضوع الأول: رد فرعون – اللعين- لمعجزة موسى -عليه السلام-.
الموضوع الثاني: يوم الزينة وما وقع فيه.
الموضوع الثالث ? فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?.
(5/1)
---(5/135)
وفي النهاية دروس وعبر من خلال هذه الموضوعات نتعايش مع الآيات من السابعة والخمسين إلى السادسة والسبعين بعد ما نستمع إلى قراءتها من أخينا عبد الرحمن ? قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى?57? فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَانًا سُوًى?58?قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى?59? فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى?60? قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى?61? فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى?62? قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى?63? فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى?64? قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى?65? قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى?66? فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى?67? قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعْلَى?68? وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى?69? فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى?70? قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ(5/136)
(5/2)
---
عَذَابًا وَأَبْقَى?71? قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ?72? إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى?73? إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى?74? وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُل?75 ? جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى? [طه: 57: 67].
نسأل الله - تبارك وتعالى- أن يجعلنا من أهل الجنات والدرجات العلى.
موقف فرعون من معجزة موسى -عليه السلام-:
(5/3)
---(5/137)
في هذه الآيات المباركات موضوع أول وهو: موقف فرعون من معجزة موسى -عليه السلام- وهي معجزة باهرة وخاصة المعجزة الكبرى "العصا" ووصلاً بما سبق كنا قد وقفنا عند قول الله تعالى ? وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى? [طه: 56] قدم موسى تعريفاً كاملاً وعظيماً بالله - سبحانه وتعالى- ليعرفه فرعون بالعظمة والقوة والغلبة والهيمنة والواحدانية والإنعام والإكرام ليخضع ويؤمن ويتزكى، لكنه رغم الدعوة اللينة، رغم الآيات المعجزة إلا أنه كذب بكل ذلك وأبى الإيمان ورفضه، فتواصل الآيات بيان هذا الموقف حيث قال فرعون لموسى: ? أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ? اتهمه أولاً: بأنه جاء بسحر ولم يأتِ بمعجزة لما رأى بين السحر والمعجزة من انقلاب الصور فظن أن ما فعله موسى هو تحويل للشكل الظاهر في الشيء أو تخييل للعين فعل عجيب كما تعود من السحرة فلهذه الشبهة وصف فرعون -عليه اللعنة- معجزة موسى -عليه السلام- بأنها سحر واتهمه كذلك بتهمة هو منها براء، اتهمه بأنه جاء لينازعه الحكم والملك والأرض، التهمة التي يتهم بها الداعي إلى الحق دائماً، وما هو كذلك إنما بعثه الله لينقذ بني إسرائيل من تحت سلطان فرعون الظالم، وبعد أن ادعى عليه هذا أنكر عليه ما يريد أن يفعل قال: ? قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ? ثم توعده بأنه سيأتي بمثل ما جاء به لينازعه أمره وليظهر بطلانه وسحره كما ادعى فرعون -عليه اللعنة- ? فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ ? فلنأتينك: هكذا يذكر الله – تعالى- هذه الكلمة عن فرعون مؤكدة واللام فيها تشير إلى القسم فكأنه أقسم وعزم الأمر على أنه سيفعل ذلك وأنه سيحاد موسى ويضاده بشيء مثل ما رأى وما له ذلك[ذلك له] بمستطاع ولكنه يدعي ذلك، فطلب من موسى أن يفرض وأن يضرب موعدًا في مكان وزمان موحد يكون بينهما ? فَاجْعَلْ بَيْنَنَا(5/138)
(5/4)
---
وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَانًا سُوًى ? فاجعل بيننا وبينك موعدًا لا نخلفه نحن ولا أنت: وهكذا يدعي أنه لا يُخلف الوعد ولأنه يزعم القوة والغلبة ? مَكَانًا سُوًى ? أي مكاناً مستوياً نحن وأنت سواء في ذلك الموعد فلا يخلفه أحدنا ولا يتخلف عنه أو ? مَكَانًا سُوًى ? أي مكاناً مستوياً نلتقي في مكان مستوٍ وفي أرض فضاء بحيث لا يختفي فوقها شيء فيرى الناس كل شيء ويظهر عملك يا موسى ويظهر عملنا وسحرنا ? فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَانًا سُوًى ? وهنا يجيب موسى -عليه السلام- بذكاء عظيم وهكذا دعاة الحق يرزقون الحيلة ولا سيما الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فإنهم يوحى إليهم، فيبدو أن موسى أجاب من عند نفسه ? قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ? اقتراح من موسى -عليه السلام- من فكره من بُنيَّات عقله من تخطيطه وتدبيره ومكره بفرعون كما يمكر به فرعون فاختار موسى يوم الزينة وذكر ابن كثير عن وهب بن منبه -رحمهما الله تعالى- « أن ذلك كان بوحي من الله - سبحانه وتعالى- أن الله - عز وجل- أوحى إلى موسى أن يضرب مع فرعون هذا الموعد أيامَّا كان [أياً ما كان] فهذا هو منطق الحق بوحي من الله أو باستلهام من موسى -عليه السلام- اختار يوم الزينة، ويوم الزينة كان يوم عيد عندهم عند القبط ويقال له: يوم النوروز ثم لمَّا عُربت الكلمة صارت يوم النيروز، وهو يوم عيد وهو أول يوم في عامهم كانوا يحتفلون فيه ويجتمعون فيه ويكون بينهم من البيع والشراء والمتاجرة كالسوق الكبيرة ويترك الناس أعمالهم وأشغالهم وهكذا يجتمع الناس بطبيعة الحال، اختار موسى -عليه السلام- هذا اليوم بالذات وكان موافقاً كما ذكر ابن كثير -رحمه الله - عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه كان موافقاً ليوم عاشوراء من الأشهر القمرية وكما(5/139)
جاء في
(5/5)
---
الحديث الصحيح (أنه هو اليوم الذي أهلك الله فيه فرعون) أيضاً يوم أن أهلكه يوم عاشوراء.
اختار موسى هذا اليوم ليجتمع الناس بل اشترط ذلك ونص عليه ? قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ? وسمي بيوم الزينة؛ لأنه يوم عيد - كما عرفنا- فكانوا يزدانون له ويتخذون الزينة في بيوتهم وشوارعهم وهكذا فسمي بيوم الزينة، ? وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ? أي أن يجمع الناس، صاحب الحق لا يخاف من المواجهة وصاحب الباطل يعميه غروره وعنفوانه فلا يرى فلم يدرك فرعون لماذا اختار موسى يوم الزينة حتى يرى الناس جميعا هذا الإفضاح لأمر فرعون ولألوهية فرعون المدعاة وأنه ليس إلهاً وأن ما مع موسى ليس سحراً إنما هو إعجاز من الله - سبحانه وتعالى- ونظير ذلك في غلام بني إسرائيل الذي أراد أن يقتله الملك حين لم يتمكن منه ونجاه الله – تعالى- بالدعاء قال الغلام للملك: أتريد أن تقتلني قال: نعم قال: اجمع الناس في فناء القصر ثم أقف لك هناك عند الشجرة وتضربني بسهمك أو ترميني بسهمك وتقول بصوت مسموع: بسم الله رب الغلام، ولم يفطن الملك بملكه وعنفوانه، وهيلمانه، لماذا اختار الغلام جمع الناس مع أنه سيقتل، ذلك لأن داعي الحق يريد أن يعرف الناس يريد أن يعلن على الناس الحق من الباطل وكل يختار ما شاء، فيكون قد دعا إلى الله - عز وجل- دعوة عامة عظيمة وفعلاً كان موسى -عليه السلام- هكذا بهذا الذكاء وبهذه الحيلة بعيدة المدى فقال: ? وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ? ومن ثقته بربه لأنه على نبوة صحيحة صادقة قال: ضحى: والضحى جزء من النهار، ساعة من النهار هي أوضح ساعات النهار رؤية ففيها الشمس بضوئها اللطيف، ربما في الظهيرة لا يستطيع الإنسان الرؤية كاملة من شدة أثر حرارة الشمس وأشعتها على العين وربما في الأصيل وفي آخر النهار لا يستطيع أيضاً الرؤية - كما ينبغي- لقدوم الليل، لكن هذا هو أول النهار وظهور الشمس في(5/140)
الضحى ألطف أوقات
(5/6)
---
اليوم فلذلك اختاره موسى ليكون الأمر بارزاً ظاهراً لا خفاءَ فيه ? وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ? وانتهى هذا الاتفاق بين موسى - عليه السلام- وبين فرعون -عليه اللعنة- ورضوا هذا الموعد وأن يكونوا في مكان سواء بينهم.
الموضوع الثاني: يوم الزينة
انطلق فرعون بسرعة وهذا هو الموضوع الثاني: يوم الزينة، الإعداد له: انطلق فرعون دون توانٍ ولا تراخٍ للإعداد لذلك اليوم فإنه سيجمع السحرة وكان يكفي أن يأتي بأبرز السحرة بأقواهم بأعلمهم ومما ينبغي أن أنبه إليه هنا أن السحر في حياة الناس قديماً وفي أيام القبط وفي أيام الفراعنة كان أمراً رائجاً شائعاً محموداً، بل كانوا يصفون الساحر بالعلم، فطلب فرعون أن يأتوه بكل ساحر عليم وبنو إسرائيل قالوا: ? وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ? يطلبون منه الدعاء كيف يقولون: ساحر ويطلبون منه الدعاء قصدوا: يا أيها العالم يا أيها الساحر الذي بلغ في سحره العلم ودرجة العلم ادع لنا ربك حينما ضاقت بهم الضائقة طلبوا منه ونادوه بهذا النداء؛ لأن السحر ارتبط في ذهنهم بالعلم وهذا يكون في الجاهليات عموماً عندما يجهل الناس بدين الله ويجهلون بالفارق بين العالم والجاهل والعالم وغيره، حتى في أيامنا هذه ربما يزعم كثير من الناس أن الساحر هذا عالم ولذلك يقال: فلان يعرف ماذا يعرف؟ لا يعرف شيئاً إنما هو يخمن، إنما هو يظن، ويخرص بالقول، لكن يدعي الناس أن فلاناً يعرف الأشياء المغيبة والأشياء الضالة الضائعة ويعرف ماذا في بيتي وماذا يجري لي في سري وفي نجواي، وهذا كفر بالله أو شرك بالله -والعياذ بالله- لأنه ادعاء بأن الساحر يعلم الغيب -والعياذ بالله- وهذه كبيرة من الكبائر نعوذ بالله منها.
(5/7)
---(5/141)
فهنا فرعون تولى بسرعة والله تعالى يقول: ? فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ? فتولى هذه الفاء حرف العطف: تدل هذه الفاء على السرعة على الترتيب والتعقيب أنه بسرعة وفي عقب ما اتفق مع موسى -عليه السلام- خرج مسرعاً وأصدر أوامره وبعث رجاله وجنده إلى أنحاء مصر ليأتوه بكل ساحر عليم حتى جمعوا له عدداً غفيراً كبيراً قال فيه- كما ذكر ابن كثير- محمد بن كعب القرضي -رحمه الله تعالى- قال: كانوا ثمانين ألفاً وقال قاسم بن أبي بزة: كانوا سبعين ألفاً وقال السدي: كانوا بضعاً وثلاثين ألفاً وقال الثوري عن أبي ثمامة: كانوا تسعة عشر ألفاً وقال ابن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفاً وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهذا أصح: أنهم كانوا سبعين رجلاً. وهذا يكفي لمناظرة ساحر أو رجل واحد، هو ساحر في نظر فرعون –اللعين- يكفي في مناظرته أن يُجمع عليه سبعون ساحرًا وسبعون رجلاً من أهل هذا الفن، لكن هذه الأعداد كلها أقوال لا تهم في الموضوع ولا تقدم ولا تؤخر المهم أنهم كانوا كثرة كبيرة وعدداً عظيماً أراد فرعون أن يقابل بهم معجزة موسى -عليه السلام- أيَّمَّا كان العدد فإن فرعون جاء بهذا الحشد العظيم ولهذا تجد الفعل الأخير معطوفاً بـ (ثم) ? فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ? فتولى بسرعة فجمع بسرعة ? ثُمَّ أَتَى ? فجمع كيده أي ما يكيد به لموسى -عليه السلام- من تصديه له بالسحر والسحرة، ثم تدل على الترتيب والتراخي أي البعد والمسافة قد تكون مسافة حسية في الزمان أو المكان وقد تكون مسافة معنوية يسمى البعد الرتبي أي بعد في الرتبة فالأمر المعطوف عليه- الأمر الذي بعد "ثم"- هذا يكون أكبر في القدر والقيمة أو في الخطر والشأن من الأمر الذي قبلها، فلأن فرعون حين ذهب وإن كان بسرعة وأصدر أوامره وبعث رجاله لكن هذا استغرق وقتًا بلا شك في زمانهم استغرق وقتاً وزماناً ولو(5/142)
(5/8)
---
بضعة أيام فهنا قال: ?ثُمَّ أَتَى? أي جاء إلى الموعد الموعود وقالوا: كان هذا الموعد بعد الاتفاق بحوالي أربعين يومًا إذن مجيء ثم هنا مناسب جداً ويدل على فصاحة القرآن ودقة التعبير فيه، قال تعالى ? فَتَوَلَّى? لأنه كان بسرعة ?فَجَمَعَ? لأنه كان بسرعة ?ثُمَّ أَتَى? لأن هناك فترة زمانية بين الموعد وبين الاتفاق عليه أو لأن مجيء فرعون بنفسه ليحضر هذا اللقاء ومجيئه بسبعين رجلاً أو أكثر من ذلك هذا أمر كان أعظم من أنه ذهب يجمعهم كونه ذهب يجمع السحرة هذا أمر هين لكن كان أكبر منه في نفوس الناس وأعظم منه في واقع الأمر أنه يأتي بنفسه ويجلس على كرسي ملكه ويقف حوله الحراس والحشد ويصطف السحرة وهكذا هذا كان في القيمة والمنظر أخطر وأعظم ولذلك عُطف هذا الأمر بحرف: ثم ? فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ?.
(5/9)
---(5/143)
وعند ذلك استقبلهم فرعون وحثهم ولكنهم جاءوا يؤدون عملاً مقابل أجرة ? أَإِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ?41?قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ? [الشعراء: 41، 42] أخذ يمنيهم بالعطاء والتقريب منه وأنهم ستكون لهم مكانة عظيمة ويأخذون العطايا والهدايا لو أنهم غلبوا في هذا اليوم ولكن موسى -عليه السلام- قام يعظ رغم رهبة الموقف وبطش فرعون وظلمه وشدة المعارضين له وكثرتهم إلا أن الدعوة لا يمنعها شيء لتبلغ كلمة الله إلى كل إنسان فقال موسى لهم: ? قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ? الويل: هو العذاب الشديد في جهنم -والعياذ بالله- كما قال الله تعالى: ? وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ? [الهمزة: 1] ? وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ? [المطففين: 1] ويلكم يعني: يا ويلكم والويل لكم إن تبعتم فرعون ? لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا ? الافتراء هو الاختلاق اختلاق الكلام اختلاق الشيء وادعاؤه كذباً اسمه افتراء من الفري وهو القطع فالافتراء شيء مقطوع لا أصل له أو لا يمت إلى أصل لا تفتروا على الله كذباً ?فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ? الإسحات: هو الإهلاك هلاكاً كاملاً حتى لا تبقى بقية فيسحتكم بعذاب أي فيهلككم هلكة لا تبقى منكم بقية بعدها، وهنا يقول: ? بِعَذَابٍ? وهي كلمة نكرة والتنكير هنا للتعظيم أي بعذاب عظيم، ? وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ? وقد خاب: أي خسر من افترى: عموماً الافتراء جريمة لا ربح فيها ولا كسب منها إنما عاقبتها الخيبة دائماً.
(5/10)
---(5/144)
لما قال لهم موسى ذلك هؤلاء السحرة كانوا هم كلهم أو بعضهم على الأقل كان في قلوبهم خير ولكن نشأوا في هذا الجو وتعلموا السحر بأمر من فرعون أمر باختيار عدة رجال وتعليمهم السحر تعليماً عظيماً لا يعلمه أحد حتى يكونوا سحرة له في ملكه وفي حياته فأكرهوا على هذا العمل ففي قلوبهم خير ولكن البيئة التي حولهم لم تساعدهم على هذا الخير ولم تظهره من قلوبهم فبان منهم الشر فلما كلمهم موسى -عليه السلام- بهذه الموعظة كأنهم خافوا كأنهم اضطربوا في موقفهم ولكن كيف يرجعون عن هذا الأمر وفرعون أمامهم وبطش فرعون معروف وهذا أمر ملكي من فرعون فعصيانه عندهم مخيف ومرعب وثقتهم في موسى مجرد شبهة، كلامه مقنع، كلامه جميل، كلامه حق، ولكن ليسوا على يقين لم يروا معجزة بأعينهم ولذلك تراجعوا خوفاً من فرعون بعد أن قال لهم هذه الموعظة ? فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ ? أي اختلفوا قال بعضهم: هذا ساحر وقال بعضهم: لا.. هذا نبي قال بعضهم: هذا لا ساحر ولا نبي. اختلفوا في شأن موسى -عليه السلام- ولكن انتهوا في النهاية إلى اتفاق على شيء واحد وذلك أنهم يجمعون كيدهم وسحرهم وأن يأتوا صفاً واحداً في مقابلة موسى حتى يستطيعوا مواجته، ?وَأَسَرُّوا النَّجْوَى? أخفوا هذا الكلام فيما بينهم ?قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى? يعني نعم: هذان ساحران إن: هنا قول للعلماء بأن معناها نعم وأجل وبالتالي فلا إشكال في الإعراب، أو ? إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ? أي: ما هذا إلا ساحران وهذا على لهجة في العرب كانوا يستعملون كلمة هذا على وضعها سواء أفردت أو ثنيت أو جمعت لا يغيرونها بعلامات الإعراب فلا تنصب وتجر بالياء إنما تبقى على حالها هكذا فلم تؤثر فيها إن عندهم وفيها قراءة أخرى قراءة صحيحة بتشديد نون [إن] ? إِنَّ هَذَينِ لَسَاحِرَانِ ? وهذا هو الوجه
(5/11)(5/145)
---
المشهور عندنا في اللغة العربية عندنا نحن أهل هذا العصر وإلا فعند العرب وجوه أخرى مشهورة ومعروفة ولكن هذا هو الذي يعرفه الناس ولذلك يشبه بعض المغرضين على القرآن بأن هذا خطأ في لغة القرآن ? إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ? كان ينبغي أن يقال: إن هذين لساحران لا.. هذه لهجة في لغة العرب وفيها قراءة إنًّ هذين على المشهور فيما نعلم من اللغة فهذا موجود وهذا موجود.
وقال بعض العلماء: إنَّ إن هنا بمعنى أجل ونعم في استعمال بعض العرب كانوا يستعملوان إن بمعنى أجل ونعم هذان لساحران واللام للتأكيد ?يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَ? نلاحظ هنا أن السحرة وهم كفرة إلى تلك اللحظة قالوا: ?يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ? دائماً الكفرة ينسبون الأرض إليهم ولا ينسبونها إلى الرسل وإن كانوا منهم موسى مولود في مصر وعاش في مصر فترة طويلة وخدم فيها هو وأهله وقومه خدمة عظمية ومع ذلك ينفون عنه نسبته إلى مصر وقبل ذلك الرسل جميعاً كان الكفار يقولون لهم: ? لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ? [الرعد: 13] لنخرجنكم من أرضنا مع أنها أرض الرسل أيضاً فمكة بلد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي ولد فيه وعاش فيه وتربى فيه ونشأ فيه وهي أحب بلاد الله إلى الله وإلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك أخرجوه منها وهكذا.
(5/12)
---(5/146)
? يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى? تنوعت كلمات المفسرين من السلف حول كلمة ?بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى? ما المراد بها، لكنها كلمات لا تتعارض، كلمات في مجملها تصف الطريقة المثلى كلها، البعض قالوا: ويذهبا بطريقتكم المثلى في السحر فيكون موسى وأخوه أسحر منكم وأمكن منكم في السحر وبالتالي ينالون الوجاهة والقربة والعطاء عند فرعون بدلاً منكم، وقالوا: الطريقة المثلى هي الوجاهة بين الناس والسمعة- كما قلنا الآن- كانوا يقولون عن الساحر: عالماً، كانوا يقولون عن الساحر إنه عالم بل يصفونه بأنه عليم مبالغة في علمه، وقال البعض: إن الطريقة المثلى مقصود بها الملك والمال والرياسة في البلاد ظنوا هذا، فقالوا: ? وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى?وما كان موسى وأخوه هارون -عليهما السلام- يسعيان لشيء من هذا أبداً إنما أرادا إظهار الحق وتبليغ رسالة الحق إلى من وجههم الله -تعالى- إليهم هذا كان هدفهم ? وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى? يقول بعضهم لبعض سراً: ?وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى? إن استعليتم أنتم وكنتم الأعلى أو الأعلين تكونون أنتم المفلحين وإلا أخذها منكم موسى وهارون فقد أفلح اليوم من ما استعلى ثم انطلقوا إلى موسى وبدأت المواجهة في هذا اليوم وهو يوم الزينة.
(5/13)
---(5/147)
بدأت المواجهة فقال السحرة لموسى -عليه السلام-: ? قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ? العرض فيه دهاء وفيه خبث وفيه حب ورغبة في البدء أولاً، قالوا: يا موسى إما أن تلقي وإما أن نلقي. هذا هو الواجب لكن قالوا: وإما أن نكون أول من ألقى كما في آية أخرى: ? وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ? [الأعراف: 115] أي الملقين أولاً والسابقين بالإلقاء فقال لهم موسى: ما يريدون، أعطاهم ما يريدون ? قَالَ بَلْ أَلْقُوا ? لن ألقي ولكن ألقوا أنتم فألقوا ما في أيديهم من حبال وعصي كل واحد منهم كان معه حبل وعصا ألقوه في ميدان واحد فكان شيئًا عظيماً ضخماً وكانوا قد جعلوا عليه شيئًا من الزئبق مع حرارة الشمس بدا الشيء كأنه يتحرك، بدت الحبال والعصيان كأنها تسعى كالحيات والثعابين فخاف المشهدُ كله حتى أصاب الخوف موسى -عليه السلام- وخيلوا للناس أن هذه حياتٌ تسعى وتتحرك فخاف الناس منها كما قال تعالى: ? سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ? [الأعراف: 116]، وهنا ? يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ? خيل إلى موسى -عليه السلام- كما خيل إلى غيره، من سحرهم ومن شدة سحرهم ومكرهم أنها تسعى ? فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ? خاف ألا يستطيع مواجهة هذا الكم الكبير. هو لا يشك في ربه ولا في إمداد ربه - سبحانه وتعالى- ولكن إن أصابه الخوف فمن نفسه هو، من غلبة هذا الموقف وشدته. وقال ابن كثير -رحمه الله- وهذا تفسير يبعد الأمر عن الشبهة قال: « إنما خاف على الناس من أن يفتتنوا بهذا التخييل فيظنوا أن السحرة علماء وعلى حق فيفتنوا بهم ويتبعوهم ولا يتبعونه هو » إذن: احتمال أن تكون الخشية من هذا السحر فموسى بشر والسحر يخيل إلى العين شيئاً غير الحقيقة فلما رأى حيات كثيرة وبدا في عينه ثعابين تتحرك خاف كأي إنسان كما(5/148)
(5/14)
---
خاف في المرة الأولى حينما قال الله له: ? أَلْقِهَا يَا مُوسَى?19? فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ?20? قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى? [طه: 19: 21]، فهذا خوف فطري ولكن ما لبث أن أمنه الله وطمأنه وما قاله ابن كثير يعتبر أرجح وأحسن وهو: « أنه خاف على الناس من أن يصدقوا السحرة وأن يفتنوا بما جاءوا به من سحر عظيم » فأوحى الله إلى موسى -عليه السلام- ? قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعْلَى?.
(5/15)
---(5/149)
قضية مسلمة وقولاً واحداً إنك أنت الأعلى هذه جملة مؤكدة بالمؤكدات اللغوية يفهم منها موسى -عليه السلام- وعداً صادقاً من الله - عز وجل- وإن كان الأمر لا يحتاج إلى تأكيد ولكن الله يطمئن رسوله موسى ويثبت قلبه على أنه سيعلو فوق السحرة ? وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ? ماذا في يمينه ? وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى? هي العصا التي سبق ذكرها ? وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ? أي: تلتهم بسرعة كل ما صنعوا ? إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ? إنما صنعوا أي: إن الذي صنعوه هذا كيد ساحر، ليس أمراً حقيقياً وليس حقيقة يعتمد عليها ولكنه مجرد كيد، تخييل مكر وخداع، ? وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ? ولا يفلح الساحر: قال ابن كثير: « ولا يصدق حيث جاء أو حيث وجد » في أي مكان الساحر يوجد فيه فإنه لا يصدق ولا يفلح هذا بين أهل الدين، بين أهل الإيمان، بين من معه شيء من الحق لو قدر أن جلس في مجلسك ساحر ولكنك أنت لا تجلس إليه ولا تذهب إليه لكن قدر أن جلس إليك ساحر أو وجد في مجلسك ساحر فاقرأ في نفسك سورة الفاتحة- آية الكرسي- قل هو الله أحد- المعوذتين- ما تيسر من القرآن ماتيسر من ذكر الله - عز وجل- من الأذكار فإن ذلك يعطل عمله ويفسد خطته ويغيب خادمه الذي يعتمد عليه شيطانه لا يستطيع الشيطان أن يحضر في مجلس يُقرأ فيه قرآن ولو في نفس الإنسان ولو في السرِّ وفعل ذلك الإمام ابن تيمية -رحمه الله - مع رجل أذيع عنه أنه يطير في الهواء فذهب إليه ليرى كما ورد إليه الخبر وهناك طار الرجل كما كان يطير في الهواء وفجأة على غير ما تعود الناس سقط الرجل مرة واحدة من فوق على الأرض فضج الناس بالسؤال ما هذا؟ ما الذي حدث؟ قال لهم: قرأت في نفسي سورة الفاتحة فخلا به شيطانه في الهواء فسقط أو فهوى، لا يقوى الشيطان على حضور مجلس فيه قرآن ولو في القلب، ولذلك الساحر حيث وجد لا يُفلح(5/150)
(5/16)
---
سحره أبداً ? وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ? ولا يصدق إنما يصدقه أهل الجهل وأهل الضلال نعوذ بالله من ذلك ? وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ? روى في ذلك الإمام ابن أبي حاتم والإمام الترمذي عن جندب بن عبد الله البجلي -رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أخذتم الساحر فاقتلوه، ثم قرأ ? وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ? قال: لا يؤمَنُ به حيث وجد) ذكر هذا الحديث الإمام ابن كثير- رحمة الله تعالى عليه- وهنا ينتهي الموقف الثاني والموضوع الثاني عند التهام عصا موسى لكل ما ألقاه السحرة، وكان العجب أن التهمت العصا وهي على شكل ثعبان كبير، ذكر ابن كثير -رحمه الله- أنه كان تنيناً عظيماً ضخماً له قوائم، من عادة الثعبان أو الحيات أنها تزحف لكن كان هذا له قوائم، وكان له أضراس، وله رأس عظيم وكبير، فالتهم كل هذا، ثم عاد إلى سيرته الأولى عصًا وأخذ موسى عصاه، دون أن تتضخم دون أن يحدث لها شيء، هي العصا القديمة المعتادة التي كانت معه فأين ذهبت حبال وعصي السحرة الكثيرة ؟ بهذا الشكل العظيم فكانت آية مبهرة وآية معجزة ظهر للسحرة أنها ليست سحرًا وأنها ليست تخييلاً وإلا فالساحر يعرف صاحبه، ويكشفه ويفضحه ولكن رأى السحرة شيئاً لم يعهدون ولم يعرفوه في السحر فلذلك ما كان منهم إلا أن آمنوا. وهنا نعنون لهذا الموضوع ولهذه الآيات المتبقية بقول الله -تعالى-:
? فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [الأعراف: 118].
(5/17)
---(5/151)
عند ذلك آمن السحرة سحرة فرعون، آمنوا بموسى وبمعجزته، إيماناً عجيباً له الدهشة، وفيه الغرابة ذلك أنهم ألقوا لِتوِّهِمْ وبسرعة حينما رأوا آية موسى ? فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا ? الفاء تدل على السرعة -كما قلنا- وعلى التعقيب فكأنهم لم يتوانوا، لم يفكروا، لم يتراجعوا أو يترددوا كما فعلوا عندما وعظهم موسى في بداية الموقف وفي أول النهار ولكن عندما رأوا هذه الآية أيقنوا أنها معجزة من عند الله -تبارك وتعالى- ? فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا ? سجوداً لله -تبارك وتعالى- خضوعاً لموسى اتباعاً له مؤمنين به وبالحق الذي جاء به، قالوا: لم يكن فعلاً فقط، أو حركةً فقط، بل كان بالحركة وبالقول: ? قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ? هنا قد يتساءل البعض لماذا قدم هارون على موسى في هذا المقام، وفي آية آخرى ? قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ?47? رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ?48? ? [الشعراء: 47، 48]، يقول المفسرون عن مثل هذا: إنه مراعاة للفاصلة، ربما نجد هذه العبارة في بعض الكتب المطولة، تأخر ذكر موسى مراعاة للفاصلة، الفاصلة: هي آخر جملة في الآية وآخر حرف في هذه الجملة تسمى أيضاً الفاصلة، فاصلة الآية فتطلق على الجملة وعلى الحرف فاصلة هذه السورة سورة طه، ? طه ?1? مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ?2? إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَّخْشَى ?3? ? ? فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ? فلو قال: برب موسى وهارون اختل الوزن وزن الكلام ونسقه الجميل لم يكن على نفس الوتيرة فأجمل في الإيقاع على الأذن أن تكون هكذا- هارون وموسى- وفيما أرى -والله أعلم- أن هذا يعني أمر ظاهر ولكن في القرآن ما هو أبعد من ذلك فالله ? عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [الملك: 1]، قادر على أن يوفق الفاصلة دون تأخير ولا تقديم فيقدم موسى لأنه هو الرسول الأصلي ويؤخر ذكر هارون لأنه(5/152)
(5/18)
---
هو النبي التابع دون أن يحتاج إلى مراعاة فاصلة فالفاصلة يمكنه - سبحانه وتعالى- ? وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [الملك: 1] أن يأتي بها منتظمة متناسقة، ولكن أقول دائماً: إن في مثل هذا التقديم والتأخير سرًا ينبغي أن يتدبر وينبغي أن يلتفت إليه مع القول بمراعاة الفاصلة، تقديرًا لقول علمائنا- رحمهم الله تعالى-.
وذلك في هذا الموقف كأن السحرة يعاندون فرعون بإيمانهم أو يريدون أن يخبروا بخبرٍ مبالغ فيه عن إيمانهم، قالوا: ? قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ? موسى رسول نعم، وهارون هذا هو الأمر الطبعي التلقائي لكن نحن آمنا برب هارون قبل موسى، فهارون ليس رسولاً، ليس مؤيدًا بالمعجزات، إنما ذلك لموسى، فآمنا بالنبي التابع، ومن باب الأولى، آمنا بالنبي الأصلي وبالرسول صاحب الرسالة فكان في تقديم هارون هنا تنبيه على تمكنهم من الإيمان وعلى إيمانهم الكامل بموسى وهارون ولذلك نقدم هارون أولاً، على ذكر موسى -عليه السلام- والله أعلم بالحكمة البالغة هذا ما يبدو والله أعلم بحقيقة الأمر، لكن لله حكمة في مثل هذا التقديم والتأخير دائماً.
(5/19)
---(5/153)
? قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ? قال فرعون وقد أُسقط في يده وقد واجه موقفاً عظيماً ما كان يتوقعه أن ينفصل عنه جنده، إلى الجهة الأخرى وإلى خصمه فهذا موقف لا يحسد عليه، موقف مهين جدًا، ولذلك قام بطغيانه وقام بأوتاده وقوته يعارض أهل الإيمان، إذن: كنت من ذي قبل ومنذ لحظات كنت تعتقد أن هؤلاء علماء وسحرة وجئت بهم قوة لك فلماذا الآن تنكر قوتهم وعلمهم؟، فواجههم وقال: ? قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ? الآن صار موسى ساحرًا وهم سحرة أيضاً، ?الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ? وأخذ يتوعدهم بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسوف يصلبهم في جذوع النخل ليعلموا شدته وقوته ? أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ? وهكذا ولكن كل هذه التهديدات المخيفة الرعيبة لم تؤثر في السحرة. وإيمانهم وليد الساعة وليد اللحظة إيمانٌ لم ير إلا آية واحدة و، لكنها آية معجزة مبهرة ولهذا قالوا: ? قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ? لن نؤثرك يعني لن نفضلك ولن نقدمك على ما جاءنا من الحق من هذه المعجزة والرسالة التي مع موسى والذي رأيناه بأعيننا وعرفناه بعلومنا لن نؤثرك عليه ? وَالَّذِي فَطَرَنَا ? أي: قسماً بالذي فطرنا نقسم على ذلك وهو الله - سبحانه وتعالى- وهنا أدركوا أن الله – تعالى- هو الذي فطرهم وخلقهم لأول مرة وانزاحت عنهم الغشاوة التي كان يجعلها فرعون على قلوب العباد في القبط.
? لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ? أو لن نؤثرك على ما جاءنا من الحق كما أننا لن نؤثرك على الله الذي خلقنا وأنت لم تخلقنا فسنفضل الله دائماً عليك ونقدمه عليك فهو الرب الحقيقي وهو الإله الواحد الأحد لا شريك له فلن نقدمك عليه أبدًا.
(5/20)
---(5/154)
? فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ? افعل ما تشاء ? إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ? ماذا تفعل بنا؟ تقتلنا؟ سنموت بك أو بغيرك على يدك أو على يد غيرك، سنموت، الموت نهاية الحياة، في الدنيا، ? فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ? أي: ما أنت قاضيه، افعل ما تشاء، بنا فلن يردنا هذا عن إيماننا ? إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ? قضاؤك وحكمك وقوتك في الدنيا فقط، أما الآخرة، فهذه لا تملك فيها شيئاً وهي الدار الحقيقية والحياة الأبقى، ? إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? نحن آمنا لكي يطهرنا الله ويزكينا من الخطايا وما أكرهتنا عليه من جريمة السحر، الجريمة التي تستوجب القتل، آمنا بربنا ليطهرنا من هذه الذنوب وليرضى عنا وليقبلنا عبيداً له مخلصين موحدين، ذلك؛ لأن الآخرة فيها جنة ونار، -سبحان الله- انقلب السحرة إلى دعاة ودعاة في وجه من؟ في وجه فرعون، بكل قوة وبكل حزم، وبكل أدب، دون تسفيه ولا تجهيل. قالوا: ?إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى? من يأت ربه مجرماً يعني يوم القيامة أما من أجرم في الدنيا وتاب إلى الله –تعالى- وجاء إلى ربه في مسجد أو في خلوة وقال: يا رب أذنبت فاغفر لي، فالله يباهي به أهل السماء (علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت له)، أما الآية فتقصد من يأتي ربه يوم القيامة من يأتي ربه من يأتيه الموت، فقيامة كل إنسان تبدأ من لحظة موته ووفاته، ? إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ? أي كافرًا مشركًا ? فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ? كأنها له لا لغيره لا يشاركه فيها غيره ? فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى ? لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة هنيئة إنما يشرف على الموت ثم يعود إلى الحياة..(5/155)
(5/21)
---
يشرف على الموت ويعود إلى الحياة، ? وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ? [الرعد: 17] ? كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ? [النساء: 56]، وهكذا- نعوذ بالله- ? وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا ? مصدقاً به وبوعده وبرسله وبكتبه ? وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا ? ولعلنا نلاحظ دائماً اقتران الإيمان بالعمل الصالح؛ فلا يقبل إيمان بدون عمل ولا قيمة للعمل على غير إيمان، إنما التلازم قائم بين هذا وذاك، بين الإيمان والعمل الصالح ولذلك عرف العلماء الإيمان بأنه « ما وقر في القلب وصدقه العمل » نعم، وقر يعني: ثبت واستقر دون أن يتزلزل أو يتحرك من مكانه، لأن الوقر هو الحمل الثقيل والشيء الثقيل فإيمان ثقيل ثبت في القلب ووقر فيه، دون أن يخرج منه أو يتحرك من مكانه فلا تحدث ردة بعد إيمان ولا شك بعد ثقة ويقين ما وقر في القلب وصدقه العمل، بالبدن أما أولئك الذين يدعون الإيمان ويقولون: نحن مؤمنون موحدون بالله، وهم لم يركعوا لله ركعة ولا يعرفوا للقبلة جهة، ولا يعرفوا لله حقًا فهؤلاء يعني مخدوعون، يغررون بأنفسهم، ويخدعون أنفسهم، وما يضرون إلا أنفسهم، ويأتي يوم التغابن ليروا نتيجة هذا الخداع، الذي خدعوه لأنفسهم في الدنيا، فعليهم أن ينتبهوا قبل أن يفوت الأوان، ? وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا ? ذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن الإمام أحمد –رحمة الله تعالى عليه- عن عبادة بن الصامت -رضوان الله عليه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة -نسأل الله أن تكون مكاننا ومستقرنا- ومنها تخرج تخرج الأنهار الأربعة والعرش فوقها. إذا سألتم الله(5/156)
فاسألوه
(5/22)
---
الفردوس) وفي الصحيحين (أن أهل عليين وهم الأبرار ليرون من فوقهم -وهم السابقون الأولون- ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء) - كما نرى النجم هناك في أفق السماء العالي، الأبرار في الجنة ينظرون ويرون الذين هم سبقوا ودخلوا الجنة بغير حساب، السابقون الأولون هؤلاء، ? وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ?10? أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ?11? ? [الواقعة: 10، 11]، فالأبرار ينظرون إلى المقربين فيرونهم والمسافة بينهم بالتقريب الذي قربه الله كأنها المسافة التي بيننا ونحن في الأرض إلى نجم غابر في أفق السماء.
(5/23)
---(5/157)
حينما قال السحرة هذا الكلام وواجهوا فرعون بهذه الدعوة الظالم لم يتركهم والطاغية لم يفلتهم ولكن قتلهم وقضى عليهم، وهكذا الظلم والطغيان والكفر دائماً لو تدبرنا حياة الناس في التاريخ عبر الدنيا نجد الكفر يصادر على أعظم حق للإنسانية، وهو حق اختيار العقيدة، الإسلام لا يجبر أحدًا على قبوله إنما يُعرض فقط على الكفار يقبله من يقبله ويرفضه من يرفضه ويوم القيامة يوم الحساب ? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ? [البقرة: 256]، العرض يكون على الكفار فقط، وهكذا جاء الأنبياء جميعاً يعرضون دين الله وشريعته على أممهم ولكن من قبل الإسلام ومن قبل التوحيد لا يجوز له أن يقول: أنا حر أصلي أو لا أصلي أزكي أو لا أزكي، قبلت الإسلام اقبل كل ما فيه، لكن الكفار فقط هم الذين يعرض عليهم الدين أما من انتسب إلى الإسلام فلابد أن يلتزم بكل أوامره، ولذلك كان السحرة ثابتين على إيمانهم لما آمنوا ونفذ فيهم فرعون ما توعدهم به فلم يرجعوا عن إيمانهم فيقول فيهم ابن عباس وغيره -رحمهم الله تعالى ورضي عنهم-: « لما خر السحرة سجدًا رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها » أراهم الله بشرى في سجودهم، وقال بعض السلف أيضاً من التابعين، قال بعض التابعين: « رأوا منازلهم تبنى لهم وهم في سجودهم، أظهر الله لهم أماكنهم في الجنة وهم في سجودهم، لأنه كأنه كان يقتلهم وهم سُجدَّ، أو هم بقتلهم في تلك اللحظة فالله تعالى طمأنهم وبشرهم فقاموا يقولون له هذا الكلام وهذه الدعوة دون خوف أو تردد.
كان هذا من السحرة موقفاً عظيماً جدا وموقفاً إيمانياً ثابتاً يثبت الذين آمنوا ويثبت ضعاف القلوب حينما يتدبرون هذا الموقف وهو إيمان وليد, عمره قصير، لم يؤمنوا إلا الساعة ومع ذلك كان موقفهم بهذا الشكل العظيم.
(5/24)
---(5/158)
هذا حول هذه الآيات من خلال هذه الموضوعات الثلاثة، وفي الآيات دروس يلتفت إليها ويتدبر فيها، - كما أشرنا في التعبير بالفاء وثم في قوله الله تعالى: ? فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ?- هذا يدل على دقة القرآن في تعبيره وعلى عظمة لغة القرآن ولا عجب فإنه كلام الله - سبحانه وتعالى- قول الله – تعالى- ? وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ? الافتراء دائماً والكذب عاقبته وخيمة والنبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاب) فالافتراء عاقبته الخيبة. تنازع السحرة في أمر موسى -عليه السلام- حين اختلفوا وترددوا هل هو نبي هل هو ساحر هذا شأن الكافرين ويعكس لنا حالهم أنهم حين يكفرون لا يكونون على أرض ثابتة ولا يكونون على عقيدة واحدة أو على رأي واحد وإنما تردد وحيرة كما فعلوا مع النبي -عليه الصلاة والسلام- قالوا: شاعر وساحر وكاهن وكذاب ومفترٍ ويتلقى هذا الكلام عن شيطان ? فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ? [المدثر: 24]، وقالوا: ? إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ? [النحل: 103]، الله –تعالى- يشير إلى أقوالهم هذه ويقول: ? انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ? [الإسراء: 48]، انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا: لم يتفقوا على شيء لم يتوحدوا على أمر وذلك لأنهم ليسوا على يقين من كفرهم.
(5/25)
---(5/159)
والسحر عمل باطل، وكله تخييل وينبغي على جماهير الناس أن تعلم أن السحر عمل فاسد باطل لا يضر إلا من أذن الله –تعالى- أن يختبره بشيء قال تعالى: ? وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ? [البقرة: 102]، والعصمة من السحر ليست بالذهاب إلى السحرة ولا بحمل ما يسمى بتحويطة أو حجاب أو تميمة أو نحو ذلك إنما التحصن من السحر باللجوء إلى الله والاعتصام بذكر الله - عز وجل- كثرة قراءة القرآن المحافظة على أذكار الصباح والمساء كون الإنسان في يوم وليلته مع الله هذا يعصمه من كل شر يؤذيه إلا شيئاً أراد الله تعالى أن يصيبه به ليكفر عنه خطيئة لم يتب منها أو ليرفعه درجة أراد أن يرفعه بها.
فعلينا أن نعتصم بالله - سبحانه وتعالى- وأن نلتزم بذكره وقرآنه حتى نعصم من هذا السحر ولا ينبغي لمسلم أن يذهب إلى ساحر؛ لأن هذا يبطل عمله وهذا يحبط ثواب صلاته ولو صدقه فيما قال فإنه يُكَفِّره -والعياذ بالله- والساحر كافر فحده أن يقتله ولي الأمر فنسأل الله – تعالى- أن يحق الحق وأن يبطل الباطل هذا وبالله التوفيق وصلِّ الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
إجابات المشاهدين:
كانت إجابة السؤال الأول: يستفيد الداعية أولاً: وجوب الإنكار على الظالم والدليل قوله تعالى: ? اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ?
ثانيًا: الخوف في ذي السلطة لا يعيب الداعي، ولا ينقص من قدره ولا يقدح في توكله على الله والدليل قوله تعالى: ? قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ?.
ثالثاً: الحرص على الدعوة ولو بإشراك الغير في العمل الدعوي.
رابعاً: الدعوة في أول نشأتها تحتاج إلى الجو الهادي ومسالمة العدو.
خامساً: حاجة الدعوي الماسة إلى الزاد الإيماني وأوله الذكر..
(5/26)
---(5/160)
طيبة ما شاء الله دروس مفيدة للداعية واستنباط مشكور للإخوة والأخوات الذين أجابوا بهذه الإجابات واستفادوا هذه الدروس من خلال الآيات السابقة.
السؤال الثاني: اذكر شيئاً من ملامح دقة الحوار وأدبه كما عرضه القرآن بين موسى -عليه السلام- وفرعون؟
كانت الإجابة:
عرض القرآن من آداب الحوار بين موسى -عليه السلام- وفرعون.
أولاً: الحوار بالحسنى والدليل قوله تعالى: ? قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ?.
ثانياً: حسن اختيار العبارات والدليل قوله تعالى: ? إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ?.
ثالثاً: اللباقة والأب والدليل قوله تعالى: ? فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ?.
رابعاً: التواضع وعدم الغضب وحسن الاستماع والدليل قوله تعالى: ? قَالَ فَمَا بَالُ القُرُونِ الأُولَى ?51? قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ?52? ? انتهت إجابة السؤال الثاني
هذا طيب ما شاء الله ونضيف إليه ? قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ? أن الداعية والعالم لا حرج أن يقول: الله أعلم فيما لا يعلمه، فإذا كان لا يعلم شيئاً أو لا يريد أن يتكلم فيه فيقول: الله أعلم، وهذا تسليم طيب، ينبغي أن يقبله السائل لو أُجيب به فليعلم أن هذا المجيب لا يعلم هذا الجواب وهذا لا يعيبه فشأن العالم أن يعلم شيئاً وتغيب عنه أشياء. وإما أنه لا يريد أن يتحدث في هذا الموضوع لما يترتب عليه من فتنة أو شبهة أو نحو ذلك، عند من يسمع الجواب فلابد أن يقدر السائل أيضاً قدر إجابة المجيب كما قال موسى -عليه السلام- ? قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ?.
السؤال الثالث: ما فائدة الذكر للداعية؟ وكانت الإجابة:
من فوائد الذكر للداعية:
أولاً: تثبيت وحماية من التأثر بالبيئة الفاسدة.
ثانياً: الذكر قوة واتصال بالله- تعالى-.
(5/27)
---(5/161)
ثالثاً: في الذكر إقرار بربوبية وألوهية الله -تعالى- وعبودية العبد لربه.
هذا والله شيء يشرح الصدر. هذه الإجابات الطيبة، التي تفضل بها إخواننا وأخواتنا نشكركم عليها ونتمنى لكم مزيدًا من التوفيق والسداد والعلم النافع، تقبل الله منا ومنكم.
شيخنا الفاضل في درس يوم 10/ 6 يعني الدرس الماضي، قلتم أريد
بالنسبة لتكليم الله لموسى: هل هو بصوت أو هو بحرف؟ أم لا؟
كان كلام الله لموسى كلاماً حقيقياً بلفظ وبحرف لعل لفظي في الكلام أو كلامي يومها كنت أقصد أن كلام الله - تبارك وتعالى- لا يشتبه بلفظنا ولا بكلامنا لكن كلام الله كما ثبت في الأحاديث الصحيحة كان بلفظ وحرف، والله أعلم.
لكن يا شيخ بصوت وبحرف، قلتم: ليس بصوت وحرف، ماذا تقصدون بهذه العبارة؟
كنت أقصد ليس بصوت وحرف يشبهنا، لكن يمكن العبارة لم تتضح.
يبقى مثلا بصوت وحرف، طبعاً يمكن يكون فهمنا خاطئ يعني أنت تعلم بتوهم عقيدة الأشاعر بارك الله فيك
هو يعني: سبق اللسان وارد، وعدم الانتباه وارد، فقد يكون مني أو من المستمع أو شيء، هذا كله وارد لكن هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة ونحن إن شاء الله -تعالى- عليه ونسأل الله -تعالى- أن يتوفنا عليه.
الأخ الكريم من مصر: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته كما هو معلوم فضيلة الشيخ أن السحر تعلمه والعمل به حرام وهو كبيرة من الكبائر فهل يجوز فك السحر عن المسحور بالاستعانة بالجن المؤمن حيث أن بعض الإخوة المعالجين بالقرآن والأذكار الشرعية يستعينون بالجن المؤمن ويعالجون الكثير من الحالات المصروعة والمسحورة؟ فما رأيكم في ذلك؟
السؤال الثاني: هل من تحصن بالأذكار الشرعية لا يصيبه سحر ولا عين مطلقًا أم قد يحصل ذلك- بإذن الله- وجزاكم الله خيرا؟
أما السؤال الأول: وهو معالجة المسحور بواسطة جن مسلم أو مؤمن هذا لا أراه، وأرى أنه لا يجوز، وذلك لما يترتب عليه من مفاسد
(5/28)
---(5/162)
أولاً: شبه حال من يعالج بالجن المسلم بحال الساحر، فكل يستعين بجن.
ثانياً: فقدان من يعالج بجن للتوكل على الله فهو معتمد على أنه يستحضر صاحبه من عالم الجن بقراءة سورة أو نحو ذلك والجن سيقوم بالمهمة وهو جالسٌ يشرب كوب شاي أو نحو ذلك لا يتعب في شيء، فلا يكلف نفسه أن يدعو الله - عز وجل- قبل أن يباشر الرقية أو أنه مثلاً يصلي ركعتين بنية قضاء الحاجة أو يستعين بالله بشكل أو بآخر هو لا يهتم بهذا لأن قوته صارت في هذا الجن واعتماده صار على هذا الجن الذي يزعم أنه مسلم وأنا لا أراه -الله أعلم- ربما كان مسلمًا حقًا وربما كان مدعياً، وكيف يعالج هذا الجني وأنا لا أرى كيفية معالجته. وبعد هذا كله أقول: عندنا في القرآن غَنَاءٌ والحمد لله، غَنَاءٌ يعني: غِنَى، عن كل هذا، وذلك أن يقرأ الإنسان بنفسه القرآن، إن كان سليماً صحيحاً فالقرآن يحفظه بإذن الله -تبارك وتعالى- يحفظ بالقرآن أعظم رقية وأعظم وقاية وأعظم تحصين، وإن كان مصاباً بشيء من ذلك من مس أو سحر فإن القرآن بفضل الله -تبارك وتعالى- كما وصفه الله- شفاء ? وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ ? [الإسراء: 82]، ? قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ? [فصلت: 44]، فالقرآن شفاء وليس علاجاً فيكفي أن نقرأه فقط، وقائع كثيرة في واقع الحياة قرؤوا القرآن - بفضل الله تعالى- بأنفسهم سورة البقرة ونحوها من السور التي لها خصوصيات صحيحة في السنة قرؤوا هذه السور وتلك الآيات وشفاهم الله -تبارك وتعالى- شفاية عظيمة وأعظم ما في هذا الشفاء أنهم شعروا بالانتصار الشخصي والذاتي على الشيطان فلذلك أنصح إخواني جميعاً بعدم الجري وراء هذه المسألة وعدم الافتتان بها، ويقول: أنا جن مسلم أساعدك وأعاونك، لا.. كن في نفسك مسلماً وعالج المسلمين كما شئت في عالمك الغيبي واتركني أنا في حالي في عالمي المادي الحسي، كل يقدم ما يستطيع من نفع للمسلمين وللإسلام(5/163)
(5/29)
---
أنا أرقي بالقرآن وأرقي نفسي أولاً وأرقي غيري- إن احتاج الأمر- بعد أن أوجهه ليرقي نفسه أولاً ، فأفضل رقية أن يرقي الإنسان نفسه فإنها بمقام الدعاء والافتقار إلى الله -تعالى- فصوت الراقي المريض - فيما أظن- أقرب عند الله تعالى وإلى الله من صوت الراقي الذي يرقي مريضاً آخر لقول الله - عز وجل-: ? أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ? [النمل: 67]، فهذا هو المضطر ويدعو الله بكلامه العظيم فهو أقرب إلى الاستجابة -إن شاء الله- ونسأل الله المعافاة من الفتن.
سؤاله الثاني: فضيلة الشيخ، التحصن بالأذكار الشرعية هل يبعد السحر والعين؟
(5/30)
---(5/164)
الأصل أن الإنسان طالماً كان متصلاً بالله -تبارك وتعالى- بالأذكار الشرعية والصلوات والحياة التي شرعها الله -تعالى- للمسلم وصورها لنا النبي -عليه الصلاة والسلام- من خلال حياته الواقعية العملية، في الأصل أن هذا حصانة عظيمة للمسلم من أن يصيبه مكروه ولكن أحياناً تصيبنا أوقات غفلة فرغم صلواتنا وأذكارنا، أحياناً نفرح بإفراط، أحياناً نحزن بإفراط، أحياناً ننسى أن ننام على ذكر، أحياناً ننام في أماكن نهينا عن النوم فيها أو نحو ذلك أو نفعل أفعالاً نهينا في السنة عن فعلها هذا كله يجعلنا عرضة أحياناً.. أحياناً وربما وليس بالتأكيد ولكن ربما.. وأحياناً يصيبنا شيء وحينما يصيبنا شيء ونحن فيما نرى - والحمد لله- ملتزمون بما ينبغي أن يلتزم به فلنعلم أن هذا ابتلاء من الله - سبحانه وتعالى- قدره علينا ? فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ? [النساء: 19]، وقد ثبت في الواقع فعلاً أن بعض هذه الإصابات لكثير من الناس كانت فاتحة خير، ما كانوا يصلون، ما كانوا يعرفون شيئًا عن الدين، ما كانوا يلمسون المصحف أو يقتربون منه صاروا -ما شاء الله- على صلة طيبة بالله - عز وجل- بسبب ابتلاء مثل هذا، والله تعالى يقول: ? وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ? [السجدة: 21]، فهذا ابتلاء من الله - سبحانه وتعالى- ونصبر عليه وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي -عليه الصلاة والسلام-(سحر بواسطة اليهود سحر له لبيد بن الأعصم اليهودي وأنزل الله جبريل -عليه السلام- فرقاه بالمعوذتين ودله على مكان السحر وشفاه الله - عز وجل-) وكأني بهذه الواقعة يعلمنا الله من خلالها أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بشر ليس إلهاً ولا ابن الإله ولا مخلوقاً من نور ولا كل هذا الكلام الذي يدعى حول رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لا.. إنما هو بشر يقع له في بشريته(5/165)
(5/31)
---
مثلما يقع لكم. وهذا السحر مهما كانت مدته فلم يؤثر في الوحي فلا نفرق بين شيئين ملتصقين: الوحي من عند الله، وإصابة النبي -عليه الصلاة والسلام- وإصابة غيره كذلك قدر من عند الله فالجهة واحدة وبالتالي أو المصدر واحد وبالتالي فلن يؤثر السحرُ على الوحي لأن الله هو الذي قدر السحر على رسوله -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي يوحى إليه فلا يؤثر السحر في الوحي أبداً. كان هذا شيئاً وكان ذاك شيئاً آخر ففعل هذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نتعلم بشريته، ونتعلم كيف إذا أُصبنا بشيء من هذا كيف نتعالج وكيف نتخلص منه بقراءة القرآن وبالتعوذ به كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- (يا أبا ذر تعوذ بهم) أي: بالمعوذتين سورة الفلق وسورة الناس، (تعوذ بهما فإنه ما تعوذ أحد بمثلهم) (يا أبا ذر تعوذ بهما فإنه ما تعوذ أحد بمثلهم) هذا والله أعلم.
الأخ الكريم من السعودية يقول: ذكرتم -حفظكم الله- في درس سابق أن موسى -عليه السلام- كان رسولاً أما هارون -عليه السلام- فكان نبياً فقط، والآية في سورة طه تقول: ?فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ? ألا يدل هذا على أن هارون كان رسولاً أيضاً؟
(5/32)
---(5/166)
هذا من باب المشاكلة الأصل: أن موسى هو الرسول -عليه سلام الله- وأن هارون نبي تابع لموسى وداعٍ بدعوته فليست لهارون رسالة مستقلة، وهذا هو التعريف الصحيح للنبي أنه هو من يبعث ليدعو بدعوة رسول سابق عليه، النبي: هو الذي يبعث ليدعو بدعوة رسول سابقٍ عليه، كأنبياء بني إسرائيل ومنهم هارون -عليه السلام- أما موسى فهو صاحب الرسالة والأصل فيها، ولكن هذا اللفظ ? إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ? أي: مرسلان من ربك لنأخذ بني إسرائيل فتغليباً لوصف موسى على وصف هارون قيل: رسولا هذا من باب التغليب ويغلب الأقوى على الأضعف، والأعلى على الأدنى والأكثر على الأقل وهكذا كما هو كثير في القرآن في تغليب الذكورة على الأنوثة يأمر الله جمع الرجال أو جمع الذكور ويدخل فيهم في الأحكام أيضاً جمع الإناث - يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذاولا تفعلوا كذا- والمؤمنات داخلات في هذه الأحكام كلها، دون ذكر خاص بهن، و دون فصل بين الذكورة والأنوثة، لكن هذا من باب التغليب وكذلك سمي هارون رسولاً من باب المشاكلة أي المشابهة لموسى وتغليباً لوصف موسى على وصف هارون لأن موسى هو الأصل في الرسالة والله أعلم.
الأخ الكريم من الولايات المتحدة الأمريكية يقول: هل ما يسمى بخفة اليد أو الألعاب السحرية من السحر المحرم إذ أن بعضهم قد أفتى بجواز هذا وأنه ليس من السحر الذي ورد تحريمه؟
(5/33)
---(5/167)
هو فعلاً خفة اليد هذا ليس من السحر الذي يقتل صاحبه، إنما السحر الذي يقتل صاحبه هو التعامل مع الشياطين والتعوذ بالتعاويذ السحرية والطلاسم والحروف والأرقام وما إلى ذلك وحساب الجُّمل ذلك لأن فيه كفرا بالله - عز وجل- وفيه استعانة بغير الله وفيه أشياء كثيرة -والعياذ بالله- جرائم كبيرة تُوصل الساحرَ إلى مرتبة الكفر وتوجب له القتل، أما خفة اليد والحركات الخفيفة هذه التي يفعلها بعض الناس إثارة للآخرين فإن كانت لمصلحة أو لفائدة راجحة فلا مانع منها، أما لجمع المال أو نحو ذلك فهذا لون من النصب والكذب ولا يجوز أيضاً. والله أعلم.
في الآية السادسة والسبعين قول الله تعالى: ? جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? [طه: 76]، نقرأ في آيات أخرى: ? جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? [إبراهيم: 23]، وأيضاً في آية أخرى ? جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ? [التوبة: 100]، بدون "من" فكيف نجمع بين هذه الآيات؟
(5/34)
---(5/168)
? جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? ? جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? و ?تَجْرِي تَحْتَهَا ? هذا اسمه عند علماء البلاغة تلوين في الأسلوب، التعبير عن الشيء الواحد بأكثر من أسلوب حتى لا يَملَّ القارئ أو السامع أسلوباً واحداً متكرراً فيكون تكراراً إنما هذا التنويع يرفع السآمة عن أذن السامع وعن قلبه فلا يمل الحديث مع زيادة أوصاف في مقامات معينة ولكل مقام مقال يناسبه فجنات عدن هي ? جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? هي هي، ولكن هنا زاد فيها وصف الإقامة عدن: أي إقامة، عدن بالمكان إذا أقام فيه، فجنات عدن أي جنات الإقامة والخلود لا خروج منها ? تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? كل ما في القرآن فيه ? تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? إلا آية في سورة التوبة: ? تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ? واحدة فقط، وفيها قراءة صحيحة ? تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? قراءتان هما ولما نسخ سيدنا عثمان -رضي الله عنه- المصاحف في زمانه حرص وأكد على أن تكتب كلمات القرآن بخط وبرسم يَحْتَمل القراءات المختلفة، فتقرأ الكلمة مثل كلمة ? مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ?4? ? [الفاتحة: 4]، مكتوبة في المصحف عندنا إلى اليوم ? مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ? ولكن بعد الميم إشارة صغيرة أو قصيرة إلى الألف ذلك لأنها تقرأ "ملك" وتقرأ "مالك"، وكان من عادة العرب كثيراً يحذفون الألف في كثير من المواضع التي تعرف فيها، معروف أن هنا ألفاً، فيحذفونها من الكتابة، تساهلاً في الكتابة مع علمهم أن هنا ألفاً تنطق فيطقونها رغم عدم وجودها، كما كتب القرآن بغير نَقْط ولا شكل لا نقطة النون ولا تحت الباء ولا ثلاثة فوق الثاء ولا فتحة ولا ضمة ولا كسرة حتى يستطيع كل صاحب قراءة سمعها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقرأ المصحف بالقراءة التي عَرفها وتلقاها من رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فكان من(5/169)
(5/35)
---
الكلمات التي استعصت على الكتابة برسم واحد هذه الجملة ? تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? و ? تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ? قراءتان صحيحتان ولكن لا يمكن رسمهما برسم واحد إما أن نكتب من وإما أن نحذفها فكتبت في بعض المصاحف بمن وفي بعض المصاحف بدون من، كما وصلنا في بلادنا هذا المصحف فهي في مصاحف أخرى في بلاد أخرى موافقة للقراءة الأخرة ? تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? فلا تعارض بين هذا وذاك إنما هو تلوين في الأسلوب وتنبيه إلى أوصاف أخرى تتصف بها الجنة، وموافقة لقراءات مختلفة في الآية. والله أعلم.
فضيلة الشيخ هل تفضلتم بإلقاء الأسئلة.
مع إخواننا وأخواتنا طلبة العلم -جزاكم الله خيراً- هناك بعض الأسئلة على هذه المحاضرة، نستمع إلى إجاباتها -إن شاء الله- في المحاضرة القادمة وفقكم الله.
السؤال الأول: ما شبهة فرعون في معجزة موسى -عليه السلام- حتى وصفها بالسحر؟
السؤال الثاني: بكلمات موجزة عرف بيوم الزينة . فالكلام فيه يطول ولكن كلمات قليلة تعرف بهذا اليوم وما كان فيه.
السؤال الثالث: من خلال إيمان السحرة قدم موعظة مختصرة للمعرضين عن التوحيد.
ونسأل الله لكم ولنا وللجميع التوفيق والسداد.
(5/36)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (6) طه ( الآيات 77- 82)
الدرس السادس
طه : 77-82
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه وبعد.(5/170)
في هذه المحاضرة - التي نسأل الله -تعالى- فيها التوفيق والسداد- نتناول موضوعاً يعتبر خطوة على طريق نبي الله موسى -عليه السلام- في قصته مع بني إسرائيل، وذلك تذكيراً للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بما كان قبل ذلك، وتعليماً لهذه لأمة الوليدة الجديدة كيف يتحملون الأذى حينما يقرؤون هذه القصة ويسمعون أحداثها وذلك من خلال الآية السابعة والسبعين إلى الآية الثانية والثمانين من سورة طه، ونتناول هذه الآيات من خلال منظورات ثلاثة:
الموضوع الأول: والجهة الأولى: إسراء موسى ببني إسرائيل من مصر.
ثانيًا: موسى وبنو إسرائيل بين البحر وبين فرعون -عليه اللعنة-.
ثالثًا: تذكير بني إسرائيل ببعض نعم الله عليهم: كنعمة النجاة من فرعون، وتكليم الله لموسى، ونزول التوراة ونعمة المن والسلوى.
رابعًا: دروس وعبر في الآيات نستلهم فيها توفيق الله -تعالى- وتسديده فالقرآن العظيم مليء بمثل هذه الدروس التي تنفعنا في الدين والحياة.
وبداية نستفتح هذه المحاضرة بتلاوة للآيات المذكورة من أخينا الشيخ فليتفضل:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(6/1)
---
? وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى ?77 ? فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ?78 ? وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ?79 ? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى ?80 ? كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ?81 ? وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ?82 ? ? [طه: 77- 82].(5/171)
نسأل الله - تعالى- مغفرته وتوبته وهداه، وأن يجمعنا جميعاً بسبب هذا العمل النافع الطيب في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.
في هذه الآيات - كما سبقنا بالقول- ثلاث موضوعات أو ننظر إليها من ثلاث جهات:
الأولى: إسراء موسى -عليه السلام- ببني إسرائيل من مصر إلى سيناء.
الله -تبارك وتعالى- بعد أن رأى من فرعون هذا الصدود وهو يعلمه مسبقاً ولكن ليقيم على فرعون الحجة أرسل إليه رسولاً وأمره أن يكلمه كلاماً ليناً لعله يتذكر أو يخشى- فيما يظن البشر- لكن الله يعلم أنه لن يؤمن أبداً، ولما جاء موسى إلى فرعون وأراه الآية الكبرى وكذب فرعون وعارض بالسحر فهزمه الله - تعالى- وأخزاه وآمن السحرة بموسى وهارون، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون عند ذلك لم تكن هناك فائدة في معاودة الدعوة مع فرعون -عليه اللعنة- لأنه صد عن كل شيء كما قال ربنا قبل ذلك: ? وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ? [طه: 56].
(6/2)
---(5/172)
فأمر الله -تعالى- وحياً، أمر موسى -عليه السلام- أن يخرج ببني إسرائيل في مصر سراً ولهذا أمره أن يسري بهم ليلاً ? وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي ? وفي آية أخرى ? فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً ? [الدخان: 23] فالإسراء: هو المشي بالليل. الإسراء والسرى، هو المشي بالليل والمشي في الصباح الباكر اسمه: الغدو، وفي الظهيرة اسمه: التهجير، هجر فلان، إذا مشى ظهراً، وفي آخر النهار يسمى المشي: رواحاً، أما بالليل فاسمه: الإسراء كما قال ربنا: ? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى ? [الإسراء: 1] ونسب الله -تعالى- الإسراء إلى الليل في مثل قوله: ? وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ? [الفجر: 4] أصلها: والليل إذا يسري، ولكن قال العلماء: لما كان الليل زماناً للمشي والإسراء ولا يمشي هو بنفسه، فلما نسب الفعل إلى غير فاعله جاء اللفظ على غير هيئته فأصله والليل إذا يسري: ولكن كتبت في المصحف وقرئت هكذا ? وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ? تقف عليها هكذا ? وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ? ولكن ترقق لأنها على غير نهاية الكلمة الحقيقية فتقول: ? وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ? مخالفة لما قبلها ولطبيعة الراء في الترقيق والتفخيم فنسب الإسراء إلى الليل والليل لا يسري وإنما يسرى فيه فجاء اللفظ محذوفاً منه حرف وهو الحرف الأخير إشارة إلى هذا المعنى، فإسراء موسى يعني: خروجه ليلاً من مصر ببني إسرائيل والله -تبارك وتعالى- قادر على كل شيء فقادر على أن يأمر موسى بأن يجمع بني إسرائيل وأن يخرج جهارًا نهارًا لا يخشى شيئًا من فرعون وجنوده والله -تعالى- قادر على عصمة موسى وقومه من أي خطر يعترضهم كما عصمهم عند البحر وأهلك عدوهم، ولكن الله -عز وجل- يعود عباده على أن يتبعوا الأسباب في الأرض الأسباب التي رتب عليها الأمور ? وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ?
(6/3)(5/173)
---
[الكهف: 84] فيتبع الإنسان الأسباب حتى إذا تعطلت الأسباب رفع يديه ودعا رب الأرباب - سبحانه وتعالى- فتفتح له الأبواب وتقضى الحاجات، لكن على الأصل نمشي حسب الأسباب التي وضعها الله - تعالى- في الكون كما خرج النبي -عليه الصلاة والسلام- ليلاً وسراً في الهجرة واختبأ في غار وكان الله قادراً على أن يحميه في وضح النهار من أعتى الكفار دون أن يصيبه شيء منهم، ولكنها حكمة لله بالغة، يبدو لي فيها أمران:
الأول: رحمة بموسى ومن معه من بني إسرائيل فإنهم قلة مستضعفون فارون فكأن الله أراد أن يفاديهم شدة المواجهة مع فرعون لو خرجوا بالنهار، فلو خرجوا نهاراً ما تركهم فرعون. خرجوا ليلاً وما تركهم فما بالنا لو خرجوا نهاراً أمام أعين فرعون وعيونه وجواسيسه، فكأن الله أراد أن يحفظهم؛ لأنهم نواة لأمة جديدة ولأنهم مستضعفون ولأنهم مختارون في ذلك الوقت، وهم أفضل الناس في ذلك الزمان، والله -تعالى- فضلهم على العالمين في ذلك الوقت حيث جعل فيهم النبوة فحماهم وحفظهم بأسبابه التي وضعها في كونه -سبحانه وتعالى- دون أن يعرضهم لمواجهة ليسوا أهلاً لها وليس لهم بها قبل.
(6/4)
---(5/174)
أما الأمر الآخر: في خروج موسى ليلاً وسراً فإنه لطف من الله وإمهال من الله لفرعون -عليه اللعنة- وكأنه بقيت لفرعون في عمره بقية لا يريد الله - تعالى- أن يقدمه عنها أو يستعجله فيها، إنما ترك له هذه المرة وأمهله حتى الصباح فموعد موته عند الله ليس بالليل وأرض موته ومصرعه ليس هنا في اليابسة إنما قبره في البحر أو مصرعه في البحر قدر الله له ذلك ولا بد أن ينفذ الأمر حسبما قدره الله -سبحانه وتعالى- فكأن الله أمهله هذه الليلة لعله يتوب ويرجع، لعله يحاسب نفسه خرج موسى، وبنو إسرائيل معه، كان الأحرى بفرعون لو كان عاقلاً أن يقول: زال عنا همٌ، خرج من بلادنا هذا الكم الكبير، سيوفرون لنا أماكن وسكنًا وموارد طبيعية كانوا يستعملونها ويستنفذونها، خروجهم رحمة وتوسعة علينا في مصر.
ولكنه كره خروجهم مع أنه كان يكره بقاءهم ويخاف منهم، فتناقض في حياة فرعون، فكان الأحرى به والأولى أن يتذكر في تلك اللحظة وفي تلك الليلة وأن يعيد حساباته ولا يخرج وراء موسى -عليه السلام- خرج موسى فليخرج إلى حيث شاء، أخذ قومه وانصرف مالِ فرعون ومالِ جنود فرعون ولكن الظلم يدفع صاحبه إلى المهاوي والمهالك كما فعل كفار مكة، ظلوا يطاردون النبي - صلى الله عليه وسلم- حتى لقنهم الله درساً يوم بدر لم يروا مثله وضربوا ضربة ظل أولادهم حزانى عليهم وتاركين للشراب- شراب الخمر- وللغناء مدة سبع سنين تقريباً، حتى فتح النبي - عليه الصلاة والسلام- مكة، ودخلها الإسلام من جديد.
(6/5)
---(5/175)
وهكذا الظلم يدفع صاحبه إلى هذا الطغيان. فأجَّلَ الله فرعون هذه الليلة التي بقيت له من عمره ولو أنه واجه موسى لاعترضه ومنعه من الخروج ولن يتركه الله سيهلكه ويمكن موسى من إتمام رحلته إلى طور سيناء وهكذا كانت لله حكمة بالغة في إخراج موسى -عليه السلام- ليلاً وإسراءً وسراً، وكان خروجهم هذا بعد أربعمائة سنة وست وعشرين سنة، منذ أن دخلوها مع أبيهم يعقوب وهو إسرائيل -عليه السلام- يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم- جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام- حين دخلوا على يوسف أيام أن كان عزيزاً وخازناً لخزانة مصر، من يومها إلى أن خرج بهم موسى- عليه السلام- وأنقذهم من فرعون - بفضل الله- كان قد مضى بين هذا وذاك - كما ذكر ابن كثير- رحمه الله- أربعمائة عام وست وعشرون عاماً.
(6/6)
---(5/176)
لم يسكت فرعون - كما عرفنا- ولكنه أعد عدته للخروج وراءهم ? فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ ? فأتبعهم فرعون بجنوده ، أرسل في المدائن حاشرين، يجمعون له الجنود والأبطال والرجال، فجمعوا له جيشاً عظيماً جداً، بلغ تعداده - كما عده العلماء، وذكر ابن كثير هذا العدد- مليونًا وستمائة ألف رجل، يعني حوالي: مليون ونصف ويزيد من الرجال ومعهم مائة ألف من الخيول التي يركبونها، جيش عرمرم، جيش جرار كبير ضخم هائل لا ينبغي أن يعد كل هذا لمثل موسى ومن معه ؛ قوم ضعاف أذلاء مطرودون هاربون من بطش فرعون ولكن هكذا يكون الجبن والخوف والرعب في قلوب الكافرين فيحتاطون لأنفسهم بالجمع الكثير، كما خرج كفار قريش بألف في مقابل ثلاثمائة رجل من المسلمين ، جمع فرعون هذا الجيش الكبير ولكي يجمعه لابد أن يقنع الناس، بحقيقة مزيفة ولو مزيفة ولو مزينة لابد أن يقنعهم بالخروج حتى يخرجوا على ثبات وعلى قناعة وهكذا البسطاء ينخدعون بالكلام العام، بالكلام المنمق نادى في الناس ? إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ? [الشعراء: 54] موسى ومن معه شرذمة قليلون ? وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ?55 ? وَإِنَّا لَجِمِيعٌ حَاذِرُونَ ?56 ? ? [الشعراء: 55]- سبحان الله- في ركوب الناس طبقاً عن طبق وتبدل الأحوال، هكذا دخل بنو إسرائيل مصر أعزة مكرمين محمولين على أكف الاحترام والتقدير، لما دخلوا على مصر أمر عزيز مصر يوسف -عليه السلام- أن يستقبلهم في بلبيس - إحدى مناطق شرق مصر- وذلك لكثرة خيرها يومئذ بما فيها من زراعة وأشجار وثمار ومياه طيبة وما إلى ذلك، فيها المقام والحياة طيبة ورغدة وقريبة من حيث طريقهم إلى مدخل مصر دخلوا وقال لهم يوسف -عليه السلام-: ? وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ? [يوسف: 99] لأنها مسألة لا يأمنها بنفسه فعلقها بمشيئة الله - تبارك وتعالى- تأدباً مع الله ? ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ?(5/177)
(6/7)
---
وعاشوا فيها آمنين مكرمين معززين ? وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ? [يوسف: 100] إلى آخر ذلك من آيات التكريم ، اليوم مع موسى يخرجون هكذا مقهورين مطاردين من فرعون -عليه اللعنة- ويصفهم بهذه الأوصاف حتى يغري الناس بهم ويحث الناس على الحقد عليهم والحنق عليهم حتى إذا قتلوا أو ضربوا لا يألوا أحد على هذا ولا يلومن أحد فرعون على ما فعل ببني إسرائيل بل يقول: إنهم يستحقون. قال: ? إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ? [الشعراء: 54] وإذا كانوا قليلين فلماذا تنقم منهم يا فرعون وأنت كثير بجندك وقوتك؟ ماذا تخشى منهم؟ جنودك فقط الذين جمعتهم في الجيش: مليون وستمائة ألف رجل وهؤلاء كلهم ستمائة ألف رجل، قليل من كثير، فلماذا تخشى منهم؟ ولماذا تتابعهم؟ إنما هو الرعب الذي يلقيه الله - تعالى- في قلوب الكافرين وتدبير الظالم إلى حتفه ومصرعه وهو لا يدري، هكذا جمع فرعون عدته ونادى في الناس بهذا النداء ? وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ? وهذا شيء معروف، أن الكافر يغتاظ بالمؤمن يرى حاله، صورته، هيئته إنه يغتاظ منها، يرى صلاته عبادته قرآنه طاعته لله يغتاظ لذلك كان الكافرون واليهود على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم- يغتاظون جداً حين يرون حب الصحابة لرسول -عليه الصلاة والسلام- وحب الصحابة وأخوتهم مع بعضهم البعض حينما يروا التزامهم بأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- وهكذا، هذا شأن عام في جميع عصور الدنيا ? وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ?55 ? وَإِنَّا لَجِمِيعٌ حَاذِرُونَ ?56 ? ? [الشعراء: 55] هذا كلام كذب يكذب به فرعون على قومه. مما تحذر؟ ماذا مع موسى غير العصا ؟ ليس معه سلاح وليست معه قوة وليس له جيش وقومه عبيد مستضعفون عندكم فليس هناك مجال للحذر ولكن هكذا يعبئ فرعون القوم والشعب بكلام يجعلهم يحنقون ويغضبون من موسى وقومه ويرضون بما يقع لهم من أخطار.
(6/8)
---(5/178)
وهنا وصل كل في طريقه فرعون بجيشه وراء موسى وقومه، وصل موسى وبنو إسرائيل إلى البحر ليجدوا حيلة إلى أن يجتازوا إلى الجهة الأخرى، إلى أرض سيناء، وإذا بهم ينظرون خلفهم فيرون فرعون وجنوده قادمين بكل قوة وهمة، وساعتها أسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد هلكوا ? فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ? [الشعراء: 61] جملة مؤكدة بعدة مؤكدات ليقينهم أنهم هلكى، فإنهم كثير نعم ولكن أمامهم بحر وليسوا سَفَنَاً ليسوا ممن يحسنون ركوب البحر، وليس معهم سفن يركبونها وهذا العدو وراءهم يقترب منهم شيئاً فشيئاً بصورة سريعة، ماذا يفعلون؟ إنه الهلاك المحتم، ولكن ساعتها يقول موسى -عليه السلام- بكل ثقة وبكل يقين وبكل إيمان بأن الله - تعالى- لا تحد قدرته الأسباب ولا تتوقف حكمته على الأسباب، إنما يتركنا الله للأسباب حتى إذا أراد أن يقضي أمراً خلا الأسباب وأبعدها وعطلها وقال للشيء: كن فيكون، ولهذا قال موسى -عليه السلام: ? كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ? [الشعراء: 62] مواجهة خطرة واطمئنان عجيب في موقف عصيب من موسى -عليه السلام- بنو إسرائيل لم يتعجبوا من قول موسى إنما هو الأمل الوحيد وليس عندهم غير ذلك فلا بد أن يرضوا بما قال ? كَلاَّ ? يعني: لن يدركونا ? إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ? [الشعراء: 62] سيهدين هداية إلى طريق النجاة وإلى وسيلة الخلاص وليست هداية إلى شيء في الدين، فلم يكن ضالاً فالهداية هداية في الأرض هداية في الماديات كما قال الله -تعالى- عن نبينا -عليه الصلاة والسلام-: ? أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ?6 ? وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ?7 ? ? [الضحى: 6، 7] لم يكن ضالاً بمعنى: ضلال الدين والفطرة إنما كان ضالاً لا يعرف وجهاً له ولا طريقة ولذلك ترك جاهلية الناس وصعد إلى غار حراء يتعبد ويتحنث هناك يخلو بنفسه حتى يوجهه ربه -سبحانه وتعالى- فكانت النبوة
(6/9)(5/179)
---
والرسالة فهذا هو الضلال المادي غير الضلال عن الدين، والأنبياء لا يضلون عن الدين أبداً، ? إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ? إلى طريق أتخلص به من هذه الأزمة وننفك به من هذا الحصار، وهكذا ثبت الله - تعالى- موسى -عليه السلام- وقنع بنو إسرائيل ولو مؤقتاً ولو اضطراراً بما سمعوا إلى أن يروا ماذا سيفعل الله - تعالى- بهم، وماذا سيكون من أمر، وهذا كان في باكورة النهار، أسفر الصبح وطلعت الشمس وأدركهم فرعون ساعة الشروق، في وضح النهار حتى يرى الناس الحدث الذي سيحدثه الله فلم يكن لبثاً ولم يكن تزييفاً ولا تزويراً ولا خدعة ولا غشاوة على العين وإنما في وضح النهار وفي أوضح أوقات النهار كما قلنا قبل ذلك في وقت الضحى كما طلبها موسى قبل ذلك عند المناظرة.
وهنا يأتي الدور على المشهد الثاني أو الموضوع الثاني من هذه الخطوة حيث موسى وقومه أمام البحر وفرعون من خلفهم والموقف بهذه الشدة العظيمة.
(6/10)
---(5/180)
أوحى الله - تعالى- إلى موسى -عليه السلام- ? أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ ? [الشعراء: 63] ولم تذكر هذه في الآيات معنا فسورة طه، من السور التي اختصرت القصة، وكما قلنا قبل ذلك في أول السورة: الله - تعالى- يذكر القصة الواحدة بصور عديدة وبأشكال متنوعة في كل مقام بما يتناسب معه، وذلك ليأخذ الناس العبرة من هنا وهناك يأخذونها من هذا الموقع ومن هذا المشهد ومن هذا المقام ومن هذا التصرف في كل مرة يذكر القصة مركزاً ومشيراً إلى موقف معين من هذه القصة هو صلب الموضوع وهو موضع العبرة، فاختصر الموقف هنا ولكن الذي حدث أن الله - تعالى- أوحى إلى موسى ? فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ ? [الشعراء: 63] العصا ألقاها أول مرة ? فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ? [طه: 20] ألقاها على ما ألقاه السحرة ? فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ? [الشعراء: 45] واليوم يضرب بالعصا ماء فإذا بالماء يتجمد ? فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ ? [الشعراء: 63] بحر هائل عظيم يضرب بالعصا فإذا بالماء يتجمد كما قال الله له في هذه الآيات: ? فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً ? [طه: 77] فاضرب لهم طريقا في البحر أي بضرب البحر بالعصا يتجمد البحر طريقا يبساً أي يابساً ? لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى ? لا تخاف دركاً: من خلف ظهرك ولا تخشى: من الطريق الذي تسير عليه ولا من مؤخرته التي لا تراها فالطريق أمان والطريق معدة وممهدة ? لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى ? فذكر ابن كثير - رحمه الله تعالى- أن موسى ضرب البحر بالعصا وقال: له انفلق بإرادة الله أو بإذن الله فانفق البحر لأنه مأمور من قبل الله -عز وجل- ? فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ ? كان كل اتجاه، أو كل جزء من البحر - اليمين والشمال- كان(5/181)
(6/11)
---
كالجبل العظيم من الماء المتجمد وسلك موسى -عليه السلام- ببني إسرائيل هذا الطريق إلى أن اجتازوا الجهة الآخرى ولكن هنا نريد أن نلحظ موقفاً إيمانياً عظيماً ولعله من ركائز الإيمان وهو: التسليم لله - تعالى- ولو من وراء القلب ولو من فوق مدركات العقل، إذا أمر الله بأمر فلابد من الاستجابة له لا نعرضه على العقل أولاً، وإنما نقبله بالإيمان أولاً، والتصديق والتسليم ثم بعد ذلك نتفكر فيه بعقولنا عسى أن نتلمس شيئاً من حكمة الله من وراء هذا الأمر ومن وراء هذا التشريع.
(6/12)
---(5/182)
أوحى الله لموسى وأمره أن يضرب البحر بعصاه ليتجمد البحر، لعل تجميد الماء لم يكن معروفاً على عهد موسى -عليه السلام- كما في أيامنا مثلاً، وإن كان فلا تكن العصا وسيلة إلى تجميد الماء في المعتاد عندهم فكانت هذه معجزة خارقة للعادة فبالعقل هذا أمر لا يصدق كيف أضرب البحر بعصا ليتجمد وليضرب فيه طريق يبس لو تركنا العقل يناقش هذا الأمر ما كان أبدًا، هذا في الأنبياء، في غير الأنبياء الله - تعالى- أوحى إلى أم موسى ? وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ? [القصص: 7] أوحينا يعني: ألهمنا، أم موسى بعثنا خاطراً في نفسها ? أَنْ أَرْضِعِيهِ ? لأنها لم تكن نبية ولم يكن في الأنبياء امرأة، ? وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ? وهذا أمر عادي محبب إلى الأم ? فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ ? [القصص: 7] مسألة متناقضة عقلاً إذا خافت الأم على وليدها الصغير الرضيع تلقيه في اليم وفي وسط تابوت من الخشب - كما عرفنا من قبل- فهذه متناقضة عقلاً، لكن طالما نطق الله بها وأمر الله بها فهو المتكفل بها - سبحانه وتعالى- فلا نعرضها على عقولنا إنما نسلم، افعل كذا سمعنا وأطعنا لا تفعل كذا سمعنا وأطعنا، أمر الله مريم - عليها رحمة الله - وهي في آلام المخاض بعيسى -عليه السلام- أمرها وهي امرأة أنثى في آلام المخاض ضعف فوق ضعف، وأمرها بعمل صعب شاق: ? وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ? [مريم: 25] لو كانت مريم رجلاً قوياً عاتياً وهزَّ رأس النخلة ربما لا يستطيع أن يسقط رطبة واحدة، لكن هذه امرأة ضعيفة تعاني من آلام وتهز جزع النخلة مما يليها من أسفل، ومع ذلك استجابت أم موسى فكان الخير، نجا الله موسى -عليه السلام- وحماه وصار اليوم نبيا نذكر سيرته، وهزت مريم جزع النخلة طاعة لأمر الله وإن كان أمراً لا يتسع له العقل ولكنها أطاعت أمر ربها - سبحانه وتعالى- وصدقت فكانت من القانتين(5/183)
(6/13)
---
وتساقط عليها الربط فعلاً فقال الله لها: ? فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ? [مريم: 26] وهكذا التسليم لله -عز وجل- يأتي كله بالخير مهما سلمت لله في أمرك وإن كنت لا تعقله أو لا تفهمه فتسليمك خير وعاقبته خير، سيدنا موسى -عليه السلام- سلَّم لله في هذا الأمر وضرب البحر بالعصا ? فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ ? [الشعراء: 63] وجاوز ببني إسرائيل البحر إلى جهة الأمان وبر السلامة.
فلا مجال ولا سمع لقول من يقولون: اقنعني أولاً، فهمني أولاً. يريد أن يقتنع أولاً بأمر الله فإذا كان قلبي ضيقاً وعقلي قاصراً وصدري لا يتسع لفهم أمر الله، أعطل أمر الله في نفسي ولا أتبعه ولا أفهم، فالعيب في والحق موجود، فلا بد من التسليم لله -تبارك وتعالى- أولاً، ثم بعد ذلك نترك العقل يجول متفكراً متدبراً في حكمة الله من وراء هذا التشريع.
(6/14)
---(5/184)
لما جاوز موسى البحر إلى الجهة الأخرى أراد أن يضرب البحر بالعصا ضربة أخرى تعيده سائلاً حتى لا يسلك فرعون هذا المسلك أيضاً وهذا الطريق فأوحى الله إليه أن اتركه كما هو: ? وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ? [الدخان: 24] وكان تدبير الله - تعالى- أعلى من تدبير موسى وتفكيره هذا شيء طبعي فعلم الإله لا يقارنه علم البشر وإن كان البشر نبياً فموسى -عليه السلام- أراد أن يقطع الطريق على فرعون، أن يغلق البوابة، وبهذا يبقى فرعون حياً، وراء البحر نجا موسى نعم، ولكن نجاة مؤقتة ما أدرانا؟ ربما يأتي بعد ذلك بحيلة أو بوسيلة يركب بها البحر ويصل بها إلى موسى ومن معه، لكن كان تدبير الله -تعالى- إهانة لفرعون وهلاكاً له وقطعاً لدابره ودابر جنوده فتركه الله يمشي في الوهم ويدخل في هذا الطريق اليبس حتى إذا كان في وسط البحر أعاد الله - تعالى- البحر لسيرته الأولى وجاءه الخطر من حيث يأمن، جاء لفرعون الخطر من حيث يأمن ونزلوا في عمق البحر وغطتهم الأمواج ويعبر الله عن هذه الحال ويصورها بقوله: ? فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ? [طه: 87] هذا التعبير في اللغة معناه: فغشيهم من اليم- أي من الماء من فوقهم غطاهم من الماء- الشيء الكثير الذي غطاهم وكأنه شيء كثير يفوق عن الحصر ويزيد عن التقدير، الله -تعالى- يقدر كل شيء ويستطيع أن يقول لنا: كذا وكذا، كذا متر من الماء كذا عمق كذا سعة كذا ولكن ربما عقولنا لا تتسع لهذا، وإبهام هذا الشيء يفخمه ويضخمه أكثر من الإفصاح عنه وتبيينه برقم معين فقال -تعالى-: ? فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ? تبقى أنت وأنا وكل متفكر يتخيل ماذا كان فوق فرعون وجنوده من الماء؟ يا ترى وصلوا إلى عمق كم في البحر؟ كم متراً من الماء كان فوقهم؟ كم وكم وكم؟ كلها تخيلات يسبح فيها العقل سبحاً لا نهاية له ولو تخيل متخيل أنهم نزلوا إلى عمق البحر ما كان مبالغاً فالنص(5/185)
(6/15)
---
يساعده على هذا ? فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ? وهذا أسلوب استعمله القرآن في أكثر من مرة كما قال الله - تعالى- عن سدرة المنتهى: ? إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ? [النجم: 16] لكن هذا غير هذا هنا ? فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ? معروفة في البحر لكن ? إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ? السدرة شجرة في السماوات العلى رآها النبي -عليه الصلاة والسلام- ليلة المعراج، يغشاها هناك عند حضرة الإله - سبحانه وتعالى- من ماذا ؟ لم يذكر الله - تعالى- ليبقى الأمر أيضاً غيبياً بالنسبة لنا، فقال العلماء: من البهاء، من الجمال، من الجلال، من الروعة، من الحسن، من النور ? مَا يَغْشَى ? أي: ما يغشاها ? إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ? شجرة السدرة: الشيء الكثير الذي يغشاها من كل هذه الأشياء التي يذهب فيها قلب الإنسان كل مذهب ويتخيل فيها كل خيال، من جمالها وروعتها وحسنها ولما أهلك الله - تعالى- قوم لوط، فأمر جبريل -عليه السلام- فحمل القرية على طرف من جناحه وصعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم وصياح أطفالهم ثم كفأها على رأس من فيها قال -تعالى-: ? وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ?53 ? فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ?54 ? ? [النجم: 53، 54] فغشاها: الشيء الكثير الذي غشاها من ماذا؟ من حجارة البيوت، من ترابها كفأ القرية هكذا بأرضها بترابها بمتاعها وأثاثها فغطاهم من كل هذا الشيء الكثير فكأنهم نزلوا مقبورين في الأرض، هلكوا وماتوا ودفنوا في الوقت نفسه ? فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ? وهنا يقول الله - تعالى- مصوراً هول هذا الموقف الذي أهلك فيه فرعون ? فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ? [طه: 87] وكانت هلكة عظيمة وقبل أن يغرق فرعون أو قبل أن يموت وهو في ساعة الغرق حاول أن يعبث، وسبحان الله من هذا العناد العظيم العناد الخبيث حتى وهو في ساعات الغرق والغرغرة(5/186)
بخروج الروح
(6/16)
---
نطق كلمة يريد أن يتظاهر بها بالإيمان ولم تكن نيته سليمة ولا قصده حسناً بدليل قوله ولفظه فلو كانت نيته حسنة في طلب الإيمان- والله أعلم- إن كان يقبل الله منه الإيمان هنا عند الغرغرة أو لا يقبل فأصل الأمر أن الله لا يقبل التوبة من العبد إذا غرغر أما من لم يغرغر فتوبته مقبولة قبل أن تخرج منه الروح وقبل: أن يأتيه ملك الموت فباب التوبة مفتوح فإذا جاءته ساعته ليموت فيها أغلق باب التوبة ولكن كان لمثل فرعون في هذه اللحظات العاجلة التي يغرق فيها والموت أمام عينه فإنها تحتاج إلى كلمة وعند الخطر ينبغي الإيجاز في الكلام أقول لك: يا فلان احذر الأسد، إذا كان بعيداً عنك فإذا اقترب منك أقول لك: احذر الأسد ولا داعي: يا فلان وكل من سمع يحذر، أما إذا اقترب جداً أقول لك: الأسد، وأنت تفهم ما بعد ذلك؛ لأن الوقت عاجل ، فكان لمثل فرعون في مثل هذه العجلة أن يقول: آمنت بالله رب العالمين، كما قالها السحرة حين آمنوا: ? آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ ? [الشعراء: 47] أن يقول: آمنت أنه لا إله إلا الله سريعة عاجلة حسب الوقت والزمان ولكنه دار دورة خبيثة قال: ? قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ ? [يونس: 90] ولذلك قال الله له مكذباً له ورادَّاً له ? آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ? [يونس: 91] وفي هذا المد اللازم الطويل الذي هو أطول أنواع المد إشارة لطيفة إلى طول عمر فرعون، أبعد كل هذا العمر الطويل يا فرعون جئت الآن تنطق بكلمة إيمان؟ وهي كلمة غير صادقة وغير صحيحة: آمنت بإله بني إسرائيل وليس إلهك أنت، لم يعترف أنه إلهه فقال: ? آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ? لأنه في وقت الغرغرة ولأنه لم ينطق بكلمة صحيحة ولا في هذا الإيمان.
