وعن أبي العالية -رضي الله تعالى عنه- قال: (ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر، إلا يقع لله ساجداً حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يُؤذنَ له) هذا الحديث الذي ذكرته آنفاً وهذا القول كله يؤيد أن سجود هذه المخلوقات سجود حقيقة لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وقد أخرج الترمذي -رحمه الله- في سننه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وذكر ذلك الإمام ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: (جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: كأني رأيتني وأنا نائم أنني أصلي ثم سجدتُّ فسجدتْ شجرة كانت خلفي فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها أجراً وضع عني بها وزرا) هذه الشجرة تقول هذه الكلمات (وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك زخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود) وحكى هذا الرجل هذه الحكاية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-: (فلما قام النبي يصلي وسجد سمعته يقول هذه الكلمات التي قالها هذا الرجل عن الشجرة) وهذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه كما ذكرت وحسنه الشيخ الألباني -رحمه الله تبارك وتعالى- وهذا كله يفيد أن الكون كما عنونت لهذه الآية يسجد لله -عز وجل-، وأن هذا السجود على حقيقته، مما ذكر رب العزة والجلال سبحانه؛ لأننا سنأتي في نهاية الآية عند الحديث عن الناس أما أنا الآن فأتحدث عن هذه المخلوقات، بما فيها من الجمادات، لأن الجبال جماد من الجماد ومع هذا أخبر رب العزة والجلال أنه يسجد لله وسجود هذه الأشياء كلها على حقيقتها وهي تسبح بحمد الله -تبارك وتعالى- كما قال ربنا جل ذكره: ?وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ? [الإسراء: 44] فسجود هذه الكائنات وتسبيح هذه الكائنات أمر على حقيقته ونحن يجب علينا -كما هو من منهج أهل السنة والجماعة- أن نأخذ القرآن الكريم على ظاهره، وليس لنا(3/81)
(3/7)
---
أن نزيل القرآن الكريم عن ظاهره إلا بدليل صحيح يدل على ذلك، فنحن نؤمن بظاهر هذه الآيات كما جاءت من عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وقد وقع في الدنيا وسمعنا وقرأنا في سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أن الحجر يسبح وقد سبح الحصى في كف النبي -صلى الله عليه وسلم-) وفي صحيح مسلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرف مكانه الآن) هذا حجر كان يسلم على النبي -عليه الصلاة والسلام- قبل البعثة، ومعروف وكلكم تسمعون وتعرفون حنين الجذع لما حن للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وخرج منه صوت وهو شجرة، فكلام هذه الأشجار والأحجار في الدنيا، يدل على أنها على الحقيقة تسبح بحمد الله -تبارك وتعالى-، وأقول هذا لأن هذا هو الحق، الذي عليه أهل السنة والجماعة، وقد خالف في ذلك نفر من الناس واستبعدوا هذا الأمر، وقالوا بأن هذه الجمادات كيف تسبح؟ أو كيف تسجد لله -تبارك وتعالى-؟ ولا يليق بنا معشر المسلمين أن نقف أمام كلام ربنا وما ذكره نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- أيضاً في سنته هذه الوقفات بل علينا أن نسلم تسليمًا مطلقاً لما جاء عن الله ولما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا نستغرب ذلك ولا نستبعده بحال من الأحوال، ويمكن أن تعطى الصورُ للمعاني، إما هي الصور؟ يعني أجرام الأشياء وظواهرها التي نشاهدها تعطى للمعاني وتكون لها يعني الأشياء التي لا نلمسها ولا نشاهدها، يعني مثلاً الرجل الذي لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رفع من الركوع، وقال: (سمع الله لمن حمده، فقال: ربنا ولك الحمد حمداً كثيرًا طيباً مباركًا فيه...) إلى آخره ماذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ قال: (لقد رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يأخذها أول) طيب هذه كلمة لا جرم لها ومع هذا أخذت شكل الصورة والحيز وجرى إليها الملائكة كي يبتدرونها، وكما أخبر(3/82)
النبي
(3/8)
---