(6/17)
---(5/187)
فأغرق فرعون فليس هناك من ينقذهم ولا من يستخرجهم إلا جثة فرعون خاصة أراد الله أن تخرج على الساحل قال الله - تعالى- ? فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ? [يونس: 92] فاليوم ننجيك ببدنك: لا بروحك روحه فاضت إلى ربها وخالقها - سبحانه وتعالى- فما عاد إلا جثة فاليوم ننجيك ببدنك وقيد الله وهيأ من يحمل الجثة ومن يحنتها ومن يضعها في بعض المعارض أو بعض المتاحف حتى يراها الناس ومن ينصب له أنصبة تذكارية حتى يراه الناس ويعتبروا ? لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ? كما قال - تعالى: ? فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى ?25 ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ?26 ? ? [النازعات: 25، 26] إن في ذلك لعبرة، فنجَّاه الله فقط لئلا يدعي الناس بعده - كما يدعى على عظام الناس وأهل الهيئة وأهل السلطان- أن فلاناً لم يمت إنه كان إلهاً عظيماً، إنما هو غاب ليظهر من جديد هذا يدعونه عادة أهل البدع فربما يدعى مثل هذا على فرعون فأراد الله أن يقطع هذه الشبهة بهذه الحجة الواضحة: هذا هو إلهكم الذي كنتم تعبدونه والذي كان يزعم أنه هو الرب الأعلى هاهوذا ميت لا يمك أن يحرك نفسه ولا أن يحرك شيئا من أعضائه ولا أن يتنفس نفس هواء هذا هو ميت لا قوة ولا حول بعد أن كان ذا الأوتاد عبرة عظيمة تركها الله - تعالى- فيمن كان من بعد ? فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ? [يونس: 92] وهنا انتهى المشهد أو الموقف الثاني حيث نجاة موسى ومن معه من بني إسرائيل إلى أرض سيناء وهلكة فرعون إلى الأبد وجنوده وذكر بعض المؤرخين أن نساء مصر يومها بعد أن مات هؤلاء الرجال الكثيرون من مصر ومن القبط لم يجد النساء من يتزوجنه من بعد رجالهن، فتزوجن عبيدهن وخدمهن فبقي الزوج مكسور العين خفيض الجناح أمام زوجته فبقيت هذه صفة في النسل المتوالي بعد ذلك، إلى أن صار زمان عمَّ فيه(5/188)
(6/18)
---
هذا الخلق العالم كله ? وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ? [النمل: 33] ولكن الشرع جعل القوامة للرجل مع اعتبار كرامة المرأة قال الله – تعالى : ? وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ? [البقرة: 228] درجة القيادة، درجة السيادة حتى تسير هذه السفينة في الحياة بنظام واعتدال لا يقودها إلا واحد دون منازع يعطل حركة هذه السفينة فالمسألة تنظيمية ومن الله - سبحانه وتعالى- صاحب الأمر وصاحب الملك، فنسأل الله صلاح الحال.
هذا ليبدأ المشهد الثالث أو الموقف الثالث: وهو تذكير بني إسرائيل بنعم الله - تبارك وتعالى- عليهم.
نعم الله على الخلق كثيرة، نعم الله على الخلق لا تعد ولا تحصى، ولكن في هذا الموقف يذكر الله -تعالى- بني إسرائيل أو ذكرهم بالنعم اللصيقة بهم القريبة منهم التي حصلت الساعة لم يفارق مذاقها مذاقهم لا يزالون يشعرون بطعمها الحلو وبأثرها الطيب، فهذا أوقع لأن يعتبروا ولأن يتعظوا ولأن يعترفوا بنعم الله -تبارك وتعالى- عليهم.
(6/19)
---(5/189)
قال الله - تعالى- ? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى ? [طه: 80] هذه نعم عظيمة وجليلة ولعل الداعي إلى ذلك كان أن بني إسرائيل رغم ما كانوا فيه من خير ونعم من الله - سبحانه وتعالى- وما رأوا من آيات وعجائب ومعجزات لم تطمئن قلوبهم إلى الله، إنما تبعوا موسى طلباً للخلاص من فرعون فموسى أو نار موسى خير من جنة فرعون ولنخرج مع موسى ثم يكون ما يكون بعد ذلك، ولذلك بعد أن تجاوز بهم موسى البحر وهم في الطريق قريباً من البحر مروا على قرية فيها بعض الناس يعبدون الأصنام ? وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ? [الأعراف: 138]- سبحان الله- أليس لكم إله؟ ألم ينجكم من فرعون؟ ألم ينقذكم من البحر؟ ألم يخلصكم من خطر واقع لا محالة قلتم فيه: ? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ? [الشعراء: 61] أنسيتم هذا الإعجاز؟ أنسيتم عصا موسى؟ أنسيتم نبوة موسى أن جعل الله النبوة فيكم؟ أن جعلكم قوماً مختارين وفضلكم على العالمين في زمانكم؟ فذكرهم الله -تعالى- بنعمته ? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ? والنعم داع من دواعي توحيد الله -تبارك وتعالى- والخضوع له والتسليم له والله -تعالى- يتودد إلى عباده بالنعم مع أن العباد يتباغضون إلى الله بالمعاصي يعني: يكثرون من المعاصي التي تبغضهم عند الله والله ينعم عليهم أيضاً ولا تضره معصية عاصٍ ولكن لو منع الله عنا نعمته لأضرنا ذلك ضرراً بالغاً فيه الهلكة والدمار- نعوذ بالله من الحرمان ومن السلب بعد العطاء.
(6/20)
---(5/190)
? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ ? هذه النعمة الأولى واستعرضنا كيف نجاهم الله بهذه الإعجاز العظيم، فما كان لمثلهم أبداً أن يتطلعوا إلى إله صنم من الحجر يعبده الناس ولكن كان بنو إسرائيل قوماً ماديين إلى حد بعيد حتى عطل ذلك عندهم تصديقهم بالغيب فقالوا لموسى قولتهم المعروفة: ? لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ? [البقرة: 55] يريدون إلهاً يرونه بأعينهم ويلمسونه بأيديهم ولذلك لما رأوا هؤلاء يعبدون صنماً أمام أعينهم هكذا أغراهم هذا المنظر ولفت قلوبهم إليه فطلبوه من موسى فقال: ? قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ? [الأعراف: 138] أنتم قوم جهلة لا تعرفون معنى الإله ولا قيمة الإله ولا حقيقة الإله حيث سووا على الأقل أو فضلوا صنماً على رب البرية - سبحانه وتعالى- فمضى بهم موسى -عليه السلام- وكان الله - تعالى- قد واعدهم جانب الطور الأيمن يعني: الجانب الأيمن من جبل الطور في سيناء أن يذهبوا إلى هناك هذا مستقرهم؛ لكي ينعم الله عليهم هناك بالرسالة والتوراة وما شاء من نعم - سبحانه وتعالى- ولكنهم نسوا هذه النعمة في ساعتها بعد ذلك علمهم موسى -عليه السلام- وعالجهم بالوحي إلى أن صار بعضهم مؤمنين وتوارثت الأجيال منهم هذه النعمة والذكر بها وإن نسيها الكثيرون أيضاً، ولذلك صح في صحيح البخاري ومسلم رحمهما الله -تعالى- عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: « لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء فسألهم قالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى) يعني: نصره وأظهره على فرعون (هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- نحن أولى بموسى فصوموه ) أمر أمته وأصحابه أن يصوموا يوم عاشوراء ووعد الله على صيام يوم عاشوراء بتكفير ذنوب سنة ماضية فهو يوم فضيل عندنا كذلك وقول النبي -عليه الصلاة والسلام-(5/191)
(6/21)
---
( نحن أولى بموسى) وفي رواية (أولى بموسى منكم) أي: نحن أصح إيماناً بموسى من بني إسرائيل؛ لأن بني إسرائيل آذوه ونحن لم نؤذه ولن نؤذيه - إن شاء الله -تعالى- ولا بذكر سيء يسيء إليه.
فصام النبي -عليه الصلاة والسلام- يوم عاشوراء وأمر الصحابة بصيامه فكان بعضهم يشكر هذه النعمة نعمة الإنجاء من فرعون نعمة نصرة موسى وإعلائه وهلاك فرعون من بعده.
النعمة الثانية: كانت تكليم موسى -عليه السلام- وإنزال التوراة والألواح عليه. تكليم موسى وما لبني إسرائيل في تكليم موسى هل لهم فائدة في ذلك؟ نعم.. فائدة عظيمة أن كان الكليم منهم فهذا شرف، كانت قريش مع كفر بعضها بالنبي - صلى الله عليه وسلم- تفخر وتقول لغيرها من العرب: منا نبي وكان بنو هاشم على وجه الخصوص يفخرون على قبائل قريش ويقولون: منا نبي، رغم أن بعضهم كأبي لهب وأبي طالب كانا كافرين برسول -عليه الصلاة والسلام- لم يؤمنا ويفخران مع غيرهم برسول الله -عليه الصلاة والسلام- فكون الكليم من بني إسرائيل ولم يكن من أمة أخرى كالفراعنة مثلاً أو القبط فهذا فضل عظيم من الله وتشريف كريم لبني إسرائيل كلها أن كان كليم الله منهم وأن كلم الله واحداً منهم تكليماً حقيقياً فهذا شرف عظيم ينبغي أن يفخروا به ونعمة يحق لله - تعالى- أن يمتن بها عليهم.
ونعمة يحق لله - تعالى- أن يمتن بها عليهم. واحد منا لو كلمه فلان من علية القوم فخر بذلك وربما سجل شريطًا من الكاسيت أو نحو ذلك يحفظ به هذه الذكرى العظيمة التي شرف بها ويسمعه لهذا وذاك كنت مع فلان وكلمني وكلمته وجالسته وجالسني وربما يفخر أبي بذلك وتفخر أمي وتفخر عائلتي أن أكلم فلاناً فما بالك بمن كلمه رب الناس ورب العالمين - سبحانه وتعالى- هذا فخر عظيم لبني إسرائيل ونعمة ينبغي أن يشكروا الله - تعالى- عليها.
(6/22)
---(5/192)
? وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ ? [طه: 80] وهناك كان تكليم موسى حين كلم الله موسى على الجبل وقال موسى: ? قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ? [الأعراف: 143] إلى آخر هذا الأمر كما أنزل الله على موسى التوراة وحين ينعم الله -تعالى- على أمة ضالة عقلياً وفكرياً لذلك قال لهم موسى: ? قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ? [الأعراف: 138] لا يعرفون الفرق بين صنم لا يتحرك ولا يملك لنفسه شيئاً وبين إله جمد البحر حول العصا إلى حية أكلت ما ألقاه السحرة فعل وفعل وفعل من الآيات العظام واليوم ينزل توراة وينزل كتاباً تشريعاً حين ينزل الله - تعالى- قانوناً لأمة تمشي به في وفي حياتها وتنظم به حركتها وسكنتها في الوجود لترشد فهذه نعمة. أحدنا لو اشترى جهازاً ثم نسي الكتالوج فلم يأخذه ربما عاد مشوراً طويلاً ليحصل عليه من جديد حتى يحسن استعمال هذا الجهاز وربما لو أدرك عدم وجوده ساعتها لطالب البائع به، وبدونه يفسد الجهاز ولا نحسن استخدامه- ولله المثل الأعلى - الشرائع التي ينزلها الله - تعالى- والكتب التي يوحيها إلى الأنبياء إنما هي تعريف بالحركة الرشيدة في هذه الحياة ماذا نفعل مع خالق هذا الكون؟ ومن نعبد؟ وكيف نعبد؟ وماذا نفعل مع أنفسنا ومع بعضها ومع المخلوقات من حولنا؟ قال الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- (علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كل شيء حتى الطير في السماء) وقال الله - تعالى-: ? مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ? [الأنعام: 38] فكل سؤال في الدين أو في الدنيا عليه جواب في قرآن ربنا وسنة نبينا -عليه الصلاة والسلام- فالشريعة والكتاب المقدس نزوله على الناس نعمة ما أجلها وما أعظمها وما أخطرها وما أعظم شكرها ينبغي أن يشكر الناس هذه النعمة شكراناً عظيماً لا أن يتركوا هذه النعمة ويهملوا فيها، وينحوها عن حياتهم ولا يستعملونها فهذا جهل بقيمة هذه النعمة(5/193)
(6/23)
---
كالطفل يمسك بالذهب فيلقيه في التراب وبين الأحجار حينما يفيق الطفل ويعظم ويكبر في عقله وفكره يعظم هذه الأشياء ويقدرها بقدرها، أنزل الله -تعالى- التوراة على موسى وسماها الألواح، وفيها منهج كامل متكامل لقيادة حياة بني إسرائيل حياة طيبة هادئة جميلة كما قالها الله لنا في القرآن وهي منذ أن كانت أول الدنيا الله - تعالى- وضع هذا القانون حينما كانت قصة آدم - كما سنعرف في نهاية السورة -إن شاء الله - ? فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ?123 ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ?124 ? ? [طه: 123، 124] الله - تعالى- يريد للناس أن يعيشوا في الدنيا قبل الآخرة في حياة واسعة فيها بحبوحة فيها راحة فيها طمأنينة ? وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? [الروم: 6] ? قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ? [الأعراف: 138] هكذا قالها موسى لقومه يومها أنزل الله التوراة وسماها بالألواح وفيها كل شيء يحتاجه بنو إسرائيل وامتن الله عليهم وقال: ? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى ? أعطاهم غذاء الروح في التوراة أعطاهم نظام الحياة يريدون طعاماً يريدون شراباً يريدون كساء الماديات لم ينسوها في حياتهم أيضاً لم يهملها الله -عز وجل- فالله لم يخلق خلقاًَ وينسى رزقه ولم يخلق خلقاً وينقصه شيئاً من حقه الذي رسمه الله له -سبحانه وتعالى- فالله -تعالى- نزل عليهم المن والسلوى وقال لهم ممتناً عليهم مؤذناً لهم: ? كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ? ما المن والسلوى؟ المن والسلوى: طعام وشراب وحلاوة وغذاء تكفل الله -(5/194)
تعالى- به
(6/24)
---
لم تشارك فيه يد بشر ولا يد خلق فالمن: كما ذكر ابن كثير -رحمه الله -تعالى- عن المفسرين من السلف ذكر عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وأذكر بأن هذه الصحيفة موجودة في المكتبات باسم تفسير القرآن العظيم لابن كثير، هذه أصح ما ورد عن ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في المن: « كان المن ينزل عليهم على الأشجار » وذكر غيره أنها كانت أشجار الزنجبيل أياً كان الأمر فكان ينزل المن على الأشجار مثل الندى كقطرات الندى فيغدون أي: يخرجون متى؟ في الغدو أي: صباحاً في الصباح المبكر فيغدون صباحاً فيأكلون منه ما يشاءون وذكر ابن كثير أيضاً عن قتادة أن هذا المن كان ينزل كسقوط الثلج أشد بياضاً من اللبن وأحلى مذاقاً من العسل كان عظيماً جداً وذكر الربيع بن أنس -رحمه الله -تعالى- أنه شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ويشربونه وقال عامر الشعبي: « عسلكم هذا -العسل الذي نأكله- عسلكم هذا جزء من سبعين جزءاً من المن » .
كان المن إذن: شيئاً عظيماً جداً، عقب الإمام ابن كثير -رحمه الله -تعالى- على هذه الأقوال وغيرها بقوله: « والغرض أن عبارة المفسرين في هذا متقاربة ليس بينها تعارض كلها كلمات متداخلة كل يعبر بأسلوبه تدور حول محور واحد كلها متقاربة في شرح المن فمنهم من جعله طعاماً ومنهم من جعله شرابًا والظاهر -والله أعلم- أنه كل ما امتن الله به على بني إسرائيل من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد. ما كانوا يتعبون في شيء إنما كانت منة من الله فالمن من المنة، أي: شيء من عند الله، يأتي طعاماً يأتي شراباً يأتي نحو ذلك لكنه من الله -عز وجل- ليس لبني إسرائيل فيه تدخل لا في صنعه ولا في إعداده ولا في شيء ينزل فيأكلونه.
(6/25)
---(5/195)
فالمن يقول ابن كثير: « فالمن مشهور إن أكل وحده كان طعاماً يشبع من الجوع، وحلاوة مذاقه حلو أحلى من العسل يعني: أكل وحلى وإن مزج مع الماء صار شراباً طيباً وإن ركب مع غيره صار نوعاً آخر يعني كانوا يأكلونه وحده أحياناً ليشبعوا يخلطونه بغيره ليكون شراباً بالماء مثلاً أو بغيره ليكون نوعاً آخر من الأطعمة ولكن ليس المن في الآية نوعاً واحداً بدليل ما رواه البخاري وغيره عن سعيد بن زيد -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الكمأة من المن) هذا كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- (الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين) والكمأة: شيء كان ينبت في أرض العرب شيء أبيض ينبت في الأرض أو يخرج من الأرض النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر أنه من المن، وماؤه شفاء للعين، وهو شيء دهني يخرج من الأرض لونه أبيض كان العرب ينتفعون به ولفت النبي -صلى الله عليه وسلم- النظر إلى ما فيه من شفاء للعين.
(6/26)
---(5/196)
هذا عن المن، وهو كافٍ في نظري وفي نظر العاقلين كافٍ طالما يوفر الطعام والشراب والحلوى فهذا كاف جمع للإنسان كل ما تشتهي نفسه في هذا الجانب، بل أنزل الله أيضا السلوى, والسلوى: نوع آخر من الطعام قال ابن عباس فيما رواه علي بن أبي طلحة: « طائر شبيه بالسماني » طائر السمان معروف عندنا أو مشهور هو شيء شبيه به وقاله كذلك السدي ومجاهد والشعبي والضحاك والحسن وكثير من السلف قالوا مثل كلام ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وقال عكرمة: « هو كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور » وقال البعض: هو كالحمام يعني ليس كبيراً جداً ولكنه لذيذ الطعم شهي المذاق يربيه الله - تعالى- حيث شاء ويأتي أنيساً أليفاً لبني إسرائيل فيكون عند الرجل فيأخذ منه ما شاء ويذبح ويأكل لكن كان هذا المن والسلوى كان مشروطاً بشرط: ألا يأخذ الواحد أكثر من قوت يومه لا يأخذ لا من المن ولا من السلوى فإن أخذ فسد عنده فلا ينتفع به هذا كان شرطاً في المن والسلوى وهكذا يمتن على بني إسرائيل بهذه النعم بغذاء روح وبغذاء بدن وبعزة ونجاة ونصرة وهلكة عدو نعم كثيرة تستوجب أن يؤمن بنو إسرائيل بموسى -عليه السلام- وألا يسقطوا في الهوى وألا يخضعوا لغضب الله -عز وجل- وحلوله عليهم، وقول الله -تعالى-: ? وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ? [طه: 81] قال ابن عباس: أي فقد شقي: أي أصابه الشقاء كما قال -تعالى-: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ? [طه: 124] وروى ابن أبي حاتم -رحمه الله -تعالى- أثراً موقوفاً « إن في جهنم قصراً يرمى الكافر من أعلاه فيهوي في جهنم أربعين خريفاًَ وذلك قوله -تعالى-: ? وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ? [طه: 81] » إذن هوى يعني: سقط أو ألقي به من فوق هذا القصر العالي في جهنم وهذا أيضاً فيه شقاء إلقاؤه فقط ولو على أرض طيبة شقاء من هذا المكان العالي، وإلقاؤه في النار شقاء آخر فتتلاقى(5/197)
(6/27)
---
أقوال المفسرين وهذا يسمى اختلاف وتنوع حيث إنه لا تعارض فيه.
ويختم الله -تعالى- هذه الآيات بقوله: ? وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ? ما أجمل رحمة الله وما أعظم حلمه على عباده وإن عصوه وإن أعرضوا عنه فهؤلاء يطمعون في إله مادي يعبدونه وهؤلاء أغراهم صنم يعكف عليه الناس، وهؤلاء سيعبدون عجلاً كما سيأتي في الآيات التي بعد ذلك والمواقف التالية ورغم ذلك الله -تعالى- يفتح لهم باب رحمته ويقول: ? وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ ? ولو على الكفر ? وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ? ثبت على ذلك وأحسن، وهذ قانون رباني وسنة شرعية عند الله لكل الأمم ولكل البشرية- فنسأل الله أن نكون ممن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى وأن يختم الله لنا أمورنا كلها وحياتنا بخير وأن ينفعنا بهذا العلم ونعوذ بالله من علم لا ينفع وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأشكر لحضراتكم حسن الاستماع والمتابعة.
ما هي حدود التعامل مع من لا يستجيب للدعوة والموعظة خاصة إذا كان جاهلاً وأمياً؟
هل يمكن اعتبار أمر الله لموسى بالإسراء ببني إسرائيل أمراً له بالهجرة خوفاً على الدين؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هي شروط الهجرة للخائف على دينه خاصة في الوقت الراهن؟
الأخ الكريم من الكويت: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، سؤال يا شيخ هو في سورة طه، معنى الآية ? الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ? [طه: 5] على العرش استوى ماذا تعني؟
(6/28)
---(5/198)
بسم الله الرحمن الرحيم لقد أفاض وأجاد سلفنا الصالح رحمهم الله - تعالى- والعلماء من بعدهم -علماء أهل السنة والجماعة - في بيان هذا السؤال ويمكن المراجعة وسبق الحديث عنه في بداية السورة فيمكن أيضاً الرجوع لما تيسر من ذلك لكن مثل هذه الآيات التي هي من متشابه القرآن فكما قال الإمام أحمد: أمروها كما جاءت ? الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ? استواء يعلمه الله -سبحانه وتعالى- يعلم كيفيته نحن نؤمن بأن الله استوى على عرشه، والمقصود من ذلك علوه فوق خلقه، أما الكيفية فلا سبيل إلى معرفتها فلنفوض الأمر فيها إلى الله ولنسلم لله وهذا أمر لا يترتب عليه عمل حتى نربح عليه أجراً يدخلنا الجنة إنما يكفي منا فقط الإيمان بذلك مع التسليم في كيفية هذه الصفة لله -سبحانه وتعالى- وهذا أجمل ما يقال بعيداً عن الخلافات والأقوال التي توقع الإنسان في حرج مهما كان أمره، هذا والله أعلم.
الآخ الكريم من تونس كان يسأل عن حدود التعامل مع من لا يستجيب للدعوة مع كونه أمياً أو جاهلاً؟
(6/29)
---(5/199)
كون المدعو أمياً أو جاهلاً هذا أدعى للصبر عليه فإمكانيتاته في استقبال الدعوة إمكانات ضعيفة فنعذره بذلك ونلح على دعوته ونحتال في دعوته ونصبر على عدم فهمه واستيعابه ولكن أفرق بين داعٍ يبلغ شيئاً وداع يعمل بالدعوة فأخص بالكلام ذلك الداعي الذي يقال عنه: داعية أي أنه يشتغل بالدعوة ولو أن يدعو الأشخاص والأفرد هذا ينبغي أولاً قبل أن يبلغ الدعوة قبل أن يقدم الموعظة ينبغي أن يدرس شخصية من يدعوه إن كان فرداً يصاحبه مصاحبة على طرف حتى يعرف شخصيته ويتعرف على مداخله من أين أدخل له؟ وماذا يحب في حياته؟ وماذا يضايقه؟ وهكذا حتى أسلك إلى قلبه طريقاً ممهدة وإن كان جمعاً كأن كان يدعو في مسجد أو نحو ذلك في جمع من الناس فلا بد أن أتعرف أيضاً على أحوال هؤلاء الناس فأعمل معهم أولاً: في الترغيب والترهيب حتى أدرس أحوالهم وأنظر فيما يفكرون وماذا يشغلهم وطلب الأسئلة من الناس قد يكون معيناً على معرفة أحوالهم وأفكارهم واتجاهاتهم ومن هنا أتعرف على الشخصية التي أخاطبها والملامح العامة لهذه المجموعة التي أدعو إلى الله فيها ومن خلال هذه الخلفية التي أسبق بها أدخل إلى المدعوين بما يتناسب معهم فسأجد عندهم أولويات، عندهم أشياء في الشرك، وعندهم أشياء في الفسوق فأقدم الكلام في الشرك أولاً لأنه أخطر وأترك الفسوق بعض الشيء يعني سوء في الأخلاق هذا يصبر عليه ويتحمل بعض الشيء حتى نعالج الصور الشركية الموجودة لأن الشرك يحبط العمل كله، أما الذنوب العادية هذه وإن كانت كبيرة فتغفر بالتوبة وقد يغفرها الله - تعالى- لمن شاء بدون توبة إذا كان موحداً.
(6/30)
---(5/200)
فلا بد أن نتابع الأمر ولا ننتظر من الناس أن يستجيبوا لنا من أول وهلة فلسنا أنبياء ولا رسلاً وليست معنا معجزات ولو كنا كذلك فالرسل والأنبياء أصحاب المعجزات -عليهم الصلاة والسلام- لم يكن الناس يستجيبون لهم من أول مرة وانظر إلى أي رسول بعثه الله –-تعالى- تجد قومه وأقرب الناس إليه كذبوه في بداية الأمر وعارضوه وناقضوه وقصة سيدنا موسى كثيرة في القرآن كما نبهنا قبل ذلك لما لاقى موسى من أذى وعنت شديد من بني إسرائيل رغم الآيات المبهرة والمعجزات التي تحرك القلب وتبعث في الوجدان نبض الإيمان إلا أنهم كانوا لا يحسون بهذا النبض ويتمادون في طغيانهم وفي إيذاء أنبيائهم ورسولهم موسى -عليه السلام- حتى إنهم قتلوا عدداً من الأنبياء وهموا بقتل الآخرين حتى نال شرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأطعموه سماً لولا أن عصمه الله حتى مات به في عامه القابل لذلك إن كان الأنبياء والمرسلون -عليه الصلاة والسلام- لم يستجب الناس لهم من أول مرة فلنصبر نحن كذلك من باب الأولى نحن لا يستجاب لنا من أول مرة فإن كانت فالحمد لله وإلا فلنصبر ولنعاود الدعوة ونتهم أنفسنا لعل أسلوبي لم يكن حسناً لعل دعوتي كانت غليظة لعلي لم آته من مدخله الصحيح لعل ولعل أحاول أن أجدد في نفسي وأغير في نفسي، في دعوتي معه حتى أوافق ما عندهم من استعداد لاستقبال الدعوة وساعتها ينفع الله من ينتفع ومن أعرض فلا عليك منه ? وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ? [النمل: 70] إنما تبلغ دعوة الله –-تعالى- ابتغاء مرضات الله ولتعذر لنفسك عند الله حتى إذا سألك قلت: يا رب بلغت، بلغت كما أمرت (بلغوا عني ولو آية) بلغت يا رب ودعوت إليك قدر استطاعتي أما هداية القلب فهذه عند الله، غير أن الداعي ينبغي أن يكون حريصاً على أن تنفع دعوته بمثل هذا التفقد لدعوته ولأحوال الناس ولماذا لا يستجيب الناس؟ ولماذا ينصرفون عني؟ ولماذا ولماذا؟ هذا كله، يعطيني مدخلاً صحيحاً إلى الناس(5/201)
(6/31)
---
ويصحح مساري إلى قلوبهم فيستجيبون - إن شاء الله -تعالى- وفقنا الله وإياك والدعاة جميعًا إلى الخير.
إجابة الحلقة الماضية:
السؤال الأول: ما شبهة فرعون في معجزة موسى -عليه السلام- حتى وصفها بالسحر؟
كانت الإجابة:
شبهة فرعون في معجزة موسى حتى وصفها بالسحر هو ما لاحظه من اشتراكها مع السحر في تغيير صورة الأشياء غير أن المعجزة تكون تغييراً حقيقياً أما السحر فهو تخييل
نعم هذه إجابة جيدة فعلاً، هو رأى أن المعجزة تفعل شيئاً عجيباً وتغير صورة الشيء في عينه كما يخيل إليه من السحرة فقال عنها: إنها سحر وهكذا قال الكفار وكان من أول ما قالوا عن القرآن وعن النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنه ساحر وقوله: سحر ذلك لأنهم رأوه إذا قرأ القرآن على قوم ولو من غير رسول الله -عليه الصلاة والسلام- إذا بالقلوب تتفتح وإذا بالصدور تنشرح وإذا بالوجه يظهر فيه نور الإيمان فيعود الرجل إلى قومه مؤمناً فيقولون وقد رأوه من بعيد وهم كفار وهو قد آمن: لقد رجع علينا فلان بوجه غير الذي ذهب به، ذهب ليصد عن سبيل الله فلما استمع إلى القرآن خالط الإيمان والقرآن قلبه فآمن فرجع إلى قومه رأوا علامة الإيمان وبشاشة الإيمان في وجهه فقالوا قولتهم هذه فلما رأى الكفار تأثير القرآن العاجل، السريع، العجيب في تحويل الإنسان من عدو إلى حبيب ومن منكر إلى مصدق قالوا: هذا سحر فهذه إجابة صحيحة -إن شاء الله-.
السؤال الثاني: بكلمات موجزة، عرف بيوم الزينة؟
وكانت الإجابة:
يوم الزينة كان يوم عيد عند القبط ويقال له: يوم النيروز وهو يوم عيد وأول يوم في عامهم، ويحتفلون به ويبيعون ويشترون ويستمعون قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: « وكان يوم الزينة يوم عاشوراء وسمي بيوم الزينة لأنهم كانوا يتزينون له فهو يوم عيد »
نعم هذا صحيح - إن شاء الله -.
السؤال الثالث: من خلال إيمان السحرة قدم موعظة مختصرة للمعرضين عن التوحيد؟
(6/32)
---(5/202)
أقول لهم: يا أيها المعرضون عن التوحيد ويلكم لا تفترون على الله كذاباً ها هم السحرة سحرة فرعون وقد حشدهم لمواجهة جند الحق ورسل الله وهم اعتدى جنود الباطل وقوته الضاربة الصادة عن سبيل الله ها هم يواجهون رسل الله أو رسول الله موسى -عليه السلام- في هذا الموقف العظيم والمشهد المهيب وها هو قد تجمع الناس يشهدون هذه المواجهة الكبرى بين الحق والباطل وها هو موسى قد قام خطيباً أمام السحرة يعظهم ويخوفهم بالله ولكنهم يؤثرون الحياة الدنيا، ويتأهبون لمواجهته فأجمعوا كيدهم وأتوا صفاً ? فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفاًّ ? [طه: 64] وبدؤوا موسى بالتحدي فألقوا حبالهم وعصيهم وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم حتى أن كليم الله موسى أوجس في نفسه خيفة من هول ما رأى فماذا حدث؟ هل انهزم الحق واندحر أم هل اندثر الباطل وانتعش؟ لا والله وكيف يكون ذلك؟ والله ولي المؤمنين وهو ناصرهم ومعينهم ? وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ ?171 ? إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ ?172 ? وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ ?173 ? ? [الصافات: 171- 173] فها هو موسى يثبته الله ويوحي إليه أن يلقي عصاه فإنه وكل المؤمنين هو الأعلى وهو المنصور بإذن الله – تعالى-.
ما شاء الله إجابة عظيمة وتعبير جيد دقيق وإلمام بالمعلومة ونشكر إخواننا وأخواتنا على هذه المشاركة الطيبة وهذه المتابعة الصادقة الصحيحة ونحمد الله -تعالى- على هذا التوفيق وهذا التسديد ونسأله -سبحانه وتعالى- من ذلك المزيد.
الأخ الكريم من الولايات المتحدة الأميركية يقول: فضيلة الشيخ: كيف كانت نبوة هارون؟ وهل كانت بإخبار موسى له أو أوحى الله له؟
(6/33)
---(5/203)
نبوة هارون -عليه السلام- كانت أولاً بإخبار موسى له كما ذكر ذلك ابن كثير -رحمه الله- أن موسى -عليه السلام- هو الذي أخبر هارون بنبوته وبمشاركته له في هذا الأمر العظيم ولا مانع أن يكون الله -تعالى- قد أوحى له بعد ذلك بعض الأمور فهو نبي من الأنبياء ويصلح لتلقي الوحي، ويذكر في ذلك من الأحذار اللطيفة وهو ما يسمى في عالمنا بالفوازير فالإسلام أباح والحق دائماً يبيح بعض اللطائف وهذه يسميها العلماء نكتة أو لطيفة لأنها تضحك وتسعد القلب قيل: من أكثر الناس إسعاداً لأخيه في العالم أو في البشرية والإجابة طبعا، سيدنا موسى -عليه السلام- لأنه تمنى لأخيه أن يكون نبياً مثله، فلو أن كل أخي تمنى لأخيه في أسرته ثم لأخيه في أمته الخير الذي هو عليه لسعدت الدنيا وهكذا تكون الأخوة الصادقة سواء من النسب أو في الدين وعلاقة الدين أقوى من علاقة النسب.
هل ما ذكره الله عن بني إسرائيل دليل على عدم أخذ معهم الوعود والعهود؟
مما ذكر؟
مما ذكر من نقدهم مع الله -سبحانه وتعالى- مع سيدنا موسى؟
(6/34)
---(5/204)
هو ذكر الله -تعالى- أن بني إسرائيل نقضوا عهدهم مع الله ومع موسى -عليه السلام- في مواقف عديدة خلال عرض هذه القصة عبر القرآن الكريم هذا بلا شك إثبات لصفة في بني إسرائيل تكاد تكون غريزة فيهم وخصلة ملازمة لهم وعلى أهل الحق أن يلحظوا هذا وأن يعلموا هذه المعلومة من خلال هذا العرض الطيب الصادق في كتاب ربنا -سبحانه وتعالى- فإن من نقض عهده مع الله ونقض عهده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ليصدق معي ومعك، إنما ينبغي أن أكون ذكياً لماحاً وهكذا يخاطب الله المؤمنين بأنهم ? أُوْلُوا الأَلْبَابِ ? [ص: 29] وهذه صفة تمدح العقل والقلب بالذكاء والنماء والفهم والتفتح كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (لا يلدغ المؤمن من جرح مرتين) لدغ إخواننا قديما من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من بني إسرائيل ولدغ غيرهم ممن دونهم كالصحابة -رضي الله عنهم- من بني إسرائيل أنلدغ من بعدهم فينبغي أن يكون المؤمن فضلا عن العاقل العاقل على الأقل وإلا فالمؤمن من باب الأولى ينبغي أن يكون لماحاً يلتقط هذه الإشارات من خلال كتابنا العظيم قرآن ربنا دستور حياتنا فإذا ذكر عن قوم وصف مثل هذا بشكل مكثف وبشكل متكرر في مواقف عديدة في عهود ومواثيق شديدة مع الله رب العالمين -سبحانه وتعالى- في أمرهم يوم السبت وفي نقضهم ميثاقهم في عدة مرات وفي عدة أشياء هذا أدعى لأن ينقضوا عهدهم مع من دون هؤلاء فعلى العاقل أن يحظر وعلى المسلم من باب الأولى أن يحتاط لنفسه عند التعامل مع قوم هذه صفتهم من كاليهود والمنافقين والكافرين بشكل عام ويستفيد بالآيات التي وصفت هؤلاء الأقوام يستفيد من خلال هذه الآيات باستخراج واستنباط طريقة معينة يتعامل بها على حذر وعلى حيطة حتى لا يقع في مغبة ولا يلدغ من الجحر مرتين فهذه إشارة طيبة وسؤال مهم يفيدنا هذه الإفادة وهو أن ننتفع بما في القرآن من إشارات ولمحات نبه إليها العلماء كثيرا في خلال التفاسير(5/205)
(6/35)
---
وغيرها من كتب العلم جزى الله عنا علماءنا كل خير.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بإلقاء أسئلة هذه المحاضرة ؟
في هذه المحاضرة نلقي بعض الأسئلة عليها وعلى ما قيل فيها:
السؤال الأول: ما معنى قوله الله -تعالى-: ? أَسْرِ بِعِبَادِي ?؟ وما حكمة خروج موسى إسراءا؟
السؤال الثاني: اذكر أقوال السلف في المن والسلوى؟ وكيف تجمع بينها؟
ثالثا وأخيرا: ما حكمة تخصيص النعم المذكورة بالذكر في هذا المقام؟
طبعا هذا في قوله الله -تعالى-: ? يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى ? لماذا هذه النعم بالذات؟ ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة لا تعد ولا تحصى، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد وحسن المقال وصادق الأفعال, الله أمين.
(6/36)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (7) طه ( الآيات 83- 98)
الدرس السابع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته إلى يوم الدين وبعد.
ففي هذه المحاضرة المباركة التي نلتقي فيها مع حضراتكم حول تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- وهذه هي الحلقة السابعة نتناول فيها:
خروج سيدنا موسى -عليه السلام- إلى ميقات ربه حتى يعود من الميقات إلى قومه وما يجري في هذا الأمر، وذلك من خلال بعض العناصر التي قُسمت عليها الآيات المباركة.
الموضوع الأول: عجلة موسى إلى ميقات ربه.
الموضوع الثاني: رجوع موسى -عليه السلام- من ميقات ربه غضبان أسفاً.
الموضوع الثالث: ملامة موسى لأخيه هارون -عليه السلام- في ضلال بني إسرائيل.(5/206)
الموضوع الرابع: مراجعة موسى -عليه السلام- للسامري - لعنه الله- فيما فعل.
الموضوع الخامس والأخير: حكم الله على السامري جزاءَ جريمته.
وقبل تفصيل القول في هذه الموضوعات وهذه العناصر نستمع إلى الآيات المباركات من أخينا فليتفضل:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(7/1)
---
?وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى ?83 ? قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ?84 ? قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ?85 ? فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ?86 ? قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ?87 ? فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ?88 ? أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً ?89 ? وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ?90 ? قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ?91 ? قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ?92 ? أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ?93 ? قَالَ يَا بْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ?94 ? قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ(5/207)
?95 ? قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ?96 ? قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى
(7/2)
---
إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً ?97 ? إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ?98 ? ? [طه: 83- 98].
الموضوع الأول: عجلة موسى إلى ميقات ربه:
- سبحانه وتعالى- عليم بكل شيء، لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، في هذه الآيات الطيبات يُسجل الله ويذكر لنا تلك الوقائع عبر الطريق بعد أن تجاوز موسى -عليه السلام- ببني إسرائيل البحر، ذاهباً إلى ميقات ربه كما واعد الله بني إسرائيل وموسى، وعرفنا أن هذا كان من النعم التي امتن الله بها على بني إسرائيل ?يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى ? [طه: 80]، فكان من النعم أن الله -تبارك وتعالى- واعدهم أن يذهبوا إلى هناك لينزل عليهم من نعمه وليفيض عليهم من كرمه حيث سيكلم موسى -عليه السلام- وينزل عليه التوراة هداية ورحمة لبني إسرائيل.
(7/3)
---(5/208)
موسى -عليه السلام- كما سبقت الإشارة في إطالته الحديث- بعض الشيء- عندما قال الله له: ?وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ?17 ? قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ?18 ? ? [طه: 17، 18]، وكان يكفي أن يقول: هي عصاي ولكن إطالته للحديث دلت على محبته وأنسه بربه - سبحانه وتعالى- ومن ذلك أنه وهو في طريقه إلى ميقات ربه لم يصبر أن يذهب مع القوم، بل تركهم يذهبون على طاقتهم وتعجل هو ليسارع إلى ربه - سبحانه وتعالى- مبالغة في الإرضاء له ومبالغة في نوال رضا الله -عز وجل- أكثر وأكثر، فترك هارون -عليه السلام- خليفة من بعده على بني إسرائيل ليرعى أمرهم، حتى يصل بهم إلى جانب الطور الأيمن وأوصاه ببني إسرائيل خيرًا وذهب موسى حتى وصل إلى مكان الميقات وهناك كلمه الله -عز وجل- وقال له: ?وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى ? ما الذي جعلك تتعجل عن قومك وتتركهم خلفك ولم تبق معهم حتى تصل بهم إلى هنا؟ الله -عز وجل- يعلم كل شيء ولكن يجري الله الأمور على ما يعرف العباد، يسأل وموسى يجيب فيكون الكلام على حسب ما في نفس موسى لا على حسب ما علم الله منه، وهما لا يفترقان ولكن هذا يكون أوقع في إدارة القصة وفي حكايتها فيكون هذا على حسب ما تعود الناس في فهم الأحداث.
(7/4)
---(5/209)
?وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى ?83 ? قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ?84 ? ? هم أولاء على أثري أي:مقبلون على أثري وماضون ورائي، فالأثر:هو ما يتركه الماشي خلفه بسبب وضع قدمه على الأرض أو التراب،فتلك العلامة التي يتركها قدم الإنسان عند المشي أو حافر الدابة أو خفها عند المشي هذا يسمى:أثر الشيء،يسمى بالأثر، قال: ?قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ? على أثري أي:يتبعون أثري يأتون في طريقي، ورائي ويصلون -إن شاء الله- قريباً حسب معلومات موسى -عليه السلام- فأخبره الله -تعالى- بما كان لا يتوقع، بما كان لا يتحسب من قومه، ولا يظن فيهم ذلك، أخبره بخبر أغضبه وأحزنه: ?قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ? وهنا نلاحظ أنها أيام قليلة ترك موسى فيها قومه، حتى وصل إلى ميقات ربه وهم لا يزالون في الطريق فهي أيام قليلة تُعد على الأصابع يترك الراعي رعيته من بني إسرائيل أياماً قليلة وعليهم خليفة يَخلف الرسول الأصلي -عليه السلام- وإذا بهم يضلون هذا الضلال، وفتنا يعني: أوقعناهم في الفتنة والله- تعالى- لا يفعل هذا ابتداءً من عنده ولكن من سلك طريق شر بعدما سمع المواعظ ورأى الموانع الشرعية فإن الله -تعالى- يساعده على ما اختار ?وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ?8 ? وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ?9 ? فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ?10 ? ? [الليل: 9- 10]، فاختاروا اختياراً سيئاً قال لهم هارون -عليه السلام-: اجمعوا ما معكم من ذهب وكانوا عند خروجهم من مصر استعار كل واحد منهم من جيرانه ما عندهم من ذهب على أنه عارية يردونها مرة أخرى، فأخذوا الذهب وذهبوا بالليل وانصرفوا بذهب القبط فتعتبر سرقةً، ولذلك قال لهم هارون: اجمعوا هذا الذهب في حفيرة حتى يرجع إلينا موسى فيرى رأيه في هذا، ماذا نفعل به؟(5/210)
(7/5)
---
فلا يعرف أحد لنفسه ذهباً إنما الذهب ذهب الكل إما أن يقسمه أو يرى فيه رأياً من خلال ما يوحى إليه ويحكم فيه بحكم الله - سبحانه وتعالى- كان فيهم رجل يقال له: السامري، قيل: كان من بني إسرائيل وقيل: كان من القبط ولكنه صحبهم في رحلتهم هذا تعلقاً بهم، خرج معهم وكان حينما نزل جبريل -عليه السلام- لهلاك فرعون وإغراقه، رأى السامري جبريل -عليه السلام- أو رأى ما يركبه من فرس أو شيء يشبه الفرس فرأى حافر الفرس على الأرض فأخذ من أثر الفرس- ويُعتبر أثر الرسول جبريل -عليه السلام- أي ما كان من أثر الفرس على الأرض- أخذ قبضة من التراب حيث أُلقي في روعه يومها أنه لو قبض قبضة من أثر الرسول- جبريل -عليه السلام- فألقاها في شيء وقال لها: كوني لكانت بأمر الله فأخذ هذه القبضة واحتفظ بها حتى ألقى بنو إسرائيل الذهب في هذه الحفيرة أي الحفرة الصغيرة، فألقى السامري أيضًا ما في يده، ودعا ربه - سبحانه وتعالى- وأجابه الله إملاءً له وهكذا يشتد غضب الله -تعالى- على الظالم، فالسامري كان رجلاً فيه صلاح، وكان معه من الآيات التي بعثها الله في قلبه والإلهامات التي جعلته رجلاً صالحاً، وسمع من موسى ما سمع ولكن ترك كل ذلك، ورجع إلى أصله - كما قيل- إنه كان من قوم يعبدون البقر، أصل قومه قوم كانوا يعبدون البقر فانقلب إلى عقيدته الأولى، وصنع لهؤلاء عجلاً جسدًا لا روح فيه من هذا الذهب وأوحى إليهم أي: أفهمهم وعلمهم أن هذا إلهكم وإله موسى فأخذوا هذا العجل إلهاً من دون الله -عز وجل- فكانت فتنة عظيمة، السبب المباشر فيها: السامري، حيث قال الله –تعالى- ?وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ? هو الذي صنع لهم إلهاً من ذهب على صورة عجل وأوهمهم أن هذا إله فقبلوا الكلام منه وقبلوا هذه العقيدة الباطلة ونسوا عقولهم ونسوا حقيقة الإله وعظمة الإله لم يقارنوا ولم يوازنوا بعقولهم ولم يفكروا ولا لحظة، وبالتالي سقطوا في هذه الفتنة، لما(5/211)
اختاروها ولم
(7/6)
---
يرعوا ما نصحهم به هارون -عليه السلام- كما سيأتي الحديث في ذلك- لم يسمعوا لصوت الحق ولم يذكروا أن الله الحق الواحد - سبحانه وتعالى- قد أنجاهم من عدوهم وأنجاهم من البحر، وخلصهم من فرعون، لم يذكروا كل ذلك ونسوه وأرادوا عجلاً جسدًا إلهاً ظاهرًا أمامهم يمسونه ويحسونه بأيديهم ويرونه بأبصارهم فاتخذوا العجل من دون الله فكانت جريمة نكراء، فلما اختاروا هذا الله – تعالى- فتنهم به وأوقعه في قلوبهم.
كان هذا هو الموضوع الأول، وهو خروج موسى -عليه السلام- عاجلاً إلى ربه أو متعجلاً إلى ربه، وكان غرضه من ذلك أن يرضى عنه ربه أكثر وأكثر، فكان مقصوده حسناً ولكن لا نعيب على الأنبياء، وإنما الأنبياء بشر وحين يفكرون ويزنون الأمور بعقولهم فلابد أن تسقط منهم السقطات الدقيقة التي لا تعتبر ذنباً إلا في حق الأنبياء وموسى وإن تعجل لمرضات ربه إلا أنه ترك قومه ويعتبر في ميزان الله –تعالى- قصر إلى حد ما في مهمته حيث استخلفه الله على قومه فاستخلف هو أخاه هارون وكان ينبغي والأولى أن يبقى معهم ولا مانع من صدور مثل هذا من الأنبياء والمرسلين ولا ينقص من قدرهم شيئاً، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- أعرض عن عبد الله بن أم مكتوم وعبس في وجهه محاولة منه أن يفوز بكبراء مكة وكبار قريش فلو أسلموا دخلت مكة كلها في الإسلام - حسب تقدير النبي -عليه الصلاة والسلام- لموقف الدعوة- ولكن كان عند الله أمر آخر فعاتبه الله وقال: ?عَبَسَ وَتَوَلَّى ?1 ? أَن جَاءَهُ الأَعْمَى ?2 ? ? [عبس: 1، 2].
الموضوع الثاني: رجوع موسى -عليه السلام- من ميقات ربه غضبان أسفاً:
(7/7)
---(5/212)
وننتقل بهذا إلى الموضوع الثاني وهو: رجوع موسى من ميقات ربه غضبان آسفاً، وذلك بعد أن تلقى ألواح التوراة، كتب الله له ألواح التوراة بطريقة يعلمها الله - سبحانه وتعالى- وذكر ابن كثير -رحمه الله- أن جبريل أتى ورفع موسى إلى السماء الدنيا حتى سمع صرير الأقلام وهي تكتب الألواح كل هذا من الزيادات التي لا تؤثر في الموضوع الذي نتكلم فيه والعبرة التي تسوقها الآيات.
تلقى موسى الألواح وأخذها ورجع إلى قومه بسرعة متعجلاً أيضاً، ولكنه غاضب وأسيف، الغضب: هو انفعال في النفس يكون مما يسوء الإنسان، وربما لا يُخيفه، شيء يسيئه ولكن لا يخيفه، فهذا الإنسان يغضب مما أساء إليه وإن كان أمرًا غير مخيف، أما الأسى: فهو الحزن وهو انفعال في النفس أيضًا، لكن يكون من أثر ما يكره الإنسان، يرى الإنسان ما يكرهه فيأسف لذلك، ويحزن، وقول الناس لبعضهم: أنا آسف يعني: أنا حزين لخطئي في حقك أشاطرك الأحزان فيما أحزنتك به فالأسف هو الحزن.
(7/8)
---(5/213)
رجع موسى -عليه السلام- غضبان من قومه أنهم لم يتمسكوا بالإله الحق وعدلوا عنه إلى إله باطل أو إلى باطل يقولون عنه: إنه إله، غضب من قومه أنهم تركوا الإله الواحد وأشركوا معه غيره مما لا يستحق شيئًا من الألوهية ولا مما دونها فقد عبدوا عجلا ًحيواناً ليس إنساناً، فكان ضلالهم مع فرعون أخف وطأة من ضلالهم مع العجل ثم إنه ليس عجلاً حقيقياً إنه صنم إنه وثن ليس عجلاً حقيقياً فلذلك كان ضلالهم هذه المرة ضلالاً عظيماً مغضباً لموسى -عليه السلام- وكان أسفاً يعني: حزينا لأن قومه لم يتبعوه ولم يكونوا على طريقه ولم يستجيبوا للموعظة التي ألقاها هارون ولا للعهد الذي عهده إليهم موسى -عليه السلام- عن ربه - سبحانه وتعالى- فرجع بهذا الغضب وذاك الأسى ليقول لهم: يا قومي ?أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ?، وهذا سؤال فيه استنكار أي: إن الله وعدكم وعداً حسناً، فلماذا تركتموه؟ لماذا نسيتموه؟ لماذا لم تنتظروا؟ ?أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَن ? وهو ?وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ ? وهذا الوعد لا يستطيع تحقيق مثله ذلكم العجل ولا أقل منه ولا أدنى ولا مقارنة في هذا بالمرة فإلهكم يتكلم ربكم يوحي إلى الأنبياء الله -عز وجل- يُشَرِّع وهذا عجل لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا يرجع إليكم قولاً، فقال لهم: ?قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَن ? لماذا فعلتم هذا ?أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ ? استبطأتم واستأخرتم عهد الله ووعده الله، هل تأخر الله عليكم بوعده ?أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ ? أم: بمعنى بل، بل أردتم ?أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ ? يعني: بل أردتم ولكنكم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ? فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ? بفعلكم هذا، سلكتم مسلك من يريد أن ينزل الله وأن يحل الله عليه غضبه وسخطه، ممثلاً في عقوبة عظيمة وعذاب أليم،(5/214)
(7/9)
---
وما كان لكم أن تفعلوا هذا ?أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ? وهنا ينسب الموعد له لنفسه هو مع أنه قال في البداية ?أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ ? لأن موسى ما كان له أن يعد قومه وهو رسول إلا أن يكون الوعد من عند الله -تبارك وتعالى- ولأن الذي وعد أصلاً هو الله وموسى -عليه السلام- هو الذي بلغ قومه عن الله هذا الموعد ?فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ?.
(7/10)
---(5/215)
قاموا يعتذرون إليه باعتذار واهٍ باعتذار لا حقيقة فيه ?قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَ ? وقرأت: بِمُلْكِنا، وقرأت: بِمِلْكِنا، والثلاثة قراءات بمعنى واحد، ?مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَ ? أي: بإرادتنا وطوعنا واختيارنا ما اخترنا ذلك، وكأنهم يقولون: أجبرنا على خُلْف الوعد، واضطررنا لذلك، ولكن هذا ليس بحق، ?قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القَوْمِ ? أي حملنا أحمالاً ثقيلة من زينة القبط، من الذهب والفضة ونحو ذلك، وكأن أحداً أوصاهم بهذا وليس هو موسى -عليه السلام- ولا هارون فليس لنبي أن يوصي بسرقة ولا بخيانة أمانة، ولا لنبي أن يفعل ذلك، إنما يبدو أن بعضهم أوصى بعضًا بهذا، ولعل بعض المغرضين منهم، وبعض الذين يشعرون بالظلم قالوا: ننتقم من آل فرعون فنأخذ ما عندهم من زينة ولذلك هنا يقولون: ?حُمِّلْنَ ?، أي: حملنا غيرنا، لم نحمل بأنفسنا وإنما حملنا غيرنا ?حُمِّلْنَا أَوْزَار ? ولم يجبروا على هذا حتى وإن قال لهم أحد هذا فليس الإنسان مجبرًا على أخذ مال الغير، ليسوا في هذا الوضع مكرهين، ?وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القَوْمِ ? والوزر: هو الحمل الثقيل، وسمي الذنب وزراًً لأنه حمل ثقيل، مهما كان في عين الإنسان صغيرًا، ومهما كان يشعر به الإنسان أنه خفيف إلا أنه عند الله عظيم، ?وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ? [النور: 15]، ?وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القَوْمِ فَقَذَفْنَاهَ ? أي: في الحفرة كما قال لنا هارون وقيل: سول لهم السامري هذا، ?فَقَذَفْنَاهَ ? أي: ألقيناها في الحفرة، ?فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ?، السامري فعل ذلك أيضًا ولكن ماذا ألقى السامري، السامري ألقى ما قبضه من أثر الرسول أي: من تراب من أثر جبريل -عليه السلام- أي من المكان الذي كان فيه،(5/216)
(7/11)
---
وأُلهم بذلك، وأخذ هذه القبضة، والقبضة تكون بالكف وتكون بالأصابع أو ببعضها، فقد تكون القبضة بأصبعين أخذ هذه القبضة من التراب وألقاها ودعا الله -تعالى- وسأل هارون أن يدعو له أن تستجاب دعوته فدعا له هارون دون أن يعرف ما دعوته، فليس الإنسان مكلفاً أن يسأل من سأله الدعاء ماذا تريد، يقول بعض الناس: نسألكم الدعاء، لا أقول له: ماذا تريد؟ ماذا عندك من المشاكل أدعو لك فيها؟ لا.. إنما أدعو له اللهم اقضِ له حاجته. فدعا له هارون أن يقضي الله له حاجته على ما نفسه فهو أدرى بحاجته وما قصد هارون إلا خيراً، بينما كان السامري يضمر الشر، فألقى السامري ما في يده، قيل: تحول الذهب بالدعاء إلى عجل وقلنا: هذا من إملاء الله للسامري الله -تعالى- قد يهيء ويساعد بعض الناس على معصيتهم ذلك من شدة غضبه عليهم- نعوذ بالله- والمؤمن الطائع لا يوفق لمعصية، الله -تعالى- يجعل في طريقه من الموانع ما يصرفه مهما ضعفت نفسه أو دعته المغريات فالله –تعالى- يحفظه كما قال الله -تعالى- عن يوسف -عليه السلام-: ?وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ? [يوسف: 24]، وقال يوسف: ?رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ ? [يوسف: 33]، بالبشرية قد يميل الإنسان إلى المخالفة إلى المعصية إلى الشهوة، ولكنَّ العصمة من عندك يا رب، فالله تعالى قد يمنع بعض المؤمنين من المعاصي مهما اشتهتها أنفسهم وربما ييسر لبعض الكافرين العاصين المعاصي التي يريدونها من باب الإملاء لهم، والإمهال لهم لأنه ساق لهم المواعظ فلم يتعظوا وبيَّن لهم الحق فلم يتبعوا.
(7/12)
---(5/217)
وذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن ابن أبي حاتم -رحمه الله تعالى- عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن هارون -عليه السلام- مرَّ بالسامري وهو ينحت العجل فقال له: ما تصنع؟ قال: أصنع ما يضر ولا ينفع فقال له هارون: اللهم اعطه ما سأل على ما في نفسه، ولم يسأل ماذا يصنع بالضبط ولم يتبين هذا الأمر لعله من باب ترك ما لا يعنيه أو عدم التدخل في أمور الآخرين حيث ما كان يظن أن هذا العمل يصل إلى هذه الفتنة ببني إسرائيل.
(7/13)
---(5/218)
وكان بنو إسرائيل قد اعتادوا في مصر مع الفراعنة عبادة العجل وكان لهم عجل اسمه: إيبيس يعبدونه من ضمن الآلهة، فلعل السامري اختار هذه الصورة اختار هذا الشكل لتعود بني إسرائيل على ذلك في مصر مع الفراعنة ولأنه كان من أصل ومن قوم يعبدون البقر، فهذه هي الفكرة التي جاءته ليصنع عليها عجلاً ليوحي لبني إسرائيل أن هذا إلههم ليعبدوه من دون الله -عز وجل- ?فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ ? جسداً لا روح فيه لأنه لا ينفخ الروح في الأجساد إلا الله - سبحانه وتعالى- وذلك هو السر الذي يميز إلهنا رب العالمين عن كل من ادُّعي أنه إله، وتلك هي الحجة التي احتج بها إبراهيم -عليه السلام- على النمروذ عليه اللعنة قال إبراهيم: ?رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ? [البقرة: 258]، قال النمروزذ: ?قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ? [البقرة: 258]، ظن أن الإحياء والإماتة مسألة قتل أو إطعام وتوفير أسباب الحياة أو أسباب استمرار الحياة فجاء بشخصين وأجاعهما حتى أشرفا على الموت من الجوع ثم أطعم أحدهما وترك الآخر يموت جوعاً فقال: هكذا أحييت هذا وأمت ذاك. فرأى إبراهيم أن النمروذ لا يفهم ولا يعقل تملكه الغباء والسفه فانتقل به من هذه الآية التي يجادل فيها بالباطل إلى آية لا يملك فيها كلاماً، ?قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ? [البقرة: 258] بُهِتَ أي: قطع قطع كلامه قطعت حجته فلم يبدل كلاماً مع إبراهيم بعد ذلك، لكن هذا كان فهمه عن الإحياء والإماته، إنما الإحياء والإماتة أمر آخر أن يكون جسد ميتاً أو لا حركة فيه كما كان جسد آدم أولاً جسداً من طين ثم نفخ الله فيه من روحه، أو كان جسد الرجل الذي قُتل في بني إسرائيل فبعث الله فيه الحياة ?فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ(5/219)
(7/14)
---
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ? [البقرة: 73]، قام الميت المقتول حياً- بإذن الله -تعالى- الله -تعالى- رد إليه سر حياة حتى يقوم ويخبر عن قاتله، ويفصل في القضية التي كانت في بني إسرائيل، هذا هو الإحياء: أن يحيى الموات، شيء ميت جسد لا حركة فيه، ويوهب الحياة، أو أنه يكون جسداً متحركاً ثم تسلب منه الحياة سلباً مع توفر الطعام والشراب والراحة وكل أسباب استمرار الحياة متوفرة ومحيطة به، ومع ذلك يموت، كما نرى الموت فيما بيننا يموت السليم قبل المريض، ويموت الصغير قبل الكبير، ويموت من يؤمل في الدنيا، قبل من يؤمل في الموت، ويموت الرجل على فراشه ولا يموت المحارب في الحرب وهكذا ?وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ? [الرعد: 17]، ذلك في النار والله- تعالى- يمنع عنه الموت مع توفر أسباب الموت.
فهذا من خصائص الله -تبارك وتعالى- الإحياء والإماتة، أما السامري فلم يستطع أكثر من صنع جسد عجل، ?لَّهُ خُوَارٌ ? أي له صوت والخوار صوت البقر، يقال له: خوار، وذلك أنه جعله بوضع معين بحيث إذا هبت الريح دخلت في دبر العجل من الخلف فخرجت من فمه فأحدثت صفيرًا فيوحي بهذا إلى بني إسرائيل إيحاءً نفسيًا أن العجل حي ويحدث صوتًا ورغاءً فيزدادون أو فيزدادوا يقيناً بهذا الإله المزعوم ويزدادوا ضلالاً بعبادته وبحبه, حتى وقع العجل في قلوب بني إسرائيل لم يعبدوه مجرد عبادة أو لفترة أو نحو ذلك إنما أحبوه حبًا شديدًا، كما قال تعالى: ?وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ? [البقرة: 93]، وصل العجل في قلوب بني إسرائيل أو في عبادتهم وتقديسهم إلى أن سكن القلب، أن سكن القلب كأن شيئًا من الشراب شربه الإنسان فصار في جوفه: ?وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ? [البقرة: 93].
(7/15)
---(5/220)
?فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ? بعد أن صنع العجل عَلَّمَ بني إسرائيل هذا العلم الباطل وهذا الشرك المحض الخالص قال: ?هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ? وهذا من الطغيان لم يقل: هذا إلهكم فقط بل، هو إله نبيكم موسى -عليه السلام- وذلك حتى يقنعهم بالعجل أكثر وأكثر حتى يعطيهم يقينا أن هذا هو إله موسى إذن: من باب الأولى يكون إلهاً لكم ?فَنَسِيَ ? أي فنسي السامري الفاعل هنا محذوف، الفاعل في فنسي محذوف، ولذلك يحتمل فيه قولان، أن يكون الناسي هنا هو السامري، فنسي بمعنى نسي ما كان معه من هدى من قبل ذلك، أو نسي بمعنى: ضيع فالنسيان والسهو يطلق على التضييع كما قال تعالى: ?فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ?4 ? الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ?5 ? ? [الماعون: 4، 5]، يعني: الذين هم لصلاتهم مضيعون، يقول: الآن أصلي، بعد وقت قصير أصلي بعد أن أنتهي مما في يدي أصلي أصلي حتى يؤذن للفريضة التالية، ويضيع الفريضة الأولى، وإن كان ناوياً أن يصليها وحريصاً على صلاتها وأدائها ولكنه أجلها فنسيها وسها عنها فضيعها، لأن النسيان هنا سبب للتضييع فيطلق عليه من إطلاق السبب على المسبب فإما أنه نسي ما كان عليه من هدى وإما أنه نسي بمعنى: ضيع ما كان معه من هدى، والمعنيان مقبولان ولا يتعارضان، وإما أن يكون الفاعل للنسيان، موسى -عليه السلام- فنسي موسى، وهذا يكون من تمام كلام السامري، أن يقول السامري لبني إسرائيل: هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى أن يذكركم به، وتعجل وراح يبحث عن هذا الإله عند جبل الطور فأوهمهم أن موسى يعرف أن هذا العجل هو الإله، هو الرب الذي أنجاكم وكلمكم وواعدكم ومَنَّ عليكم، هذا هو، ولكن موسى نسي أن مكانه هنا ونسي أن يذكركم به ويعلمكم إياه، وذهب مُسرعًا يتلمس العجل عند جبل الطور وهذا من الإمعان في الضلال والافتراء على نبي الله موسى -(5/221)
(7/16)
---
عليه السلام-.
وهنا نلاحظ في اعتذار بني إسرائيل عن جريمتهم أنه اعتذار واهٍ ويبدو أن الذين ردوا على موسى قوم يعتبرون أصلح بني إسرائيل في ذلك الوقت، هم ضلوا مع الضالين ولكن كانوا في أصلهم طيبين مؤمنين فلما غلبتهم الكثرة بعبادة العجل انخرطوا فيهم واختلطوا بهم وعملوا بعملهم ولذلك قالوا: ?مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ?، اعتذروا اعتذاراً واهياً، ?حُمِّلْنَ ? يعني: سُرقنا، أمرنا بسرقة ذهب وَحُلّي القبط، وكأنهم يندمون على هذا العمل، فيعتذرون عن سرقة، والعذر هو أنهم أشركوا بالله -عز وجل- يعني: الذي دفعنا إلى ذلك هو سرقتنا وذلك مثَّل له البعض بما ورد عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- في الحديث الصحيح:( أن رجلاً قابله في موسم حج فسأله عن حكم قتل الذباب في الحرم فقال: من أين الرجل؟ فقال: من العراق. قال: انظروا أيها الناس إلى أهل العراق أهدروا دم الحسين - عليه رضوان الله- ويسألون عن حكم دم الذباب في الحرم) ففعل الكبيرة الشنيعة ولم يشعر بها ولم يجرمها في حق نفسه ويسأل عن الصغيرة التي ربما لا قيمة لها، فهؤلاء سُرِّقُوا سَرقة كبيرة من الكبائر أما الشرك فلو ماتوا عليه فهو كفر ونار وهلاك ?إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ ? [النساء: 48].
(7/17)
---(5/222)
الله -تبارك وتعالى- أجرى على لسان موسى -عليه السلام- دليلاً عقلياً يوبخ به بني إسرائيل في الجريمة التي فعلوها، وعلى الذنب الذي ارتكبوه قال: ?أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَراًّ وَلاَ نَفْع ? يعني: كان ينبغي عليهم أن يشعروا أن هذا العجل لا يملك ضرًا ولا نفعًا لا لنفسه ولا لغيره، وأنه لا حياة فيه، ولا كلام له فلا يرد عليهم قولاً لو كلموه لا يسمعهم ولا يجيبهم ولا هو يكلمهم من نفسه وهذا فيه إشارة إلى أن الإله الحق لابد أن يكون متكلمًا فكلام الله بيننا في القرآن الكريم وكلام الله –تعالى- للأمم السابقة في الكتب السابقة وتكليم الله لموسى -عليه السلام- ولنبينا -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج كل هذا دليل على أن من نعبده إله حق إله يتكلم - سبحانه وتعالى- كلاماً يليق بذاته -عز وجل-.
الموضوع الثالث: ملامة موسى لأخيه هارون -عليه السلام- في ضلال بني إسرائيل:
(7/18)
---(5/223)
ثم التفت موسى -عليه السلام- إلى أخيه هارون- وهذا هو الموقف الثالث والموضوع الثالث- يلومه على ما قصر- في نظر موسى- في حق بني إسرائيل أنه قصر في هذه الرعية ?وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ? قبل أن يحكي الله ويقص ملامة سيدنا موسى -عليه السلام- لهارون -عليه السلام- عَذَرَ لهارون أولاً، ذكر الله –تعالى- ما لم يحضره وما لم يشهده موسى من هارون وذلك حين اتخذ بنو إسرائيل العجل فهارون لم يسكت قاومهم وذكرهم ونصحهم حتى كادوا يقتلونه هو يكلمهم، بالحسنى ويعظهم بالموعظة الحسنة وهم يحاولون قتله، كادوا يقتلوه وصار القوم فريقين فريقًا يؤيد هارون وفريقًا لا يؤيده يعارضه ويضاده فبنو إسرائيل ستفترق بعد أن تركهم موسى أمة واحدة وجماعة واحدة ستفترق فسكت هارون حتى يرجع موسى لقومه ويرى فيهم رأيه ولئلا يقتلوه فأراد أن ينجو من خطرهم فربنا يعذر لهارون أولاً فيقول: ?وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ? ليس هذه حقيقة ولا هذا إله إنما فتنتم به ?وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ? اتبعوني لأني نبي مع موسى وأطيعوا أمري لأني نبي أتكلم مع موسى بالوحي الذي يوحي الله -تبارك وتعالى- به، فكان ردهم عليه ردًا قاسيًا ردًا حادًا ?قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ? لن نبرح أي: لن نترك العكوف على هذا الإله وهذا العجل والعكوف ومنه الاعتكاف وهو الانقطاع للعبادة، أي: سننقطع ونستمر على عبادة هذا العجل حتى يرجع إلينا موسى.
(7/19)
---(5/224)
إذن: هارون -عليه السلام- أدى دوره، ولكن لم يشهد موسى هذا المشهد فلما رجع ووجد القوم هكذا، وكلمهم في أمر جريمتهم التفت إلى أمر هارون ?قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ?92 ? أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ?93 ? ? ما الذي منعك يا هارون حين رأيتهم ضلوا هكذا أن تأتي إلي لتخبرني بهذا لأرجع إليهم وأقاومهم؟ فهارون ما كان ليترك بني إسرائيل وينصرف إلى موسى فسيتم المراد من الشر، وما استطاع مقاومتهم ولا صدهم, ومن غضب موسى -عليه السلام- وقد عرفنا أنه شديد الغضب في الحق تثور ثورته- أخذ بشعر رأس أخيه وأخذ بشعر لحيته، وهذا يدل على أن هارون كان بلحية ومن باب الأولى أن موسى كان ذا لحية أيضًا، وهذه شيمة الرجال عموماً وخاصة الأنبياء هم أولى الناس بهذا، هذه فطرة في الرجال كما خلقهم الله على ذلك وجاء الشرع في كل زمان يحث على إعفائها وتركها ولذلك نرى رجال الدين في كل شريعة مبقون على اللحية محتفظون بها وإن قصر في ذلك بقية الأتباع، فأخذ موسى برأس ولحية هارون من باب غضبه عليه أنه لم يحفظ بني إسرائيل كما ينبغي.
(7/20)
---(5/225)
قال هارون له ?يَا بْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ? يا ابن أم، لماذا لم يقل: يا ابن أبي؟ ولماذا لم يقل: يا أخي؟ ذكر له الصلة التي بينهما والتي مضمونها الرحمة، والرأفة أنا وأنت كنا في رحم أمٍّ واحدة، ففيها العطف والحنان والرحمة فهي رمز لذلك فكأنه يسترحمه بذكر أمه يا ابن أم وقرأت: يا ابن أمِ والمعنى واحد، ?يَا بْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ?لا تعنفني ولا تعاقبني هكذا، اسمع لعذري، واعتذر له هارون: ?إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ? إني خشيت أي: قدرت وخفت هذا المقام فالخشية- كما قلنا قبل ذلك- هي: تقدير المواقف حق قدرها وإعطاؤها حقها، في التقدير: ?إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ? لو ظل يقاومهم لافترق بني إسرائيل إلى فريقين: فريق مؤيد لهارون على التوحيد وبطلان هذا العجل، وفريق مؤيد للعجل والسامري فخشي هارون أن يفرق الأمة من بعد موسى فرضي اجتماعهم على ضلالة خير من أن يفرقهم فصبر حتى يرجع موسى على ذلك، ?وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ? أي: أن تقول: إنك لم ترقب قولي ولم تتبع قولي في بني إسرائيل حين قلت لك: ?اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ?، هكذا اعتذر هارون -عليه السلام- وينتهي هذا الموقف بين موسى وهارون ليلتفت موسى -عليه السلام- إلى السامري- صاحب الجريمة الشنعاء- فهذا هو أس الفساد وهو سبب هذه الجريمة وفاعلها وهنا مراجعة موسى للسامري كأنه يحقق معه فيما فعل قال: أي: موسى -عليه السلام-: ?فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ? اسمه: السامري نسبة إلى قبيلة كانت بفلسطين، وقيل: نسبة إلى قرية كانت بمصر، إذن: أصله فلسطيني أو أصله مصري، قبطي، وقيل غير ذلك، وقالوا: منسوب لأن اسمه على وزن النسبة- سامري، مكي، مدني- وهكذا، مصري، وقيل: هو غير(5/226)
(7/21)
---
منسوب اسمه هكذا سامري بغير نسبة، مثل علي، وكرسي، الياء فيها ليست للنسبة إنما الاسم هكذا، فاسمه غير منسوب سامري، وهذا كلقب ولكن اسمه الحقيقي: موسى بن ظفر، وقيل: اسمه هارون، وهذا كله لا يعني في شيء إنما هو من باب بيان المبهمات في القرآن وربما تعجب النفس ولكن لا تؤثر في العبرة المسوقة خلال الآيات. وللعلم هناك طائفة من اليهود اسمها: السامرة، وهناك قرية اسمها: قرية السامريين، السامري ليس من هذه الطائفة وليس من هذه القرية إنما تشابهت الأسماء والسامري كان قبلهما.
(7/22)
---(5/227)
قال موسى: ?فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ? أي: ما شأنك؟ ما أمرك؟ على حسب الحال أي: ما جريمتك؟وما مصيبتك التي فعلتها هذه؟ قال مجيباً- لعنه الله-: ?قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ? أي رأيت ما لم يرى الناس أو علمت بما لم يعلم الناس، فبصر تأتي بمعنى البصر وبمعنى البصيرة والعلم، ككلمة رأى ومن أبصر شيئاً فقد علم به، فالمعنيان ملتقيان أيضًا ولا تعارض بينهما، ?بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ? وذلك أنه رأى أثر الرسول جبريل -عليه السلام- وهو نازل لهلاك فرعون، أو وهو نازل لأخذ موسى، ليتلقى التوراة في السماء ?بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ? ?وَكَذَلِكَ ? يعني: هكذا بهذه الطريقة ?سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ? أن أفعل ذلك، حيث كان- كما عرفنا- يُلقى في روعه يعني: يشعر أنه لو أخذ قبضة من هنا ففعل بها كذا لكان كذا، ونسي المواعظ والعلم الذي كان عليه والهدى الذي كان معه، ?فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ? وهنا يحكم الله –تعالى- على السامري، بالحكم الأخير: ?قَالَ فَاذْهَبْ ? يقول له موسى -عليه السلام- طبعًا ناطقاً بحكم الله -عز وجل-: ?فَاذْهَبْ ? يعني: انصرف من هنا فطرده من جماعة بني إسرائيل- الصحبة التي كان معها والجماعة التي أحبها وأغواها فيما بعد- ينحرم من صحبتها ومن الكينونة فيهم، فاذهب: طرد لهذا الرجل لأنه أوقع القوم في فتنة عظيمة ولعله يؤخذ من هذا أن الفتانين ينبغي أن يبعدوا عن الناس فتكون القوة بين المسلمين آخذة على يد المفسدين حتى لا تَغْرِق السفينة بالجميع فلو أنزل الله –تعالى- غضبه على السامري وهو في بني إسرائيل لأنزل غضبه على الجميع ولكن لأن هذه الأمة مُعَدة لتلقي شريعة قادمة لم يسمعوا التوراة بعد فاحتفظ الله – تعالى- بالأمة لأنها مضللة في هذا الموقع وطرد
(7/23)(5/228)
---
السامري.
فاذهب، ثم عاقبه عاقبه من جنس العمل والجزاء عند الله – تعالى- والجزاء عند الله –تعالى- من جنس العمل بالخير والشر دائماً وهذا من منتهى العدل عند الله - تبارك وتعالى- ?قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ ? كان يمكن أن يقضي الله عليه بالموت ولكن لا... يعاقب في الدنيا أولاً ليكون عبرة لبني إسرائيل لعلهم يعتبرون، فأبقى الله له حياته ?فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ ? فحياته ممتدة ?أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ ? يعني: إذا رآك الناس ورأيتهم أن تقول لهم: لا يمسني أحد وأن يقول الناس لك: لا تمسنا، فالناس يتمنعون عنه، وهو يتمنع عن الناس، لا يطيق لمس الناس ولا يطيق الناس لمسه، فهو كالشيء الذي يصيب الناس بالعدوى والمرض فيخاف الناس من لمسه، وهو يُضرٌّ بلمس الناس - سبحان الله- مع أن الناس أهل عافية وهو صاحب مرض ولكن لا يطيق لمس الناس وذكر بعض المفسرين أنه لا مساس يعني: لا قرب ممنوع الاقتراب يعني لا تقربنا ولا تقربونا هو يقول للناس: لا أحد يقربني ويقول له الناس إذا رأوه: لا تقربنا، فيعيش هكذا وحيدًا طريدًا يعيش بعيدًا عن الناس رغم أنهم من حوله لكن لا يمسه أحد ولا يمس أحداً إذن: لن يتعامل مع أحد ولن يتعامل معه أحد قالوا: ذلك جزاءً له لأنه مس ما لا يحق له أن يمس فأخذ وقبض قبضة من أثر الرسول ما كان له أن يفعل ذلك لأنه لم يؤذن له في ذلك وليس عنده دليل ولا علم يتبعه في هذا الأمر، فلما قبض قبضة من أثر الرسول بغير دليل وبغير شرع وبغير إذن من الله، الله – تعالى- حكم عليه أنه لا مساس، ويذكر في كتب بني إسرائيل في ذلك أنه أصيب بمرض خطير، مرض منفر لا يمسه الناس ولا هو يخالط الناس حتى لا يصيبهم ولا يصابون منه بهذا الأذى وبهذا المرض.
(7/24)
---(5/229)
وهكذا يقضي الله –تعالى- بحكمه في المشركين، وفي المضللين، ففي وضع السامري وفي هذه الكلمة "لا مساس" عبرة لمن أراد أن يعتبر أن الشرك جريمة وخيمة وأن فتنة العباد عن ربهم - سبحانه وتعالى- جريرة عظيمة لا ينبغي أبداً لإنسان عاقل أن تسول له نفسه أن يفعل ذلك فالله- تعالى- توعد وقال: ?إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ? [البروج: 10] أصل الآية وأصل الكلام: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق، فتنوهم عن ربهم، صرفوهم عن عبادة الله بالمغريات والمخوفات وما إلى ذلك ولكن من رحمة الله - تبارك وتعالى- أن اعترض بين الجريمة وبين العقوبة بفتح باب الرحمة، فقال: ?إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُو ? [البروج: 10]، وذلك ليفتح باب التوبة لمن وقع في هذا الذنب ولا تزال عنده بقية حياة، فعليه أن يتوب إلى الله وأن يرجع لكي يتوب الله – تعالى- عليه، ويغفر له ذلته العظيمة مهما تعاظمت ومهما فتن فيما سبق من الناس لو أنه تاب إلى الله وأخذ بشريعة الله فإن الله – تعالى- يتوب عليه، ويقبل عليه برحمته ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? [الزمر: 53]، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يغفر لنا وأن يرحمنا وأن يثبتنا على توحيده - سبحانه وتعالى- وأن يعيذنا من الشرك به مما نعلمه ومما لا نعلمه، حتى نلقاه وهو راضٍ عنا غير غضبان، وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
إجابات الحلقة السابقة:
كان السؤال الأول: ما معنى قوله الله –تعالى- ?فَأَسْرِ بِعِبَادِي ? [الدخان: 23]، وما حكمة خروج موسى إسراءً؟
(7/25)
---(5/230)
كانت الإجابة الإسراء هو المشي بالليل والحكمة من خروج موسى إسراءً أن الله قادر على أن يأمر موسى بالخروج مع بني إسرائيل نهاراً جهاراً لا يخشى شيئاً لأن الله قادر على حمايتهم بيد أن الله يريد أن يعود عباده أن يتبعوا الأسباب في الأرض حتى إذا تعطلت الأسباب رفعوا أيديهم ودعوا الله ولكنها حكمة بالغة يتجلى فيها أمران:
الأول: رحمة الله بموسى ومن معه فكأن الله أراد أن يفاديهم شدة المواجهة مع فرعون لو خرجوا بالنهار.
ثانيًا: لطف من الله وإمهال لفرعون لعله يتوب ويرجع.
إجابة صحيحة ونشكر الإخوة والأخوات المشاركين في هذه الإجابات.
السؤال الثاني: اذكر أقوال السلف في المن والسلوى وكيف نجمع بينهما؟
وكانت الإجابة:
المن والسلوى طعام وشراب وحلاوة وغذاء تكفل الله – تعالى- به لم تشارك فيه يد بشر، فالمن كما ذكر ابن كثير عن المفسرين من السلف ذكر عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: «كان المن ينزل عليهم من الأشجار» وذكر غيره أنها: «كانت أشجار الزنجبيل» أياً كان الأمر، فكان ينزل المن على الأشجار مثل الندى فيغدون في الصباح فيأكلون منه ما يشاءون وذكر ابن كثير أيضًا: عن قتادة : «أن هذا المن كان ينزل كسقوط الثلج أشد بياضاً من اللبن وأحلى مذاقاً من العسل» وذكر ابن الربيع بن أنس: «أنه شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ويشربونه» وقال عامر الشعبي: «عسلكم هذا أي الذي نأكله نحن جزء من سبعين جزءًا من المن».
الجمع بين هذه الأقوال ما عقبه ابن كثير: «من أن هذه الأقوال متقاربة فهو كل ما امتن الله به على بني إسرائيل من طعام أو شراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد» يقول ابن كثير: «فالمن مشهور إن أُكل وحده كان طعاماً يشبع من الجوع وحلاوة وإن مزج مع الماء صار شرابًا طيبًا وإن ركب مع غيره صار نوعًا آخر».
(7/26)
---(5/231)
السلوى: نوع آخر من الطعام، قال ابن عباس فيما رواه عن علي بن أبي طلحة: «طائر شبيه بالسمان» وقاله كذلك مجاهد والشعبي والضحاك والحسن وكثير من السلف وقال عكرمة: «هو كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور» وقال البعض: «هو كالحمام ولكنه لذيذ الطعم شهي المذاق».
ما شاء الله –تعالى- نسأل الله أن يرزقنا في الجنة، إجابات وافية ومشكورة وجهود طيبة تبشر بالخير إن شاء الله.
السؤال الثالث: ما حكمة تخصيص النعم المذكورة في هذا المقام؟
وكانت الإجابة:
أن هذه النعم تشمل جميع ما يحتاجه بنو إسرائيل فالله قد أعطاهم غذاء الروح ونظام الحياة في التوراة وغذاء البدن من طعام وشراب وكساء وماديات في المن والسلوى وأيضًا السلامة من العدو في إنجائهم من فرعون وبطشه، فقال لهم متناً عليهم مؤذناً لهم ?كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ? [طه: 81]
نعم، ونضيف إلى ذلك أن هذه النعم كانت أقرب النعم إلى بني إسرائيل ?قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى ? [طه: 80] فكانت أقرب النعم إلى بني إسرائيل فكانت لا تزال في حسهم ولا تزال في مذاقهم، مثلها لا ينسى لقرب العهد بها، نشكر الإخوة والأخوات على هذه الإجابات التي تفضلوا بها ونسأل الله –تعالى- أن ينفعنا وإياهم بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما رأيك في بعض من الإخوان يقول: إنه يرى الرسول -عليه الصلاة والسلام- مباشرة يقظة بدون رؤيا منامية، يأخذ منه الأذكار وبعض الأدعية؟ هل يجوز هذا أم لا يجوز؟
(7/27)
---(5/232)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر بنص القرآن الكريم وبإقراره -صلى الله عليه وسلم- فيما أوحى الله إليه ?قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ? [الكهف: 110] ولذلك تجري عليه من سنن الله - تبارك وتعالى- ما يجري على البشر ومن ذلك الموت، مات النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنسبة لنا هو عند ربه حي حياة يعلمها الله -عز وجل- ولكنها حياة لا تمكننا من المكالمة أو المحادثة معه فلا نستطيع أن نكلمه فيسمعنا فيجيبنا فضلاً عن أن نراه يقظة إنما الذي صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الواحد من الأمة قد يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام ومن رآه في المنام فقد رآه حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بصورة وهيئة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- إذن: لابد أن يكون ذلك منامًا. ثانيًا: لابد أن يكون من يراه في هيئة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي صورته المعروفة من خلال السنة الشريفة، التي وصفت خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من طول قامته طولاً غير بائن من احمرار وجهه أو كان أبيض مشرب بحمرة، كان عظيم وكث اللحية وهكذا كان جميلاً -عليه الصلاة والسلام- كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فلو رأى صورة مشابهة وأمرته بمنكر فليس هذا هو رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أو ينهى عن معروف فهذا ليس هو رأى صورة مخالفة ليس هو إنما قد يكون هذا شيطان تلبس بهذه الصورة الممثلة أو أنها رؤيا وفيها إشارة إلى السنة ليست هي رسول الله -عليه الصلاة والسلام- نفسه ولكن إشارة إلى السنة، يكون هو مقصراً في السنة مثلا فيرى النبي -عليه الصلاة والسلام- حليقاً أو بصورة غير الصورة المعروفة فلعل في دينه نقصاً وفي اتباعه للسنة قصورًا فعليه أن يجاهد نفسه في هذا الباب. أما رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- رؤية شريفة فتكون مناماً وتكون بالهيئة الكاملة المعروفة برسول الله -عليه الصلاة والسلام- كما بينتها السنة الصحيحة.
(7/28)
---(5/233)
أما رؤيته يقظة وحقيقة وفي الحياة فهذا غير واقع بالمرة أولاً: ليس هناك دليل شرعي على ذلك يقول أو يجيز أن يرى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- حيًا بعد أن مات في عالمنا هذا. ثانيًا: لأنه بالواقع لم يحدث لمن هو أمثل منا وأفضل منا: أبو بكر لم يره هكذا عمر -رضي الله عنهما- لم يره هكذا أفاضل الصحابة- رضوان الله عليهم- الصحابة حينما اختلفوا في تعيين الخليفة كانوا أحوج ما يكونون لرؤية النبي -عليه الصلاة والسلام- ليكلمهم وليفصل في هذه القضة لكن هذا إدعاء لا حقيقة له ولا واقع له ولذلك فمن يقوله فعليه أن يراجع نفسه لعل شيطانًا أو جنيًا يتمثل له في صورة قريبة إلى حد ما أو مشابهة فيلبس عليه الأمر أن هذا هو رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لكننا نتبع سنته نتمنى رؤيته في المنام في الرؤيا ونتمنى على الله - سبحانه وتعالى- صحبته يوم القيامة.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحسن الله إليكم شيخنا الفاضل، سؤالي عن الحلقات الماضية وهو أنه في قصة موسى -عليه السلام- مع السحرة دائمًا نجد أنه بمجرد أن يلقي موسى العصا فتتحول إلى حية تسعى يؤمن السحرة وهذا ليس بغريب ولكن الغريب هو مجادلتهم مع فرعون عندما يهددهم فتكون إجابتهم دليلاً على صدق يقين وإيمان مما يخيل للسامع أنهم مؤمنون منذ زمن فإذا كان لديهم هذه الحجة القوية، فلماذا لم يؤمنوا من قبل؟ وأعتذر للإطالة
(7/29)
---(5/234)
لا بأس -إن شاء الله- لعلنا أشرنا إلى هذا في موعده، حين كنا نتكلم عن إيمان السحرة وما فيه من عجب فعلاً موقفهم يثير الدهشة والعجب ولكن- كما قلت- على ما أذكر أنهم في البداية حينما قال لهم موسى: ?وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ? [طه: 61] ?فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ ? [طه آية: (62)] تنازعوا أمرهم يعني: تنازعوا القول كأنهم خلوا مع بعضهم وترددوا في الكلام ورددوا الحديث فيما بينهم هذا نبي اخشوا مظاهرته أو مناظرته لا ليس بنبي بل هو ساحر لا، ليس بساحر قالوا كلاماً كهذا بينهم، كأنهم أخذهم الخوف من موعظته ومن تحذيره لهم في البداية ولكن لم يروا حجة يعتمدون عليها في الإيمان بموسى والإقرار له، وترك ما هم عليه مما يسمى في العرف يومها علم، فالساحر عندهم كان هو العالم والناس يخشون بأسه وبطشه وأفاعيله وما إلى ذلك.
(7/30)
---(5/235)
ولهذا لما رأوا عصا موسى -عليه السلام- لم يروا سحراً مما يعرفون وكانوا من أمهر السحرة لم يروا السحر الذي عرفوه وألفوه إنما رأوا شيئًا آخر رأوا حقائق لم يخيل لأعينهم إنما رأوا عصا تنقلب إلى حية ثم تعود عصا، وتختفي عصيهم وحبالهم من ساحة المبارزة دون أن تتضخم العصا ولا شيء بحجمها الأول وبسيرتها الأولى فهذه حقيقة أمام الأعين ويراها هؤلاء السحرة العلماء بهذا الفن، وإن كان فناً محرمًا ولكن هو فن، ولعبة تقوم على العلم، بهذه الأشياء، فلما رأوا هذه الحقيقة لم يملكوا إلا أن يؤمنوا، ولذلك واتتهم الفرصة فآمنوا ووافقتهم الجرأة فقابلوا فرعون بكل قوة، وكان هذا الموقف الذي حفظه الله لهم، أنهم قالوا لفرعون- عليه اللعنة-: ?فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ ? [طه: 72]، فلم يؤمنوا من قبل ذلك لأنهم لم يروا الحجة بأعينهم رآها فرعون نعم رأى العصا تنقلب إلى حية ولكن كان السحرة بعيدًا في البلاد لم يروها إنما رأوها يومئذ فقط، فبرؤيتها عرفوا أن هذا شيء غير السحر وبالتالي كان الموقف مناسبًا للإيمان وكان إيمانهم وليدًا قويًا صحيحًا، فواجهوا به فرعون هذه المواجهة الشديدة، متعلقين بالله -تبارك وتعالى- الذي يغفر الذنب ويُدخل الجنة أو النار ولهذا ثبتوا على هذا الموقف ثباتاً عظيماً يعتبر أسوة وقُدوة للمؤمنين نسأل الله أن يثبتنا على الإيمان.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كان لي اجتهاد خاص في سورة طه، كنت أريد أن أسأل هل هذا الاجتهاد صحيح أو خطأ، موافق الشرع أم لا؟ التي هي بالنسبة لمراحل الخوف، قلت: إن مراحل الخوف ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: أشدها أن يكون الإنسان داخله خائف، ويفعل فعلاً يدل على الخوف.
المرحلة الثانية: التي هي أوسطهم، أن يكون داخله خائف ويقول: أنا خائف.
المرحلة الثالثة: أن يكون داخله خائف ولكن لا يعمل على فعل يدل على الخوف ولا يقول: إني أنا خائف.
(7/31)(5/236)
---
أنا استنتجتهم من خلال قصة سيدنا موسى مع فرعون أو قصة سيدنا موسى عموماً في سورة طه، الأولى: وهي الخوف الشديد مع الفعل إن أول ما رمى العصى ، أول ما أمره الله -عز وجل- بإلقاء العصا، عندما رمى العصا تحولت إلى حية، فخرج يجري سيدنا موسى فهذا كان خائفاً جواه وعمل فعلاً يدل على الخوف.
المرحلة الثانية: عندما كان سيدنا موسى كان ربنا قال له: ?اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ ? [طه: 24]، قال: ?قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ? [طه: 45]، فكان يخاف وقال إني أنا خائف ولكن لم يعمل فعل يدل على الخوف.
المرحلة الثالثة: التي هي أقل مرحلة فيهم، التي هي عندما وجد السحرة وألقوا عصيهم، ?فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ? [طه: 67]، كان سيدنا موسى خائف جواه لكن لم يعمل فعلاً يدل على الخوف ولا قال: أنا خائف.
فقلت إنه من خلال هذه المراحل الثلاثة: إن الإنسان كلما تزداد معرفته بربه كلما تقل مرحلة الخوف من أجل ذلك عندما تيقن سيدنا موسى حق التيقن بالله -عز وجل- عندما جاء في الآخر قالوا له: ?قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ? [طه: 61]، ?قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ? [طه: 62]، فحدث له مرحلة الاطمئنان، هل الاجتهاد هذا سليم أم أنا أخطأت فيه؟
يعني: لعله يصح كلامك، ولكن يكون الترتيب: أن الخوف الأول كان أشد، طالما أن الإنسان يخاف ويعبر عن خوفه، فهذا خوف شديد، والذي يخاف ويعبر عن خوفه بالفعل هذا أشد من الذي يخاف ويعبر عن خوفه بالكلام، فالذي يولي هاربًا غير الذي يَثبت في مكانه عند الخوف ويقول: أنا خائف، فالأول خوفه أشد الذي يعبر عن خوفه بفعل ما أما الذي يخاف ويعبر عن خوفه بالكلام فقط هذا يكون مرحلة أقل، المرحلة الأقل من هاتين هي الأخيرة عند ملاقات السحرة أنه رأى شيئًا عجيبا ?فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ? [طه: 67]، كان خوفًا أقل.(5/237)
(7/32)
---
المرحلة الأخيرة، عندما كان على البحر ?قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ? [طه: 62]، فلم يخف شيئًا.
سؤالك الثاني يا أخي الكريم: بالنسبة أنني سمعت لكني لا أعرف أن هذه القصة صحيحة أم هي من الإسرائيليات؟ هي: عندما جاء فرعون يدخل البحر وراء سيدنا موسى -وهو أصلاً كان جبانًا- لم يرض أن يدخل لكن أن الله -عز وجل- جعل سيدنا جبريل ينزل على فرس أو حصان أنثى، ففرس أو حصان فرعون رأى الأنثى فأخذ فرعون وجرى خلف الفرس الأنثى- فرس سيدنا جبريل- فدخل جنود فرعون وراءه؟ هل هذا الكلام صحيح؟
ذكر هذا بعض المفسرين ولكن يبدو عليه عدم الصحة- أن فرعون وقف وتخوف فوقف الجيش وراءه فنزل جبريل -عليه السلام- على فرس أنثى فأغري فرس فرعون بفرس جبريل فلحقها أو بالأنثى التي يركبها جبريل -عليه السلام- فلحقها، فلما تحرك فرس فرعون علم الجيش أن الطريق مفتوح وأن عليهم التقدم فتبعوا فرعون على هذا فلم يستطيعوا التوقف حتى أغرقهم الله -تبارك وتعالى- ولكن يعني الله -عز وجل- أعظم وأكبر من أن يجعل السبب هكذا السبب شهوة بين الحيوانيين، الشهوات هذه عمل بني إسرائيل فلعلها من الإسرائيليات - والله أعلم- لكن مذكورة في بعض كتب التفاسير.
يقول الأخ الكريم من الولايات المتحدة الأمريكية يقول: ألم يكن من بين بني إسرائيل من عارض فعل السامري غير هارون؟
(7/33)
---(5/238)
بلا، ذكرنا أثناء الشرح أن الذين قالوا لموسى وردوا عليه وأجابوه، طبعاً ليس كل بني إسرائيل كلموا موسى -عليه السلام- إنما كلمه بعض الناس والباقون ساكتون صامتون فيبدو من هذا- والله أعلم- أن الذين أُشْرِبوا الفتنة سكتوا فهذا حال من وقع في الذنب حينما يلام عليه يسكت وكأنه لم يفعل شيئًا أما الذي غلب أو الذي ضل وما كان يعرف فهذا يعني يدافع عن نفسه ويبرر فعله بأنه ما كان ينتبه إلى هذا ما كان يعلم فلذلك أجاب البعض ويبدو أنهم كانوا صالحين في بني إسرائيل ولكن غلبتهم الكثرة وهؤلاء هم الذين تبعوا فرعون حينما قام يواجه بني إسرائيل في هذه الجريمة وفي هذا الشرك وينهاهم عنه فكانوا منضمين إلى هارون -عليه السلام- والكثرة الباقية في مواجهة هارون، ولهذا قال لموسى: ?إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ? أي: جعلتهم فريقين فتركهم على هذا فكان هناك من أنكر هذه الجريمة وهذا الشرك من بني إسرائيل ولكن يبدو أنهم كانوا قلة ولذلك خافوا من الكثرة وتبعوهم من باب الغلبة وليس من باب الاقتناع، والله أعلم.
ما هي الدروس المستفادة من تذكير الله –تعالى- في القرآن الكريم بصفات اليهود لنا؟
لماذا يذكر الله كثيراً ويذكر في القرآن الكريم صفات اليهود؟
(7/34)
---(5/239)
لأن اليهود وهم أصل بني إسرائيل وكذلك النصارى ولهذا يقول الله –تعالى- أو يسميهم الله –تعالى- غالباً بني إسرائيل أو يسميهم أهل الكتاب بما يشمل هؤلاء وهؤلاء أولهم وآخرهم ذلك لأنهم الأمة التي كانت قبلنا مباشرة والله- تعالى- حينما يقدم العبرة يقدمها من أقرب طريق وفي أقرب تقديم لا يكلف الإنسان أن يَبعُد وأن يقطع المسافات ليرى الدليل أو يرى البرهان أو يرى الموعظة، لذلك قال للإنسان: ?فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ? [الطارق: 5] يعني: ينظر في نفسه ?فَلْيَنظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ? [عبس: 24] طعامه بين يديه ليس بعيداً، وكذلك لما جعل الله لنا موعظة فجعلها في بني إسرائيل عموماً اليهود والنصارى من بعدهم لأنهم آخر أمة قبلنا مباشرة ولأنها كذلك أمة ممتدة فبقيتهم باقية في زماننا نخالطهم ويخالطوننا في بلادنا في بلادهم وهكذا، فسيعاملوننا في الحياة وفيهم صفات خفية دفينة ولهم نفسية خبيثة فينبغي على المسلم أن ينتبه لها، ولهذا ذكرهم الله –تعالى- بأوصافهم التي ينبغي أن نحذرهم منها، فأول ما سمى اليهود سماهم بالمغضوب عليهم في سورة الفاتحة، وأول ما سمى النصارى سماهم بالضالين، وبعد ذلك سمى اليهود خاصة وأهل الكتاب عامة شياطين كما قال عن المنافقين: ?وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ? [البقرة: 14]، وهكذا على طول القرآن الكريم يذكر الله –تعالى- صفات بني إسرائيل التي تدعونا إلى عدم الركون إليهم وعدم الاطمئنان إليهم نعاملهم في الحياة؟ نعم.. ولكن على حذر وعلى تخوف وعلى حيطة بما بين الله لنا من صفاتهم التي ينبغي أن ننتبه إليها والقرآن حافل بهذا وبعض الكاتبين والدارسين كتبوا في ذلك بحوثاً خصوا فيها ذكر بني إسرائيل في القرآن الكريم لمن أراد أن يقرأ ولمن أراد أن يتعرف على هذا الأمر بشيء من التفصيل، والله أعلم.
أسئلة المحاضرة:
فتح الله عليكم فضيلة الشيخ ألا تفضلتم بإلقاء أسئلة هذه المحاضرة(5/240)
(7/35)
---
بلى - إن شاء الله-:
على هذه الحلقة السابعة بعض الأسئلة نلقيها على حضراتكم:
السؤال الأول: لماذا عجل موسى إلى ميقات ربه؟ وكيف كان هذا؟
السؤال الثاني: ما الذي أغضب موسى -عليه السلام- وهو في ميقات ربه؟ وكيف اتخذ بنو إسرائيل العجل؟
السؤال الثالث: اذكر ما تعرفه عن السامري؟ وكيف عاقبه الله على جريمته؟
ونسأل الله- لطلبة العلم والمشاهدين جميعاً- التوفيق والسداد في إجابتهم على الأسئلة وفي تلقيهم للعلم.
(7/36)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (8) طه ( الآيات 99- 114)
المحاضرة الثامنة
طه: 99- 114
بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه وبعد.
فمحاضرتنا هذه بعون الله -تبارك وتعالى- بعنوان: وعيد الأمة بالدار الآخرة. وهي من الآية التاسعة والتسعين وحتى الآية الرابعة عشرة والمائة، ونقسمها إلى أربعة عناصر:
العنصر الأول: ذكر القرآن وجزاء المعرضين عنه يوم القيامة.
العنصر الثاني: بعض أهوال يوم القيامة.
العنصر الثالث: موقف من مواقف الآخرة.
العنصر الرابع: عَوْد إلى التذكير بالقرآن الكريم وسر وطريقة إنزاله.
نتناول ذلك بالتفصيل -إن شاء الله تعالى- وبعونه بعد أن نستمع إلى قراءة الآيات المباركات من أخينا الأخ عبد الرحمن، فليتفضل مشكوراً.
(8/1)
---(5/241)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً ?99? مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً ?100? خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِمْلاً ?101? يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ?102? يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ?103? نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ?104? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ?105? فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ?106? لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً ?107? يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ?108? يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ?109? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ?110? وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ?111? وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ?112? وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ?113? فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ?114?? [طه: 99- 114].
العنصر الأول: ذكر القرآن وجزاء المعرضين عنه يوم القيامة.
(8/2)
---(5/242)
كنا في نهاية المحاضرة السابقة مع الحكم على السامري وعلى إلهه الذي زعم أنه إله بني إسرائيل وإله موسى ذلكم العجل الذي صنعه من ذهب بني إسرائيل الذي أخذوه من القبط في مصر, حكم الله على السامري بأنه يقول بقية حياته: ?لاَ مِسَاسَ? فلا يمسه الناس ولا يمس الناس فعزله الله –تعالى- عن الخلق وجعل الناس ينفرون منه وينفر هو منهم فيعيش وحيدًا طريدًا كما حكم الله –تعالى- على إلهه الذي زعم أنه إله بقوله- سبحانه- ?لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْف? ذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- أن موسى -عليه السلام- أخذ يبرده بالمبارد ثم أوقد عليه النار ثم زاراه في البحر فأذهب معالمه أولاً ثم بعد ذلك حرقه ثم ألقاه في اليم فلم يبق منه شيء يقال له: إله وبهذا تنتهي قصة نبي الله موسى -عليه السلام- في هذه السورة، مجملة في أن الله – تعالى- اختار موسى -عليه السلام- نبيًا يحمل رسالة لقومه وأن الله – تعالى- أيده بالمعجزات وصنعه واصطنعه لنفسه، وحفظه بعينه -سبحانه وتعالى- وحماه من فرعون ومن بني إسرائيل بقدرة الله العظيمة ذلك كله كان لتثبيت النبي -صلى الله عليه وسلم- على طريق الدعوة, وهذه السورة- كما عرفنا من قبل- سورة مكية فالله -عز وجل- كأنه يضرب المثل لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليطمئنه أي كما اخترت موسى نبيناً ورسولاً قبل ذلك وأيدته بالمعجزات واصطنعته على عيني فإنك يا نبي الله محمدًا ?فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَ? [الطور: 48]، أنت في حفظنا وعنايتنا وعيننا تحرسك وترعاك كما قال الله –تعالى- ?وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ? [المائدة: 67]، وذلك تثبيت لفؤاد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولقدمه على طريق الدعوة بعد أن قال له: ?مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى? [طه: 2]، عرض عليه قصة موسى -عليه السلام- وكما رأينا كان التركيز على هذه الجوانب من قصة موسى -عليه السلام- على جوانب بعثته(5/243)
(8/3)
---
وتكليم الله له وتأييده بالمعجزات وعناية الله -سبحانه وتعالى- به، وهكذا؛ حتى يَعلم النبي -عليه الصلاة والسلام- أن عين الله تحفظه وترعاه، فيقدم ويقبل على تبليغ الدعوة بكل همة وبعدم تخوف وبثبات عظيم.
وهكذا تنتهي القصة ويقول الله -تبارك وتعالى-: ?كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ? هذه الجملة يسميها البلغاء: حسن تَخَلُص، ينتقل به المتكلم من غرض إلى غرض يعني: من موضوع إلى موضوع بعد أن حدثنا الله – تعالى- عن قصة موسى -عليه السلام- فيتوعد هذه الأمة وخاصة- السورة تشير إلى- المعاندين المعرضين عن القرآن الكريم فكثر الوعيد في هذا الذكر فالله- تعالى- يتوعد هذه الأمة والكافرين منها على وجه الخصوص بالدار الآخرة وما فيها من أهوال عظام وأحداث جسام وما فيها من عذاب وجحيم ومقابله كذلك النعيم المقيم.
(8/4)
---(5/244)
لكي ينتقل الحديث من غرض إلى غرض ومن موضوع إلى موضوع يحسن في التأليف - في تأليف الكلام وتصنيفه ووضعه والتكلم به- يحسن أن يخلص المتكلم من غرض إلى غرض بمثل هذه الجمل التي تمهد للسامع وللقارئ أن المتكلم سينتقل إلى غرض آخر ?كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ? أي: بهذه الطريقة الموجزة البليغة العظيمة بهذه الطريقة الحسنة الحقة التي لا زيف فيها ولا تغيير للحقائق ولا مبالغة ولا تهجم ولا تهكم على أحد بغير وجه حق ?نَقُصُّ عَلَيْكَ? والخطاب هنا للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ولنا من بعده ?مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ? والقص يقصد به: الحكاية وهو من قصّ الأثر وتتبعه فتتبع الله –تعالى- آثار موسى وذكر بعضها في هذا المقام ?نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ? أي: من الأخبار المهمة فالنبأ هو الخبر المهم، ?مَا قَدْ سَبَقَ? إشارة إلى موسى لأنه كان في الزمان سابقاً على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وبدأ الله – تعالى- في الحديث عن الغرض الآخر فقال: ?وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْر? أي: كما آتينا موسى التوراة ?آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّ? أي: من عندنا، ?ذِكْر? هو القرآن, ولكن كلمة "ذكر" تدل على التذكير من نسيان، والقرآن والشرائع- كلها كما عرفنا من قبل- الله –تعالى- يذكر بها البشرية ما فطرها عليه من فطرة سليمة تعرف ربها وتنزع إليه -سبحانه وتعالى- بحيث لو بقي مخلوق إنساناً كان أو غيره في جو لا يؤثر فيه أحد لا يرى إلا الطبيعة التي خلقها الله -عز وجل- سيقوم حين يقوم متكلماً متحدثًا سيقول: ربي الله ورب هذا الكون هو الله ولا إله إلا الله من خلال الفطرة التي وضعها الله فيه والتي تتجاوب مع آيات الكون، ثم يذكر الله –تعالى- الإنسان لأن أسرته ربته على خلاف هذا المجتمع الذي يعيش فيه أثر فيه ببعض السلبيات وأنساه فطرته وغير وبدل ما فيه من فطرة فيبعث الله الرسل بالشرائع والكتب ليذكروا(5/245)
(8/5)
---
البشرية بما في فِطَرهم من خير وصلة بالله -عز وجل- غير أن كلمة ذكر أيضًا تطلق ويراد بها الشرف، ومن ذلك أن قال الله – تعالى- للنبي -عليه الصلاة والسلام- ?وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ? [الشرح: 4]، أي: قدرك وشأنك فكان أشرف الخلق -صلى الله عليه وسلم- ?وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْر? أي: شرفاً وهو القرآن أيضًا القرآن فيه كل ذلك هو مادة نذكر الله بها ونعبد الله على منوالها والقرآن كذلك ذكر يذكرنا بما فطرنا الله عليه من فطرة سليمة وأخلاق قويمة وعقيدة صحيحة، أن هذا الكون لا يكون له إله إلا الله -سبحانه وتعالى- ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ? [الزخرف: 84]، هو المعبود في السماوات وفي الأرض -سبحانه وتعالى- والقرآن في الوقت نفسه شرف عظيم للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينزل الله عليه القرآن الذي قال فيه: ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ? [الزمر: 23]، فهذا أحسن الحديث وأحسن ما أنزل الله -سبحانه وتعالى- وشرف لمن قرأه وشرف لمن حمله وشرف لمن ورث مصحفًا أو حمل مصحفًا أو اقتنى في بيته مصحفًا مجرد أن يحمل مصحفاً أو يورث مصحفًا فهذا له شرف وله نصيب من الشرف، فما بالك بمن حفظه وعلمه وعرف ما فيه وعمل بما فيه؟! نسأل الله أن يرزقنا الشرف بذلك كله.
(8/6)
---(5/246)
? وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْر? وتلاحظ معي- أخي طالب العلم- أن كلمة: ذكرًا هنا نكرة وليست معرفة والتنكير في اللغة تنكير الكلمة في أثناء الكلام يكون إما للتعظيم وإما للتحقير أو لأغراض أخرى. السياق هو الذي يحدد فالله -عز وجل- يمتن على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم علينا بأنه أنزل إلينا أو علينا من لدنه ذكرًا، أي: ذكرًا عظيماً، فالتنكير هنا للتعظيم، لتعظيم شأن القرآن ولرفع قدره في نفوس بني الإنسان إشارة إلى أن الكافرين المعرضين قد أعرضوا عن شيء عظيم، وتنازلوا عن شرف كريم، يرتفعون به ويرتقون به فوق رؤوس الخلائق في الدنيا والآخرة ?وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ? [الجاثية: 26] ولهذا قال الله –تعالى- ?وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً ?99? مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً ?100?? فهكذا ذكرنا الله بالقرآن الذي قال فيه قبل قصة موسى: ?مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى? [طه: 2]، فاتصل الكلام مع بعضه بغض النظر عن الاعتراض بقصة موسى -عليه السلام- اتصل الحديث عن القرآن ثم قال الله –تعالى-: ?مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ? أي: عن هذا الذكر وعن هذا القرآن وعن العمل به، ?فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْر? والوزر: هو الذنب الثقيل، الحمل الثقيل من الذنوب والآثام.
(8/7)
---(5/247)
قد يتساءل سائل إلى متى يحمله؟ وكم من الزمان يحمل هذا الوزر؟ فأفاد الله –تعالى- أنه حمل دائم لهؤلاء الكافرين المعرضين فقال: ?خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِمْل? خالدين فيه فلن يخرجوا من ذلك ولن ينفكوا عن ذلك سيظلون حاملين لأوزارهم لن يغفرها الله لهم ولن يزكيهم الله – تعالى- من ذنوبهم ولن يطهرهم ولن يخلصهم منها طالما ماتوا على ذلك، ?خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِمْل? ساء لفلان حملاً: أي ساء حمله أي إنه يحمل حملاً سيئاً قبيحًا قميئاً لا يحسن حمله والحِمل بكسر الحاء: ما كان فوق الظهر، ظهر الإنسان على أطراف الأشجار يقال له: حِمل بكسر الحاء وما كان في البطن فيقال له: حَمل كحمل المرأة وحمل الأنثى عمومًا، والله- تعالى- توعد بهذا في أكثر من آية كما قال -سبحانه وتعالى-: ?وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ? [هود: 17]، وقال -عز وجل-: ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ? [البقرة: 121]، وقال -سبحانه وتعالى-: ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ? [الشورى: 7]، فريق في الجنة هم الذين آمنوا بالقرآن العربي هذا وعملوا به وفريق في السعير هم المعرضون عنه؛ وبهذا ينتهي الموضوع الأول والعنصر الأول وهو التذكير بالقرآن والوعيد للمعرضين بما يتحملون من أجل ذلك يوم القيامة من أوزار وأحمال ثقيلة من الذنوب.
(8/8)
---(5/248)
العنصر الثاني: بعض أهوال يوم القيامة، وهكذا تتناسق الآيات في ترتيبها ولا عجب فإنه كلام الله, فبعد أن قال الله – تعالى- ?وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ حِمْل? فلعل قائلاً يقول في نفسه وخاصة من الكافرين: وما يوم القيامة؟ وكانوا يسألون عادة أسئلة من هذا النوع عن يوم القيامة وطبيعته عن تأجيله ولماذا يتأخر؟ ولماذا لا يكون الآن؟ عن متى موعده؟ ومتى يكون؟ أسئلة كثيرة كلها يراد بها العناد والتعنت فلعل سائلاً سأل: ما يوم القيامة هذا، الذي يحمل فيه المجرمون أوزاراً وأثقالاً من الذنوب والآثام؟ فعرف الله بيوم القيامة غير أن الله لا يعرف بموعده ولا بميقاته فهذا أمر لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى- ولم يوحَ به إلى ملك مقرب ولا إلى رسول مرسل- عليهم جميعًا سلام الله- وإنما يذكر الله يوم القيامة ببعض أهواله أو بعض أحواله، الأهوال التي تكون في بدايته من العلامات الكبرى والأشياء الثقيلة التي لا يتحملها الإنسان من هولها.
(8/9)
---(5/249)
فقال -سبحانه وتعالى- ?يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ? أي: سيحملون أوزارهم يوم ينفخ في الصور، الصور: ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سماه قرناً، فقال: (قرن ينفخ فيه، أو ينفخ فيه المَلَك) وفي الحديث الطويل عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ذكره الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- ورواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-:( أن أعرابيًا سأل ما الصور؟ فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: قرن ينفخ فيه) فسماه قرنًا لعله لشبهه بقرن الحيوان فهو من ناحية مدبب ومن جهة أخرى واسع وهو بهذا الوصف يشبه في زماننا ما يسمى بالبروجي شيء ينفخ فيه فيحدث صوتًا عظيمًا من الجهة الأخرى وفي الحديث عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في حديث: (كيف أنعمُ وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته واستمتع متى يُؤمر؟!!) كان بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يتمنون للنبي -عليه الصلاة والسلام- أن يتنعم في الدنيا ويكلمونه في ملابسه البسيطة في منامه البسيط لماذا لا يلبس الحرير؟ لماذا لا ينام على كذا؟ لماذا لا يأكل كذا؟ والملوك في الدنيا يأكلون ويشربون ويلبسون فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يعلمهم أن المسألة ليست للدنيا إنما نحن نعيش في الدنيا من أجل الآخرة، ويعظهم من خلال جوابه ومن ذلك أن قال لهم هذه المرة: ( كيف أنعم؟) أي: كيف أتنعم بالدنيا والدنيا صارت قصيرة لا طول فيها ولا بقاء فيها؟ (وصاحب القرن) وهو الملك الذي ينفخ فيه ( قد التقم القرن) أي: وضعه في فمه، لينفخ فيه، (وحنى جبهته) استعداداً للنفخ، (واستمتع حتى أو متى يؤمر له) يعني: ينتظر أن يقول له الله: انفخ فينفخ في الصور، إذن: الأمر قريب جداً وإن قاله النبي -عليه الصلاة والسلام- من ألف وأربعمائة عام, فإنه ما مرَّ عليه إلى الآن إلا يوم وأقل من نصف اليوم، يعني: بميزان الله –تعالى- ومقياسه في الزمان: يوم وأقل من نصف يوم، لقول(5/250)
(8/10)
---
الله تعالى: ?وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ? [الحج: 47]، فمقياس الزمان عند الله، اليوم بألف يوم عندنا، ?وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ? [الحج: 47]، اليوم الواحد كألف سنة مما نعدّ وبالتالي فالمسألة عندنا طويلة كما نراها لكنها عند الله قصيرة ولو نظرنا نظرة حقيقية لوجدناها قريبة قصيرة أيضًا عندنا وإن كان النبي -عليه الصلاة والسلام- قد قالها من ألف وأربعمائة عام إلا أنه ربما لم يمر عليها إلا سنوات ومات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومات بعدها أجيال وأجيال فقيامة الإنسان تبدأ بموته ووفاته.
(8/11)
---(5/251)
? يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ? وهما نفختان يأمر الله الملك وذكر أنه إسرافيل -عليه السلام- ينفخ نفخة أولى فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، كما قال تعالى: ?ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ? [الزمر: 68]، وتسمى بنفخة البعث، إذن: نفخة الصعق هذه في آخر الدنيا ونفخة البعث هذه بعد حياة البرزخ وعند أول القيامة الكبرى، وهي التي تناولتها الآيات التي معنا فلم تذكر النفخة الأولى وإنما ذكرت النفخة الثانية فقط، لأنها هي الموعد الذي عنده يحمل المجرمون أوزارهم على ظهورهم ?أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ? [الأنعام: 31]، فقال تعالى: ?يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْق? بعد النفخة الثانية يحشر الله – تعالى- العباد كلٌّ على هيئة تدل على عمله كل على هيئة تدل على عمله الذي كان عليه في الدنيا ?وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيم? [المعارج: 10]، ?لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ? [الرحمن: 39]، في أرض المحشر وفي موقف الحشر إنما يعرف الناس بعضهم بعضاً من خلال علامات معينة، ?يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ? [الرحمن: 41]، ولكن عند الميزان وعند أخذ الصحف وعند العرض على الله - تبارك وتعالى- وذلك بعد الحشر لابد من السؤال, فيسأل الله جميع الخلق حتى يسأل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- ?فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المُرْسَلِينَ? [الأعراف: 6]، أما في أرض المحشر فلا مجال للسؤال فكلٌّ يعلمه الله -تعالى- بعلامه ويجعله في جماعة, علامتهم تدل على أعمالهم وعلى صلاحهم أو غير ذلك -حشرنا الله تعالى في النبيين والصديقين والشهداء والصالحين- المجرمون يحشرون يوم القيامة وهم الكافرون بالقرآن وسماهم الله مجرمين سماهم الله بهذا الاسم(5/252)
(8/12)
---
وصفاً لهم بالإجرام ليدل على أنهم حين أنكروا القرآن كانوا مجرمين بهذا الأمر وبهذا الصنع فأفادت إفادتين أنهم كفروا وأنهم مجرمون يحشرهم الله – تعالى- على هيئة تدل عليهم، وأنهم زرق العيون وقيل: زرق الجلود وجوههم فيها زُرقة، وذلك من شدة الهول والخوف والفزع ?وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً ?102? يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ ?103? ? أي: يتكلم بعضهم مع بعض خفية بسرٍ وبصوت منخفض من الخوف من الله -عز وجل- فلا يرفعون أصواتهم إنما يتهامسون فيما بينهم ويتخافتون ويقول بعضهم لبعض: ?إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْر? ما لبثنا في الدنيا و لا قضينا فيها إلا عشرة أيام تقريبًا، ويقول أحسنهم حساباً ويقال: أعقلهم وكلهم قد حرموا من العقل كما جاء على لسانهم: ?وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ? [الملك: 10]، ولكن أحسنهم حالاً يقول: ?إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْم? فلم يحسنوا الحساب ولم يعرفوا كم لبثوا في قبورهم ونبه المفسرون كابن كثير وغيره- رحمهم الله تعالى- إلى أنهم يقولون هذا على سبيل الاعتذار عن أنفسهم أي: ما مكثنا في الدنيا إلا فترة قليلة لم تكفِ للإيمان ولم تكفِ للعمل الصالح ولم تكفِ للاستعداد ليوم القيامة, فاجأتنا الدنيا وانتهت منا بسرعة فلم نلبث فيها إلا أياماً قليلة، فيرون الدنيا كأنها أياماً بل ورد في آيات أخرى أن بعضهم يرى الدنيا يوم القيامة وكأنها كانت ساعة من ليل أو نهار ?كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَ? [النازعات: 46]، قيل: لم يلبثوا في الدنيا وقيل: لم يلبثوا في القبر ?إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَ? فعلى أنها في الدنيا أي: لم يمكثوا في الدنيا إلا ساعة أو ساعات في يوم أو أيامًا عشرة فهذا كأنهم يستقلون عمر الدنيا وأنه ما كان كافيًا لتحصيل أسباب النجاة والفوز بالجنة. الله -تعالى- يرد(5/253)
عليهم في
(8/13)
---
آيات كثيرة منها: ?أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ? [فاطر: 37]، أو لم نعمركم؟ أي: لقد عمرناكم في الدنيا عمرًا تذكر فيه من تذكر وآمن فيه من آمن وحصّل فيه من حصّل فكان فيه أنبياء بلغوا أعلى المراتب وكان فيه شهداء لحقوا الأنبياء وتابعوهم وكان هناك صالحون عملوا لآخرتهم وفازوا بالجنة فلماذا لم تكفكم الدنيا وقد كفت أمثالكم وأشباهكم من البشرية؟ فهذا رد عليهم، ?أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ? لأنهم لما رأوا الدنيا في نظرهم كانت قليلة وسريعة ومرت على عجل يتمنون الرجعة مرة أخرى ?رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ? [المؤمنين: 107]، ?رَبِّ ارْجِعُونِ ?99? لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ?100?? [المؤمنين: 99، 100]، وهكذا يتمنون العودة إلى الدنيا لِيُصلحوا ما أفسدوا ولكن الله يرد عليهم بالرفض لطلبهم وبالقطع لأملهم وبمثل قوله: ?أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ? [فاطر: 37].
? يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْر? ربنا -سبحانه وتعالى- يلفت النظر هنا- بالمناسبة- إلى شيء مهم أو إلى شيء عارض لكن قد يُتَّصور للبعض: طالما أنهم يتخافتون بينهم بالقول ويسرون بينهم بالكلام فربما لا يعلم الله ولا يحس بكلامهم؛ فنبه الله إلى أن كلامهم يبلغه ويعلمه ?نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ? مهما تخافتوا بالكلام وهم بين ملأ الخليقة كلها فلن يخفوا علينا ولن يغيب صوتهم وكلامهم ?نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْم?
(8/14)
---(5/254)
وهكذا ذكر الله هنا من أهوال يوم القيامة: النفخ في الصور فقط كمثال لما يحدث ولكن هناك أهوال شديدة تكون يوم القيامة ومنها كذلك: أن تدك الأرض والجبال فذكر الله -تعالى- شيئاً عظيماً يعظم في عين ابن آدم وهو الجبل حينما أراد ابن آدم أن يتعالى رفع رأسه ليُشبه نفسه بالجبل في علوه وشموخه وارتفاعه فقال الله له: ?وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الجِبَالَ طُول? [الإسراء: 37]، فالجبل عظيم في عين الإنسان شيء هائل ضخم يحتمي فيه من عدوه ومن البرد ومن الحرّ ويتخذ من الجبال أكناناً كما خلق الله له وهكذا، فيقول الله -تعالى-: ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْف? [طه: 105]، نبه المفسرون- من ناحية اللغة- إلى أن هذا السؤال لم يكن قد وقع حين أنزل الله هذه الآية فكان الكلام على تقدير: إن يسألوك عن الجبال فقل لهم: كذا, يعني: لو سألوك فقل. ولذلك جاءت كلمة: قل هنا مقدمة بحرف الفاء، ? فَقُلْ ?، وكل نظائرها في القرآن لم يكن فيها الفاء كلها "قل" ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ? [البقرة: 219]، ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ? [البقرة: 220]، ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى? [البقرة: 222]، كلها بـ" قل" إلا هذه الوحيدة في سورة طه، وفي القرآن كله هي التي سبقتها الفاء وذلك إشارة لغوية إلى أن السؤال لم يقع إلا بعد أن نزلت الآية وروي: (أن رجلاً من ثقيف أي من الطائف سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الجبال) أي: إذا كنا نحن سنحيى بعد ذلك، وتعود إلينا الحياة ونبعث من جديد أهذه الجبال أيضًا تتهدم وتكون من جديد أم تبقى كما هي ولا يصيبها شيء؟ وذلك من استبعادهم ليوم القيامة عمومًا فاستنكروا أن تعود الأجساد البشرية بعد أن صارت ترابًا
(8/15)(5/255)
---
ورفاتًا وعظامًا نخرة، أن تعود مرة أخرى حية فيها حركة ولها حياة، وتسأل وتحاسب وتنعم بجنة أو تعذب بنار أنكروا ذلك، استعظموا أيضًا يوم القيامة من ناحية الجبال ماذا يكون من شأن الجبال ومن أمرها؟ فالله- تعالى- علمهم ذلك وأعطى للنبي -عليه الصلاة والسلام- الجواب تحصينًا له قبل أن يرد عليه السؤال، ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْف? [طه: 105] الله أكبر، ?يَنسِفُهَ? النسف: هو تفتيت الشيء وذَرُّه في الهواء بعد أن كان شيئاً متماسكًا صار شيئاً خفيفاً كالرماد أو كالتراب ثم ذرّ في الهواء، لتبعثره الرياح كما قال الله -تعالى- عن إله السامري: ?لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْف? واستعمال الكلمات الواحدة في مقامين هكذا مرة في قصة موسى ومرة هنا عن الجبال هذا من ألوان الجمال في التعبير وفي الكلام ?فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْف? هذه الجبال الضخمة الهائلة وفي جزيرة العرب جبال وعرة شديدة ربما لا يكون في كل البلاد مثلها وقيل: في الطائف بالذات جبال ضخمة عظيمة يستعظمها الإنسان فعلاً، ولذلك نبه الله إلى قدرته على الجبال ليعلم الإنسان قوته وكيف يحدث له بجوار هذه الجبال، ولعل في قصة موسى في سورة أخرى أيضاً حينما ذهب إلى ميقات ربه وكلمه ربه ?قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ? [الأعراف: 143]، فالجبل رمز للقوة في نظر الإنسان ومن هنا يشير الله -تعالى- إلى ما سَيُحدث بالجبال يوم القيامة ?فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي? ويؤكد الفعل بقوله: ?نَسْف?، وهذا كما يقول القائل: أكلت أكلاً ونمت نومًا وقرأت قراءة يعني: شيئًا عظيماً، نسفًا، نسفًا شديدًا نسفًا لا يبقي منها شيئًا كما يفسر ذلك ويبينه ما بعده: ?فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ?105? فَيَذَرُهَ? أي: فيترك الجبال مع الأرض ? فَيَذَرُهَا قَاع? القاع: هي الأرض(5/256)
(8/16)
---
المستوية السهلة ?قَاعاً صَفْصَف? أرضاً سهلة مستوية وفسرها من بعدها ?لاَ تَرَى فِيهَا عِوَج? أي: حفرة أو منخفض ?وَلاَ أَمْت? أي مُرتفع ليس فيها مكان مرتفع ولا مكان مرتفع كلها صفحة واحدة أرض ملساء.
قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وغيرهم من السلف كما ذكر ابن كثير -رحمهم الله- ?لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً ? يعني: وادياً ولا رابية، الوادي نازل والرابية صاعدة مرتفع إلى أعلى لا ترى فيها هذا ولا هذا إنما هي أرض مستوية سهلة لا منخفض فيها ولا مرتفع عليها وبالتالي فلا يخفى عليها شيء ولا يغيب فيها ولا وراء مرتفعاتها شيء قد يختفي الإنسان اليوم وراء الجبل أو في الحفرة كما في الخندق في الحرب وما إلى ذلك ولكن يوم القيامة لا منخفض ولا مرتفع، إنما الأرض كلها قاع صفصف ?فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ?106? لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً ?107?? في ذلك اليوم بعد أن ذكر الله أرض المحشر الكل يحشر إلى الله - تعالى- في هذه الأرض وهي الأرض التي قال عنها الله -تعالى- ?فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ? [النازعات: 14]، الساهرة يعني: الأرض المستوية وجهها مستوٍ فلا يختفي عليها شيء يظهر كل ما فوقها، وذكر الله في آيات آخرى عن دك الجبال ونسفها أنها تحمل مع الأرض ?وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً? [الحاقة: 14]، والدك: هو الدق من أعلى، فتتداخل الجبال وتطحن على الأرض وبالتالي فلا بقاء لها وفي خلال هذا تكون كما قال تعالى: ?كَالْعِهْنِ المَنفُوشِ? [القارعة: 5]، ?كَثِيباً مَّهِيل? [المزمل: 14]، كثيبًا مهيلاً يعني: ترابًا هائلاً من أعلى حين تتهدم يسقط ترابها بصورة كثيفة وشديدة، وتكون ?كَالْعِهْنِ المَنفُوشِ? في شكلها جبل ولكن في حقيقتها ليست في قوة الجبل إنما هي كالصوف المنفوش، فلا قوة فيها كما كان في الدنيا، هذه تدك وتنسف حتى تصير الأرض كلها مستوية وهي أرض(5/257)
المحشر وبالتالي
(8/17)
---
يساق الناس إليها ليحشروا فيها تمهيداً للعرض على الله -سبحانه وتعالى- ولهذا يقول الله -تعالى- في الآية التالية: ?يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ? يومئذ يعني: يوم إذ ينسف الله الجبال نسفًا، يوم إذ يفعل الله كذا وكذا ويقيم الساعة والقيامة ?يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ? الخلق جميعاً وخاصة أولئك الكافرون المعاندون ?يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ? يعني: لا يتعوجون عن طريقه، ولا يخالفون دعوته ولا أمره إنما يتبعونه في التزام وامتثال دون كلمة ودون اعتراض ودون تهرب وكأن من لم يتبع الداعي في الدنيا يتبعه في الآخرة رغماً عنه، في الدنيا يتبعه باختياره وأما في الآخرة فيتبعه رغماً عنه دون إرادة منه، فالحيوان يساق سوقًا إلى مورده وإلى مأكله وإلى مربطه, لكن المؤمن في الدنيا يذهب إلى الله ويتبع الداعي باختياره فيتبعه يوم القيامة أيضا مختارًا مكرماً معززاً.
(8/18)
---(5/258)
الكافرون بالذات تعلوهم المهانة بهذا السوق وبهذه التبعية. والداعي هنا قيل: هو الملك، ملك يدعو الناس إلى البعث ويدعوهم ليقوموا إلى الله فلا يقعد أحد ولا يتخلف أحد ولا يتأخر أحد, الكل يجيب الكل يجيب وقيل: الداعي هو رسول كل أمة يكلفه الله -تعالى- أن يدعو أمته ?يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ? [الإسراء: 71]، فكل رسول- عليهم جميعًا الصلاة والسلام- ينادي على أمته وساعتها لا يملك أحد أن يخالف ولا أن يتأخر وكم ناداهم رسولهم في الدنيا ?فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي? [طه: 90]، ولكنهم يعصون عليه ويخالفون هديه ويحاربونه ويناصبونه العداء, يأتي عليهم يوم وهو يوم القيامة ذلكم اليوم الحق فيتبعون الداعي لا عوج له كما كانوا يتعوجون في الدنيا بالنفاق فيجلسون أمام النبي -عليه الصلاة والسلام- مظهرين الإسلام ومبطنين الكُفر في قلوبهم فهم على عوج. أو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يدعوهم كالكافرين فإذا بهم يعوجون عن الطريق المستقيم إلى طريق الضلال والكفر والعناد يوم القيامة لا عوج لهم أبداً عن أمر من يدعوهم إن كان ملكاً أو رسولهم الذي جاءهم في الدنيا - عليهم جميعا الصلاة والسلام.
(8/19)
---(5/259)
? يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ? وكلمة: يتبعون الداعي، هناك داعٍ يدعو وهناك أتباع فربما حدث من ذلك صوت الداعي يدعو لابد أنه يدعو بصوت والذين يجيبون يلبون ويخرجون ويقومون فتحدث من أثر حركتهم جلبة وصوت مرتفع؟ لا.. ?وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ? [طه: 108]، إذا دخلوا أرض المحشر شعروا بمهابة الله -تبارك وتعالى- وهيبته وجلاله ?وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْس? [طه: 108] الهمس: هو الصوت الخفي، قيل: هو وقع أقدامهم على الأرض ملبين الداعي إلى أرض المحشر, صوت القدم على الأرض من المشي هذا هو المقصود بالهمس وقيل: هو الكلام الخفي في بعض الأحوال كما سبق أن قال الله -تعالى-: يقول بعضهم لبعض: ?إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْر? ويقول آخر: ?إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْم? هذا يقولونه ?يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ?, ? فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْس? بكلام همساً خفيفاً بكلام لا تسمع صوتاً عالياً وقال هذا ابن جبير وابن عباس وغيرهما- رحمهم الله تعالى.
(8/20)
---(5/260)
? يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْس? انتهى المحشر وبعد أن حشر الناس أُذن بالحساب والعرض على الله -تبارك وتعالى- وانصرف الناس من هذا الموقف العصيب الذي ذكر فيه أنه تدنو فيه الشمس من رؤوس الخلائق حتى لا يكون بينها وبين رؤوسهم إلا قدر الميل وقالوا: الميل هو العود الذي تكتحل به المرأة فتكون قريبة جداً حارقة ولذلك يكثر العرق ويبلغ من الناس مبالغ شتى فمن الناس من يبلغ العرق إلى قدميه ومنهم من يبلغ العرق ركبتيه ومنهم من يبلغ العرق إلى حقويه أي إلى وسطه ومن الناس من يبلغ العرق صدره ومنهم من يبلغ عنقه ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا- نعوذ بالله- وهو عرق الخلائق جميعاً في هذا الموقف العصيب- وسبحان الله العلي القدير- لا يعجزه شيء هكذا ترى العرق من المفترض أنه كالماء في حوض واحد ولكنه نسب مختلفة دون أن تكون كل نسبة في أنبوبة أو في حوض, المسافات مفتوحة أو لا حواجز بين هذا وذاك وكل يأتيه العرق إلى مبلغ معين وإلى مكان معين حسبما كان العمل في الدنيا- نسأل الله أن يعافينا من شدة ذلك الموقف- ذلكم الموقف الذي يتمنى أهله الانصراف منه ولو إلى النار، من شدته ظناً أن النار أهون من ذلك. والانصراف من هذا الموقف فيه كرامة وتشريف لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ يذهب الناس إلى الأنبياء يسألونهم أن يكلم اللهَ –تعالى- في أن يخفف عنهم أو أن يصرفهم من هذا المقام فكل من الأنبياء يقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى فلان اذهبوا إلى فلان ويحيل كل واحد منهم إلى الآخر، حتى تصل الإحالة إلى رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- فإذا به ساجد تحت عرش الرحمن ينادي ويناجي ربه -سبحانه وتعالى- فيقول الله له: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع, فيطلب من الله –تعالى- أن يرحم الخلائق والعبيد, فيأذن الله –تعالى- بالعرض والحساب ويصرف الناس من هذا(5/261)
(8/21)
---
الموقف بالشفاعة العظمى لرسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي تشمل شفاعته في ذلك المقام كل الأمم، وكل الخليقة، فلا يشفع لأمته فقط، ولكن تعم شفاعته في ذلك المقام كل الناس.
العنصر الثالث: موقف من مواقف الآخرة.
يبدأ الناس في العرض على الله -عز وجل- ويذكر الله- تعالى- هنا موقفاً من مواقف القيامة وهو العنصر الثالث وذلك حيث نجى من نجى إلى الجنة- جعلنا الله في السابقين- ووقف من وقف قبل الجنة على الأعراف وسقط من سقط في النار- نعوذ بالله- من الكفار المخلدين ومن المؤمنين العاصين إلى حين، ثم يخرجهم الله –تعالى- وتبقى رحمة الله –تعالى- بالمؤمنين العصاة يقضون في النار ما شاء الله لهم أن يقضوا ثم يخرجهم الله –تعالى- بالشفاعات يشفع النبي -صلى الله عليه وسلم- وتشفع الملائكة ويشفع الأنبياء ويشفع الولد لوالده ويشفع الوالد لولده والصاحب لصاحبه وهكذا والزوجان والأخوان في الله, كل يشفع لكن لا شفاعة تقبل إلا لمن أذن الله له ورضي له قولاً ولابد أن يقول حقاً بهذا يأذن الله –تعالى- بالشفاعة لمن شاء وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري ومسلم- رحمهما الله تعالى- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (آتي تحت العرش وأخر لله ساجداً، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن فيدعني ما شاء الله أن يدعني) أي: يتركني ساجداً أحمده وأقدسه- سبحانه وتعالى- ( فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع قال -عليه الصلاة والسلام-: فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة) يعني: يعلم له بعض الناس لك هؤلاء، فيخرجون من النار إلى الجنة، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثم أعود) أي: يعود ليسجد تحت العرش ويحدث مثلما حدث أربع مرات ذكر ذلك أربع مرات، وقال الله- تعالى-: ?وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَن يَأْذَنَ(5/262)
اللَّهُ
(8/22)
---
لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى? [النجم: 26]، إذن: الملائكة لها شفاعة وحامل القرآن يشفع أو يتشفع في عشرة من أهله وهكذا لكن من هذا نستفيد أن الشفاعة ثابتة وكائنة وحاصلة إلا أنها لا تكون إلا من بعد إذن الله؛ لأن بعض من ساء قصده أو قل علمه يومًا من الأيام استدل بمثل هذه الآيات وقال لا شفاعة أصلاً، وأنكر الشفاعة لأن الله –تعالى- يقول: ?يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْل? قال: إذن لا شفاعة ولا تنفع الشفاعة أخذ نصف الآية وسكت عن الباقي ومثل قول الله –تعالى- على لسان الكافرين يوم القيامة ?فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ?100? وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ?101?? [الشعراء: 100، 101]، هذا فهم سقيم واجتزاء من معنى القرآن إنما النص واضح النص يثبت الشفاعة ولكن يذكر لها قيداً، يضبطها فليست الشفاعة أمراً مشاعاً هكذا يشفع من يشفع ويشفع لكل إنسان. لا.. إنما يضبطها الله -تعالى- ويقيدها بإرادته ومشيئته لمن رضيه -سبحانه وتعالى-، فالشفاعة ثابتة ولكن لا تكون إلا من بعد إذن الله بغض النظر إن كان الشافع نبيًا أو ملكاً أو صالحًا أو غير ذلك فإنه لا شفاعة له إلا من بعد أن يأذن الله -سبحانه وتعالى-.
(8/23)
---(5/263)
ولما كانت الشفاعة موقوفة على إذن الله احتاج الأمر إلى تنبيه أن الله -تعالى- لا يأذن هكذا هذا يشفع له وهذا لا يشفع له تخمينًا أو رجمًا بالغيب- معاذ الله- إنما الله عليم ولذلك ذكر الله أن إذنه هذا قائم على علم بأحوال العباد ومن يستحق الشفاعة ومن لا يستحقها فقال سبحانه: ?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْم? وساعتها يكون الناس- وخاصة هؤلاء المعرضين- يكونون في ذلة في النار من يسقط في النار- والعياذ بالله- أو يوقف دون الجنة ويريد من يشفع له بالتأكيد إنه يعاني من هذا الموقف ?وَعَنَتِ الوُجُوهُ? [طه: 111]، خشوعًا وذلة وخضوعًا لله -عز وجل- ?وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْم? هو الحي- سبحانه- ?لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ? [البقرة: 255]، فضلاً عن الموت، وهو القيوم قائم على كل نفس بما كسبت وقائم على كل نفس بما يصلحها وما يحييها وقائم على كل نفس بأمرها وتدبير شأنها ?وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْم? في ذلك اليوم خاب من حمل أي ظلم وأظلم الظلم هو الشرك الله -عز وجل- أما أهل الصالحات فهؤلاء هم الفائزون ?وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْم? لا يخاف أن يظلمه أحد فَيُحَط عليه ما ليس له من ذنوب ولا هضماً أي: نقصًا من حقه من الحسنات، لا هذا ولا ذاك إنما هو العدل الكامل.
(8/24)
---(5/264)
ونهايةً يعود سياق الآيات إلى التذكير بالقرآن الكريم وسر وطريقة إنزاله فيقول تعالى: ?وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ? وصرفنا فيه أي: وضعنا فيه بتفنن وبأشكال متعددة من الوعيد ?لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ? فيعملون الصالحات ?أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْر? تذكرة في قلوبهم فيصلح حالهم ?فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ?، تبارك وتقدس -سبحانه وتعالى- وتعاظم فإنه الملك الحق الذي لا باطل عنده ولا لبس في أمره سبحانه وأخيرًا، يشير الله -تعالى- إلى عظمة القرآن حيث كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يهتم به كثيرًا فكان يقرأ مع جبريل كل ما نزل عليه بشيء فكفاه الله هذا الهم وحفظ القرآن وأنه سيحفظه إياه فقال له: ?وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ? كما قال في سورة القيامة: ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ?16? إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ?17?? [القيامة: 16، 17]، أي: تحفيظه لك ?جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ?.
?وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْم? ولم يأمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يستزيد من شيء أو يطلب المزيد من شيء غير العلم ?وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْم?- نسأل الله -تعالى- أن يزيدنا علما نافعًا وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما عَلَّمنا إنه هو العليم الحكيم- هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا مُحمد وعلى آله وصحبه, وشَكَرَ الله لحضراتكم جميعاً حسن المتابعة والإنصات.
الأخ الكريم من مصر، السلام عليكم ورحمه الله وبركاته،
(8/25)
---(5/265)
السؤال الأول: ذكرتم فضيلة الشيخ في تفسير قوله- تعالى-: ?مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْر? لأن الإعراض عن القرآن يؤدي إلى الوزر وهو الحمل الثقيل الدائم من الذنوب والآثام فهل المقصود بالإعراض إعراض جحود وكفر أم إعراض ترك وعدم تلاوة وعمل وتدبر؟ وهل الإعراض هنا هو نفس الإعراض في نهاية السورة في قوله تعالى: ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنك? [طه: 124]، … الآية نرجو زيادة التوضيح؟
السؤال الثاني: جاء في تفسير ابن كثير في تفسير سورة النمل والزمر أن هناك ثلاث نفخات للصور النفخة الأولى، ونفخة الصعق، ونفخة الفزع، فما هو الراجح في نفخات الصور هل نفختان أم ثلاثة؟ نرجو التوضيح؟
الأخ الكريم من مصر، السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، كنت قد ذكرت في حلقة سابقة أن سيدنا هارون لم يفرق يعني لم يرضَ أن يفرق بني إسرائيل بناءً على المحافظة على الوحدة وأنكر عليهم الشرك إنكاراً قولياً فقط، ولم يرد أن يزيد في الإنكار حتى لا يفرقهم وينتظر عودة سيدنا موسى -عليه السلام- هذا الأمر فيه شبهة يمكن أن تثار وهي أن بعض الجماعات على الساحة تأخذ هذا الأمر وتقول: إنا نحن نجمع من باب أن نجمع الناس حولنا وأن نحاول عدم التفرقة فأصبح كل واحد يدخل في التجميع سواء شيعة على سنة على صوفية على عقائد مختلفة المهم أن نصبح يداً واحدة كمسلمين هل هذا القول صحيح أم لا؟ وكيف نرد عليه؟
الأمر الثاني: بالنسبة لموضوع بما إننا نتكلم عن سيدنا موسى وعلى قصة فرعون والفراعنة ففيه موضوع الأهرامات، يعني حكم زيارة الأهرامات والأمر على أن الفراعنة هم الذين عملوها؟
(8/26)
---(5/266)
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من مصر كان يسأل عن قول الله -عز وجل- ?مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْر? هل الإعراض إعراض كفر أم إعراض ترك وكيف نربط بين هذه الآية وقول الله -عز وجل- في آخر السورة: ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ?؟
بسم الله الرحمن الرحيم الإعراض هنا هو الإعراض في آخر السورة: ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنك? هو نفسه ?مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْر? والمقصود به أولاً: هو إعراض الجحود والإنكار والكفر فكما ذكر في المحاضرة أن هذا الوعيد قصد به بالدرجة الأولى: المعرضون عن القرآن الكريم إعراض كفر وجحود وعناد وعدم إيمان ولكن من هذا العموم كله من أعرض عن قراءة القرآن الكريم وهو مسلم مؤمن بالله -سبحانه وتعالى- ويؤمن بالقرآن ولكن أعرض عن قراءته أعرض عن حفظه وهو يستطيع الحفظ أعرض عن الاستماع إليه وهو يستطيع السماع، كل من أعرض عن القرآن بشكل أو بآخر فإنه يتحمل شيئًا من الوزر من هذا العموم الكامل كبعض الناس يعيشون مثلاً لو تخيلنا أن بعض الناس يعيشون في وحلٍ أرض فيها ماء وطين هم يعيشون في هذا المكان وبعض الناس من غيرهم يدخلون معهم أو يلاحقونهم فمن دخل في هذا المكان دخولاً بسيطاً ناله شيء من هذا الوحل ومن تغلل أكثر وتوغل يزداد طينًا ووحلاً ومن توغل أكثر، وهكذا وإن كان مؤمناً بالله وبالقرآن إلا أنه بإعراضه عن قراءة القرآن وهو يستطيعها عن حفظها وهو يستطيعه عن الاستماع إليه وهو يتمكن من الاستماع إليه يعرض عن العمل بآية من الآيات وهي في إمكانه أن يعمل بها وهكذا فإنه يتحمل شيئًا من الوزر ولكن لا يتساوى مع الكافر المعرض إعراضَ كُفران وعناد فهما إعراض واحد ولكن المؤمن أو المسلم قد يصيبه الشيء من الوزر بقدر ما كان فيه من إعراض عن القرآن في الدنيا وكذلك في مثل قوله الله(5/267)
(8/27)
---
–تعالى- على لسان الرسول -عليه الصلاة والسلام-: ?وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُور? [الفرقان: 30]، يُقصد بها أولاً من هجر القرآن هجر الإيمان به وهجر العمل به ويدخل فيه دخولاً نسبيًا من هجر العمل بآية من هجر القراءة من هجر الاستماع من هجر الحفظ وهكذا يدخل دخولاً نسبيًا بقدر إعراضه في الدنيا- نسأل الله أن يعافينا من الإعراض-.
سؤاله الثاني: ما هو الراجح في عدد النفخات؟
(8/28)
---(5/268)
النفخ في الصور ذكر فيه الفزع وذكر فيه الصعق في آية يقول: ?فَفَزِعَ? وفي آية يقول: ?فَصَعِقَ?، والنفخة الثالثة للبعث وقيل: هناك نفخة رابعة، لكن الراجح أنه نفختان فنفخة الصعق فيها فزع وعلى أثر الفزع يصعق من أذن الله له بالصعق يوم القيامة عند النفخة الأولى ثم النفخة الأخرى نفخة البعث وذلك من خلال قول الله –تعالى- ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى? ذكر كلمة أخرى على الثانية يدل على أنهما اثنتان فقط، فمن عادة العرب في تعبيراتهم أنه إذا كان الشيء له ثانٍ فقط ولا ثالث له يقولون: أولهما كذا والآخر كذا، لا يقولون: الثاني وهناك مسألتان مثلاً أو خصلتان الأولى كذا والأخرى كذا، ولا يقال الثاني أو الثانية غالبًا إلا إذا كان هناك ثالث أو ثالثة، ونزل القرآن بهذا فعبر الله عن الدنيا والآخرة لأنه لا ثالث لهما، قال ?وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى? [الليل: 13] يُعبر عن الدار الدنيا بالأولى وعن الدار الثانية النهائية بالآخرة لأنه لا ثالث لهما، فالأول, والله -سبحانه وتعالى- قال ?هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ? [الحديد: 3]، وليس لهما ثالث فعبر عن نفسه بالأول والآخر, فكلما كان الشيء على قسمين يقال: الأول والآخر غالباً ولو قال: ثانٍ يصح ولكن ليفيد المتكلم السامع أن هذا الشيء اثنان فقط لا ثالث لهما فيعبر عن الثاني بقوله: الآخر، وهكذا جاء التعبير ?ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ? [الزمر: 68]، يعني: ثم نفخ فيه ثانية، وهذا يدل على أنهما نفختان كما جاء في سورة النازعات أيضًا: ?يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ?6? تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ?7?? [النازعات: 6، 7]، الراجفة: هي النفخة الأولى التي تهتز فيها الدنيا ويفزع الناس ويصعقون ?تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ?، هذه هي النفخة الثانية والأخرى يوم(5/269)
(8/29)
---
القيامة وسميت رادفة باعتبارها تابعة للأولى. والله أعلم.
وردتنا إجابات على أسئلة الحلقة الماضية:
كان السؤال الأول: لماذا عَجِل موسى إلى ميقات ربه؟ وكيف كان هذا؟
كانت الإجابة:
لِيُسارع إلى ربه -سبحانه وتعالى- مبالغة في إرضائه أكثر وأكثر وذلك من شدة محبته لله -عز وجل- وأُنسه به.
-ما شاء الله- هذا صحيح وطيب جزاكم الله خيراً.
السؤال الثاني: ما الذي أغضب موسى -عليه السلام- وهو في ميقات ربه؟ وكيف اتخذ بنو إسرائيل العجل؟
وكانت الإجابة:
الذي أغضب موسى -عليه السلام- عندما كان في ميقات ربه أن الله -تعالى- أخبره بأن السامري أضلهم بالعجل الذي اتخذوه إلها من دونه كان بنو إسرائيل عند خروجهم من مصر قد استعاروا من جيرانهم ما عندهم من ذهب على أن يردوه إليهم مرة أخرى لكنهم تصرفوا بذهب القَبَط ولذلك تعتبر هذه سرقة فأمرهم هارون بجمع الذهب في حفرة صغيرة إلى أن يرجع موسى -عليه السلام- ويرى رأيه فيه وكان فيهم السامري الذي رأى جبريل -عليه السلام- أو رأى ما يركبه من فرس أو ما يشبه الفرس فأخذ من أثر الرسول قبضة من التراب فألقاها في الحفرة ودعا ربه فأجابه إملاءً له فصنع لهم عجلاً من ذهب وأوحى إليهم أن هذا إلهكم وإله موسى فاتخذوا العجل إلهاً من دون الله -عز وجل- فكانت فتنة عظيمة.
نعم, نشكر على هذه الإجابة إجابة وافية- ما شاء الله-.
كان السؤال الثالث: اذكر ما تعرفه عن السامري؟ وكيف عاقبه الله على جريمته؟
وكانت الإجابة:
(8/30)
---(5/270)
قيل: إن السامري كان من بني إسرائيل وقيل: كان من القبط صحبهم في رحلتهم تعلقاً بهم وكان رجلاً فيه صلاح وكان معه من الآيات التي بعثها الله في قلبه والإلهامات التي جعلته رجلا صالحًا كما سمع من موسى ما سمع ولكنه ترك كل ذلك وأضل قوم موسى بالعجل ورجع إلى أصله - كما قيل- إنه من قوم يعبدون البقر فأفهمهم وعلمهم أن هذا هو إلهكم وإله موسى، عندما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً طرد السامري ومنعه من صحبة بني إسرائيل قال- تعالى-: ?قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ? [طه: 97]، ذكر بعض المفسرين: أي لا قريب وحيداً طريداً بعيداً عن الناس فكان لا يطيق لمس الناس كما أن الناس لا يطيقون لمسه، هذا والله أعلم.
هو في السؤال الأول فقط، يبدو أنهم لم يذكروا كيف تعجل موسى إلى ربه، يعني: ذكروا أنه تعجل إلى ربه بلوغًا لرضى الله -سبحانه وتعالى- ومحبة في الله -عز وجل- ولكن لم يذكروا كيف تعجل وذلك أنه ترك بني إسرائيل وراءه يَخْلُفونه في الطريق وسبق هو كأنه أسرع الخطى والمشي إلى الله -سبحانه وتعالى- أو إلى مكان الميقات، ليلقى ربه هناك وكانت هذه هي الطريقة التي تعجل بها موسى وترك هارون -عليه السلام- خليفة على قومه من بعده.
نشكر إخواننا وأخواتنا طلبة العلم, جزاكم الله خيرًا على هذه الإجابات الوافية الطيبة نسأل الله – تعالى- أن يزيدكم من فضله.
الأخت الكريمة من الإمارات تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف نوفَّق ألا نكون من الذين هجروا القرآن؟
(8/31)
---(5/271)
نسأل الله –تعالى- أن يعافينا من الهجر، هو الحمد لله أن وفقنا الله –تعالى- للإيمان بالقرآن هذا يسلمنا ويعافينا من أو يخرجنا من دائرة الإعراض العامة الكبيرة لكن بعد ذلك يحاول الإنسان دائماً أن يكون رجاعًا للقرآن الكريم فيصطحب القرآن في كل يوم فترة ليقرأ منه وردًا على قدر استطاعته بما يداوم عليه ولا يقطعه، وأحب الأعمال إلى الله- تعالى- أدومها وإن قَل، ومن استطاع الحفظ فليحفظ ولا يدخر جهداً ولو أن يحفظ كل يوم آية أو آيتين أو ثلاثاً على حسب وقته وجهده أيضًا بحيث ألا يقطع هذا الجهد يوماً، فيتخذ لنفسه قدراً يحفظه في كل يوم ولا يقطعه في يوم من الأيام، ومن خطورة الهجر خطورة العمل بالقرآن الكريم وخاصة أن مع التطور الحياة وتفتح الناس إلى غير الدين والقرآن ينتبهون إلى مبادئ معينة تحكم حياتهم وإن كانت تعارض القرآن الكريم أو تعاليم الشريعة فيمشي الإنسان مع الأعراف أعراف الناس وتقاليدهم وإن خالف في ذلك القرآن فلا يهتم حتى صار عند الناس كما في مِصْرِنا سار عند الناس مثل يقولون فيه حينما يقال لأحدهم: لا داعي لكذا والقرآن يقول كذا وكذا ولا تهتم بفعل الناس فيقول: أأخر عند الناس شرع أنا أطلع عن الناس شرع، يعني: أعمل شرعاً من دون الناس طالما هو شرع الله, اعمله ولو من دون الناس لا حرج وهل يُنكر الإنسان على نفسه أن يكون على الشرع وإن كان الناس على هوىً يخالف الشرع هذا لا يضيرني في شيء ولا يسيء إلي في شيء طالما أنا على شرع وإن كان الناس كلهم على هوى فلا يقابل الشرعَ إلى الهوى لا ثالث لهما الشرع من الله والهوى من الناس، أو من أنفس الناس فمن لم يتبع الشرع اتبع الهوى ومن اتبع الهوى خالف الشرع, فمن الهجر الذي يَقْبُح الإنسان به ويُشين الإنسان هجر العمل بالقرآن الكريم كما قال الله -تعالى- ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13]، ويقول الناس: الذي معه قرش يساوي قرشاً والذي ليس معه(5/272)
(8/32)
---
لا يساوي شيئاً، فنقيم الناس بالقرش، والجنيه، والدولار، واليورو، والدينار، والريال، وكذا... بالمال الذي هو متغير وصاعد ونازل في قيمته وهو وسيلة من وسائل الحياة وليس مقصوداً من مقاصدها, نقيم الإنسان به وهو رزق عند الله - تبارك وتعالى- فليس صاحب المال الكثير ليس هو الذي جمع هذا المال بنفسه ولا بمهارته إنما هو كد وتعب أو احتال وابتكر وكذا ولكن رزقه الله رزقاً محددًا ولو لم يفعل لرزقه الله الرزق نفسه والفقير الذي حاول أو لم يحاول وقَدَرَ الله عليه رزقه هذا رزقه عند الله عمل أم لم يعمل اتخذ الأسباب أم لم يتخذها هذا رزقه عند الله -تعالى- فلا مَيْزَة لغني ولا ملامة لفقير حتى يظن الناس أن فلان قيمته عالية بما معه من مال على حد قول القائل:
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال
ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالو
ليس الأمر هكذا إنما ينبغي أن نأخذ بالشرع ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13]، ويُعرف الأتقى بكثرة صالحاته وقلة سيئاته- رزقنا الله جميعاً التقوى ورزقنا الصلة بالقرآن وعافانا من هَجره- اللهم آمين.
في قول الله -عز وجل- ?نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ? ماذا يُسْتدل عليه في حديث الله عن نفسه في صيغة الجمع في نحن؟
(8/33)
---(5/273)
حين يتكلم المفرد بأسلوب الجمع فهذا أسلوب من الأساليب العربية أو في اللغة العربية اسمه: أسلوب الأُبهة والعظمة ويستعمله الملوك يقولون مثلاً: نحن ملك المملكة الفلانية نحن رئيس الجمهورية الفلانية فعلنا كذا وأنجزنا كذا وبنينا كذا وأمرنا بكذا وصرفنا كذا يُعبر عن نفسه بأسلوب الجمع تعظيماً لمكانه ولله المثل الأعلى فهو ملك الملوك -سبحانه وتعالى- فهو الأحق والأولى بمثل هذا الأسلوب الذي فيه العظمة وفيه الأبهة فمهما عظم الخلق فلا قيمة لهم في عظمة الله -سبحانه وتعالى- ولا يُدانونها أبداً ومن هنا يقول الله عن نفسه: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ? [الحجر: 9]، ?إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ? [القدر: 1]، ?نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ? هذا ليشير الله -تعالى- إلى عظمة ذاته وأن أحدًا لا يستطيع أن يصلَ إلى هذا العلم الشامل الذي لا تخفى عليه خافية، فعظم الله -تعالى- وعظم علمه وأن هذا علم عظيم لا يستطيعُ أحد أن يحصله ولا أن يكون عليه, أن يعلم هذا وهذا وهذا وأن يعلم ما يُخفيه فلان وما يخفيه فلان ويتخافت به من قول أو يخفيه في قلبه, هذا لا يَصل إليه أحد إنما يعلمه الله -سبحانه وتعالى- من خلقه ?إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ? [الأنفال: 43] يعني: عليم بالكلام وهو في الصدر قبل أن يخرج إلى اللسان، وقبل أن تتلقاه الآذان الله يعلمه وهو في ذات الصدور ولهذا حُقَّ أن يكون التعبير هكذا ?نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ?- والله تعالى أعلى وأعلم-.
الأخت الكريمة من فلسطين تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لقد ورد ذكر السنة وذكر العام في القرآن الكريم سؤالي هو: هل يوجد فرق بينهما أم لا؟
(8/34)
---(5/274)
لعله سبق الإجابة على هذا السؤال في مرة سابقة وقيل في ذلك: إن السنة هي العام يعبر بأحدهما عن الآخر ولكن عند التفريق بينهما أو تحديد المفهوم لهما فإن العام يُعَبَّرُ به عن الخير, عن الأيام التي فيها خير أما الأيام التي فيها نَكد وشر ومصائب وبلاء وهكذا فيسمى سنة، ولذلك يقال في أيام سيدنا يوسف -عليه السلام-: سِني يوسف، وقال الله -تعالى- على لسان سيدنا يوسف -عليه السلام- وهو يعبر عن الرؤيا: ?ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ? [يوسف: 48]، وقال بعدها ?ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ? [يوسف: 49]، قال: ?قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَب? [يوسف: 47]، سبع سنين ولم يقل: سبعة أعوام لأنها فيها شغل وفيها زراعة وجهد شديد لتحصيل المحصول وهكذا، وبعد ذلك يأتي سبع وهي سبع سنوات أيضًا طالما سبع مذكر فالمعدود مؤنث، أي يأتي من بعد ذلك سبع سنوات شداد، لأنها لا زرع فيها والأرض لا تنتج ويأكل الناس من مخزونهم ويخشون فواته ونفاذه ففيها هم في القلوب وفي الصدور ?ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ ?]، ولم يقل: سنة ?عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ?، يكثر الخير حتى قيل: إنهم يأكلون الفاكهة وتبقى زيادة عن حاجتهم فيعصرونها من باب الترف يأكل التفاح مثلاً أو يأكل الفاكهة ويشرب من عصيرها وهذا من باب الترف وكثرة الخير، فسمى الله -سبحانه وتعالى- في القرآن أيام الخير عاماً وأيام الشدة سنة وهذا هو الفرق الدقيق بينهما- والله أعلم-.
الأخ الكريم من المغرب يقول: ما معنى قوله- تعالى- في سورة ق: ?وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ المُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ? [ق: 41]؟
(8/35)
---(5/275)
هو المنادي الذي هو الداعي معنا الذي ينادي على الناس ?يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ? [القمر: 6]، يدعو الناس للخروج إلى أرض المحشر ليُعرضوا على الله -تبارك وتعالى- فيناديهم من مكان قريب يسمعون صوته ويجيبونه لا عوج لهم عنه، ?لاَ عِوَجَ لَهُ?، يعني: لا عوج لهم عنه ولا عن دعوته ولا عن ندائه.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يتخافت الناس يوم القيامة فيما بينهم ?إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ?، ويقول أمثلهم طريقة: ?إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْم? فما الفرق بين المدتين ولماذا كان أمثلُهم طريقة؟
(8/36)
---(5/276)
هو العشر واليوم كما قلنا وفي آية أخرى ساعة ?عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ?، ذلك على اختلاف تقدير كل واحد أو كل مجموعة منهم مجموعة تقول: يوم ومجموعة تقول: عشرة أيام وهكذا هذا على اختلاف تقديرهم ولكن اجتمعوا جميعًا على أن المدة كانت قصيرة وقيل: إن هذا يخص الحياة الدنيا أي أن الدنيا كانت قصيرة فلم ندرك فيها الإيمان وتحصيل أسباب الجنة والفلاح وقيل: إن هذا يخص الحياة في القبر حياة البرزخ أي لم نلبث في الأرض إلا هذه المدة القليلة وعلة ذلك أنهم ماتوا بأجسادهم حين جاءهم الموت كانوا بأجساد صحيحة وجاءهم الموت على هذا ثم يوم القيامة بُعثوا فوجدوا أنفسهم أيضاً بالأجساد نفسها فقالوا: إذن أجسادنا لم تتآكل فما لبثنا إلا قليلاً في الأرض وفي القبور لدرجة أن أجسادنا لم تتحلل ولم تذهب مع التراب إنما كانت فترة قليلة وجيزة قريبة فقمنا بأجسادنا كما متنا بها، فلا فرق أو لا تعارض أصلاً حتى نقول: هناك فرق إنما الفرق هو تفاوت الناس في تقديرهم لهذه المسألة حسبما كان في أنفسهم من حساب لهذه المدة إنما الذي يكاد الناس يجتمعون عليه في قولهم هذا هو أن الدنيا كانت قريبة وكانت عاجلة هذا أرجح الآراء فلم يدركوا فيها الإيمان الذي يُوصلهم إلى الجنة وإلى رضوان الله -تبارك وتعالى- وطبعًا كان هذا على سبيل الاعتذار والتبرير لكفرهم وهو اعتذار باهت لا قوة فيه ولا حق فيه حيث إن هناك من أمثالهم من آمن منهم أيضًا من عمل الصالحات بقدر كفى لنجاته ولفوزه ولفلاحه حتى صحب الأنبياء والصديقين والشهداء والله- تعالى- قال لهم هذا في الدنيا: ?مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيل? [الأحزاب: 23]، هذا والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة ؟
(8/37)
---(5/277)
حول هذه المحاضرة الثامنة بعض الأسئلة:
السؤال الأول: ما مراد المجرمين من قولهم ?إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ?؟
السؤال الثاني: ما دلالة قول الله -تعالى- ? يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ? على إثبات الشفاعة أو نفيها؟
السؤال الثالث: كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجل بالقرآن؟ ولماذا نهاه الله عن ذلك؟
ونسأل الله لكم التوفيق والسداد.
(8/38)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (9) طه ( الآيات 115- 135)
الدرس التاسع
طه: 115: 135
بسم الله والحمد لله والصلا ة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه وبعد:
إخواني وأخواتي طلبة العلم, السادة المشاهدون جميعاً في هذه المحاضرة التاسعة في دورتنا العلمية المباركة هذه: نتناول الآيات من مائة وخمسة عشر إلى الآية مائة وخمسة وثلاثين وهي آخر سورة طه ونتناول ذلك من خلال عناصر وموضوعات أربعة:
أولاً: قصة آدم وعبرتها.
ثانياً: ملامح منهج الله للخلافة في الأرض.
ثالثاً: تثبيت الله للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- أمام العوائق والمعوقات.
رابعاً وأخيراً: نموذج من هذه العقبات على طريق الدعوة.
وقبل أن نفصل القول في هذا نستمع إلى نص الآيات من أخينا فليتفضل مشكوراً:
(9/1)
---(5/278)
? وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمً?115?وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى?116?فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى?117?إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى?118? وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى?119?فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى?120?فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى?121?ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى?122?قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى?123?وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى?124?قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرً?125?قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى?126?وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى?127?أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُولِي النُّهَى?128?وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى?129?فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ
(9/2)(5/279)
---
تَرْضَى?130?وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ?131?وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَة لِلتَّقْوَى?132?وَقَالُوا لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى?133?وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى?134?قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى?135??[طه: 115: 135]،
اللهم اجعلنا بفضلك من أصحاب الصراط السوي وممن اهتدى بهديك يا رحيم يا رحمن، في هذه الآيات المباركات يذكر الله- تبارك وتعالى- قصة نبي الله آدم- عليه السلام- وهو أبو البشر وهو أول آدم رأته وعرفته الدنيا، ذلك المذكور في القرآن في مثل هذه القصة ومهما كان من أوادم فهذا هو أولهم ولم يكن قبله آدم آخر، وذلك من خلال جمع آيات القصة يتبين لنا فعلاً أن هذا هو أول من استخلفه الله- تعالى- في الأرض كما قررت ذلك سورة البقرة، وهو أول إنسان سكن الأرض وما كان يعرف عنها شيئاً لولا أن الله علمه الأسماء كلها وفضله بذلك لهذه الخلافة الكريمة التي يتشرف بها الإنسان.
(9/3)
---(5/280)
وقصة آدم في سياق سورة طه إنما هي عبرة للأمة كما أن قصة موسى- عليه السلام- فيما سبق كانت عبرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما سبق أن ذكرنا في المحاضرة السابقة- ليعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ملاقٍ أذى من قومه وأن الله ناصره عليهم ومظهرٌ أمره فسيرعاه الله بعينه كما رعى موسى- عليه السلام- وسيتم أمره ويؤيد بالمعجزات كما كان موسى- عليه السلام-.
أما هذه الأمة المطالبة باتباع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- على منهج القرآن فإنها في حاجة إلى ضرب مثال فذكرها الله- تعالى- بالمثال الأول الذي ضربه الله- تعالى- للبشرية جميعاً درساً مهماً مفيداً قدره الله على آدم ليكون معلماً لذريته بتقدير الله- تبارك وتعالى- ومن شأن القصة في القرآن أن الله- تعالى- لا يعتمد في سرد القصة ولا ذكرها على جذب الأعصاب أو شدها وعلى جعل القارئ للقصة أو السامع يتوتر عصبياً ليعلم النتيجة إنما يريد الله- تعالى- من خلال القصة تقديم عبرة إلى الناس فلذلك يلغي ثوران العاطفة بتقديم النتيجة من أول الأمر يقول الله- تعالى-: ? وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ? هذا ملخص القصة وكأن الله- تعالى- يقول لابن آدم: إنك معرض لأن تنسى فتخطئ, معرض لأن ينقطع عزمك في طريقك إلى الله -عز وجل- في اتباعك لنبيك -صلى الله عليه وسلم- وهذا يستتبع منا سؤالاً ماذا علينا يا ربنا إن كبوْنا تلك الكبوة وإن سقطنا تلك السقطة؟ ماذا علينا لننهض ونقوم؟ ومن الذي من شأنه أن يسقطنا في هذه السقطة وأن يوقعنا في هذه الكبوة؟
(9/4)
---(5/281)
هذا كله وغيره علمنا الله إياه من خلال قصة آدم المعروضة في القرآن الكريم في أكثر من سورة ولكن يذكر الله- تعالى- في كل سورة ما يناسب سياقها ومقامها من القصة فيكون التركيز على جوانب محددة معينة, هنا التركيز على بيان كيف نسير في هذه الحياة بمنهج الله- عز وجل- ومن الذي يعمل بجد ونشاط وحرص واستمرار على أن نخالف الطريق السوي وألا نهتدي وأن نميل ميلاً عظيماً وماذا على من وقع في شراك هذا العدو ماذا يفعل ليعود إلى صوابه ويستقيم أمره من جديد؟
وبهذا يضمن الإنسان سلامته على الطريق السوي حتى يصل إلى مرضاة ربه- سبحانه وتعالى- فقال- عز وجل-: ? وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ ?، أي: عهدنا له بعهد وعهدنا له بأمر جاء تفصيله بعد ذلك وهو عدم الأكل من الشجرة في الجنة ? وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ ? أي: من قبلكم وأشير هنا إلى أن كلمة: من قبل ومن بعد إذا كانت مقطوعة هكذا ليست مضافة لما بعدها فتكون من قبلُ ومن بعدُ، أما إذا أضيفت لما بعدها ? مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?[الزمر: 54] عوملت معاملة المعرب, تعرب وتجر بـ"من" فجاء في القرآن ? مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ?، من قبلِ, فقبل مجرورة بـ"من أما إذا قطعت عن الإضافة لما بعدها فإنها تبنى على الضم تكون مبنية على الضم؛ لأن هذا قد يحدث إشكالاً عند البعض أحياناً هذه قاعدتها إذا أضيفت أعربت وإذا قطعت عن الإضافة لما بعدها بنيت على الضم فيقال: من قبلُ ومن بعدُ ? وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ? نسي العهد، إذن: خطيئة آدم كانت عن نسيان ولم تكن عن تعمد إنما كانت عن نسيان لعهد الله وهذا شأن الإنسان ينسى يضعف تغلبه الشهوات وهذا هو الذي ينبغي ألا يعصي الإنسان ربه إلا من خلاله ولكن لا يقع الإنسان في معصية ربه متعمداً قادراً على الامتناع قادراً على صيانة نفسه ويتعمد ويصر على العصيان هنا تكون خطيئته أكبر.(5/282)
(9/5)
---
فآدم حين سقط في هذا الخطأ كان عن نسيان ? فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ? أي: صبراً لم يكن عنده صبر وهذا كشأن كثير من ذريته ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ ?، هذا تفصيل القصة تفصيل هذه المقدمة التي قدم الله بها للقصة، ربنا- عز وجل- يحكي أنه حين خلق آدم أمر الملائكة أن تسجد له تعظيماً لأمر الله ولما خلق الله، لأن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسكنه أرضه دون ملائكته فكان لآدم شأن.
فأمر الملائكة أن تسجد لآدم وكان إبليس يومَها صالحاً وكان من صلاحه أنه يرقى إلى الملأ الأعلى ويجالس الملائكة فصدر الأمر وهو فيهم كما لو دخل علينا داخل في بيتنا ومعنا ضيف على الضيف أن يسلم ويرد السلام على الداخل أم يقول: ليس البيت بيتي فلا أرد السلام؟ لابد أن يقوم ويؤدي التحية ويرد السلام على الداخل وإن لم يكن من أصحاب البيت.
(9/6)
---(5/283)
صدر الأمر للملائكة وإبليس فيهم فكان مطالباً بما هم مطالبون به ولم يحتج إبليس بهذا ولم ينكر, عرف أنه مطالب بهذا، إنما سجد الملائكة كلهم أجمعون ? إِلاَّ إِبْلِيسَ ? فقط هو الذي أبى السجود، في آية أخرى: ? أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ?[البقرة: 34]، لأنه عصى أمر الله ولم يتكبر على آدم في حد ذاته إنما كان تكبره على آدم وترفعه عنه كان عصياناً ورداً لأمر الله عز وجل فكفر بهذا ? فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى? أي: رفض، هنا في كلمة: فنسي ذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن على بن أبي طلحة عن ابن عباس وعرفنا أن هذا هو أصح تفسير ورد عن ابن عباس من رواية على بن أبي طلحة كما ذكره ابن أبي حاتم أيضاً ورواه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- (إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي) إنما سمي الإنسان أي: سمي إنساناً لأنه عهد إليه فنسي، فالإنسان من النسيان ولها اشتقاقات أخرى نبه إليها أهل اللغة منها: الأنس فهو مخلوق يأنس ويؤنس إليه، ومنه أنه مخلوق متحرك من الونس وهو الحركة وهكذا لكن ورد هذا عن ابن عباس كما ذكره ابن كثير ونسبه إلى على بن أبي طلحة وروايته عن ابن عباس وكذلك ابن أبي حاتم -رحمهم الله جميعاً.
فلما أبى إبليس السجود أراد الله أن يكرم آدم جزاء ما عصاه إبليس وليظهر كرامة آدم ? فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ? في آيات أخرى ? وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ?[البقرة: 35]، والآية هنا تبين أن الله- تعالى- سيسكنه الجنة وينبهه إلى عداوة إبليس فهو الحريص على إخراجه من الجنة, كيف يدخل آدم الجنة ولا يدخلها إبليس؟
(9/7)
---(5/284)
فجاء هنا تحذير آدم من إبليس فقط ? إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ? ولم يكن في الدنيا غيرهما يوم ذلك ولذلك حصر الكلام في آدم وزوجه ? إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ? ولما كانت لآدم ذرية امتدت العداوة لذرية آدم- عليه السلام- ? فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ ? هنا نلاحظ أو نفهم ونذكر أن الله –تعالى- خلقنا أصلاً للجنة لنكون فيها، خلق الخلق جميعاً أو البشرية لتكون في الجنة هذا ما يحبه لله لنا، ولكن لو أدخل الله الناس الجنة هكذا لمل البعض هناك بعض النفوس الخبيثة التي تأبي على الجنة وتملها كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى) إذن: هناك من يأبى دخول الجنة وحدث ذلك بالفعل في بني إسرائيل- كما أشرنا من قبل- حين رزقهم الله تعالى في الدنيا رزقاً كأنه في الجنة وكان ينزل عليهم السلوى وهو طائر يشبه بعض طيور الجنة، أكل لا يبذلون فيه جهداً ولا في إعداده ولا في جلبه ولا شيء. منٌّ وسلوى, ملوا هذا الطعام، وسئموا منه، ولم يرق لهم على الدوام، فانتكسوا إلى إنسانيتهم وتركوا فضل الرحمن ? وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ?[البقرة:61]، ولو كانوا ممن يألفون الجنة لقالوا: لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك ينزل علينا طعاماً آخر فيكون شيئاً آخر من السماء لكن قالوا: ? فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ? نظروا إلى الأرض والطين والتراب هذه نظرتهم وهذه نفوسهم.
(9/8)
---(5/285)
ثم طلبوا مما تنبت الأرض أشياءَ لا تقبلها النفس كثيراً ? بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ?وهناك أشياء أطيب من هذه الأنواع لكن لم تتطلع إليها أنفسهم فأنفسهم كانت من الخبث بمكان، أمثال هؤلاء لا يألفون الجنة ولو أدخلهم الله من البداية لملوا يوماً من الأيام ولتمنوا على الله أن يخرجهم يوماً إلى النار ليروا ما فيها وليذوقوا ما فيها ولو مرة.
من أجل ذلك الله- تعالى- خلقنا أولاً للأرض ليتبوأ كل منا مقعده الذي يريده، ولهذا جاء أول قرار يخص البشرية ? وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ?[البقرة: 30]، ولم يقل: إني جاعل في الجنة خليفة، إنما خلقنا أولاً في الأرض ليترك كل إنسان يختار لنفسه المكان الذي يحبه والمكان الذي يألفه ويأنسه فيكون قد تبوأ مقعده بعمله وباختياره دون جبر من الله -عز وجل- أو قهر، وهي فترة محدودة لننتقل منها إلى الدار الآخرة وليبوء كل إنسان بعمله إلى مكان قد اختاره.
(9/9)
---(5/286)
فالله- عز وجل- نبه آدم وينبهنا من خلاله إلى أن الذي سيحرص على إخراج آدم من الجنة وبالتالي حرمان ذريته من الجنة في الآخرة إنما هو إبليس- عليه اللعنة- ? فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ?، فالعداوة إذن: مع إبليس وإبليس حقيقة وهو أبو الجن وقول الله- تعالى- فيه: ? أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ?[ص: 75]، ليس من طائفة من الملائكة اسمهم: العالين، إنما أم كنت من العالين أي: من المتعالين المتكبرين، وهو أبو الجن كما أن آدم أبو الإنس وحقد على آدم حين أسجد الله له الملائكة ولم يسجدهم لخلق إبليس ولا الجن من قبل ذلك ومات بحقده وطرد من رحمة الله- تبارك وتعالى- غير أنه طلب الخلود في الدنيا فخلده الله- عز وجل. قول الله- تعالى-: ? إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ? يعني فيما بعد ولذريتك، بعض الناس يظنون أن إبليس هذا هو نازع الشر في النفس البشرية خطأ وهذا وهم إنما إبليس حقيقة غير أنه روح لا يُرى روح لا يراه الإنسان ? إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ?[الأعراف: 27]، وهو موجود وذريته موجودة، ذريته يموت بعضهم ويحيا الآخرون وهكذا يتتابعون في الأجيال أما هو فقد أنظره الله وأخره إلى آخر الدنيا لأن الدنيا دنيئة وحقيرة فأعطاها الله للشيطان حين طلبها ? قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ?[الحجر: 36، 37].
(9/10)
---(5/287)
ختام الآية فتشقى ولم يقل فتشقيان لأن شقاء الزوجة باعتبارها تابعة للزوج فيكون شقاؤها تبعاً لشقاء الزوج أما إذا كان الزوج منعماً فغالباً ينعم زوجته معه فإذا شقي الزوج شقيت الزوجة غالباً وإذا نعم الزوج نعمت الزوجة بنعيم زوجها، ولأن الرجل هو المسؤول عن الأسرة المكلف بالعمل المطالب بجمع الرزق لنفسه وللأسرة من خلال كدّه وتعبه خارج البيت أما الأم فهي في مدرستها ومملكتها تربي الأجيال وتعد الرجال للأمة بهذا العمل الشاق والجهد المضني الذي لا يطيقه الرجال في كثير من الأحيان فكيَّف الله المرأة لإعداد أجيال الأمة في البيت وكيف الله الرجل للخروج خارج البيت لجلب الرزق وتمويل الأسرة مادياً وهكذا فكان الشقاء على الزوج فقال: ?فَتَشْقَى ?.
(9/11)
---(5/288)
? إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى?118? وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ? هذا في الجنة، لو حافظت على سكناك في الجنة يا آدم ستنال هذه الحقوق وأكثر منها وهذا هو الحد الأدنى لأي كائن حي، أدنى حق للإنسان ينبغي أن يعطى له ? إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى?118? وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ? يوفر إليه طعامه وشرابه وكساؤه ومسكنه الذي يحميه من الشمس ونحو ذلك والبرد وهكذا، ولكن لم يجمع الله بين الجوع والظمأ وهو العطش ولم يجمع بين العري وعدم السكن في البيت ونحو ذلك وإن كانت هذه الأمور متناظرة ولكن جمع الله بينها جمعاً آخر فقال: ? إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى ? جمع بين الجوع والعري باعتبار أن الجوع خلاء الباطن من الطعام وأما العري فهو خلاء الظاهر من الملابس، فجمع بينهما: الخلاء في كل، ? وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ? الظمأ: ألم يحرق الجوف من قلة الماء وأما تضحى فهو: من الضحو وهو شدة حرارة الشمس والتي تبدأ بوقت الضحى، من عند وقت الضحى تبدأ أشعة الشمس في زيادة الحرارة وقد يتأذى بها الناس ولذلك يكتنون عن العمل ويسكنون إلى الظل وحتى الأنعام التي ترعى في الصحراء تأوي إلى الظل أيضاً وإلى أكنتها بعيداً عن حرارة الشمس التي قد حميت بها الأرض من تحت حوافرها فلا تطيقها.
فجمع الله بينهما باعتبار أن الظمأ ألم يصيب الجوف من قلة الماء وأن الضحو ألم يصيب الظاهر من شدة حر الشمس وبرد الشتاء ونحو ذلك.
(9/12)
---(5/289)
? إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى?118? وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى?119? فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ? بطريقة ما: دخل الجنة.. لم يدخل الجنة.. كلمه من بعيد.. وسوس وسوسة معينة وصلت إلى آدم بتقدير الله- تبارك وتعالى- فكان فيما قال له أو فيما وسوس إليه به: ? هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ? وهكذا يزين الشيطان للإنسان سوء عمله فيجعله في شكل حسن لكي يجعله يأكل من الشجرة زين له أن هذه الشجرة شجرة الخلد وفيها ملك لا يفنى أبداً ولا ينتهي ومن هنا نسي آدم عهد ربه وأكل من الشجرة هو وحواء ولكن حين حرم الله- تعالى- الشجرة على آدم وأباح له الأكل من الجنة كلها كان ذلك رمزاً للحلال والحرام الوارد في الشريعة فالحلال كثير نسبته في الشريعة كنسبة أشجار الجنة كلها عدا هذه الشجرة فقط ونسبة التحريم في الشريعة نسبة ضئيلة كشجرة في جنة واسعة عظيمة، فيستطيع الإنسان إذن أن يستغني عن هذ الشجرة بغيرها من الأشجار وكذلك يستطيع أن يستغني عما حرم الله بما أحل الله- سبحانه وتعالى- فهذا رمز للحلال والحرام والمنح المنع في شريعة الإسلام.
(9/13)
---(5/290)
? فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ? أكل آدم وأكلت حواء فبدت لهما سوآتهما أي: ظهرت كانت موجودة ولكن لم يلتفتا إليها وكانت مستورة عنهما بطريقة أو بأخرى بشكل أو بآخر لم يرد نص صحيح يعتمد عليه في ذلك، إنما كانا لا يلتفتان إلى العورة فلما أكلا من الشجرة بدت لهما العورة ورأيا سوآتهما من أنفسهما وهنا كأن الله يعلمنا من خلال هذا الترتيب أن الحرام يعري الإنسان ويفضحه ويسوؤه بسوأته وأما الحلال فهو سترة وكرامة وشرف وعفة، انظر إلى من تزوج ونكح وإلى من ارتكب السفاح- والعياذ بالله- واقترف الفاحشة هذا في سترة وعفة وكرامة وذاك الذي أخذ السفاح والزنى هذا في فضيحة وعار عظيم لا يقف عند الشخص فقط بل يمتد إلى أسرته وعائلته وربما تعير به بلاده كلها.
(9/14)
---(5/291)
? فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ? فطرة لم تكن هناك شريعة يومئذ ولكن فطرة فطر الله آدم وحواء وذريتهما على ذلك أن الإنسان لا يقبل أن تظهر عورته فحين يصل الإنسان إلى حد يكشف فيه عورته بنفسه فهذا قد انتكست فطرته أو طمست أو ماتت وبدلت لأنه على خلاف الفطرة, تلك الفطرة التي كانت في آدم وحواء وراحا يغطيان سوءاتهما بما تيسر عندهما من أوراق الأشجار في الجنة وذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- أن آدم وحواء كانا يأخذان من أوراق شجرة التين لأن أوراقها عريضة قد يقول قائل: شجر التين فيه شوك. الجنة ليس فيها أشواك وليس فيها متاعب ولا شيء, أياً مَّا كان الأمر, وطفقا يخصفان عليهما أي: يجمعان ويضعان عليهما من أوراق الجنة لستر العورة هذه فطرة رأيناها أو سمعناها عن بلقيس وهي تعبد الشمس من دون الله, مشركة لا تعرف الله- عز وجل- ومع ذلك حين استضافها سليمان- عليه السلام- وأعد لها صرحاً ممرداً من قوارير أي مفروشاً من زجاج ليريها ملكه الواسع العظيم فلما رأته حسبته لجة ظنت أنه ماء وكشفت عن ساقيها، إذن: كانت تغطي حتى الساقين ولم تكشف عنها إلا حين ظنت أن تحت قدميها ماء.
(9/15)
---(5/292)
وهكذا الفطرة موجودة في الإنسان حتى في بعض الكافرين إلا من أعرض وانتكس- والعياذ بالله- فإنه يسمح أن يكشف عورته أمام نفسه وأمام الآخرين وإن سمى هذا بتسميات تزين له هذا الشر على أنه خير كما قال الشيطان لآدم ? هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ? كان ذلك لئلا نقع في شراك الشيطان ومع ذلك كثير من الناس يلدغون من الجحر مرتين بل مرات ويتبعون الشيطان المرة تلو المرة مع تحذير الله لهم ? فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى? هذه هي الصورة الظاهرة أنه عصى ربه وغوى يعني: عكس الهداية هذا في الظاهر ولكن ورد في الصحيحين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أن موسى حاج آدم) قيل: كان ذلك في السماء حين التقت الأرواح وقيل: يكون ذلك يوم القيامة (فيقول موسى لآدم: أنت أبونا آدم الذي أسكنك الله الجنة فأخرجت الناس منها وأكلت من الشجرة) يلومه على هذا (فقال له: أنت موسى وكليم الله وتلومني على شيء قدره الله عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-) معلناً النتيجة ( فحج آدم موسى ) أي: غلب آدمُ موسى بالحجة لأن هذا تقدير الله قدر الله على آدم أن يأكل من الشجرة لنتعلم كيف تكون المعصية وكيف الخلاص منها ولكن ليس لأحد بعد ذلك من ذرية آدم أن يبرر لنفسه معصيته بأن الله قدرها عليه لا.. قدرها الله على آدم فقط ليعلم البشرية والذرية كيف تكون المعصية وبسبب مَن؟ وبالاتباع وراء مَن؟ وكيف الخلاص منها والتطهر منها والرجوع إلى الله- سبحانه وتعالى- ولهذا يقول: ? فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى?121? ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ? اجتباه ربه فتاب عليه وهدى،(5/293)
(9/16)
---
الله اجتباه أي: اختاره واصطفاه وجعله نبياً لأهل زمانه من أولاده وذريته وتاب عليه: علمه التوبة كما جاء في سورة البقرة أولاً ? فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ?[البقرة: 37]، ربنا علمه التوبة هذه كلمات مذكورة في سورة الأعراف ? قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ? [الأعراف: 23]، إذن: الأمر كله من تقدير الله- عز وجل.
وبعد ذلك يقول الله- تعالى-: ? قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا ? هذا الأمر بالهبوط من الجنة لآدم وإبليس وقيل: لآدم وحواء كان هذا بعد الأكل من الشجرة مباشرة ولما نزل آدم إلى الأرض علمه الله التوبة.