-صلى الله عليه وسلم- عن البقرة وآل عمران، قال: (إن الزهراوين تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة) فلما يقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا القول، لا يأتي قائل وينكر هذا، ويقول: كيف تحاج سورة البقرة وآل عمران؟ كيف تبتدر الكلمات الصالحات، وتسعى الملائكة في أخذها؟ هذه أمور أخبرنا عنها الصادق الأمين، وبلغنا إياها -صلى الله عليه وآله وسلم- فيجب أن نسلم لخبر الله وخبر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا يجوز لمعترض أن يقول: إذا كانت الحجارة تتكلم أو الأشجار تسجد أو القرآن الكريم أو السور التي ذكرتها كالبقرة وآل عمران ستجاج عن صاحبها يوم القيامة ما بالها إذن لا ترقى المنابر أو تمسك الأقلام والمحابر كما يمسكها إخواننا الآن؟ نقول: هذا لا يليق أن تعترض به على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ما جاء في كتاب الله لأن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- وهم أرق الناس قلوباً، وألين الناس أفئدة، وأفهم الناس عقولاً سمعوا ذلك من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يستشكلوه، ولم يسألوا عن حقيقته، ولما وقع منهم السؤال لم يكن سؤال استبعاد أو استنكار وذلك لما أخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث الصحيحين: (أن بقرة تكلمت) انتبهوا معي, الحديث في الصحيحين: (بينما رجل يسوق بقرة إذ حمل عليه متاعه وما لديه) حمل عليها حملاً كبيراً (فقالت له البقرة: ما لهذا خلقت، إنما خلقت للحرث والنسل، فقال الرجل: سبحان الله بقرة تتكلم!! فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأنا أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر) وفي بعض الروايات (أن أبا بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- لم يكونا موجودين وقت أن تحدث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بهذه الحادثة).
(3/9)
---(3/83)
وهنا فائدة أرى أن أقف عندها، وهي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه يؤمن بذلك يعني ماذا؟ أن البقرة تكلمت, كلمت هذا الرجل الذي حمل عليها زاده ومتاعه، يؤمن بذلك لأنه رسول يوحى إليه، ويعلم مثل هذه الأمور من خلال خبر الله له، ولكن بماذا حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- على أبي بكر وعمر بإيمانهما بهذه الحادثة، وهما لم يشاهداها, وفي رواية أخرى كما ذكرت: (لم يكوننا موجودين حينما تحدث النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحدث)؟
هنا وقف أهل العلم وقفة وقالوا: بأنه يجب طالما أنه ثبت لدينا صدق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن نسلم له في كل ما يقول حتى ولو استبعدت عقولنا ذلك، لماذا؟ لأنه طالما أنه صادق وثبت لديك ذلك فيجب عليك أن تسلم وأن تصدق لهذا الصادق، طالما أنه رسول وآمنت بذلك وصدقت بأنه صادق فيجب عليك أن تصدق بهذا الصادق ولهذا النبي -عليه الصلاة والسلام- حكم على أبي بكر وعمر بالإيمان بهذه الحادثة لعلمه أن أبا بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- سيصدقان بها إذا علما أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صدق بهذه الحادثة فيكون تصديقهما قائماً على من؟ على تصديق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(3/10)
---(3/84)
إذن الكون كله يسجد لله من هذه الأحجار والأشجار والشمس والقمر والنجوم، أما في الإنسان وهذا ما أود أن نقف عنده وأن نشير إليه قال الله -عز وجل- بعد أن ذكر أن هذه المخلوقات بما فيها من جمادات تسجد لرب العزة والجلال سبحانه، قال: ?وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ? يعني أن كثيراً من الناس سجدوا لله طوعاً، طائعين خاضعين عبدوا ربهم -سبحانه وتعالى- آمنوا به وأدركوا عظمته، وعلموا أنهم مربوبون مقهورون تحت سلطانه، فخروا لله -عز وجل- بسائر أنواع العبادات وألوانها، ومن ذلك السجود لله -تبارك وتعالى-، سجود طواعية استجابة لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وبعض الناس أبى واستكبر عن السجود قال: ?وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ? ولا يستشكل إنسان هذا القول، فيقول: الكون كله يسجد لله وبعض الإنسان عصى، نقول: هؤلاء الناس الذين عصوا هم في الحقيقة يسجدون لله كراهية بمعنى أنهم يخضعون خضوع مذلة وإهانة، لرب العزة والجلال لماذا؟ لأن الله ربهم ولأنه خالقهم ولأنه هو الذي يدبر أمورهم ولأنه هو الذي يسيطر عليهم وهو الذي يتصرف فيهم بما يشاء سبحانه، فالله -عز وجل- يذلهم والله يميتهم والله يحييهم فهم من هذا الجانب خاضعون لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ويعبدون الله -عز وجل- عبادة عامة كونية، بمعنى عبادة يعني ماذا؟ أنه عبد وإن أبى واستكبر فهو مهما كان عبد من عباد الله -تبارك وتعالى-، ومصداق ذلك في قول الله جل ذكره: ?إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ?93?? [مريم: 93] من في السماوات ومن في الأرض المؤمن والكافر سيأتي عبد، بمعنى المؤمن عبد طائع يتلقى رضوان الله -تبارك وتعالى- والكافر سيأتي وهو عبد ذليل خاضع لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ومن أبى واستكبر أن يسجد لله طواعية فسيخر وسيسجد لله رغم أنفه وسيقف بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه(3/85)
(3/11)
---
وتعالى- ويتمنى أن يعود كي يسجد لله -سبحانه وتعالى- ولكن ولات حين مناص، قد انتهى الأمر ولم ينفعه أن يطلب وقتئذ أن يعود ليسجد وقد فاته ذلك في الدنيا، بعد أن استكبر وأبى أن يذل لله -عز وجل- في هذه الحياة الدنيا، ثم يعقب رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ويختم هذه الآية بختام يجب أيضاً أن نلفت الأنظار إليه وهو قوله: ?وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ? ويعقب بهذه الآية ?وَمَن يُهِنِ? بعد قوله: ?وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ? يعني أن من حق عليه العذاب سيذيقه الله -عز وجل- الذل والمهانة، ومن يهنه رب العزة والجلال سبحانه لا ينبغي لأحد بحال من الأحوال أن يتفضل عليه بشيء من السعادة والإكرام ?وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ? وهنا أخاطب الناس جميعاً فأقول: يا أيها البشر, يا أيها الناس إذا كان الكون بكل ما فيه من جمادات لا ثواب لها ولا عقاب عليها ومع هذا تعرف فضل الله -عز وجل- عليها وتسبح بحمده وتسجد له فما بال كثير من الناس يأبون أن يسجدوا لرب العزة والجلال سبحانه، أتكون قلوبنا أيها البشر أشد قسوة من الحجارة التي ذكر رب العزة والجلال عنها أنها تهبط من خشية الله -تبارك وتعالى-؟ أنكون أشد قسوة من هذه الجمادات ومن هذه المخلوقات تسبح بحمد الله وتسجد لرب العزة والجلال وتعرف عظمة الله -عز وجل- فتسجد له وتسبح بحمده ويأبى المخلوق الضعيف الإنسان الذي خلقه ربه من ماء مهين؟ وهذه الآيات قد أتت بعد ذكر خلق اإنسان وأطواره، لتلفت النظر إلى أنه يجب عليك أيها العبد, أيها المسكين يا من خلقت من نطفة أن تقف وتتأمل كيف وجدت ومن الذي أوجدك كي تنصرف إلى العبادة والخضوع والاستكانة لله -سبحانه وتعالى-، وإلا فالأمر كما قال الله: ?وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ?.(3/86)
(3/12)
---
المحور الثاني: أنواع عذاب أهل النار:
وأدخل في هذا المحور بهذه الآية التي سمعتموها أيضاً وهي قول الله -تبارك وتعالى-: ?هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ?19?? إلى آخر الآيات ?هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ? في الصحيحين أن أبا ذر -رضي الله تعالى عنه-: (كان يقسم أن هذه الآية نزلت في حمزة وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث-رضي الله تعالى عنهم- كما نزلت أيضاً فيمن قابلهم في يوم بدر وهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة) نزلت هذه الآية لتبين أن هؤلاء اختصموا في الله -تبارك وتعالى-، وحصلت بينهم مبارزة في غزوة الفرقان في أول غزوة أو لقاء بين أهل الشرك وأهل الإيمان, وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية ?هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ? المعنيُّ بهم أهلُ الكتاب والمسلمون لأن أهل الكتاب خاصموا المسلمين في دينهم، وقالوا: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أحق أو أولى بالحق منكم، وقال لهم المسلمون: كتابنا يحكم على كتابكم، ونبينا هو خاتم الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليه- وهذان هما الخصمان اللذان جاء ذكرهما في هذه الآية.