(9/17)
---(5/294)
إذن: هنا في الكلام تقديم وتأخير -في هذه القصة في سورة طه فيها تقديم وتأخير- قدم الله اجتباءه لآدم وتوبته عليه وهدايته له على قوله: ? قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ? تعجيلاً بتعليمنا أن آدم بريء وأن الله- تعالى- كما قدر عليه المعصية علمه التوبة فلا يظن أحد السوء بآدم ولا يحتج أحد لمعصيته بفعل آدم يقول: أبونا آدم فعل كذا وأنا مثله وأقل منه إذن أفعل وأفعل لا..لا نحتَجّ لمعاصينا بما فعل أبونا آدم- عليه السلام- ولئلا يظن أحد أن خطيئة آدم باقية حتى قدم عيسى- عليه السلام- نفسه للفداء, يفتدي البشرية من خطيئة آدم. هذا كلام غير صحيح، إنما ما فعل بعيسى من محاولة القتل لولا أن الله رفعه وألقى شبههه على أحد من حوارييه كان ذلك محاولة قتل من اليهود لعيسى- عليه السلام- كما هو شأنهم مع أنبياء بني إسرائيل ومع نبينا- عليه الصلاة والسلام- فما مات إلا متأثراً بسم اليهود الذي أكله بخيبر كما أثبت ذلك الحديث في البخاري، ولو كان عيسى- عليه السلام- مفتدياً البشرية من خطيئة لكان افتداؤه لنا وللبشرية من خطيئة قابيل الذي قتل أخاه أولى من افتدائه للبشرية مما فعل آدم, فما فعل آدم إلا أنه أكل ثمرة من شجرة لا تخص أحداً فلم يأكل حق أحد إنما كان ذنبه بينه وبين الله فقط، أما قابيل فكانت جريمته شنعاء حيث إنه قتل هابيل أخاه الذي ربما- بقدر الله- لو عاش لكانت البشرية ضعفي ذلك أو أكثر يعتبر قتل هابيل وقتل الذرية التي كانت ستكون منه لو عاش- بقدر الله- جناية على البشرية كلها من لدن هابيل إلى قيام الساعة ولهذا يقول النبي –عليه الصلاة والسلام – فما صح عنه: (لا تقتل نفس ظلماً إلى يوم القيامة إلا كان على ابن آدم الأول كفل من وزرها لأنه أول من سن القتل) وجاء بعد ذكر القصة في سورة المائدة ? مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ
(9/18)(5/295)
---
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ?[المائدة: 32]، فلو كانت البشرية في حاجة إلى افتداء من خطيئة لكانت في حاجة ماسة إلى الافتداء من خطيئة أبيها قابيل دون فعلة آدم- عليه السلام- ففعلته كانت فعلة يسيرة جداً أنه أكل ثمرة من شجرة.
هكذا تنتهي قصة آدم- عليه السلام- بهذا التعبير العظيم ? ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ? لنؤمن أن آدم -عليه السلام- ليس على خطأ وإنما قدر الله عليه هذا قبل أن يخلق بأربعين سنة.
(9/19)
---(5/296)
يعتبر درساً عملياً في التعليم ثم يفرع الله على هذه القصة التي يضربها للأمة كيف نسير في طريق ربنا لنصل إلى الجنة؟ نحذر الشيطان هذا هو عدونا وماذا لو سقط الإنسان في شراك الشيطان؟ يرجع إلى الله ويتوب كيف يتوب؟ أن يعترف بتقصيره وخطئه وأن يقر إلى الله- تعالى- بأنه هو غفار الذنوب ? رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? أو بكلام آخر قريب من هذا يحمل المعنى نفسه, يفرع الله على هذا بيانا لملامح منهجه -سبحانه وتعالى- في خلافة الإنسان للأرض كيف نخلف في أرض الله؟ كيف تدوم خلافتنا وتصلح وتعمر بنا الحياة ونعيش حياة طيبة في هذه الآيات التالية ذكر ملامح هذا المنهج بشكل مجمل مختصر جميل يعيه كل ذهن ويحفظه كل إنسان قال الله- تعالى-: ? قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ? لا تنسوا هذه العداوة اذكروها دائماً حتى تحذروها ? فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ? سيأتيكم مني هدى تشريع ? فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ? والضلال سبب الشقاء والشقاء نتيجة للضلال. وتخيل ذلك فيمن ضل طريقه في صحراء فإنه يمشي بعيداً عن الطريق الصحيح والحق ويبعد وتبعد به الشقة ثم يتبين له الطريق الصحيح فيعود إليه بعد تعب وعناء شديد فشقي بضلاله حتى يعود, أو لا يعود إلى الطريق الصواب ? فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ? فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة, فلا يضل في الدنيا بل يهتدي ولا يشقى في الآخرة وفي سورة البقرة يقول- تعالى-:? فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ?[البقرة: 38]، لا خوف عليهم في المستقبل أو فيما يستقبلهم من أمر لا ينبغي أن يخافوا على شيء أو من شيء ولا هم يحزنون على ما فاتهم مهما فات المؤمن وراءه من دنيا فإن مستقبله خير من ماضيه كما قال الله-(5/297)
(9/20)
---
تعالى- لنبينا -عليه الصلاة والسلام-: ? وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى?[الضحى: 5]، مستقبلك عطاء إلى درجة الرضا وقال قبلها في سورة الليل عن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- وعن مثله ممن عمل عمله من الإنفاق في سبيل الله والعمل لله- عز وجل- قال- سبحانه وتعالى-: ? وَلَسَوْفَ يَرْضَى?[الليل: 21]، وسوف تفيد المستقبل أيضاً ولسوف يرضى.. الله- تعالى- برأه مما اتهم به في الدنيا وزكى عمله وزكاته وأخبر عن مستقبله أنه: ولسوف يرضى.
هكذا المؤمن يكون مستقبله خيراً له مما سبقه ومن ماضيه، (ولما ذهب أبو بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- يزوران أم أيمن فلما رأتهما بكت بكاءً شديداً فظنا أنها تبكي فراقَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهما ذكراها بذلك فبكت، فبكيا معها حيناً ثم كفا عن البكاء وأخذا يصبرانها وقالا لها: اصبري فإن ما لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ربه خير مما له عندك) مستقبل أمره عند الله خير مما كان له في الدنيا عندك وعندنا، (فقالت: والله لا أبكي لفراق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن أبكي لأن خبر الوحي انقطع من السماء) فمستقبل المؤمن يكون خيراً من ماضيه ? فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?[البقرة: 38]،وهنا يقول الله- تعالى-: ? فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى?123?وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي? كفر بذكر الله وهو القرآن وأعرض عنه ولم يتبعه ? فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ? الضنك: هو الضيق وذكر المفسرون في ذلك عدة أمور:
منها ما ذكره على بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (ضنكا يعني شقاء).
قال الضحاك وعكرمة ومالك بن دينار «هو العمل السيء والرزق الخبيث» ولا شك أن من ساء عمله وخبث رزقه يكون شقياً ويشقى بذلك فالرأيان متلاقيان.
(9/21)
---(5/298)
وفي حديث رواه ابن أبي حاتم موقوفاً -ووقفه أصح من رفعه-: ( أن الضنك هو ضمة القبر) وروي مرفوعاً عند البزار( أنه عذاب القبر) وكل ذلك من الضنك وكل ذلك من الضيق الذي يلاقيه من أعرض عن ذكر الله- سبحانه وتعالى-، نعوذ بالله من ضنك الدنيا والآخرة ? فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ? وهذا نجد مصداقه في حياة الكافرين فإن الإحصائيات أثبتت أن أعلى نسبة انتحار عند الكفار أكثر من المؤمنين مع أن حياة الكافرين- فيما نرى- تحكمها قوانين الحريات فليفعل كل ما يشاء وأنت حر ما لم تضر، ومع ذلك ومع أنه يستبيح لنفسه كل ما تشتهي نفسه إلا أنه يستعجل الانتحار ويستعجل الموت حتى نشأت عندهم جمعيات معروفة بجمعيات مساعدة المنتحرين حتى لا يضر بانتحاره ويكون انتحاره منظماً قام أناس وأنشأوا جمعيات هكذا يأكلون من وراءها ويجمعون رزقهم منها يهيئون مناخاً مناسباً للمنتحر حتى ينتحر بسلام فلا يضر غيره.. شيء مخزٍ ومضحكٌ في الوقت نفسه هذا إذا نظرنا فيه لماذا ينتحر؟ من إذا طلب شيئاً وجده وكلما أراد أمراً فعله ما الذي ينقصه؟ معيشة ضنك رغم أنها كما يسميها حرية وكما يراها الإسلام إباحية يستبيح لنفسه كل شيء ممنوع أو محرم ولكن مع هذا ينتحر ويستعجل الموت بينما المسلم في هذه الأيام رغم ضعف إيمانه ورغم قلة دينه ليس على المستوى العالي من الإيمان ورغم كثرة المشكلات في حياته والأزمات الطاحنة له إلا أنه يصبر ويتصبر ويأبى الموت ولا يقبل عليه بل عنده أمل وعنده صبر وعنده طموح في أن يفرج الله عنه هذا الكرب يوماً من الأيام هذا مصداق واقعي لقول الله- تعالى-: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ? أعمى إما أن يكون عمى البصر العمى الحسى المعروف وإما أن يكون أعمى البصيرة، فإذا كان أعمى فهو لا يرى طريقه يوم القيامة بين الزحام فيتخبط في الناس ولا يأمن ولا يسلم أمره فربما سقط ويداس(5/299)
(9/22)
---
من الخلائق في وسط الزحام الشديد إهانةً ومهانة له وإما أنه أعمى البصيرة يعني: لا حجة له لا يجد كلاماً يقوله ? هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ?35?وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ?[المرسلات: 35: 36]، ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ?[التحريم: 7]، وماذا يقول ولا حجة تقال؟ وماذا يقول وقد قطع الله له الأعذار كلها في الدنيا فوفاه حقه؟ ومع ذلك يستعطف الله- تعالى- ويقول: ? قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرً?125?قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ?، يعني: تعاميت عنها ولم تنتبه إليها والجزاء عند الله من جنس العمل وهذه آية العدل، آية العدل أن يجازي المجازي من جنس العمل كما عمل يجازى بمثل عمله ? قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَ?أي: تناسيتها ?وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ?126?وَكَذَلِكَ نَجْزِي?أي: بهذه الطريقة العادلة نجزي ?مَنْ أَسْرَفَ? يعني: كل من أسرف في ذنبه وأسرف في كفره ? وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ? وتفريعاً على ذلك وتتميماً للفائدة الله – تعالى- يعتب على هؤلاء الكافرين ويلفت أنظارهم لعلهم ينتبهون فيقول- سبحانه-: ? أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ?،أفلم يهد لهم يعني: أفلم يهدهم؟ أفلم يتبين لهم؟ كم أهلكنا قبلهم من القرون أي من أهل القرون وأصحاب الأزمان والأماكن والحضارات السابقة كم أهلكنا عاداً وثمود وفرعون وقوم ثمود وقوم لوط وغيرهم من الأمم وقوم نوح مما ينطق بقدرة الله- تبارك وتعالى- ومما يذكر بالقانون الرباني أن من أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكاً وأن عليه العذاب في الدنيا(5/300)
والآخرة
(9/23)
---
ولكن من ينتبه لمثل هذه الآيات ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُولِي النُّهَى ?، وما النهى؟ القلوب الواعية التي تنهى صاحبها عن فعل ما يشينه ويسيء إليه فأصحاب النهى وأصحاب العقول والقلوب الواعية فقط هم الذين يفهمون هذه الآيات حين يرى فلاناً هلك بسبب ذنبه فلا يفعل هذا الذنب ولا يفعل مثله لئلا يهلك مثله بمثل ما هلك، ولماذا لم يهلك الله الكافرين من هذه الأمة ككفار مكة؟ ? وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى ?، لولا أن الله- تعالى- سبق بكلمة وسبق بوعد والله لا يخلف وعده لكان الله أهلك هؤلاء الناس ولولا أن الله كتب لهم أجلاً ممدوداً إلى حد معين لعجل الله بهلكتهم ولكن الله لا يبدل القول لديه وكان من ذلك أن قال الله- تعالى-: ? وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ?[الأنفال: 33] -صلى الله عليه وسلم- فلذلك حلم الله عنهم وأمهلهم دون أن يهملهم وإن أخد منهم بعضهم يوم بدر وبعضهم يوم الخندق وفي الغزوات الأخرى ولكن لم يقض عليه قضاء كاملاً وقد عافى الله هذه الأمة من عذاب الاستئصال الذي كان يأخذ به الأمم السابقة كقوم نوح أهكلهم بالطوفان وقوم عاد أهلكهم بالريح وثمود أهلكهم بالصيحة وهكذا يقطع الله دابر الكافرين جميعاً ما فعل الله بالأمة إكراماً لرسوله- عليه الصلاة والسلام- حيث دعاه بهذا فأجابه الله- تعالى- إليه فلا عذاب تستأصل به أمة القرآن.
الموضوع الثالث: في هذه الآيات هو تثبيت النبي -صلى الله عليه وسلم- على طريق الدعوة أمام العوائق والعقبات والمعوقات التي تعترض طريقه وهذا يدلنا على لطف الله- تعالى- وعلى عنايته برسولنا- عليه الصلاة والسلام- كما كان يرعى بعينه نبيه موسى ووعد بذلك نبينه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أيضاً كان يعمل معه ذلك وهذا مما يدل على تطبيق الله وتحقيق وعده- سبحانه-.
(9/24)
---(5/301)
فيقول للنبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذا الجو المغضب حيث كذب به قومه وكذبه من كانوا يقولون عنه: الصادق الأمين-صلى الله عليه وسلم- هذا أمر محزن يضيق أو يضيق صدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كبشر وكان ينتظر منهم أن يصدقوه كما كانوا يصدقونه طيلة أربعين عاماً، فيقول الله له: فاصبر, وكانوا يقولون كلاماً مؤذياً جارحاً قاسياً على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إما كلاماً على الله وذات الله- سبحانه وتعالى- وإما كلاماً على القرآن وإما كلاماً على الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه فكان يحزن لذلك ويحزن أكثر على أمته وأهله الذين ضلوا، ولذلك كان يقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) فيقول له الله: ? َفاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ? وقد قالوا أقوالاً كثيرة مفتراه كلها أقوال آثمة لا تنشغل بما يقولون ولكن اصبر وانشغل بعملك أنت.
ما عملي يا ربي؟ ? وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ?، قال العلماء: التسبيح هنا مقصود به الصلوات أي: فصلِّ لله ولعل هذا كان قبل فرض الصلوات الخمس وكانت الصلاة موجودة من أول العهد وكانت ركعتين ركعتين كانت هناك صلاة الليل كانت واجبة على الأمة وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى فرض الله الخمس صلوات فنسخ فرضية صلاة الليل في حق الأمة فصارت سنة وبقيت واجبة على رسول الله –عليه الصلاة والسلام- ? لَعَلَّكَ تَرْضَى ? لعلك يرضى قلبك بهذا وتبلغ رضى الله- سبحانه وتعالى- والله – تعالى- وعده كما قلنا ? وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى?.
(9/25)
---(5/302)
وقال الله -عز وجل- لرسوله -عليه الصلاة و السلام- بعد أن صبره: ? وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? لا تمدن عينيك يعني: لا تصرف عينينك إلى ما عندهم من متع الحياة من أموال.. من وجاهة.. من سيادة في أقوامهم.. لا تنصرف عيناك إلى هذا فهذا من زخرف الدنيا ومتاعها الزائل وهذا رزق ولكنه رزق غير حسن. الله- تعالى- يرزقهم هذا ولكنهم سيدخلون به النار وسيعذبون به فيها، فأصحاب الأموال الذين لا يتقون الله في أموالهم قارون -عليه اللعنة- دخل النار بسبب ماله وتكبره بكنوزه وتعاليه على الناس وفرعون دخل النار بعلوه وطغيانه هذه مناظر لا يلتفت إليها وقد رزقك الله يا نبي الله ما هو خير من ذلك وأبقى ورزق ربك خير وأبقى رزق الله كله خير حتى الرزق الذي رزقه الله للكفار هو خير في أصله ولكن هم الذين استعملوه في الشر وهم الذين جعلوه نقمة ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ?[الرعد: 28] رغم أن نعمة الله فيهم لكنهم أضروا أنفسهم بها, ? وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? أي: ورزق ربك لك ولنا نحن الأمة خير وأبقى مما في أيدي الكافرين إنما هم في زينة من الحياة الدنيا زهرة والزهرة عمرها قصير- كما تعلمون- الثمرة عمرها أطول إنما الزهرة تحمل في طياتها الثمرة وتخرج الزهرة وتتفتح لتخرج منه الثمرة ثم تذبل أوراق الزهرة وتنطفئ رائحتها وتسقط ورقاتها، عمر قصير جداً كذك الدنيا فسمى الله ما عند هؤلاء الكافرين من متاع الدنيا زهرة الحياة وليست زهرة برائحة طيبة وخير نافع لا.. بل ? لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ? وفيه هنا بمعنى: به أي: لنفتنهم به ولكن لإغراقهم في النعمة وشدة محبتهم لها ? وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ? [الفجر: 20]، ويظنون(5/303)
(9/26)
---
أن النعمة هي سياجهم وحياتهم وكل شيء بالنسبة لهم فقال الله- تعالى-: ? لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ? وختم الآية بقوله ? وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? وبعدها ? وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ ? قبلها ? فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ? سبح وأمر أهلك بالصلاة يعني صل أنت وأمر أهلك أيضا بالصلاة هذا من رزق الله حين يرزق الإنسان ركعتين لله خير من الدنيا وما فيها. سجدة بين يدي الله في الدنيا خير من مال الدنيا وزخرفها ولكن أكثر الناس لا يعلمون بعض الناس يقولون: وماذا أخذتم من صلاتكم؟ أنتم تصلون طول عمركم ماذا قبضتم؟ والله ما نحب أن تكون لنا الدنيا كلها وما فيها ونحن نصلي لله ركعتين وشيء من نعم الله علينا في الدين خير من الدنيا وما فيها وابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- وهو يقرأ سورة الرحمن على ملأ الكافرين في مكة ويضربونه وعاد مضروباً ضرباً مبرحاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- (يقول: والله يا رسول الله والله ما كنت أحب أن تكون لي الدنيا وما فيها والقوم يضربونني)لأنه في سبيل الله (ولو أمرتني أن أعود لعدت) فوضع زينة الحياة الدنيا عند الكافرين بين صلاتين بين صلاة النبي -عليه الصلاة والسلام- بمفرده وأمر أهل بالصلاة هذا يدل على أن رزق الله بالدين خير وأعظم وأكرم وأكبر من رزق الدنيا فرزق الدنيا زائل أما رزق الآخرة فباق وتلك القصة المشهورة المعروفة حينما أهديت شاة لعائشة -رضي الله عنها- فتصدقت بثلاثة أرباعها وأبقت ربعها ليأكلها النبي -عليه الصلاة والسلام- وأهل بيته ( فلما جاء قالت: يا رسول الله أهديت إلينا شاة فتصدقت بثلاثة أرباعها وبقي ربعها، فقال: لا يا عائشة بل بقي ثلاثة أرباعها وذهب ربعها )الذي سيأكل هذا هو الذي سيذهب مع التراب وأما ما تصدقت به لله فهذا هو الباقي ما كان للآخرة فهذا هو الرزق الحقيقي الخير الباقي ? وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ? ?(5/304)
وَأْمُرْ
(9/27)
---
أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ ? لابد للرجل, الأب, الزوج أن يأمر من تحت يده بالصلاة فأهله هم زوجه التي هي الزوجة وأهل بيته أيضاً أولاده يأمرهم بالصلاة وليس بالصلاة فقط ولكن الصلاة وكل الواجبات الدينية الشرعية والنبي -عليه الصلاة و السلام- يقول: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ) وقال -عليه الصلاة و السلام- (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) وفي رواية أصح (أن يضيع من يقوت) أي: من يتكلف بأقواتهم والمعنى واحد إذا كان تضييع قوت الأسرة ذنباً يكفي الإنسان ليقف بين يدي الله محاسباً معذباً مسؤولاً فما بالك لو ضيع دينها وفطرتها؟!! فذنبه أشد وذنبه أعظم ? وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ ?وهذ الآية ترتيبها عجيب لأن بعض الناس يأمر أهله بالخير مرة ومرتين ومرات ثم يكل ويمل ويسأم ويسكت ولكن الله- تعالى- كأنه يقول له: استمر ولا تيأس ذكر دائماً ? وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ? واصطبر هذه أكبر من: واصبر قاعدة في التفسير وفي اللغة عموماً تقول: كلما زاد مبنى الكلمة يعني: حروفها زاد معناها غالباً إذا كثرت الحروف فاعلم أن المعنى أكبر أو أشد أو أضخم واصطبر كأن الله يطالبنا بصبر أكبر من الصبر العادي ونحن نعلم أهلنا وأولادنا دين الله- عز وجل- لأن الزوجة تتدلل على زوجها وتقول: الآن أصلي- إن شاء الله- أصلي لا تشغل بالك اطمئن والأولاد يراوغون أيضاً نأمره بالخير ويراوغون وهكذا فيحتاجون إلى اصطبار لا إلى صبر عادي الاصطبار هذا يحتاج إلى وقت وكأن قائلاً قال: يا ربي وهل أنا متفرغ لهذا ورائي أكل عيشي وجمع رزقي قال- تعالى-: ? وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا ? لست مكلفاً بهذا إنما أنت مكلف أصلاً ومسؤول عن أن تقود أهلك إلى الجنة ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ?[التحريم: 6]، ولم يقل: قوا أنفسكم(5/305)
وأهليكم جوعاً ما
(9/28)
---
جاءت هذه في القرآن وإنما ? قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ? فهذا مقدم على الدنيا.
? لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا ? يعني ماذا؟ اجلس بجوارها قل لها: اليوم- إن شاء الله- لن أذهب إلى العمل لماذا؟ لأنك لم تصلي وما دخل الصلاة في العمل؟ إن لم تصلي فلن أجمع رزق الله كيف نأكل رزق الله ولا نصلي له اجلس بجوارها في البيت خذ إجازة, شر يوم على زوجة أن يقعد لها زوجها في بيتها طول النهار وينازعها الأمر تريد أن تطهي طعاماً فيتدخل في هذا تغسل ملابس فيتدخل في هذا وهي تريد أن تكون براحتها في بيتها تلبس ما تشاء وتخلع ما تشاء لتتحرك حركة حرة في البيت وجود زوجها يمنعها لأنها تريد وتحرص أن يرى منها منظراً جميلاً وهذا يتناقض مع هذا فتظل مرتبطة بوضع معين طول النهار كأنها في سجن, مسجونة مع زوجها، لكن تحب أن تراه ويغيب عنها ثم يأتي وهكذا فتشتاق إليه فإذا قعد ثم لن يكون هناك عمل أخذت إجازة وراء إجازة يخصمون من المرتب لا مال لا رزق إذن لن تجد مصروفاً لن تجد ملابس لن تجد طعاماً لن تجد ذهباً إذن ستقول له: والله سأصلي اذهب إلى عملك واطمئن سأصلي وتقوم تصلي بالفعل ليذهب إلى عمله ? لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا ? من أين نأكل يا ربنا؟ ? نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَة لِلتَّقْوَى ? العاقبة يعني: النهاية الجميلة الفوز الفضل الكبير لمن؟ ليس لمن جمع المال. ليس لم بنى البيت الفاره. ليس لمن أعد الشقة بأساس كذا أو عمل لأولاده مستقبلاً مالياً كذا إنما العاقبة للتقوى كون الإنسان يترك تقوى الله في أهله وأولاده هذا ضمان عظيم فيقدم لأولاده في شركة التأمين الإلهية خير له من غيرها قال الله- تعالى- داعياً إلى ذلك: ? وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدً?(5/306)
إذن: فالعاقبة للتقوى. هكذا يأمر
(9/29)
---
الله- تعالى- بالتمسك بالدين فهذه خير من الدنيا وما فيها ولا تغرينا تلك الأشياء التي تتقلب في أيدي الكافرين فإنها متعة زائلة وزهرة فانية.
تنتهي السورة وتختم بذكر نموذج مما يقولون ? فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ? ماذا قالوا؟ قالوا كلاماً سيئاً بذيئاً, كلاماً حقيراً سفيهاً ومن ذلك مثال: ? وَقَالُوا لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ ? لولا يعني يا ليته يأتينا بآية من ربه [لولا] أداة حض وحث يعني: فليأتنا بآية من ربه وهذا القرآن أليس آيات؟ أولم يكف هذا القرآن؟ أولم تكف المعجزات الحسية والمادية التي ظهرت على أيد النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ ألم يكفهم أنه كان صادقاً أميناً قالوا فيه: ما جربنا عليك كذباً قط من مدة أربعين عاماً؟ أهذا لم يكف؟ ماذا تريدون من آية بعد ذلك؟ بعد ما آتاه الله من آيات إنما هو التلكؤ في طريق الإيمان والتنطع وعدم الإقبال الصحيح , المراوغة ليصدوا عن سبيل الله- عز وجل- ? وَقَالُوا لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ ? الله يرد عليهم قائلاً ? أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ? ألم يحدثهم محمد -صلى الله عليه وسلم- بما كان في صحف إبراهيم وموسى وهو لم يقرأها وهو لم يعلمها وهو الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب أبداً طول عمره معهم؟ من أين جاء بهذه الأخبار ألم تكن آيات من عند الله- سبحانه وتعالى- أنزلها الله عليه ليتلوها عليهم وليعرفوا نبوته؟ أهذا لا يكفي؟
(9/30)
---(5/307)
إذن: ما كانوا يطلبون آية ليؤمنوا حقاً إنما هي مراوغة يبررون بها عدم إيمانهم ويضيعون بها الوقت بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما كان الله يدري أنهم هكذا, أنهم لن يؤمنوا ؟ أما كان الله يعلم أنهم لن يقبلوا على الإيمان؟ بلى كان الله- تعالى- يعلم ذلك ولكن لو أن الله أهلكهم بعذاب دون أن يبعث رسولاً ماذا كان سيقول القوم؟ كيف تعذبنا يا ربنا بغير أن تبعث لنا رسولاً وتختبرنا بدين؟ جربنا اختبرنا كلفنا بتشريع ستجدنا طائعين كان المنافقون يقولون في الدنيا وسجل القرآن لهم ذلك: ? وأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ? [النور: 53]، أقسموا بالله جهد أيمانهم كأنهم تعبوا من كثرة الحلف أتعبوا أنفسهم أو أنهم أجهدوا الأيمان وأتعبوها من كثرة الحلف بها على أنهم لو أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخروج معه في سبيل الله ليخرجن.. الله يكذبهم ويقول: ? قُل لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ? أي: طاعتكم معروفة كلام فقط حين يعزم الأمر ويجد السعي والمسير لا نراكم ولذلك قال الله لهم- ولكن لما كانوا في وسط المسلمين جاء الخطاب عاماً للمؤمنين-: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ? فالمخاطب هنا المؤمنون ولكن المراد بهم من المنافقون ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ ? اثاقلتم إلى الأرض وتجد في اثاقلتم هذه تصويراً لحركة المنافقين اثاقلتم الألف هذه تسمى همزة وصل وليست همزة قطع يعني: تثبت في القطع في بداية الكلمة لو بدأنا بقوله تعالى ? إثَّاقَلْتُمْ ? نقول: ? إثَّاقَلْتُمْ ? لكن لو وصلنا ? مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ ? تسقط في الوصل إذن: حركتها حركة عارضة وليست ثابتة أصلية ثم تجد الحروف(5/308)
(9/31)
---
بعد ذلك حركات أصلية كلها بعد هذه الحركة العارضة سكون أصلي تكون على الألف ثم حركة على القاف ثم سكون على اللام ثم حركة على التاء ثم سكون أصلي نهائي أخير على الميم فكأن الحركات في هذه الكلمة بدأت بحركة عارضة وانتهت بسكون أصلي ذلك يصور حركة المنافقين في الخروج للجهاد في سبيل الله لزوم التصوير لزوم أن يظهروا في الصورة يتحركون حركة متباطئة حتى يراهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ويراهم الصحابة وهكذا ظهرنا في الصورة يبدؤون يتراجعون ويتأخرون في المشي حتى يسبقهم المخلصون المجدون ويكونون هم في الوراء فيتسللون لوازاً من هنا وهناك ولو اضطروا للوصول إلى الميدان اعتذروا بأوهى الأعذار ? يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ?[الأحزاب: 13] يقول الله- تعالى: ? وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا ? فكأن حركتهم بدأ بحركة غير خالصة لله حركة غير أصلية حركة عارضة للظهور بها فقط ثم بعد ذلك يتحركون بعد هذه الحركة حينما تغيب عنهم أعين الملاحظة يسكنون ويقفون ثم إذا نظر إليهم أحد تحركوا ثم يسكنون يتحركون ثم يسكنون حتى ينتهوا إلى سكون أصلي وسكون لا حركة بعده فهؤلاء كانوا المنافقين وكذلك في الأمة منافقون إلى أن تقوم الساعة هذا حالهم لو أن الله أهلكهم قبل مجيء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقبل بعثة رسول لاحتجوا على الله بهذا فلكي يقطع الله لهم عذرهم ولئلا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل أرسل إليهم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم يأخذهم بالعذاب إلا بعد مجيئه وتبليغ رسالته وتقديم نصيحته ? وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى? أما كنت ترسل لنا رسولاً لنتبع آياتك ونؤمن من قبل أن نذل ونخزى؟ الله- تعالى- يقول: ? قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا(5/309)
? متربص أي:
(9/32)
---
منتظر ولكن كان انتظار الكافرين للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين انتظار حصول مصيبة كانوا يعتقدون هذا أن الله- تعالى- سيعذب النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون في الدنيا وأنه سيدخلهم النار يوم القيامة أيضاً ? وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ ? [المطففين: 32]، يصفونهم بالضلال، فهو انتظار ولكن مع توقع حصول ضرر ? قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ ? نحن نتربص بكم وأنتم تتربصون بنا ? فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ ? أي: يوم القيامة في مستقبل الأمر ? مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ? سيظهر يوماً من الأيام أهل الهداية أهل وأصحاب الصراط المستقيم والمهتدون على الطريق المستقيم سيظهرون بتكريم الله لهم وبنصرة الله لهم. كانت هذه الآية في مكة يوم أن هاجر المسلمون إلى المدينة وكانت غزوة بدر ظهر من أصحاب الصراط المستقيم وظهر المهتدون.
وختاماً أشير إلى نقطة وهي كلمة قل ? قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ ? لما كان الكلام مع الكافرين أعرض الله عن مخاطبتهم بنفسه فلم يقل لهم خطاباً منه: كل متربص ولكن قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ? قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ ? قل لهم أنت يا محمد- عليه السلام- لأنهم ليسوا أهلاً لشرف الخطاب الرباني فصرف الله عنهم هذا الشرف إلى من يستحقه وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال- سبحانه- ? قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ?.
وبهذا تنتهي سورة طه وينتهي الحديث في ظلها.
نسأل الله- تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما سمعنا وأن يعلمنا ما ينفعنا ونعوذ به من علم لا ينفع ونستفتح- إن شاء الله تعالى- فيما هو آتٍ سورة الأنبياء- عليهم الصلوات والتسليمات- وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(9/33)
---(5/310)
لو سمحت في الحلقة الماضية كان في تفسير الآية ? فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ?[القيامة: 18]، فما المقصود بـ"اتبع قرآنه"؟
بسم الله الرحمن الرحيم سبق في الحلقة السابقة قول الله- تعالى-: ? وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ?[طه: 114]، وذلك كقوله في سورة القيامة ? فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ?18?ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ? كان رسولنا- عليه الصلاة والسلام- حريصاً على تلقي القرآن ومهتماً بهذا الأمر اهتماماً عظيماً فبلغ من ذلك أنه كان يقرأ الوحي مع جبريل- عليه السلام- آية بآية وكلمة بكلمة حتى لا يسقط منه شيء فكان يجد من هذا عناءً شديداً فكفاه الله- تعالى- هذا الهم وتكفل الله- تعالى- بحفظ القرآن في صدره -صلى الله عليه وسلم- فجمعه له فقال: ? إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ? كما قال تعالى ? سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ?[الأعلى: 6]، أي: سنقرئك القرآن والوحي فلا تنساه يعني: فلن تنساه لن يحصل لك نسيان ? إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ ? إذا شاء الله أن ينسخ آية أو ينسيها له ? مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[البقرة: 106].
(9/34)
---(5/311)
? إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ? كلمة قرآن تأتي في اللغة العربية بمعنى قراءة- كما قلنا من قبل- تقول: قرأت كتاب اللغة قرآناً وقرآت الجريدة قراءة قراءة وقرآناً بمعنى واحد مصدر قرأ فهما مصدران لفعل واحد قرأت قرآناً أو قرأت قراءة، فمعنى ? إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ? أي: علينا جمعه لك في صدرك محفوظاً وقرآنه أي وقراءته على لسانك تيسيره على لسانك مقروءاً ? فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ? أي: إذا انتهى الملك الموكل من قبلنا من قراءة الوحي? فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ? فاقرأ أنت يا محمد -عليه الصلاة و السلام- يعني: خذ من قلبك بلسانك واقرأ ستجده ميسوراً وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن يفصل عنه جبريل ويصعد ينادي على أصحابه ويقول: أنزل علي الساعة كذا أو أنزل علي آنفاً كذا ويقرأ عليهم ما أنزل عليه -صلى الله عليه وسلم- فجمعه الله له في صدره محفوظاً ويسر له قراءته على لسانه ? فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ? حتى إذا سئل عن شيء لا يعلمه من معاني القرآن كان الله- تعالى- يوحي إليه ببيانه ? ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ? يعني: تفسير ما غمض عليك أو خفي عنك من معاني القرآن حيث إن لله مراداً معينا من خلال قرآنه فكان الله- تعالى- يوحي ببعض المعاني للنبي -صلى الله عليه وسلم- ويتكلم بها -عليه الصلاة و السلام- مع أصحابه والأحاديث الصحيحة جمعت هذه الأقوال وجمعها بعض الدارسين في كتاب سماه التفسير النبوي للقرآن الكريم وهي روايات قليلة لا تعم كل القرآن لأن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كانوا يفهمون معظم القرآن بحكم لغتهم العربية لكن ما خفي من بعض الكلمات أو المراد من بعض الجمل كان الله- تعالى- يوحيه إلى النبي -عليه الصلاة و السلام- ثم يتكلم به مع أصحابه فمعنى ? فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ? أي: فاتبع قراءته- والله أعلم.
(9/35)
---(5/312)
كانت إجابة السؤال الأول: المراد بقولهم: ? إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا ?[طه: 103]، أي: ما لبثنا في هذه الدنيا إلا مدة بسيطة يسيرة قليلة لا تكفي للإيمان والتذكر والعمل الصالح فلقد فاجأتهم الدنيا بانقضائها والله يرد عليهم بقوله: ? أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ?[فاطر: 37]،
نعم إجابة صحيحة- إن شاء الله- ولكن طبعاً قلنا هناك احتمال أو قول آخر عند العلماء أنهم قصدوا احتمال أن يكونوا قصدوا بهذا القول مكثهم في القبور حيث ماتوا بأجسادهم ثم رأوا أنهم بأجساد يوم القيامة أيضاً وفي ظنهم أن ما مات وبلي لا يعود طالما أن أجسادهم باقية إذن لم يمكثوا في القبر فترة تتآكل فيها الأجساد وإنما هي فترة قليلة عشرة أيام أو يوم أو ساعة أو نحو ذلك.
كانت إجابة السؤال الثاني: ما دلالة قوله- تعالى-: ?يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ? [طه: 109] الدلالة قوله ? إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ?، فالشفاعة ليست أمراً مشاعاً ولكن الله- تعالى- يمنحها من يشاء ومن يعلم أنه أهل لها ويستحقها وهي ثابتة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والملائكة والنبيين وحامل القرآن والوالد لولده وغير ذلك فهي ثابتة وكائنة وحاصلة لكن بإذن من الله- تعالى- لمن يشاء واختاره وارتضاه
(9/36)
---(5/313)
نعم. ملخص هذا الكلام أن الشفاعة ثابتة وهذه الآية ثابتة وهذه الآية تدل على ذلك وأمثالها أيضاً ونظائرها في القرآن تدل على ثبوت الشفاعة يوم القيامة لكن بشرط أن يرضى الله الشفيع والمشفوع له وأن يرضى القول الذي يتشفع بسببه أو به فالشفاعة ثابتة والآية تدل على ذلك ولا تدل الآيات القرآنية على نفي الشفاعة نفياً مطلقاً لا توجد آية في القرآن ولا حديث في السنة ينفي الشفاعة مطلقاً إنما النفي وارد في حق من لا يستحق الشفاعة والنص ثابت ومثبت للشفاعة في حق من يستحقها فقول الله- تعالى- مثلا على لسان الكافرين: ? فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ?100?وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ?[الشعراء: 100: 101]، هؤلاء هم الكفار فنفيت الشفاعة عنهم لكنها ثابتة لعصاة المؤمنين في النار فيخرجون بها من النار إلى الجنة من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى- جزاكم الله خيراً.
كانت إجابة السؤال الثالث: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعجل بالقرآن إذا نزل به جبريل فيقرأ معه خوفاً أن يتفلت أو ينساه حرصاً منه- عليه السلام- فنهاه الله وضمن له الحفظ والجمع فقال- تعالى-: ? إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ? والله أعلم بالصواب.
نشكركم على هذه الإجابات الطيبة وهذا الجهد المشكور ونتمنى لكم دوام التوفيق والتسديد بعون الله تعالى وفضله.
هل كل الجن سيدخلون النار بحكم أنهم من ذرية الشيطان؟
في الجن قولان:
قول: بأنهم لا جنة لهم ولا نار يوم القيامة إنما هم خلق يعبدون الله في الدنيا يعبد منهم من يعبد مكلفون في الدنيا ويوم القيامة لا يدخلون الجنة إنما إبليس يدخل النار ومن عمل معه يدخل النار.
(9/37)
---(5/314)
وقول: بأن منهم من يدخل الجنة ومنهم من يدخل النار وهذا القول أرتضيه وأميل إليه لأنهم أمة مكلفون مثل أمة البشر مكلفون بالشريعة وجاء على لسانهم: ? وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدً?14? وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ?[الجن: 14]، لما قال الله- تعالى-: ? فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ? ولم يقل: فأولئك يدخلون الجنة؟ قال البعض: إنهم لا جنة لهم إنما من كفر منهم يدخل النار كإبليس وذريته الذين تبعوه لكن هذا لا يمنع كونهم تحروا رشداً فالراشد في الجنة وأما فرعون فقال الله فيه ? وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ?[طه: 79]، وقال: ? وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ?[هود: 97]، فهو في النار أما الرشيد فيكون في الجنة فالراجح فيما أرى -والله أعلم- أن المؤمن منهم يدخل الجنة فمؤمن الإنس والكافر منهم يدخل النار ويعذب بها وينال من عذابها بما قسم الله- تعالى- له كما هو الحال في الإنس تماماً وقد يستتبع هذا سؤالاً ظريفاً يتردد كثيراً كيف يعذب إبليس وذريته في النار وهم أصلاً مخلوقون من النار؟
يتصور بعض الناس أن النار لا تؤثر في الجن لأنه مخلوق من نار إن صح هذا فإن أحدنا لو ضرب بصخرة فلا يؤذى لأنه مخلوق من طين ولو ضرب بشيء من تراب لا يؤذيه لكن التراب يؤذينا والصخر والحجارة تؤذينا ونحن مخلوقون من التراب فالخلقة استحالت إلى شيء آخر والجان ليس مخلوقاً من نار إنما خلق من مارج من نار وهو الهواء الحار الساخن المتصاعد فوق النار والله على كل شيء قدير يفعل ما يشاء من عذاب أو نعيم- نسأل الله رحمته وعافيته ونعوذ بالله من عذابه وانتقامه.
تقول: هل الآية التي بين أيدينا ? وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ? والآية في سورة ق ? فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ? لهما نفس المعنى ؟
(9/38)
---(5/315)
? فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ? أي شديد ? وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ? هذا طبعاً لابد أن نرجع به إلى أصل ثابت فالآيتان متغايرتان أو الوصفان متغايران في الآيتين، لابد أن نرجع بهذه المتغيرات إلى ثوابت لأنها مذلة خطيرة ذلك الأمر الثابت هو أن الله- تعالى- كإله ورب وعظيم وملك الملوك- سبحانه وتعالى- لا يمكن أبداً أن يتعارض قوله ولا أن يتناقض كلامه مع بعضه لأنه يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون فرب يتكلم بعلم شامل للماضي والحاضر والمستقبل فكلامه لا يمكن أبداً أن يعتريه التناقض والتعارض أما في كلامنا الذين نجهل بعض الأشياء فيبدو لنا الشيء بعد خفاء فمثل هذا يكون على حسب المواقف في موقف معين كموقف الحشر الله- تعالى- يجعله أعمى فيتخبط في الزحام في موقف تلقي كتابه يكون بصره حديداً ليقرأ كتابه ? اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبً? [الإسراء: 14]، فلا بد أن يكون مبصراً ببصره حتى يقرأ الكتاب حتى يصح تكليفه بهذا الأمر فهذا موقف وذاك موقف حيث يضره العمى وفي موقف يكون مبصراً حيث يضره الإبصار والله له الحكمة البالغة.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
معنا في هذه الحلقة التاسعة والأخيرة في سورة طه ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: ما هدف قصة آدم في القرآن عامة وفي سورة طه خاصة؟
السؤال الثاني: من خلال هذه الآيات التي كنا معها في هذه الحلقة كيف يستعين الداعية على الثبات على الدعوة؟
السؤال الثالث: اشرح معنى الآية ? وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ? ؟وهي الآية قبل الأخيرة في سورة طه.
وفقكم الله لحسن الجواب وفصل الخطاب.
(9/39)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني(5/316)
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (10) الأنبياء (الآيات 1- 10)
المحاضرة العاشرة
[الأنبياء: 1- 10]
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا رسول الله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- ونسأل الله –تعالى- التوفيق في هذه الرحلة المباركة في صحبة الإمام ابن كثير مع تفسيره -رحمه الله تعالى- وفي هذه الحلقة نتناول سورة الأنبياء بعد أن انتهينا- بفضل الله تعالى- من دراسة وتعليق على سورة طه، ونبدأ هذه السورة بدراسة عشر آيات من أولها مستعينين بالله -تبارك وتعالى- ونقدم هذه الآيات ضمن أربعة موضوعات:
أولاً: تعريف بسورة الأنبياء.
ثانيًا: اقتراب الساعة على غفلة من الناس.
ثالثًا: نَضْح الكفر وإبطال القرآن له.
رابعًا: تشريف القرآن للأمة.
ونسأل الله –تعالى- التوفيق في ذلك حيث يأتي تفصيله بعد الاستماع إلى هذه الآيات من أخينا الكريم فليتفضل مشكورًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(10/1)
---(5/317)
بسم الله الرحمن الرحيم: ?اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ?1? مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ?2? لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ?3? قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ?4? بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ?5? مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ?6? وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ?7? وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداًّ لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ?8? ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا المُسْرِفِينَ ?9? لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ?10?? [الأنبياء: 1- 10].
بسم الله الرحمن الرحيم
(10/2)
---(5/318)
بداية نتعرف على سورة الأنبياء أو نُعرف بها، وهذا كما هو شأن كثير من المفسرين يبدؤون بإطلالة عامة على السورة ليتعرف عليها الدارس أولاً معرفة شاملة عامة ثم يدخل بعد ذلك في واحاتها ليتعرف على تفصيلها ودروسها وعِبرها، سورة الأنبياء هكذا كان اسمها وليس لها اسم آخر, عُرفت به على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأثبتت به في المصاحف ووصلت به إلينا وهذا لأنه كما عرفنا في سورة طه، أسماء السور الراجح فيها أنها توقيفية من عند الله -تبارك وتعالى- فالله -عز وجل- هو الذي سمى سور القرآن بأسمائها وأنزلها هكذا ولذلك تجد اسم السورة مشيرًا إلى موضوعها وهدفها وكأن السورة تتلخص في مضمون اسمها. سورتنا سماها الله -تعالى- بسورة الأنبياء وقال المفسرون: لما ذَكَرَ الله فيها من أنبياء كثيرين بلغت عدتهم ستة عشر نبيًا -عليهم الصلاة والسلام- وإن كانت سورة الأنعام ذكر الله فيها ثمانية عشر نبيًا أكثر من سورة الأنبياء ولكن سميت تلك باسم الأنعام؛ لما برز فيها من أحكام الأطعمة والذبائح وذكر فيها الأنبياء إشارة إلى أن ما حرم الله من الطعام والذبائح وأحل إنما هو في كل الشرائع، فالحلال حلال من أول الدنيا إلى يوم القيامة والحرام حرام من أول الدنيا إلى يوم القيامة، إلا أن يُحَرِّم الله على قوم شيئًَا عقوبة لهم كما حدث ذلك في بني إسرائيل.
(10/3)
---(5/319)
وأما سورة الأنبياء فالقصد فيها كما عرفنا عند أول الحديث عن سورة طه لو تذكرون، القصد فيها إلى إثبات بَعثة أو بِعثة كثير من الأنبياء والرسل السابقين كدليل على صحة بعثة رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه ليس بدعًا من الرسل، ليس بدعة وليس أمرًا جديدًا غريبًا إنما كما بعثه الله -تعالى-: ?مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى? [طه: 2] بعث موسى -عليه السلام- ?اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى? [طه: 24]، وبعث أنبياء ورسلاً كثيرين كما تحدثنا سورة الأنبياء عن هذا العدد الكثير، فلذلك سُميت بسورة الأنبياء حيث إنها تهدف إلى التأكيد على صدق نبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وبالتالي طالما القضية الأساسية في السورة هي إثبات النبوة فتلك قضية من قضايا العقيدة التي اهتم القرآن بها كثيرًا في العهد المكي، وبهذا ندرك أن السورة مكية نزلت قبل هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فالقرآن النازل قبل الهجرة كان يركز كثيرًا على تأكيد وإثبات العقيدة الصحيحة، ورد ما عداها من العقائد الباطلة والتصورات الباطلة عن الناس، حتى إذا كانت الهجرة كانت تفاصيل الأحكام، فسورة الأنبياء سورة مكية وذكر بعض المفسرين أنها نزلت قبل سورة الزخرف، ونزلت قبل سورة النحل وهما مكيتان أيضًا، يعني نزلت في أواسط العهد المكي تقريبًا، وهذا يدلنا على أنها من أوائل ما نزل في مكة وخاصة أنها تركز على هذه القضية وهي قضية من أولى القضايا فأول ما واجه الكفار محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- كذبوه في نبوته هو، بما يترتب على ذلك من تكذيب آيات الله والتكذيب بالدار الآخرة والتكذيب بالوعيد والوعد يوم القيامة، مما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم.
وكان نزولها بعد سورة فصلت، ليست بعدية مباشرة وإنما بعدها ولو بزمان، إنما نزلت سورة فصلت قبلها، ونزلت بعدها سورة الزخرف، وسورة النحل.
(10/4)
---(5/320)
سورة الأنبياء وأية سورة ندرسها أو نقرؤها ينبغي أن نتعرف على فضلها، وفي فضائل سور القرآن بعض أحاديث ضعيفة، وقليل من الأحاديث الموضوعة والعلماء- جزاهم الله عنا خيراً ورحمهم الله- قد بينوا كل ذلك لكل طالب، فتجد هذا منبهًا عليه، الأحاديث مخرجة، ومحكم عليها أو ومحكوم عليها بصحتها أو بضعفها أو بغرابتها ونحو ذلك، إلا أنه قد صحت بعض الأحاديث في بعض السور وفي فضلها ففضل بعض السور ثابت كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ثابت بأحاديث صحيحة وربما ثابت ببعض الآيات القرآنية ينبه الله إلى شرف سورة معينة كما من الله على رسوله -عليه الصلاة والسلام- بسورة الفاتحة، وهذا يدل على شرفها، قال: ?وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المَثَانِي وَالْقُرْآنَ العَظِيمَ? [الحجر: 87]، كون الله يمن بها ويبرزها بذكر خاص مع القرآن العظيم أو أنه يسميها على قول آخر، يسميها بالقرآن العظيم، فهذا يدل على فضلها وشرفها بنص القرآن.
(10/5)
---(5/321)
كون الله -تعالى- يقول في سورة النور، في بدايتها: ?سورة أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ? [النور: 1]، يعني: هذه سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات وكل القرآن كذلك سور أنزلها الله -تعالى- وفرضها وأنزل فيها آيات بينات لكن تخصيص سورة النور بهذا الذكر وبهذا الوصف يدل على مزيد شرف لها غير ما ورد في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ورد في فضل الفاتحة وفضل الزهراوين البقرة وآل عمران، وفضل" قل هو الله أحد" والمعوذتين والزلزلة ونحو ذلك من سور بين النبي -عليه الصلاة والسلام- فضلها، فسورة الأنبياء هل حظيت بشيء من هذه الخصوصيات، ومن هذا الفضل، لم يرد في فضلها حديث خاص يدل على أنها تمتاز بميزة خاصة، وقلنا من قبل ونذكر بأنه لا يدل عدم ورود حديث أو نص شرعي في فضل سورة من السور لا يدل ذلك على عدم فضلها، أو أنها سورة مفضولة، أي: أقل من السورة الفاضلة، لأن الكل كلام الله، وهو كلام غير مخلوق، كلام ليس كمثله كلام، كلام قال الله فيه: ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ? [الزمر: 23]، فسورة الأنبياء من كلام الله ومن أحسن الحديث، كل سورة تعتبر معجزة في ذاتها، فسورة الأنبياء معجزة تحدى الله بها فقال: ?وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ? [البقرة: 23] كلمة سورة هنا تشمل كل سورة في القرآن ومنها سورة الأنبياء فيصح التحدي بها فهي سورة لها الفضل العام الثابت للقرآن، كما ثبت في فضل القرآن أن من قرأ حرفًا فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، هذا أيضًا ينسحب على سورة الأنبياء فمن قرأ منها كما لو قرأ من سورة البقرة, من سورة النساء، من سورة النبأ, من أية سورة كل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها، فهذه السورة سورة الأنبياء وإن لم يكن لها فضل خاص بها، إلا أنها تحوز الفضل العام والشرف العام الذي جعله الله -تعالى- للقرآن،(5/322)
(10/6)
---
ولعله يُشير إلى شيء من الخصوصية، ما صح عند الإمام البخاري وذكره الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: (بنو إسرائيل -يقصد سورة الإسراء، وتسمى سورة بني إسرائيل- بنو إسرائيل والكهف ومريم، وطه، والأنبياء هن من العتاق الأول، وهن من تلادي) هن من العتاق الأول، سورة الإسراء والكهف ومريم وطه، والأنبياء، العتاق: جمع عتيقة، وهي السورة القديمة أو الشيء القديم، يعني: عمره طويل ليس حديثًا الآن إنما هو من قديم الزمن، (من العتاق الأول) أي أول ما نزل من القرآن الكريم، لأنها كلها سور مكية هذه المذكورة كلها سور مكية فيقول: (هن من العتاق الأول، وهن من تلادي) أي: هن من السور التي أعتاد على قراءتها وأواظب على قراءتها، وابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- صحابي جليل معروف بحفظه للقرآن، وبعلمه لعلوم القرآن الكريم، وكان من أعلم الصحابة في هذا الشأن فإذا ما صح عنه أنه كان يواظب أو يحرص كثيرًا على قراءة هذه السور والنظر فيها دل ذلك على شيء من شرفها وشيء من عظمتها، لكن لا نستطيع أن نقول: لها كذا، إنما نقول: يستحب الإكثار من قراءتها كما كان يفعل ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
هذا هو الموضوع الأول وهو تعريف عام بسورة الأنبياء.
(10/7)
---(5/323)
أما الموضوع الثاني: وهو الآيات الثلاث الأول من سورة الأنبياء، وهو بعنوان اقتراب الساعة على غفلة من الناس، إذ يقول الله -تبارك وتعالى-: ?اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ? خبر يخبر الله به وهو العليم الخبير -سبحانه وتعالى- فهو خبر صدق وهذا الخبر من أوائل العهد المكي أي من ألف وأربعمائة عام تقريباً ويقول الله -تعالى- ?اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ?؛ لأن الله قال: ?إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ?6? وَنَرَاهُ قَرِيباً ?7?? [المعارج: 6، 7]، فهو بحساب الله قريب، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- من علامات يوم القيامة, من علامات اقتراب الساعة لأنه آخر نبي ولا نبي بعده وأمته آخر الأمم ولا أمة بعدها، فإذا ما ظهر نبي آخر الزمان ينتظر بعده الساعة، فقال- تعالى-: ?اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ? ويقصد بالحساب: الحساب في الآخرة ?وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ? وهم في غفلة، التعبير بفي، هكذا يشير إلى الإغراق أو يفيد الإغراق في الشيء وكأنهم مظروفون داخل الغفلة، كأن الكافرين مظروفون كالشيء يكون داخل الظرف، مظروفون داخل الغفلة، فالغفلة تحيط بهم من حواليهم من كل جهة فصعب أن ينتبهوا، وإذا عبر الله في القرآن بكلمة الناس أو الإنسان فيقصد أصل الخليقة يعني: الكافرين، يقصد الكافرين ويقصد الإنسان الكافر إلا إذا كانوا مؤمنين فإن الله -تعالى- يقول:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو? أو ? إِنَّ المُسْلِمِينَ ? أو نحو ذلك، يعبر بلفظ الإيمان الذي ارتقى به الإنسان، وإلا فأصل الكافر، على ما خلق فهو ناس، وإنسان ?اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ? أي: للكافرين ?حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ? روى الإمام النسائي -رحمه الله تعالى- عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في كلمة غفلة: (في الدني) فسمى الغفلة أو فسر الغفلة بالدنيا، وكأن الله سمى(5/324)
(10/8)
---
الدنيا غفلة؛ ومعنى ذلك: أنهم انشغلوا بدنياهم عن آخرتهم حتى أغرقوا فيها، وأظرفوا فيها فما عادوا يعملون شيئاً للآخرة ولا ينظرون إلى الآخرة ولا ينتظرون شيئاً من الساعة كما قال ربنا: ?إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً ?27? وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً ?28? وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً ?29?? [النبأ: 27- 29]، فمعنى في غفلة: أي في الدنيا، ?اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ? ذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله- عند هذه الآية أثراً عن عامر بن ربيعة -رضي الله تعالى عنه- مما يدلنا على أن الصحابة- رضي الله عنهم- كانوا إذا سمعوا القرآن ونزل فيهم أو قرؤوه بأنفسهم بعد أن ينزل كانوا يفسرون الآيات على أنفسهم، ويأخذون خطاب القرآن ويوجهونه لأنفسهم، بخلاف الناس اليوم، يقرؤون القرآن على أنه حكاية عن قوم موسى وعن قوم لوط وعن قوم نوح وأن هذا عن بني إسرائيل وهذا عن أمة كذا وهذه الآية نازلة في أبي جهل وهذه في أبي لهب، ونخرج من القرآن ولا آية لنا، اللهم إلا إن كان الناس يطمعون في بعض الآيات المبشرة بالجنة والمغفرة، فيتعتقدون أن هذه الآيات تخصهم هم، أما الآيات المتوعدة بالعذاب والناقمة على العادات السيئة وعلى المعاصي وعلى البدع وعلى الشرك وما إلى ذلك فهذه لا تخصهم وهذا خطأ كبير إنما كان الصحابة- رضي الله عنهم- يأخذون القرآن لأنفسهم حتى الآيات النازلة في الكافرين، وفي المنافقين وفي اليهود، وغيرهم كانوا يفسرون هذه الآيات على أنها خطاب لهم هم ويتهمون أنفسهم بما في هذه الآيات من قصور أو تقصير وبالتالي يجددون العهد مع الله ويتجهون إلى الله بالطاعة، ومن ذلك ما ذكره ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن عامر بن ربيعة -رضي الله عنه-:( أنه نزل عليه رجل من العرب) ضيفًا أو عابر سبيل (فأكرمه عامر، وكلم فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-) يعني كأنه ذهب للنبي -عليه(5/325)
الصلاة
(10/9)
---
والسلام- وتكلم بخير عن هذا الرجل عند رسول الله -عليه الصلاة والسلام- حتى يكرمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (فجاءه الرجل) بعد أن دخل على النبي -عليه الصلاة والسلام- جاء إلى عامر مرة أخرى (فقال: إني استقطعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واديًا في العرب) يعني: كأنه سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يعطيه عطية وأن يهبه مكانًا يعيش فيه، فوهب له وادياً من وديان العرب مكاناً سهلاً بين الجبلين، (إني استقطعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واديًا في العرب، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك) أي: لأولادك يعني يعطيه جزءًا من هذا الوادي ملكًا له هبة بدون ثمن كما تسبب في جلب الخير له, هو يريد أن يعوضه خيرًا أيضًا ليعرف الجميل له، (وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر -رضي الله عنه-: لا حاجة لي في قطيعتك) هذه القطعة لا حاجة لي فيها، (نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا، وقرأ قول الله –تعالى-: ?اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ?) فأخذ الكلام على نفسه وكأنه اقترب حسابه وهو في غفلة ولم يكن لصحابي أن يكون في غفلة وما كانت هذه الآية تقصد الصحابة- رضوان الله عليهم- المؤمنين الذين سبقوا بالإيمان والهجرة ولكن تقصد الكافرين الذين أغرقوا في الدنيا، وسقطوا في الغفلة ولما قال الله –تعالى- في الآية الأولى ?وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ? أشار هذا القول إلى أنهم بسبب ما هم فيه من الغفلة أعرضوا، فإن الغافل يعرض عن الشيء إذا عرض عليه، تعرض على إنسان طعامه كما يعرض على بعض الأولاد في بعض الأسر، يعرض عليه طعامه الذي به قوام حياته، وهو مشغول بالأتاري أو ببعض الألعاب الخاصة به أو نحو ذلك فيذهل عن طعامه ولا يريد أن يأكل ولا يشرب لأنه في غفلة في لعبه فَشُغل بهذا اللهو عن طعامه، شغل ويشغل بهذا اللهو عن تعليمه(5/326)
ومدرسته ومذاكرته،
(10/10)
---
ويشغل المصلي بمثل هذه الآلات اللاهية عن صلاته وعن واجباته الشرعية ونحو ذلك، فالغفلة تكون سببًا في الذهول والإعراض عن شيء ربما كان شيئًا أساساً في الحياة، وشيئًا مهماً، وبعد ذلك فسر الله –تعالى- كيف يعرضون، وكيف هم في غفلة فقال: ?مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ? "ما" يعني: لا. لا يأتيهم، نافية، ?مَا يَأْتِيهِم? أي ما يجيئهم من ذكر "من" معناها أي ذكر أي آية من القرآن أي وحي يبعث الله به مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليذكر به الناس وفي هذا الذكر الرحمة والتربية والرعاية والعناية والشرف والعزة والكرامة، لذلك قال: ?مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم? ولم يقل: من الله، وإلا لكانت فيه قوة ومهابة وعظمة ورهبة، ولكن الذكر جاء من رب، رب يحب من ينزل إليه الذكر، واصطفاه من بين الأمم واصطفى له أحسن الحديث وأحسن الكلام الإلهي، وجعله منزلاً لكلامه وشرعه وجعله مكلفًا من بين الخلق بأوامره والتكليف هذا تشريف عظيم تكليف من الله فيه شَرَافة عظيمة، ?مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ? أي جديد يعني: آية بعد آية سورة بعد سورة ?إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ? يستمعونه وهم يلعبون لا ينتبهون ولا يركزون ولا يستوعبون ولا يعقلون ويفهمون، ينبغي على الإنسان العاقل- إن كان عاقلاً حقًا- ينبغي عليه أن إذا ألقيت عليه الموعظة أو التذكرة أو تُليت عليه آيات ربه أن ينظر ويتفكر، ربما كان فيها خيرٌ ربما كانت حقًا، لابد أن يعطي نفسه حق التفكير حق العقل لكن أن يسمع الشيء وهو لاهٍ أو وهو لاعبٌ، فهذا لن يستفيد أبداً فيحرم نفسه حق العقل لديه آلة يعقل بها ولكنه لا يستعملها فكان كما قال ربنا: ?لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَ? [الأعراف: 179].
(10/11)
---(5/327)
? مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ? كأن هذا الأمر كان شأنًا دائمًا لهم ما من مرة يأتيهم فيها ذكر من ربهم وفي آية أخرى ?مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ? [الشعراء: 5]، إلا يستمعونه في حالة لعب ولهو وغفلة دون انتباه ودون نظر واعتبار، وذلك بسبب لعب أجسامهم هذا وإعراضهم كأن يولي ظهره للمتحدث هذا بسبب أن قلوبهم لاهية، ?لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ? اللهو أصلاً كان في قلوبهم فترجم بحركات لعب على أجسادهم فتطابق القلب مع الجسد في اللهو واللعب والإعراض عن دين الله -تبارك وتعالى- وهذا هو تمام الإعراض وكمال الكفر- والعياذ بالله- ?لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ? ونتيجة لذلك ?أَسَرُّوا النَّجْوَى? فيما بينهم، أي كانوا يجلسون ويتناجون فيما بينهم ماذا يقولون عن محمد وبماذا يصفونه حتى يصرفوا المؤمنين به عن الجلوس معه وعن متابعته وكيف يبغضون إلى الناس القرآن الكريم فماذا يقولون. كانوا يتآمرون سرًا بمثل هذه النجوى حتى ينتجوا للسذج والبسطاء من الناس كلامًا ينفرهم عن الإيمان ويبعدهم عن القرآن ولهذا قال الله -تعالى-: ?أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ?.
(10/12)
---(5/328)
ومن هنا يبدأ الموضوع الثالث: وهو نضح كفرهم والرد عليه أو إبطاله, نضح كفرهم وإبطال القرآن الكريم له، نضح هو ما يخرج كما ينضح العرق من الجسم، وكما تنضح زجاجة المسك بالمسك والرائحة الطيبة وكل إناء ينضح بما فيه، فأجسام كانت أوعية للكفر والعناد والإعراض عن الله وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن كتاب الله -عز وجل- وكلامه العظيم، بماذا تنضح هذه الأجساد؟ وبماذا تنضح هذه الأوعية؟ لا شك أنها تخرج خبثًا وزورًا وكذبًا وبهتانًا، والقرآن الكريم وهو يحكي هذه الشبه التي يطلقها الكفار يرد عليها ويبين بطلانها، كان من ذلك في إسرارهم هذا كما قلنا كانوا يجتمعون سرًا ويأتمرون كثيرًا ليدبروا للنبي -صلى الله عليه وسلم- مؤامرة أو تدبيرًا يصرفون الناس عنه، وبلغ في ذلك أنهم كانوا كلما قالوا شيئًا فضحه الله -تعالى- عند رسوله -عليه الصلاة والسلام- فعرفه قبل أن يفعلوه، فقالوا يومًا: هلا أسررنا بأقوالنا لئلا يسمعها رب محمد فيخبره، -عليه الصلاة والسلام- فأنزل الله -تعالى- قوله: ?وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ? [الملك: 13]، بدأ بالإسرار أولاً لأنه أعجز إذا علم إسرارهم فمن باب الأولى يعلم جهرهم، ?وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ? بأقوالك؟ لا، إنه عليم بأحوالكم؟ أبدًا، إنما أعلم بما هو أدق من ذلك، ?إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ? لأن الصدر يكون فيه الكلام قبل أن يخرج إلى اللسان، كأن الله يقول لهم: إنه -سبحانه وتعالى- عليم بالكلام في صدوركم قبل أن تترجموه فيسمعه بعضكم من بعض، الله يعلمه من قبل ذلك، فلن تستطيعوا أن تسروا شيئًا عن رب محمد -صلى الله عليه وسلم- ولذلك فهنا يقول: ?وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ? والنجوى: هو الحديث السري؛ كما تعرفون في الحديث: (لا يتناجى اثنان دون ثالث إلا بإذنه) فالتناجي: هو أن يتكلم طرف مع آخر أو أكثر(5/329)
(10/13)
---
كلامًا سريًا، ومع ذلك يبالغون في الإسرار ?وَأَسَرُّوا النَّجْوَى? والنجوى في الأصل سر من القول، جلسوا يتناقشون فاختلفت آراؤهم لأنهم لا يقولون حقًا وهم يعلمون ذلك، لأنهم يريدون أن يصفوا الصادق الأمين الذي عرفوه بذلك -صلى الله عليه وسلم- وما جربوا عليه كذباً قط، صدق وأمانة وبالتالي فهاتان الصفتان تجمعان خيرًا كثيرًا وخلقًا عظيمًا، فحينما يصفونه بالسحر أو بالكهانة أو بالكذب أو بالشعر أو ما إلى ذلك إنهم يخالفون أنفسهم، ويناقضون ما رأته أعينهم على مدى أربعين عامًا من هذا الشاب المستقيم الطيب الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك اختلفوا اختلافًا بعيدًا وكثيرًا جدًا لم يتفقوا على شيء، لم يتفقوا على قول واحد فقال بعضهم: هل هذا إلا بشر مثلكم، فعابوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه بشر، وهنا بداية أقول- ولعل هذا القول سبق-: إن الكافرين كان من أكبر أسباب كفرهم وإعراضهم أنهم تعرضوا لشخص الرسول وانشغلوا بصفاته وبأحواله، وما ينبغي للمرسل إليه أن ينشغل بالرسول قدر ما يشتغل بالرسالة جاءتني رسالة من الذي وصلني إياها، وجاء بها إليّ هذا لا يهمني بقدر ما تهمني الرسالة نفسها بحيث لو جاءني حق مع شيطان آخذ الحق ولا أرده والنبي -عليه الصلاة والسلام- أقر قراءة آية الكرسي قبل النوم والذي نصح بها أولاً شيطان قالها لأبي هريرة فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: (صدقك وهو كذوب) في هذه صدقك، لو قرأت آية الكرسي إذا أتيت مضجعك لن يقربك شيطان حتى تصبح، أقرها النبي -عليه الصلاة والسلام- ووافق أبا هريرة على العمل بها رغم أن الواعظ بها شيطان فصارت عندنا بعد إقرار النبي -عليه الصلاة والسلام- سنة من الوحي، وليست نصيحة من الشيطان إنما بدأ بها الشيطان أولاً فأقرها النبي -عليه الصلاة والسلام- وعمدتنا إقرار الوحي لها.
(10/14)
---(5/330)
فهؤلاء انشغلوا بشخص رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فقالوا عنه: إنه بشر مثلكم، وما العجب أن يكون الرسول بشرًا؟ لا عجب في ذلك، وقالوا أيضًا: ?أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ? طبعًا اعترضوا على بشريته، وطالبوه في مرات أخرى بأن يكون معه رسولاً ملكًا من الملائكة وهذا لا يصلح، ولا يجوز عرفًا ولا واقعًا فالبشر لا يطيقون رؤية الملائكة على صورتهم الحقيقية الملائكية ولو حصل ذلك لجعل الله الملك في صورة رجل إنسان فيراه الناس إنسانًا ولكن روحه روح ملك، وبهذا فلن يكون ما يطلبون أبدًا ?وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ?، وفي ضمن الآيات التالية في هذا الموضوع يقول الله -تعالى-: ?وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ? وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً مثلك لم نبعث قبل ذلك رسولاً ملكًا يُكلم البشر, ما حصل هذا, ما وقع هذا ولا مرة ?وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ? ?أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ? سموا القرآن سحراً وسموا النبي -عليه الصلاة والسلام- ساحرًا مع أنهم لم يروه مرة ولم يسمعوا منه مرة أنه سحر ولا تعاطى السحر لا فعلاً من عند نفسه ولا طلباً من غيره، ما تعامل بالسحر أبداً -صلى الله عليه وسلم- بل جاء بتحريم السحر، وتكفير الساحر وإيجاب قتله على ولي المسلمين، أن يقتل الساحر لأنه شر ولأنه يوقع الناس في فتنة عظيمة، ومع ذلك وصفوا قوله بالسحر، يقول بعض المفسرين في تبرير هذا كيف وصفوه بالسحر وهم يعلمون أنه ليس ساحرًا: لأنهم رأوا أثر القرآن وتأثيره في الناس، فالرجل يكون كافرًا وما أن يسمع آيات من القرآن إلا وينشرح صدره ويهتدي قلبه بالإيمان وينطق: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
(10/15)
---(5/331)
والنجاشي ملك الحبشة -رحمه الله تعالى- ما رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقط سمع عنه، فقط سمع خبر عيسى في سورة مريم، في القرآن الكريم قُرئت عليه هذه القصة قصة ميلاد عيسى -عليه السلام- فما رأى ولا سمع إلا حقًا، ففي لحظتها قال: والله ما يفرق هذا عما جاء به عيسى قيد هذه التبنة، يعني: قيد شعرة لا يوجد فرق بينهما، وآمن وأسلم وتمنى أن يكون مع النبي -عليه الصلاة والسلام- خادمًا يصب عليه وضوءه، أسلم وهو:
- ملك ومن شأن الملوك أن يتكبروا من شأن الملك أن يمنعه ملكه عن قبول النصيحة والموعظة.
- وصاحب دين، كان نصرانيًا وهذا دين بما وُضِعَ فيه من قِبل الناس يجعل صاحبه يتعصب له ولا يتركه أبدًا إلا بعد قناعة كبيرة عظيمة بعد حجج, بعد مناقشات بعد إزالة للشبه ولكن النجاشي بمجرد أن سمع آيات من القرآن إذا به يسلم لله -تبارك وتعالى- ويؤمن بالنبي -عليه الصلاة والسلام- دون أن يراه.
فلما رأى الكفار هذا التأثير العجيب التحويل المفاجئ في حياة كثير من الصحابة -رضي الله عنهم- يسلمون على سماع لآية أو آيتين أو شيء من هذا من القرآن الكريم فقالوا: لا يفعل هذه الأعاجيب إلا السحر هذا سحر، ولكن هم على غير قناعة بهذا إنما شبهوه بالسحر فقط، ?أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ? ينكر بعضهم على بعض.
(10/16)
---(5/332)
الله -تعالى- يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- رُدَّ على هؤلاء: ?قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ ?، وفي قراءة ?قُل رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ?) يعني بالعقل أَيُعْقل أن يكذب واحد على ملك من ملوك الدنيا ويتركه لا يمكن أبدًا سوف يعاقبه أيفتري رسول أو رجل يدعي أنه رسول يفتري على رب العزة والجلال كلامًا لم يقله ويتركه الله -سبحانه وتعالى- كلا، فقد قال الله -تعالى-: ?وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ?44? لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ?45? ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ ?46? فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ?47?? [الحاقة: 44- 47]، فكان هذا ردًا من ربنا -سبحانه وتعالى- ولكن عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن الكفار ليسوا أهلاً لشرف الخطاب الإلهي، فيخاطبهم الله بنفسه فجعل الخطاب عن طريق النبي -صلى الله عليه وسلم- ?قُلْ? في قراءة ?قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ? يسمع الأقوال ويعلم الأحوال التي ليس من شأنها أن تسمع فلا يخفى عليه قول مسموع ولا حال غير مسموع، الكل يعمله الله -سبحانه وتعالى- ويحيط به علمًا ?بَلْ قَالُو? من ضمن أقوالهم أيضًا ونضحهم الخبيث ?بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ? أضغاث: جمع ضغث، والضغث هو الحزمة من العيدان والحطب، حزمة من العيدان لا يلزم أن تكون عيداناً من شجرة واحدة، ممكن عود من شجرة وعود من شجرة أخرى أنواعها مختلفة، فهو خليط جمع من أعواد مختلطة من أعواد كثيرة، ويقول الله -تعالى- لسيدنا أيوب -عليه السلام-: ?وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ? [ص: 44]، كان قد حلف أن يضرب امرأة مائة عصا ولكن مرض هذا المرض الشديد فالله- تعالى- أراد أن يحلله من يمينه فقال: ?وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْث? أي: خذ مائة عصا مجموعة مع(5/333)
(10/17)
---
بعضها وقيل خذ قنواً من قنوان النخل فيه شماريخ كثيرة واضربها بها ضربة واحدة فتكون قد ضربتها مائة عصا، ?ضِغْث? هي تلك الحزمة من عيدان الحطب المجتمعة ثم استعملت هذه الكلمة في كل مختلط من أنواع كثيرة، كما يختلط على النائم. النائم إذا جاءته أضغاث الأحلام فإنه يحلم أنه يتزوج ثم يحلم أنه مات ثم يحلم أنه سافر إلى فرنسا، ثم يحلم أنه ذهب إلى الحج، ثم يحلم أنه جالس مع أبيه الذي مات، أمور مختلطة من هنا وهناك, لا ضابط لها، لا تكون رؤيا. هذا اسمها أضغاث أحلام ويحيل إليها أهل الباطل دائماً الحق كما قالها الوزراء عند الملك في مصر هنا حينما رأى الرؤيا فقالوا: ?أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ? [يوسف: 44]، وهكذا أيضًا الكفار في مكة قالوا عن القرآن الكريم هذا: ?أَضْغَاثُ أَحْلام?، يعني: محمد -عليه الصلاة والسلام- ينام ويحلم بأمور مختلطة هكذا ويجمعها ويقول للناس: أوحي إلي هذا كلام غير صحيح وكلام باطل ظاهر البطلان ?بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ? قول آخر: إنه كاذب اقترى هذا القول على الله، مع أن أبا جهل قال لهم يومًا: ما كان ليذر الكذب علينا ليكذب على الله، يعني لو كان كاذبًا لكذب علينا، لكن أن يكون معنا صادقًا ولا سلطان لنا عليه، ويكذب على الله صاحب القوة -سبحانه وتعالى- فهذا أمر لا يعقل. أبو جهل يقول: هذا أمر لا يعقل، ما كان ليذر الكذب علينا ليكذب على الله، ?بَلْ هُوَ شَاعِرٌ? يدعون أنه شاعر مع أنه ما نطق الشعر مرة، ولا قال شعرًا أبدًا حتى كان -عليه الصلاة والسلام- إذا أراد أن يستشهد ببيت من الشعر بين أصحابه ليبين لهم أمرًا من الأمور عند العرب فكان يُخرج البيت الشعري عن وزنه وعن ترتيب كلماته فيقدم كلمة ويؤخر كلمة المهم أن يفيد الناس بمعنى البيت, فما نطق بالشعر ولا قاله أبدًا، لا قبل الإسلام ولا بعد النبوة، ?فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ(5/334)
كَمَا
(10/18)
---
أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ? تمنى عليه الكافرون أن يأتيهم بآية -سبحان الله- وما نزل من القرآن أليس كافيًا؟ وما ظهر على يديه من معجزات مادية حسية أليس هذا كافيًا؟ يريدون معجزات كمعجزات موسى وعيسى ونوح وغيرهم، مع أن أقوامهم في السابقين كذبوا بهذه الآيات، رأى اليهود وبنو إسرائيل عصا موسى- كما عرفنا من قبل- واتهموه بأنه سحر وجمعوا له السحرة. وبنو إسرائيل بعد أن نجاهم الله بمعجزة العصا وضرب البحر بها أرادوا إلهًا كما يعبد الناس من الأصنام والأوثان ولم يسكتوا حتى صنع لهم السامري عجلاً جسدًا له خوار. فكذب بها أصحابها وأنتم تريدون آيات مثلها، فقد جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- بمعجزات كثيرة، منها: أن الجذع حنَّ إليه حنينًا سمعه الصحابة -رضي الله عنهم- حين فارقه إلى منبر يخطب عليه، فأحدث الجذع وهو جذع ميت في نظرنا مقطوع عن أصله, جذع من نخلة، بكى وَحَنَّ حنينًا سمعه الصحابة، نزل النبي -عليه الصلاة والسلام- من على المنبر ووضع يده عليه وهدهد عليه كما يهدهد على الطفل، وقال: (أما يرضيك أن تكون معي في الجنة، فسكت الجذع)، يقول الحسن البصري -رحمه الله-: «والله للجذع أشد شوقًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحدنا» فكان بجواره وبكى ونحن بعيدون عنه وربما لم تحدثنا أنفسنا بأمنية أن نراه ولو في المنام في رؤيا صادقة، فيقولون: ?فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ?، فليأتنا بآية قد جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- بآيات كثيرة منها أن الله- تعالى- آتاه جوامع الكلم، صار يتكلم بين الناس والعرب يسمعونه بأسلوب لا يطيقونه ما استطاعوا تمثيله ولا القول مثله سواء من القرآن أو من السنة، القرآن له إعجازه الخاص لأنه كلام الله -سبحانه وتعالى- أما السنة النبوية كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- فصار يصنع ويصاغ بجوامع الكلم قال النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يعدد ما خصصه الله به من(5/335)
بين الأنبياء
(10/19)
---
السابقين: (أوتيت جوامع الكلم) يتكلم بالجملة القصيرة التي تحوي المعاني الكثيرة، وخير الكلام ما قل ودل، كما يقال، كلما كان الكلام موجزًا ووفيًا، أو وافيًا بالمعنى كان ذلك أنفع وأجدى وأحسن، كان رسولنا -عليه الصلاة والسلام- هكذا والعرب الكافرون وصلوا إلى درجة أنهم كانوا يحسدونه -صلى الله عليه وسلم- لدرجة أنهم كادوا يقتلونه لولا أن عصمه الله من الناس، ?فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ? فقد أتى النبي -عليه الصلاة والسلام- قومه بآيات لا بآية واحدة.
الله -تبارك وتعالى- يرد على قولهم هذا أيضًا: بأنهم لو جاءتهم الآيات تلو الآيات لا يؤمنون لأنهم لا يطلبون آية ليؤمنوا بها ولكن هذا من باب التلكؤ في طريق الإيمان ومن باب المجادلة لتضييع الوقت على رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فيقول- تعالى-: ?مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ? هذه الآيات التي يريدون مثلها، ما آمنت بها الأمم السابقة التي كانت فيهم ورأوها بأعينهم ما آمنوا بها كثيرون كفروا بها، أهؤلاء سيؤمنون؟ معناها أنهم لن يؤمنوا ولكن سيكون حالهم من الآيات كما كان حال السابقين وهو الكفر والإعراض والعناد، ?مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ?، يعني: لن يؤمنوا ?وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ? لأنهم طلبوا أن يكون معه ملك ينذر الناس معه، ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ? اسألوا من عندهم العلم بذلك وهم علماء الأمم السابقة، كأحبار اليهود ورهبان النصارى، اسألوهم هل عندهم في كتبهم أو رأوا وعلموا من خلال ما سبق هل علموا ورأوا أن الله أرسل ملكًا إلى البشر أو أن الرسل جميعًا كانوا رجالاً من البشر؟ ?وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ? وهذا يفيد أمرين:(5/336)
(10/20)
---
أن الأنبياء والرسل جميعًا - بإجماع العلماء وبالواقع وبالنص الشرعي- ما كانوا إلا رجالاً، فلم يبعث الله رسولاً من النساء، ولم يبعث الله رسولاً من الجن واختلف في نبوة مريم- عليها رحمة الله- ولكن الراجح أنه لا نبي ولا رسول من النساء، وذلك لما جبلت عليه المرأة من نقصان في العقل والدين ونقصان عقلها: سبق عاطفتها على عقلها، فعقلها يتحكم فيه أمر العاطفة، ونقصان دينها لأن الله كتب عليها العذر الشهري فيأتيها كل شهر مرة، فربع شهرها لا تصلي ولا تصوم وهذا أمر لا تُلام عليه المرأة ولا تُعاب به فهذا قدر الله -تعالى- فيها، ولذلك كان أمر النبوة والرسالة في الرجال؛ ولأن الرجل يصلح للقيادة وهو صاحب القيادة جعل الله له القوامة في الأسرة وبالتالي فله القوامة في المجتمع وبالتالي فله القوامة على الأمة فجعل الله الرسالة والنبوة في الرجال من الأمم لأنهم سيكونون قدوة وأسوة وقادة لغيرهم، ولحكمة يعلمها الله -سبحانه وتعالى- والفارق الجوهري بين الأنبياء الصادقين وبين عامة الناس أنهم يوحى إليهم، وتلك شرافة عظيمة، ومكانة عالية، لا ينالها أحد بتمرن ولا بتمرس ولا بتعود ولا بدراسة ولا بافتعال إنما هي منحة خالصة من الله -سبحانه وتعالى- ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ? هذه الآية نازلة في هذا الشأن ولكنها لفظ عام فينبغي على كل من أراد شيئًا لا يعلمه أن يسأل أهل الذكر فيه, فأهل الذكر هم أهل العلم ويسأل كل عالم عما يحسنه وعما يتخصص فيه، هذا من الآيات العامة في القرآن والقوانين العامة التي علَّمنا الله -تعالى- بها، ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ? كما كان الكفار يطلبون ويتمنون أن يكون الرسول خالدًا مخلدًا في الدنيا معهم، وإلى ما بعدهم، وهذا أمر لا يجوز شرعًا، لأن الله جعل الرسل بشرًا لهم بداية ولدوا فيها ولهم نهاية يموتون عندها ومن خالف ذلك فإنه يخالف(5/337)
الواقع
(10/21)
---
والحق ويخالف الشرع إنما الرسل بشر لهم بداية عمر ولهم نهاية عمر، يعرض الله عليهم الخلود في الدنيا وطول العمر فيها كما حصل مع رسولنا -عليه الصلاة والسلام- ومع موسى وكل الأنبياء يخيرون عند موتهم ولكنهم جميعاً طلبوا اللحاق بالرفيق الأعلى حيث لا منفعة ولا خير في الدنيا بعد أن اطمأن الإنسان على مستقبله في الآخرة والأنبياء مُبشرون قبل أن يقبضوا إلى الله -تعالى- فكان أحدهم يرحب بلقاء ربه حين يعرض عليه.(5/338)
ولهذا قال- تعالى-: ?وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداًّ لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ? ما جعل الله الرسل مخلدين في الدنيا كما لم يجعلهم- الصورة المقابلة- ملائكة، لا يأكلون الطعام أو أجسادًا لا روح فيها إنما هم بشر مثلنا يأكل أحدهم مما نأكل ويشرب مما نشرب وعاب الكفار على رسول الله -عليه الصلاة والسلام- هذه المسألة، أنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق: ?وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ? [الفرقان: 7]، عابوه بهذا، وكأنه لا يصلح رسولاً بهذا الوصف ولكن الله -تعالى- رد عليهم وقال: ?وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ? [الفرقان: 20]، فشأن الرسل جميعًا هكذا, فكانوا يقولون كلامًا يحاولون أن يعطلوا به مسيرة الإيمان أو يتلكؤوا به في طريق الإيمان وليست لهم حجة فيما يقولون، ?وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداًّ لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ?8? ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا المُسْرِفِينَ ?9?? صدقناهم الوعد، أي: صدقنا رسلنا وعدنا، أشار ابن كثير -رحمه الله تعالى- إلى هذا الوعد في قول الله -تعالى- في سورة إبراهيم: ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ
(10/22)
---(5/339)
فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ? أي: إلى الرسل ربهم ?فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ?13? وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ?14?? [إبراهيم: 13، 14]، الله وَفَّى بهذا الوعد وصدقهم فيه، فأهلك الله الظالمين في كل زمان، ? ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ? أي: أنجينا الرسل ?وَمَن نَّشَاءُ? ومن الذي يشاء الله له النجاة مع الرسل؟ من آمن بهم طبعًا، من حصَّل مؤهلات النجاة ومؤهلات الرحمة فالله- تعالى- يشاء له الرحمة, فمشيئة الله قائمة على أُسس ثابتة، أعلن عنها الله في آيات أخر، ?وَأَهْلَكْنَا المُسْرِفِينَ? أي: الكافرين؛ لأنهم أسرفوا في الكفر لم يكفروا كفراً عادياً بمعنى أنه يحرم نفسه من الإيمان وفقط ولكن آذوا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وصفوا كلام الله بأنه افتراء وسحر وكذا حاربوا المؤمنين قاتلوهم، حاولوا إخراجهم من أرضهم وهكذا كان في كفرهم إسراف عظيم وبالتالي سماهم الله -تعالى- هنا بالمسرفين ?وَأَهْلَكْنَا المُسْرِفِينَ ?.
(10/23)
---(5/340)
هذه كانت كلمات نضح بها كفر الكافرين، ورد الله -تعالى- عليها, تعتبر شبهًا شبه بها الكفار على الإسلام والله -عز وجل- فندها وأبطلها حتى لا تكون مسار شك ولا ارتياب لأحد من بعد ذلك، لأن الكافر ليس شخصًا إنما هو رجل مرحلة، ينفذ خطة شيطانية. الشيطان يوحي إليه ويوسوس إليه بكلام يردده، وهذا الكلام نفسه، يُعاد يومًا بعد يوم ومرة بعد مرة مع تتابع الأجيال فلا تعجب حين تسمع شبهة في هذا الزمان، لو أنك نظرت في القرآن مع هذه الشبهة تجدها موجودة قالها الكفار الأوائل في بداية هذا الدين قالوها وأثاروها في وجه الإسلام ثم تكررت على ألسنة كثير من الكافرين حتى وصلتنا إلى اليوم، فلا تنبهت أمام كافر يثير أمامك شبهة ارجع إلى القرآن ستجد الشبهة والرد عليها، فمن قرأ القرآن وحرص عليه، وفهمه وتعلمه يُحَصِّن نفسه ضد تلك الهجمات الفكرية الشرسة التي تقصد ديننا والكفار إلى اليوم يثيرون مثل هذه الشبه وغيرها مستغلين فقر الأمة من ناحية اللغة العربية وجهلها بدينها وعدم معرفتها بكتاب ربها وسنة نبيها -عليه الصلاة والسلام- لكن الله -تعالى- قال: ?مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ? [الأنعام: 38]، كل شبهة وردها موجود ذلك كله في القرآن الكريم وفي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقي علينا أن نرجع إلى القرآن وأن نتعلم منه.
(10/24)
---(5/341)
الموضوع الرابع والأخير: هو تشريف القرآن للأمة، إذ يقول الله -تعالى-: ?لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? ذكر ابن كثير -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قول الله -تعالى- ?ذِكْرُكُمْ? «شرفكم»، أي هذا القرآن فيه شرفكم، وذكر عن مجاهد: «حديثكم»، يعني هذا القرآن هو دستور حديثكم، وذكر عن الحسن البصري: «دينكم»، وكل ذلك يلتقي هذا يُسمى ويُقال عنه عند المفسرين: اختلاف تنوع، يعني هو شيء واحد ولكن وصفه كل مفسر من جهة من الجهات وكلامهم يلتقي ولا يتعارض, يلتقي على وصف شيء واحد، فالقرآن شرف للأمة وينبغي أن يكون القرآن حديثًا للأمة هو شغلنا هو حديثنا الذي نتحدث به, هو حفظنا الذي نحفظه فقد حفظت الأمة اليوم كلامًا غير كلام الله، من كلام اللهو والعبث واللعب وغير ذلك، القرآن الكريم هو ديننا، فلا تعارض بين الأقوال الثلاثة ونحوها، كل ذلك داخل في وصف القرآن العظيم والقرآن يحتمل ويتصف بكل هذه الصفات العظيمة، ?لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ? تأكيد باللام, حرف قد حين تراها تعلم أن هذه الجملة أريد تأكيدها ?لَقَدْ أَنزَلْنَ? حين تجد الله -تعالى- يتكلم بأسلوب الجمع فهذا أسلوب عظمة يدل على عظمة الخبر المخبر عنه، فإنزال القرآن الكريم هذا أمر عظيم، لا يستطيع أحد أن يُنزل قرآنًا مثل القرآن ولا سورة ولا آية من القرآن، ?لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاب? كتابًا نكرة فيها إشارة إلى التعظيم أي كتابًا عظيمًا كتابًا قيمًا ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجاً ?1? قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً ?2?? [الكهف: 1،2]، قال: ولم يجعل له عوجًا، وقال بعدها: قيمًا، تأكيدًا على المعنى الأول، فالقرآن شرف لنا، شرف لنا إذا تمسكنا به، إذا عبدنا الله به إذا حكمنا حياتنا وحركتنا وسكنتنا به فإنه(5/342)
(10/25)
---
شرف عظيم فهو صلة بالله -عز وجل- وفيه سعادة عظيمة وهو طريق الحضارة الصحيحة والرقي الصحيح إلى سمو الأخلاق وإلى علو الفضيلة بعيدًا عن الرذيلة والجرائم وما تعانيه المجتمعات البشرية اليوم، المسلمة منها التي فرطت في القرآن والكافرة منها التي أعرضت عن القرآن الكريم، وذكر القرآن هنا إشارة إلى أن القرآن يُغني عن طلب الآيات، ?فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ? كأن الله يقول لهم: لقد أوتي رسولكم -صلى الله عليه وسلم- وأوتيتم معه قرآنًا يغنيكم عن أية آية أخرى فهو معجزة الله البالغة على مدى الزمان، معجزة لا يستطيعها أحد تتحدون بها الدنيا ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها فنحمد الله على نعمة القرآن ونسأله- سبحانه وتعالى- أن يبارك لنا فيه وأن يرزقنا شرافته في الدنيا والآخرة هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وشكر الله لكم حسن الاستماع والمتابعة.
الأخت الكريمة من مصر تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ ذكر إن اختُلِف في نبوة مريم -عليها السلام- هو لم يقل -عليها السلام- إنما قال: اختُلِف في نبوة مريم، الآية صريحة تقول: ?وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ? فكيف اختُلِف في نبوة مريم؟ هذه الجزئية أنا لم أفهمها؟ إذ الحق -تبارك وتعالى- ذكر الآية صريحة؟
(10/26)
---(5/343)
بسم الله الرحمن الرحيم الآية الصريحة تقول: ?وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَال? فذكرت الرسالة ?وَمَا أَرْسَلْنَ? ولم تقل: وما بعثنا مثلاً وما نبأنا إنما قالت: ?وَمَا أَرْسَلْنَ?، فخصت الرسالة والرسول غير النبي لعله سبق التنبيه على هذا فالرسول هو من أوتي رسالة وأُمر بتبليغها النبي يبعث بعد الرسل ليدعو بدعوتهم وليواصل برسالتهم إلى الناس، لكن لا يؤتى رسالة جديدة، وإلا كان رسولاً ولذلك يُقال: كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، يعني كل رسول هو رسول ونبي في الوقت نفسه، أما الأنبياء فهم أنبياء فقط، هناك أنبياء فقط، وليسوا رسلاً لأنهم لم يأتوا رسالة جديدة أو مخصوصة ومستقلة، وعلى هذا فالآية فيها نفي الرسالة فقط، إلا عن الرجال ?وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَال? فلذلك اختلفوا في نبوة مريم هل هي نبية أو لا؟ مع الإجماع على أنها ليست من الرسل، لأن الآية نفت الرسالة فقط، فبقي أمر النبوة، لأنها أوحي إليها وكلمتها الملائكة وهكذا. فقالوا لعلها تكون نبية ولكن قلت الراجح أنها ليست رسولاً ولا نبيًا من الأنبياء إنما هي أوحى الله إليها بوحي الفطرة بوحي الغريزة كما أوحى إلى أم موسى، وهكذا كما أوحى ربك إلى النحل، نفس الأمر أي: ألهمها الله -تعالى- بطريقة معينة أو أعلمها حتى ولو أرسل لها الملائكة تبشرها فهذا من باب الوحي الذي ليس كوحي الأنبياء والمرسلين، ولهذا لم أقل: عليها السلام، ولكن قلت: عليها رحمة الله، هذا والله أعلم.
الأخ الكريم من السعودية يقول: السؤال الأول: أريد أن أعرف، متى تكون "بل" للإضراب الإبطالي والإضراب الانتقالي؟
السؤال الثاني: أريد أن أعرف متى تكون "أم" بمعنى بل؟ ويذكر لي القاعدة في هذا؟
فضيلة الشيخ الأخ الكريم سؤاله الأول: متى تكون بل للإضراب الإبطالي أو الإضراب الانتقالي؟
(10/27)
---(5/344)
بل يقال عنها أو معروفة بأنها أداة إضراب يُضرب المتكلم بها عن شيء سبق ليتكلم بشيء جديد فأحيانًا يكون إضرابًا إبطاليًا وأحيانًا يكون إضرابًا انتقاليًا.
- الإضراب الإبطالي يعرف بأنه: إذا كان ما قبلها باطلاً، يعني: أراد المتكلم أن يُعرض تمامًا وأن يُبطل ما قبلها ليثبت الحق الذي بعدها، فيقول: لست كذا، بل أنا كذا، أو ليس الأمر كذا بل هو كذا، كأنه ينفي ما قبلها.
- أما الانتقالي: فهو إضراب يعبر بكلمة بل أيضًا ولكن يريد أن ينتقل بها من شيء إلى شيء مع إقرار الأول وإقرار الثاني، الأول والثاني وإن تكرر أيضًا بعد ذلك، كما جاء في الآيات معنا فهذا مقصود إثبات كل هذه الأمور أنهم قالوا كذا وقالوا كذا وقالوا كذا، ليس إبطالاً لما قبلها ولكن اعتبارًا لما قبلها وما بعدها، والله أعلم.
سؤاله الثاني فضيلة الشيخ متى تكون أم بمعنى بل؟
"أم" تكون بمعنى "بل" تعرفها لو وضعت مكانها "بل" تجد المعنى مستقيمًا، لكن أقول لك أنت من مكة أم من المدينة؟ هذه لا تصلح أن تكون بمعنى بل؛ لأنها فيها استفهام، إنما لو حذفتها، وصح المعنى واستقام أمر الكلام فتكون أم هنا بمعنى بل، والله أعلم.
وردتنا إجابات على أسئلة الحلقة الماضية:
وكانت إجابة السؤال الأول:
ما هدف قصة آدم في القرآن عامة وفي سورة طه خاصة؟
الهدف من ذكر قصة آدم في القرآن: هو العبرة للأمة فقد استخلفه الله في الأرض وفضله بهذه الخلافة وجعله معلمًا لذريته بتقدير الله -سبحانه وتعالى- والقصة في سورة طه، تركز على بيان كيف نسير في هذه الحياة بمنهج الله -عز وجل- ولا نحيد عنه وماذا على من غلبه الشيطان ووقع في شراك هذا العدو ليعود إلى صوابه ويستقيم أمره من جديد
(10/28)
---(5/345)
نعم، هي قصة آدم في الحقيقة في القرآن الكريم كله وفي سورة طه، جاء التركيز فيها على أن المنهج الذي علمه الله للبشرية من خلال آدم، هو الذي جاء به نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في آخر الزمان، هذه قصة مهمة ينبغي على كل عاقل أن يقرأها بغض النظر حتى عن إسلامه أو عدم إسلامه هذه القصة توضح أمورًا عظيمة ربما ضاق مقام المحاضرة عن بسط ذلك، ففي القرآن كله توضح أمورًا, مجملها أن آدم -عليه السلام- الله -تعالى- أرسله وأجرى عليه هذه المجريات المذكورة في القصة ليعطي صورة تمثيلية تطبيقية للبشرية من بعده ولبنيه جميعًا كيف يسلكون الطريق إلى الله -عز وجل- وكيف تعترضهم العوائق وما أكبر عقبة تعترض طريقهم وكيف التعامل معها وكيف النهوض من كبوة نكبوا فيها وأنها بالتوبة من بعد وسوسة الشيطان واتباعه وبهذا نضمن السلامة في طريقنا إلى الله -سبحانه وتعالى- ويتحقق ما يحبه الله لنا، كعباد خلقهم وهو دخول الجنة، الله -تعالى- يبين لنا هذا حتى نسير بسلام في الطريق ونحن ذاهبون إلى الجنة فننتهي إليها.
إجابة طيبة وجيدة نشكر الإخوة عليها.
السؤال الثاني: من خلال هذه الآيات كيف يستعين الداعية على الثبات على الدعوة؟
وكانت الإجابة:
من أهم الأمور المعينة على الثبات على الدعوة:
أولاً: الصبر، قال- تعالى-: ?فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ? [طه: 130]، فما من داعية إلا ويتعرض للأذى والأقوال الآثمة لكنه بصبره واستعانته بالله يتغلب على كل عائق.
ثانيًا: الإكثار من ذكر الله من تسبيح وتحميد، من أسباب الثبات الدعوة بنفس مطمئنة راضية قال- تعالى-: ?وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى? [طه: 130].
(10/29)
---(5/346)
ثالثًا: ومن وسائل الثبات على الدعوة عدم الاشتغال الزائد بمتع الحياة الدنيا، من مال وجاه وسيادة فإنها كلها فانية وما عند الله خير وأبقى، قال- تعالى-: ?وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه: 131].
رابعًا: كما أن على الداعية أيضًا ألا ينسى من يعول بل يبدأ بهم الدعوة أولاً، وعليه بالصبر على المشقة قال- تعالى-: ?وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَ? [طه: 132].
هذا استنباط ممتاز -ما شاء الله- من خلال الآيات استنبط الإخوة والأخوات المجيبون على السؤال بعض ما يلزم الداعية فيما ذُكر في هذه الآيات وفعلاً الصبر على الأذى الذي يلاقيه الداعية هذا أمر ضروري وطريق الدعوة إلى الله -تعالى- ليس مفروشاً بالورود وإنما لابد فيه من عقبات ينبغي الصبر عليها- ألهم الله دعاتنا الصبر- اللهم أمين، كذلك اشتغاله بذكر الله -تعالى- وبطاعة الله والصلاة بين يدي الله وعدم الالتفات إلى الدنيا وزخرفها فلا يجتمع مع العلم الشرعي ومع الدعوة إلى الله الخالصة لا يجتمع معها زخرف الدنيا، فالقلب لا يسع الاثنين قد يجتمعا في الحياة لكن بشرط أن يكون الداعية همه الدعوة, والدنيا هذه تحت قدميه ينتعلها بنعليه، لكن يأخذ منها ما تيسر له أو ما يكون ضروريًا وما كان بعد ذلك فيستعين به على أمر الدعوة، أخيرًا: أن يبدأ فعلاً الداعية بأهله هذا مهم جدًا وهذا أول من يذكرهم ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ? [الشعراء:214]، نشكر على هذا الاستنباط الجيد من خلال الآيات.
السؤال الثالث: اشرح معنى الآية قال الله -تعالى-: ?وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى? [طه: 134]؟(5/347)
(10/30)
---
كانت الإجابة:
أرسل الله النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنزل عليه المعجزة الخالدة القرآن الكريم، إلا أن المكذبين متعنتون دائمًا ويجادلون بالباطل فهم متعنتون إلى قيام الساعة، ولو أن الله أهلكهم قبل بعثة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- لاحتجوا بذلك ولقالوا: أما كنت ترسل لنا رسولاً لنتبع الآيات ونؤمن من قبل أن يحل بنا الذل والخزي؟ وقد أرسل الله الرسول محمداً -صلى الله عليه وسلم- وقامت عليهم الحجة ولكنهم معاندون لا يؤمنون.
نعم، يعني بهذه الآية يقطع الله أو يخبر الله -تعالى- أنه قطع العذر على أولئك المعاندين فلا عذر لهم، ?لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ? [النساء: 165]، فبعد إرسال الرسل لا حجة لأحد يقول: ما علمت ما سمعت ما عرفت، قامت الحجة لله على الخلق، نسأل الله أن تكون في ميزان حسناتنا وأن تكون حجة لنا لا علينا.
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة من السعودية لها ثلاثة أسئلة، سؤالها الأول: أحاديث فضائل السور الضعيفة ما حكم العمل بها والمداومة عليها؟
الحديث الضعيف- كما قال علماء الحديث- يجوز أو فريق منهم، يجوز العمل به في الفضائل يعني: في الترغيب والترهيب بشروط:
- ألا يكون شديد الضعف، يعني: لا يكون في سنده كذاب مثلاً.
- وأن يكون في الفضائل لا في تأصيل الأحكام أو تأسيسها فالحديث لا ينشئ حكمًا إنما بطبيعة الحال نحن مطالبون ورغبنا الشرع في أن نقرأ سورة كذا مثلاً، فإذا جاء حديث ضعيف يؤكد على هذا المعنى، فهو من باب التأكيد وليس من باب التأسيس.
- كذلك إذا ذكر الحديث يذكر بسنده مع الحكم عليه، أو مع درجته فيقال: روى فلان عن فلان عن فلان إلى السند بكامله وفي النهاية يقال: وهذا حديث فيه كذا أو علته كذا، أو على الأقل يُشَار إلى ضعفه كما نبه علماء الحديث أن يروى الحديث بصيغة تمريض وتضعيف، فيقال: روي في فضل هذه السورة كذا أو ذكر في فضل هذه السورة كذا.(5/348)
(10/31)
---
- وبشرط ألا يوجد في فضلها حديث صحيح آخر، فإذا وجد الصحيح بطل ذكر الضعيف، لكن الاعتماد على الصحيح هو الأولى- والله أعلم-.
سؤالها الثاني: ما هو علاج الغفلة بالدنيا؟
علاج الغفلة بالدنيا، أن يقطع الإنسان قلبه عنها وإن جمعها في يده، فلا مانع أن يكون الإنسان صاحب مال، لا مانع أن يكون الإنسان صاحب بيت كذا وسيارة كذا حياته- ما شاء الله- فيها صور كثيرة من الترف أو النعم المريحة وما إلى ذلك فوق الضروريات ولكن لا يتعلق بها القلب، بحيث لو لم تكن عندي لن أحزن عليها ولن أتكالب على جمعها وتحصيلها، وإذا جاءتني فلا أفخر بها ولا أفرح بها فرحًا يطغيني فتكون في يدي فقط أما القلب فغير متعلق بها، لا أظن أن من كانت عنده الدنيا أحسن مني، بل أنا أكثر نعمة من الله من هذا الشخص، هذا عنده دنيا وعنده مال لكن يدخل الفقراء قبل الأغنياء يدخلون الجنة بكذا وكذا، لأن الفقير حسابه قليل، أما الغني حتى يُسأل عن ماله كله من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ فهذا يؤخره عن دخول الجنة وللحظة في الجنة أسبق من غيري تساوي الدنيا وما فيها وأكثر من ذلك، فالإنسان يخرج من الغفلة بالدنيا فلا ينشغل بها بقلبه ولا يتعلق بها بقلبه حتى لو جمعها بيده، يستفيد من نعم الله وينتفع بنعم الله ويُرى أثر نعمة الله عليه، ولكن يذكر دائمًا معها الآخرة، أكل النبي -عليه الصلاة والسلام- وأبو بكر وعمر عند أحد الأنصار، قيل: ذبح لهم شاة وجاء لهم بعزق من تمر يعني: سباطة من بلح من النخلة وجاءهم بماء بارد وفرش لهم فرشًا أو حصيرًا في ظل شجرة نعم كثيرة أكلوها, إكرام ضيافة وليس من أموالهم أو من جمعهم وما إلى ذلك وبعد أن نعموا بهذه النعم قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (?لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ? [التكاثر: 8]، فقال: عمر يا رسول الله: ليس من عندنا ولا من بيوتنا هذا فضل من الله: قال: ألم تأكل كذا؟ ألم تشرب كذا؟ ?لَتُسْأَلُنَّ(5/349)
يَوْمَئِذٍ عَنِ
(10/32)
---
النَّعِيمِ ?)، هكذا جاء أم لم يأتِ يكون الأمر عندنا سواء إذا وصلنا إلى هذه الدرجة فنكون قد خرجنا من الغفلة بالدنيا- والعياذ بالله تعالى.
سؤالها الثالث: هل يدل إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- بما قاله الشيطان لأبي هريرة -رضي الله عنه- أننا نأخذ الحكمة من العصاة حتى ولو من كافر؟
نعم، لو جاءتنا الحكمة والحق من كافر، وكان هذا أول مصدر نسمع منه الحكمة فلا مانع, لكن ليس معنى هذا أن أسعى إلى الكفار وأهل البدع وأهل الشرك وأتعلم على أيديهم علمًا قد يكون عندي في كتاب ربي وفي سنة نبيي -عليه الصلاة والسلام- لكن لو كانت خبرة في الحياة مثلاً أو معلومة شرعية لم أعلمها ولا أعلم وجودها أوردت في القرآن أو في السنة أو في اجتهادات العلماء، لم أسمع عنها قبل ذلك لكن ذكرها كافر أمامي ووجدتها صحيحة بعد ذلك, سألت عنها بعض العلماء فأقروها راجعتها في كتب العلم والتفاسير وكتب السنة وهكذا وجدتها حقًا فلا مانع أن آخذ بها، ولكن هنا- كما أشرت في أثناء الحديث- لن يكون مصدرها التشريعي هو قول الكافر لها وإنما وجودها في كتابنا وجودها في ديننا هذا هو المصدر التشريعي لها عندي لكن كان أول مصدر أسمعها منه هو ذلك الكافر أو ذلك العاصي أو كذا، فلا مانع من قبول الحق دائماً من أي مصدر كان منه طالما ثبت أنه حق لا يعارض ما عندنا، ولذلك فيما نسمع عنه في التفسير من الإسرائيليات، هذه كلمة مشهورة ومعروفة الإسرائيليات، هي الأخبار والأمور الواردة عن بني إسرائيل وقسمها العلماء ثلاثة أقسام:
- إسرائيليات مرفوضة، وهي ما خالف الحق عندنا، ورد عن بني إسرائيل شيء يخالف الحق عندنا هذا مردود، كما لو قالوا: العزير ابن الله، أو المسيح ابن الله، فهذا نرفضه، ولا إله إلا الله.
(10/33)
---(5/350)
- لو قالوا حقًا يوافق ما عندنا هي من باب الإسرائيليات؟ نعم، كمصدر ورود ولكن لا مانع من أخذه فهذا يوافق الحق الذي عندنا واستنادنا للحق الذي عندنا وليس لما قال بنو إسرائيل إنما كلامهم يؤكد لنا أن كتابنا هذا من عند الله ويزيدنا ثقة فيه.
- هناك قسم ثالث: وهو ما لا يوافق ولا يخالف، يعني: ذكره وروايته والقول به، لا يضر الدين في شيء ولا ينفعه في شيء فمثل هذا قال فيه النبي -عليه الصلاة والسلام-: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) أو قال: (لا تصدقوا بني إسرائيل ولا تكذبوهم)، فإذا وافق قولهم الحق الذي عندنا نأخذ بقولهم, لا حرج فالأخذ بقولهم هنا جائز مع أنه من باب الإسرائيليات لأنه وافق الحق الذي عندنا، هذا هو المقياس الذي نحرر به الشيء، قالها الشيطان فلم يفعل أبو هريرة شيئًا ولم يأخذ بقوله حتى أقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا، والله أعلم.
شيخنا الفاضل: هل وردت أحاديث صحيحة في فضل سورة تبارك؟
فضل سورة تبارك فيها بعض الأحاديث الصحيحة، وفيها بعض الأحاديث الضعيفة، فهي قراءتها مستحبة وجائزة -إن شاء الله.
هلا تفضلتم بإلقاء أسئلة هذه المحاضرة
بسم الله الرحمن الرحيم حول هذه المحاضرة العاشرة نلقي هذه الأسئلة الثلاثة:
السؤال الأول: عَرِّف تعريفًا مجملاً بسورة الأنبياء؟
السؤال الثاني: اذكر ثلاثة من شبهات الكافرين وبيِّن بُطلانها؟ طبعًا من خلال الآيات التي شُرحت، ليس من القرآن كله، وإنما في حدود الآيات المشروحة في المحاضرة
السؤال الثالث: بين بإيجاز كيف كان القرآن شرفًا للأمة؟ فالكلام في هذا يطول ولذلك يُطلب الاختصار؟ ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
(10/34)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (11) الأنبياء (الآيات 11 - 20)
المحاضرة الحادية عشرة(5/351)
[الأنبياء: 11: 20]
العبرة في مصارع السابقين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد. ففي هذه المحاضرة التي عنونت لها من خلال الآيات الحادية عشرة إلى الآية العشرين من سورة الأنبياء وهي المحاضرة الثانية في رحاب هذه السورة عنونت لها بعنوان: العبرة في مصارع السابقين، وذلك بعد أن قصّ الله –تعالى- خبر كفر الكافرين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنه يذكرهم بما حدث للكافرين من قبلهم، نتناول هذا الموضوع -إن شاء الله تعالى- من خلال ثلاث زوايا وثلاثة عناصر:
العنصر الأول: قصة هلاك السابقين في سورة الأنبياء.
العنصر الثاني: حكمة الله في إيجاده للخلق.
العنصر الثالث: غِنَى اللهِ عن الخلق.
ونتناول هذا بالتفصيل-بعون الله تعالى- بعد أن نشنف الآذان بالاستماع إلى هذه الآيات من أخينا الفاضل فليتفضل جزاه الله خيرًا.
(11/1)
---(5/352)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ?وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ?11? فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ?12? لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ?13? قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ?14? فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ ?15? وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ?16? لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ?17? بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ?18? وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ?19? يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ?20?? [الأنبياء: 11: 20].
(11/2)
---(5/353)
العنصر الأول: خبر هلاك الأمم السابقة: سبحان ربنا العظيم, هكذا أخي وأختي طلاب العلم، عَلَّمنا الله وإياكم الخير كما تابعنا مع الآيات من أول السورة في الحلقة السابقة وفي هذه الحلقة أن الله –تعالى- أخبر عن لهو الكافرين وعدم استماعهم لأي ذكر ينزل محدثًا من رب العالمين رحمةً لهم، وإشفاقًا عليهم، وإنذارًا لهم قبل أن يحل عليهم العذاب, فكانوا لاهين معرضين, قلوبهم منصرفة لم يستجيبوا، حتى بين الله لهم أنه أنزل إليهم كتابًا فيه العز والشرف والكرامة والبركة والخير كل الخير ومع ذلك لم يؤمنوا فَحُقَّ لهؤلاء أن تقدم لهم موعظة من خلال من سبق ممن فعلوا مثلهم وسلكوا طريقهم من قبلهم، وهذا كرم من الله عظيم حين يبين لعبده الإنسان الذي لا يستحق بذاته كل هذا إلا فضلاً من الله ونعمة وعدلاً من الله وحكمة، فيبين الله –تعالى- لمن كفر به أنه قد كفر قبلك غيرك ومثلك ففعلت به ما فعلت، فانظر إلى الوراء بعينيك وارجع بعقلك وقلبك وانظر ماذا كان من أمر هؤلاء وهذا من خلال قول الله –تعالى-: ?وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ? وهذا التوجيه نستطيع أن نقول فيه بلغة العصر: وجوب قراءة التاريخ, على كل إنسان عاقل أن يقرأ تاريخ من سبق وأن يعتبر بالمثلات، الأمثلة والأحداث التي تقع أمام عينه أو يسمعها وخاصة إذا تتابعت حتى صارت كسُنة ثابتة، وأمرًا لا يتغير ولا يتبدل كل من كفر في الأمم السابقة أهلكه الله -تبارك وتعالى- فكان على كل إنسان في هذه الأمة أن يعتبر بهذا وأن يعلم يقينًا أنه بكفره هذا، سوف يتردى إلى تلك الهاوية التي هوى فيها من سبقه من الكافرين، ولذلك يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين) يعني: هو يعتبر بالمرة الأولى، ويتخذ منها درسًا لما يأتي وينبغي على الإنسان من خلال حياته في هذا الكون أن يتعرف على سنن الله الثابتة، كل يوم يبزغ فجر(5/354)
(11/3)
---
ويأتي ليل وتُشرق شمس وتغيب آخر النهار وينام الناس والأحياء ويقومون بالنهار وهكذا وغير ذلك من أحداث وسنن ثابتة الظالم نهايته وخيمة الصالح الطيب نهايته طيبة، سنن ثابتة على مر الأيام والدهور، لا تتخلف أبدًا، هذه قوانين ينبغي أن يحكم الإنسان بها حياته لو كان من العاقلين، ولهذا يقول الله –تعالى- حتى يوفي لهؤلاء الكافرين حقهم في الموعظة وفي العبرة وفي الحجة: ?وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً? كم: تعلمون أنها في الأصل أداة استفهام يُسأل بها عن عدد الشيء ولا يُسأل عن عدد الشيء القليل، إنما يسأل عادة عن عدد الشيء الكثير، فاستعملت في مجال الخبر لتدل على الشيء الكثير، استعملها العرب في كلامهم ونزل بها القرآن الكريم على نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقال- -تعالى-: ?وَكَمْ قَصَمْنَ? يعني: وقصمنا كثيرًا من القرى، ولكن حينما يأتي الخبر في سورة استفهام فهذا أدعى للانتباه، أدعى لإثارة الأفكار والقلوب حتى تستوعب هذا الخبر، ?وَكَمْ قَصَمْنَا ?، والقصم: هو الكسر للشيء القوي كسرًا لا يلتئم، أن يُكسر الشيء القوي كسرًا لا يلتئم ولا ينجبر، فكأن الله –تعالى- كَسَّرَ هذه القرى وأهلكها هلكة لا تقوم بعدها، ولا تبقى منهم بعدها باقية، كما قال- تعالى- في سورة الحاقة: ?فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّنْ بَاقِيةٍ? [الحاقة: 8]، يعني: لا ترى لهم من باقية بقيت بعدهم، ?وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ? قرية مع أن المقصود هم أهلها، أي: وكم قصمنا من أهل قرية, والله- تعالى- يُعذب العباد ولا يُعذب الديار إنما يعذب العباد الذين أبقوا وكفروا وعاندوا الله –تعالى- يعذبهم ويهلكهم ولا شأن للديار ولكن أراد الله أن يشير إلى مسألة مهمة فعادة الكافرين أنهم يتشاءمون بالمؤمنين: ?قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ? [النمل: 47]، قالوها لموسى في بني إسرائيل وقالها أصحاب القرية المذكورة في سورة يس للرسل الذين(5/355)
جاءوهم وقالها
(11/4)
---
كذلك ولو بلفظ آخر الكفار في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يعتقدون أن أية حسنة تحدث وتقع لهم فهي من عند الله، وأما السيئة التي تحل بهم أو بديارهم وتحل فوق رؤوسهم إنما هي بشؤم محمد -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه، فبرأه الله –تعالى- وقال الله –تعالى- له ولكل إنسان: ?مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ? [النساء: 79]، ليس بشؤم غيرك، إنما بسببي أنا تصيبني السيئة والحسنة تأتيني من فضل الله -تبارك وتعالى- فلكي يصحح الله هذه المسألة ذكر كلمة القرية، يفهم هذا من خلال النص فَذِكر القرية ?وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ? أي: كأن الله –تعالى- قصم القرية بمن فيها وما فيها، فكفر بني آدم استنزل عليهم عقابًا أخذهم واشتمل معهم القرية بديارها وأبنيتها وما فيها من خلق آخر ولو كان جمادًا، إذن: بشؤم كفر الإنسان ومعصيته أصاب الهلاك الحيوان والجماد والحشرات والطير وما إلى ذلك، فقال: ?وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ? والله- تعالى- حينما يقصم قرية ويعذبها ويهلكها فليس ذلك ليتلذذ بتعذيبها كما يفعل بعض الملوك، إنما ملك الملوك -سبحانه وتعالى- فإنه عظيم, عدل, حق، أما البشر فهم أهل الظلم يقعون فيه خطأً أو عمدًا، إنما الله حينما يعذب أحدًا فيعذبه بسبب، فيقول: ?كَانَتْ ظَالِمَةً? إذن: الظلم من بني آدم. وأبشع الظلم هو الشرك: ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ? [لقمان: 13]، حينما يقع بنو آدم في الشرك بالله -عز وجل- وفي الكفر به، وحينما يظلم بعضهم بعضاً يحل بهم عذاب الله -سبحانه وتعالى- وقصمه وهلاكه، ?كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ? أنشأنا بعدها أي بعد هذه القرى الكثيرة ?قَوْماً آخَرِينَ? بعد كل قرية ينشئ الله قرية جديدة ولكن لم يقل: وأنشأنا بعدها قرية آخرين، أو قرى أخرى، وإنما قال: ?وَأَنشَأْنَا(5/356)
بَعْدَهَا قَوْم? لأن الإنشاء
(11/5)
---
لو نسب إلى القرية فينصرف الذهن إلى الديار والأبنية والعمار والأشجار أنشأ الله قرية جميلة بأبنيتها، ومعمارها، وأشجارها، وحدائقها، لكن لا يسكنها أحد، فما الفائدة وهذا أمر سهل يفعله ابن آدم يستطيع أن ينشئ قرية جميلة ويعدها إعدادًا عظيمًا لكن أن ينشئ قومًا على وصف يحبه -سبحانه وتعالى- ويرضاه فذلك هو الإعجاز تلك هي القوة الغالبة التي لا تُقهر تلك هي الحكمة البالغة التي لا تلعب ولا تلهو، ?وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْم? لاحظ هذا الفرق في التعبير حينما أهلك قال: ?قَرْيَةٍ? وحينما أنشأ قال: ?قَوْماً ?، ليشير أو لنتخذ من ذلك إشارة إلى أن الهلاك حين ينزل على الناس قد يدمر الأرض بمن فيها، يدمر الديار ويخرب العمار ويقطع الأشجار ويقضي على الحياة في هذا البلد, فترجع بلدة ميتًا أما حينما يُنشئ الله –تعالى- فالإعجاز في إنشاء الإنسان نفسه أن ينشئ قومًا يعبدونه وحده لا يشركون به شيئًا، يقبلون رسالته ويتحملونها وينشرونها ويهتدون بها، كما قال- تعالى-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ? [المائدة: 54]، هذا اختصار للوصف الذي يريده الله –تعالى- في العباد، فيعرضه عليهم اختيارًا فمن لم يقبله اختيارًا فالله يعلن قدرته على أن يذهب بهم وأن يأتي بقوم آخرين، بالوصف الذي يرتضيه وبالوصف الذي يحبه -سبحانه وتعالى- ويريده ?وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ?، حينما بلغهم العذاب وحل بديارهم، ورأوا قدومه عليهم، وتخيل عذابًا من عند الله -سبحانه وتعالى- هلكة جاءت لتعم بلدة من البلاد كلها أمة من الأمم لا شك أن شيء كثير شيء مخيف هائل عظيم، لذلك حاول الناس(5/357)
الهرب، ?فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا
(11/6)
---
هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ? لما أحسوا وأصابهم ألم بأس الله أي عذاب الله، ?فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَ? أي: ذاقوا العذاب وأصابهم، بدأ كل منهم يحاول الهرب، ويسلك طريقًا يبتغي فيه النجاة، ?إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ? والركض أصلاً للحيوان، وهو سرعة سير الفرس، ويقال للوحش حينما يفر من الخطر في البرية- الحيوانات البرية في الغابة حينما تشعر بالخطر يُقدم عليها أو تُحس به فإنها تفر فرارًا شديدًا سريعًا عظيمًا هذا هو ركض- يقال: ركض الحيوان، ومعروف عند العرب في الفرس؛ لأنه يركض للقتال والجهاد والسفر وما إلى ذلك، فشبههم الله –تعالى- وهم يفرون من عذابه يحاولون ذلك عبسًا، شبههم بحال الفرسان أو الحيوانات وهي تركض فرارًا من الخطر، ولكن كيف؟! والكون كون الله، والسماء سماءه، والأرض أرضه، والخلق خلقه، والأمر أمره، إلى أين يفرون؟ لا مفر، ?وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ? [ص: 3]، نزل العذاب وانتهى لذلك يقول الله لهم: ?لاَ تَرْكُضُو? لا تجروا، لا تخرجوا من دياركم ?لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ ?، لا تركضوا، أي: لا فائدة في الركض ولا مغزى من الجري، ولا مهرب تهربون إليه، ولا منجاة تحاولون الوصول إليها، فكونوا كما كنتم ?أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ? [النساء: 78]، ?أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيع? [البقرة: 148]، فلا فرار، إذن: ?لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ? وارجعوا إلى ما أترفتم فيه: أي من نعم الله -عز وجل- مما جعل الله لهم من نعم في الدنيا يترفون فيه، أي: ينعمون فيه، ?وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ? [النحل: 53]، ?وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ ?، لماذا؟ ?لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ?، أي: لعلكم تسألون بعد ذلك ما الخبر؟(5/358)
وما الحدث؟ وماذا جرى حدثونا عما جرى لكم يا قوم؟ وهؤلاء-
(11/7)
---
كما سيأتي- صاروا هَلْكى كأعجاز نخل منقعر، صاروا هَلْكى كعيدان نبات محطمة مكسرة، لا قوة فيها ولا حياة، فكيف يخبر الهالك بعد هلاكه كيف هلكت؟ الله –تعالى- يكلفهم بهذا، وحينما يأمر الآمر بأمر لا يستطيعه المأمور، فليس قصده التكليف الحقيقي، خرج الأمر عن حقيقته إلى غرض آخر، أقول لإنسان يغرق في الماء في البحر، أقول له: حينما تغرق وتموت تعالَ فحدثني كيف غرقت وماذا جرى لك، أهذا يعقل؟ لا يعقل، إذن: غرضي شيء آخر الغرض هنا الاستهزاء بالكافرين، ?لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ?، ومن يسأل الأموات؟ وكيف يجيب الميت على الحي إذا سأله كيف هلكت؟ فهذا لون من ألوان الاستهزاء، كما يقول الله –تعالى- للكافر في النار: ?ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ? [الدخان: 49]، ?لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ? وهذا هو أرجح ما قيل عند المفسرين في قوله- تعالى-: ?تُسْأَلُونَ?، أي: يسألون عما جرى لهم فيخبرون، فخير من يخبر عن الشيء من كان فيه، ومن ذاقه وعرفه، ولكنه عند ذلك وعند السؤال سيكون هالكًا لا يملك سمعًا ولا يملك جوابًا ولا شيئًا فصدر الكلام على جهة الاستهزاء بالقوم كما استهزؤوا برسل الله واستهزؤوا بكتب الله واستهزؤوا بالدعاة واستهزؤوا بالدين، فالله- تعالى- كما قال: ?اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ? [البقرة: 15] ، هذا كان في الدنيا وكذلك يستهزئ بهم عند نزول العذاب، وكذلك يستهزئ بهم عند دخولهم النار وأثناء نزولهم فيها وتعذيبهم فيها، ?اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ? [البقرة: 15]، وساعتها حينما لم يجدوا مهربًا ولا منجىً ولا مخرجًا قالوا قولة الهالك قولة الخاسر: ?قَالُوا يَا وَيْلَنَ?، كلمة تقال عند نزول المصيبة وخاصة المصائب العظام، ?قَالُوا يَا(5/359)
وَيْلَنَ? لما كان الويل يأتيهم والعذاب ينزل عليهم، ويوافقهم ولا
(11/8)
---
يخالفهم؛ لأنه معد لهم، فكانوا في حالهم هذا كمن ينادي على شيء فيأتيه ملبياً، أنادي على ولدي فيأتيني، أنادي على صاحبي فيأتيني، يا فلان، فكأنهم نادوا الويل، فجاءهم، وينادونه أيضاً فيأتيهم، ?قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ? إنا كنا ظالمين، اعتراف إقرار بالذنب وتلك فضيلة أن يُقرَّ الإنسان بذنبه وأن يعترف بخطئه وأن يقر بأنه أخطأ وأذنب ويطلب من خصمه أن يسامحه وأن يعفو عنه وأعظم خصم يُخشى جانبه هو الله -سبحانه وتعالى- نعوذ بالله من مخاصمته- فحينما يقر الإنسان بذنوبه ولو كانت إلى عنان السماء أو مثل زبد البحر أو بعدد حبات الرمال فيقول: ( يا رب أذنبت، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. يضحك الله له، ويباهي ملائكته في السماء ويقول لهم: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب أُشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت له)، ولكن لابد أن يكون هذا في الأوان المناسب أما أن يكون بعد فوات الأوان، أما بعد أن يكون بعد نزول العذاب والهلكة، أما أن يكون عند احتضار الموت، فهذا لا يقبل مهما اعترف الإنسان بذنبه، منذ أن يحضره الموت إلى يوم القيامة لا يقبل، إنما في دنياه وفي أيامه وحياته، فيقبل الله –تعالى- توبة العبد ما لم يغرغر بخروج الروح، وبآخر الأنفاس، فهنا لم يقبل الله منهم اعترافهم ولم يرحمهم به؛ لأنه جاء متأخرًا متوانيًا توانيًا عظيمًا بعد فوات أوانه ?قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ?، قالها أصحاب الجنة كما في سورة "ن"، في سورة القلم، حينما منعوا الفقراء حقهم من الصدقة، من حديقتهم فمنعهم الله من ثمر الحديقة كله، ?فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ?19? فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ?20?? ?فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ?26? بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ?27? قَالَ أَوْسَطُهُمْ(5/360)
أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ ?28? قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا
(11/9)
---
إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ?29?? [القلم: 19- 29]، ذكر المفسرون أن الله عوضهم خيرًا منها وأعظم منها لماذا؟ لأن الهلاك لم ينزل عليهم، حياتهم مستمرة إنما نزل الهلاك على الحديقة فقط، فلما كانت الحياة مستمرة اعترفوا بظلمهم وبذنبهم فعفى الله عنهم وأبدلهم خيرًا منها ?عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ? [القلم: 32]، أما أن يأتي الهلاك للإنسان وأن تأتي ساعته وساعتها يقول: تبت إلى الله ورجعت إلى الله لا يصلح منه ذلك ولا يقبل، ?قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ? كما جاء في شأن الكافرين في الآخرة: ?وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ?10? فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ?11?? [الملك: 10،11]؛ لأنهم اعترفوا بذنبهم في الآخرة وليس في الدنيا، ظلوا يقولون هذه المقالة، ?يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ?، كما نرى أهل المصائب- عفا الله عنا وعنهم وعافانا الله -عز وجل- جميعًا- حينما تنزل عليهم المصيبة ينادون الويل، والهلاك، والخيبة، والحسرة، والندامة، إلى آخر هذه الكلمات التي تخالف الرضا بقضاء الله -عز وجل-، ولا يزال يقول هذا حتى يكون حرضًا أو يكون من الهالكين، يهلك نفسه حزنًا على هذا الأمر هؤلاء ظلوا يقولون هذه الكلمة طول إصابتهم حتى ماتوا تمامًا وهلكوا هلكة كاملة ولم تبقى منهم باقية، يقول- تعالى-: ?فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ ?، أي فما زالت، فما زال يعني: بقي، معناها: فبقيت تلك دعواهم، فما زالت تلك الدعوى التي يدعونها، ومقصود بها الدعوة بالتاء وإن ذكرت بالألف المقصورة ولكن هي بمعنى الدعوة من الدعاء، وهي قولهم: ?يَا وَيْلَنَ? ?فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى(5/361)
جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ? كما جاءت في قول الله –تعالى-: ?وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ?
(11/10)
---
[يونس: 10]، ولم يقل: وآخر دعائنا، أو آخر دعوتنا، إنما: ?وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ? [يونس: 10]، فتأتي الدعوى بمعنى الدعوة، كما جاء في هذه الآية، ?فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ? أخي طالب العلم، أختي طالبة العلم، انتبهوا فالقرآن عظيم وتعبيراته دقيقة جدًا، وذلك حينما يقول الله –تعالى- في ختام الآية: ?حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ? لم يموتوا ظاهرة طبيعية ولم يموتوا صدفة، ولم يموتوا بتأثير فيرس كذا ولا كذا إنما ماتوا بجعل الله، الله الذي جعلهم أمواتًا، هو الذي أهلكهم مهما تكن الأسباب فالله- تعالى- هو الفاعل الحقيقي ?إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ? [يس: 82]- سبحانه- فقال: ?حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ? ما الحصيد؟ وما الخامد؟ الحصيد: هو من الحصد، وهو قطع الزرع بالمنجل بالآلة الحديدية المعروفة المعدة لذلك, لا أخذ النبات باليد واقتلاعه، إنما أخذه بالمنجل، وهذه صورة معروفة في الزراعة، حينما يُحصد الزرع فتلقى عيدان النبات على الأرض بعد أن كانت قائمة على أصولها تلقى على الأرض نائمة هكذا، لا حركة فيها كانت واقفة على ساقها تهتز مع الهواء وتنمو وتتغذى فيها حياة، ولكن صارت الآن راقدة على الأرض رقودًا أبديًا مع الشمس وعوامل التعرية والمطر وما إلى ذلك، وما يصيبها من إصابات وآفات يصير العود يابسًا، يصير العود متكسرًا من أثر الدوس عليه، يدوسه إنسان أو حيوان وما إلى ذلك، كما هو معروف دوس المحصود، أي: درسه فيصير تبنًا، فإذا قامت فيه الرياح أخذته في وجهها وطارت، فلا قوة فيه صار النبات هكذا بعد خضرة، بعد قوة، بعد جمال، كذلك أولئك القوم كأن الله يريد أن يصور لنا صورتهم كانوا(5/362)
أقوياء، كم من أمة كانت متحضرة وذات حضارة رفيعة عالية، كم من أمة صاحبة قوة كقوم عاد وفرعون وما إلى ذلك،
(11/11)
---
كم من قوم كانوا يتباهون بجمال أنفسهم وبمباهي مظاهرهم ويظنون أنهم مخلدون بذلك جاءهم عذاب الله –تعالى- فأخذهم فماتوا حتى صاروا حصيدًا، ?خَامِدِينَ?، هذه صفة للنار، خمدت النار، يعني: خبت ضوؤها وانطفأ لهيبها، فصارت رمادًا ورماد النار أخفُ من التراب، تذروه الرياح كذلك، بعد قوة النار وقوة لهيبها وما فيها من إخافة يراها الإنسان فيهابها ويخاف من الاقتراب منها، بعد ما كان فيها من قوة الإضاءة والإشعاع، بعد ما كان فيها من قوة الايقاد موقدة وشديدة، بعد ذلك كله صارت رمادًا تذروه الرياح، كذلك هؤلاء القوم على اختلاف أجناسهم وأممهم وأزمانهم الله –تعالى- أنزل عليهم العذاب، ولا يزال بهم عذاب الله حتى جعلهم حصيدًا خامدين، فكأن الله شبههم بالزرع صار هكذا بعد قوة ونضرة وخضرة، وبرماد النار بعد أن كانت النار قوية مخيفة مضيئة مشعة ومتقدة، وهكذا تكون الأمم عالية رفيعة قوي وفي لمح البصر وبكلمة كن، من أمر الله -تبارك وتعالى- فتكون ?حَصِيداً خَامِدِينَ?، كما كان أمر أمم كثيرة قبل ذلك. هذا هو العنصر الأول وهذا خبر هلاك الأمم السابقة مجملة دون تفصيل- قوم كذا وقوم كذا- إنما هي أمم كثيرة أهلكهم الله –تعالى- بألوان عديدة ومتنوعة من العذاب ورد ذكرها في سور كثيرة في القرآن الكريم في غير هذا الموضع، ولكن لحكمة ما أجمل الله –تعالى- هنا الموقف؛ لأنه يريد أن يقدم عبرة للكافرين من هذه الأمة: لو لم تؤمنوا فهذا مصيركم كمصير السابقين.
العنصر الثاني: حكمة الله في إيجاده للخلق:
(11/12)
---(5/363)
وعلى هذا يفرع الله –تعالى- موضوعًا آخر وعنصرًا آخر من خلال الآيات التالية: وهو بيان أن الله –تعالى- لا يخلق خلقًا عبسًا وأن الله –تعالى- لما كان هو الحكيم الذي يؤتي الحكمة من يشاء يوزعها يفيض بها يهبها -سبحانه وتعالى- فلا يليق بالحكيم -سبحانه- أن يلعب وأن يلهو ماذا لو رأيت شيخًا يلعب الكرة بملبس مشيخته؟ تقول له: مثلك لا يليق به ذلك، مع أن الدنيا كلها تلعب والعالم يلعب لكن بهذا المنظر لا يليق، أستاذ في جامعة، أستاذ مخترع كذا، لو أنه يلعب كذا، هذا لا يليق به، يلهو ويعبث لا يليق به، اللعب ذكر دائمًا مذمومًا في القرآن الكريم، مما يذم في الحياة الدنيا، وكلما تخلى الإنسان عن اللعب عَرَف الناس قيمته، ووقعت في قلوبهم مهابته، وكلما لعب هان على الناس، هذا في المجتمعات التي تعرف القيمة والفضيلة، هذا هو الميزان؛ ولذلك كان النبي -عليه الصلاة والسلام- من حكمته ومن سماحة الشرع الحنيف أن يلعب الأطفال والغلمان والصغار والبنات تلعب بالعرائس لأنهم في سن طفولة ورشدنا الدين إلى أن تكون هذه الألعاب نافعة، فكان -عليه الصلاة والسلام- يدخل على عائشة وهي تلعب بالعرائس لصغر سنها، فكان يلاطفها ويشاركها بكلمة، لكن لا يجلس معها وأين العروس يا عائشة؟ وأين تجلس؟ وأين تنام؟ لا لا، وقته أسمى من ذلك ومهمته ورجولته أكبر، إنما ملاطفة لزوجة ولطفلة، كان يلاطفها بكلمة، رآها تلعب بفرس وله جناحان من بين لعبها، فقال: يا عائشة (أفرس وله جناحان)؟ يعني: هل هناك فرس وله جناحان الفرس لا يطير لكن لعل هذا كان مما سمعوا عن البراق وما إلى ذلك إنه أشبه بالفرس ويطير في الهواء فاصطنعوا شيئًا يشبه هذا، لعبة للطفل، ذكر القرآن لَعِب أولاد سيدنا يعقوب -عليه السلام-: ?أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ? [يوسف: 12]، لم ينكر يعقوب عليهم اللعب؛ لأنهم سيلعبون بجوار الأنعام وهي ترعى، يلعبون لعبًا(5/364)
(11/13)
---
بريئًا بسيطًا طارئًا، ليست مسابقات ولا دوريات وما إلى ذلك، ليس شيئًا أساسًا في الحياة وإنما هو لتسلية الوقت، فإنهم يجلسون والأغنام ترعى، لو لم يلعبوا ربما ناموا فجاء الذئب فأكل الغنم، فلعبهم مصلحة في هذا الوقت، وهم غلمان صغار، فكان هذا مباحًا من سماحة الإسلام، لكن أن يلعب الكبار فهذا يشينهم فما بالك بالإله؟!! فلا يليق به أبدًا أن يكون لاعبًا أو لاهيًا أو عابسًا كل ذلك من النقص المحال في حق الله ذي المحال والجلال -سبحانه وتعالى- فلذلك بَيَّن حكمة خلقه لهذا الخلق، بالسماء والأرض وما بينهما وما فيهما فقال: ?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ?، أي: ما خلقنا هذ الخلق لنلعب به، أو ليلعب الخلق، ونتفرج عليه، لا، لم تخلق الدنيا للعب، إنما خلقت للجد، أيخلق الله سبع سماوات طباق، ويجعل القمر فيهن نورًا ويجعل الشمس سراجًا ويزين السماء الدنيا بالنجوم والكواكب، ليلعب بذلك أو ليلعب الخلق بذلك؟!! لا، لا يمكن، شكل السماء عظمها، كبرها، كل ذلك يمنع احتمال أن تكون مخلوقة للعب، الأرض ممدودة وفيها فجاج وسبل فيها أنهار وبحار، فيها دُرر فيها أرزاق، فيها حديد، فيها معادن، فيها بترول، فيها أشجار ونبات، كل ذلك مخلوق، خلقه الله ليلعب الإنسان به، أو ليلعب الله بذلك؟ حاشا لله وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، خلق الله إنسانًا يتكلم، ويسمع ويبصر ويعقل، ويخترع ويبتدع، في الدنيا طبعًا ويبدع وهكذا ويحصل ويذاكر وينجح، أهذا لعب؟! لا.. لابد أن هذا المخلوق مخلوق لمهمة، ?سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى? [الأعلى: 1]، عظمه -سبحانه وتعالى- ?الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ?2? وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ?3?? [الأعلى: 2، 3]، قدر لكل مخلوق مهمة، ودورًا، وهداه لأداء هذا الدور، علمه كيف يؤديه وذلك معروف في المخلوقات المسيرة على مراد الله -تبارك وتعالى- كالحيوانات ونحوها، أما الإنسان فقد(5/365)
أعطى الله له
(11/14)
---
الاختيار وجعل له هذا المراد الإلهي في كتاب مقدس، يقرؤه ويطبقه هو، أما احتمال اللعب في هذا الكون فهذا احتمال بعيد جدًا، واحتمال مشين, يشين الإنسان لو أنه تخلق به، فإن الله بألوهيته تنزه عن اللعب إذن هذا اللعب يشين، فينبغي على من أراد الترفع، والتحضر، والتقدم، وإنشاء حياة فاضلة أن يتنزه عن اللعب وإنما يكون للأطفال والصغار وما إلى ذلك، ?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ? هذا النفي وهذا الخبر المنفي يشير إلى أن هناك من فهم أن هذا الخلق خلق للعب, ما خلقنا في الدنيا إلا لنأكل ونشرب ونلهو ونلعب فقط، بعض الناس يظن هذا وهو ظن غريب جدًا عجيب الله –تعالى- ذكر هذا فعلاً في آيات أخرى فقال –سبحانه وتعالى-: ?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ? [ص: 27] بينما مدح الله –تعالى- المؤمنين، وذكرهم بأنهم أصحاب العقول المتفتحة والعقول المتقدة والبصيرة الواعية: ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ? [آل عمران: 190]، بعيدًا عن الكتب المنزلة بعيدًا عن الشرائع التي شرعها الله -سبحانه وتعالى- بمجرد أن ينظر الإنسان في خلق السماء وفي خلق الأرض وفي خلق نفسه وفي الخلق من حوله ?لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ? [آل عمران: 190]، العقول، بهذا الوصف المذكور الآن، ?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ? [آل عمران: 191]، فيصلون في النهاية إلى النتيجة الحقيقة فيقولون: ?رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ? [آل عمران: 191]، تنزهة عن ذلك ?فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ? [آل عمران: 191]، أي: إنما خلقتها لتمتحننا وتختبرنا فيها، لنسكن(5/366)
بها جنة أو نارًا، فنسألك
(11/15)
---
أن تعيذنا وأن تقينا من النار، وهكذا فالكفار حيث أصابهم السفه، وهو الجنون أو خفة العقل وعدم الوعي، فظنوا أن الدنيا للعب واللهو والمتع والشهوات وفقط, وإنما أعطانا الله نصيبنا من الدنيا، ولم يحرمنا منها ومع ذلك وجهنا للدار الحقيقية وهي الدار الآخرة.
?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ?16? لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ?17?? أي: لو أن الله تعالى- على فرض المحال- هذا الأسلوب اسمه أسلوب في الحوار، اسمه افتراض المحال، تُسلم لخصمك جدلاً وافتراضًا سأصدقك سأوافقك كما فعل إبراهيم -عليه السلام- راح مع عُبَّاد الكواكب وقال: ? هَذَا رَبِّي?[الأنعام آية: (76)] وكان دقيقًا لم يقل: هذا إلهي، إنما الرب يطلق على كل من تأتي النعمة من طرفه أو الفائدة، كرب الأسرة، ? هَذَا رَبِّي? وذلك كأنه يقول: سلمت لكم ومعكم أنه رب على فرض المحال، الرب لابد أن يكون باقيًا معي دائمًا أحتاجه فأسأله فيجيبني، ?فَلَمَّا أَفَلَ? [الأنعام: 76]، قال: لا، ?لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ? [الأنعام: 76]، وهكذا حتى أثبت لهم أن النجوم والكواكب والقمر وحتى الشمس بعظمها وإطلالها على الدنيا كلها، لا تصلح أن تكون إلهًا، إنما ينبغي أن نوجه وجوهنا إلى الله الذي فَطر السماوات والأرض وما فيها.
(11/16)
---(5/367)
?لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّ? لو أراد الله –تعالى- أن يصنع لهوًا يلهو به أو لعبًا يلعب به -سبحانه وتعالى- لفعل ذلك بما يختار وبما يحب من عنده هو -سبحانه وتعالى- واللهو في اللغة كما ذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن الإمام الحسن وقتادة السدوسي قالوا: «المرأة بلسان اليمن» اللهو معناها: المرأة بلغة أهل اليمن، في زمانهم ربما تغيرت الآن، لكن في لغة أهل اليمن قديمًا كانوا يطلقون على المرأة كلمة لهو، والولد لهو والمال لهو، في اللغة اللهو هو كل ما يُلْهَى به، وكل ما يُلْهِي الإنسان عن شيء آخر، وقال الله –تعالى- للنبي -عليه الصلاة والسلام- حينما أعرض عن عبد الله بن أم مكتوم، وانشغل بوجهاء مكة وكبار الكفار رغبة في دخولهم في الإسلام قال: ?وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى ?8? وَهُوَ يَخْشَى ?9? فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ?10?? [عبس: 8- 10]، أي: تتلهى، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- انشغل بالكفار عن عبد الله بن أم مكتوم، طمعًا في إيمانهم وإسلامهم، ولكن الله يعلم أنهم لن يسلموا فسمى انشغاله هذا تلهيًا أي نوعًا من أنواع اللهو، وما كان النبي لاهيًا -عليه الصلاة والسلام- بقصد اللهو وإنما كان يقصد أن يدخلوا في الإسلام ولكن سماه الله لهوًا لينهاه عن ذلك، فاللهو هو كل ما يلهي الإنسان لكن هذه الكلمة في هذا المكان في هذا المقام، يراد بها شيء معين ما هو؟ أرى مع من رأى أنه يُراد بها الولد، ?لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْو? أي: ولدًا ?لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ? وكأن الآية رد على شبهة أخرى من شبه الكافرين، وهم أنهم نسبوا لله -عز وجل- الولد، يرشح هذا ويرجحه أنه سيأتي بعد آيات ثمان تقريبًا قول الله تعالى: ?وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ? [الأنبياء: 26]، نسبوا الملائكة لله، وسموهم بنات الله،(5/368)
(11/17)
---
فالله- تعالى- يقول: ?لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْو? أي لو أردنا أن نتخذ ولدًا لاصطفينا ولدًا على مرادنا وعلى اختيارنا، لن ننتظر حتى ينسب الخلق لنا ولدًا، اليهود ينسبون العزير، والنصارى ينسبون المسيح، وكفار مكة ينسبون الملائكة، وهكذا كل ينسب ولدًا لله بشكل أو آخر لو أراد الله أن يتخذ ولدًا لاتخذ ما شاء، كما جاء في آية أخرى، ?لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ? [الزمر: 4]، وقال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ? [المنافقون: 9]، إذن: المال لهو والولد لهو، فهذا هو المراد بكلمة لهو في هذه الآية على الراجح- والله أعلم.
?لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ? إن: تفيد الشك وتفيد التقليل ولذلك معناها في مواضع كثيرة- إن لم يكن في كل مواضعها- معناها المنع، يعني النفي والإنكار، كما ذكره ابن كثير -رحمه الله- عن الإمام مجاهد بن جبر، من مفسري التابعين رحمهم الله –تعالى- قال: «كل شيء في القرآن ?إِن? إن كنتم كذا، فهو إنكار» ?إِن كُنَّا فَاعِلِينَ? أي: ما كنا فاعلين، إذن: الله لا يلعب، ولا يلهو بالأولاد ولا ينشغل بشيء من ذلك، إنما هو منزه وغني عن ذلك كله، إذن: ما دور الله عز وجل؟ دوره عظيم إنه ملك الملوك- سبحانه- إنه رب الكون كله الله –تعالى- رب وإله يقيم الحق، ويخلق بالحق، ويفعل بالحق، ويتكلم بالحق، وسمى نفسه الحق.
(11/18)
---(5/369)
?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ? نقذف: القذف هو الإلقاء الشديد، أي أن الله –تعالى- يسلط الحق، على الباطل فيدمغه، الدمغ: هو كسر الشيء أو الجسم الصلب، شيء قوي وشديد يُكسَر وقيل: الدمغ مأخوذ أيضًا أو من هيئاته وصوره أن يضرب الرجل الرجل بدماغه، فيصرعه، يعني يصرعه بضربة برأسه فيقال: دمغه، أي ضربه بدماغه، فكأن الله شبه الحق والباطل برجلين دخل أحدهما فانصرف الآخر، ?وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ? [الإسراء: 81]، ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ? لو أراد الباطل أن ينازع الحق ولم يزهق من أول مرة فإن الحق يضربه بالدماغ فيدمغه ويصرعه ويقتله، فالحق زاهق لا محالة، هذه حالة وهذه طبيعته أما الحق فباق، ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ? أي الباطل ، فإذا هو زاهق بسرعة، ?وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ? الخطاب للكفار، أي: لكم الويل، وهو العذاب الشديد: - مما تصفون به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون وكذا. - مما تصفون به الله -عز وجل- أنه له البنين وله البنات وله زوجة وله كذا، مما قالوا عنه. - مما تصفون به كلام الله المقدس بأنه سحر وبأنه افتراء وبأنه كهانة وبأنه شعر إلى آخر ما قالوا. - مما تصفون به المؤمنين بأنهم متطرفون وإرهابيون وأنهم شؤم على الحياة وأهلها وأنهم ... وأنهم... كل ما يقال عن عباد الله الصالحين ?وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ? [المطففين: 32]، يوصفون بالضلال وهم أهل الهدى أو الطالبون له على الأقل، وهكذا ?وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ? وحذف مفعول تصفون، تصفون ماذا؟ تصفون الله -عز وجل- تصفون النبي -صلى الله عليه وسلم- تصفون القرآن والكتاب المنزل، تصفون المؤمنين بهذا كله، تصفون الدار الآخرة بأنها عبس وأنها(5/370)
(11/19)
---
كذب أو بأنها خيال، كل ما تصفون به الحق لتظهروه بصورة الباطل، فلكم الويل بسبب ذلك ?وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ?.
العنصر الثالث: غِنَى اللهِ عن الخلق:
حيث يُظهر الله -تبارك وتعالى- غِناه عن الخلق، تأكيدًا لما سبق، لما نفى عن نفسه اتخاذ اللهو واتخاذ اللعب كأنه يعطينا الدليل على ذلك، أو السبب لذلك، كيف يستغني عن لعب ويستغني عن ولد مع أن هذه أشياء في حياتنا يُحتاج إليها ولو من باب الرغبة والنزوة وما إلى ذلك، فكيف يستغني الله عنها؟ الله -عز وجل- يبرر ذلك لنا، لكي يكون الكافر قد أخذ حجته كاملة، ولكي يزداد المؤمن يقينًا على يقينه وإيمانًا على إيمانه، فقال- تعالى-: ?وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ?19? يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ?20?? وله أي: لله -عز وجل- من في السماوات والأرض، يعني: له ملك من في السماوات ومن في الأرض جميعًا, فالعبد مثلنا وما ملكت يداه لسيده، الله خلقنا ورزقنا, أنفس هو خالقها، وأموال هو رازقها وواهبها، وبالتالي: فنحن وما ملكت أيدينا لله -عز وجل- والأرض لله يورثها من يشاء -سبحانه وتعالى- ويرث بعضنا بعضاً حتى يرث الجميع رب العزة والجلال الذي يبقى بعد فناء خلقه، ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ?26? وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ?27?? [الرحمن: 26، 27]، ?وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ? فلماذا يتخذ الولد؟! الواحد منا يحتاج الولد لكي يعتز به، يقولون: عزوة، حينما يكون له أولاد عزوة، ولذلك أحبوا البنين عن البنات؛ لأن البنين فيهم قوة، أما البنات فخلقن على ضعف وجمال المرأة في ضعفها ورقتها، وجمال الرجل في خشونته وقوته، فلما كان الأب محتاجاً للابن أكثر من ابنته ليسانده وليحمل اسمه، وليدافع عنه وهكذا وليؤازره طلب الأولاد من(5/371)
الذكور, البنين
(11/20)
---
ورغب فيهم عن البنات، لكن هذا كان لفقرنا فالله ليس فقيرًا إنما هو غني -سبحانه وتعالى- فلماذا يحتاج الولد؟! ولماذا يميل إليه؟! لا حاجة له في الأولاد، إنما مَلَكَ كل شيء -سبحانه وتعالى- وله: حينما ترى الجملة هكذا يعني من ناحية الإعراب له، جار ومجرور خبر مقدم، ومَنْ: مبتدأ مؤخر، ومن في السماوات والأرض له، أصل الجملة هكذا، هذا التقديم ليفيد الحصر، يعني وله لا لغيره، حينما أقول لك: هذا البيت لي هذه الجملة تحتمل أن يكون البيت لي ولإخوتي وللأسرة، أن يكون لي ولبعض إخوتي أنا وأخي مثلاً أخذنا هذا البيت، هذه الشركة لي ولفلان، شركاء، لكن حينما أقول: لي هذا البيت، المفروض في اللغة العربية هذه الجملة تفيد أن هذا البيت يخصني أنا فقط، لا يمتلكه أحد معي، فتقديم حرف الملكية اللام وتقديم الضمير الذي يدل على المالك أو الشيء للمالك هذا يدل على الاختصاص والقصر وحصر الملكية في المذكور وله -سبحانه وتعالى- أي: ليس لأحد غيره، ولا لأحد معه، وله، إذن: لن يؤول الملك بعد الله إلى أحد، فهو الأول والآخر فلماذا يحتاج الأولاد؟!! لا حاجة له بذلك، أو لا حاجة به إلى ذلك، ألا يحتاج الله منا أن نعبده أن نسبحه ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب؟! لا، بل أنزل الله إلينا الكتب ليشرفنا بهذا، ?لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ? نذكر الله به فنعلوا ونشرف فالشرف لنا والفائدة لنا نحن العبيد أما لو كفر كل من في الأرض جميعًا فإن الله غني حميد، لا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا، ولن يبقَ الله –تعالى- بغير عبادة، بل عنده من يعبده دائمًا لا ينقطع عن عبادته فالله غني عنا قبل أن يخلقنا قبل أن يكلفنا وينزل لنا الشرائع، الله غني عنا وعن عبادتنا، فقال- تعالى- بيانًا لذلك: ?وَمَنْ عِندَهُ? أي: والذين عنده ?لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ?، يقصد من الملائكة الكرام(5/372)
-عليهم السلام- ?وَمَنْ
(11/21)
---
عِندَهُ? أي: والذين عنده في الملإ الأعلى ?لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ?، أي ولا يتعبون، لا يتكبر فيمتنع، ولا يتعب من الذكر والتسبيح فينقطع، بل إنهم دائمو العبادة والذكر والتسبيح لله، ?يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ? كأن الله يفسر هذا بقوله: ?يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ? فهم لا ينقطعون عن التبسبيح أبداً لا ليل ولا نهار؟ نعم، بل ?يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ? وكلمة يسبحون فعل مضارع والفعل المضارع يدل على التجدد والحدوث، تسبيح بعد تسبيح وتسبيح تلو تسبيح لا ينقطع أبداً لا ليلاً ولا نهارًا، ?لاَ يَفْتُرُونَ? الفتور: هو الانقطاع عن العمل، يقوم الإنسان الليل مثلاً فيفتر، يعني تمر به بعض الليالي يكسل عن القيام، يقرأ كل يوم حزبًا من القرآن فيصيبه الفتور، فينقطع عن حزبه من القرآن هذا اسمه فتور عن العبادة، فتور، وربما سمعنا في علوم القرآن فتر الوحي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كذا أو مدة كذا، فَتَرَ يعني: انقطع لحكمة أرادها الله -سبحانه وتعالى- قطع الوحي لفترة ثم أنزله وتتابع الوحي بعد ذلك، فالفتور: هو الانقطاع عن العمل وعن الشيء، فالملائكة تسبح دائمًا لا ينقطع تسبيحها أبداً وذكر الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن أبي إسحاق أن عبد الله بن الحارث بن نوفل سأل كعب الأحبار، فقال: «أرأيت قول الله –تعالى- ?يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ? أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟ فقال: يا بني إنهم جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس» أليس تتكلم وأنت تتنفس، وتمشي وأنت تتنفس، معنى هذا الخبر: أن الملائكة ألهموا تسبيح الله –تعالى- كما ألهمنا النفس، لو تذاكرنا كم نفسًا تنفسنا منذ أن جلسنا لم يحصِ أحد منا أعداد نفسه، ولا يحصيها في(5/373)
أي وقت، إنما تحدث تلقائيًا دون شعور
(11/22)
---
منه، ويأكل ويتنفس ويشرب ويتنفس وينام ويتنفس ويكتب ويتنفس ويقرأ ويتنفس في كل أحواله النفس إلهام فطري لا ينقطع أبدًا مثل هذا تمامًا الملائكة، تسبح الله –تعالى- ليلاً ونهارًا لا ينقطع تسبيحهم إنما يلهمون التسبيح كما نلهم النفس، وذلك معناه أن الله –تعالى- غني بذاته، ثم هو غني بمن يسبحه دون انقطاع وبمن يعبده دون انقطاع فلا حاجة له في طاعتنا ولا في تسبيحنا بل من سبح يعلم أنه له الشرف في ذلك، وله الخير بذلك، والله لا ينتفع أبداً بطاعتنا ولا يضر بمعصيتنا، وذكر في شأن الملائكة أن منهم من هو ساجد لا يرفع رأسه، ومنهم من هو راكع لا يرفع ظهره، ومنهم من هو قائم لا يجلس يسبح الله -عز وجل- كل على هيئة ومنهم من يدخل البيت المعمور فيطوف به، ويدخل كل يوم سبعون ألف ملك، يدخلون ولا يخرجون وهكذا عباد مكرمون منشغلون بطاعة الله، كما قال: ?وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ? [الأنبياء: 27]، ولا يشغلهم عملهم من الكلام مع بعضهم أو تكليم الله لهم، ولا تحمل الرسالة من الله ليقوموا بها: افعل يا فلان كذا وافعل يا فلان كذا وينصرف لينفذ أمر الله -عز وجل- ولا العمل بأمر الله كل ذلك لا يشغلهم عن التسبيح لله -سبحانه وتعالى- بكل هذا يُعلم الله البشرية، أنه لا حاجة له في ولد ولا حاجة له في لهو ولا حاجة له في لعب، بل لا حاجة له في عبادتكم أيها الكفار، فإن آمنتم فلكم الخير وأن كفرتم فلا تظنوا أنكم ضارون الله بشيء أبدًا، بل الله هو الغني الحميد. نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا ونعوذ به من علم لا ينفع, ربنا زدنا علمًا نافعًا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، شكر الله لكم حسن المتابعة والمشاهدة، ونفعنا الله وإياكم بالعلم النافع.
فضيلة الشيخ وردتنا إجابات على أسئلة الحلقة الماضية:(5/374)
كانت إجابة السؤال الأول: عرف تعريفًا مجملاً بسورة الأنبياء؟
وكانت الإجابة:
(11/23)
---
ليس لها اسم آخر، وأثبتت في المصاحف واسمها يشير إلى موضوعها وهدفها، وسميت بذلك لما ذكر فيها من أنيباءَ كثيرين بلغوا ستة عشر نيبًا وإن كانت سورة الأنعام ذكر فيها ثمانية عشر نبيًا وسميت بذلك؛ لأنه برز فيها أحكام الأطعمة والذبائح وذكر الأنبياء إشارة لما حرم الله عليهم وأحله لهم وأن ذلك كان في كل الشرائع وأن الحلال والحرام حلال وحرام من أول الدنيا إلى يوم القيامة، القصد بها إثبات بعثة كثير من الرسل والأنبياء كدليل على صحة بعثة الرسول محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وأنه ليس بدعة وليس أمرًا غريبًا جديدًا. ذكر بعض المفسرين أنها نزلت قبل الزخرف والنحل أي في أواسط العهد المكي تقريبًا وهذا يدلنا على أنها من أوائل ما نزل في مكة، وخاصة أنها تؤكد على قضية مهمة وهي تكذيب نبوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما أخبر به وكان نزولها بعد سورة فصلت.(5/375)
ما شاء الله إجابة طيبة. بقيت أمور قليلة كان تفصيل موضوعاتها، مثلاً: أنها تكلمت عن حال الكافرين أولاً ثم ذكرتهم بمصارع السابقين قبلهم بعد ذلك، ثم ذكرت بعثة الرسل السابقين ولو كان ذكرًا سريعًا مجملاً، ذلك للإشارة فقط إلى أن الله –تعالى- أرسل رسلاً ومنهم محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم ذكرت في النهاية بيوم القيامة والآخرة وما فيها من حساب وطبعًا كما هو المعروف في شأن القرآن ذكر مجمل لموقف من مواقف الآخرة وموقف الحساب، كإنذار للناس وتذكير لهم بأن الآخرة حق وبالتالي يذكر الله تفاصيلها هكذا في كل موقف، ثم تعود السورة في النهاية إلى ما بدأت به أو بُدئت به من ذكر والتصريح برسالة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه أرسل رحمة للعالمين، وتعرج أيضًا على حال الكافرين في خاتمها وبهذا تلتقي أطراف السورة وهذا عرض عام لموضوعات هذه السورة، فنشكر إخواننا وأخواتنا على هذا الجواب الطيب.
(11/24)
---
السؤال الثاني فضيلة الشيخ: اذكر ثلاثة من شبهات الكافرين وبين بطلانها؟ الشبهة الأولى: أنه -صلى الله عليه وسلم- ساحرًا، قال- تعالى-: ?أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ? [الأنبياء: 3]، سموا القرآن سحراً مع أنهم لم يروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- مرة ولم يسمعوا أنه ساحر أو اشتغل بالسحر بل جاء في الشرع عد السحر كفرًا وتوعد الساحر بالقتل، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (حد الساحر ضربة بالسيف)، وسبب هذه الشبهة؛ لأنهم رأوا أثر القرآن الكريم وتأثيره في الناس فقالوا: لا يفعل ذلك إلا ساحر.(5/376)
الشبهة الثانية: ?بَلِ افْتَرَاهُ? [الأنبياء: 5] قول آخر أنه كاذب، وقد رد عليهم فرعون هذه الأمة فمرة قال لهم: أبو جهل: ما كان ليذر الكذب علينا ويكذب على الله فهذا أمر مستحيل لا يعقل، أيعقل أن يكذب أحد على ملك من ملوك الدنيا ويتركه؟ لا يمكن سوف يعاقبه أيفتري رسول على ربه فيتركه الله –تعالى-؟ كلا، قال- تعالى-: ?وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ?44? لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ?45? ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ ?46? فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ?47?? [الحاقة: 44- 47]، فكان هذا رد من الله -سبحانه وتعالى- على لسان رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- فالكفار ليسوا أهلاً لشرف الخطاب من الله –تعالى.
(11/25)
---(5/377)
الشبهة الثالثة: طلب آيات ومعجزات تدل على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- قال- تعالى-: ?فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ? [الأنبياء: 5]، ما نزل من القرآن أليس بكاف؟ وما ظهر على يدي محمد -صلى الله عليه وسلم- من معجزات حسية فجاءهم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- بآيات كثيرة ومن ذلك جوامع الكلم وهو من خصائص الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحنين الجذع إليه، فطلبوا الآيات منه من باب المجادلة وليس من باب اتباع الحق، ?مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ? [الأنبياء: 6]، رد الله عليهم لو جاءتهم الآيات كل الآيات لن يؤمنوا فالأمم السابقة لم يؤمنوا بالآيات فهم كذلك سيكون حالهم كحال السابقين. -ما شاء الله- استنباط جيد لهذه الشبهات من خلال الآيات طبعًا هي شبهات أكثر من ثلاثة ولكن كان السؤال حول ثلاثة فقط، اختصارًا وهكذا رد الله –تعالى- عليهم في كل شبهة ذكروها وحكاها الله عنهم وهذه الأمور التي تعددت على لسانهم، أي: اختلاف قولهم حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا يعتبر ردًا عليهم كما ذكره الله –تعالى- في قوله: ?انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيل? [الفرقان: 9]، تعدد وجهات النظر في الشيء يشير إلى احتمال أن يكون كذا واحتمال أن يكون كذا، واحتمال أن يكون كذا، هذا الاحتمال يُسقط قوة الاستدلال، كما قيل: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال، فكونهم احتملوا أن يكون ساحرًا وأن يكون شاعرًا وأن يكون مفترياً وأن يكون كذا، هذا التعدد في وجهات النظر يدل على عدم ثباتهم على شيء واحد وعدم رؤيتهم لحقيقة ما أمامهم، هذا مع حسن الظن، وإلا فإنها لَمَا كانت أمورًا مخالفة للحق مخالفة مقصودة، يعني: إنسان يرى شيئًا ويريد أن يُظهره بخلاف حقيقته، وأن يسميه بغير اسمه فلابد أن يفتري افتراءً وهذا الافتراء(5/378)
(11/26)
---
يجعله مرة يقول: كذا ومرة يقول: كذا، فتتنوع كلماته حول هذا الشيء الواحد حينما يريد أن يغير حقيقته، كالوليد بن المغيرة -لعنه الله- حين اعترف وهو ذاهب طاعةًَ لقومه لكي يتسمع على محمد -صلى الله عليه وسلم- ليقول في قرآنه قولاً يصرف الناس عنه، فلما استمع وألقى سمعه لم يملك نفسه، قال: والله ما يقول هذا الكلام بشر، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى عليه، قالوا: حسبك يعني: يكفيك مدحًا فيه، والله ما أرسلك قومك لهذا، إنما أرسلوك لتقول فيه قولاً أي قولاً مشينًا، قال: إذن: دعوني أفكر، فجلس وفكر وأعد كلامًا على خلاف الحقيقة فيسمي هذا الكلام الذي أقسم الآن أنه ما يقوله بشر وأنه يعلو وما يعلى عليه، فيسميه بغير اسمه ويصفه بغير صفته ويظهره بغير مظهره، فالمسألة تحتاج إلى افتراء وإلى تركيز ومع ذلك لم يثبت على كلمة واحدة، الله –تعالى- يقول: ?إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ?18? فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ?19? ثُمَّ قُتِلَ? يعني: لعن ?كَيْفَ قَدَّرَ ?20? ثُمَّ نَظَرَ ?21? ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ?22? ثُمَّ أَدْبَرَ? عن الكلام الحق الذي قاله: ?ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ?23? فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ?24? إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ ?25?? [عبس: 18- 25]، سحر يؤثر إذن: عن الجن، ?إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ? أهو قول جن أم قول إنس؟ اضطرب ولم يثبت على شيء واحد، ذلك لأنه لا يقول حقًا ولا ينطق حقًا إنما يفتري افتراءات والكافرون الراجح فيهم أنهم كانوا يفترون ويقولون خلاف الواقع إنما يريدون كلامًا مشينًا يصرفون به وجوه الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولهذا تنوعت كلماتهم واختلفت آراؤهم فقال الله –تعالى- مكذبًا لهم: ?انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيل? [الفرقان: 9]، وأنبه(5/379)
بالمناسبة إلى أن
(11/27)
---
الافتراءات التي تُفترى والشبهات التي يشبه بها على الإسلام حديثًا وإلى أن تقوم الساعة لا نقف عند استماعها مشدوهين مندهشين، يعني لا نملك جوابًا ونتعجب كيف حصل عليها أناس ليسوا مؤمنين بالقرآن؟ لا.. إنهم ما فعلوا إلا أن كرروا كلام الكافرين من قبل، ولو أننا قرأنا القرآن سنجده قد حوى وجمع كل شبهات الكافرين، في القديم وما هي إلا صورة مكرورة، ولكن اختلف شكلها واختلف قائلها، قالها أبو جهل القديم ويقولها اليوم أبو جهل الحديث، هو هو، القول هو هو، ولكن اختلفت حروفه وألفاظه، إنما المعنى والمقصود واحد، لم يأتوا بجديد عما جاء به كفار مكة السابقون في هذه الأمة، فلذلك لا نندهش وإنما نرجع إلى القرآن ونقرأ سنجد الشبهة وردها ردًا بليغًا من الله –تعالى- لا يأخذ العدو بعدها جولة أخرى، إنما يهزم أمامنا من أول جولة. هذا ونسأل الله –تعالى- الثبات على الحق.
السؤال الثالث فضيلة الشيخ: بين بإيجاز كيف كان القرآن شرفًا للأمة؟
كانت الإجابة:
قال الله –تعالى-: ?لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? [الأنبياء: 10]، ذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- في قوله- تعالى-: ?ذِكْرُكُمْ? عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أي: «شرفكم»، وعن مجاهد «حديثكم»، وعن الحسن البصري: «دينكم»، وكل ذلك يلتقي وهو اختلاف تنوع، تأكيد باللام وقد- تأكيد للخبر، وأسلوب الجمع يدل على العظمة، كتابًا نكرة فيها إشارة للتعظيم، فالقرآن شرف لنا إذا عبدنا الله -سبحانه وتعالى- به، وتمسكنا به فهو طريق الرقي الصحيح والحضارة الصحيحة وذكر القرآن هنا إشارة إلى أن القرآن يغني عن طلب الآيات فهو معجزة الله البالغة الباقية على مدى الزمان، والله تعالى أعلم.
(11/28)
---(5/380)
نعم، هي إجابة فيها اختصار إلى حد ما، يمكن طلبنا الاختصار في السؤال، لكن كان يمكن الاختصار بأحسن من ذلك، أن نذكر عناصر، عناصر كل عنصر يُشير إلى جانب من جوانب الشرف، فمثلاً كان يمكن أن يقال: إن القرآن الكريم شرف للأمة لمن قرأه، فقارئ القرآن وتاليه يَشْرُف بذلك، حافظه يَشْرُف أكثر، العامل به يَشْرُف أكثر وأكثر وأكثر، من اتخذ منهج حياته من القرآن شَرُف بهذا، وكما قيل عن بلاد لا تؤمن بالقرآن: رأيت هناك إسلامًا ولم أجد مسلمين؛ لأنهم اتخذوا من حياة المسلمين الأوائل ومن نظام القرآن في حياتهم، اتخذوا نظام حياة، وطبقوه في حياتهم فظهرت حياتهم بصورة جميلة نظيفة رتيبة وهكذا, والمسلمون الحقيقيون لم يأخذوا القرآن إلا قراءة على الأموات أو بركة أو جلبًا للأرزاق أو شفاءً من الأمراض أو ما إلى ذلك لكن كتطبيق في نظام الحياة، يعني معظمهم بعيد عن ذلك بعدًا بعيدًا، نسأل الله –تعالى- أن يعفو عنا جميعًا، لذلك ساءت حياتنا الدنيا وحسنت فقط مظاهر حياتهم الدنيا، فمن أخذ القرآن كنظام حياة، فإنه يرقى بذلك ويتقدم ويتحضر فعلاً. القرآن شرف لمن استشفى به، وقرأه على سبيل الاستشفاء، القرآن شرف لمن استرزق الله به أو سأل الله به أي سؤال وأي حاجة الله –تعالى- يقضيها له، وهكذا القرآن شرف في كل مجال- نسأل الله أن يشرفنا بالقرآن الكريم- ونشكر إخواننا وأخواتنا المشاركين بإجابة الأسئلة جزاكم الله خيرًا.
(11/29)
---(5/381)
الأخ الكريم من السعودية يقول: في الدرس الماضي التبس واستشكل علي أمر وهو الحديث الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله تعالى-: (أن عامر بن ربيعة -رضي الله عنه- أنه نزل عليه رجل من العرب، فأكرمه وكَلَّم فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فجاءه الرجل مرة أخرى بعد أن دخل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني استقطعت واديًا من العرب أو في العرب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فوهب له الرسول -صلى الله عليه وسلم- واديًا وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك، فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعة، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا، ?اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ? [الأنبياء: 1])، فهذا الحديث يظهر لي- والله أعلم- أنه في المدينة؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما كان ليقطع لأحد في مكة شيئًا بينما عرفنا أن هذه السورة مكية فما هو توجيهكم حفظكم الله؟ مثل هذه الأحداث ممكن تكون حينما بلغته السورة أو حينما قرأ السورة والتفت إلى ما فيها إلى معناها أو أنه متأثر من يوم أن نزلت ولا يزال الأثر باقيًا فما كان الصحابة مثلنا يتأثرون بالشيء حينما ينزل وينسونه بعد ذلك، إنما كانوا يتذكرون القرآن دائمًا فربما أن يكون عامر بن ربيعة هذا، رجلاً أنصاريًا بلغته الصورة متأخرًا أو أسلم متأخرًا فحينما عرف أن سورة الأنبياء وفيها كذا ?اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ?، حينما عرف هذه السورة بدأ يزهد في الدنيا وربما كان يقرأ السورة ويعرفها من قبل ذلك، ولكن لم يلتفت إلى هذه الالتفاتة وإلى هذا المعنى إلا متأخرًا كما ذُكر عن عمر -رضوان الله تعالى عليه- أنه حينما مات النبي -عليه الصلاة والسلام- وجمع أبو بكر الناس وعمر في حالة ثائرة يقول: من قال: إن محمدًا قد مات قطعت عنقه، فسكت ليسمع أبا بكر وقرأ أبو بكر على الناس قول الله –تعالى-: ?وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن(5/382)
(11/30)
---
قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ? [آل عمران: 144]، قال عمر: وكأني لم أسمع هذه الآية إلا ساعتها، هو يسمعها كثيرًا ويعرفها ولكن لم يرتبط معناها بما في ذهنه إلا ساعة قرأها أبو بكر بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا والله أعلم.
الأخ الكريم من مصر يقول: هل اللعب مذموم دائمًا؟ وماذا عن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (بكرًا تلاعبها وتلاعبك)؟
(11/31)
---(5/383)
هذه من الملاعبة الحلال، لكن ليس ألاعبها وتلاعبني أن نلعب كوتشينة أو نلعب طاولة أو ضومنة [دومينو] أو شيء من هذا لكن لعب الزوجة مع الزوج، لعب فيه مرح، نوع من أنواع المرح وإدخال السرور على الأهل، (رسولنا -عليه الصلاة والسلام- كان عائدًا من غزوٍ ومعه في صحبته السيدة عائشة- رضي الله عنها- كما كانت تصحبه في بعض الأسفار، فتأخر بها عن القوم، ترك القوم والجيش ينصرفون إلى الأمام وهو تأخر بعائشة، وقال: سابقيني يا عائشة، تسابقه في الجري، فسابقها فسبقها، فكأنها حزنت تريد أن تسبق أيضًا تأخذ ما تسمى بالفورة أو ما إلى ذلك، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- سابقها مرة أخرى وتباطأ في جريه حتى تسبق هي، ملاعبة، هكذا فسبقت فقال: سبقتك يا رسول الله، فقال: هذه بتلك) واحدة بواحدة، وهكذا يعني هذا من النوع المباح، لكن أن تكون حياة الإنسان لعبًا، أن تكون وظيفة لاعبًا أن يكون جمع رزقه من لعب، فهذا هو المذموم، أن يلهينا اللعب عن أداء الواجبات وترك الأمور المهمات، أو أن يوقعنا في شحناء، وبغضاء، وما إلى ذلك، فهذا ممنوع، هذا ممنوع، إنما ينبغي على الإنسان أن تكون حياته جادة إلى حد بعيد مع عدم حرمان نفسه من هذه اللحظات المباحة من اللعب، وهذه الصور المباحة من اللعب، (لعب الأحباش في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعبة معينة كانوا يعملونها ويعرفونها في يوم عيد، ووقف النبي -عليه الصلاة والسلام- يستر عائشة وراءه لتشاهد هذه اللعبة) لا حرج في هذا مرة موقف لكن أن يكون اليوم والليلة أن يكون الأربع والعشرين ساعة، أن يكون العمر كُله لعبًا فهذا هو الذي ذمه الإسلام؛ لأن عمر الإنسان غالٍ وهدية عظيمة وينبغي أن يستغلها فيما ينفعه في الدار الآخرة وفي الدار الدنيا كذلك بما يعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع الصالح، لكن من لعب يقوي جسمه، وربما أخذ مالاً لنفسه، لكن ماذا أفاد المجتمع؟ ما أفاد المجتمع في كثير بخلاف من سبح الله وذكر(5/384)
(11/32)
---
الله ربما كان تسبيحه هذا رفعًا لنقمة تنزل على المجتمع كله، أو جلبًا لخير يفيد المجتمع كله، هكذا كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- للرجل الذي يعمل وينفع على أخيه، الذي يصاحب النبي -عليه الصلاة والسلام- دائمًا في مجالسه وهكذا، قال لهذا الرجل العامل الذي يشتكي قال: (لعلك ترزق به) أي: لعلك ترزق بعبادة أخيك لله- هذا والله أعلم.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟ حول هذه المحاضرة ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: ما معنى: ?لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ? [الأنبياء: 13]، وما الغرض منها؟ المعنى: يعني المعنى العام، لكن الغرض أي: هدف الآية؟ المعنى المراد؟
السؤال الثاني: ما معنى هذه الكلمات: ?قَصَمْنَ?، ?يَرْكُضُونَ?، ?حَصِيد? ?يَدْمَغُهُ?، ?يَسْتَحْسِرُونَ?؟
السؤال الثالث: ما المراد بذكر التسبيح الدائم للملائكة؟
والله المستعان يوفقكم لما فيه الخير وإيانا والمسلمين أجمعين.
(11/33)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (12) الأنبياء (الآيات 21-34)
المحاضرة الثانية عشرة
تذكير بوحدانية الله تبارك وتعالى
[الأنبياء: 21: 34]
بسم الله, والحمد لله, والصلاة والسلام على نبينا رسول الله- محمدٍ بن عبد الله- وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه وبعد.
فهذه حلقتنا التي نتناول فيها بعض آيات من سورة الأنبياء مواصلين الحديث عن هذه السورة المباركة، وهي آيات تبدأ من الآية الواحدة والعشرين وحتى الآية الرابعة والثلاثين وعنوانها: تذكير بوحدانية الله -تبارك وتعالى- نتناول هذا الموضوع - بعون الله تعالى وتوفيقه - من خلال عناصر أربعة:
أولها: من أدلة التوحيد.(5/385)
العنصر الثاني: توحيد الله ثابت في كل الشرائع السماوية.
العنصر الثالث: جناية البشر على التوحيد ودفعها.
العنصر الرابع: من مظاهر التوحيد في الكون.
وقبل تفصيل القول في ذلك نستمع إلى الآيات المباركات من أخينا الكريم فليتفضل مشكوراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(12/1)
---
? أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ?21? لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ?22? لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ?23? أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ?24? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ?25? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ?26? لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ?27? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ?28? وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ?29? أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ?30? وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ?31? وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ?32? وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(5/386)
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ?33?? [الأنبياء: 21- 33].
(12/2)
---
سبحان ربنا العظيم، في هذه الآيات المباركات تقرير لوحدانية الله –تعالى- من عدة جهات لعل أولئك الذين كفروا بالله ولم يوحدوه يلتقطون من هذه الآيات عبرة لهم ولعلهم يعلمون من خلالها بعد جهلهم, ويوحدون الله –تعالى- بعد شركهم، سمعها من سمعها فآمن من آمن وكفر من كفر، وتبقى الآيات خالدة إلى يوم القيامة تحمل تلك الحجة وتقدم تلك العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، حيث إن توحيد الله –تعالى- حق لا مرية فيه، ولا يعمى عنه إلا من أصيب في بصيرته بالعمى، وإن كان يبصر بعين، فقلبه أصيب بالعمى فلا يرى أثر التوحيد ولا مظهر التوحيد في كون الله ولا في آيات الله الشرعية- نعوذ بالله من العمى ونسأله الثبات على الهداية حتى نلقاه وهو راضٍ عنا غير غضبان.
من أدلة التوحيد:
بدايةً وأول عنصر في تقرير توحيد الله –تعالى- من خلال هذه الآيات هو: من أدلة التوحيد.
أدلة التوحيد كثيرة على حد قول القائل:
وفي كل شيء له آية*** تدل على أنه الواحد
(12/3)
---(5/387)
-سبحانه وتعالى- في كل شيء مما خلق الله في الدنيا, في الكون غير الآيات الشرعية كالقرآن الكريم والأحاديث النبوية والقدسية هذه النصوص الشرعية أيضًا تحمل أدلة واضحة جلية على أن الله واحد لا شريك له ولا يصلح أن يكون لهذا الكون ولا لهذا الخلق أكثر من إله، فيقول ربنا -سبحانه وتعالى-: ?أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ? يعني: بل اتخذوا آلهة من الأرض, رغم أن الله قدَّم لهم قبل ذلك تذكرةً وبياناً وذكَّرهم وعلَّمهم فما كان منهم إلا كما جاء في قول الله –تعالى-: ?بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ? [الملك: 21]، زادوا كفراناً وزادوا عناداً، بل إنهم اتخذوا آلهةً، آلهة بعدد، ليس إلهاً واحداً وإنما آلهة بعدد من دون الله -تبارك وتعالى- وغير الله، وكان أحدهم أو بعضهم يعبد رباً واحداً في السماء، وعدداً في الأرض وإذا سئل يخبر عن هذا، فيقول: أعبد واحداً في السماء وسبعة في الأرض ستة في الأرض له أكثر من إله اتخذه من الأرض، الله –تعالى- ينكر عليهم هذا في كلمة قصيرة ?مِّنَ الأَرْضِ?، إشارة إلى أنهم أخطأوا وزلوا زلة عظيمة في اتخاذهم الآلهة من دون الله -عز وجل- كيف بإنسان ميزه الله بالعقل والفهم والفكر يترك إلهاً يناديه من أعلى يترك إلهاً صفته العلو فوق خلقه جميعًا -سبحانه وتعالى- لا يعلو فوقه شيء ليعبد إلهاً اتخذه من الأرض؟ وليس إلهاً واحداً بل هم آلهة. الله –تعالى- نادى على عباده بشرائعه عن طريق رسله -عليهم الصلاة والسلام- ليعبدوه وحده لا شريك له، ليرقى بهم بهذه العبادة، وليسموَ بهم بهذه الشريعة وليرفعهم من الأرض والطين إلى سمو السماوات وإلى رفعة الأخلاق، وإلى علو الفضيلة فيكونون في أعالي الجنة يوم القيامة، ولكن كثيرين من الناس يخلدون إلى الأرض ويتشبثون بهذا التراب، ولا ينفكون عنه، مهما كانت التضحية وإن خسروا في ذلك إنسانيتهم وآدميتهم، وربنا ذكر لنا فقال: ?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي(5/388)
(12/4)
---
آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ ?175? وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ?176?? [الأعراف: 175، 176]، هذا مثل سيء جدًا يُضرب لمن ترك عبادة الله وحده لا شريك له ليعبد غيره من آلهة اتخذها من الأرض، فهذه سقطة كبيرة لذلك الإنسان الذي يدعي الفهم والفكر والعقل، ولكنه في هذه الحالة، لا يعقل، ?أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ? بدلاً من الإلة الذي هو في السماء -سبحانه وتعالى- فهذه مفارقة عجيبة، ثم يتبع الكلام بقوله: ?يُنشِرُونَ?، وهذا من باب الاختصار والإيجاز، في هذه الآية الواحدة أخبر الله عن جريمتهم وسفَّه آلهتهم وأنها لا تصلح أن تكون آلهة؛ لأنهم يعبدون آلهة اتخذوها من الأرض من تحت أقدامهم، فكيف يسجد الإنسان العاقل لإله أخذه من تحت قدمه؟ بينما الإله الحق فوق رأسه في العلو هناك بغير وصف بجهة -سبحانه وتعالى.
(12/5)
---(5/389)
ثم أعطى حجة أيضًا تدل على أن هذه الأصنام ليست آلهة وهذه التي اتخذها الناس من دون الله ليست آلهة، ?أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ? يعني: أهم ينشرون؟ هذه الأحجار وأولئك البشر الذين عبدوا من دون الله هل يستطيع أحدهم أو يستطيعون جميعاً أن ينشروا الناس بعد موتهم، يعني: يحيوهم بعد أن ماتوا؟ من ذا الذي يملك الإحياء بعد الموت؟ لا أحد، هذه هي الحجة التي احتج بها إبراهيم -عليه السلام- على النمروذ -عليه اللعنة- حين حاجه في ربه: ?قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ? [البقرة: 258]، لم يفهمها النمروذ ولم يعها وعياً صحيحاً إنما فهمهاً خطأً أو عاند في فهمها. أما أصل الحجة أن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- يحيي ويميت أي يحيي من كان ميتاً وصار ميتاً تملك منه الموت، وحوله أسباب الموت، ولا يتوقع فيه الحياة، الله يحييه، فالرجل الذي قتل في بني إسرائيل بعثه الله، وتكلم ونطق بما نطق به، ثم أعاده الله ميتاً مرة أخرى، فهو إحياء بعد إماته محققة، ويميت ذلك الحي الذي يتمتع بحياته وتحتف من حوله أسباب الحياة، أسباب متوافرة توفر له الحياة حسب المنطق المادي ومع ذلك يسلب الله منه نعمة الحياة فيصير ميتاً، هذا السر العجيب لا يملكه إلا الله -عز وجل- فهل الآلهة التي اتخذها الناس من الأرض هل تنشر الموتى بعد موتهم؟ طبعًا الإجابة: لا، سؤال قصد به النفي، ?أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ? يعني: هم لا ينشرون, هو سؤال مقصود به النفي أي: هم لا ينشرون، ثم صاغ الله -تعالى- في آية وقدّم في آية دليلاً عقلياً يقره كل عقل، وكل حس على أن الإله لابد أن يكون واحدًا ولا يصلح أن يكون الإله أكثر من واحد، وذلك في قوله: ?لَوْ كَانَ فِيهِمَ? أي: في السماوات والأرض ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَ? كيف تفسدان السماوات والأرض بوجود أكثر من إله؟ في آية أخرى يقول(5/390)
(12/6)
---
الله -تعالى-: ?مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذ? أي: لو كان معه إله أو له ولد إذن: ? إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ? [المؤمنون: 91]، ذهب أي راح يفخر بخلقه عن خلق غيره من الآلهة، وأنا أحسن منك، وأنت تقول: أنا أحسن منك، وهذا يقول: أنا أحسن من الجميع، كما جاء في آية أخرى: ?إِذاً لاَّبْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيل? [الإسراء: 42]، كل إله يريد أن يصل إلى العرش المهيمن على الجميع لتكون القيادة له ولتكون السيادة بين يديه، وهذا من شأنه أن يحدث في الكون ارتجاجاً واضطراباً وعدم اتزان أن يحدث في حركة الأْفلاك التي نعيش فيها وبينها خلالاً وعدم انتظام فكنا كخلق سنشعر بهذا، ما كنا نجد هذه الرتابة المنتظمة بين ليل ونهار وشمس وقمر، ?لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ?40?? [يس: 40]، لو أن هناك آلهة غير الله في هذا الكون ما كنت تجد هذا الانتظام العجيب في حركة الكون والأفلاك، وانتظامها دليل على وحدانية الإله، أنه ليس معه من ينازعه؛ لأن من شأن الشركاء أن يتنازعوا، وأن يتخاصموا، وأن يبغي بعضهم على بعض، فطالما لم يحدث أثر هذا التخاصم وذلك التنازع، إذن: ليس هناك من ينازع ولا من يخاصم، ولا من يصل إلى ذلك أصلاً، فلا إله إلا الله، ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَ? هذه آية في القرآن أي دليل شرعي ولكنه يطوي في داخله دليلاً عقليلاً بالعقل، أي عاقل يفكر فعلاً أن أية قيادة يتملكها اثنان ويتنازعها اثنان لابد أن يحدث فيها من خلل، لو أن السيارة قادها اثنان مرة واحدة ودفعة واحدة تختل حركتها هذا يريد أن يدخل يميناً وذاك يريد أن يدخل يساراً، هذا يريد أن يمضي ويتحرك وهذا يريد أن يقف لأمر ما، كل له رؤية وكل له غرض وكل له هدف يريد أن يصل إليه، فلابد(5/391)
أن يحصل
(12/7)
---
تنازع، لكن سائق أو قائد ومساعد المساعد يتدخل عند اللزوم، أي هيئة من الهيئات لابد أن يكون لها قائد مدير واحد، الدولة لابد أن يكون لها رئيس أو ملك واحد هو الذي يستقل بالأمر له نواب يعاونونه، وأعوان يساعدونه وبطانة من المفروض أن تعينه على الخير وتدله عليه ولكن القرار في النهاية لواحد، هذا من شؤوننا في الحياة مما يثبت لدى العقلاء ولدى أهل الحس وجوب أن يكون لهذا الكون إله واحد لا شريك له، ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ?- فسبحان الله- يعني: تنزه الله وتعالى وتقدس عما يصفونه به من الشريك والولد، فالله أعظم من ذلك، الله أكبر من أن يتخذ ولداً أو يتخذ شريكاً: ?وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِير? [الإسراء: 111]، دليل آخر أن الله -تعالى- ليس فوقه شيء، بينما كل من اتخذه الناس آلهة فوقهم أشياء، أعلى من ظن الناس فيهم الألوهية، العُزَيرُ وعيسى، ظنوا فيهما الألوهية، وذكر الله لنا في القرآن- وعيسى آية من آيات الله- وكأنه أعجب من العزير؛ لأنه خلق من غير أب، فالشبهة فيه- أن يكون ولداً للإله- أقوى من الشبهة في العزير، فالعزير له أب، أما عيسى فلا أب له، فالشبهة فيه أقوى، فذكر الله لنا في القرآن أن عيسى يقف مسؤولاً بين يدي الله -عز وجل- ولو كان إلهاً لما سئل فالإله ينبغي أن يكون هو أعلى شيء، فلا فوقه أحد ولا شيء يسائله أو يحاسبه، ولو كان هناك من يحاسبه ويسائله فذلك المحاسب والمسائل أولى بالعبادة من المسؤول، فعلى الناس أن يعبدوا من يسأل ولا يُسأل، قال الله -تعالى- في القرآن: ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ(5/392)
مِن دُونِ اللَّهِ
(12/8)
---
قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ? [المائدة: 116]، فطالما سيقف مسؤولاً وذكر بعض المفسرين أن عيسى -عليه السلام- حينما يوجه إليه هذا السؤال يوم القيامة، يُسمع لعظمه صوت، من شدة السؤال ووقعه عليه، يسمع لعظْمه صوت، كما يقال: فلان عظمه يطقطق، أو يطأطئ، ذلك من شدة الهول الذي واجهه، فسيسأل إذن: ليس إلهاً والذي سأله ويسأله ويحاسبه أولى بالألوهية منه، فهو الإله الواحد -سبحانه وتعالى- فما بالك بفرعون؟ مسؤول ما بالك بالنمروذ؟ مسؤول ما بالك بالأصنام والأحجار؟ كل ذلك موقوف بين يدي الله -عز وجل- ومسؤول بل ربما كان مسؤولاً من بعض الخلق في الدنيا كفرعون قد يسأله شعبه ويسأله وزراؤه وهكذا يحاسبه بعض الناس، قبل أن يحاسبه رب الناس -سبحانه وتعالى- أما الله -عز وجل- فإنه لا ?لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ?، طالما لا يسأل يعني: ليس فوقه من يملك عليه سؤالاً يحاسبه به، وهذا من أعظم أوصاف الألوهية، هذا فيه إشارة إلى علو الله- تعالى- فوق الكل فلا فوقه شيء -سبحانه وتعالى- بينما كل من اتخذه الناس آلهة من دون الله فإنهم يسألون يوجه إليهم السؤال ويوقع عليهم الحساب وبالتالي فلهم ثواب وعليهم عقاب، إذن: ليس بإله طالما يقع عليه العقاب ويوجه إليه الثواب فليس بإله؛ لأنه محاسب، ?لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ?، ليست هذه كل أدلة التوحيد التي يستدل الإنسان بها، لكن في هذا المقام قدم الله هذه الأدلة وخاصة ذلك الدليل العقلي البسيط الذي يقع عليه كل حس وإن لم يعقل، طالما نشعر بانتظام الأمر إذن: ليس هناك من ينازع فيه، ويصعب الاتفاق بين أكثر من واحد قال الله تعالى: ?وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي(5/393)
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ
(12/9)
---
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ? [ص: 24]، يعني: الشأن العام والأصل في الشركاء أنهم يتخاصمون ويتنازعون ولذلك قال الرجل الذي يملك التسع والتسعين نعجة، قال لصاحب النعجة الواحدة أكفلنيها وعزه في الخطاب، يعني غلبه في الخطاب، وفي الكلام طمع في نعجة صاحبه مع أنه يملك تسعة وتسعين نعجة، فشأن الخلطاء في أمر من الأمور والشركاء فيه أن يتنازعوا وأن يتخاصموا ويترتب على ذلك ظهور الخلل والفساد، ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ?22? لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ?23? ?.
ثم تنتقل الآيات إلى تقديم حقيقة واقعة في الدنيا, هي تصلح أيضًا أن تكون دليلاً على التوحيد أو قرينة تساعد على الإقرار به، مضمونها: أن التوحيد ليس بدعاً في هذه الشريعة من القول، أو من الأمر أو من التشريع، إنما هو أمر قديم أنزله الله -تعالى- مع كل الرسل وفي كل الشرائع, بنى الله عليه الدين كله من أول الدنيا إلى الآخرة، الكل جاءوا يقولون لا إله إلا الله، من لدن نوح -عليه السلام- يقول لقومه قولوا لا إله إلا الله نوح رسول الله إلى خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول لأمته قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاشتركت الأمم جميعاً في أنها مكلفة بقول: لا إله إلا الله وتقر برسالة رسولها، وبنبوة نبيها الذي بعثه الله -تعالى- إليها.
(12/10)
---(5/394)
فيقول الله -عز وجل-: ?أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً? أي: بل اتخذوا من دونه آلهة ولكن خبر فيه إنكار عليهم يعني: كيف يتخذون آلهة من دون الله؟ هل عندهم حجة بهذا؟ هل عندهم دليل؟ أم أنهم يقولون قولاً عارياً عن الدليل والحجة والبيان، وهذا هو الواقع، لا دليل معهم، ?قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ? قل لهم يا نبي الله: هاتوا برهانكم قدموا دليلكم على أن هُبَلَ إله وعلى أن اللات َإله وعلى أن العزى إله وفرعون والنمروذ وغيرهم، دللوا على ألوهيتهم، والتدليل لا يكون من الهوى، ولا من الرأس هكذا، إنما لابد أن يكون مستنَداً شرعياً.
(12/11)
---(5/395)
جاءت رسالات كثيرة سابقة على الإسلام، ونزلت كتب عديدة قبل القرآن وجاء في الدنيا رسل وأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هل من أحد من هؤلاء أخبر عن إله غير الإله الذي أخبر عنه محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم؟ أبداً هو هو, هل جاء رسول من قبل ذلك بكتاب فيه أن الآلهة أكثر من إله؟ أبداً ما حصل هذا، إنما الكل جاؤوا يقولوا كل واحد منهم لقومه: ?يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ? [الأعراف: 59]، ولهذا يقول الله -تعالى-: ?قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ? ثم قدِّمْ أنت حجتك يا محمد. ?هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي? هذا القرآن, هذا التشريع هذا الوحي، فيه ذكر من معي من أمتي ذكر هذه الشريعة الخاتمة، وذكر من كان من قبلي من الأنبياء بكتبهم بشرائعهم، فالقرآن الكريم هو شاهد الحق والصدق الوحيد للشرائع السابقة، ولأنبيائها ولكتبها، ?لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ? [فصلت: 42]، ولولا التصديق بالقرآن فلا تجد دليلاً يثبت أن الله أنزل إنجيلاً ولا توراةً ولا شيئًا. القرآن هو دليل الصدق الناطق بالكتب النازلة قبل ذلك وبالرسل المبعوثين قبل ذلك وبدونه فهي مجرد أخبار متناثرة يتناقلها الناس، أما القرآن فهو يحوي الخبر، وهو في ذاته معجزة، لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ?88?? [الإسراء: 88]، ففيه الخبر وفيه الحجة على ذلك، ?هَذَ? أي: القرآن ?ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي ?، وليس فيه أن قوم نوح الذين آمنوا أو أن المؤمنين مع أي نبي من الأنبياء ولا كتب من الكتب المنزلة ولا رسول من السابقين قال بإله غير الله ولا بإله مع الله ما من أحد قال هذا، فلا حجة(5/396)
(12/12)
---
للكافرين على قولهم، كما قال ربنا: ?وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ? داحضة: يعني مردودة وباطلة ?وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ? [الشورى: 16].
?قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ? ? بَلْ أَكْثَرُهُمْ ?: أكثر هؤلاء الكافرين ?لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ ?، لا يعرفونه، إنما يجهلون به، وبالتالي فهم معرضون عنه، والإنسان بطبعه- كما وصف- عدو ما يجهل، الإنسان عدو ما يجهل، هكذا قيل عنه، والله- تعالى- قال في القرآن مصداقاً لذلك، ?بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ? [يونس: 39]، وقديماً سمع كثير من الصحابة -رضي الله عنهم- وكانوا يومها مشركين، سمعوا وهم مشركون عن القرآن، أن هذا النبي الجديد -صلى الله عليه وسلم- جاء بشيء اسمه القرآن يقرؤه وفيه كذا وفيه كذا وهذا كله لم يؤثر فيه بالإيمان حتى إذا سمع القرآن بأذنه واستشعره بقلبه آمن به، على الفور، ذلك لأنه قبل ذلك كان لا يعلمه، ولما سمعه أو قرأه في صحيفة فقد علم به، وعرفه وأحس بما فيه من إعجاز فآمن بالله -عز وجل- وبكتابه ?بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ? [يونس: 39].
(12/13)
---(5/397)
? بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ? وفي هذه الآية لفتات جميلة، أذكر منها قول الله -تبارك وتعالى-: ?قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ? كلمة" قل" في القرآن دليل على أنه من عند الله، فلا يجوز حذفها كما طالب البعض بذلك، قائلاً: الله قال لمحمد: قل، -صلى الله عليه وسلم- فقال، إذن: لا داعي لكلمة قل، يذكر القول فقط، هذا في كلامنا نحن، أقول لك: قل لفلان كذا، فتذهب لفلان وتبلغه القول دون أن تقول: قل، فتحذف كلمة قل عند تبليغ الكلام عادة لكن في القرآن لابد أن تثبت لأنها كلمة من كلمات الله، فهي دليل على أن القرآن من عند غير رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وليس كلامه هو، فلا يعقل أن يقول لنفسه: قل، وهذا الغير من هو؟ لم تسمع الدنيا عن أحد ادعى أن هذا القرآن كلامه ونسبه إلى نفسه غير الله -تبارك وتعالى- الله هو الذي أعلن مسؤوليته عن إنزال القرآن وأنه كلامه وأنه أحسن الحديث وأنه حكيم وأنه ذِكر وأنه وأنه، إلى آخر ما وصف الله به القرآن العظيم، إذن: فلا منازع في القرآن ومن ذا الذي يستطيع أن ينازع؟ فالقرآن كلام الله ليس من عند رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ولا كلام جبريل ولا كلام بحيرا الراهب كما يدعي بعض المغرضين، ولا أحد من الخلق، وأين بحيرا؟ وكيف لا يدعي أن هذا كتابه؟ وهو كتاب قد بلغ الآفاق، وساد الدنيا يوماً من الأيام، أين بحيرا؟ وأين أولاده وحفدته؟ أين أصحاب الميراث؟ لماذا لم يطالبوا بميراثهم من جدهم بحيرا الراهب؟ مع أن القرآن لغته تخالف لغة بحيرا قال- تعالى-: ?لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ? [النحل: 103]، فهذا يخالف هذا، وما كان لأعجمي أن يقول مثل هذا القرآن؛ لأن العرب أنفسهم عجزوا عن مثله، فكلمة قل، تحمل دليلاً على أن القرآن ليس افتراءً من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل إنه كلام الله رب العالمين -سبحانه(5/398)
(12/14)
---
وتعالى- ثم إنها تحمل معنى الاستهانة بالمخاطب، المتحدَّث عنهم والمقصود بهم هنا هم الكفار، فالله- تعالى- لم يقل: أم اتخذوا من دونه ألهة فليأتوا أو فأتوا ببرهانكم، إنما قال: ?قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ? أمر الناس أن يبلغهم ذلك، ?قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ? هاتوا يعني فأتوا أو أعطونا ?هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ?، وكأنه -سبحانه وتعالى- يريد أن يخبر بأن هؤلاء الكافرين ليسوا أهلاً لشرف الخطاب الإلهي لأن يكلمهم الله وذكر في العقوبة في القرآن وفي السنة أن أقواماً لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة فعدم تكليم الله لقوم في خطاب عادي وبكلام رحمة هذا يدل على الاستهانة بهم والعقوبة لهم، ?قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ? [المؤمنون: 108]، وأحدنا يعرض عن بعض أولاده أو بعض تلاميذه فلا يكلمه كلاماً مباشراً وإن كان ولابد فإنه يكلم صاحبه أو أخاه: يا فلان قل لفلان، وهو بجواره موجود وحاضر، ولكن لا يوجه إليه الخطاب، إنما يوجهه إلى من بجواره، يا فلان قل لفلان: إنني أأمره أن يفعل كذا وكذا، فهذا فيه استهانة بمن حقه الخطاب في الكلام، فالله- تعالى- يعرض عنهم كما أنهم أعرضوا عن شريعته -سبحانه وتعالى- ?قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ? أكثرهم، ولم يقل: بل هم لا يعلمون الحق, بل إنهم لا يعلمون الحق، بل أكثرهم، ذلك ليفيد المؤرخين الذين يسجلون الوقائع والأحداث ويسجلون أوصاف الناس والأمم، ويثبتون تآريخهم وواقعهم، لا ينبغي أن نسحب الحكم على الكل بدون قرينة، فلو كانت جريمة في قوم، فينبغي ألا تنسب إلا إلى أصحاب الجريمة الذين ارتكبوها لو كان هناك عيب ينبغي أن يقتصر العيب على المعيب، ومن كان صاحب فضل فلابد أن يذكر بفضله، فلا نعمم العقاب, ولا نذكر من لا يستحق العقاب، هذا تعميم خطأ، فالله- تعالى- يقول: ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ(5/399)
يَعْلَمُونَ الحَقَّ?
(12/15)
---
وفيها إشارة من ناحية المفهوم، أي: بعضهم كانوا يعلمون الحق، وهذا صحيح، بعضهم يعلمون الحق وبعضهم لم يكونوا معرضين، بعضهم كان يسلم يوماً بعد يوم، وهذا كثير في القرآن الكريم كما قال الله -تعالى- عن المنافقين في سورة الحجرات: ?إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ?4?? [الحجرات: 4]، كأنه كان منهم من يعقل، ولعله نصحهم قبل أن ينادوا على النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال لهم: لا ينبغي هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابد أن نقدر وقته ونقدر راحته ولابد أن ننتظره حتى يخرج إليها دون أن نزعجه أو كذا، نصحهم في ذلك فلم يستجيبوا له، فلما نسب الله الخطأ نسبه إلى الأكثرية، واستبقى بمعنى ذلك ومفهومه استبقى بقية كأنهم أصحاب عقل وأصحاب فهم.
(12/16)
---(5/400)
? بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ?24? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ?25?? وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً أي: ما أرسلنا رسولاً من قبلك ولا أحداً من قبلك إلا رجالاً، وسبق أن ذكرنا هذا الأمر ونذكر به اليوم، أن الرسل جميعاً كانوا من الرجال اتفاقاً بين العلماء أما النبوة وهي وحي بدون رسالة مستقلة، هذه مختلف في شأن مريم فقط، ربما كانت نبية ولكن الصحيح الراجح أنه لا رسول ولا نبي من النساء ولا من الجن, كلهم رجال ذكور من الإنس، الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ? [النحل: 43]، فاقتران كلمة الرجال مع كلمة الرسالة ?أَرْسَلْنَ? دل هذا يقيناً وقطعاً على أنه ما كان أحد من الرسل من النساء ودل ضمناً على أنه ما كان أحد من النساء نبياً إنما كلهم كانوا من الرجال الذكور، وكلهم كان الله -تعالى- يوحي إليهم، ?نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ? إذن: الإله المعبود من المؤمنين مع آدم ومع نوح ومع إبراهيم ومع من بعدهم هو الإله الذي كلفنا بالإيمان في زماننا وأنزل إلينا القرآن لم يتغير ولم يتعدد -سبحانه وتعالى- فهو إله واحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد وهكذا يخبر الله -تعالى- عمن كانوا قبلنا وما أنزل إليهم أنهم جميعاً كان يوحى إليهم من الأمر مثل ما أوحي إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ?أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ?، وسبق معنا في سورة طه أن نادى الله موسى -عليه السلام- قائلاً: ?إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ?14?? [طه: 14]، فتوحيد الله -تعالى- نستطيع أن نقول: إنه أساس التشريعات كلها، وأساس الشرائع كلها(5/401)
(12/17)
---
التي أنزلها الله من السماء، والتشريع لا ينبغي أن يكون من الأرض إنما ينبغي أن يكون من السماء والدين لا ينبت من الأرض إنما ينزل من السماء، هذا شأن النور، فنور الدنيا من السماء، شمساً وقمراً ونجوماً وكذلك نور الهداية، بالشرائع والكتب المنزلة ينبغي أن تكون من السماء وليست من نتاج الأرض ونباتها.
مع هذا البيان العظيم والبيان العقلي البسيط الذي يشعر به كل ذي حس ويفهمه كل ذي عقل، إلا أن البشر كانت لهم جناية عظيمة على توحيد الله -تبارك وتعالى- وذلك جناب عظيم جناب الله وتوحيده، لا ينبغي أبداً أن يقترب منه فهو أعظم حق لله على العبيد، ومسألة مفهومة واضحة كما رأينا وهذه سورة من السور، وهذا بيان من البيانات القرآنية عن التوحيد ورغم ذلك بعض الناس بل كثير منهم جنوا على التوحيد جناية عظيمة، ومنها:
(12/18)
---(5/402)
- أنهم نسبوا لله الولد، ?وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ?، وهذا هو العنصر الثالث: ?وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ?، الولد يشمل الذكر والأنثى، هو كل مولود، اليهود قالوا: العزير ابن الله، النصارى قالوا: المسيح ابن الله، كفار مكة وربما من كان قبلهم أيضًا من بعض الكافرين في الأمم قالوا: الملائكة بنات الله، هكذا قالوا، وضلوا في ذلك ضلالاً بعيداً، هم كانوا يكرهون البنات ويحبون البنين ولما نسبوا للإله العظيم ولداً، كان ينبغي أن ينسبوا إليه- رغم الخطأ- أن ينسبوا إليه الجانب الأقوى, إله، فلو اتخذ ولداً لاتخذ ولداً قوياً، وهو الذكر لكن أن يتخذ بنتاً كما قال الله -تعالى-: ?أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ? [الزخرف: 18]، يعني: حينما نسبتم لي الولد نسبتم البنت التي تنشأ في الحلية والنعومة والرقة والليونة والحرير وما إلى ذلك والحلي مما لا يكسبها قوة في بدنها، إنما القوة مطلوبة في الذكر الغلام الذي يربى ليكون سنداً لقومه دفاعاً عنهم، وحصانة لهم ضد أعدائهم ورداً لكل ذي شر عن قومه وأهله وبيته وماله وما إلى ذلك، فيربى الغلام على القوة حتى إنهم كانوا يسمون أولادهم الذكور أسماءً لأعدائهم فيها قوة, يسميه أسدًا حرباً صخراً غضنفراً، وهكذا يسميه أسماء فيها قوة وفيها شدة، تخيف من يقابله ويواجهه، لكن يسمي البنت اسماً إن استبقاها حية كان يسميها اسماً فيه رقة وفيه لطف وهكذا، هذا شأن البنات فأخطأ كفار مكة خطأً مركباً نسبوا لله ولداً، ?وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَد? [مريم: 92]، ونسبوا له من الولد البنات وليس البنين وهم أضعف النوعين، مع أن الله -تعالى- غني عن كل ذلك، ?وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَد? هذه جناية كبيرة وشؤمها شؤم عظيم، يقول الله عن ذلك: ?وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ?88? لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِداًّ(5/403)
(12/19)
---
?89? تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ?90?? [مريم: 88- 90]، هذه الكلمة تكاد تكسر السماء، لو أن الله أذن للسماء أن تتحرك بنفسها، لتكسرت فوق رؤوس من قالوا ذلك ومن سمعها ولم ينكرها، ?تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ ?90? أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً ?91?? [مريم: 90، 91]، كلمة تهدم الدنيا, تخرب هذا الكون، والعالم كله لو أن الله أعطاه إشارة التحرك وأذن له أن يتحرك بنفسه، لسقطت السماوات على الأرض ولانطبقت الجبال على الأرض وتشققت الأرض وابتُلِعَ من ابتُلِع وهلك بنو آدم جميعاً، لكن الله لم يأذن لهم بهذا، لم يأذن لهذه المخلوقات أن تفعل ذلك، فهذه جناية ينبغي أن يتصدى لها ينبغي أن يتصدى لها بتعليم التوحيد ونشره وتعليمه للناس وتعويد الأطفال عليه منذ الصغر حتى ينشؤوا عالمين بحق الله -تعالى- عليهم، والكلام هنا عن كفار مكة الذين واجههم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد نسبوا لله الملائكة وجعلوهم بنات لله، وظنوا أن الملائكة تحل في الأصنام، فهم حينما يعبدون الأصنام يعبدون الملائكة الذين هم بنات الله، أوهموا أنفسهم بهذا الوهم ولبس عليهم إبليس وصدق عليهم ظنه فاتبعوه، ولهذا ينزه الله -تعالى- الملائكة عن أن تكون إلهاً أو ترضى بهذا، فيقول -سبحانه وتعالى-: ?بَلْ?، يعني: ليست الملائكة آلهة ?بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ?، الملائكة هؤلاء عباد لله كما سبق أن عرفنا في الآيات السابقة، ?فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ? [فصلت: 38]، -سبحانه وتعالى- يذكرونه دائماً، ?يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ? [الأنبياء: 20]، لا ينقطعون عن تسبيح الله -عز وجل- ويسبحون بحمده، ومنهم من هو ساجد ومنهم من هو قائم وهكذا لا ينقطعون عن عبادة الله -تبارك وتعالى- ولا يستنكفون عن ذلك، بل هم متشرفون بعبادتهم لله، فكيف(5/404)
يكونون آلهة؟
(12/20)
---
?بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ? الله -تعالى- أكرمهم وجعلهم ملأً أعلى ?لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ? كدليل على عدم ألوهيتتهم وعلى عبوديتهم لله -تبارك وتعالى- ?لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ? يعني: لا يقدمون قولهم على قول الله، كما كلفنا الله بهذا: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? [الحجرات: 1]، فلا يقال لنا: يقول الله -تعالى- كذا أو يقول رسول الله -عليه الصلاة والسلام- كذا، ونحن نقول: ولكن لنا رأي، ولكن العقل يقول كذا ولكن الحضارة ولكن العصر الحديث يقول كذا ولكن حياة الناس تغيرت فهو كذا ونغير كلام الله وأحكام الله هذا لا يجوز، ?لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ? يعني: لا يقدمون قولهم أمام قول الله -تعالى- سواء في القرآن كلاماً صريحاً أو مع النبي -عليه الصلاة والسلام- كلاماً معبراً عنه بكلام النبوة ?وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ? حتى الحركة، الحركة يتبعون الله فيها أيضًا يتبعون بأقوالهم كلام الله يقدمون كلام الله أولاً دائماً وحركاتهم في الدنيا كذلك تتبع أمر الله وإذن الله ?وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ? فلا يتحركون إلا بإذن الله ولا يفعلون إلا بإذن الله كما جاء في سورة مريم، إذ يقول الله -تعالى- على لسان جبريل والملائكة: ?وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ ?64?? [مريم: 64]، ?وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ? وكما قال- تعالى-: ?لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ? [التحريم: 6]، كذلك علومهم لا تبلغ علم الله، علوم الملائكة لا تبلغ علم الله -تعالى- في سعته وعمومه وشموله، فليسوا أهلاً للألوهية بل الله أحق بذلك،(5/405)
?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
(12/21)
---
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ? يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم يعني: وهم لا يعلمون، هم لا يعلمون ذلك بالنسبة لله -تبارك وتعالى- لكن الله يعلم كل شيء عنهم، وما بين اليد هو الأمام والخلف معروف، وهما جهتان فقط، طب واليمين والشمال فوق وتحت أيضًا معلوم ولكن لأن هاتين الجهتين هما الغالبتان فعبر بهما عن غيرهما، ?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ? يعني: يعلم كل شيء عنهم ?وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ? [البقرة: 255]، كما جاء في آية أخرى، حتى إنهم لو أرادوا أن يتشفعوا لأحد فلا يملكون الشفاعة لأنفسهم، لابد أن يقرها الله، ويرتضيها الله -سبحانه وتعالى- ?وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ? هم من خشية الله وتعظيم الله وهيبة الله مشفقون على أنفسهم الواحد منهم يخاف من الله -سبحانه وتعالى- ومر بنا قبل ذلك ونحن نتكلم عن الصور والنفخ فيه، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كيف أنعم وصاحب القرب قد التقم القرن ينتظر أن يؤمر وحنى جبهته ينتظر أن يؤمر) يعني إسرافيل -عليه السلام- أخذ وضع الاستعداد من أيام النبي -عليه الصلاة والسلام- ينتظر أمر الله -تبارك وتعالى- له بالنفخ في الصور لينفخ، وقد مضى عليه هذا الوقت الطويل وهو على وضع الاستعداد هذا يدل على أنهم يعملون بأمر الله ويلتزمون بأمر الله بل ينتظرونه ولا يتحركون إلا به، ?وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ?28? وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ?29??، ?وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ ?: أي: من الملائكة، ?إِنِّي إِلَهٌ? أي: من دون الله أو مع الله ?فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ?، وهذا لا يلزم أن يقع، هذا شرط ليس لازم الوقوع، إنما هو شرط على فرض، لو أن أحداً قال كذا(5/406)
لحصل له كذا، كما قال الله-
(12/22)
---
تعالى-: ?وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ? [الحاقة: 44]، هل نبي الله محمد -صلى الله عليه وسلم- يتوقع منه أن يفتري على الله؟! لا يمكن أبداً، وحياته الأولى أربعون عاماً قبل الإسلام لم يكذب على الخلق تدل على أنه لن يكذب على الخالق أبداً -سبحانه وتعالى- فهذا شرط لا يلزم وقوعه ولكن يقال: على فرض، ?وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ? وطالما يدخل جهنم ويوقع عليه العقاب كما قلنا إذن: سئل في عملته, في جريمته ومن يسأل فليس بإله، من يسأل بمعنى سؤال المحاسبة فليس بإله، فهؤلاء الملائكة مع علوهم ومع رفعتهم ومع قربهم من الله -تبارك وتعالى- لو على فرض المحال لو قال أحد منهم: إني إله فإن الله -تعالى- يدخله جهنم ?كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ?، أي بهذه القوة وبهذه القدرة العالية نجزي الظالمين، والظالم: هو من ارتكب خطأً والظلم هو مطلق المعصية ولكن أكبر الظلم هو الكفر والشرك بالله -سبحانه وتعالى- ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ? [لقمان: 13]، لكن أصل الظلم هو كل معصية وكل من عصى فقد ظلم، لكن الظلم المقصود هنا هو الكفر بالله -سبحانه وتعالى- ?كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ?، يعني: كذلك نجزي الكافرين المشركين أي: ندخلهم جهنم كما نتوعد بذلك كل من قال: إني إله ولو كان ملكاً من الملائكة، ولهذا يشتبه الناس بقول الله -تعالى-: ?إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ? [الأنبياء: 98]، فلما كلم النبي -عليه الصلاة والسلام- كفار مكة وسمعوا هذه الآية قالوا: إذا كان عيسى الذي عبده النصارى والعزير الذي عبده اليهود في النار، ونحن معه فلا حرج، نعم الصحبة أو نعمت الصحبة، فقال الله -تعالى-: ?وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ(5/407)
?57?? [الزخرف: 57]، يعني: قومك استغلوا هذا
(12/23)
---
المثل خطأً وفهموه خطأً، وفسروه على ما يوافق بدعتهم من الكفر- والعياذ بالله- إنما المقصود من الآية ?إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ? ممن رضي لنفسه العبادة من دون الله، الذي أقر أنه إله, رضي بهذا, فرح بها، كفرعون- عليه اللعنة- قال: ?أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى? [النازعات: 24]، قال: ?مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي? [القصص: 38]، والنمروذ كذلك وغيره كثير من الملوك قديماً كانوا يستعبدون أقوامهم ويعلنون ألوهيتهم على الناس، والناس لضعفهم وفقرهم يرتضون ذلك ويعيشون على هذا الجهل وعلى هذا الضلال، فمن يرضى أنه إله ومن يرضى بما يؤلهه الناس به، فهذا في النار- والعياذ بالله تعالى- وهذا ظالم أما من عبده الناس وهو لا يدري وهو لا يشعر ولا يرضى بهذا، كالملائكة عبدهم الكفار، كعيسى -عليه السلام- عبده النصارى، العزير عبده اليهود، هؤلاء لا يقرون لله بذلك والله ذكر الخبر في القرآن ماذا سيكون من أمر عيسى يوم القيامة: ?مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ? [المائدة: 117].
ننتهي إلى العنصر الرابع: في هذه المحاضرة، وهو مظاهر أو بعض مظاهر التوحيد في الكون:
(12/24)
---(5/408)
التوحيد كحقيقة شرعية جعل الله لها مظاهر في الكون تدل عليها، ولو أن إنساناً ولد في مكان ونشأ فيه دون أن تؤثر فيه مؤثرات خارجية من أسرة أو إعلام أو أي شيء إنما نشأ في بيئة طبعية من خلق الله لم تعبث بها يد البشر، سيقوم من طفولته لينطق ويقول: لا إله إلا الله، ويستحيل عنده في عقله، أن يكون لهذا الكون أكثر من إله، مسألة عقلية بحته بما يرى من آثار توحيد الله -تبارك وتعالى- في الكونيات ولكن كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، يقول الله –تعالى- في هذا العنصر الأخير وفي هذه الآيات التي تمثله يقول -سبحانه وتعالى-: ?أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُو? أو لم يبصروا؟ أو لم يعلموا؟ ألم يروا بأعينهم؟ ألم يروا ببصائرهم معنى هذه الكونيات التي كونها الله في الكون؟ ?أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَ? الرتق: هو الشيء الملتصق ببعضه، ويقبل الانقسام، وهو متصل ببعضه ويقبل الانفصال عن بعض، فالسماوات والأرض ?كَانَتَا رَتْق? أي: متصلتين ملتصقتين ففتقهما الله -تبارك وتعالى- ?فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ? سئل ابن عباس -رضي الله عنهما- (الليل كان قبل أو النهار؟ يعني: أيهما أسبق الليل أم النهار؟ فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أرأيتم السماوات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلا ظلمة ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار)، يعني: حينما كانت السماوات والأرض هكذا ملتصقتين فلم يكن بينهما شعاع ولا نور ولا نجوم ولا مصابيح ولا شيء، فكان بينهما ظلام، ثم فتقهما الله -تعالى- عن بعضهما، ?وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ?29?? [النازعات: 29]، إذن: كان الليل أسبق من النهار في الوجود، هكذا استدل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- بهذه الآية على أسبقية الليل على النهار، وطبعًا هذه(5/409)
(12/25)
---
الآية تعتبر فيها إعجاز علمي يعرفه أهل هذا التخصص في العلم بالكونيات، وذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن ابن أبي حاتم -رحمه الله تعالى- عن ابن عمر: (أن رجلاً أتاه فسأله عن هذه الآية معنى ?أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَ? قال ابن عمر -رضي الله عنهما- وهو من هو في الفقه والعلم قال: اذهب إلى ذلك الشيخ) يقصد ابن عباس، (اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم ارجع إلي فأخبرني ما قال لك) كانوا- رحمهم الله ورضي الله عنهم- يتورعون عن الفتيا وعن الجواب وكان عبد الله بن عمر يعجب من جرأة عبد الله بن عباس على تفسير القرآن الكريم، ولا عجب فهو حبر الأمة وترجمان القرآن وهو المدعو له: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ولكن كان ابن عمر يتعجب من ذلك ويعتبره أقوى منه في التفسير فكان يحيل عليه، فأحال السائل وقال: (ارجع لي بما قال) حتى يتعلم أدباً منه -رضي الله تعالى عنه وعنهم جميعاً- (فذهب الرجل فسأل ابن عباس -رضي الله عنهما- هذه السؤال فقال ابن عباس -رضي الله عنه-: نعم، كانت السماوات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، فلما خلق الله للأرض أهل) أي جعل فيها خلقاً ( فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات، فلما رجع الرجل إلى ابن عمر وأخبره بهذا الجواب العظيم، قال ابن عمر: الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علم)، يعني: ازداد يقينه أن ابن عباس عالم في القرآن الكريم- ما شاء الله- وفي تفسيره، الشاهد معنا من هذه القصة: أن الرجل جاء وسأل عن قوله الله- تعالى-: ?أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَ? فكان الجواب من عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وفي رواية: أقر ابن عمر على هذا الجواب ولكن أخر قوله عن قول ابن عمر وقال: بقريب من ذلك سعيد بن جبير كما ذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- «أنهما كانتا متصلتين(5/410)
اتصالاً معيناً
(12/26)
---
وبينهما ظلمة ولهذا كان الليل أسبق من النهار ثم فتقهما الله -تعالى- أي فصلهما ثم جعل في الأرض أهلاً وهم الإنس والجن، جعلهم الله خلقاً في الأرض، ففتق الله -تعالى- السماء فجعلها تمطر وتنزل ماءً وخيراً وفتق الأرض وجعلها تنبت النبات بقدرة الله -تعالى- وحكمته»، إذن: معنى الفتق، أي أنها تتفتق بنزول المطر، تلك السماء، تتفتق بنزول المطر، والأرض تتفتق بإخراج النبات هذا معنى الفتق، فليس فصلاً فقط، بل فصلاً وتصييراً إلى هذه الحالة النافعة للخلق، وذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن ابن أبي الدنيا -رحمه الله تعالى- خبراً يشير إلى ضرورة التفكر في السماوات، والله- تعالى- قال: ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ?190?? [آل عمران: 190]، دعانا كثيراً جدًا إلى النظر إلى السماء والتفكر فيها، وذكر حديث في هذه الآيات في سورة آل عمران، ذكر حديث في تفسيرها: (ويل لمن نظر ولم يعتبر، أو ولم يتفكر) أو كما قال، يعني: ينبغي على من نظر إلى السماء أن ينظر فيها متدبراً متفكراً ويرجع ببصره من السماء بآية بفكرة بمعلومة ?رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ? [آل عمران: 191]، روى ابن أبي الدنيا: «أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة- تعبد: ترهبن ثلاثين سنة وكانت عندهم الرهبانية- وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة، أظلته غمامة- كرامة من الكرامات- أظلته غمامة، فلم يرَ ذلك الرجل شيئًا مما كان يرى لغيره، لم يرَ تلك الغمامة تظلله، الكرامة لم تتحقق فشكا ذلك إلى أمه فقالت له: يا بني لعلك ارتكبت ذنباً قال: لا، هو منتبه لنفسه ويعلم أنه لم يرتكب ذنباً يمنع عنه تلك الكرامة، قالت له: لعلك قصرت في عبادتك يوماً، قال: لا، لعلك فعلت كذا وكذا، حتى قالت له: لعلك نظرت إلى السماء ولم تتفكر قال:(5/411)
نعم وقع ذلك مني، قالت: فهذا
(12/27)
---
هو، أي هو السبب الذي منع عنك كرامة العبادة، ثلاثين سنة»، يعني هذا خبر عن بني إسرائيل صح أم لم يصح، إنما يستهشد من خلاله على أن التفكر في السماء أمر مطلوب وأصل هذا في القرآن والسنة، فلا نعتمد على مثل هذه الأقوال وإن ذكرت ولكنها تعين على ضرورة النظر إلى السماوات متفكرين متدبرين، وهكذا يدعونا الله -تعالى- وخاصة يدعو الكافرين الذين أنكروا وحدانية الله، ?أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَ? يعني: من الذي رفع السماء بغير عمد وبسط الأرض على ماء جمد وجعل بينهما خلقاً وفتق السماء بالنور والمطر وفتق الأرض بالنبات والشجر؟!! هو الله -سبحانه وتعالى- الحس والقلب والعقل يقول: الله والقرآن يصدق على ذلك، إذن: كيف نعبد غير من فعل هذا، ونترك من فعل هذا الخلق العظيم وأنعم بهذه النعم.
(12/28)
---(5/412)
?وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ?، عرف العلماء حديثاً ببعض المعرفة أن كل حي دخل في أصل وجوده الماء، وليس لازماً أن يكون الماء الذي يشرب، ولكن أصل خلقة كل حي سائل, مادة سائلة كالماء، ولعل أصلها الماء، ولم يصل العلم إلى ذلك لكن هذا خبر الله الصادق وهو يخبر عن خلقه -سبحانه وتعالى- وهو العليم بهم، ?وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ? وذلك إعجاز عظيم، حيث إن المادة الخام واحدة، ويخلق الله منها إنساناً وحيواناً وطيراً وحشراً كل ونباتاً كل من كان فيه حياة مع اختلاف الأشكال والأصناف والأنواع الله -تعالى- شكلها وبدأ خلقها من هذه المادة الواحدة وهذا غير معهود في عرف الصناعة مهما تقدمت، لا تستطيع أن تصنع كل الأشياء من مادة خام واحدة إنما يفعلها الله -تعالى- بقدرته وبعلمه وحكمته، ?أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ? يعني: هذه الآيات: خلق السماوات والأرض وجعل كل شيء حي من ماء هذه القدرة العالية التي تدل على أن الله وحده هو الذي فعل ذلك ألا يدعوهم هذا إلى الإيمان؟ ألا يمهد لهم ليؤمنوا بالله تعالى؟ ? أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ? يعني: ينبغي أن يؤمنوا جزاء أو بناءً على ما يروا في السماوات والأرض والأحياء من آيات لله.
(12/29)
---(5/413)
?وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ? وجعلنا في الأرض رواسي هي الجبال التي أرسى الله بها الأرض وثبتها ?وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَ? [النازعات: 32]، وذلك لئلا تميد الأرض بمن عليها، يعني: تضطرب؛ لأنها منصوبة وموضوعة فوق ماء، فتحرك الأحياء فوقها، وثقل وزنها قد يحدث لها اضطراباً في هذا الماء، فالله- تعالى- وزنها وأرساها بالجبال، وذلك خدمة لنا، وإقراراً لحياتنا عليها، ?وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ? من فضل الله -تعالى- أيضًا أن خلق الأرض ممهدة وجعلها مهاداً وجعل فيها سبلاً أي طرقاً يهتدي الناس من خلالها وبواسطتها إلى أغراضهم ومعايشهم، فينطلق من هنا ويذهب من هنا وينتقل من بلد إلى بلد، وهكذا من فضل الله -تعالى- ورحمته، أي: أنه خلق لنا الأرض وكيفها لحياتنا عليها، فأرساها وثبتها لئلا تميد بنا، وجعل فيها فجاجاً توصلنا إلى حوائجنا وأغراضنا فتلك نعم من الله عظيمة وآيات كبيرة جليلة لم يفعلها إلا الله فتدل على أن الإله في هذا الكون واحد لا شريك له.
(12/30)
---(5/414)
?وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظ? لما أخبر عن الأرض وأنه جعل فيها رواسي أخبر عن السماء، وهذا تصعد بالأدلة الله -تعالى- يدلل للإنسان مما بين يديه، ثم يلفت نظره إلى ما هو أبعد فأبعد، وربما يكون الاتجاه أحياناً إلى العكس، حسبما يكون المقام، فبعد أن ذكر الله الأرض يذكر السماء، فيقول: ?وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظ? ?وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْف? سقفاً: كالقبة على الأرض تظلنا وزينها لنا كما في آيات أخرى: ?إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ? [الصافات: 6]، هذا السقف مخيف فليست له أعمدة تحمله فيما نرى، وكما أخبر الله -تبارك وتعالى- وهو سقف سميك، سبع طبقات بعضها فوق بعض، وفيه ما فيه من الخلق، في السماء الدنيا كذا من الملائكة وفي السماء الثانية كذا من الملائكة إلى السماء السابعة وهكذا وهناك البيت المعمور، وبيت العزة، خلق عظيم، فهذا يخيف أن يسقط علينا، والله- تعالى- جعله محفوظاً وأخبر بذلك ليطمئننا وقال: ?إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُول? [فاطر: 41]، يعني: لئلا تزولا، الله -تعالى- يمسك بهما -سبحانه وتعالى- بقدرته حتى لا تزولا، ?وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ? ففيها آيات عظيمة تدل على وحدانية الله -تبارك وتعالى- ثم ذكر الله ما بين السماء والأرض فقال: ?وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ? عاد الأمر إلى أوله، وأن الكون وأفلاكه تسير بانتظام عجيب وبرتابة كاملة لا اضطراب فيها، ولا خلل مما يدل على أن المدبر لهذا الكون والمدير لحركته إله واحد لا ينزاعه أحد ولا يخاصمه شريك، -سبحانه وتعالى- فنحمد الله- تعالى- على أن كان واحدًا فردًا صمداً ونسأله -سبحانه وتعالى- أن يحيينا على التوحيد وأن يميتنا عليه حتى نلقاه راضياً(5/415)
(12/31)
---
عنا غير غضبان إنه هو البر الرحيم وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وردتنا إجابات على أسئلة الحلقة الماضية،
وكانت إجابة السؤال الأول: ما معنى: ?لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ? [الأنبياء: 13]، وما الغرض منها؟
وكانت الإجابة: ?لاَ تَرْكُضُو?: أي: لا تفرقوا ركضاً كما يركض الحيوان في البرية فراراً من الضوراي ?وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ?، أي: إلى ما كنتم فيه من ترف وبذخ من نعم الله -تعالى- ?وَمَسَاكِنِكُمْ?: وهذا استهزاء بهم؛ لأنهم لم يفروا منها ركضاً إلا بعد ما شعروا بعذاب الله -تعالى- ومساكن حل بها وبأهلها العذاب لم يبقَ فيها ترف ولا سكينة، ثم قال- تعالى-: ?لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ? وهذا استهزاء بهم أيضًا كما استهزؤوا بالله وآياته ورسوله والعقاب من جنس العمل.
نعم إجابة طيبة نشكرهم عليها جزاهم الله خيراً.
السؤال الثاني: ما معنى هذه الكلمات ?قَصَمْنَ?، و?يَرْكُضُونَ?، و?حَصِيد?، و?يَدْمَغُهُ?، و?يَسْتَحْسِرُونَ?؟
وكانت الإجابة: ?قَصَمْنَ?، أي: أهلكنا، ?يَرْكُضُونَ?، يفرون ركضاً كالحيوان، ?حَصِيد? ما يحصد من زرع ونحوه بعملية الحصاد فهو حصيد، ?يَدْمَغُهُ?: الدمغ ما تتركه القذائف من أثر في رأس الإنسان أو في الأرض إن أخطأت الهدف فالدمغ أثر القذائف وهذه بلاغة تبين أثر إصابة الباطل إن قذف بالحق فيدمغه أي: يقمعه فإذا هو زاهق، ?وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ?: أي لا يملون ولا يسأمون.
إجابة صحيحة.
السؤال الثالث: ما المراد بذكر التسبيح الدائم للملائكة؟
وكانت الإجابة: المراد بذكر التسبيح الدائم للملائكة: أنهم مستغرقون في عبادة الله وهم على كثرتهم وفيه بيان لعظمة الله وجلال سلطانه وكمال علمه، وحكمته ما يوجب ألا يعبد إلا هو ولا تصرف العبادة لغيره والله أعلم.
(12/32)
---(5/416)
أنه -سبحانه وتعالى- بدوام تسبيح الملائكة له، ليس في حاجة إلى تسبيح الإنس والجن، العباد المكلفين بالشريعة، ويفاصلون فيها ويناقضون فليس الله –تعالى- في حاجة إلى تسبيحهم فإن كان ولابد من تسبيح فالذين عنده يسبحون له -سبحانه وتعالى- نشكر الإخوة والأخوات المساهمين في هذه الإجابات، ونسأل الله لهم التوفيق والسداد دائماً.
الأخت الكريمة تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إن لي الآن حوالي سنة وأنا أحاول حفظ القرآن الكريم لكن لم يكتب الله لي ولم أحفظ منه سوى أجزاء فما هي الطريقة للإصرار على الحفظ والتخلص من التسويف خاصة أني اشتغلت بالعلم ولا أجد وقتاً كثيرًا للحفظ وإذا حاولت الحفظ أجد فكري مشغولاً بالعلم؟
القرآن الكريم لابد أن يؤخذ من شيخ، فلتنظر أختنا الكريمة إحدى الأخوات الحافظات التي عندها دربة ودراية بالتحفيظ فتحفظ على يديها، وإن لم يمكن فتحفظ على يد شيخ تظن فيه الخير، وتختاره فدور الشيخ هنا يساعد على الالتزام بالحفظ، لكن حين يكون الحافظ شيخ نفسه فهذا يقطعه عن مداومة الحفظ، وهو لا يدري كيف يواظب يوفق بين الحفظ وبين القراءة والمراجعة وهكذا فأحياناً يحفظ فلا يراجع، فيحفظ وينسى أو يراجع فيترك الحفظ، ثم يصاب بإحباط بعد ذلك فيترك الحفظ تمامًا، إنما عليها أن تعتبر القرآن الكريم مادة من المواد العلمية بل هو أصل العلم كله، فليوضع في جدولها أولاً، لكن لابد من الالتزام بمحفظ أو محفظة تتولى مسألة التحفيظ والمراجعة وتعطينا روح الالتزام والتمسك بمواعيد الحفظ والتسميع، والله يوفقها للخير.
الأخ الكريم من السعودية يقول: المجرات التي في الفضاء تتبع لأي سماء- جزاك الله خيراً؟
(12/33)
---(5/417)
هذا سؤال فلكي ليس لنا فيه نحن نبين المعاني اللغوية والمعاني الشرعية في القرآن الكريم أما هذا فيدخل في باب الإعجاز العلمي يمكنك أن تراجع تفسير هذه الآية في كتاب من الكتب التي تكلمت عن إعجاز القرآن الكريم أو يراسل هيئة الإعجاز العلمي يفصلون له هذا الأمر -إن شاء الله.
إذا اختلف في النبوة من النساء على مريم فقط، فما حال أم موسى في الآية: ?إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ?38? أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ ?39?? [طه: 38، 39]، إلى آخر الآية؟
هم اختلفوا على مريم لما أن الله أوحى لها بحمل عيسى ثم بعد ذلك، يعني: كان الوحي لها أكثر من الوحي لأم موسى، وأوقع، فاعتبروها نبية، ولها من شأن الأنبياء بعض الشيء، وذلك كما قال الله –تعالى- ?فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنسِي? [مريم: 26]، يعني: لن تتكلم ستصوم عن الكلام وكذلك قال الله –تعالى- لزكريا حين بشره بيحيى: ?أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِي? [مريم: 10]، فشبهة النبوة في مريم أوقع من أم موسى، فلذلك قيل عنها: إنها من الأنبياء ولم يذكر هذا في شأن أم موسى، ولكن طبعًا الراجح كما ذكرنا أن الأنبياء والرسل جميعًا كانوا من الرجال ولم يكن أحدهم من النساء، وهذا لحكمة يعلمها الله -سبحانه وتعالى- ولأن الرسول أو النبي سيكون قدوة لمن وراءه فلابد أن يكون أكمل الناس، والنساء- بطبيعة خلق الله فيهم وليس عيباً لهم- ناقصات عقل ودين، عاطفتها تتحكم في عقلها، فهذا يصيبها بشيء من النقص، ولكن صلاحها في هذا كسنارة الصيد للسمك، هي عوجاء ولكن صلاحها في عوجها، هكذا خلقها الله -سبحانه وتعالى- ولا عيب عليها في ذلك ولا ملامة، فكان الرجال أولى بالنبوة وبالرسالة لثقل أعبائها ولمهمة الاقتداء بهم كان الرجال أولى من النساء بذلك. والله أعلم.(5/418)
(12/34)
---
نرجو من سيادتكم توضيح أيهما الأفضل مؤمن بني آدم أم فرد من أفراد الملائكة؟
أيهما أفضل مؤمن من بني آدم أو ملك من الملائكة: هذه قضية شائكة، ولكن الذي يظهر من النصوص أن الله –تعالى- يباهي كما ذكر أكثر من مرة - يباهي بالمؤمنين في الأرض الملائكة في السماء، حتى العبد الذي يذنب ويقول: أستغفر الله العظيم، أو اللهم اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فيقول الله: يا ملائكتي علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب وكذا، أشهدكم أني قد غفرت له، وكأنه يذكرهم بما قالوه قديماً: ?أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ? [البقرة: 30]، فحين يظهر العبد من بني آدم بصلته بالله -سبحانه وتعالى- وتوحيده له وعبادته له، فالله- تعالى- يباهي به الملائكة في السماء، ثم إن من خلق من طين حينما يفعل ما تفعله الملائكة المخلوقون من نور، فهنا تظهر فضيلة من خُلق من الطين، أما من خلق من نور، فهذه طبيعته ولابد أن يكون هكذا هذا شأنه، لكن حينما يكون مخلوقاً من طين، ويسمو بإيمانه إلى درجة الملائكة كما جاء في الحديث: (لو كنتم في أهلكم كما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة في الطرقات) فممكن لبني آدم أن يصلوا بممارسات دينية معينة إلى أن يمكن أن تصافحهم الملائكة، كأنهم يتساوون معهم، وهذا مخلوق من طين وذاك مخلوق من نور، فهنا يسبق الطينُ النورَ، وصعود النبي -عليه الصلاة والسلام- ليلة المعراج إلى ما لم يصعد إليه جبريل بهذا علا من خلق من طين فوق من خلق من نور، لكن التدقيق والتحقيق في هذه المسألة أمر لا داعي له، لكن هذه الإشارات تعطينا همةً تدفعنا إلى طاعة الله -تبارك وتعالى- وإلى التشبه بالملائكة في دوام التسبيح والذكر لله، واستمرار العبادة له، فنسأل الله –تعالى- أن يصلح ديننا وأمورنا، اللهم آمين.
(12/35)
---(5/419)
الأخ الكريم من مصر يقول: هل معنى قوله- تعالى-: ?وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ? أي خلقنا، وإذا كان كذلك فكيف نوفق بين هذه الآية وقوله- تعالى-: ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ?14? وَخَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ?15? ?[الرحمن: 14، 15]، ألا يوجد تعارض؟
ليس هناك تعارض؛ لأن الماء داخل في أصل الشيء، فدخوله دخول مرحلي فقط، كما أخبر عن خلق الإنسان أنه خلق من تراب، ومن ماء ومن طين، ومن طين لازب، ومن طين آسن، ومن نطفة وعلقة ومضغة وعظام، هذا تصوير لمراحل مختلفة، فالماء يدخل في تكوين كل حي في مرحلة من مراحله ثم يحوله الله –تعالى- إلى طبيعة أخرى وهكذا فليس في القرآن تعارض إنما هو إن كان في هذا من شيء ففيه دعوة لنا لنبحث كيف ومتى يلتقي الماء مع النار مع النور مع الطبائع الأخرى التي خلق منها الخلق.
الأخ الكريم من مصر يقول: ما موقفنا من الإسرائليات التي تملأ كتب التفسير؟ ولماذا أودعها العلماء في هذه الكتب؟
(12/36)
---(5/420)
لابد أن نحسن الظن بعلمائنا- رحمهم الله- فأقل ما يقال: أنهم أودعوها في كتبهم من زيادة العلم، علم زائد فيذكره في كتابه، ربما يصح عند غيره، لكن التعامل معها لابد أن يكون بطريقة علمية بمعنى: أن ندقق فيها وفي أسانيدها فما كان منها موافقاً للحق عندنا قبلناه وإن ورد عن بني إسرائيل لا حرج وإن خالف الحق الذي عندنا رفضناها، رفضنا الإسرائليات التي تخالف الحق الذي عندنا وإن لم تكن لها موافقة ولا مخالفة لا تضر ولا تنفع فلا مانع من إيرادها وذكرها لعلها تساعد على معنى أو تزيد معلومة أو كذا لكنها لن تزيد في حجم الحقيقة شيئًا ولن تنقص منها، (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) بهذا المنهج، عذر آخر عن العلماء -رحمهم الله- أنهم حين كتبوا هذه الكتب كانت ثقافة الناس تشمل العلماء وطلبة العلم، يعني: لو سئل الواحد في البلاد المختلفة اليوم واحد في الطريق العام واحد من عامة الناس سئل عن ممثل أو لاعب أو كذا تراه يعرفه جيداً وتراه يعرف عن أحواله الكثير، إن لم يكن يعرفها كلها، حتى عن مرضه يعرفه أولاده زوجته كانت هذه الثقافة وهذه المعرفة قديماً موجهة إلى العلماء فتسأل الرجال العادي في الشارع أين الشيخ الفلاني؟ أين الإمام الفلاني؟ يقول لك: إنه في بلدة كذا، إنه قضى هنا معنا كذا سنة ثم رحل إلى مثلاً الحجاز، ثم رحل إلى بغداد ثم رحل إلى كذا حتى يتابع فهذه الأخبار كانت معروفة عندهم ومعروف مَنْ من الرواة والعلماء يوثق فيه والعلماء يثنون عليه ومن منهم اشتمل أمره على بدعة أو على شيء يخاف منه، فلذلك كانوا يذكرون الأقوال بأسانيدها هكذا دون أن يحكموا عليها وربما بغير أسانيد اعتماداً على أن القاعدة العريضة في الناس تعرف هذه الأشياء، لكننا في زماننا نحتاج إلى التعريف بالرجال وإلى تخريج الأسانيد وتحقيقها وإلى النظر في المتون أيضًا والتعليق عليها فربما ينخدع الكثيرون بحديث أو بشيء من الإسرائليات ظاهر البطلان ورغم ذلك يقبله(5/421)
(12/37)
---
بعض الناس ويأخذون به لعدم علمهم ومعرفتهم- والحمد لله- معظم هذه الكتب محققة وذكر أو نبه عليها وقيل في ما فيها من إسرائيليات هذا صحيح وهذا ضعيف وهذا مردود وهذا مقبول وخير ما يقرأ فيه من التفاسير تفسير الإمام ابن كثير -رحمه الله- الذي نتشرف بدراسته فهو أكثر الأئمة إقلالاً من الإسرائيليات وأكثر الأئمة تنبيهاً عليها حين يذكرها، فتقرأ فيه وأنت مطمئن - إن شاء الله تعالى.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
أسئلة هذه المحاضرة:
السؤال الأول: كيف تصيغ دليلاً عقلياً على التوحيد من خلال الآية الثانية والعشرين?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ?22??؟
السؤال الثاني: زعمت طوائف الكفر أن الرحمن اتخذ ولداً كيف ترد هذه الفرية؟
ثالثًا: بين كيف كانت السماوات والأرض رتقاً ففتقهما الله؟
والله تعالى يوفقنا وإياكم إلى حسن الجواب في الدنيا والآخرة
(12/38)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (13) الأنبياء (الآيات 34 - 47)
الدرس الثالث عشر
الأنبياء: من الآية 34: 47
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
ففي هذه المحاضرة نعيش مع آيات من سورة الأنبياء من الآية الرابعة والثلاثين وحتى الآية السابعة والأربعين وجعلت هذه الآيات تحت عنوان:
موقف الكافرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقسمتها إلى عناصر أربعة:
العنصر الأول: انتظارهم لموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
العنصر الثاني: الاستهزاء برسول الله -عليه الصلاة و السلام- وبوعيده لهم.(5/422)
العنصر الثالث: مواسات الله له -صلى الله عليه وسلم- وتلقينه حجته عليهم.
رابعا وأخيرا: بيان سبب كفرهم وإنذارهم فيه.
ونستمع إلى الآيات المباركات ثم نتناول هذه الآيات مفصلة من خلال تلك العناصر بعون الله تعالى:
(13/1)
---
? وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ?34?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ?35?وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ?36?خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ?37?وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ?38?لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ?39?بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
(13/2)
---(5/423)
?40?وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ?41?قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ?42?أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ?43?بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ?44?قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ?45?وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ?46?وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ?[الأنبياء: 34: 47].
(13/3)
---(5/424)
اللهم حاسبنا حسابا يسيرا ونسألك عفوك ومرضاتك يا رب العالمين، في هذه الآيات المباركات يبين الله تبارك وتعالى أن الكافرين كانوا يتربصون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يموت ليستريحوا من مواجهته وملاحقته وما جاء به من دين جديد، وتلك نظرة سطحية من الكفار وذلك مما يدل على سفههم وغباءهم ودائما السفه يلزم الكفر والعصيان فأولئك الكافرون كانوا ينتظرون ويتربصون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يموت ويظنون أن بموته ينقضي أمره وتنقضي رسالته وكذلك يظن الكثيرون أنه بفوات الدعاة يموت الدين وبالقضاء على المسلمين يموت الدين هذه فكرة خاطئة لأن الله تعالى أنزل ذكره وضمن له الحفظ ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ?[الحجر: 9]، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره دينه وإن مات الرسول -عليه الصلاة و السلام- ولحق بالرفيق الأعلى ? هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ?[الصف: 9].
ومات رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ولم يخرج دين الإسلام من جزيرة العرب وبعد أن لحق بالرفيق الأعلى انتشر هذا الدين وزاد حتى عم الدنيا مما يدل على أن قيام هذا الدين لا يتوقف على وجود شخص من نبي أو داع أو قائم بحدود الله تبارك وتعالى ولكن الدين قائم وإن لم يصلح الناس في بلد من البلاد أو عصر من العصور لحمل أمانة الله فالله تعالى يذهب بهم ويأتي بقوم آخرين يحملون رسالته ويقومون بدينه سبحانه، فقال الله تعالى ردا على هذا الفهم السيء لدى الكافرين ? وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ?.
(13/4)
---(5/425)
وهكذا نرى الخطاب موجها إلى رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ولم يوجه إلى الكافرين إعراضا عنهم وإهمالا لهم وتشريفا للنبي -صلى الله عليه وسلم- بخطاب الله له وبيان أن الله تعالى لم يكتب الخلد في الدنيا أبدا لأحد من البشر إنما شأن البشر والخلق جميعا الموت والفناء ولا يكون البقاء إلا لرب الأرض والسماء سبحانه وتعالى ? وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ? كما قال تعالى في آية أخرى: ? إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ?[الزمر: 30]، أنت يا نبي الله سوف تموت -عليه الصلاة و السلام- وهم كذلك سيموتون قال تعالى: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ? ? كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ?26?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ? [الرحمن: 26، 27]، ? كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ?[القصص: 88]، هذا قانون رباني عظيم وقضاء حكيم قضى الله به على كل الأحياء حتى لا يبقى حيا عند الفناء إلا الحي القيوم سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة ولا نوم فضلا عن موت.
(13/5)
---(5/426)
? وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ? أفإن مت يا نبي الله هل هم يخلدون من بعدك فأنت تموت وينقطع ذكرك وهم يظلون ويبقون مخلدين في الحياة ويبقى ذكرهم فيها أبدا لن يكون فيها بل الموت عليك وعليهم سواء أما بقاء الذكر ورفعه فذاك أمر آخر يرفع الله من شاء ويخفض الله تعالى من شاء، وقال تعالى: ? وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ?[الشرح: 4] فبقى ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته إلى الآن لا يسمع اسمه بين الكرماء إلا أن يقولوا -صلى الله عليه وسلم- أو نحوها من كلمات الصلاة والتسليم على نبينا -عليه الصلاة و السلام- ومات الكافرون الذين واجهوه بهذا الأذى وهذا العناد وانقطع ذكرهم حتى إن كثيرا من الأمة لا يعرفون أسماء أولئك الكافرين وإن سمعوا أسماءهم فلا يعرفون عنهم شيئا وربما اقترن اسم بعضهم باللعنة فيقال أبو جهل لعنه الله وأبو لهب لعنه الله وهكذا.
فالموت على الجميع ولكن تبقى الذكرى لمن رفع الله ذكره والذكرى لا تكون بتخليد الصور وإنما بتجميل السير أن يترك الإنسان وراءه سيرة عطرة مأخوذة على منوال سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا يرفع ذكره كما رفع الله ذكر العلماء، بينا وبينهم أجيال وسنوات وأعوام ومع ذلك لا يزالون يذكرون في أجمل المجالس وأعظم المحافل وعلى ألسنة صفوة الناس من طلبة العلم يذكرون في هذا الذكر العظيم في الملأ الأدنى غير ذكرهم عند الله في الملأ الأعلى يذكرون وبكل شرف يذكرون ويترحم عليهم ويترضى عنهم ذلك لأن ذكرهم رفعه الله تعالى لما كانوا من ورثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
(13/6)
---(5/427)
? أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ? يعني لو مت يا محمد أو إذا مت فلن يخلد هؤلاء الكل سيموت ولهذا عقب الله تعالى على هذه الآية بالآية الثانية فقال: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ? ومن الآية السابقة اتخذ العلماء دليلا على موت الخضر عليه السلام ذكره الإمام بن كثير -رحمه الله تعالى- ونبه عليه فالخضر اختلف الناس فيه هل هونبي أو ولي؟ والراجح أنه نبي من الأنبياء كان يوحي الله تعالى إليه واختلفوا كذلك هل هو لا يزال حيا إلى الآن مخلدا في الدنيا أو أنه مات بأجله كما يموت الأحياء وهذا الثاني هو الراجح أنه مات عند انتهاء أجله ولم يكتب الخلود لأحد في الأرض قال تعالى: ? وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ?34?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ? فكان الخضر نبيا في فترة من الزمان في زمان سيدنا موسى عليه السلام ثم قبضه الله تعالى في حينه ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ? بما فيه أشرف نفس وهي نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذه الآية تعتبر تعليما للمسلمين المتبعين للرسول -عليه الصلاة والسلام- حيث إنه خطر ببال بعضهم أنه كرسول لأمة طويلة عريضة ممتدة مع الزمان إلى آخر الدنيا لابد أن يكون أيضا مخلدا معها وباقيا فيها إلى ما شاء الله، فيطول عمره بطول عمر أمته فلا يموت أبدا كما يموت عامة الرسل عند أجل محدد إلا حين تنتهي الأمة من الوجود.
(13/7)
---(5/428)
وكان من هؤلاء سيدنا عمر -رضي الله تعالى عنه- ومعروف أنه فعل ما فعل يوم أن شاع الخبر وذاع أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قد مات أخذ سيفه وتوعد من يقول إن محمدا قد مات ولم تهدأ ثورته من حبه لرسول الله -عليه الصلاة و السلام- حتى جاء أبو بكر رضوان الله تعالى عليه وعاين موت رسول الله -عليه الصلاة و السلام- فقبله في جبينه وقال طبت حيا وميتا يا رسول الله ثم جمع الناس وصعد المنبر وخطب في الناس وعلمهم أن محمدا ما هو إلا بشر يحيا فترة وأجلا ثم يموت فمن كان يعبده فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد رب محمد فإن رب محمد حي لا يموت وقرأ قول الله تعالى: ? وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا ?[آل عمران: 144]، يقول عمر رضوان الله عليه وكأني لم أسمع هذه الآية إلا تلك الساعة كان يسمعها كثيرا ولكن لم ينتبه إلى ما فيها حتى قرأها أبو بكر عند وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهدأ وسكن واتبع خليفة رسول الله -عليه الصلاة و السلام- وهو سيدنا أبو بكر.
ولا يزال هذا الفهم باقيا عند مجموعة من الأمة إلى الآن يعتقدون بقاء النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حيا لم يمت ويغضب أحدهم لو قلت أمامه إن رسول الله -عليه الصلاة و السلام- قد مات يقول بل هو حي عند ربه نعم هو حي عند ربه حياة تختلف عن حياة أهل الدنيا حياة مخصوصة لها خصائص معينة تختلف عن حياة الناس اليوم لكنه بالنسبة لنا في عداد الأموات مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا لا يعيبه ولا ينقص من قدره فهذا شأن كل نفس ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ?.
(13/8)
---(5/429)
بل البعض يزعم من حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو من اعتقاده لذلك يزعم أن فلانا من الأئمة كان عند قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسلم عليه فمد النبي -عليه الصلاة و السلام- يده إليه من القبر وسلم عليه والله لو كان لكان شرفا عظيما ولكن لم يقع هذا الشرف لأشراف الأمة للشيخين الكبيرين الفاضلين أبو بكر وعمر ر ضوان الله عليهما ولم يقع لغيرهما من آل بيت رسول الله -عليه الصلاة و السلام- وهم أولى الناس بمثل هذا الشرف فلا داعي للمبالغات ولا للغلو في أمور لا تفيد النبي -عليه الصلاة و السلام- في قليل ولا كثير حسبه شرفا أن الله تعالى اصطفاه نبيا حسبه عزا أنه آخر الأنبياء بعثة وإرسالا وهو أولهم شرفا وأعظمهم قدرا هو الذي أمهم ليلة الإسراء في بيت المقدس كان لهم إماما في صلاة ركعتين هناك، وهو أول من يحرك حلقة باب الجنة وهو الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه يوم القيامة وهو صاحب الشفاعة العظمى رفع الله ذكره وقدره رفعا عظيما لا يفتقر بعد ذلك إلى مبالغات لا فائدة فيها إنما قد مات في عرفنا هو ميت لكنه كالشهداء والأنبياء لهم حياة مخصوصة عند اله تعالى تختلف عن حياتنا فوق الأرض فهو حي عند ربه ولكن لا يأكل ولا يشرب ولا يكلم الأحياء منا إنما قد يبلغه عنا بل يبلغه عنا ما فعلنا من خير أو شر ويبلغه سلامنا وصلاتنا عليه -صلى الله عليه وسلم- وما إلى ذلك مما نصت عليه النصوص الصحيحة في الشرع ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ? أي نرزقكم الشر والخير فتنة منا واختبارا، الله تعالى جعل الدنيا هكذا ما بين نعمة ونقمة ينعم على بعض الناس في أشياء وينعم على البعض الآخر بأشياء أخرى ويصيب هؤلاء بنقم في جانب ويصيب أولئك بنقم في جانب آخر ولكن هذا كله عن لطف منه سبحانه وتعالى لا عن قهر ولا عن جبروت يعذب به عباده كما يفعل الملوك عادة إنما الله يحكمنا بمنطق وبما أنه الرحمن(5/430)
(13/9)
---
الرحيم قال تعالى: ? اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ?[الشورى: 19]، يرزق من يشاء ما يصلحه وما يكون سببا في صلاحه ومعينا له على الخير، قد يستفيد الإنسان بهذا وقد يفسد مع وجود أسباب الصلاح حوله لكن الله تعالى لطفا منه وتفضلا يفعل الأصلح لعباده سبحانه وتعالى ? وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ? فلا يغتر صاحب النعمة الذي وسع الله عليه في الدنيا ولا يعتقد أن الله رضي عليه ولذلك وسع عليه في المال والولد والأرض والبيت وما إلى ذلك هذا لا يدل على رضى ولا على غضب ولا يخشى ولا ييأس صاحب البؤس وصاحب النقمة الذي اختبره الله بالمصائب فيظن أن الله تعالى قد أهانه وغضب عليه ولذلك منعه من المال منعه من الولد منعه من الصحة منعه من كذا أبدا صاحب النعمة مبتلى ومختبر وصاحب النقمة مبتلى ومختبر لجنة امتحان واحدة ولكن اختلفت المواد ليكون السؤال في مستوى الطلاب إن صح التعبير، فالله تعالى يعطي لكل واحد اختبارا يتناسب مع حاله ومع قدر صبره قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه شدة شدد عليه وإن كان في دينه رخاوة خفف عنه) وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى وعرف الناس ذلك من أهل الصلاح عرفوا ذلك عن الله سبحانه في تعبيراتهم: الله تعالى يعطي البرد على قدر الغطاء هذه كلمة صحيحة فعلا الله تعالى حكيما جدا يعطي النعمة أو النقمة على حسب قدرة الإنسان على التحمل فمن الناس من تفسده النعمة فلا يعطيه الله النعم حتى لا يفسد بها ومن الناس من تفقده المصائب صوابه وتجعله يفسد ويفسد ويهلك ويهلك فالله تعالى يبتليه بالنعم ويختبره بها رحمة من الله سبحانه.
(13/10)
---(5/431)
هكذا كان الكافرون يعتقدون وينتظرون موت رسول الله -عليه الصلاة و السلام- وبموته تموت رسالته ولكن كان الأمر على خلاف ما يعتقدون وما يظنون فهو يموت نعم ولكن لا يموت دينه ولا ينقطع ذكره إنما بقي الدين بفضل الله إلى الآن رغم ما يواجهه ويقابله من تحديات شديدة عنيدة إلا أن الدين باق كما ذكرنا لأن الله حفظه وكتب له الظهور وكان بعض المسلمين يعتقد أن رسول الله -عليه الصلاة و السلام- يخلد ولو إلى مدى الأمة وإلى آخر عمرها حتى يكون مرسلا للجميع بهذه الصفة ولكن شاء الله تعالى أن يقبض رسوله -عليه الصلاة و السلام- عند أجل معين ثلاث وستين سنة وبعدها صار النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الأمة ميتا لكن رسالته باقية تحمل معجزتها فالقرآن رسالة ومعجزة في الوقت نفسه وعند قرب أجل رسول الله -عليه الصلاة و السلام- خيره ربه كما يخير الأنبياء جميعا عند دنو أجلهم وبعد استكمال رسالتهم بلغوا رسالة الله وانتهت مهمتهم فيخيرهم الله تعالى بين الحياة أن يعيش في الحياة فترة كما يريد أو أن يموت ويلحق بالرفيق الأعلى، خير الله نبيه موسى عليه السلام وبعث إليه ملك الموت كما ورد الحديث في البخاري (فقال له إن الله يأمرك أن تضع يدك على متن ثور على ظهر ثور، ثور البقر فلك بما غطى يدك من الشعر بكل شعرة كذا وكذا من السنين قال موسى وماذا بعد ذلك قال إذن فالآن) طالما نهايتها الموت فلا داعي للبقاء في الدنيا فالدنيا لا تستحق وما لنا عند الله خير مما لنا في الدنيا فطلب أن يموت عند أجله دون إبقاء له بعد ذلك.
(13/11)
---(5/432)
رسولنا محمد -عليه الصلاة و السلام- خيره ربه كما صح الحديث بذلك بين أن تكون له مفاتيح كنوز الأرض والخلد فيها إلى آخر الدنيا وليست كثيرة فقط أعطاها الله للشيطان خلده في الدنيا وبين أن يلحق بالرفيق الأعلى فسمع -صلى الله عليه وسلم- اللهم الرفيق الأعلى اللهم الرفيق الأعلى اللهم الرفيق الأعلى، فمات عند أجله -عليه الصلاة و السلام- ولم يرض بالدنيا كعرض عرض عليه لكن ما له عند الله خير مما له بيننا وفي الدنيا.
هكذا يعلمنا الله عز وجل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر يوحى إليه تجري عليه من السنن ما يجري على البشر من مرض وصحة وفقر وغنى وحياة وموت إلى آخر ذلك ثم تنتقل الآيات إلى بيان موقف آخر من مواقف الكافرين مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يتمنون له الموت وهو بعيد عنهم حتى إذا رأه أو قابلهم أو واجهوه استهزئوا به وسخروا منه -صلى الله عليه وسلم- وهو أشرف خلق الله على الإطلاق -عليه الصلاة و السلام- يقول ربنا يسجل على الكافرين تلك الجريمة الشنعاء ? وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوً ?، إن يتخذونك أي ما يتخذونك إلا هزوا كأنه لم يكن لهم شغل إذا رأو رسول الله -عليه الصلاة و السلام- غير أنه يستهزئون به ويسخرون منه -عليه الصلاة و السلام-.
وتلك في الحقيقة جريمة شنعاء ذلك لأنهم لم يسخروا من محمد بن عبد الله كشخص -صلى الله عليه وسلم- وإنما سخروا من رسول الله -عليه الصلاة و السلام- وفرق بين الاثنين محمد بن عبد الله إنسان عادي عاش بينهم أربعين سنة يضعونه فوق رؤوسهم وينظرون إليه بعين الإكبار والتقدير والتوقير يلقبونه بالصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا قال لهم إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إني رسول الله إليكم جميعا عند ذلك كفروا به وعاندوه وآذوه وسخروا منه.
(13/12)
---(5/433)
إذن هم في الحقيقة يسخرون من رسالة الله ويسخرون من دين الله فليست سخريتهم من شخص بشر بقدر ما هي سخرية من رسالة سماوية عظيمة من خطاب رباني كريم من كلام الله سبحانه وتعالى ومعجزاته التي يؤيد بها الأنبياء ولهذا أحذر من يسخر من بعض أهل الدين ينبغي أن يعلم أنه لا يسخر من شخصه فليست خصومة بينه وبين شخص اسمه عبد الله أو محمد أو أحمد أو سيد أو ما إلى ذلك إنما سخر منه لأنه فضيلة العالم عبد الله أو الشيخ سيد أو الصالح محمد أو حافظ القرآن وشيخ القرآن فلان فبدأ يستهزيء بهذا الشخص ويسخر منه حينما أظهر أمارات الالتزام عن نفسه حينما صار يعلن عن هويته الدينية بشكل يشبه به شكل وهيئة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما سخر منه لأنه صار شيخا شيخه القرآن أو لأنه صار عالما في الدين والشريعة وليس عالما في الذرة ولا في الفيزياء ولا في كذا فيسخر منه على أنه درويش أو ما إلى ذلك أو لا قيمة له مثل العلماء الذين علموا الكونيات والفلك وما إلى ذلك السخرية هنا منصرفة في الحقيقة ومنصبة على كتاب الله وعلى دين الله فليحذر هذا المستهزيء على نفسه يحذر من الله عز وجل لأن الله أشد غيرة من خلقه ويغار الله على دينه ويغار الله على الحق ولو كان حقا لغيره ويغار الله على أولياءه وقال في الحديث القدسي ?من آذى لي وليا فقد آذنته في الحرب ? والولي هو من تولى الله بطاعته ولو لم يطر في الهواء ولو لم يمشي على الماء ولو لم يفعل الأعاجيب ولو لم تظهر له كرامة بمجرد أنه يطيع الله تعالى ويتولى أمر الله بالسمع والطاعة فهذا من أولياء الله ولكنها درجات رفع الله درجاتنا في الولاية له.
(13/13)
---(5/434)
فكان الكافرون يستهزئون بحمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- على أنه رسول لله ? وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوً ? كيف كانوا يستهزئون منه؟ كانوا يقولون مثلا ? أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ? أهو هذا الذي يذكر ألهتكم بسوء، وهو الذي يسفه الأحلام ويسفه عقولنا ويسفه آلهتنا ويقول إنها حجارة لا تنفع ولا تضر أهذا هو يستقلون بشأنه ويستصغرون قدره وإنما قدره عظيم -صلى الله عليه وسلم- كفى أن الله اختاره واصطفاه من بين العالمين ليكون إماما وقدوة وأسوة حسنة ولا اختيار بعد اختيار الله ولا تعديل على أمر الله تبارك وتعالى ولكن أكثر الناس لا يعلمون وجاء في آية أخرى يقول الله تعالى ? وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُول?[الفرقان: 41]، هكذا كانوا يقولوا أيضا في مواقف أخرى أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً ? يعني ألم يجد الله رسولا يبعثه إلا هذا ومن هذا؟ إنه هو الذي أحببتموه هو الذي رضيتموه هو الذي شهدتم له بالصدق والأمانة هو الذي أجمعت عليه الآراء في الفضل والنبل والشرف والعفة والكرامة الآن تختلفون عليه ولا يعجبكم كرسول، من في العالمين مثله من في الدنيا شبيهه -صلى الله عليه وسلم- لكنهم يكابرون ويعاندون فكانوا يقولون: ? أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ? يعني بينما حالهم أنهم كافرون بذكر الرحمن يعني غضبوا أن رسول الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- يسفه اتخاذهم للأحجار آلهة وهم قد أساءوا إلى الله عز وجل وأعرضوا عن ذكره فهم أسوأ حالا ولا يشعرون، هم سفهاء حقا ولا يدرون ولكنهم ما انتبهوا إلى هذا ويقول الله تعالى: ? وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ?.
(13/14)
---(5/435)
? خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ? هذا خبر يخبر الله به عن طبيعة الإنسان في خلقه وفي جبلته التي جبل عليها وتعلمون أن الله حين خلق الإنسان خلقه خلقة مزدوجة وبنفس مزدوجة ? وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَ?7? فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ?[الشمس: 7، 8]، فيها هذا وهذا فيها قابلية أن تميل هكذا وأن تميل هكذا ليصح تحميلها أمانة الاختيار، ? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ?[البقرة: 256]، ? وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ?[الكهف: 29]، فلابد أن يكون المخاطب بهذا والمكلف به قابلا ليؤمن وقابلا ليكفر فيه القابلية والاستعداد حتى يكون مختارا حقا يختار طريقه دون اضطرار من أحد فطبيعة الإنسان مزدوجة وفي طبيعة الإنسان صفات لا تستحسن، ولكن خلق عليها حتى يظهر عليه أثر الدين يأتي الدين السماوي ويقوم هذا الاعوجاج في النفس البشرية فيظهر أثر الدين على العباد ? خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ? الأصل أن الإنسان عجول كما قال تعالى: ? وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُول ?[الإسراء: 11]، ولكن جاء الدين يعلمنا الطمأنينة كما في الصلاة كل ركن من أركان الصلاة طمأنينة التأني عدم التعجل في الأمور إلا ما كان خيرا محضا نعلم أنه خير حقا وحق وهو خير خالصا إذا علمنا هذا سابقنا إليه قال تعالى: ? سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ?[الحديد: 21]، ? وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ?[آل عمران: 133]، ? إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ ?[الجمعة: 9]، تعجل بسرعة لا تنتظر ولا تتواني إذا علمت أن ما أمامك خير لا محالة أما في الأمور الأخرى التي لا يعلم خيرها من شرها فتواني وتأني واطمأن واستخر الله أولا واستشر أهل الرأي وهكذا ? خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ? لماذا هذا الخبر؟ وما الغرض من ذكره لأن الكافرين(5/436)
(13/15)
---
استعجلوا في قرار التدين في اختيار الدين كان ينبغي أن يفعلوا كما فعل بعض النبلاء منهم يقول لهم داعي الإسلام ولو كان غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما فعل مصعب بن عمير مع بعض اهل المدينة جاءوا يطردونه حتى لا يقرأ القرآن ولا يدعو إلى الإسلام في ديارهم، فيقول لهم مصعب -رضي الله تعالى عنه- وغيره قال كذلك أولا تجلس فتسمع فإن وجدت حقا قبلته وإلا انصرفت عنك فيقول حسنا عرض جميل عرض عقلي منطقي فيجلس ويسمع ويسمع بإخلاص وإنصات ربما كان حقا فيسمع فإذا به حق يخالط بشاشة قلبه ويتجاوب مع فطرته فلا يملك إلا أن يقول: أشهد أن هذا كلام الله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ولكن كثيرا من الكافرين تعجلوا بالكفر وتعجلوا بالنطق بالقرار، دون نظر كانوا ينبغي أن ينظرون في شخص رسول الله -عليه الصلاة و السلام- قبل أن يكفروا به ويستهزئوا به هذا أشرف واحد فيهم بإقرارهم قبل ذلك.
(13/16)
---(5/437)
قال تعالى ملقنا رسوله -عليه الصلاة و السلام- ? قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ?[سبأ: 46]، سأعظكم موعظة واحدة خذوا بها قل إنما أعظكم بواحدة ما هي ? أَن تَقُومُوا لله ?لا للهوى لا لغرض آخر ? أَن تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ? ثم تتفكروا في شخص رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ليس مجنونا وليس به مرض ولا علة قوموا متفكرين فرادى وجماعات وتشاوروا في أمر هذا الرجل تشاورا محايدا تشاورا حقا ثم روا فيه رأيكم وقولوا رأيكم بحياد وإنصاف لو فعلوا ذلك لآمنوا لو فعلوا ذلك لعلموا أنه لا أصدق من رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ولتغير نظرهم إليه وآمنوا به على أنه رسول ولكنهم تعجلوا في قرارالتدين وفي اختيار العقيدة تعجلوا في طلب العذاب واستعجاله كما سيأتي في الآية التالية ? وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ?، وتكررت هذه الآية كثيرا في القرآن أو عدة مرات ذلك لأنهم كانوا كلما توعدهم النبي -عليه الصلاة والسلام- بوعيد قالوا متى هذا الوعد ? فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ?[الأحقاف: 22]، إلى أن قالوا قولة بشعة شنيعة لا تدل على عقل ولا تنم على فكر أبدا ولا إحساس ? وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ?[الأنفال: 32]، يكلموه الله مباشرة ويدعونه ويبتهلون إليه إن كان هذا الدين وهذا القرآن هو الحق من عنده فليمطر عليهم حجارة من السماء أو أن يأتيهم بعذاب أليم، كانوا يمكن أن يقولوا غير ذلك اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا من خير الجنة فأنزل علينا من قطوف الجنة أرنا آية كهذه مثلا لكن أن يستمطروا من عند الله حجارة من السماء أو عذابا أليما، فهذا سفه عظيم وعناد عجيب فكان تعجلا(5/438)
(13/17)
---
منهم واستعجالا والله تعالى يقول: ? وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ ?[الرعد: 6]، السيئة هي العذاب الذي يسوءهم قبل الحسنة النعمة والجنة فطلبوا كبرهان على صحة نبوة النبي -عليه الصلاة و السلام- أن ينزل الله عليهم عذابا وكان ينبغي أن يطلبوا الجنة أو شيئا من الرحمة كدليل وهو دليل كاف وواف ولكنهم تعجلوا السيئة قبل الحسنة رغم مرور المثلات قبل ذلك يعني الأمثلة والنماذج في الحياة قوم كذا وقوم كذا من الأمم السابقة تعجلوا العذاب فعجل الله لهم العذاب ألا يخشون بطشة الله تبارك وتعالى:? خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ? الله تعالى يقول: ? سَأُرِيكُمْ آيَاتِي ? سأريكم آياتي في العذب سأريكم آياتي في الانتقام سأريكم آياتي في العقاب ? سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ? لكل شيء مستقر ? لِكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ ? ولكل شيء قدر ? إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ? [القمر: 46]، المسألة ليست عشوائية وليست استفزازية الله تعالى لا يستفز الله عظيم حليم كريم سبحانه وتعالى وعلم النبي -عليه الصلاة و السلام- الصبر والأناة قال ? وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ?[الروم: 60]، لا يستفزونك فتدعو عليهم اصبر وهكذا فمهما قالوا الله تعالى حدد لكل شيء توقيتا وأقته إليه ? سَأُرِيكُمْ آيَاتِي ? أي في حينها ? فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ?.
(13/18)
---(5/439)
? وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ? هذه حكاية قولهم الذي استعجلوا فيه، ? وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? إن كنتم صادقين جملة فيها إثارة كما يقول الواحد لصاحبه ليستفزه على عمل معين إن كنت رجلا افعل كذا والمرأة حينما تطلب الطلاق من زوجها ولأنه حكيم لا يريد الطلاق فهي تستفزه بمثل هذه الكلمة أيضا لتحصل منه على ما تريد إن كنت رجلا طلقني فيستفز الحكيم لا يستفز يقول أنا رجل ولن أطلقك ويحفظ بيته ويحفظ أهله ولكن هذا أسلوب إثارة واستفزاز يستعمل في الخير ولا ينبغي أن يستعمل في الشر ولا يجوز للمرأة أن تستعمله للحصول على طلاق في غير ما بأس ولو لم يكن زوجها رجلا فلماذا رضيت به من البداية ولماذا تزوجته هكذا يستفز الكفار رسول الله -عليه الصلاة و السلام- ويستثيرونه ? مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? لكنه مطيع لأمر ربه ويقول كما لقنه ربه ? قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ? [الملك: 26]، أنا لا أعلم متى ينزل العذاب ولا متى تقوم الساعة ولا متى تدخلون النار إنما علمها عند ربي سبحانه وتعالى ويقول الله تعالى معقبا على هؤلاء واستعجالهم ? لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ? لو أنهم يعلمون ماذا سيكون حالهم عند نزول العذاب كيف يكونون في خزي وذلة وجوه مسودة عليها غبرة ترقها قترة وعليها غبرة وجوه أصابها الحزن والكآبة وقلوب واجفة خائفة وجلة عليها ذل حين ينزل العذاب عليهم لو يعلمون كيف يكون حالهم ما استعجلوا العذاب ولا نادو به ولصدقوا وآمنوا ثم لما كان الأمر كذلك كفرا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستهزاءا به الله تعالى طيب خاطره وواساه في مصابه فكان النبي -عليه الصلاة و السلام- يحزن جدا على كفر قومه ويدعوا لهم اللهم اهد قومى(5/440)
(13/19)
---
فإنهم لا يعلمون حتى قال الله ? إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ?[الأنعام: 35]، يعني عز عليك كفرهم ? فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ? يعني فافعل ما تشاء حتى تجعلهم يؤمنون إن كنت تستطيع ذلك فكان -عليه الصلاة و السلام- يعز عليه كفر قومه فيحزن لهذا فكان الله يواسيه في مصابه ولأنه هو الصادق الأمين طول عمره و اليوم من كانوا يصدقونه بالأمس ويستأمنونه يكذبونه اليوم هذا أمر يحزن لماذا غير الناس رأيهم في ولماذا يكذبونني وأنا أنطق بالحق الذي نزل من السماء فالأمر محزن لكل داع فيصبر الله تعالى نبيه -عليه الصلاة و السلام- فيقول: ? وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ?، يعني لست أنت يا محمد أول من سخر منه قومه اعلم أن كل نبي جاء قومه برسالة استهزئوا به وسخروا منه فأنت واحد منهم وحينما تعم المصيبة وتوزع على أفراد كثيرين تخف في ثقلها وتهون في وقعها على النفس فبهذا يخفف الله تعالى عن نبينه -عليه الصلاة و السلام- ويعطيه ما يتحدى به الناس ? قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ ? قل من يحفظكم ومن يحميكم بالليل والنهار من الرحمن يعني لا أحد ليس لكم نصير من دون الله ولا ولي من دون الله فكيف تكفرون بالله عز وجل ? بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ ? النتيجة رغم هذا السؤال الذي يوقظ الانتباه ويوقظ القلب ويجعل الإنسان فعلا يبحث بواقعية من يحميني ومن يكفلني ومن يكلئني الرحمن أو أحد من دونه لكنهم لم يفكروا ولم ينتبهوا فقد غلب عليهم السفه ? كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ?[المطففين: 14].
(13/20)
---(5/441)
? أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَ ? يعني أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا تمنعهم من عذابنا حين نوقعه ومن عقابنا حين ننزله عليهم معناها ليس لهم سؤال واستفهام يقصد به النفي أي ليست لهم آلة تمنعهم من دوننا ? أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ ? هؤلاء الكافرون حين ينزل العذاب عليهم لا يستطيعون نصر أنفسهم من الله وليس لهم من ينصرهم أو يدفع عنهم ولا هم منا من الله يصحبون يعني لا يصحبون بخير الله تعالى لا يصحبهم بخير مما عنده ولا يصحبهم برحمة مما عنده ولا يصحبهم برحمة من رحمته إنما يصحبهم بعقابه وعذابه وشدة غضبه وقيل معناها ? وَلاَ هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ ? يعني يمنعون فالمعنى واحد لا يمنعون من عذاب الله ولا يصحبون بشيء من رحمة الله سبحانه وتعالى وفي نهاية المطاف في هذه الحلقة المباركة ومع العنصر الرابع يبين الله تعالى السبب الذي كان وراء كفر هؤلاء الناس أنهم أترفوا في الحياة الدنيا كما قال من قبل ? لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ?[الأنبياء: 13]، غالبا على مر العصور الترف سبب مباشر من أسباب الغواية والضلال لأنه يعطي للنفس علوا ويجعل في القلب غرورا ويظن صاحب المال وصاحب الترف أنه يستطيع أن يفعل كل شيء وأن ينال كل ما يريد يقول أحدهم بمالي أفعل ما أريد من واقع سلطتي أفعل ما أشاء، وآخذ ما أحب وهكذا يظن أن يده فعالة وله طلاقة قدرة فيما حوله فيأخذه الغرورة فحينما يأتيه رسول متواضع يدعوه إلى الله وإلى عبادة الله يرى أنه سينزل من عل من مكان عال جدا ليكون مع الساجدين في الأرض أأنزل لهؤلاء لا لا يليق بي أنا فوق وهم تحت أنا عندي مال كذا عندي سلطان كذا عند كذا عندي كذا ويفرح بهذا ويفخر به ويتكبر أن يتواضع لله مع المتواضعين ولا يعلم أن من سجد(5/442)
(13/21)
---
لله سجدة فهي خير من الدنيا وما فيها ولهذا يقول الله تعالى ? بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ? يعني من سبب كفرهم أننا متعناهم فاغتروا بالمتعة وهل هنا العيب في أن الله متعهم أو أنهم اغتروا بالمتعة؟ العيب في أنهم اغتروا بالمتعة الله من فضله متعهم أحياهم حياة فيها متعة فيها رغد فيها حياة ذات معايش ولكنهم فتنوا بالنعمة وظنو أنهم قادرون على الأرض وأنهم يصرفون الأمور كما يشاءون ويملكون الاقتصاد في أيديهم فيجيعون من يشاءون ويشبعون من يريدون وهكذا فيأخذهم الغرور فيتكبرون على الإيمان بالله سبحانه وتعالى ويتكبرون على الاتباع لهؤلاء الرسل الذين يرونهم أقلة وضعفاء ومجردين من سلاح وما إلى ذلك ليسوا من وجهاء القوم الذين لهم الوجاهة والسطوة والغلبة الأنبياء قوم يضربون المثل في التواضع والتبسط في الحياة لأن الحياة الدنيا لا تستحق الاهتمام بها فيستكبر الكفار أن يتبعوهم على هذا .
يقول تعالى: ? بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ? أي امتد بهم العمر في هذه المتعة فتعودوا على هذا الترف وتمسكوا به ولا يستطيعون أو لا يريدون أن ينفكوا عنه الله يقول متسائلا ليثبت أنهم لم يبصروا ولم ينظروا ولم يتدبروا في شيء إنما تعجلوا في اتخاذ قرارهم بالكفر.
(13/22)
---(5/443)
? أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ? يعني أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها هذه الجملة تعددت فيها كلمة المفسرين، ولكنها تجتمع كلها حول انتقاص الأرض هل انتقاص الأرض من أطرافها فعلا فيصغر حجم اليابسة ربما كان للعلماء علماء الطبيعة ربما كان لهم رأي في ذلك ولكن المقصود الشرعي في تفسري هذه الآية هو أفلا يرون ويعتبرون بأن الإسلام يزيد يوما بعد يوم كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحده أولا أسلم به من الغلمان على بن أبي طالب وآمن معه من الرجال أبو بكر وصدقت به من قبلهم خديجة وهكذا نفر قليل وهذا شيخ كبير وذاك غلام صغير وهذه امرأة ضعيفة لكن مع الأيام انضم إليهم فلان وفلان وفلان من أعالي القوم ومن أكابر الناس حتى أسلم عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- وعمروا بن العاص وغيرهم وكان إسلام عمر على سبيل المثال ضربة قاصمة لقريش حزنوا جدا حينما سمعوا بهذا الخبر أفلم يرى الكفار أن الإسلام يزيد يوما بعد يوم أفلم يرو حينما كانت الهجرة وكيف صار الأمر للإسلام والمسلمين فكان هذا من نقصان الأرض من عندهم وسعة رقعة الأرض في الإسلام، الإسلام يتسع وهم تضيق دائرتهم فكان ينبغي أن يتفكروا في هذا ولكن على اللفظ العام في تفسير اللفظ عموما يقول بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وغيره نقصان الأرض يكون بخرابها بنقصان الأنفس والثمرات وخاصة نقصان العلماء منها بموتهم فموت العالم نقصان من أطراف الأرض وذكر بن كثير -رحمه الله تعالى- بيتين من الشعر عن أحد الشعراء القدامي الإسلاميين الذين تكلموا في شأن العلماء برفعتهم فقال قائلهم:
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
(13/23)
---(5/444)
وإن أبى الغيب عاد التلف إلى الأرض وعم فيها، فنبه السلف ومن بعدهم إلى أن وجود العالم في الدنيا توسعة وموته نقصان من أطراف الأرض ونقصان من الخير كأن الأرض كلها تنقص بهذا، وفسر بن كثير هذه الآية ورجح أن نقصان أطرافها هلكت الأمم الكافرة من حول أمة هذا القرآن وأمة النبي -صلى الله عليه وسلم- قال أحسن ما فسر به قوله تعالى ? وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الأحقاف: 27]، والمعنى أفلا يعتبرون بنصر الله لأولياءه على أعداءه يعني نقصان الأرض يعود إلى المعنى الأول نقصان الأرض هو هزيمة الباطل ونقصان الأرض تحت قدميه وسعة الأرض في دائرة الحق واتساع نشر الإسلام ودين الله سبحانه وتعالى فكان ينبغي على الكفار أن يتعبروا بهذا حينما يرى العالم مثلا أن الإسلام يتزايد والمسلمون يتزايدون يوما بعد يوم رغم التحديات والمواجهات ينبغي أن يفكروا في هذا إذن هذا الدين حق حينما يرو أن المصحف يحقق أكثر وأعلى نسبة مبيعات في معرض من معارض للكتب والمؤلفات وربما في أكثر من معرض لو عملوا إحصائيات على المعارض كلها حينما يرون هذا لابد أن يعتبروا بعقلهم أن القرآن حق وهذا الإقبال الشديد عليه يدل على إجماع أو رأي أغلبي من البشر أن هذا الكتاب حق ويستحق الاقتناء والقراءة والحفظ وما إلى ذلك لكن الكفار كما وصفهم الله سفهاء يعني خفيفوا العقل لا يحكمون الأمر وبالتالي تخفى عليهم مثل هذه العلامات والمؤشرات الطيبة.
(13/24)
---(5/445)
? قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ ? في النهاية ربنا سبحانه وتعالى يختم هذه الطائفة من الآيات في هذا الموضوع بتذكير النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للناس إنما أنذركم بالوحي لا أنذركم من عندي أنا ولا أتكهن وقوع عذاب ولا أتوقع شيئا من عند نفسي إنما أنذركم إنذارا جاءني من قبل الوحي من الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى ? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى?3? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى?[النجم: 3، 4].
(13/25)
---(5/446)
? وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ?، شبههم الله تعالى في عدم استجابتهم لدعوة الحق بقوم صم، صم الآذان في الأصل لا يسمعون فكأنهم لا يسمعون، وهؤلاء الذين لا يسمعون مهما نودي عليهم ومهما حذروا فإنهم لا يسمعون النداء ولا يفهمون الإنذار لو أن إنسانا أصم وأردت أن تحذره من خطر يا فلان احذر من كذا احذر من كذا لن يسمعك ولن يستفيد كذلك كان الكفار بهذا الشكل كأن في آذانهم صمما أصابهم وثقلا وقر في آذانهم فلم ينتبهوا إلى الحق في كلام الله ولا في كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا في أحوال الدنيا من انتقاص الأرض من أطرفها وسعة رقعة الإسلام وانتقاص وضيق رقعة الكفر ودخول الناس في دين الله أفواجا لم يعتبروا بشيء وكأنهم صم لا يسمعون شيئا كما قال ربنا ? صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ?[البقرة: 171]، وقال المنافقين ? صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ?[البقرة: 18]، وحين ينزل الله عليهم نفحة أي نصيبا من العذاب ساعتها ينادون الويل وساعتها يعترفون بذنبهم ? وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ? ولكن بماذا يفيد الندم حينما ينزل العذاب وبعد أن يفوت الأوان ? وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ?[ص: 3] لا مناص يومها ويوم القيامة الحساب الحق الله لم يعد بالحساب في الدنيا إنما الدنيا تذكرة فقط وهؤلاء يستعجلون العذاب والحساب في الدنيا ولكن الله تعالى أعد الموازين القسط ليوم القيامة لم يعدها للدنيا ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ ? أي لو كان شيئا قليلا جدا ? أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ? لو كان للإنسان المحاسب بين يدي الله عز وجل يوم القيامة مثقال حبة من خردل من خير أو شر الله يأتي بها ويحسبها(5/447)
(13/26)
---
لصاحبه أو عليه ويكافئه عليها أو يعاقبه بها، ? فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ?7? وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ?[ الزلزلة: 7، 8]، ? وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ? لا يحتاج الله إلى من يحاسب معه ولا يوجد من يحاسب حساب الله فحساباتنا يقع في الغلط وينشأ منها الخطأ أما حسابات الله فهي غاية الدقة وغاية العدل نسأل الله تعالى أن ييسر حسابنا وأن يحاسبنا حسابا يسيرا أو أن يتفضل علينا فيدخلنا الجنة بغير حساب مع السابقين الأولين إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأشكر لحضراتكم حسن المتابعة والاستماع نفعنا الله وإياكم بالخير والسلام عليكم ورحمة الله .
وردتنا إجابات عدة فكان السؤال الأول كيف تصيغ دليلا عقليا على التوحيد من خلال الآية الثانية والعشرين؟ وكانت الإجابة قال الله تعالى في كتابه العزيز ? لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ?[الأنبياء: 22]، فمن خلال الآية الكريمة دليل عقلي على التوحيد فبيان ذلك أن العالم العلوي والسفلي على ما يرى منه في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام الذي ما فيه خلل ولا عيب ولا ممانع ولا معارضة فدل ذلك على أن مدبره واحد وإلهه واحد وربه واحد فلو كان له مدبران وربان أو أكثر لاختل نظامه وتقوضت أركانه فإنهما يتمانعان ويتعارضان وإذا أراد أحدهما تدبير شيء وأراد الآخر عدمه فإنه محال وجود مرادهما معا ووجود مراد أحدهما دون الآخر يدل على عجز الآخر وعدم اقتداره واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور غير ممكن فيتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده من غير ممانع ولا مدافع فهو الله الواحد القهار.
(13/27)
---(5/448)
ما شاء الله إجابة طيبة وذكرت ذلك لأن في هذه الأيام كثير من خصوم الإسلام والمحاجين لا يصدقون بالقرآن بعضهم وبعضهم يفسر الآية ويأولها حسب ما يشاء لكن لا يستطيع أن يخالف عقله فطبيعة العقل تقر عند العقلاء جميعا بأن الشيء الواحد إذا دبره شخص واحد أو مدبر واحد استقام أمره وانتظم على طريقة واحدة معينة أما إذا تعدد المدبرون له والمتصرفون فيه فإنه يحصل فيه التنازع ويظهر عليه الخلل ويطرأ عليه عدم التوازن فإذا ما أراد واحد منهم شيئا وأراد الآخر خلافه فيحصل تعارض هنا والمنطقي إما أن يقع الأمران يعني تقع الإرادتان فيقع الشيء ونقيضه وهذا مستحيل وإما أن يقع اختيار إله منهم أو مدبرمنهم دون اختيار المدبر الآخر إذن المدبر الآخر هذا الذي لم يقع اختياره ولم تنفذ إرادته عاجز فلا يستحق أن يكون إله إذن بقي إله واحد، فالضرورة العقلية والمنطق العقلي يقر بأن الإله واحد ولابد أن يكون واحد والعقل يتبع النص الشرعي والنص الشرعي لا يهمل العقل ولا يصادر عليه إنما يصيغ له الكلام فهذه آية قرآنية ولكن فيها كلام عقلي ومنطق عقلي يستدل به العقلاء ويكون حجة على من لم يحتج ومن لم يصدق بالقرآن والسنة لكفره فعقله حجة عليه وهكذا القرآن يلزمه الحجة ويقيم عليه البرهان.
(13/28)
---(5/449)
السؤال الثاني: زعمت طوائف الكفر أن الرحمن اتخذ ولدا كيف نرد هذه الفرية؟ وكانت الإجابة قال الله تعالى في كتابه العزيز ? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ?[الأنبياء: 26]، يقول الله تبارك وتعالى ردا على من زعم أن لله تبارك وتعالى ولدا من الملائكة كمن قال ذلك من العرب أن الملائكة بنات الله فقال الله عز وجل ? سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ?، أي الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية ومنازل سامية وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا فقد ألزمهم الله وصيرهم من عبيد كرامته ورحمته وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرزائل وأنهم في غاية الأدب مع الله والامتثال لأوامره.
(13/29)
---(5/450)
هذه إجابة كما فهم المجيبون على أنها في داخل السورة فقط ولكن كانت نص السؤال عاما فكانت الإجابة ينبغي أن تكون بشكل أعم، فالكفار اعتقدوا أن الملائكة بنات الله واليهود قالوا عزير بن الله والنصارى قالوا المسيح بن الله وهكذا، الرد على ذلك كما جاء في القرآن تبرئة الملائكة من أن يكونوا أبناء لله أو بنات لله إنما هم عباد مكرمون فما القول في عيسى والعزير هؤلاء رآهم الناس في الدنيا بشر يعتريهم ما يعتري البشر كما قال الله تعالى ? مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ?[المائدة : 75]، والبقية مفهومة ولكن لفظ القرآن عظيم كانا يأكلان الطعام يعني يضطر أحدهما إلى ما يضطر إليه بن آدم من إخراج فضلاته والإله لا يليق به أن يدخل حماما أو يضطر لحاجة مثل هذه ليقضيها وإلا لكان هذا من ضعفه ومن عجزه يحتاج إلى الطعام فيجوع ويحتاج إلى الإخراج فيضر بذلك أو يضطر إليه وهكذا هذا لا يكون إلها وليس من وصف الإله أما خصوص الولد بشكل عام ذكرا أو أنثى فإن الولد عادة يتخذه أبوه فالولد لا يأتي عادة إلا إذا أراد الإنسان لنفسه أن ينجب أولاد فيتزوج يتخذ صاحبة وبعد الصاحبة يطلب الولد فإذا جاءه الولد لماذا طلبه طلبه زينة في الحياة الدنيا عزا يحمل اسمه من بعده لأنه سيموت قبل ولده عادة كما هو الغالب وإن لم يكن دائما أو أنه يتقوى به على نوائب الدهر ومصائب الأيام ومشاغل الدنيا وخصومه وما إلى ذلك كما يقول الأولاد عزوة، إذن طلب الولد حاجة عند الآباء والأمهات وهل لله حاجة في ولد الله تعالى حي لا يموت سبحانه وتعالى فلا يحتاج إلى من يحمل ذكره من بعده والله تعالى قوي عزيز لا يغلب سبحانه وتعالى فلا يحتاج إلى من يعززه ولا من يقويه ? وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن(5/451)
(13/30)
---
لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرً?[الإسراء: 111]، فالحمد لله والله أكبر كبيرا.
السؤال الثالث: بين كيف كانت السماوات والأرض رتقا ففتقهما الله ؟
وكانت الإجابة قال الله تعالى في كتابه العزيز ? أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ?[الأنبياء: 30]، أن السماوات والأرض كانتا رتقا أي كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ففتق هذه من هذه فجعل السماوات سبعا والأرض سبعا وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ولهذا قال الله تعالى ? وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ?، أي وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئا فشيئا عيانا وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
إجابة طيبة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته قال تعالى: ? وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظً ?[الأنبياء: 32] السؤال لماذا ذهب المفسرون إلى تأويل السقف المحفوظ أنه محفوظا من الوقوع ولم يذهبوا إلى حفظ السقف من اختراق الشياطين واستراق السمع وقال تعالى ? وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ?[الحجر: 17]، ? وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ?[الصافات: 7]، أما بالنسبة للوقوع فالآيات جاءت صريحة ? وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ?[الطور: 5]، ? وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ?[الحج: 65]، ? إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُول ?[فاطر: 41]،
السؤال الثاني: كيف التعامل مع من يسخر منا ومن علماءن ويعيروننا بالتزامنا؟
(13/31)
---(5/452)
السؤال الثالث: وجه الجمال أو العلاقة بين ? أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَ ? و ?أَلْقَى فِي الأَرْضِ أَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ?؟
بالنسبة للإخوة الحضور في الاستديوا لاحظت في الحلقات السابقة تكرار السؤال على نبوءة السيدة مريم عليها السلام ومعلوم مكانتها بآيتين في القرآن في سورة آل عمران: ? يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ?[آل عمران: 43]، والآية الثانية في سورة التحريم: ? وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ?[التحريم: 12]، فهي صديقة قانتة وبالنسبة للحديث الذي يؤكد ذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو كما قال (إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت من قصب أو منزلة بين امرأة عمران وبين السيدة مريم) هذا دليل على عدم نبوءتها؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يصف ربنا تبارك وتعالى في سورة البقرة وفي سورة أخرى في القرآن عن آدم عليه السلام مرة اهبطوا بالجمع ومرة بالمثنى في سورة طه هل هناك فرق في ذلك؟
يصف أيضا ربنا تبارك وتعالى في آيات القرآن الكريم لعبا ولهوا ومرة تسبق لعبا لهوا فهل هناك من أوجه تفسيرية تكون عونا لنا على الحفظ إن شاء الله؟
كان سؤاله الأول عن قول الله تعالى: ? وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ? لماذا ذهب المفسرون إلى أن محفوظ أي محفوظا من الوقوع وليست محفوظة من اختراق الشياطين كما في آية أخرى؟
(13/32)
---(5/453)
بسم الله الرحمن الرحيم أولا لابد من استقصاء التفاسير كلها حتى نقول إن المفسرين ذهبوا جميعا إلى كذا دون كذا ولو كان الأمر كذلك بعد الاستقصاء لأقوالهم لأن قول الله تعالى ? وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظً ?، السماء كلها الكلام هنا على السماء كلها أما قوله ? وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ? ? وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ? هذا الكلام على السماء الدنيا فقط لأن الجن كانت تسترق السمع من عند السماء الدنيا قبل الإسلام قبل نزول القرآن فمنع هذا بعد مجيء الإسلام ولم يبق لهم هذا الأمر وإنما طردوا عن السماء بالشهب وما إلى ذلك مما يصرفهم الله تعالى به عن استراق السمع، لكن مسألة حفظ السماء عن السقوط هذا أكبر وأضخم فربما لا يضرنا نحن البشر ضررا بالغا أو كبيرا في أن تسترق الجن السمع أو لا تسترق لكن يضرنا ضررا بالغا جدا ونهلك ونموت ولا تبقى لنا حياة لو أن السماء نزلت على الأرض أو سقطت على الأرض لعل هذا يكون هو الموجه لقول المفسرين ممن قال منهم بأن حفظ السماوات حفظ من السقوط لقول الله تعالى ? إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ? والآيات النظيرة لذلك والله أعلم.
سؤال الثاني فضيلة الشيخ عن كيفية التعامل مع من يسخر من الالتزام؟
(13/33)
---(5/454)
كيف نتعامل مع من يسخر منا كما كان يتعامل رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فعلوا به ما فعلوا وسخروا ما سخروا واستهزئوا ما استهزءوا وقال الله تعالى مبينا ذلك أن من يسخر يحيق به عاقبة سخريته كما حدث مع السابقين فننتظر كذلك من الله الفجر ونصبر على الأذى لسنا خيرا من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لسنا خيرا من أبي بكر وعمر والصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- سخر منهم الناس وفعلوا بهم ما فعلوا وضرب أبو بكر عند البيت الحرام لأنه أظهر إسلامه وضرب بن مسعود لأنه قرأ سورة الرحمن وهكذا فحين يسخر منا نعلم أن ربنا سبحانه وتعالى أراد أن يثيبنا رغم أنوفنا حسنات تتنزل علينا أفنطردها أو نستاء بها فلنفرح بهذا ولكن نحزن على إخواننا من البشر الذين لم تهد قلوبهم فندعوا لهم كما دعا النبي –-عليه الصلاة و السلام- اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ففي استهزائهم بنا خير وإشارة إلى أننا بحمد الله على الحق فيما نظن طالما يسخرون منا كما كان الناس يسخرون من رسول الله -عليه الصلاة و السلام- فهذا مؤشر صلاحية فينا وعاقبته خير لنا وسوء على الساخرين والمستهزئين فلا تعبأ بهم ولا تتبعهم بملاحقة وإن صح قول القائل:
ولو أن كل كلب عوى ألقمته حجرا لصار الحجر مثقالا بدينار
الحجارة يغلوا سعرها وترتفع أثمانها وهي حجارة في الأصل فلا داعي أن تتبع هؤلاء اتركهم لله سبحانه وتعالى واسئل الله تعالى لهم الهداية ان يثيبنا الله على ذلك ثوابا عظيما.
سؤاله الثالث: على العلاقة بين قوله تعالى ? أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَ ? وقوله تعالى ? أَلْقَى فِي الأَرْضِ أَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ ?؟
(13/34)
---(5/455)
هو كان يسئل عن العلاقة الجمالية بين قوله تعالى ? أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَ ? وقوله تعالى ? أَلْقَى فِي الأَرْضِ أَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ ? على حسب ما فسرنا واستقينا من بن كثير -رحمه الله تعالى- لم يكن هناك شيء من هذا إذا كان الانتقاص لموت الأنفس ونقص الثمرات أو اتساع رقعة الإسلام وضيق رقعة الكفر ودائرته في الأرض وإرساء الجبال على الأرض وتثبيت الارض بها ليس هنا التقاء إنما إن كان هناك تفسير علمي وهذا لابد أن نتحرز منه ويتحرى فيه حين نفسر القرآن أو الآية القرآنية بتفسير علمي أو بكشف علمي ونظرية علمية لابد أن نتقي هذا قدر الاستطاعة ويفسر الأمر أو يحمل الأمر بحكمة فلا تفسر الآية بنظرية علمية تتطور وتتغير إذن فالقرآن أيضا يتطور ويتغير القرآن حقائق ثابتة وفيها بعض الحقائق العلمية إنما حين يصل العلماء إلى منتهى بحثهم ويصلون إلى منتهى الأمر ويدركون الحقيقة العلمية أو الكونية الواقعة سيجدون الآية تخبرهما بذلك من قبل أن يصلوا إليه فربما كان هناك جمال بين انتقاص الأرض بالتفسير العلمي وبين إرساء الجبال لها لكنه لا يبدوا لي الآن والله تعالى أعلى وأعلم.
سؤالها الأول هل هناك فرق بين قوله تعالى اهبطوا منها أو اهبطا منها في قصة آدم عليه السلام ؟
(13/35)
---(5/456)
الفرق ليس دقيقا وليس كبيرا إنما هو فرق شكلي الله تعالى من شأنه في القرآن سبحانه وتعالى أنه يغير في الأسلوب في المتشابهات والنظائر أحيانا يسمى تلوينا في الأسلوب فيعاد الأمر بصورة غير الذي قيل بها قبل ذلك فالقاريء والسامع لا يمل هذا التكرار إنما يكون كل مرة بشكل معين مرة اهبطا ومرة اهبطوا والمأمورين بذلك هم هم لم يتغيروا، الأمر موجه إلى إبليس وإلى حواء وإلى آدم اهبطوا منها جميعا، اهبطا على أنهما اثنان والأمر على حقيقته الشائعة المعروفة أو الثابتة واهبطوا على أن أقل الجمع اثنان وهذا وارد في كثير من القرآن الكريم مثل قول الله تعالى: ? إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَ ?[التحريم: 4]، إن تتوبا اثنتان إذن فقد صغى قلباكما قلبين لكن قال: ? فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَ ? وكل منهما لها قلب هما قلبان فقط ومع ذلك جمعهما الله سبحانه وتعالى هذا موجود في القرآن في عدة نظائر أن الاثنين أول صور الجمع وبالتالي يصح التعبير عن المثنى بلفظ الجمع وجاء لذلك قول الله تعالى اهبطوا منها.
سؤالها الثاني أنه في القرآن الكريم مرة يرد قول الله تعالى لعبا ولهوا ومرة لهوا ولعبا فما هي أوجه التفسير التي تعيننا على الحفظ؟
هو من هذا أيضا هو من باب التلوين في الأسلوب حتى لا يكون الأمر في كل مرة على صورة واحدة أو شكل واحد فيكون تكرارا قد يصيب النفس بشيء من الملل أو السآمة الله تعالى يغاير بين هذه الصور في ذكر الأشياء، لكن من أراد التثبت في الحفظ يمكن أن يقرن بين لفظ الآية لهوا ولعبا أيهما مقدم وبين حرف قبلها أو كذا مشابه فيستطيع أن يحفظ على ذلك ولا ينسى في المتشابهات والله يوفقنا وإياكم جميعا لما فيه الخير.
على هذه المحاضرة ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: ما الغرض من الخبر ? وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ?ولماذا أخبر الله تعالى بهذا؟
(13/36)
---(5/457)
السؤال الثاني: كيف خلق الله الإنسان من عجل وما قيمة ذلك في ميزان الإسلام؟ هل العجل محمود في الإنسان أو غير محمود وهل يقوم أو لا يقوم؟
السؤال الثالث: ذكر في الآيات سبب مباشر للغواية والضلال ما هو وكيف يكون ذلك؟
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
(13/37)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (14) الأنبياء (الآيات 48 - 75)
الدرس الرابع عشر
[الأنبياء: 48: 75]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وتمسك بسنته إلى يوم الدين وبعد، فمحاضرتنا هذه -إن شاء الله تعالى- من سورة الأنبياء في الآية الثامنة والأربعين حتى الآية الخامسة والسبعين، وذلك كجزء أول من جزء آخر يتبعه -إن شاء الله تعالى- في ذكر قَصص للأنبياء على سورة موجزة من خلالها يثبت الله -تعالى- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بوعده إياه بمثل ما آتى الأنبياء من قبله، نتناول هذا الموضوع بعون الله -تبارك وتعالى- في هذا الجزء الأول منه من خلال عناصر ثلاثة:
أولاً: فرقان موسى وهارون.
ثانيًا: رُشد إبراهيم وسلامته في النيران.
ثالثًا: إبراهيم ولوط في نعمة الرحمن.
نسأل الله -تعالى- التوفيق في ذَلِكَ وفي غيره للسداد والرشاد وقبل أن نُفصل القول نستمع إلى نص الآيات المباركات من أخينا عبد الرحمن فليتفضل:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(14/1)
---(5/458)
?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ?48? الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ?49? وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ?50? وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ?51? إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ?52? قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ?53? قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ?54? قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ ?55? قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ?56? وَتَاللهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ?57? فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ?58? قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ?59? قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ?60? قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ?61? قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ?62? قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنْطِقُونَ ?63? فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ ?64? ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ ?65? قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ ?66? أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ?67? قَالُوا حَرِّقُوهُ
(14/2)(5/459)
---
وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ?68? قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ?69? وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ ?70? وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ?71? وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ?72? وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ?73? وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ?74? وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ?75?? [الأنبياء: 48- 75]
بسم الله الرحمن الرحيم
(14/3)
---(5/460)
في هذه الآيات النيرات نلاحظ أمراً معيناً ربما لا يتوفر في هذا القصص في مقام آخر من القرآن الكريم ففي كل مرة يورد القرآن القصة إنما يركز على جانب معين وهنا كما نلاحظ القصة تأتي موجزة إلى حد كبير والتركيز فيها على ما أعطاه الله وآتاه للأنبياء والمرسلين، وكأن الله -تعالى- يُصَبِّرُ ويواسي نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، ويثبت قلبه على طريق الدعوة بوعد كريم يُفهم من خلال سياق القصة بأنه -سبحانه وتعالى- سوف يؤتيه ويعطيه مثل ما آتى الآنبياء السابقين من خير وحكم وعلم ورحمة وبركة، ونصرة وعزة، كما قال -سبحانه وتعالى-: ?وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى? [الضحى: 5]، ويبدأ الله -تعالى- بذكر نبيه موسى وهارون -عليهما السلام- فيقول سبحانه: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ?، أي ولقد أعطينا موسى وهارون من نعمة الله عليهما أن الله -تعالى- آتاهما الفرقان، وتنوعت كلمة المفسرين كما ذكر الإمام الحافظ بن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير المراد بكلمة الفرقان تجتمع في النهاية في التوراة وما فيها من شريعة فهذا من اختلاف التنوع الذي لا تضاد فيه، فالكتاب الذي أوتيه موسى -عليه السلام- هو التوراة، وكان بما فيه من تشريع وأحكام وبيان، كان فيه فرقان يفرق بين الحق والباطل بين الخير والشر، بين ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من تصور واعتقاد وما يكون فيه من انشغال وعبادة وعمل، وما يكون متحلياً به من أخلاق، وبهذا فَرَقَ الله لبني إسرائيل بين ما ينبغي أن يكونوا عليه وما لا ينبغي أن يكونوا عليه، وجاء هذا الفرقان مع موسى وهارون -عليهما السلام- فكان موسى هو الرسول أما هارون فكان نبيًا مؤاذراً لأخيه موسى -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-، كما سَمَّ الله -تعالى- القرآن عندنا فرقاناً فقال سبحانه: ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ
(14/4)(5/461)
---
لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ?1?? [الفرقان: 1]، وأراد به القرآن فكل كتاب سماوي ينزل إنما هو فرقان بما حَمَلَ من شريعة وبما بَيَّنَ وفَصَّلَ من أحكام وبما دعى إليه من أخلاق وآداب، من التزم به استنارت له الدنيا ووضحت بين يديه الأمور كلها، فيأخذ حقها ويترك باطلها، وقد يتسائل سائل لماذا بُدِءَ الذكر بموسى؟ مع أن إبراهيم والأنبياء كانوا من قبله ومن بعده؟ لماذا بُدِءَ ذكر الأنبياء بموسى وهارون؟ لعل الجواب على هذا السؤال سبق في مواقف أخرى ودائما نذكر هذا يُقدم ذكر موسى كثيراً ويكثر الحديث عنه خطاباً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- باعتبار أن كتابه كان لا يزال باقياً يوم أن نزلت هذه الآيات وأن جاء القرآن كان كتاب التوراة لا يزال موجوداً مكتوباً في صحف عند اليهود، والإنجيل كذلك مكتوب عند النصارى وهذا هو الكتاب الذي سبق كتابنا مباشرة، بغض النظر عما فعل فيه أهله وأصحابه لكن مع كل هذا إلا أن التوراة والإنجيل فيهما إثبات أن الله -تعالى- أرسل موسى وهارون وآتاهما الكتاب المستبيين، ففيه شهادة على أن الله -تعالى- بَعَثَ هذين النبيين، وبالتالي فبِعثة رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- ليست بدعاً من القول ولا جديداً من الأمر إنما بعثته كبعثة من كان قبله، وشاهد من كان قبله لا يزال موجوداً في أيدي من يتبعونه، وأمة بَنِي إِسْرَائِيلَ تكاد تكون تكون أكبر أمة قبل أمة الإسلام، ولذلك الموعظة فيها أكبر والعبرة بها أوقع، ولهذا ولحكمة يعلمها الله -تعالى- بُدِءَ الذكر بموسى وهارون، ثم وصف الله الفرقان الذي هو التوراة وصفه بأنه: ?ضِيَاءً? لأنه ينير للناس طريقهم، ?وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ? يذكرون به رب العالمين ويشرفون بذلك، والمفروض أو المفترض أن الله –تعالى- يُنزل الكتاب السماوي ذكراً للعالمين أو ذكراً لأمة بكاملها، وليس للمتقين فقط منها، فكيف خص الله –تعالى- المتقين بالكتاب الذي أنزله؟(5/462)
وبالهدى
(14/5)
---
الذي أرسله دون غيرهم من الأمة؟ كما قال في القرآن وفي شأنه ?ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ?2?? [البقرة: 2]، مع أنه في الأصل منزل ليكون هداً للعالمين، ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ?107?? [الأنبياء: 107]، قال المفسرون في ذلك: «لأن المتقين الذين يتقون الشر والمعصية والكفر والظلم يتقون الحق فيأخذون به، يتقون الخير فيفعلونه، هؤلاء هم الذين يبحثون عن هداية الرحمن، وهم الذين يبقلونها إذا عُرِضَت عليهم، وهم الذين ينتفعون بها إذا عرفوها، فكانوا أحق بها وأهلها»، فقال تعالى: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ?48?? ثم بين الله -تعالى- المراد بالمتقين في الآية التالية وهذا يعد من التفسير بالمأثور بل من أجله وهو تفسير القرآن بالقرآن، فتفسير كلمة المتقين موجود ومنشور في قول الله -تعالى- بعد ذَلِكَ: ?الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ? هذا بعض وصفهم، وليس كلَّ ما لهم من وصف، إنما من أبرز أوصافهم أنهم يخشون ربهم بالغيب، يعني يعظمون الله ويرهبونه ويخافونه ?بِالْغَيْبِ? أي: حين تغيب عنهم الأعين من الخلق، وحين يكونون في خلوة مع الله لا يراهم أحد من الناس فإنهم يعتبرون أنفسهم مُشَاهَدِينَ أيضاً فلا يغرنهم أنهم خلو وأن الدنيا أظلمت عليهم وأن صورهم غير ظاهرة للناس، على حد قول القائل:
إذا خلوت الدهر يوماً *** فلا تَقُل خلوت ولكن قُل عليَّ رقيب
فكانوا إذا خلوا بعيداً عن الناس كأنهم بين الناس وأكثر؛ لأنهم يستحضرون مشاهدة الله لهم ورؤية الله لهم -سبحانه وتعالى-.
(14/6)
---(5/463)
?وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ? الساعة هي القيامة وما فيها من حساب، وهكذا الإنسان العاقل الواعي يُحاسب نفسه ويعمل حساباً للموقف الذي سيسأل فيه، وبالتالي يَخشى ويخاف ويشفق على نفسه، يعني يخشى على نفسه من توقع خطرٍ قادم، وهذا هو الإشفاق رجاء توقع شيء مكروه، فيشفق الإنسان على نفسه أو على غيره من وقوع مكروه به، كان المتقون كذلك في كل أمة ?وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ? أي: مشفقون على أنفسهم من موقف المسائلة وما أشده من موقف إنه موقف أقض مضجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنامه حتى قام من الليل يصلي فافتقدته السيدة عائشة -رضي الله عنها- فقامت تنظر أين هو، فوجدت ساجداً يطيل السجود فخشيت أن يكون قد قُبِضَ على هذه الهيئة فحركت قدمه -عليه الصلاة والسلام- فعلم مقصودها أنها تختبر حياته من موته، فرفع صوته بما كان يذكر به ويدعو به فكان دعاؤه عندها: (اللهم حاسبني حساباً يسيراً، فلما انصرف من صلاته قالت يا رسول الله: ألم يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تقدم؟ يعني لماذا تسأل تخفيف الحساب وأنت مغفور لك كل شيء، فقال -عليه الصلاة والسلام-: يا عائشة إن من نوقش الحساب عُذِّب)، مجرد مناقشة الحساب أفعلت كذا ولم فعلت أكسبت كذا ومن أين كسبت، وفيما أنفقت هذا فقط عذاب نسأل الله العفو والعافية.
(14/7)
---(5/464)
?وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ? الغرض من ذكر قصص الأنبياء كما قلنا يكاد يكون كامناً في الآية التالية، ?وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ? كأن الله –تعالى- يقول: لقد آتينا موسى وهارون الفرقان، وآتينا محمداً -عليه الصلاة والسلام- هذا القرآن وسمى الله –تعالى- القرآن هنا ذكراً؛ لأنه هو الكتاب الذي ينبغي أن نذكر الله من خلاله، وعلى منهاجه، ولا تجوز عبادة الله –تعالى- على طريقة تخرج عن القرآن والسنة، وما السنة إلا شارحةً للقرآن في معظمها، إذن القرآن هو مِنهاج ذكرنا لله، كيف نذكر الله؟ خذ من القرآن والسنة واذكر الله -تبارك وتعالى- بهذا المنهاج العظيم، فالله تعالى هو الذي يحدد لنا الطريق التي نعبدها بها ونذكره بها، وكذلك حينما نذكر الله بالقرآن فهذا شرف عظيم لنا ?لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ? [الأنبياء: 10]، أي: فيه شرفكم، وعزكم، ثم وصف الله القرآن بعد تسميته بالذكر وصفه بأنه مُبَارك، وذلك من كثرة خيره فهو نافع في الدين والدنيا والآخرة، فهو شامل لكل شيء صَدَقَ مُنزله إذ قال: ?مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ? [الأنعام: 38]، ما قصده قاصد إلا ووجد فيه طِلْبَتَهُ ومقصده فهو قرآن مُبارك وذكر مُبارك كثر خيره وفاض، ?أَنْزَلْنَاهُ? الله هو الذي أنزله، فمن السماء مهبطه وليس من الأرض منبته ?أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ? علمتهم أن موسى وهارون آتيناهما الكتاب المستبيين، وهو التوراة، وآتينا محمداً -عليه الصلاة والسلام- القرآن أفتنكرون القرآن كيف وقد أقررتم برسالة موسى ورسالة من سبق وبالكتب المنزلة، ?أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ? وهذا يدل على أنهم كانوا منكرين فعلاً والقرآن ينكر عليهم هذا الإنكار للقرآن الكريم وهم متلبسون به يعني إنكاركم للقرآن أمر منكر ولا ينبغي أن تكونوا عليه بهذه السرعة توجز هذه السورة قصة موسى(5/465)
(14/8)
---
وهارون بينما رأيناها طويلة في سورة طه.
ثم ينتقل سياق الآيات إلى ذكر نبي آخر ونلاحظ أن الله –تعالى- أعاده هنا لفظاً ذكره في شأن موسى وهارون، ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ? قال هنا: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ?، أي أعطيناه، وهكذا أيضاً سنعطيك يا محمد -عليه الصلاة والسلام- من البينات والآيات والمعجزات ما مثله يؤمن عليه من يؤمن من البشر، وما يكون حجة على من كفر، ?وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ? الرشد ضد الْغَيِّ والضلال والهوى، إذن الرشد هدى، قال تعالى: ?قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ? [البقرة: 256]، فقابل الرشد بالْغَيِّ، إذن هذا قسيمه، فما كان إبراهيم غيياً أبداً بل منذ صغره وهو رشيد في رأيه سديد في قوله عاقل في بيئة جاهلية كانت تعبد الأصنام وتعبد الكواكب والنجوم ولها من الجرائم والمظالم ما لها، ينشأ في وسطها إبراهيم الرشيد -عليه سلام الله تعالى- وما كان رشده هذا إلا من إِيتاء الله ونِعَم الله عليه، ومعنى قوله ?مِن قَبْلُ? أي من قبل نبوته، قبل أن يكون نبيا قبل أن يكون خليلاً آتاه الله رشده منذ صغره، ?وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ? الله يراقبه كما يَرْقُبُ الجميع فرى إبراهيم يستحق أن يؤتى الرشد فآتاه الله رشده، وأعده -سبحانه وتعالى- على عينه ليتحمل رسالة ربه، ?وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ? ورشده هو المذكور في قول الله –تعالى-: ?وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ? [الأنعام: 83]، فقد آتى الله إبراهيم رشداً مَكَنَه من أن يحتج على قومه في إنكار الشرك وإقرار توحيد الله –تعالى- حتى قبل أن يؤتى النبوة حجة ألجمت القوم، وما استطاعوا لها رداً، ذلك من رشده الذي آتاه الله، وذُكِرَ في الإسرائيليات التي لا عبرة بها، وننبه عليها(5/466)
لإبطالها
(14/9)
---
كما نبه الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- قال: «وما يذكر من إِدخال أبيه له في السرد وهو رضيع وأنه خرج بعد أيام فنظر إلى الكواكب والمخلوقات فَتَبَصَّرَ فيها» فهذه الأحاديث وهذه الحكايات عامتها من بني إسرائيل هكذا يقول ابن كثير -رحمه الله تعالى- منبها إلى أن إبراهيم ما وضع في سِرب ولا غاب فيه أياماً وهو رضيع ولا أخرج منه ولا تبصر في الكواكب حتى صار فلكياً وما نحو ذلك، إنما أوتي عقلاً رشيداً يفكر به ويعقل به فرأى بين قومه أن هذه الأصنام وهذه الكواكب لا تستحق أن تكون آلهة كما سيأتي تفصيل ذلك بعون الله –تعالى-.
(14/10)
---(5/467)
?وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ? أي: كنا نعلم أنه يستحق ذلك، وأنه أهل لهذا الرشد، ثم بين الله –تعالى- هذا الرشد فقال: ?إِذْ قَالَ لأَبِيهِ? "إذ" معناها حين ووقت، حين قال لأبيه، ?إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ?، ?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ?؟ وكانت بلاغةً من إبراهيم كما قصها القرآن الكريم أن يسميها تماثيل وأن يذكر عكوفهم عليها، فالعكوف عبادة، وهذا المعبود ما هو إلا تماثيل وأصنام, فالتماثيل لا تُعبد؛ لأنها صنعة الإنسان هو الذي صنعها هو الذي نصبها هو الذي جعل لها مقاماً فكيف به يعبدها بعد ذلك، كيف يعبد الصانع صنعته؟!! إنما ينبغي أن يكون الأمر معدولاً لا معكوساً هكذا، فتتبع الصنعة صانعها، ويتبع الخلق خالقهم ويعبدونه -سبحانه وتعالى- فقال إبراهيم من رشده: ?قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ? ظاهر سياق الكلام أنه يسأل عن هذه الأصنام ليقولوا له: هذه أصنام اتخذناها من حجارة أو من كذا، ولكن المراد ?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ?؟ يعني: ما عكوفكم على هذه التماثيل وما سِرُّ عبادتكم لها، فهم القوم ذلك، فأجابوه مظنة أنه لا يعلم، كأن إبراهيم لا يعلم لماذا يعبدون هذه الأصنام هو يعلم ولكن يسأل هذا السؤال إنكاراً عليهم، إنكاراً عليهم أن يسجدوا ويعبدوا مخلوقاً أقل منهم شأناً حجراً يداس بالأقدام حجراً يؤثر فيه الإنسان ولا يؤثر هو بنفسه في الإنسان، فأراد أن يبين لهم انتكاسَتَهُم الخطيرة وضلالهم البعيد، لكنهم أخذوا بظاهر السؤال فأجبوا قائلين قالوا: ?وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ?، وظنوا أن هذه حجة وأنه بهذا يكون تبريراً صالحاً لعملهم السيء ولشركهم بالله -عز وجل- وإعراضهم عنه،(5/468)
(14/11)
---
?وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ?، أي عبدناها كما عبدها الآباء، الآباء عادةً ليسوا أنبياء ولا مرسلين، ولا معصومين، ولا يلزم أن يكون الأب على هداً دائماً فلا يصح اتباع الأولاد لأبيهم إلا إذا كان على هداً وعلى بصيرة، فلا يحاول والد من الوالدين أن يجبر أولاده على طاعته في كل شيء إنما هو من أولي الأمر الذين قال الله في شأنهم: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ? [النساء: 59]، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم، لتكون طاعة أولي الأمر على تنوعهم إن كانوا أمراء أو علماء أو أرباباً كرب البيت ورب الأسرة لتكون طاعة هؤلاء الأمراء أو غيرهم داخلةً ومنضطبةً بطاعة الله وطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا تجوز طاعة الوالد في معصية الله، ولا يجوز اتباع الأب على كل الأحيان إنما ننظر في أفعاله وفي سلوكياته فإن كان على هداً تبعناه وإن كان على غير هداً خالفناه مع الاحتفاظ له بحق البر ولو كان كافراً فالأب له حق والأم كذلك حق البر لا يسقط أبداً ولو مع الكفر، إنما الطاعة تكون لأمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فنطق أهل الجاهلية في زمان إبراهيم -عليه السلام- قالوا: ?وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ?، قال: مفاجئاً لهم بهذا المقال: ?قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ? أنتم وآبائكم في ضلال مبين، فالآباء كانوا على ضلال وأنتم تبعتموهم على غير بصيرة على ضلال واضح، الضلال واضح ولكنكم لم تبصروا هذا الضلال، لم يصدقوا طبعاً؛ لأن من شأن الجاهلية أن يعتز الأولاد بآبائهم وأن يتفاخروا بآبائهم وأنسابهم هذا معروف في أهل الجاهليات إنما الإسلام والدين السماوي يعلمنا أن نعتز بالحق أبي وأمي ونفسي وحياتي وروحي وعزي وفخري هو الحق وأن أكون تابعاً له، وأبي فخرٌ لي ولكن الحق أحب إلي من الناس كلهم،(5/469)
هكذا يعلمنا
(14/12)
---
الإسلام التجرد للحق الذي أنزله الله -سبحانه وتعالى-، فلما رأوا إبراهيم يحكم عليهم وعلى آبائهم بالضلال المبين قالوا مندهشين: ?أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ?؟ أهذا حق يا إبراهيم؟ أو أنك تلعب معنا بهذا الكلام؟ قال: ?بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ?، ذكر الإمام ابن كثير وكأنه يقيس أمراً على أمر ذكر عند قول الله تعالى: ?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ? ذكر عن ابن أبي حاتم -رحمه الله تعالى- عن الأصبغ ابن نباتة قال: «مر علي -رضي الله عنه- على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ?»، يقول: عليّ -رضي الله عنه- لهؤلاء الذين يلعبون بتلك اللعبة ?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ?؛ لأنها تأخذ من أعمار الناس ساعات طوالاً وإن كانوا يدعون أنها تُمِدُهُم ببعض المهارات الحربية أو العسكرية فإن هذا ليس مصدراً والحمد لله أغنانا الله بالقرآن والسنة وبسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ففي كل ذلك منهج عظيم للمبارزة والحرب وفن اللقاء والفن العسكري والفن الاجتماعي وكل ما نحتاجه في حياتنا الدنيا والآخرة أما أن يعكف الناس على لعبة كهذه تُوغِر الصدور وتحول الأحباب أعداءاً وتقضي على أعمار الناس في لهو ولعب، فهذا اعتبره سيدنا علي -رضي الله عنه- بأنه من ضمن قول الله –تعالى-: ?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ?، ويمكن أن يُقاس على ذلك كل لُعْبَةٍ شغلت الناس وقضت على أوقاتهم في غير ما فائدة راجحة تُرضي الله -تبارك وتعالى- عنهم قال علي -رضي الله عنه-: «?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ?، لأن يَمَسَ صاحبكم جمراً حتى يُطفأ خير له من أن(5/470)
يَمَسَها»، الإنسان لو أمسك
(14/13)
---
جمراً بيده حتى يطفئه ولو أحرق يديه خير له من أن يُمسك بهذه اللعبة، قد يستغرب بعض الناس هذا ولكن هذا هو مِنهاج صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذه نصيحة إمام المتقين بعد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
بَيَّنَ إبراهيم -عليه السلام- في حواره مع قومه أنه ليس من اللاعبين، وإنما هو جاد كل الجد ومحق كل الحق، قال: ?قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ?، ربكم ورب آبائكم هو رب السماوات هو رب الأرض هو رب ما بينهما هو رب كل شيء، هو الله الواحد القهار -سبحانه وتعالى- أما هذه الأصنام وتلك التماثيل فليست رباً لأحد ولا فضل لها لأحد إنها لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، ?رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ? الفطر هو الخلق، يقصد به الخلق لأول مرة، ?وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ? أنا شاهد على أن الله هو رب كل شيء، وهو ربكم أيضاً، كل هذا وإبراهيم صغير في السن، كل هذا وإبراهيم لم يؤتى النبوة ويتكلم بهذا الكلام العظيم في جناب التوحيد وينكر هذا النكران العظيم على الشرك والمشركين وكانت عادة أهل الأصنام وعبادها أنهم يحتفلون بها في أعياد معينة وربما وضعوا عليها شيئًا من العسل، كما كان يفعل أهل الجاهلية في العرب يوم عيدهم، وربما ذبحوا أمامها وبين يديها القرابين التي لا تأكلها ولا تأخذ منها شيئًا لهم عيد يحتفلون بهذه الأصنام ويقدسونها فيه فلما اقترب عيدهم قال له أبوه: يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا، فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه على الأرض فكان كل من مَرَّ به يقول مَهْ أي: ما هذا؟ مالك وما بك؟ فيقول: إني سقيم، أي: مريض، وظل هكذا ساقطاً على الأرض والناس يمرون من حوله حتى ذهب عامتهم ومعظهم ولم يبقى إلا القليل منهم، فقال فيما بينهم وفيما سمعوه،(5/471)
?وَتَاللهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ
(14/14)
---
بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ?، واعلم أن إبراهيم هنا ما خرج للعيد ولا خرج لهذه الأصنام والتماثيل إنما كان -عليه سلام الله- حتى في الجاهلية طواعاً لأبيه بما لا يغضب الله، فأطاع أباه وخرج ولكن لم يتم الأمر الذي يُغضب الله -عز وجل- كما رُوِيَّ عنه -عليه سلام الله- أنه كان يعطيه أبوه الأصنام ليبيعها في السوق فما كان يقول له لا، فيأخذ الأصنام ليبيعها في السوق كما أراد أبوه فيعرضها على الناس وينادي كما يفعل البائعون ويقول: «من يشتري ما لا ينفع ولا يضر»، أطاع أباه ولم يعصي ربه ولم يشرك به، -سبحانه وتعالى- كان رشيداً فخرج مع القوم حتى يطيع أباه فيما طلب منه، ولكن لم يقع في معصية تخلف عنهم في أثناء الطريق وتوعد آلهتهم بأنه سوف يكيد لهم كيدا ?وَتَاللهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ?، فعلاً قَصَدَ إلى أصنامهم وهم يحتفلون بالعيد مشغولين بذلك ?فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ?، ?فَجَعَلَهُمْ جُذَاذً?، أي: جعل الأصنام والتماثيل جُذَاذًا كما يجعل الفلاح القمح جُذَاذًا يَجُذُهُ من فوق الأرض وقيل حطمها كِسَراً صغيرة وما أبقى منها شيئًا إلا الصنم الكبير الذي يعدونه إله الآلهة، عَلَّقَ في يديه القَدُوم الذي كَسَّرَ به الآلهة حتى يوهمهم ويسخر من فعلهم أنه هو الذي أهلكهم وهو الذي كَسَّرَهُم ?لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ?، رجعوا بالفعل ورأوا ذلك العمل الذي أغضبهم وأثار حفيظتهم قالوا: ?مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ?، الذي فعل هذا ظالم، وسوف نذيقه جزائه وعقوبته يتوعدونه بهذا ?قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ? فـ "من" هنا في هذه الآية اسم موصول، أي: الذي فعل هذا ?إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ? ثم أجابهم بعضهم(5/472)
ربما أولئك الذين سمعود يقول: ?وَتَاللهِ
(14/15)
---
لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ?، قالوا: ?سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ?، وربما كانت "مَنْ" استفهامية، قالوا مَنْ فَعَلَ هذا بآلهتنا، هذه مقالة، ثم عقبوا عليها أيضاً بمقالة أخرى فقالوا: ?إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ?، فسألوا فلما سألوا أجابهم البعض الآخر قائلين: ?سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ?، كلمة فتا تدل على القوة وتشير إلى الفتوة، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن على قوة في بدنه في علمه في حياته كما جاء في الحديث: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله –تعالى- من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)؛ لأن في كل إيمان وفي كل خير، فكان إبراهيم كذلك قوياً فتياً عليه سلام الله وكان موسى كذلك وكان نبينا -عليه الصلاة والسلام- كذلك، هم أفتى الشباب عليهم صلوات الله وتسليماته، ?يَذْكُرُهُمْ?، يعني: يذكرهم بسوء ?يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ? يعني يسمى إبراهيم وينادى بإبراهيم وهذا يشير إلى أنه كان نكرة في الناس ما كان يتعاظم ولا يتفاخر ما كان يحب المظهرة ولا الظهور إنما كان إنساناً مطموراً متواضعاً مع الناس إلا أنه كان يلزم الحق ويفعل الخير قالوا: ?قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ? أي استحضروه أمام الناس كلهم ليكون عِبرة ليشهدوا عقوبته فيكون عِبرة لغيره، قالوا بعد أن جائوا به قالوا له: ?قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ? تحقيق مع إبراهيم وتقرير يقررونه إن كان قد فعل هذا أو لم يفعله، ? قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ?62? قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنْطِقُونَ? يتشبث بعض الناس وينسب إلى إبراهيم الكذب وإبراهيم رشيد منذ صغره ونبي بعد ذلك وخليل للرحمن من(5/473)
بعد ذلك ما شاء الله مقامات رفيعة وصفه الله –تعالى-
(14/16)
---
بقوله: ?وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ?37?? [النجم: 37]، ?وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ? [البقرة: 124]، وصفه الله بأنه أتم أمر الله ووفى به، ونحن نصفه بالكذب هذا لا يليق، إنما كان هذا في جاهلية كان قبل الشريعة، وهذا أسلوب ظاهره الكذب، ولكن يقصد به الاستهزاء، فكان قصده الاستهزاء لا إخفاء الحقيقة فالحقيقة معروفة والكل يعلم أن هذا الصنم لا يحرك ساكناً ولا يكسر صنماً آخر وهذه الآلهة المزعومة لا تتعارك مع بعضها فلا حياة فيها أصلاً، إذن قصده الاستهزاء بقومه والسخرية منهم لعلهم يرجعون إلى رشدهم، ?قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنْطِقُونَ? وإن معناها الشك، يعني فهم لا ينطقون، ساعتها ?فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ?، وهذا هو المقصود، هذا مقصود إبراهيم أن يردهم إلى رشدهم كما آتاه الله رشده، ?فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ?، أي عادوا إلى رشدهم، فقالوا: ?إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ?، قال بعضهم لبعض: إبراهيم على حق هذه أصنام لا تملك شيئًا ولو كان هذا إلهاً حقاً ما كَسَّرَ الآلهة ولا تعادى معها ومثل هذا لا يفعل هذا الفعل، رجعوا إلى رشدهم وأفاقوا وتذكروا فطرتهم السليمة ولكن للأسف كانت للحظة قالوا لبعضهم ?إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ?، يعني ليس إبراهيم ظالماً بفعله هذا إنما أنتم الظالمون لأنفسكم حيث تسجدون لأصنام وأحجار لكن للأسف كانت رجعة سريعة رجعة عاجلة رجعة طارئة، وكان الباطل متمكناً منهم فقال تعالى: ?ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ? وانتكاستهم كانت شراً من حالهم الأولى، في الأولى والثالثة أو في الأولى والأخرة كانوا يعبدون هذه الأصنام وفيما بينهما أفاقوا للحظة، لكن الثانية عندهم كانت شراً من الأولى؛ لأن الأولى تبعوا آبائهم على غير هداً وعلى غير(5/474)
علم وعلى غير بصيرة وما نبههم أحد إلى ذلك قبل إبراهيم لكن بعد أن
(14/17)
---
عرفوا الحق وعرفوا أنهم هم الظالمون وأن إبراهيم صادق فيما دعاهم إليهم أبعد ذلك ينتكسون على رؤوسهم ويرجعون إلى تأليه الأصنام والأحجار كانت هذه أشد فلذلك عطفها الله بحرف "ثم" الذي يفيد التراخي والبعد، أي هذه الفعلة كانت أبعد في الباطل من فعلتهم الأولى الأولى كانت على ضلال نشئوا هكذا لكن الثانية كأنهم اختاروا الأصنام اختياراً وأرادوها إرادةً حرةً بعد أن عرفوا الحق من الباطل ?ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ?، وعَبَّرَ الله عنهم بهذا التعبير ليدل على أنهم انتكسوا وأن الإنسان بعد أن يكون على الحق ويرجع إلى الباطل فهذه انتكاسة خطيرة نعرف منها انتكاسة المريض حين يعود إليه المرض بعد صحة وعافية كان المرض عنده ثم عُوفِيَّ منه ثم رجع إليه مرة أخرى فتكون أشد وأنكى، فما بالك بمن انتكس في الحق والعياذ بالله أي تركه إلى الباطل بعد أن علمه.
(14/18)
---(5/475)
روى الإمام البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- وذكره ابن كثير -رحمة الله عليه- عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن إبراهيم لم يكذب غير ثلاث، ثنتين -أي اثنتين- ثنتين في ذات الله، قوله: ?بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَ? وقوله: ?إِنِّي سَقِيمٌ? [الصافات: 89]، وقوله عن زوجته سارة للملك الجبار في مصر هي أختي)، بينما كانت زوجته هذه ثلاث كذبات أي في صورة الكذب، ولكن نعلم من خلال شريعتنا أن الكذب إذا كان للاستهزاء أو لغرض آخر غير الكذب فليس كذباً وكذلك الكذب حينما يكون على عدو فهو حق، ويجوز الكذب على الأعداء بل فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- وَوَرَّى على الرجل الذي كان لا يعرفه، فقال: من أينتما يقصد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأبا بكر، وقد سأله النبي -عليه الصلاة والسلام- على خبر قريش يوم غزوة بدر وهكذا، فقال الرجل: من أين أنتما؟ قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (من ماء)، فقال الرجل يقبل يديه ماء كذا أو ماء كذا، بعض مواضع اسمها ماء، ماء بدر وماء كذا وماء كذا، يُقلب كفيه يا ترى من أي موضع اسمه ماء، وربما كان من ماء مهين فهما مخلوقان من ذلك، فالكلمة تحتمل طالما الكذب على الأعداء فيجوز يجوز الكذب على أعداء الله -عز وجل- وكان الملك الجبار في مصر يومها عدواً لله وأراد سوءً بسارة كما كان يريد سوءً بالنساء عادةً فلذلك وضماناً لنجاة سارة قال إبراهيم: هي أختي، ولم يقل: هي زوجتي، وفي الحقيقة ليست كذبة وَخَرَّجَ العلماء هذا الكلام تخريجاً كثيرًا يبرء ساحة إبراهيم -عليه السلام- فإنها قبل أن تكون زوجته وبعد أن كانت زوجته هي أخته في الله أخته في الديانة ولكن لم يكذب لغرض الكذب، فلا ينبغي أن ننسب إليه ذلك إنما نحمله على ما ينبغي أن يفهم من مقام إبراهيم -عليه السلام- كما أشرت كفى بقول الله ?وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ?37?? [النجم: 37].
(14/19)
---(5/476)
فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا: ?فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ ?64? ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ ?65??، ?نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ? وقالوا لإبراهيم ?لَقَدْ عَلِمْتَ? يا إبراهيم ?مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ?، قال: ?أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ ?66? أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ?، "أف" كلمة تضجر وكلمة زجر ولذلك نهى الله عنها في حديثنا مع آبائنا وأمهاتنا ?فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ? [الإسراء: 23] ، ?أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ? إنكار لهم ولما يعبدون من دون الله من الأصنام ?أَفَلاَ تَعْقِلُونَ?، يعني ينبغي أن تعقلوا ولو أنهم حكموا عقلهم للحظة لعرفوا أنهم على ضلال مبين فما ينبغي للإنسان أن يسجد لحجر صنعه بيده وأقامه في مقامه، قالوا: ?حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ? هكذا نفذ سلطان الحجة، سلطان البيان غلبهم إبراهيم -عليه السلام- بلسانه فكانوا أقوى منه وأمكن منه فلجأوا إلى التصفية الجسدية وهذا أسلوب العاجز أسلوب الكليل أسلوب الجاهل، إنما القوي العالم لا يلجأ إلى قوة إنما أسلوب الحوار الهادئ كما فعل إبراهيم -عليه السلام- فلما نفذ سلاح حجتهم بالقول الصحيح السديد لجئوا إلى القوة قالوا: ?حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ?، يحفز بعضهم بعضاً على هذا العمل ?إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ? أي قوموا فافعلوا ذلك ?حَرِّقُوهُ? لم يقولوا "احرقوه" إنما ?حَرِّقُوهُ? مبالغة في الإحراق ?وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ?، لا يزالون يصرون ويقرون بأنها آلهة رغم بيان الحق أمام أعينهم فلما فعلوا ذلك وفعلوه فعلاً عظيماً أضرموا ناراً وحريقاً عظيماً جداً أعدوا لها فترة حتى كانت المرأة تُصَاب بالمرض فتنذر للآلهة إن شُفيت أن(5/477)
(14/20)
---
تحمل حطباً لحريق إبراهيم بلغ بهم ذلك المريض ينذر لآلهته إن شُفِيَّ من مرضه هذا أن يشارك بحمل الحطب لحريق إبراهيم -عليه السلام-، فكان وضعاً أليماً جداً وكانت قيامة واحدة من القوم على إبراهيم -عليه السلام- وهو وحيد بهذا الفكر حتى قبل أن يكون نبياً -عليه سلام الله تعالى- وألقي إبراهيم في النار فكان ملجئه وخلاصه بقولة "حسبي الله ونعم الوكيل"، روى الإمام البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: ?إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ?173? فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ?[آل عمران: 173، 174])، وأخرج أبو يعلى عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لما ألقي إبراهيم في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك) يعني أنا وحدي أعبدك، لعله كدعاء النبي -عليه الصلاة والسلام-: (اللهم إن تهلك هذه العصبة لن تعبد في الأرض بعد اليوم)، يعني لو أحرقوني وتركتني لهم يا ربي لن يعبدك أحد فلا يعبدك في هؤلاء غيري، وهذا استعطاف لرحمة الله -تبارك وتعالى- فكانت النجاة وكان يومئذ كما ذكر بعض العلماء: «أنه كان في السادسة عشرة من عمره -عليه سلام الله-»، وذكر بعض السلف كما ذكر ابن كثير هذا: «أنه عَرَضَ له جبريل أي تعرض له فقال: ألك حاجة؟ وهو في النار وإبراهيم يقول له: ألك حاجة؟ أما إليك فلا، وأما من الله فبلاء»، ما شاء الله يقين عظيم حتى وهو في الشدة لا يسأل غير الله وإن كان مَلَكَاً لا يتحرك ولا يتنزل إلا بأمر الله إلا أنه لم يوجه سؤاله إلا إلى المعطي سبحانه وتعالى، فقال: أما إليك فلا وأما من الله فبلاء، ولذلك أجابه الله مباشرة:(5/478)
?قُلْنَا يَا
(14/21)
---
نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ? لم يقل قلت يا نار، إنما ?قُلْنَ?، ليفيد العظمة هذا أمر عجيب نار بهذا الشكل وبهذه الضخامة تكون برداً وسلامًا على إبراهيم أو على من فيها لا يفعل ذلك إلا رب عظيم قاهر -سبحانه وتعالى-، من شدة هذه النار يومها يقول كعب الأحبار: «لم ينتفع أحد يومئذ بنار ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه» الرباط الذي ربطوه به فقط، ولم تحرق شيئًا منه، وقال الثوري بسنده عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- قال: «بردت النار على إبراهيم حتى كادت تقتله حتى قيل وسلامًا قال لا تضر به»، وهذا هو التوازن والحكمة في فعل الله -تبارك وتعالى- لو قال ?كُونِي بَرْدً? فقط فالبرد له أضراره ولكن أضاف ?وَسَلاَمً? حتى لا يضره بردها ونار الآخرة فيها حر وبرد فيها حر وزمهرير نعوذ بالله منها، بشكليها اللهم أمين.
(14/22)
---(5/479)
قال أبو زرعة عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: «إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم -أحسن كلمة قالها والد إبراهيم -على إبراهيم السلام- قالها يومئذ، لما رُفِعَ عن إبراهيم الضيق، بردت النار وهدأت وخمدت وانطفأت وظهر إبراهيم أمام الناس هكذا سالماً لم يصبه شيء قال أبو إبراهيم نعم الرب ربك يا إبراهيم»، هذه أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم ولكنه فعل كما فعل أبو طالب ظل على ملة الأشياخ ومات على شِركه والعياذ بالله تعالى، قال نعم الرب ربك يا إبراهيم وذكر في شأن النار أيضاً ما قاله قتادة السودسي من التابعين -رحمه الله تعالى-: «لم يأتي يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوزغ»، كل دابة حتى الحشرات تأتي على هذه النار وتنفخ فيها لتطفئها على إبراهيم تشارك في حماية هذا الشاب الصالح إلا الوزغ، وهو ما يسمى عندنا بـ "البرص"، هذا فقط هو الذي ما كان يساهم في نجاة إبراهيم ولذلك أَذِنَ النبي -عليه الصلاة والسلام- بل أمر بقتله وسماه فُوَيسقاً وروى ابن أبي حاتم عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ، أي: إلا الوزغ، فإنه كان يأمر عن إبراهيم فأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتله)، وهذا يفيدنا أمراً مهماً جداً وهو وجوب مساندة الصالحين ووجوب الدفاع عن أهل الحق ووجوب مشاركة أهل الخير هكذا لأن هذه الحشرات والحيوانات والدواب شاركت في حماية إبراهيم وإطفاء النار عنه وساعدت على قول الله –تعالى-: ?قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ?، ومما آتى الله إبراهيم أيضاً أنه نجاه من الكافرين نجاه من النار هكذا ونجاه بعد ذلك أيضاً على طول طريق النبوة وأذن له بالهجرة مع لوط -عليه السلام- إلى الأرض التي بارك الله فيها للعالمين وهي أرض فلسطين أرض الشام وبيت المقدس خاصة كما بُعِث فيه سيدنا موسى(5/480)
(14/23)
---
وعيسى والأنبياء من بينهما وهكذا وكان مَسْرَى رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- ومصعده إلى السماء وذكر لوط مع إبراهيم هكذا ذكراً متداخلاً؛ لأن إبراهيم كان ابن أخي إبراهيم، ابن أخيه، وآمن به وتبعه وهاجر معه، فناله من الخير ما نال إبراهيم وآتاه الله النبوة بعد ذلك، وأرسله إلى قرية اسمها قرية "سَدُوم"، كان نبيا في أهلها، ومما آتى الله إبراهيم أيضاً قال: ?وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً? يعني زيادة، إسحاق بن إبراهيم وأما يعقوب فهو ابن إسحاق يعني أعطى الله لإبراهيم الولد والحفيد فكان الحفيد زيادة على الولد ?وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ? وما أجل من نعمة أن يكون أولاد الإنسان وأحفاده ونسله صالحين، ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَ? وهذا من استجابة الله لدعاء إبراهيم: ?إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي? [البقرة: 124]، قال تعالى هنا: ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ? أي ألهمناهم ?فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ? أي وفقهم الله إلى هذا وهداهم إليه: ?وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ?، تلك شهادة عظيمة من الله لذرية إبراهيم -عليه السلام- ثم أفرد لوط بالذكر لأنه سار نبيا بعد ذلك إلى قوم مخصوصين ?وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمً?، الحُكم هو النبوة والعلم معروف، ?وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ?، لم يقل في ذلك عن الشرك إنما قال ?الْخَبَائِثَ?، ويقصد بها تلك الخبيثة العظيمة التي لم يأتي بها أحد من العالمين قبل قوم لوط، وهي إتيان الذكران من دون النساء، حلى لهم أن يقضوا شهوتهم رجالاً مع رجال أما النساء فلم يكن لهم ميل إليهن وذلك مُخالف للشريعة مخالف للفطرة مخالف للإحساس السليم فهؤلاء قوم منتكسون انتكاسة عظيمة، نجاه(5/481)
الله من خبثهم
(14/24)
---
هذا ومن جزاء وعقوبة عملهم هذا ?إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ? وكلمة "سَوْءٍ" و "سُوُء"، في القرآن الكريم أو في اللغة عموماً كلمة سُوُء تقال لما كان سُوءً خالصاً لما كان خالصاً في السُوء، ولكن "سَوْء" تقال: لمن يصلح أن يكون صالحاً أو سيئاً ولكن غلب عليه السوء فيقال سوء ?إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ?؛ لأنهم كانوا يمكن أن يكونوا صالحين لو أرادوا ولو اختاروا طريق الصلاح، ومما آتى الله لوطاً أيضاً كما آتاه النبوة ونجاه من القرية التي كانت تعمل الخبائث أن الله –تعالى- أدخله في رحمته ?وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ? شهادة صدق في حق لوط -عليه السلام- وهكذا ينتهي الجزء الأول من ذكر الأنبياء في هذه السورة وما آتاهم الله –تعالى- من فضله بشارة لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيؤتيه أيضاً حتى يرضيه وهذا تثبيت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على طريق النبوة وعلى طريق الدعوة نسأل الله –تعالى- النفع بما علمنا والعلم بما ينفعنا ونعوذ به من علم لا ينفع إن ربنا هو الرحمن الرحيم وهو وَلِيُّ ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية، وكان السؤال الأول: ما الغرض من الخبر في قوله تعالى: ?وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ? [الأنبياء: 34]؟
(14/25)
---(5/482)
وكانت الإجابة: كان الكافرون ينتظرون ويتربصون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يموت ويظنون أن بموته ينقضي أمره وتنتهي رسالته ويقول الله –تعالى- ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ?9?? [الحجر: 9]، فإن مات الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسيظهر الحق ولذلك رد الله على الكافرين ?وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ? [الأنبياء: 34]؛ لأن البشر جميعاً مصيرهم الموت والفناء ولا يكون البقاء إلا لله رب الأرض والسماء ولئن مت يا نبي الله فهم لا يُخَلَدُونَ من بعدك ويرفع لك ذكرك وإن عرف الكافرون ستقرن أسمائهم باللعنة.
نعم إجابة طيبة، وهذا يذكرني بأن المؤمن ينبغي أن يكون دائماً على أمل عظيم في الله -سبحانه وتعالى- مهما ضاقت به الضوائق في الدنيا ومهما استهان الخلق بدين الله ومهما شعر بالغربة فإنه منصور ودينه ظاهر بعون الله فما كان من أشد من حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين كفار مكة وبعد ذلك فتح الله عليهم المدينة ثم فتح مكة ثم انتشر الإسلام في ربوع الدنيا كلها بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلو كان الدين والدعوة تتوقف على شخص بعينه لتوقفت على حياة صاحبها ورسولها -صلى الله عليه وسلم- ولو كان الدين يتوقف على واحد من الناس لكان هو الأولى -صلى الله عليه وسلم-.
السؤال الثاني: كيف خُلِقَ الإنسان من عَجَل وما قيمة ذلك في ميزان الإسلام؟
كانت الإجابة:
خلق الله الإنسان طبيعة وجبلة فيه وَخِلْقَةُ الإنسان مُزدوجة فقال الله –تعالى-: ?فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَ? [الشمس: 7]، ولذلك لأن يكون في النفس قابلية أن تؤمن وأن تكفر ويكون مخيراً حقاً دون اضطرار من أحد والعجلة صفة لا تستحسن ولكن خُلِقَ الإنسان عليها ويأني الدين السماوي ويُقَوِّمُ هذا الاعوجاج في النفس البشرية فيظر دين الله –تعالى- على العباد
إجابة صحيحة طيبة.
(14/26)
---(5/483)
كان السؤال الثالث: ذُكِرَ في الآيات سبب مباشرة للغواية والضلال ما هو وكيف يكون ذلك؟
وكانت الإجابة:
السبب المباشر للغواية هو الترف؛ لأنه يعطي النفس علوا ويجعل في القلب غروراً ويظن أحدهم أنه بما عنده من مال وترف يستطيع فعل كل شيء، وعندها يأتيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- المتواضع يدعوه إلى الله لا يقبل لأنه يرى أنه سينزل من مكان عالٍ جداً وسيكون مع الساجدين في الأرض، انتهت الإجابة
إجابة صحيحة.
الأخ الكريم من مصر يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لدي سؤالان: السؤال الأول: في قول الله -عز وجل- في قصة إبراهيم لَمَّا قال لقومه ?أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ?، أليس هناك تعارض مع نهي الله –تعالى- أن نَسُب ألهة الكفار، ?وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ? [الأنعام: 108]؟
السؤال الثاني: البرد والسلام في القرآن كما ذُكر أليس في ذلك دليل على أن كلام الله -عز وجل- على الحقيقة لا مجاز فيه؟
الأخ الكريم من مصر كان سؤال الأول عن قول الله –تعالى- ?أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ?، ألا يوجد تعارض بين هذه الآية وبين نهي الله -عز وجل- عن سب آلهة الآخرين؟
(14/27)
---(5/484)
بداية لابد أن نؤمن ونعتقد ونقول ونردد إنه لا تعارض في القرآن أبداً بل لا تعارض بين صريح القرآن وصحيح السنة، إلا ما يبدوا في أعيننا وله تخريج، وله توفيق، فبدا لنا التعارض ولكن في الحقيقة لا تعارض، فسيدنا إبراهيم -عليه السلام- حين قال: ?أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ?، ما سب آلهة ولا ذكرها بشيء مما يعتبر سبا أو شتما وبالتالي فلا تعارض مع الآية الأخرى ?وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ? [الأنعام: 108]، إنما كلمة "أف" تدل على الرد والإنكار والرفض لما هُم عليه كما يقال: إنها كلمة تضجر فليس تعارض بين الآيتين أبداً، ولا يكون تعارض في القرآن الكريم.
كان سؤال الثاني: عن قول الله ?قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ?، ألا يدل هذا على أن كلام الله -عز وجل- حقيقةً لا مجازاً؟
(14/28)
---(5/485)
المجاز ليس كذباً ولكنه من محسنات الكلام في لغة العرب وجاء القرآن بسماء البلاغة أو هو سماء البلاغة منه تُستفاد وتستقى البلاغة عند العرب وعند غيرهم، ولذلك هو حَكَم على لغة العرب وبلاغتهم وليست البلاغة بقواعدها ولا اللغة بنصوصها حاكمة على القرآن الكريم، البرد والسلام في القرآن الكريم حقيقة طبعاً وليست مجازاً، ولكن هذا لا ينفي أن يكون هناك مجاز في آيات أخرى وليس مقصوداً منها الكذب كما قلنا ولا يفهم منها الكذب إنما قول الله كله حق، كله حق، إنما هناك استعارات وتشبيهات وما إلى ذلك مما يعتبر محسناً في الكلام والعرب يفتخرون به ويتبارزون فيه وجاء القرآن ليقطع حجتهم في هذا الأمر الذي ظهروا فيه وبرزوا فيه، وبالتالي فلا مانع أبداً أن يكون في الكلام مجاز وقضية المجاز في القرآن وعدم وجوده أو وجوده هذه قضية تنوعت فيها كلمة العلماء الذين نفوا كان قصدهم أن المجاز نوع من أنواع الكذب والخيال والذين أثبتوا يعلمون أو يقرون بأن كلام الله –تعالى- كله حق لا كذب فيه ولا تخييل فيه حتى القصة واقعية حتى المثل حقيقي وواقعي، كذلك المثل الذي يضربه الله –تعالى- للناس في القرآن الكريم فكلام الله كله حق، والله أعلم.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
أسئلة على هذه المحاضرة أقول في السؤال الأول: ما وجه تسمية كل من التوراة والقرآن فرقاناً؟
السؤال الثاني: ما هو الرشد الذي آتاه الله لإبراهيم -عليه السلام-؟
ثالثًا: ما المراد بالحكم والعلم الذي آتاه الله لوطاً؟ ولماذا ذكر الله قوم لوط بعمل الخبائث ولم يذكر الشرك؟
ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد اللهم أمين
(14/29)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (15) الأنبياء (الآيات 76- 94)
الدرس الخامس عشر(5/486)
الأنبياء [76: 94]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وبعد، ففي هذه المحاضرة نتناول بعون الله -تبارك وتعالى- الجزء الثاني من تثبيت الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بوعده بمثل ما آتى الأنبياء من قبله، من خلال الآيات السادسة والسبعين وحتى الآية الرابعة والتسعين، وذلك من خلال عناصر أربعة:
الأول: نوح -عليه السلام- والكرب العظيم.
الثاني: داود وسليمان -عليهما السلام- في الحكم والقضاء.
ثالثًا: الصابرون وجزاء صبرهم.
رابعًا: رزق بغير حساب.
وتفصيل ذلك - إن شاء الله تعالى- بعد الاستماع إلى الآيات المباركات من أخينا الأستاذ عبد الرحمن فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(15/1)
---(5/487)
?وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ?76? وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ?77? وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ?78? فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ?79? وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ?80? وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ?81? وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ?82? وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ?83? فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ?84? وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ ?85? وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ?86? وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ?87? فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ?88? وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ
(15/2)(5/488)
---
الْوَارِثِينَ ?89? فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ?90? وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ?91? إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ?92? وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ?93? فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ?94?? [الأنبياء: 76- 94]
(15/3)
---(5/489)
في هذه الآيات الطيبات كما نلاحظ ولاحظنا قبل ذلك في الجزء الأول منها أن التركيز على ما آتاه الله للأنبياء من قبل رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فكأن الله –تعالى- يثبته على طريق الدعوة والرسالة ويبشره -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيؤتيه مثل ما آتى الأنبياء السابقين وبلغنا في ذلك قصة نبي الله نوح -عليه السلام- يقول الله –تعالى-: ?وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ?، ?وَنُوحً? أي: واذكر نوحاً ?إِذْ نَادَى? أي دعى ربه -سبحانه وتعالى- ?مِن قَبْلُ? أي: من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين من قبله فيما سبق من الذكر فكان نوح -عليه السلام- من السابقين في الزمان على غيره، ?فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ? وكان دعاء نوح -عليه السلام- كما ذكر في آيات آخر أنه قال: ?فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ?10?? [القمر: 10]، وفي آية مفصلة أكثر من ذلك، ?وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ?26? إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ?27?? [نوح: 26، 27]، ولكن كان هذا الدعاء من نوح -عليه السلام- بعد أن أوحى الله –تعالى- إليه بأنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فقد آمن من آمن وإن كانوا قليلاً كفر من كفر، وعلم الله في قلوبهم الإصرار على الكفر، ولهذا استساغ نوح -عليه السلام- وأجاز الله له أن يدعو عليهم بأن يؤخذوا أخذاً إلى النار، ?رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ?26? إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ?27?? [نوح: 26، 27]، ودعى عليهم بالعذاب ?فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ?10?? [القمر: 10]، وهكذا لا يجوز الدعاء على الكافرين والعاصين بالهلكة واللعنة إلا بعد أن نعلم(5/490)
(15/4)
---
مصيرهم، ولا علم لنا بذلك، فطالما العمر ممدود فطالما كان العمر ممدوداً والغيب مجهولاً بالنسبة لنا، فلا يجوز لنا الدعاء إلا على من خَصَّهُ الله –تعالى- باللعنة، وإنما ندعو أن يهديهم الله –تعالى- وأن يبين لهم طريق الحق، وأن يلزمهم الحجة، فلو آمنوا لكان خيراً لهم، وإن لم يؤمنوا فلن يضرونا في شيء، إنما دعى نوح -عليه السلام-؛ لأنه علم أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، ولهذا حينما دعى ربه كانت الإجابة فورية ووقتية لم تتوانى عنهم ولم تتأخر عنهم كما قال تعالى هنا: ?فَاسْتَجَبْنَا لَهُ? والعطف بحرف الفاء يدل على الترتيب والتعقيب، أي: السرعة، فكانت الإجابة سريعة وكانت استجابة مبالغاً فيها رداً على كفر القوم العنيد وفي آيات آخر يقول تعالى: ?فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ?11? وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ?12? وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ?13?? [القمر: 11- 13]، هكذا استجاب الله –تعالى- استجابة عظيمة لنوح -عليه السلام- وكانت فيها النجاة والفوز والخلاص من الهلاك، ومن الكافرين للمؤمنين، أما الكافرون فقد هلكوا جميعاً، ولكن ذكرت الآيات التي معنا ما وهبه الله لنوح ومن آمن معه ?فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ?، قالوا: الكرب العظيم هو الطوفان، وقالوا أيضاً: ?مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ? ما لاقى نوح من قومه من عنت على مدار تسعمائة وخمسين سنة يدعوهم إلى الله –تعالى- وإلى التوحيد ولكنهم لم يستجيبوا وقالوا: ?وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ?23?? [نوح: 23]، استمروا على الكفر واستمرؤوه رغم طول مدة الدعوة فيهم وإصرار نوح -عليه السلام- على تذكيرهم واستعماله كل وسيلة، فأنجاه الله –تعالى- وأهله الذين آمنوا به، ?مِنَ(5/491)
الْكَرْبِ
(15/5)
---
الْعَظِيمِ? وهو الطوفان ومن معاناة قومه الكافرين.
?وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَ? وأصل النصر يكون على الغير ليس منه، ولكن لما كان النصر فيه انتقام جاء هذا الحرف "من" لتضمن كلمة النصر هنا معنى الانتقال فانتصر الله لنوح وانتقم الله من الكافرين، ?وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَ? فقد خَلَّصَهُ الله -تعالى- منهم ?إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ?، عرفنا قبل ذلك أن الجملة التي تفصل بها الآية وتسمى فاصلة الآية أو خاتمتها أو تذييلها؛ لأنها مكان الذيل هذه الجملة الأخيرة في كل آية وقد بدئت هذه الجملة "بإن" فإن هذه الجملة تكون تعليلية، كأن الله –تعالى- قال: ?وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَ? لأنهم ?كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ?، ويشير الله –تعالى- إلى مدى إساءة قوم نوح بإضافة القوم إلى السوء ?إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ? فهم مضافون إليه ملتصقون به متلبسون به لا ينفكون عنه أبداً ?فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ? ?وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?44?? [هود: 44]، انتهى الأمر ولم يبقى على وجه الأرض إلا من آمن مع نوح بالله رب العالمين، حتى ولده من صلبه وقد رآه تتلاطمه الأمواج، وناداه ليكون مع المؤمنين لا مع الكافرين فلم يُطِع الولد في ذلك ورآه نوح -عليه السلام- لا يستطيع النجاة فنادى فيه ربه ?فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ?45? قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ?46?? [هود: 45، 46]، نوح -عليه(5/492)
السلام- يعلم المقصود
(15/6)
---
بالأهل وأنهم أهل الإيمان ولكنه تمسح في ظاهر اللفظ رقةً من الأب على ابنه وطمعاً من العبد في رحمة ربه -سبحانه وتعالى- فقال لعلها تقبل عند الله ?رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي? [هود: 45]، أي من عائلتي من أسرتي ?وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ?45? قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ?46?? [هود: 45، 46]، ولهذا أغرق الله الكل كل الكافرين ?فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ?.
(15/7)
---(5/493)
وتنطوي بذلك صفحة نبي الله نوح -عليه السلام- لتنشر صفحة أخرى فيها داود وسليمان -عليهما سلام الله- نبي ابن نبي وملك ابن ملك، داود نبي وملك وسليمان نبي وملك، ولكن كان ملك سليمان كما هو معروف أعظم من ملك داود أبيه، وكان علمه أوسع وأدق من علم أبيه، وكان حكمه أرجح من حكم أبيه وفي كل خير؛ لا نفاضل بين هذا وذاك ولكن أذكر هذا لأشير إلى إشارة لعلها مقصودة في هذا المقام، لماذا ذكر الله داود -عليه السلام- وسليمان ولده -عليه السلام- أيضًا ولكن أشار إلى فضل سليمان على داود؟ وكأن هذه إشارة تبشر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سيؤتى خيراً عظيماً ولا تعجب يا محمد أن تعطى خيراً من إبراهيم وخيراً من نوح وخيراً ومن فلان ممن سبقك من الأنبياء فقد آتينا سليمان خيراً مما آتينا داود وهذا ولد ذاك، فلا مانع أن تُعطى خيراً من آبائك وأجدادك في النبوة، ففيها إشارة لطيفة إلى عظمة وعِظم ما ينتظر النبي -صلى الله عليه وسلم- من نعم الله -عز وجل- عليه، يقول تعالى: ?وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ?78? فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ? أي كان سليمان أفهم للقضية من أبيه وكلاً فيه خير ?وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ? إلى أن قال: ?وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ? أعطى الله هذا ملكاً وأعطى الله هذا ملكاً كما أعطاه علماً وعلماً ولكن كان علم سليمان أرجح من علم داود، وكان ملكه كذلك أكبر كما قال ربنا -سبحانه وتعالى- عن سليمان ?رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ?35?? [ص: 35]، وكان ملك سليمان طويلاً عريضاً عظيمًا فيه إمكانات عظيمة لم تشهدها الدنيا، ?وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ? أي اذكرهما اذكر(5/494)
(15/8)
---
خبرهما، في هذا المشهد على وجه الخصوص ?إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ? حين كانا يحكمان في قضية الحرث ?إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ? كان هناك قوم لهم زرع وقوم رعاة، أو لهم غنم، الراعي على الغنم بالليل تركها ولم ينظر أمرها فنفشت في زرع الناس فأفسدته، فالنفش يكون بالليل أما بالنهار لو نزلت الأنعام أو الأغنام في زرع قوم وأفسدته فهذا يسمى هملاً أي أنه أهمل رعايتها، لكن بالليل يسمى نفشاً، ?إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ? يعني خرجت من مكانها وذهبت ليلاً إلى حرث بعض الناس أي: زرعهم، فأكلته وأفسدته.
ذكر ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: «أن هذا الزرع كان كَرْماً» أي: أشجار العنب، «كان كَرْماً فدخلت فيه الأغنام فأكلت عناقيده وأوراقه وأفسدت فيه إفساداً عظيمًا فلجأ الاثنان والخصمان إلى داود، فحكم داود -عليه السلام- لأصحاب الحرث بأن يأخذوا الأغنام أبداً، فالأغنام عوضاً عن فساد الأرض وهذا حكم راجح، وصحيح ولكن مروا على سليمان -عليه السلام- وعرف القضية وعرف الحكم فقال لأبيه: غير هذا يا نبي الله، بكل أدب يعني هناك حكم آخر قال: وما ذاك، قال: أن تدفع الحرث لأصحاب الغنم يصلحوه حتى يعود كما كان وأن تدفع الأغنام لأصحاب الحرث يصيبون منها حتى يعود الكرم أو الحرث كما كان، يأكلون من لبانها يأخذون من أصوافها يأخذون من مواليدها ينتفعون بها كما كان ينتفع أصحابهم حتى يعود الحرث كما كان فيرد الحرث إلى أصحابه وتعود الأغنام إلى أصحابها، وهذا هو قول الله -تعالى- ?فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ?، فيعوض أصحاب الحرث وتعود الأغنام إلى أصل مالكها» وهكذا قضى سليمان -عليه السلام- بحكمة من الرحمن -سبحانه وتعالى- فهو الذي فهمه هذا.
(15/9)
---(5/495)
?وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمً? حتى لا يظن السوء بداود، حتى لا يظن أحد أن حكم داود كان حكماً خاطئاً وهو نبي يحكم بوحي ولكن حكمه كان مرجوحاً وصحيحاً، إلا أن حكم سليمان كان أرجح وكان أفضل وأدق، ومن ذَلِكَ يعني تكررت هذه القضايا طبعًا بين داود وسليمان ومن ذَلِكَ ما ذُكِر أو ما ورد به الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم وأحمد -رحمهما الله تعالى-عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بينما امرأتان معهما ابنان لهما جاء الذئب وأكل أحدهم) أكل صغيراً من الصغيرين (وبقي الآخر فتنازعت المرأتان في هذا الوليد) كل منهما تقول هذا ولدي وولدك أنت هو الذي أكله الذئب، (فاحتكما إلى داود -عليه السلام- فحكم وقضى بالولد للكبرى منهم) ولعله رأى أن الصغرى تلد -إن شاء الله- أما الكبرى فهذه ربما تكون قد أيست أو لا تلد بعد ذَلِكَ أو لعل هناك حكمة أخرى عنده قضى على أساسها بهذا الحكم، (فمرتا بسليمان فعرف الحكم أيضاً فقضى بينهما قضاءً كان أدق وأحكم، قال -عليه السلام- إيتوني بمنشار أشق لكم هذا الولد نصفين كل منكما تأخذ نصفاً فقالت الصغرى: يرحمك الله لا تشقه إنما هو ولدها ادفعه إليها وقالت الكبرى: بل شقه بينن) وافقت على الشق، فليس ولدها؛ لأنها تتحمل شقها أمام عينها، أما أمه الحقيقية ففاض قلبها رحمة وعطفاً على الوليد فلأن تفقده وهو حي خير وألطف من أن تفقده وهو ميت، فعرف سليمان الأم الحقيقية من الأم المدعية، فدفعه إلى الصغرى، وكان ذَلِكَ من تكريم الله -تعالى- له، ووقع مثل ذَلِكَ في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه: (أن ناقة البراء -رضي الله عنه- دخلت حائطاً فأفسدت فيه، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي: حكم على أهل الحوائط أهل البساتين والزروع حفظها بالنهار وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهله) يعني حكم على أهل الزروع أن يحرسونها(5/496)
(15/10)
---
بالنهار؛ لأن النهار وقت لسراح وتسريح البهائم والأنعام، هذا وقت أكلها ورعيها فعلي أن أحرث زرعي من أن تنزل فيه أو تهمل فيه الأنعام والماشية، أما بالليل فمن المفترض أن الأنعام في حظائرها وبيوتها فهناك أمان من أن تدخل زرعاً فليس علي أن أحرس زرعي بالليل فلو أفسدت الأنعام والأغنام ونحوها لو أفسدت زرعاً بالنهار فالضمان على صاحب الزرع أنه لم يحرس زرعه، ولو أفسدته بالليل ونفشت فيه، فالضمان على أهل الأغنام والأنعام؛ لأنهم ينبغي أن يحبسوها ليلاً فليس الوقت وقت سراح ولا رعي، ولكن العلماء علماء الحديث وجدوا ووقفوا على علة في هذا الحديث في سنده فهو حديث فيه ضعف وأشار إلى ذَلِكَ ابن كثير -رحمه الله تعالى-.
(15/11)
---(5/497)
هكذا كانت القصة في ما بين داود وسليمان -عليهما السلام- في موضوع الحرث كما ذكرته الآية وبين الله -تعالى- أنه آتى كلا منهما حكماً وعلماً، قضاءً وملكاً وحكمةً وعلماً، إنما كان ما أعطاه الله -تعالى- للابن أكثر وخيراً مما أعطاه للأب، وهذا لحكمة أرادها الله -سبحانه وتعالى- وعطاء الله للابن والخير الذي يظهر على يد الولد إنما هو خير لأبيه أيضاً فيسعد الأب بما يراه عند ولده يفرح بذلك كثيراً جدًا حتى عَرَّفَ الناس ذَلِكَ بقولهم: لا أحد يحب أن يكون أحد خيراً منه غير ولده، إنما قد يحقد على الآخرين إلا ولده يحب دائماً أن يكون ولده على خير ولو فاقه في ذَلِكَ، فإن يفرح به ويفخر به، كما ذكر الله -تعالى- بعض ما أعطى داود وسليمان من الملك فقال: ?وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ? سخرنا مع داود الجبال والطير لتسبح معه فكانت تسبح بصوت ويسمع صوتها وذلك لجمال صوت داود -عليه السلام- وترانيمه بتسبيح الله -عز وجل- فكانت الجبال تردد معه والطيور تجتمع فوق رأسه وتسبح معه، وذلك من إكرام الله لداود -عليه السلام-، وهذا يثبت أن لهذه المخلوقات صوتاً وأن للجمادات والطيور وغيرها صوتاً، وكلاماً وتسبيحاً وعبادةً وإن كنا لا نسمع وإن كنا لا نفهم ما نسمعه من صوت بعض المخلوقات إلا أن الله فهمه لسليمان -عليه السلام- وعلمه منطق الطير كما جاء في القرآن: ?عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ? [النمل: 16].
?وَكُنَّا فَاعِلِينَ? لا تعجب أن تكون الجبال مُسَبحة وأن تكون الطيور مُسَبحة لا تعجب أن يكون لها صوت مفهوم وكلام معلوم؛ لأن الله يقول: ?وَكُنَّا فَاعِلِينَ? فالله على كل شيء قدير ينطق الله ما شاء من خلقه بما شاء من القول والكلام، فليست القوة في ذات المخلوقات ولكن هذا المنطق العجيب من قدرة الله -تعالى- الذي ينطق الحجر والشجر وينطق الطير وغير ذَلِكَ.(5/498)
(15/12)
---
?وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ? عَلَّمَ الله داود صنعة دروع الحرب، وهو ما يلبسه الإنسان على صدره يتقي به الضربات، وقيل: كانت الدروع قبل داود صفائح، ولكن داود -عليه السلام- هو أول من سبكها من حلقات، كان يصنعها صناعة مخصوصة، يعني طور في الصناعة التي كانت تصبع بها الدروع قبل ذَلِكَ.
?لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ? البأس هو الشدة والحرب أي: من ضربات القتال ?فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ? ينبغي أن يُشكر الله -سبحانه وتعالى- على كل صناعة تظهر وعلى كل تطور يبرز في حياتنا ذَلِكَ لأنه من فضل الله ومن نعمة الله ولو شاء ربك ما فعلوه، أما سليمان فمما أعطاه الله: ?وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ? سخر الله لسليمان أشياء كثيرة ومنها الريح، وكان له بساط من خشب يضع عليه ما شاء من أحمال ويركب عليه وتحمله الريح بأمر ربه، تطيعه فيما أراد؛ لأنه لا يطلب منها إلا طاعة الله -تبارك وتعالى- وعمارة الكون وخدمة المؤمنين، وكان كما ذكر عنه لو صَحَّ ذَلِكَ ومن شأنه أن يصح عنه وإن لم يرد أن سليمان -عليه السلام- كان إذا ركب على البساط وحمل به وارتقى في هذا الملك العظيم كان يجلس مطأطئاً رأسه، حافظاً بصره لا ينظر يميناً ولا شمالاً تواطعاً لجلال الله -تبارك وتعالى- حتى لا يغتر بهذا الملك، وإنما ليعلم نفسه أن هذا الملك ملك الله وهذا العطاء عطاء الله -سبحانه وتعالى-، أما من نظر إلى سعة ملكه وترامي أطراف مملكته فإن من شأنه أن يغتر بما كان بين يديه، أما سليمان فرغم هذا الملك الكثير قال: ?هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ? [النمل: 40]، فكانت الريح عاصفةً تجري بسرعة وكانت رخاءً يعني طواعة رخوة تطيع سليمان في كل ما أراد وحيث وججها إلى طاعة الله -سبحانه وتعالى- ?وَكُنَّا(5/499)
بِكُلِّ
(15/13)
---
شَيْءٍ عَالِمِينَ?، مهما بلغ الإنسان في ملكه وفي علمه فلن يغيب أبداً عن علم الله ولن يخرج من ملك الله هو في قبضة الله بكل ما ملك، سليمان -عليه السلام- ملك لم يأت من بعده مثله ولا أحد في ملكه ومع ذَلِكَ كان الله به عالماً وكان الله له كاشفاً وكان محيطاً بكل شيء معه، ?وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ?81? وَمِنَ الشَّيَاطِينِ? أي سخرنا له أيضاً من الشياطين ?مَن يَغُوصُونَ لَهُ? أي في البحار فالغوص لا يكون إلا في الماء، يغوصون له في البحار لالتقاط الدرر الكامنة في أعماق البحر ?وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ? يعملون أشياء كثيرة لا مجال لذكرها وسردها، ?دُونَ ذَلِكَ? أي: أقل من الغوص، كما قال تعالى: ?وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ?37?? [ص: 37]، يبنون له أبنية على وجه الأرض ويغوصون له في عمق البحار، ?وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ? هكذا كان أمر داو وسليمان وكيف آتاهما الله -تعالى- حكماً وحكمة وملكاً وعلماً، ولا مانع أن يعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ذَلِكَ وأكثر من ذَلِكَ فقد أعطى سليمان الابن أكثر مما أعطى داود الأب.
(15/14)
---(5/500)
ثم يأتي العنصر الثالث وهو الصابرون وجزاء صبرهم: ذكر الله جملة من الأنبياء أيضاً ذكرهم بصبرهم الجميل العظيم وجزاء الصبر عندهم وذلك تصبيراً للنبي -صلى الله عليه وسلم- ودعوة له ليصبر على قومه وما يلاقي منهم من أذى وبلاء وقمة الصابرين السابقين سيدنا أيوب -عليه السلام- لم يبتلى أحد بمثل ما ابتلي به، عُرِف بالبلاء وعُرِف بالصبر الجميل قال الله -تعالى-: ?وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ? ?وَأَيُّوبَ? يعني واذكر نبي الله أيوب، أو واذكر عبدنا أيوب كما جاء في القرآن ?إِذْ نَادَى? أي حين نادى ربه، ?أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ? كان هذا في آخر البلاء بعد صبر طويل نادى أيوب على ربه ودعا ربه -سبحانه وتعالى- ولجأ إليه، ولكنه كان مؤدباً ومهذباً ومتلطفاً جداً في كلامه مع ربه قال: ?أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ? وفي آية أخرى: ?مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ? [ص: 41]، نسب الإصابة بالمرض والابتلاء أو البلاء إلى الضر نفسه كأنه جاءه بنفسه ومرة أخرى إلى أنه كان من الشيطان، ولم ينسب الضر إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن ربنا -سبحانه وتعالى- لا ينسب الشر إليه أبداً ومهما فعل بنا مما تراه العين شراً فهو خير ?وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ? وقال تعالى: ?فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرً? [النساء: 19]، وكذلك قال نبي الله وخليله إبراهيم -عليه السلام- لم يقل: وإذا أمرضني فهو يشفيني، ولكن قال: ?وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ?80?? [الشعراء: 80]؛ لأن الله إذا ابتلاني ببلاء إنما أراد تكفير ذنب عني لم أتب منه، أو أراد ابتلائي ببلاء لأصبر عليه ليرفع درجتي ففي كل خير أراده الله بي لكني أرى الشيء على أنه مصيبة وعلى أنه شر فينبغي للمؤمنين أو على المؤمنين ألا ينسبوا الشر إلى الله أبداً؛ لأننا متسببون فيه(6/1)
(15/15)
---
أما ما نراه من شر يقضيه الله علينا فهو في حقيقة الأمر وفي واقع الغيب خير عظيم عند الله -تبارك وتعالى- ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع.
?إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ?83?? وهنا يذكر المفسرون أن أيوب -عليه الصلاة و السلام- من تلطفه في الدعاء عرض حاله على الله ولم يطلب الشفاء وذلك من شدة صبره على بلاء الله تبارك وتعالى إنما قال يارب حالي هكذا وأنت ترى وأنت الرحيم فذكر الصفة التي تقتضي طلب الشفاء وتقتضي المن بالعافية ?وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ?83?? كما قال نوح -عليه السلام- ?رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ?45?? [هود: 45]،ولم يقل يارب نجه أو ضمه إلى أو ألحقه بي لم يطلب طلبا معينا ونبينا -عليه الصلاة و السلام- في تحويل القبلة كان ينظر إلى السماء ويقلب وجهه في السماء فقط ولم يطلب ما يريد طلبه في قبله يراه ربه في قلبه وفي نظرات عينيه قال تعالى ?قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَ?[البقرة: 144]، وهذا أدب عظيم في الدعاء لأني لا أدري ذلك الذي أطلبه من الله تعالى وخاصة في أمور الدنيا يا ترى أيكون خيرا أو يكون شرا فلذلك أجعل طلبي وسؤالي في قلبي وأقلب عيني في السماء وأرجو الله تعالى بغير كلام أعرض حالي على الله والله تعالى يقضي ما يشاء فإن كان ما أريد فالحمد لله وإن كان غير ما أريد فهو الخير والفضل لله سبحانه وتعالى.
(15/16)
---(6/2)
ذلك أدب عظيم تأدب به الأنبياء في دعائهم ?أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ? وكانت الاستجابة سريعة أيضا ?فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ? توسع الناس كثيرا في وصف هذا الضر ووردت أحاديث من بني إسرائيل في ذلك فيها مبالغات وشنائع لا تليق بمقام النبوة حتى قيل إنه كان مريضا بمرض خطير بمرض نفر الناس عنه وتركه حتى أهله ومضى الناس كلهم وترك ملقى عند مزبلة هذا يليق بالأنبياء لا يليق هذا الكلام أبدا إنما الأنبياء هم أشد الناس ابتلاء كما جاء في الحديث (أشد الناس بلاء أو ابتلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل) وجاء في الحديث أيضا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله (يبتلى المرء على قدر دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه) وهكذا الأنبياء وهم أشد الناس ابتلاء ولكنه بلاء يتناسب مع مقام النبوة الذي يقتضي جمع الناس وتأليفهم على توحيد الله تبارك وتعالى وتبعية الحق أو اتباع الحق والوحي الذي ينزل على الأنبياء فلا يليق بهم الإصابة بالأمراض المنفرة وإنما يوعكون وعكا شديدا ويمرضون بمرض شديد غير منفر وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوعك وعكا شديدا كما (دخل عليه عمر وهو مريض -عليه الصلاة و السلام- فرآه في ألم فقال يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا فقال -عليه الصلاة و السلام- إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم) يعني البلاء والمرض الذي يصيبني كما يأتي للرجلين منكم فالأنبياء أشد الناس ابتلاء لكن أن يكون مرضهم منفرا فلا وألف لا ومثل هذا الكلام مردود بمقام النبوة العظيم والمقصود من النبوة وهو جمع الناس حول الأنبياء.
(15/17)
---(6/3)
?فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ? جاء في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (لما عافى الله أيوب -عليه السلام- أمطر عليه جرادا من ذهب فجعل يأخذ بيده ويجعله في ثوبه فقيل له يا أيوب أما تشبع قال يارب ومن يشبع من رحمتك) فكان طمعه زائدا في رحمة ربه حين نزلت به ويقول الله تعالى ?فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَ? وذلك أن أولاده ماتوا وزوجته ظلت صابرة حوله تخدمه وترعاه ولم تتركه إنما تركه الناس من حوله حين ذهب ماله وضاع ماله ومات ولده ولم يعد معه أحد الناس يقبلون على من عنده عزوة من الأولاد وعلى من له عز من المال وزخرف الحياة الدنيا لأنه ينتفعون من وراءه لكن حين ذهب مال وولد أيوب -عليه السلام- الناس بعدوا عنه بقيت زوجته تخدمه حتى عافاه الله تبارك وتعالى فأعطاه بدلا مما كان ?وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ? أي زوجته ?وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ? قال بن مسعود وبن عباس وكثير من السلف قالوا ردهم الله عليه بأعيانهم يعني هم هم ردهم الله عليه أولاده وأمواله وزاده فوق ذلك وقيل رد الله عليه أمثالهم أعطي أجر من سبقوا في الآخرة وأعطي مثلهم في الدنيا وهكذا أكرم الله نبيه أيوب إكراما عظيما رحمه من عنده ?رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ?84?? تذكرة للعابدين ليعلم العابد لله تبارك وتعالى أن الله عنده خزائن كل شيء ?وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ?[النحل: 53]، ?وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ?[الحجر: 21]، فاعبد الله ومن أعظم عبادات الله أن تسأل الله (إذا سألت فاسئل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) والله تعالى يحب السؤال من عبده وقد يؤخر عنه الجواب ليكثر العبد من قوله يارب ومن سؤاله لله تعالى (وينزل رب العزة جل وعلا كما صح الحديث بذلك إذا كان الثلث(6/4)
(15/18)
---
الأخير من الليل ينزل إلى السماء الدنيا وينادى على عباده ألا من مستغفر فأغفر له ألا من تائب فأتوب عليه ألا من سائل فأعطيه ألا من كذا ألا من كذا حتى يطلع الفجر) الله تعالى يستحث عباده على السؤال هكذا كرام الله تعالى للأنبياء ولا يقطعه عن أتباع الأنبياء فهو ذكرى للعابدين ثم يفتح الله تعالى صفحة أنبياء آخرين كان لهم شأن في الصبر أيضا وإن كان أقل من صبر أيوب وبلاءهم كان أقل من بلاء أيوب -عليه السلام- يقول تعالى ?وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ?85? وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ?86?? إسماعلي ابتلي ابتلاء عظيما كما نعلم وهو ابتلاءه بالذبح حين أمر الله أباه إبراهيم أن يذبحه أنى لغلام صغير لم ير الدنيا بعد لم يستمتع بها لم ير الشباب والفتوة يؤمر أبوه بذبحه بيده وهو حي هكذا وأبوه يعرض عليه ?يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى?[الصافات: 102]، فلم يراجع أباه ولم يناقش ربه ولم يفاصل الأمر إنما قال ?قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ?102?? وكان رده حكيما لم يقل ستجدني من الصابرين فليست المسألة عنترية ولا عفوية وعشوائية وإنما يعلم أن الأمر شديد وأن البلاء عظيم ولن يكون صابرا إلا بفضل الله والتوكل على الله فقال ?سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ?102?? كان إسماعيل -عليه السلام- صابرا كذلك نبي الله إدريس -عليه السلام- صابرا نبي الله إدريس لاقى من قومه ملاقاة عظيمة وكان جدا لنوح -عليه السلام- لقي من قومه عنتا وصبر عليهم صبرا عظيما جدا وكان -عليه السلام- شغوفا بطلب العلم في كل مجال حتى نسب إليه كثير من العلوم نسب إليه كثير من العلوم فكان صبورا على ذلك حتى تعلم علوما كثيرة أما ذوا الكفل فكان نبيا من أنبياء(6/5)
بني إسرائيل
(15/19)
---
وكان بعد نبي الله اليسع ولما كبرت سن اليسع تمنى من قومه أن يقوم منهم رجل ليكون خليفة من بعده على بني إسرائيل وانتدبهم لذلك على أن يختبره في الصبر أن يصوم النهار وأن يقوم الليل ولا يغضب اشترط عليهم هذه الشروط الثلاثة وانتدبهم لهذا فلم يقم إلا ذوا الكفل وتكفل بذلك ووفى به اختبره اليسع فوفى له بذلك ورأى منه صبرا عجيبا في ذلك فكان خليفة على بني إسرائيل من بعده ولذلك يقول البعض لم يكن ذو الكفل نبيا ولكن كان رجلا صبوراعابدا وحكما مقسطا وكان له صبر عجيب وله في القصص من ذلك الشيء الكثير وأيا ما كان فإن بن كثير -رحمه الله تعالى- ذكر عن بن جرير أنه توقف في هذه المسألة ولم يفصل فيها وبن كثير استظهر يعني كأنه رجح قال والأظهر أنه نبي واحتج لذلك بذكره في وسط الأنبياء وهي حجة طيبة مقبولة.
أيا ما كان فهو رجل ذو صبر عظيم وكان من جزاء صبره أنه ذكر بين الأنبياء وقال الله عنه وعن غيره ?كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ? وكان من جزائهم أيضا أن الله تعالى أدخلهم في رحمته ?وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ?86?? أي إنهم يستحقون ذلك بسبب صلاحهم فأدخلناهم في رحمتنا بسبب أنهم كانوا من الصالحين.
(15/20)
---(6/6)
ثم صفحة أخيرة فيها رزق بغير حساب رزق بغير أسباب إن كان ما سبق جزاء حسابا من الله تبارك وتعالى ?وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ?86?? هذا مقابل هذا فإن الله تعالى قد رزق بعض عباده وبعض أنبياءه رزقا بغير حساب ولا يتوقف على أسباب وأول أولئك وأعجبهم ذو النون نبي الله يونس -عليه السلام- ?وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبً? هو يونس بن متى -عليه سلام الله – نبي كان بأرض العراق في قرية أو بلدة نينوى ويقال نينوى ولقب بذي النون أي صاحب الحوت كما جاء التصريح بذلك في آيات أخر وذلك أنه أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى فكفروا به وردوا دعوته أولا فغضب منهم وتركهم وهجرهم ودعا عليهم فاستجاب الله له في دعوته وأخبره أنه سينزل العذاب على قومه بعد مدة معينة قبلها بثلاثة أيام خرج يونس -عليه السلام- مغضبا من قومه وتركهم وركب سفينة ليهجرهم وينتقل إلى بلد آخر ولما تعمقت السفينة في البحر رأى ربانها أن الحمل ثقيل ولابد أن ينزل واحد ليبقى الجميع فمن ذا الذي يضحى بنفسه كل سيقول نفسي نفسي فأجرو قرعة جاءت القرعة أول مرة وثانيتها وثالثتها على يونس -عليه السلام- كلما أعادوها جاءت على يونس -عليه السلام- فألقى بنفسه في اليم أرسل الله تعالى إليه حوتا والحوت هو السمكة الكبيرة ويقال هذا نوع خاص من الأسماء لا يمضغ ما أكل يبلغ بلغا قيل في ذلك كثير لكن أرسل الله إليه حوتا وأوحى إلي إلى هذا الحوت ألا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما فإن يونس ليس لك رزقا وإنما بطنك يكون له سجنا هكذا ابتلع الحوت سيدنا يونس -عليه السلام- حتى صار في شدة عظيمة وفي ظلمة متطابقة ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل علم يونس -عليه السلام- أنه لن ينجو من هذا الضيق ولن يخرج ?فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ? كان يظن أن الله تعالى لن يضيق عليه فالقدر يأتي بمعنى التضييق ?وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
(15/21)(6/7)
---
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ?[الطلاق: 7]، أو نقدر بمعنى نقضي ?وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورً?38??[الأحزاب: 38]، أي قضاء مقضيا الكلمة لها في اللغة عدة معان وليس بمعنى القدرة ليس اللفظ هنا بلفظ القدرة فما كان لنبي الله يونس أن يظن أن الله لا يقدر عليه معنى القدرة إنما لن يضيق عليه أو لن يقضي عليه بعقوبة إلا أنه فوجيء بأنه عوقب بهذا العقاب فكان في بطن الحوت في هذه الظلمة ظن أنه مات بعد ما أكله الحوت فحرك رجليه فتحركتا فعلم أنه لا يزال حيا فسجد مكانه في بطن الحوت وقال مناديا ربه سبحانه وتعالى اللهم إني اتخذت لك مسجدا لم يسجد لك فيه غيري ولذلك حذر بعض الناس يعني عملوا حذرا وهو الفزورة ما المسجد المسجد الذي لم يسجد فيه إلا رجل واحد من البشر هو بطن الحوت والذي سجد فيه نبي الله يونس -عليه السلام- ?فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ? كان من دعاءه أن قال ?لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ?87?? فكانت دعوة عظيمة عجل الله باستجابتها ?فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ?88?? أوحى الله إلى الحوت أن ألفظه وأخرجه على الساحل فألقي هناك ?فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ?145?? [الصافات: 145] وأعاده الله مرة أخرى إلى قومه بعد أن تابوا إلى الله لما رأو يونس ذهب مغضبا وحزينا وقالوا أغضبنا يونس وما كان ينبغي لنا ذلك وتابوا إلى الله تبارك وتعالى وأحسنوا التوبة فأحسن الله إليهم وحفظهم وكثرهم أي زادهم حتى أعاد إليهم يونس مرة أخرى ?وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ?88?? الدعاء نجاة عظيمة سأل سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الدعوة أهي ليونس خاصة أو للمؤمنين عامة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- هي ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين(6/8)
عامة
(15/22)
---
للكل ودعا النبي -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين أن يدعو الله تعالى بهذا الدعاء فهو دعاء فيه فرج عظيم ?وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ?88?? هذا حظنا في هذا الدعاء.
وكذلك كان نبي الله زكريا -عليه السلام- رزق رزقا عجيبا بعد أن بلغ من الكبر عتيا واشتعل رأيه شيبا وكانت امرأته عاقرا والعاقر هي التي لم تلد أصلا لم تلد ولدت هكذا ونشأت هكذا وشابت هكذا فهي عاقر بخلاف العقيم هي التي نشأ عليه العقم بعد ذلك لعلة معينة فكانت أصلا عاقرا لا تلد وما ولدت قبل ذلك ولكن زكريا بعد أن كبرت سنه ورأى ضلال بني إسرائيل ومراوغاتهم طلب من الله تعالى أن يرزقه ولدا يكون نبيا من بعده وخليفة على بني إسرائيل ?وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ?89? فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ? هكذا بعد أن كانت عاقرا أصلحها الله تعالى وأصلح الله تعالى العقر الذي فيها فصارت تلد بعد كبر سن وبعد عجز وبعد تعطل الأسباب فالطب والعلم والعرف والتقاليد والواقع كل ذلك يقول لا إنجاب ولكن أراد الله أمرا فما هي إلا أن يقول كن فيكون ?وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى? ويحيى وصفه الله وصفا عجيبا قال ?لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّ?7??[مريم: 7]، ليس له سمي ليس له شبيه في الجمال في العظمة عليه سلام الله تعالى ?وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ? وذلك جزاء أعمالهم ?إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبً? رغبا أي طمعا فيما عند الله ورهبا أي خوفا مما عند الله من العقوبة ?وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ?90?? خاضعين لله تبارك وتعالى ثم ختم الله تعالى هذا الذكر الكريم بمريم عليها رحمة الله تعالى ورضوانه لأنها كانت أما لنبي الله عيسى -عليه السلام- فقال: ?وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَ? أي منعته من الزنا(6/9)
معنته من الوطء إلا
(15/23)
---
بأمر الله تعالى فلم يوطء ومع ذلك حملت دون أن يوطء فرجها ودون أن يصاحبها رجل ?فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ?91?? أن يولد مولود بغير أب وأن تلد امرأة بغير أن يغشاها رجل فتلك آيات عجيبة لله تعالى كيف أكرم الله مريم كيف أكرم الله عيسى بهذ الأعاجيب بأن ينطق في المهد إلى غير ذلك وكان نبيا كل هذا يبشر رسول الله -عليه الصلاة و السلام- بمستقبل عظيم وبنعم كثيرة تتنزل عليه من عند ربه وكما قال ربنا سبحانه وتعالى: ?وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى?5??[الضحى: 5]، يختم الله هذا الذكر الكريم وهذه السلسلة المباركة من الأنبياء بقوله ?إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ?92?? يربط الله تعالى هذا الدين بما سبقه من شرائع سماوية أنزلها الله تعالى من عنده ?إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ? الأمة هنا معناها الملة والديانة أي إن هذا دينكم دين واحد لا يتعدد كما قال النبي -عليه الصلاة و السلام- (الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد) ?وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ?92?? اعبدوني أنا ربكم كما كنت ربا لمن كان قبلكم أنا رب العالمين سبحانه وتعالى ولكن الناس لم يستجيبوا والكفار لم يطيعوا ?وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ?93?? أي تفرقوا رغم وجود هذا البيان ورغم وجود هذا االتأصيل لهذا الدين الخاتم أنه دين نزل قبل ذلك على كل هؤلاء الأنبياء وآمن به من آمن إلا أنهم تنازعوا واختلفوا وتقطعوا أمرهم وفي النهاية الكل راجع إلى الله يوم القيامة ?كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ?93?? وكل سيلقى جزاءه ?فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ?94?? أي لا نغمطه حقه ولا نظلمه شيئا كل سيجازى بعمله يوم القيامة ونحن قد سجلنا وكتبنا كل(6/10)
عمل لصاحبه وبه نلقاه يوم
(15/24)
---
القيامة نسأل الله تعالى أن يسجل لنا في سجلاتنا كل عمل صالح وأن يبارك لنا فيه حتى نلقاه به وهو راض عنا غير غضبان وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية: كان السؤال الأول:
ما وجه تسمية كل من التوراة والقرآن فرقانا؟
وكانت الإجابة وجه التسمية بالفرقان لكل من التوراة والقرآن أن كلا منهما فرقانا فرق الله به بين الحق والباطل وكثيرا ما يجمع الله بين هذه الكتابين الجليلين الذين لم يطرق العالم أفضل منهما ولا أعظم ذكرا ولا أبرك هدى وبيانا فأخبر تعالى أنه آتى موسى أصلا وهارون تبعا الفرقان وهي التوراة الفارقة بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال وأنها ضياء يقول بن كثير -رحمه الله تعالى- وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل والهدى والضلا والغي والرشد والحلال والحرام وعلى ما يحصل نورا في القلب وهداية وخوفا وإنابة وخشية
إجابة طيبة بارك الله فيكم وشكر لكم.
السؤال الثاني ما هو الرشد الذي آتاه الله إبراهيم؟
وكانت الإجابة الرشد الذي آتاه الله إبراهيم هو الهدى يقول بن كثير -رحمه الله تعالى- أي من صغره ألهمه الله الحق والحجة على قومه كما قال الله تعالى ?وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ?[الأنعام: 83]،.
أجابة جيدة ولكنها مقتضبة إلا أنها حوت الفائدة والحمد لله الرشد ضد الغي وضد السفه وكما بينا في الحلقة السابقة أن الرشد سعة في الأفق ومن هذا القبيل كان ما أوتيه سيدنا إبراهيم -عليه السلام- حيث فهم وعقل منذ صغره ضلال قومه وفساد الشرك وبطلان الشركاء ووجه قومه إلى ذلك حتى قبل أن تأتيه النبوة.
السؤال الثالث ما المراد بالحكم والعلم الذي آتاه الله لوطاً ولماذا ذكر الله قوم لوط بعمل الخبائث ولم يذكرهم بالشرك؟
(15/25)
---(6/11)
فكانت الإجابة المراد بالحكم النبوة والعلم معروف كما قال الشيخ أثابه الله وقال الحكم بين الناس بالصواب والسداد والعلم الشرعي لم يصف الله قوم لوط بالمشركين لأن هناك ما هو أقبح وهو أنهم كانوا قوما منتكسين يعملون الخبائث وهو إتيان الرجال شهوة من دون النساء هذا شذوذ فسقوا به وخرجوا به عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها وسابقة لم يرتكبها من قبلهم أحد من العالمين وهذه انتكاسة عظيمة قال الله تعال في وصفهم ?إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ?74??[الأنبياء: 74] والله أعلم.
هناك سؤال:يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: يقول إن بعض الناس يسمعون الحديث الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- (قد أوتيت مزمارا من مزامير آل داوود) فبضع الناس يسمعون هذا الحديث فيجيزون سماع الغناء فما رأي فضيلتكم والسلام عليكم ورحمة الله.
(15/26)
---(6/12)
أحبكم الله الذي أحببتمونا فيه، (مر النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة على بيت أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- فسمعه يقرأ القرآن بصوت جميل فاستمع إليه وقال لقد أوتي هذا الرجل مزمارا من مزامير آل داود -عليه السلام- وقال أبو موسى حينما سمع هذا من رسول الله -عليه الصلاة و السلام- لو كنت أعلم أنك تسمعني لحبرته لك تحبير) أي لحسنت قراءتي أكثر وأكثر وجملت صوتي بقراءة القرآن تشابه الأسماء أضل بعض الناس وجعلهم يعتقدون أن مزامير داوود مجموعة من الصفافير أو الآلات التي يصفر فيها فتحدث صوتا من عائلة الناي وما إلى ذلك لكن هذه كانت عبارة عن جمال في الصوت وروعة في الأداء لكن ليست بآلة خارجية عن الحنجرة وعن الفم وما إلى ذلك مما يخرج الصوت من الإنسان فما كان مع أبي موسى آله من الآلات ورثها عن آل داوود إنما صوته كان فيه جمال من جمال آل داوود حينما كانوا يرنمون بتسابيح الله سبحانه وتعالى ثم إن أبا موسى ما كان يغني ولا ينشد شعرا إنما كان يقرأ قرآنا فالاستدلال بهذا استدلال باطل فاسد بعيد جدا إنما هو جمال الصوت أما تلك الآلات فقد صح فيها الحديث في صحيح البخاري ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحرى والحرير والخمر والمعازف واامعازف جمع معزف وهي آلات العزف بجملتها وذلك يدل على حرمتها لأنه يقول يستحلون الاستحلال يكون استباحة لما حرمه الله سبحانه وتعالى فليس هذا الفهم صحيحا إنما المزامير في آل داوود غير المزامير عند الناس هذا غير ذلك ونعود بالله من مزامير الناس ونسأل الله أن يرزقنا من مزامير آل داوود.
يقول: ماالرابط بين قصة نوح -عليه السلام- وقصة داوود وسليمان التي وردت في سورة الأنبياء وما الحكمة من تكرار قصص بعض الأنبياء في أكثر من سورة أفيدونا جزاكم الله خير.
(15/27)
---(6/13)
التناسب بين هذه القصص كلها قصة الأنبياء في سورة الأنبياء كما قلنا قبل ذلك إنما هو تثبيت للنبي بذكر ما أعطى الله للأنبياء فقد آتى فلانا كذا وأعطى فلانا كذا ونجى فلانا من كذا فيذكر الله تعالى إنعامه وإكرامه ونصرته للأنبياء من قبل فإذا علم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك ثبت على طريق الدعوة وصبر على أذى قومه وعلى تحمل أعباء الرسالة وتكرار القصة في القرآن الكريم سواء للأنبياء أو غيرهم إنما هو لكل مناسبة ولكن من جمال عرض القرآن للقصة أنه يقتصر على ما يناسب المقام فيذكر إن صح التعبير مشهدا من المشاهد وموقفا من المواقف في حياة نبي من الأنبياء أو قوم من الأقوام يذكره هذا الموقف خاصة لأنه هو المناسب لهذا المقام الذي ذكرت فيه القصة في سورة من السور وفي سورة أخرى تعاد القصة ولكن من وجه آخر ومن طرف آخر غير الذي ذكر قبل ذلك ذلك كله يسمى اجتزاء القصة إلى أجزاء كل جزء يذكر في مكانه المناسب له والمطلوب فيه بخلاف ما يظن أن القصة مكررة بكاملها في كل مكان هنا وهنا وهنا فهذا كرار هذا التكرار ممل ومخل والقرآن بريء منه وليس مثله فيه إنما هو ذكر مشهد أو موقف من القصة يتناسب مع المقام الذي ذكر فيها بغرض تقديم العبرة لمن يقرأ أو يسمع القصة والله أعلم.
تقول: هل هناك مناسبة نعلمها في ذكر هؤلاء الأنبياء وفق هذا الترتيب الوارد في الآية أو أن هذا الترتيب لحكمة استأثر الله بها في علمه؟
الترتيب في هذه الآيات ليس على وضعه الطبيعي أو المعروف في التاريخ فقدم الله موسى وهارون وذكر بعدهما إبراهيم وذكر بعد ذلك نوحا وهكذا ليس الترتيب على وفق ما وقع ذلك لأن الترتيب غير مقصود وحين يقصد الترتيب يذكر الله الأنبياء مرتبين لكن طالما الترتيب غير مقصود وغير مفيد في المقام فلا يتوجه إليه الحديث ولا يراعى في الخطاب.
(15/28)
---(6/14)
فالترتيب هنا ترتيب قد يكون له حكمة عند الله سبحانه وتعالى أ و يتدبر المتدبرون فيرزقهم الله تعالى ما يشاء من الحكمة لكن الترتيب هنا غير مقصود.
تقول: قد ذكرتم فضيلة الشيخ أن الجبال كانت تسبح مع داوود -عليه السلام- وأن هذا التسبيح حقيقي وقد سمعت من أحد المفسرين أيضا أن الجمال له شعور وأحاسيس كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن جبل أحد (جبل يحبنا ونحبه) كيف نجمع بين هذا وبين قول علماء الأصول أن هذا على سبيل المجاز ومثلوا بقول الله تعالى ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَ?[يوسف: 82]، أرجوا التوضيح أثابكم الله؟
(15/29)
---(6/15)
قول الله تعالى ?وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَ? هذا مجاز عبر بالقرية وأراد أهلها هذا غير ما نحن نتكلم فيه ليس المقصود أن يسأل جدران القرية وبيوت القرية إنما يسأل أهل القرية ولكن جاء التعبير هكذا ربما مبالغة أي لو سألت الأحياء من الناس وسألت الجمادات وسألت الأشجار وسألت البيوت لأجابت بالحق الذي نقوله إنما كون هذه المخلوقات لها شعور لها حس لها صوت لها كلام لها تفاهم وتخاطب فهذا ثابت بنصوص القرآن الكثيرة وإن كانت محتملة تحمل على الحقيقة أوة على المجاز ولكن حملها على الحقيقة أولى ما لم تستحيل الحقيقة أو ما لم تكون الحقيقة مستحيلة ولا استحالة لها فقد ثبت في قصة سليمان -عليه السلام- أن الله تعالى علمه منطق الطير وكلم الهدهد وكلم الطيور وكان للهدهد دور معروف وسمع كلمة النمل وفهم كلامها طالما ثبت هذا بالواقع إذن لها فعلا ما أثبت الله لها من حس وشعور والنصوص التي ذكرت في ذلك في القرآن والسنة تحمل على حقيقتها وليس كل مجهول مفقود فليس جهلي بالشيء يعني عدم وجوده فقد أجهل شيئا وهو موجود ولكني لا أراه أو لا أعلمه أو لا أحسن به هذا ثابت في حياتنا كثيرا جدا بالمشاهدة وبالحس فعدم علمنا بأصوات الأشياء وبكلام الأشياء هذا لا ينفي وجودها ولكنها ثابتة ويقول الله تعالى ?وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ?[الإسراء: 44]، كيف لا تسبح وإن كان تسبيحها خضوعا لمنهج الله وما أراد الله منها هو تسبيح أيضا ولكن يقول ?كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ?[النور: 41]، وما ثبت مثلا في جبل أحد وما ثبت في الحجر الأسود يقول النبي -عليه الصلاة و السلام- (إن حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث) يعلم أن هذا هو محمد بن عبد الله ويعلم كرم خلقه وصدقه وأمانته بين الناس فكان كلما مر عليه يسلم على محمد بن عبد الله ومحمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-(6/16)
(15/30)
---
كإنسان لا يعلم بهذا التسبيح ولا يسمعه ولا يرده حتى صار نبيا فنبأه الله بهذا وعلمه فصار يقول هذا (إن حجرا بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث) إلى غير ذلك من تسبيح الحصى بين يديه والشواهد في ذلك كثيرة وجهلنا بالشيء لا يدل على عدمه وقال تعالى ?بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ?[يونس: 39]، والله تعالى أعلى وأعلم.
السؤال الأول في محاضرتنا هذه ما دور الجبال والطير في مملكة داوود -عليه السلام- وما دور الريح والشياطين في مملكة سليمان -عليه السلام-؟
السؤال الثاني: هل كان ذو الكفل نبيا أو رجلا صالحا؟
السؤال الثالث: يبدو من ظاهر قوله تعالى ?فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ? إشكال فكيف يكون توجيهه؟
والله تعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
(15/31)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثاني
التفسير - المستوى الثاني
د/ عبد البديع أبو هاشم
11/7/2005 - 5 جمادى الثانية 1426
الدرس (16) الأنبياء ( الآيات من 95 إلى نهاية السورة )
الدرس السادس عشر
سورة الأنبياء: من الآية الخامسة والتسعين إلى آخر السورة
الترهيب من يوم القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
ففي ختام هذه الدورة ومع ختام سورة الأنبياء نتناول الآيات الخامسة والتسعين وحتى الآية الثانية عشرة بعد المائة تحت عنوان: الترهيب من يوم القيامة
وذلك من خلال عناصر أربعة:
أولاً: الرجوع إلى الله وأمارته.
ثانياً: الناس في رجوعهم إلى الله فريقان.
ثالثاً: شهادة غيبية لهذه الأمة.
رابعاً وأخيراً: عود على بدء.
سائلين المولى- سبحانه وتعالى- التوفيق وحسن العاقبة وقبل تفصيل القول في هذا نستمع إلى الآيات المباركة من أخينا الكريم فليتفضل مشكوراً:
(16/1)
---(6/17)
? وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ?95? حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ?96? وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ?97? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ?98? لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ?99? لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ?100? إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ?101? لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ?102? لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ?103? يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ?104? وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ?105? إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ?106? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ?107? قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ?108? فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ?109? إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ?110? وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ?111? قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ
(16/2)(6/18)
---
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ?[الأنبياء: ].
بسم الله الرحمن الرحيم, لمَّا سبق قولُ الله - تبارك وتعالى- في الآيات السابقة ? كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ?[الأنبياء: 93] قال الله- تعالى- بعد ذلك: ? وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ? بالنظر إلى هذا السياق يصير المعنى ?حَرَامٌ? أي: ممنوع فالحرام هو الممنوع والممنوع محرم وحرام أي وممنوع ?عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَ? بالعذاب في الدنيا لكفرها ممنوع أنها لا ترجع إلى الله يوم القيامة يعني: تلك الأمم التي أهلكها الله –تعالى- في الدنيا بالعذاب جزاء كفرها إنها راجعة إلى الله يوم القيامة لتنال جزاء الآخرة ونكال النار وقيل: ? وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ? إن بعض الكفار ظنوا أن من مات يعود في الدنيا فقال- تعالى-: ? وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ? أي: وممنوع أن ترجع أمة أو أحد أهلكه الله في الدنيا بالعذاب أن يرجع بالبعث في الدنيا وأن يرجع للحياة مرة أخرى إنما البعث والرجوع يوم القيامة, والمعنيان يحتملهما اللفظ والقرآن بهذا العموم يفيد تلك الإفادة الواسعة العامة فمن مات في الدنيا لا يعود إليها ولا يبعث فيها- إلا أن يشاء ربي شيئاً- كما بعث الله أصحاب الكهف وكما بعث الله الرجل الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال: أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها وما شاء الله من ذلك لتقديم عبرة معينة أو تقديم آية من آيات الله.
أما السنة العامة لله أن من مات في الدنيا لا يعود إلى الحياة فيها مرة أخرى إنما يظل ميتاً حتى يوم البعث، كما قال ربنا: ? وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ?.
(16/3)
---(6/19)
? حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ? أي: إلى أن تفتح يأجوج ومأجوج ? وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ?97? ? ويأجوج ومأجوج قوم من نسل آدم -عليه السلام- ومن سلالة نوح -عليه سلام الله- ومن أولاده هم قوم مفسدون في الأرض إفساداً عظيماً وقصتهم مذكورة في سورة الكهف حين طلب قوم من الناس هناك أن يجعل ذوالقرنين بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداً يمنعهم من الإفساد فيهم فأقام بينهم ردماً من زبر وقطع الحديد التي وضع عليها نحاس مصهور مذاب فانسبك النحاس مع الحديد وصار سداً منيعاً ومن لطف الله- تعالى- أن سلطهم للخروج من وراء هذا السد سلطهم على الفعل الأشق وهو إحداث نقب وفتح في هذا السد العظيم ولم يهدهم إلى الحل الأسهل وذلك بأن يظهروا من فوق السد وأن يتخطوه إلى الجهة الأخرى فهذه أسهل وقال ربنا: ? فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبً? [الكهف: 97] وهؤلاء محبوسون هكذا بفضل الله ولا يظهرون إلا قرب قيام الساعة كعلامة من علاماتها وأمارة من أمارات الرجوع إلى الله - عز وجل- ? إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ? أي فتح السد الذي يمنعم فتح بينهم وبين الناس وخرجوا إلى الأرض يفسدون فيها كما ذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- أن أحدهم يمر على النهر فيشربه والناس يهربون منهم ويلجؤون إلى حصونهم ويختبئون هنا وهناك ولا يظهر المختبئون إلا بعد ظهورهم فيمر الرجل ممن نجا على النهر الجاف فيقول: كان هنا ماء يوماً من الأيام. فخروجهم يكون قرب قيام الساعة وعلامة من علاماتها لذلك جاءت الآية ? حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ?97? ? يعني: وهم يخرجون إلى الأرض ويعيثون في الناس بسرعة فائقة كما تجري الذئاب في الأرض. والحدب: هو المكان المرتفع النازل إلى الأرض كنزلة الجبل مثلاً ومن مشى من فوق الجبل إلى سطح الأرض نزل بسير سريع ومشي سريع فهؤلاء سرعتهم(6/20)
(16/4)
---
هكذا ?وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ?97? ? وأصل النسلان مشية الذئاب إذا جرت فشبههم الله –تعالى- في شراستهم بالذئاب وهي تجري وراء فريستها- نعوذ بالله من إدراكهم ومن فتنتهم-.
وهذا هو العنصر الأول: حيث ذكر الله –تعالى- أن كل من مات يرجع إليه يوم القيامة بالبعث الذي هو حقيقة سهلة ومسألة بسيطة جداً في قدرة الله وفي مقدوراته -سبحانه وتعالى- ومن أمارات ذلك أن تفتح يأجوج ومأجوج على الناس وإذا رجع الناس إلى ربهم فهم عند ذلك يكونون فريقين والآيات تصور ذلك إذ يقول ربنا: ? وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ? بخروج يأجوج ومأجوج وفتح سدهم ?اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ? ونلاحظ إخوتي طلبة العلم -علمني الله وإياكم الخير- أن السورة القرآنية دائماً يرتد عجزها على صدرها ويرتد آخرها على أولها ويترابطان فتبدو السورة كأنها حلقة مستديرة لا تخرج منها آية ولاتدخل فيها آية من خارجها وتلك بلاغة في المقال امتاز به القرآن ويحاول المتكلمون من أدباء وخطباء أن يقلدوا هذا الأسلوب العظيم وأن يظهروا في كلامهم بهذه البلاغة العالية حتى يكون مقالهم وحديثهم موضوعياً يعني: كحلقة تدور حول محور معين فيرتبط حديثهم وكما جاء في أول السورة ? اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ?[الأنبياء: 1] يقول- تعالى- هنا: ? وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ? والمعنى واحد ما هوالوعد الحق؟ هو يوم القيامة فما حال الناس؟ أما الكافرون فهم فريق وأما المؤمنون فهم فريق آخر- جعلنا الله مع المؤمنين- ? وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ? ترى أبصار الكافرين شاخصة وشخوص البصر حين يتخذ غرضاً ثابتاً ينظر إليه لا يطرف عنه ولا يتحول عنه فهذا هو شخوص البصر ويكون ذلك عادة عند الانتظار لأمر مهم أو عند الدهشة والهول وكل ذلك كائن يوم القيامة وهم ينتظرون على تخوف ماذا سيقع بهم, ويحل بهم في هذا الجو(6/21)
العظيم من
(16/5)
---
أحداث يوم القيامة, وكذلك هم خائفون لأن ما كانوا يوعدون به من البعث ويوم القيامة يتحقق أمام أعينهم شيئاً فشيئاً فقد حق ما كانوا به يكذبون ولذلك من الخوف والرعب والهول والدهشة تشخص أبصارهم ? فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا ? يعني يقولون: يا ويلنا أبصارهم شاخصة ألسنتهم لاهثة بقولهم: يا ويلنا. نداء الويل وهي كلمة تقال عند قدوم الويل على الإنسان وكأنه ينادي ويله لما حضر ولن يرجع وتأكد الإنسان من ذلك فيقول: يا ويلي يعني: يا ويلي احضر ويا ويلي انزل ويا عذابي حُلَّ بي وقد حل بالفعل فهو لا يأتي بجديد ولكنه كأنه يحكي الواقع الذي يقع عليه والذي يعيشه في تلك الساعة فينادي الويل حين نزول الويل والعذاب عليه. ألسنتهم قائلة: ? يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ? قد كنا في غفلة وما الذي أغفلهم لقد جاءهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعرض لهم في كل مواقفهم ومداخلهم ومخارجهم وليلهم ونهارهم يدعوهم إلى الله ويذكرهم إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
(16/6)
---(6/22)
أنزل الله إليهم كتاباً عربياً محكماً ينطق عليه بالحق ومع ذلك كانوا ينصرفون عنه, فلم يكونوا في غفلة حقيقة وإنما هذا تصورهم عن أنفسهم لكن يصدقون حين يقولون كما قال ربنا عنهم وقالوا: ? وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ?[تبارك: 10] كانوا في غفلة ولكن هم الذين صنعوها هم الذين رسموها هم الذين أقاموا أنفسهم فيها ? قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا ? أي: من هذا الغيب الذي يتحقق الآن ? بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ? ولكن الحقيقة أننا كنا ظالمين حين اتهمنا الحق بأنه سحر وباطل, حين اتهمنا رسول الله الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم- بأنه مفترٍ وكذاب, حين اتهمنا أنه لا توحيد ولا دين إنما هو دين الآباء والأجداد, ظلمنا أنفسنا ? بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ?.
الله - تبارك وتعالى- لا يترك لهم الفرصة لهذه الترهات ولهذه الكلمات التي لا فائدة فيها
** ولات ساعة مندم **
(16/7)
---(6/23)
? وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ?[ص: 3] الوقت ليس وقت ندم ولا اجترار للأحزان ولا اعتراف بالذنوب فقد انتهى وقت هذا الأمر, إنما الآن وقت الحساب واليوم يوم الجزاء فلهذا تجد الآية التالية تقطع عليهم ندائاتهم ? يَا وَيْلَنَا ? وتحسرهم ? قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ ? وندمهم? بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ? يقطع الله عليهم كل هذا بقوله: ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ? دعوكم من هذا الكلام الذي تقولونه والذي تتهترون به وتهزون به فإنه لا قيمة له الآن الحق والواقع الآن ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ? حصب جهنم: أي حطبها وشجرها ووقودها كما ورد كل ذلك عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وغيره وقيل: الحصب هو المحصوب أي الذي حملته الرياح من أجسام ثقيلة ولهذا سميت الرياح التي تحمل الحصى والحجارة سميت بالحاصب أو الحصباء ? أَمْ أَمِنْتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبً?[الملك: 17] أي ريحاً شديدة تحمل الحصى وترميكم به وسمي الحصى حصباء لأنه يحصب بالرياح فالرياح تحمل الحصى وتقذف به حينما تشتد وكذلك يؤخذ هؤلاء الكافرون يوم القيامة ويرمى بهم في النار ? كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِير?[تبارك: 8] فهم يلقون في النار إلقاء كالحصاة والحجر تحمله الريح وتلقيه من بعد فسموا بذلك ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ? الورود كما ذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- واختار هذا الرأي هو الدخول أي ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ? أي داخلون وفي سورة مريم ? وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّ? [مريم: 71] الخطاب أيضاً للكافرين وإن أخذ على(6/24)
(16/8)
---
عمومه فقيل الكل يدخل النار ويمر من خلالها فالمؤمنون تكون النار عليهم برداً وسلاماًَ حتى إنها تستجير من البرد الذي يكون عند المؤمنين, أما الكافرون فيسقطون فيها- والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى- والورود يأتي بمعنى الدخول كما في قول الله- تعالى- عن فرعون اللعين: ? يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ?أي فأدخلهم النار ?وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ?[هود: 98] وكذلك تأتي كلمة الورود بمعنى الإتيان والمرور على الشيء إتيان الشيء و المرور عليه يسمى هذا وروداً كما قال الله –تعالى- عن كليمه موسى -عليه السلام-: ? وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ?[القصص: 23] معنى ورد هنا: أي أتى على ماء مدين حين وصل إلى بئر في أرض مدين وجد الناس يسقون أغنامهم هناك ? وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ ? فما دخل البئر ولا سقط فيه ولا نزل فيه إنما مرَّ عليه وكان عنده. فتأتي كلمة ورود بالمعنيين ومعنى ذلك أن الجميع سيردون على النار يعني سيأتون عندها ويرونها بأعينهم ولكن المؤمنين يُسلِّمهم الله والكافرون يسقطون فيها وذلك من خلال المرور على الصراط الذي قال فيه العلماء: إنه جسر أدق من الشعر وأحد من السيف منصوب على متن جهنم أي على ظهرها يمر عليه الناس كلهم فمن الناس من يمر بسرعة ومن الناس من يتباطأ به عمله ومن الناس من توقفه ذنوبه ومن الناس من يسقطه كفره وشركه في النار- والعياذ بالله- المؤمن يمر بسلام والكافر والمؤمن العاصي يسقط في النار الكافر يخلد والمؤمن العاصي يخرج بعد فترة يأذن الله- تعالى- بها بشفاعة أحد الشافعين ولله الأمر كله.
(16/9)
---(6/25)
أيَّاً ما كان الأمر فالخطاب هنا للكافرين والكلام لهم والمقصود هم وآلهتهم التي عبدوها من دون الله ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ? فكأني بالمؤمنين وهم بعيدون عن هذا الخطاب غير مقصودين فيه لكن وجد المشركون كما وردت بعض الرويات بذلك وجد المشركون على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية مادة للجدل والمنازعة وينسب ذلك إلى رجل في العرب كان داهيةً في الحوار والجدل اسمه: ابن الزِّبعرَى هذا الرجل حينما سمع هذه الآية قال: لئن لقيت محمداً لأحجنه أي لأغلبنه بالحجة فوفَّرَ له كبار الكفار الوليد بن المغيرة وأبو جهل ونحوهم وفروا له مجلساً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له ابن الزبعرى: إن كان قولك: ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ? فنعم جهنم, فنحن مع الملائكة ومع عزير ومع عيسى بن مريم يعني هم كذلك عبدوا من دون الله فهم في جهنم ونحن معهم فنعمت الصحبة فلا عليك من هذا. يعني يقول له: نعمت الصحبة ولا نبالي طالما نحن مع الملائكة التي عبدت من دون الله كما عبدها كفار مكة ونسبوها لله بناتٍ ومع عزير الذي ادعى اليهود أنه ابن الله وعبدوه من دون الله أو مع الله والمسيح -عليه السلام- الذي ادعى النصاري أنه ابن الله وعبدوه مع الله فإذا كنا مع هؤلاء فلا ضير نعمت النار ونعمت جهنم فرد النبي -عليه الصلاة والسلام- على ذللك بأن الله تعالى قال: ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ? ولم يقل: ومن تعبدون من دون الله فما لغير العاقل ومن للعاقل وبالتالي أظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- جهل ابن الزبعرى بلغة قومه وذهوله عن هذه المسألة بين قومه ولكن لم يقبل البعض مثل هذه الروايات وتكلم فيها وهذا جواب أيضاً ضعيف أن "ما" لغير العاقل و"من" للعاقل فمسألة ليست قوية في الرد إنما رد الإمام ابن كثير -رحمه الله(6/26)
(16/10)
---
تعالى- بكلام لطيف اعتبر الآية التي بعد ذلك استثناء من الآية السابقة فيقول الله- تعالى-: ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ?99? لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ?100? لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ?101? إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ?102? ? فكأن الآية [إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون] فاعتبر هذه الآية ? إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى ? اعتبرها استثناء من قول الله- تعالى-: ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ? يعني كأنه قال:[ إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى] ومنهم الملائكة وهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون والعزير نبي من أنبياء الله والمسيح معروف أنه نبي الله ورسوله إلى بني إسرائيل وآية من آياته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
(16/11)
---(6/27)
فهؤلاء سبقت لهم من الله البشرى بالجنة وعلة ذلك أنهم لم يرضوا بالعبادة من دون الله الملائكة ما رضيت أبداً ولا فرحت بكونها تعبد من دون الله ولا العزير رضي بذلك من اليهود ولا المسيح -عليه السلام- رضي أن يعبد من دون الله ولو أسمعنا الله صوتاً من هؤلاء لكان صوت إنكار على من عبدوهم ومن أشركوهم بالله ويوم القيامة يسألهم الله –تعالى- ليقيم الحق والعدل كما جاء في قوله –سبحانه-: ? وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ?117? مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ?[المائدة: 116: 117].
ونلاحظ في رد عيسى -عليه السلام- همسة الخوف وهزة الرعب من سؤال الله له مع أن الله –تعالى- يعلم أنه بريء ولكن يريد أن يستنطقه على من عبده من دون الله فيسمعون خلاف ما كانوا يزعمون وقيل: إن عيسى -عليه السلام- حين يوجه إليه هذا السؤال يسمع لعظامه صوتٌ من هول السؤال- نسأل الله العفو والعافية- ورد الإمام ابن جرير بالرد الذي ورد في الروايات أن "ما" لغير العاقل وأما الملائكة وعيسى والعزير فكان ينبغي أن يقال: إنكم ومن تعبدون من دون الله حصب جهنم.
(16/12)
---(6/28)
على كل حال فالميزان في الأمر والفصل فيه أن من رضي أن يعبد من دون الله فهو متوعد بهذا العذاب أما من عبده الناس ولم يرضَ بذلك لنفسه وأبى إلا أن يكون الله واحداً فإنه لا يتوعد بهذا العذاب ولا يصيبه شيء منه ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ?99? لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ?100? ? فعلاً الإله لابد أن يكون عزيزاً وقوياً على الأقل يمنع نفسه من الأذى والردى أما أن يلقى به في النار فذلك يدل دلالة واضحة لكل ذي نظر وعين ولكل ذي قلب أن هذا ليس إلهاً وإلا لدفع عن نفسه.
(16/13)
---(6/29)
وهي الحجة التي احتج بها إبراهيم على قومه كما مر بنا الحديث قبل ذلك قليلاً وذلك حينما قال لقومه: ? قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنْطِقُونَ?[الأنبياء: 63] يعني أنتم تعبدون حجارة وليست آلهة ولو كانت آلهة لدفعت عن نفسها أو لدفع عنهم كبيرهم هذا لكنهم لا دفعوا عن أنفسهم ولا عن غيرهم فالإله لابد أن يكون قوياً طالما وردوا النار ويردونها ويلقون فيها فليسوا بآلهة ? لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ? الزفير: هو النفس الخارج من الإنسان يخرج نفساً عكس الشهيق والزفير عادة يكون عند الضيق وعند الشدة ينفخ الإنسان نفخة تدل على ضجره وعلى غضبه وما أشد حال هؤلاء الكافرين يومئذ فلهم الحق أن يخرجوا زفيراً وزفيراً وذلك تعبيراً عن شدة حالهم وشدة العذاب المحيط بهم ? لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ? والزفير من شأنه أن يسمع لأنه في خروجه وخاصة عند الشدة فيسمع صوته وهو خارج فهل يسمعونه ? وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ? هم أصلاً في النار لا يسمعون من شدة العذاب صمت آذانهم ومن الضجيج والصراخ من أهل النار فإنهم لا يسمعون الزفير مع ظهور صوته ? ٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ? وقد يقال: ? وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ? لا يسمعون كلمة رحمة تخفف عنهم بل يمنعون من الكلام أصلاً كما قالوا: ? قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ?107? رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ?108? ?[المؤمنون: 107: 108] يحتاجون إلى كلمة حتى تلطف عليهم: تحملوا, اصبروا. لا إنما يرد الله عليهم قائلاً: ? اخْسَؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ? فيمنعهم حتى من أصل الكلام فضلاً عن أن يسمعهم كلمة تريحهم أو تخفف العذاب عنهم وهم فيها لا يسمعون هذا فريق الكفر وحاله عند الرجوع إلى الله - تبارك(6/30)
(16/14)
---
وتعالى- ومما لا يحتاج إلى تنبيه- ولكني أنبه للتذكرة- أن هذا ليس الوصف الكامل لحال الكافر يوم القيامة إنما هي مشاهد أو مواقف يذكر الله في كل سورة وفي كل مقام وصفاً لجانب معين من جوانب المقام يوم القيامة فإنه مقام رهيب رعيب يكون فيه الكافرون- عافانا الله منهم ومن مآلهم-.
ولتكتمل الصورة ذكر الله –تعالى- الفريق المقابل ? إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ? الذين سبقت لهم منا الحسنى أي قضينا لهم وأمضينا لهم البشرى بالحسنى أي بالمعاملة والمجازاة الحسنى وقيل: بالجنة والمعنى واحد فلا أجمل ولا أحسن من أن يبشر الإنسان بالجنة عند موته فهؤلاء الذين ماتوا وهؤلاء الذين بقوا في الحياة كالملائكة, الله –تعالى- قضى للملائكة بالجنة ? وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ?24? سَلاَمٌ عَلَيْكُم ?[الرعد: 23: ] وليس عليهم تكليف لتكون عليهم نار أو عليهم عذاب إنما هم ينفذون أمر الله - تبارك وتعالى- كما يريد منهم وكما يأمرهم ولا محاسبة عليهم بعد ذلك فإنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وأما عيسى والعزير فقد مضى أمرهم وسبقت لهم كذلك الحسنى فالأنبياء جميعاً مبشرون بالجنة وبأحسن طريقة يكونون عليها يوم لقاء الله -سبحانه وتعالى-.
? أُولَئِكَ ? إشارة إلى البعيد لبعد مكانتهم وعلو منزلتهم يوم القيامة ? أُولَئِكَ عَنْهَا ? أي عن جهنم قال هناك: ? حَصَبُ جَهَنَّمَ ? هنا يقول: ?عَنْهَا مُبْعَدُونَ? أي: عن جهنم مبعدون.
(16/15)
---(6/31)
مبعدون لمسافة كم؟ لأية مسافة؟ المسافة بعيدة جداً, مبعدون بمسافات بعيدة, عبر الله عن بعد المسافة بينهم وبين جهنم بقوله: ? لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا ? حسيسها: أي صوت العذاب وصوت المعذبين ? وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ?[فاطر: 37] فهم ويصطرحون ويصرخون في النار وترتفع أصواتهم ومع ذلك هؤلاء الذين سبقت لهم الحسنى من الله لا يسمعون حسيس جهنم يعني: يبعدون عن جهنم بعداً بعيداً جداً لا يرونها ولا يشعرون بحرها ولا بلهيبها حتى ولا يسمعون صوت العذاب فيها.
وهذا مقابل لما ورد من أن بعض الناس لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها كذلك بعض الناس يبعدون عن الجنة -والعياذ بالله- كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- (صنفان من أهل النار لم أرهما رجال أو قال أقوام ومعناها رجال بأيديهم سياط كأذناب البقرة يضربون بها الناس, ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذ).
(16/16)
---(6/32)
هم يبعدون عن الجنة بعداً بعيداً جداً حتى إن رائحتها الفواحة لا تصلهم ولا يشمونها كذلك الذين سبقت لهم الحسنى يبعدون عن النار بعداً بعيداً حتى لا يسمعوا حسيسها ويتمم النعمة عليهم بقوله: ? وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ? وليس وهم في فضل الله خالدون وهم في نعمة الله خالدون، ولئن كانت لكانت عظيمة وكافية ولكن أراد الله أن يظهر النعيم أكثر فجعلهم فيما تشتهي أنفسهم, فيما يطلبون ويرغبون, فكم طلبوا في الدنيا واشتهت أنفهسم شهوات لكنهم قوبلوا بالتحريم فقالوا: سمعنا وأطعنا, تشتهي أنفسهم أمراً معيناً فيجدونه قد حرمه الله فيقولون: سمعنا وأطعنا ويصبرون عليه فالله –تعالى- يعوضهم عن ذلك خيراً يوم القيامة فيجعلهم في الجنات فيما اشتهت أنفسهم فتشتهي النفس وتتلذذ العين ويرى الإنسان ويجد كل ما يطلبه لا حد لما يشتهي ولا نهاية لما يرغب ? وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ? الخلود معناه الإقامة أي مقيمون ويفهم منها خالدون أبداً والجنة لا يخرج منها أحد وإن أخرج بعض أهل النار كعصاة المؤمنين, فمن دخل الجنة لا يخرج منها أما من دخل النار من عصاة المؤمنين قد يخرجه الله –تعالى- بفضله.
ثم أمنهم الله –تعالى- من شيء, قد يكون الإنسان منعماً ولكن عنده ما يخيفه كما يكون في مجلس طيب كالذي أجلسه معكم ويفزعني الفراق: هل سنلتقي بعد ذلك مرة أخرى أم لا؟ نسأل الله أن نلتقي في فردوس الجنة اللهم آمين.
اللقاء الجميل يعكر عليه ألم الفراق كما قال القائل:
(16/17)
---(6/33)
معنى البيت: أشد ما يكون الهم عند الإنسان حينما يلتقي لقاء يتيقين أنه سيفارق بعد هذا اللقاء فجمال اللقاء يضيع في توقع الفراق لذلك قد يكون الناس منعمين ومخلدين في نعيم, ولكن عندهم ما يعكر عليهم وعندهم ما يخيفهم ويفزعهم؛ فأمنهم الله –تعالى- ونفى عنهم هذا الفزع فقال: ? لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ? لا يحزنهم الفزع الأكبر: النعيم عندهم نعيم كامل تام لا ينقصه شيء ولا يعكر صفوه شيء حتى الفزع الذي هو من حولهم إنهم آمنون منه.
? لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ ? قال بعض المفسرين: إنه هو الموت وقيل: هو النفخة في الصور وقيل: حين يؤمر بالعبد إلى النار وقيل: حين تطبق النار وتضيق على أهلها. وكل ذلك من الفزع, كلها أقوال متجاوبة مع كلمة الفزع فلا تعارض بينها كل مواقف الفزع الذين سبقت لهم الحسنى من الله آمنون من هذا الفزع كله، فالفزع الأكبر هو فزع يوم القيامة وكل فزع في الدنيا لا يساوي شيئاً بجوار ذلك الفزع الأكبر- أمننا الله في الدنيا والآخرة-.
? لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ? تستقبلهم بالتهنئة والبشرى والترحاب وكأنها تقول لهم: مرحباً بكم تفضلوا ادخلوها بسلام آمنين ائمنوا فيها وانعموا فيها ? وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ ? وليس هذا اليوم الذي كنتم توعدون إنما هذا يومكم هذا يوم فرحتكم ويوم سعادتكم يوم جائزتكم ويوم فوزكم هذا يومكم الذي كنتم توعدون أي في الدنيا وصدقتم به وآمنتم به وعملتم من أجله.
(16/18)
---(6/34)
وصف الله ذلك اليوم بما يفيد عظمته وبما يفيد هوله وشدته فقال: ? يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ? أي: هذا اليوم يوم الفوز للمؤمنين إنه يوم أن يطوي الله –تعالى- السماء بيمينه ? يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ ? كما قال: ? وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ?[الزمر: 67] فيطوي الله –تعالى- السماوات بيمينه وشبه طي السماء لأن الطي: هو جمع أطراف الشيء اللين بعضها على بعض. يجمع كما يجمع طرف الثوب أطرافه تجمع إلى بعضه فيكون قد طوى الثوب وطوى الورقة إذا جمع أطرافها وهي لينة هكذا أما الحديد فلا يطوى إلا بالنار فيعالج بالنار أولاً ثم يطوى فأصل الطي للشيء اللين فبين الله –تعالى- أنه يطوي السماء بيمينه وأن هذا الأمر في غاية السهولة واليسر على الله وذلك كما يطوي أحدكم الشيء اللين فيضم أطرافه بعضها إلى بعض وشبه الله هذا بطي السجل للكتب وذلك السجل قيل: يعني الكتاب كما يطوي الكتاب, الكتاب يعني كما تطوى الورقة وقيل: كطي السجل للكتب السجل هو الكاتب للورقة صاحبها يطويها وقيل: هو ملك اسمه "سجل" ملك من ملائكة الله مهمته أنه يتسلم صحف العباد بعد أن يموتوا فيسلم الكتاب إليه فيطويه عنده لا ينشر إلا يوم القيامة يلقى إلى صاحبه ليأخذه بيمينه أو بشماله وينشر عليه ويفتح ?اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبً?[الإسراء: 14] هذا الملك قيل: اسمه "سجل" ورجح العلماء وابن كثير رجحوا هذ الرأي أن "سجل" اسم لملك وهو الملك الموكل بحفظ هذه الألواح وتلك الصحف يطويها إلى أن يكون يوم القيامة ويوم الحساب فيطير كل كتاب إلى صاحبه ? وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ? [الإسراء: 13]
(16/19)
---(6/35)
طي الله –تعالى- للسماوات السبع بطولها وعرضها هكذا سهل جداً "كن فيكون" إن أردتم أن تعرفوا مدى سهولته فانظروا إلى كاتب الورقة وصاحبها كيف يطويها بعد أن يكتب فيها.
? كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ? واستعظم كثير من الناس كيف يعيد الله الخلق مرة أخرى بعد أن صاروا تراباً وعظاماً ورفاتاً وعظاماً نخرة وتحللت الأجساد وانفصلت الأوصال كيف يعود الخلق مرة أخرى؟!! كما جاء في قوله –تعالى-: ? ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ?[ق: 3] هكذا قال الكافرون وقص الله قولهم علينا: ? ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ? وقال –تعالى-: ? إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ?6? وَنَرَاهُ قَرِيبًا ?[المعارج: 6: 7] استعظم الناس هذا العودة مرة أخرى فناقشها الله في القرآن وفصلها وأقام عليها الأدلة ومن أجمل تلك المواقف والمواقع التي ناقش الله –تعالى- فيها هذ الأمر وقدمه هذه الجملة من الآية ? كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ? هذا إجمال واختصار لقول الله –تعالى-: ? وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ?[الروم: 27] واختصار هذا في آياتنا هذه ? كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ? يعني: من استعظم هذا الأمر وأراد أن يتخذ دليلاً على ذلك وأن يرى وضوح الحق فلينظر وليعلم أن إعادة الخلق وإعادة الصناعة مرة ثانية تكون أهون وأسهل أو على الأقل مثل البداية الأولى ? كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ?.
(16/20)
---(6/36)
? وَعْدًا عَلَيْنَا ? أي أخذ الله على نفسه هذا الوعد والله –تعالى- لا يجب عليه شيء إلا أن يتعهد هو بشيء كذلك يكون في حياتنا وفي حكمنا كالشيء الواجب ولكن الله –تعالى- لا يجب عليه شيء أبداً ? كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ? تأكيد لما مضى ? إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ? لسنا مهددين تهديداً أجوف, لسنا قائلين كلاماً لا واقع له, بل نقول كلاماً نفعله بل نعد أو نتوعد بوعيد نحققه وكل ذلك كائن في موعده ? وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ?.
الآيات بعد ذلك من خلال العنصر الثالث تخبر بشهادة قديمة شهد بها لهذه الأمة وللمؤمنين منها على وجه الخصوص ? وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ?.
بعض السلف أخبر وقال: نحن عباد الله الصالحون نرث الأرض يعني: أن الله –تعالى- أورثنا الأرض بصلاحنا وبعبادتنا له ومجمل القول في هذا: أن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- قضى قضاءً مبرماً وسنةً ماضية في الخلق أن الأرض في الدنيا يرثها عباد الله الصالحون من كل أمة, المؤمنون يريدون أن ينشروا الخير وأن يبثوا الإيمان في قلوب العباد وأن يربطوا العلاقة بين العبد وبين ربه -سبحانه وتعالى- لتسعد حياة العبد في الدنيا والآخرة.
(16/21)
---(6/37)
الكافرون يخافون على مناصبهم وكراسيهم ومراكزهم وأموالهم ومصالحهم ويظنون أن هؤلاء المؤمنين ينازعونهم الأمر وينظرون إلى أموالهم وإلى جاههم ويريدون سلبه منهم فتقوم النازعة فيحاول الكافرون طرد المؤمنين من الأرض فإذا بالله - تبارك وتعالى- يأتي بالنتائج على عكس ما أراد الكافرون يُطرَد الكافرون من الأرض التي يسكنونها ومن أرض الدنيا كلها بالهلكة والدمار ويستبقي الله المؤمنين وهذا عام في جميع الأمم كما قال الله –تعالى- في سورة إبراهيم: ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ?[إبراهيم: 13] المؤمنون والأنبياء حينما دَعَوا إلى الإيمان ما هددوا بالخروج من الأرض ,إما أن تؤمن وإما أن تسالم وأنت كافر تبقى على كفرك في بيتك في أرضك لكن لا تحارب دين الله - عز وجل- ولا أهل الله ولكن الكافرين حينما يعارضون بدينهم يخرجون من الأرض ويقتلون الأجساد ويزهقون الأرواح.
فهكذا هدد كل الكافرين في كل زمان أنبياءهم فضلاً عن أتباع الأنبياء ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ ? الرب -سبحانه وتعالى- الذي يضع السنن الثابتة التي لا تتغير والقوانين الماضية التي لا تتعطل ? فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ? لنهلكن الظالمين وأين يذهبون؟ خرجوا من الدنيا ومن الأرض كلها وذلك جزاء وفاقاً ويتملكم الأرض بعدهم أنبياء الله وأتباعهم من المؤمنين.
(16/22)
---(6/38)
وانظر إلى قوم نوح من بقي في الأرض بعد ألف سنة أو بعد ألف سنة إلا خمسين عاماً بقي فيها المؤمنون القلة المؤمنة بقوا فيها بعد طوفان عظيم أهلك الله به الكافرين جميعاً عن بكرة أبيهم وقطع دابرهم وأخذ المؤمنون والأرض.
مكة أُخرج منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون معه أُخرجوا إلى يثرب وصارت مدينة نبوية مباركة ثم أعاد الله نبيه -عليه الصلاة والسلام- إلى مكة فاتحاً وصارت المدينة ومكة وأرض الحجاز لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين وهلك كبار الكافرين يوم بدر في أول لقاء وهلك من هلك بعد ذلك وآمن من آمن منهم كما شاء الله له الرحمة.
? وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ ? قيل: في الزبور هو القرآن وهو بمعنى القطعة من الكتاب. والذكر: هو الذي في السماء اللوح المحفوظ وقيل: الزبور هو كتاب داود وهو موجود عند أهل الكتاب الآن فيما يسمى بالمزامير مزامير داود على ما فيه مما فيه لكن أصله اسمه الزبور ? وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ? [الإسراء: 55] هكذا قال ربنا -سبحانه وتعالى- كتاب آتاه إلى داود وسماه زبوراً فكتب الله فيه من بعد الذكر أي من بعد توراة موسى لأن داود كان بعد موسى فهذه السنة موجودة ومكتوبة في الكتب المقدسة كتاب بعد كتاب هذا هو مقصود الأمر أن الله –تعالى- كتب في كل كتاب من بعد الذي قبله أو كتب في الكتب المقدسة المنزلة من بعد اللوح المحفوظ كتب الله فيها هذه السنة ? أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ? فالبقاء ليس للأقوى ولكن البقاء للأصلح البقاء, ليس للأقوى كما يفهم الماديون ولكن البقاء للأصلح كما يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى-: ? أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ?.
(16/23)
---(6/39)
ويرى بعض المفسرين أن الأرض هي أرض الجنة في الآخرة لا بأس من ورث الأرض في الدنيا هم الصالحون والصالحون هم أهل الجنة يوم القيامة فالمعنى يؤدي بعضه إلى بعض ولا معارضة بين هذا وذالك .
? وَلَقَدْ كَتَبْنَا ? يعني: فرضنا وقررنا ? فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ ? أي: في الكتاب المنزل من بعد الذكر الذي في السماء ? أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ? أما الكافر وأما المفسد فهذا عمره قصير وإن طال وملكه زائل وإن دام فالنهاية للصالحين والعاقبة للمتقين كما قال رب العالمين.
? إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ? إنَّ في هذا الكلام, في هذا الإخبار ? لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ? البلاغ معروف أن يُبلَّغَ إنسانٌ شيئاً ما ولكن البلاغ أيضاً في اللغة: من البلوغ إذا بلغ الإنسانُ أمرَه ومقصودَه فقد نال بلاغَه.
? إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا ? أي إن هذا القرآن لبلاغاً يعني: لكفاية لقوم عابدين هذه الأمة والمؤمنون منها على وجه الخصوص لو اكتفوا بالقرآن ثقافة وديناً وعلماً وانطلقوا منه إلى حياتهم لكان كافياً لهم في كل شيء وصدق ربنا إذ قال: ? مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ?[الأنعام: 38] وقال –سبحانه-: ? إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ?[الإسراء: 9] وتركها هكذا عامة لتشمل للتي هي أقوم في كل مجال والقرآن العظيم كتاب عام للدنيا والدين ? قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?[الأنعام: 162] فليس آيات تتلى في الصلاة وفقط أو تقرأ على الأموات ترحماً أو تقرأ في الأسواق تبركاً وجلباً للأرزاق وإنما هي آيات تنظم حركة الإنسان في الحياة لتصح حياته في الدنيا فيسعد ولتفوز حياته في الآخرة فينعم.
(16/24)
---(6/40)
القرآن دستور حياة أنزله الله للعباد فمن عبد الله به فاز وبلغ المقصود ? إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ?106? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ?107??، هذا هو الرسول الذي كان في أول السورة يقول الكافرون عنه ويسرون النجوى ? هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ?3??[الأنبياء: 3] هذا البشر الذي سخر منه الكافرون والذي اعتبروه ساحراً والساحر مفسد في الأرض مضيع للحق هذا الرسول ليس ساحراً وليس مفسداً بل هو رحمة لم ينزل في المجتمعات نقمة كالساحر والسحرة وإنما هو رحمة ليس على المؤمنين فقط بل على العالمين وتأتي هذه البشارة على صورة بليغة على صورة الحصر ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ?107?? كأن الله –تعالى- يحصر بعثة رسوله -عليه الصلاة والسلام- ورسالته في أنها لم تكن شيئاً إلا أنها رحمة وكفى بها نعمة فحياته -عليه الصلاة والسلام- كلها رحمة, أوامره ونواهيه رحمة, هديه القويم رحمة, سنته العادية رحمة, سنته الشرعية رحمة, كلماته رحمة, الاقتداء به رحمة ? وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ? [النور: 54].
? إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ?106? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ?107?? رحمته -صلى الله عليه وسلم- أو كونه رحمة للمؤمنين هذا واضح وظاهر فقد رحموا به وعزوا به وفازوا باتباعه في الدنيا والآخرة.
(16/25)
---(6/41)
أما رحمته للكافرين كيف تكون ذلك؟ الله - تبارك وتعالى- رحم به حتى الكافرين؛ فكفى أن الكافر من هذه الأمة نجا مما كان يعذب به الأمم السابقة من الخسف العام والمسخ العام والهلاك العام فالله –تعالى- نجَّى هذه الأمة من كل هذا ? إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ?106? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ?107??، ومن الرحمة للعالمين الكافرين كما جاء في قول الله –تعالى-: ? وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ?32?? قال الله –تعالى-: ? وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ? - صلى الله عليه وسلم - كان وجوده بينهم رحمة في النهاية يتوجه الخطاب كما كان الخطاب في البداية تقرير لرسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- فعود على بدء يقول الله –تعالى-: ? قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ?، بعد هذ البيان هل أنتم مسلمون ? فَإِن تَوَلَّوْ? أي: كفروا وأعرضوا وأصروا على ما هم فيه ?فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ ? آذنته: يعني أخبرته وحذرته أني سألاقيه, أصل الإيذان أن يخبر بما فيه تحذير ? وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ? أي قل لهم: سآتيكم بالحرب حتى يستعدوا, كذلك إن تولى هؤلاء فآذنهم ولكن ليست هناك حرب في مكة فكيف يؤاذنهم والآية مكية؟!! أي: أخبرهم أن الله –تعالى- سينزل عليهم عذابه وأن الله –تعالى- سيعلن الحرب عليهم ? فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ ? أي: حذرتكم حتى أكون أنا وأنتم على سواء أنا وأنتم نعلم الخطوة التالية وهي نزول العذاب على من أعرض وتولى.
(16/26)
---(6/42)
? وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ? أنا لا أدري لأنهم سيقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. لا تسألوني, أنا لا أدري متى ينزل عذاب الله, لكن أعلم أنه نازل بكم متى؟ لا أدري أقريب أم بعيد ما توعدون, فـ"إن" هنا نافية أما الذي يعلم فهو الله ? إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ?110? وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ?111?، لعله فتنة يفتتنكم الله –تعالى- بها ويختبركم بها أو يعذبكم بها.
قال في نهاية السورة قال -صلى الله عليه وسلم- فيها قراءة ?قل? أي: أن الله يوجهه أن يقول والقراءتان تتلاقيان قل وقد قال ? قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ ? احكم بالحق: هذا دعاء الفصل ? رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ?[الأعراف: 89] حينما نصل إلى درجة الجدال بالباطل وعدم الأمل في الاقتناع بالحق والقبول له نختم بهذا الدعاء بيننا وبين الخصوم من أهل البدع والكفر ونحو ذلك كما كان يختم الرسل كلامهم بهذا بينهم وبين أقوامهم الكافرين المعاندين ? قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ? أي: على ما تصفون به الله - عز وجل- من أن له شريكاً أو ولداً وما تصفون به القرآن من أنه سحر وشعر وباطل وافتراء وتصفون به رسول الله -عليه الصلاة والسلام- من أنه ساحر أو مفترٍ أو غير ذلك مما لا يليق أن يوصف به الحق الواضح المبين.
(16/27)
---(6/43)
بهذا تختم سورة الأنبياء ويختتم القول فيها بما يسر الرحمن -سبحانه وتعالى- من شرح واستفادة من تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- سائلاً المولى -سبحانه وتعالى- أن يجعل لنا فيما استمعنا وفيما تعلمنا النفع والخير والفوز في الدارين إنَّ ربَّنَا هو الرحمنُ الرحيمُ ولقاؤنا في طاعة أخرى بتقدير الله –تعالى- أو في الجنة -إن شاء الله- في فردوسها مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وأحسن الله عاقبتنا جميعاً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
كان السؤال الأول: ما دور الجبال والطير في مملكة داود؟ وما دور الريح والشياطين في مملكة سليمان؟
كانت الإجابة: سخر الله الجبال والطير مع داود للتسبيح معه وكان لتسبيحها صوت وكانت الطيور تجتمع فوق رأس داود -عليه السلام- عند التسبيح وذلك من إكرام الله له.
ومما سخر الله لسليمان الريح وكان له بساط من خشب يضع عليه ما شاء من أحمال ويركب وتحمله الريح بأمر ربه, وسخر معه الشياطين يغوصون في البحر لاستخراج الدرر الكامنة من أعماقه ويبنون له الأبنية
إجابات طيبة ولكن نلاحظ قلة المجيبين أرجو ألا يكونوا قد ملوا وأرجو أن يكونوا قد انشغلوا بالمذاكرة والاستعداد للأسئلة النهائية وأن يكون هذا هو عذرهم وإلا فنرجو الاهتمام والمتابعة والمثابرة؛ قد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- ( إنما العلم بالتعلم ).
كان السؤال الثاني: هل كان ذو الكفل نبياً أم كان رجلاً صالحاً؟
الإجابة ذكر ابن كثير عن ابن جرير أنه توقف في هذه المسألة وابن كثير استظهر أنه نبي واحتج بذكره في وسط الأنبياء وهي حجة مقبولة .
(16/28)
---(6/44)
أنبه فقط إلى أن ابن كثير -رحمه الله تعالى- حين استظهر قال: والأظهر أنه نبي. معنى قوله: والأظهر أنه استظهر هذا فنقول: استظهر ابن كثير كذا لأنه قال: والأظهر وإذا قال: والراجح نقول: ورجح فهذا تنبيه إلى معنى قوله والأظهر أنه نبي وكانت حجته مقبولة فعلا لذكر ذي الكفل في وسط الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.
السؤال الثالث: يبدو من ظاهر قوله –تعالى-: ? فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ? إشكال فكيف يكون توجيهها؟
وكانت الإجابة: لكلمة القدرة معانٍ كثيرة منها: القضاء والقدرة والتضييق وما ظنه يونس -عليه السلام- هو التضييق -جزاكم الله خيراً-.
فعلاً ? فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ? ليس الأمر هنا متعلقاً بظن يونس -عليه السلام- بقدرة الله وإنما المقصود فظن أن لن نُقدِّر عليه وهذا يدعونا إلى مراجعة معاني مفردات القرآن لنعلم أن اللفظ الواحد قد يشترك في عدة معانٍ فلا نفسره في القرآن بالمعنى المتداول بيننا إنما بالمعنى اللائق بسياق الآيات حسب ما ورد من معانيه في لغة العرب هذا مزلق ينزلق فيه الكثيرون يفسرون الآية أو الكلمة القرآنية بما شاع في هذه الأيام من معانيها ويتركون المعاني الأخرى وبالتالي تظهر أمامهم شبه غريبة ومزالق خطيرة قد ينزلق فيها البعض -نسأل الله السلامة والعافية-.
يقول: ما مناسبة هذه الآية مع ما قبلها من ذكر الله لقصص الأنبياء في سورة الأنبياء ثم الانتقال إلى ذكر بعض علامات يوم القامة ثم ذكر مصير المجرمين يوم القيامة ثم الانتقال إلى ذكر عباد الله الصالحين يوم القيامة وما وجه التقابل بين ما قلت من أن أهل النار لا يتكلمون ولا يسمعون وبين الآيات التي تبين التخاطب بين أهل النار وأهل الجنة قال الله –تعالى-: ? وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ ?[الأعراف: 50]وهل معنى الآيات أن أهل النار لا يسمعون بعضهم في النار فقط ؟
(16/29)(6/45)
---
السؤال -ما شاء الله- دسم، بداية المناسبة أشرت إليها في بداية المناسبة أن الآيات السابقة فيها ? كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ? أن الناس اختلفوا حول دين الله - تبارك وتعالى- منهم من آمن و منهم من كفر وكل فريق فرح بما لديه, تنازعوا أمرهم بينهم وختم الله الآية بقوله: ? كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ? فالانتقال هنا واضح والمناسبة بينة كل إلينا راجعون بعدها ? وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ? وبعد ذكر الأنبياء قلنا: إنها كانت كبشرى تثبت النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن الله سيؤتيه ويعطيه خيراً مما أعطى الأنبياء السابقين فهذا تصبير له ومثابرة له على طريق الدعوة وتبليغ الرسالة وكأن الله –تعالى- يشير بعد ذلك إلى المثوبة العظمى والجائزة الكبرى التي تكون يوم القيامة فعطاء الله للنبي والأنبياء جميعاً في الدنيا لا يساوي شيئاً بجوار عطائه لهم في الآخرة لذلك ختم الله السورة بذكر الجنة والنار من باب الترغيب والترهيب وتأكيد البشرى التي بشرها للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأن نهاية هذا الدين والدنيا الجزاء بالثواب والعقاب, فذكر لذلك موقف الكافرين ثم ذكر موقف المؤمنين وذكر موقف المؤمنين دائماً يتقابل مع بعضه لتتم السورة وتكتمل أمام الناظر والقارئ فبذكر المؤمنين تظهر بشاعة جزاء الكفر وبذكر الكافرين تظهر النعمة على المؤمنين.
ختمت السورة بهذا لأن هذا هو التوصيف الطبيعي للموضوع ذكر الجنة والنار.
ونسأل الله –تعالى- أن يجعلنا من أهل الجنة، ولا يتسع المقام لأوسع من هذا -جزاكم الله خيراً- وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(16/30)
---(6/46)
تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
دروس أكاديمية المجد الإسلامية المفتوحة
مادة التفسير/المستوى الرابع
من سورة الفرقان إلى سورة الشعراء
الشيخ: عبد الله شاكر
تم تحميل الدروس من موقع (الأكاديمية الإسلاميةالمفتوحة)على الشبكة العنكبوتية
بواسطة أبو الليث العدني الرفاعي/ اليمن ـ عدن
لاتنسونا من خالص دعائكم
للتنبيه حول ترتيب الدروس أو النواقص والأخطاء في التحميل أرجو التواصل شاكراًعلى بريدي الإلكتروني وهو :
Ghassanshareef123alsharef@yahoo
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الرابع
التفسير - المستوى الرابع
فضيلة الشيخ/ عبد الله شاكر
7/3/2007 - 18 صفر 1428
الدرس الأول : تفسير مقدمة سورة الفرقان.
الدرس الأول
تفسير مقدمة سورة الفرقان.
بسم الله الرحمن الرحيم
يسرنا أن نبتدئ في هذا اللقاء المبارك -إن شاء الله تبارك وتعالى- كما سمعتم مع تفسير سورة الفرقان على ضوء ما فسر به الإمام الحافظ ابن كثير -رحمة الله تبارك وتعالى عليه-.
وستناول في أول حلقة ولقاء -إن شاء الله تبارك وتعالى- ست آيات من هذه السورة تتحدث هذه الآيات الست حول العناصر التالية:
العنصر الأول: فضل الله على هذه الأمة بإنزال القرآن الكريم.
العنصر الثاني: ثناء الله على نفسه بشيء من صفات الجلال والكمال بخلاف ما عبد من دونه سبحانه وتعالى.
العنصر الثالث: افتراء المشركين على النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- ورد القرآن الكريم عليهم.
وقبل بأن أشرع في تفسير هذه الآيات أطلب من الأخ الأستاذ عبد الرحمن أن يسمعنا هذه الآيات فليتفضل.
(1/1)
---(7/1)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: (? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا?)؛ [الفرقان: 1: 6].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد.
(1/2)
---(7/2)
هذه السورة التي استمعنا إلى بعض آياتها الآن سورة مكية يعني نزلت على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في مكة المكرمة، وكما هو معلوم أن القرآن المكي يدور حول قضايا عقدية تتعلق بالوحدانية والنبوة والرسالة وأحوال يوم القيامة، وهذا ما تحدثت عنه هذه السورة إلى جانب كلامها عن صفات عباد الله المخلصين الذين وصفهم وأضافهم رب العالمين -سبحانه وتعالى- إلى نفسه، ووصفهم بصفات فقال: ? وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا ? [الفرقان: 63]؛ إلى آخر ما جاء في الآيات، ولكن لما كانت وحدانية الله -تبارك وتعالى- هي الأهم وهي المقصد الأسمى الذي يجب أن يتحققه أن يكون في هذا الوجود افتتح رب العالمين على -سبحانه وتعالى- الحديث به؛ ولذلك أثنى على نفسه في مقدمة هذه السورة، فالسورة كما ذكرت تتكلم عن الوحدانية وعن النبوة والرسالة وعن أحوال يوم القيامة -يعني عن بعضه- وقدم الله -عز وجل- الحديث عن ذاته وعن نفسه وعن شيء من صفات جلاله وكماله؛ لأن هذا هو الذي يجب أن يقدم على غيره، وافتتح رب العالمين -سبحانه وتعالى- السورة به فقال: (?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ?).
وكلمة تبارك كما قال الإمام القرطبي -رحمه الله تبارك وتعالى- اختلف في معناها على أقوال:
- فقال الفراء: « تبارك بمعنى تقدس وكلاهما -يعنى تبارك وتقدس- للعظمة.
- وقال الزجاج: تبارك يعني تفاعل من البركة.
(1/3)
---(7/3)
- وقيل تبارك: إن عطاءه وخيره قد كثر -سبحانه وتعالى- ويكون معنى كلمة تبارك على هذا أن البركات والخيرات تكاثرت من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهذا يستلزم تعظيم الله -عز وجل- ويستلزم تقديسه سبحانه؛ لأن من هو بهذا الشأن يجب أن ينزه عن كل نقص-سبحانه وتعالى- وأن يعبد وحده لا شريك له؛ لأنه بهذه الصفات الجليلة وهو الذي يأتي بالخيرات، وهو الذي يأتي بالأرزاق، وهو الذي يصرف هذا الملكوت، وبالتالي فهو الواحد الأحد الذي يجب أن تصرف له العبادة -سبحانه وتعالى- وحده، وأن يعظم بجميع الصفات الجلال والكمال.
بالتالي يمكن أن نفهم من استهلال القرآن الكريم بقوله "تبارك" في هذه السورة إشارة إلى تنزيه الله -عز وجل- وإلى تعظيم الله -تبارك وتعالى- وإلى تنزيهه -سبحانه وتعالى- عما لا يليق به، فهي ثناء في الأصل من الله -عز وجل- على نفسه، والله -سبحانه وتعالى- قد أثنى على نفسه في مواطن -بالنسبة لإنزاله للقرآن الكريم- فقال مثلا في أول سورة الكهف: ? الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا? [الكهف: 1]؛ فأثنى ربنا -سبحانه وتعالى- على نفسه، وهذا الثناء متمثل في قوله تعالى: ? الْحَمْدُ للهِ?؛ فالحمد معناه الثناء، وهو أثنى على نفسه لإنزاله الكتاب من عنده، وإسناده قوله -تعالى- "تبارك" إلى "نزل الفرقان" يدل على أن أعظم البركات وعلى أن أعظم الخيرات التي تفضل الله -عز وجل- بها على عباده هي إنزال القرآن الكريم على نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- وأنا قلت الآن: إن من معاني "تبارك" من كثر عطائه وكثرت نعمه وكثر خيره، وحينما تسند كلمة "تبارك" هنا إلى تنزيل الله -عز وجل- للكتاب على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فنستفيد أن أعظم ما تفضل الله -عز وجل- به من نعم على عباده هو القرآن الكريم: ? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ?.
(1/4)
---(7/4)
والتضعيف في كلمة نزَّل: تفيد أن القرآن نزل منجمًا على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بخلاف غيره من الكتب؛ فالتوراة والإنجيل نزلت جملة واحدة، أما القرآن الكريم فكان ينزل مفرقًا مجزأً على حسب الوقائع والأحداث، وعلى ما يريد رب العالمين -سبحانه وتعالى- من تشريع؛ ولذلك فرق الله -عز وجل- في كتابه بين القرآن الكريم وتنزيله وبين التوراة والإنجيل في أول سورة آل عمران فقال: ? نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ ? [آل عمران: 3: 4]، فقال في التوراة والإنجيل أنزل؛ لأنها نزلت جملة واحدة، أما بالنسبة للقرآن الكريم فقال نزل، وهي تدل على التضعيف وتفيد أن القرآن الكريم نزل من عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- منجمًا مفرقًا؛ والله سبحانه وتعالى قد سمى القرآن في مطلع هذه السورة بالفرقان؛ لأن الله فرق به بين الحق والباطل، فرق به بين الهدى والضلال، فرق رب العالمين بين الرشد وبين الغي؛ ولذلك قال:? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ?، فوصف القرآن الكريم هنا بالفرقان؛ لأنه حقًا فرق الله -تبارك وتعالى- به بين الخير والشر وبين الهدى وبين الضلالة وبين الظلمات وبين النور وبين الباطل.
(1/5)
---(7/5)
هذا الفرقان نزل على من؟ نزل على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ونجد هنا في هذا الآية أن الله -تبارك وتعالى- وصف نبيه وحبيبه ومصطفاه -صلوات الله وسلامه عليه- بأشرف الصفات على الإطلاق، ونحن نقول: أشرف الصفات؛ لأنها في مقام التكريم هنا، وهي نعمة على عباده، وتكاثر الخيرات من الله على عباده بإنزال القرآن الكريم، وهذا موطن تشريف وتكريم، وصف ربنا -سبحانه وتعالى- من نزل عليه القرآن بأنه عبد، بلفظ العبودية، فدل ذلك على أن أفضل ما يتشرف به العبد هو أن يكون عبدًا لله -تبارك وتعالى- والله -تبارك وتعالى- في مواطن وصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بهذه الصفة، وهي في الحقيقة صفة تكريم وتشريف للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يكون عبدًا لربه ومولاه -صلوات الله وسلامه عليه- ففي الإسراء والمعراج حيث أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وبعدها عرج به من الأرض إلى السموات العلى، وفي قضية الإسراء وهي معجزة ربانية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وتكريم، حينما يتم هذا للنبي -عليه الصلاة والسلام- وهو أمر يعجز البشر على فعله، أو الإتيان بمثله يصف ربنا -سبحانه وتعالى- نبيه عليه الصلاة والسلام بصفة العبودية، فيقول: ? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ? [الإسراء: 1].
(1/6)
---(7/6)
ونستفيد نحن بأننا إذا أردنا أن نتكلم عن القرآن الكريم وأن نفهم معناه أن نذكر بعض الأمور التي نستفيد منها في حياتنا العملية اليوم، أن نكون نحن أيضًا من عباد الله -تبارك وتعالى- وإن أردنا الشرف، وإن أردنا المكانة، وإن أردنا الرفعة، وإن أردنا العزة، فعلينا أن نسعى جاهدين في تحقيق عبوديتنا لله -تبارك وتعالى- ومن يكون عبدًا لله، ويذل نفسه لربه ومولاه، يرفعه رب العالمين -سبحانه وتعالى- عنده مقامات ودرجات ودرجات؛ لأنه لما أذل نفسه لله أعزه -سبحانه وتعالى- ربه ومولاه، والله -عز وجل- مع ذكره عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأنه هنا عبد، ودعوة المؤمنين ودعوة الناس جميعًا أن يكونوا عبادًا له، وأن يدخلوا في طاعته أثبت لهم العزة والكرامة، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
فعلينا جميعًا أن نسعى في أن نحقق هذه العبودية لرب العالمين -سبحانه وتعالى- كما اتصف بها أشرف مخلوق على الإطلاق، وهو نبينا -صلوات الله وسلامه عليه-.
نزل القرآن الكريم على النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- لماذا؟ ما الفائدة من نزول القرآن؟ قال رب العالمين: ? لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا?؛ الإنذار: هو الإعلام مع التخويف والتهديد، وإعلام بالشيء مع تخويف وتهديد هذا يسمى إنذار والله -تبارك وتعالى- أخبر هنا أنه أنزل القرآن على النبي -عليه الصلاة والسلام- ? لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا?؛ وهذا يدل على عموم بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فالنبي -عليه الصلاة والسلام- بعثه ربه واختاره واصطفاه؛ ليكون للعالمين نذيرًا.
(1/7)
---(7/7)
وكلمة "العالمين" يدخل فيها الإنس والجن، وفي القرآن الكريم مواطن متعددة فيها إشارة إلى عموم بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وذلك كما في قوله –سبحانه-: ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ? [الأعراف: 158]؛ وكقوله جل ذكره: ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ? [سبأ: 28].
وكما أنه -عليه الصلاة والسلام- مرسل إلى عموم الإنس هو أيضًا مرسل إلى عموم الجن، يدخل الجن في قوله تعالى: ? لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا?؛ لأن الجن عالم من العوالم، ويختص الجن أيضًا بالذكر في القرآن الكريم كقوله سبحانه: ? قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ ? [الجن: 1]؛ ? وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ?[الأحقاف: 29].
فدل ذلك أيضًا -بنصوص القرآن الصريحة الصحيحة الواضحة- على أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مرسل إلى الجن أيضًا عموم بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- من مميزات النبوة والرسالة له -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهي من الأمور التي فضل بها على غيره من الأنبياء والمرسلين؛ ولذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري وما سأسوقه لفظ الإمام مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من صحيحه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (أعطيت خمسًا لم يعطهن أحدًا من قبل)؛ وذكر منها: (بعثت إلى كل أحمر وأسود)؛ وقال: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود) -صلوات الله وسلامه عليه- ولذلك أيضًا ومن هذا المنطلق، وبهذه المناسبة، ندعو عموم أهل الأرض إلى أن يدخلوا في دين محمد -صلوات الله وسلامه عليه-؛ لأنه مرسل إلى جميع الخلق.
(1/8)
---(7/8)
في الحقيقة تقوم شبهات عند بعض أهل الكتاب فمثلًا يقولون: "إن النبي -عليه الصلاة والسلام- أرسل إلى العرب خاصة؛ لأنه يتكلم بلسان العرب فقط"، ونحن نقول لهم: إن صدقتم وآمنتم أن الله -عز وجل- أرسله إلى العرب خاصة، وأنه رسول من قبل رب العالمين فيلزمكم تصديقه في كل ما يقول به -صلى الله عليه وآله وسلم- فإن آمنتم بأنه يوحى إليه، وأنه رسول إلى العرب فيلزم من ذلك أن تقبلوا قوله بأنه رسول من الله -تبارك وتعالى- إلى عموم الثقلين الإنس والجن، وعموم بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- من الميزات والخصائص التي أعطيها نبينا -صلوات الله وسلامه عليه-.
الآية التالية والتي معنا في هذا اللقاء أيضًا فيها تكريمٌ وثناٌء من الله -تبارك وتعالى- على نفسه، وهي تدخل ضمن العنصر الثاني، وهو ثناء الله على نفسه بشيء من صفات الجلال الكمال، بخلاف ما عبد من دون الله -تبارك وتعالى- فالله -عز وجل- في آيتين الآن بعد الآية الأولى يزكي نفسه ويثنى عليها ويصفها بصفات الجلال والكمال ثم يسلب هذه الصفات من كل ما عبد من دون الله -تبارك وتعالى-.
ثناء الله على نفسه في هذه الآية أولا: ? الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا?؛ هذه الآية اشتملت على خمسة أمور كلها من صفات الجلال والكمال لله - تبارك وتعالى-:
- الصفة الأولى: أن له ملك السموات والأرض.
- الصفة الثانية: أنه لم يتخذ ولداً.
- الصفة الثالثة: أنه ليس شريك.
- الصفة الرابعة: أنه خالق كل شيء.
- الصفة الخامسة: أنه قدر كل شيء تقديرًا.
(1/9)
---(7/9)