(3/13)
---(3/87)
وقيل هذا مثل ضربه الله -عز وجل- للمؤمن والكافر، وهذا هو الراجح، رجحه ابن جرير وابن كثير وغيرهما من أهل التفسير، هذا مثل ضربه الله لكل مؤمن ولكل كافر؛ لأن الكافرين يريدون أن يطفئوا نور الله -تبارك وتعالى- وأهل الإيمان من المؤمنين يريدون أن يرفعوا كلمة الحق -تبارك وتعالى- ثم عقب رب العزة والجلال سبحانه بذكر كلام يبين مآل أهل النار وما سيكونون عليه فيها - أعاذنا الله وإياكم منها- قال سبحانه بعد أن ذكر ?هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ? قال: ?فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ? ?قُطِّعَتْ? يعني فُصِّلتْ لهم ثياب من نار، على مقاس كل إنسان له ثياب يلبسها وهذا كقول الحق -تبارك وتعالى-: ?سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ? [إبراهيم: 50] والسرابيل هي السراويل التي هي القُمُص التي يلبسها الإنسان على مقاسه، أهل النار قطعت لهم ثياب من نار، وهذا كقول الحق -تبارك وتعالى- أيضاً: ?لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ? [الأعراف: 41] والغواشي جمع يفيد ماذا؟ أنهم يلتحفون بلحاف من نار - أعاذنا الله وإياكم منها- هذا ثياب أهل النار في جهنم، ?قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ? ثم بعد ?يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ? ?يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ? هكذا يعلمنا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وما الذي يصب؟ يصب عليهم الحميم، والحميم هو الماء المغلي الحار، وهذا كقول الله -تبارك وتعالى-، فيما ذكره في كتابه أيضاً عن عذاب أهل الكفر أنه قال: تنكيلاً لهؤلاء الكافرين ومذلة لهم، وهم يذوقون العذاب الأليم نظير كفرهم بالله -تبارك وتعالى- واستكبارهم عن السجود للحق -تبارك وتعالى- يقول رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- مبينا شيئًا من عذاب هؤلاء الناس: ?ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ?48? ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ(3/88)
(3/14)
---
?49?? [الدخان: 48، 49] وهذا فيه من المهانة والمذلة له، هذا أسلوب سخرية وتهكم لهذا الكافر الذي يفعل ذلك، ?فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ? وهو الماء الحار المغلي كما ذكرت, هذا الماء الحار المغلي يكون له أثر عليهم أثره ما جاء ذكره في الآية التالية: ?يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ?20?? ?يُصْهَرُ? يعني يذاب, يذاب ما في بطونهم من الأمعاء واللحم والشحم، ومصداق ذلك في قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ? [محمد: 15] ?يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ? وكون الله -عز وجل- يعطف الجلود على ما في البطون يبين شدة هذا الذي يصب عليهم، وأن تأثيره في الباطن كتأثيره في الظاهر؛ لأنه يؤثر في الباطن، قال: ?يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ? ويؤثر أيضاً في الظاهر -أعاذنا الله سبحانه وتعالى منه- وهذه الآيات حينما تأتي ليعقب رب العزة والجلال بها، ويبين مصير أهل النار يعقب بها لأنه ذكر أولاً من آبى واستكبر عن السجود لله -تبارك وتعالى-، وهنا يبين أهمية الرجوع والخضوع والإنابة والمذلة في هذه الحياة الدنيا، لرب العزة والجلال, لماذا؟ لتنجوَ يا عبد الله مما أعده ربك ومولاك من عذاب ونكال وجحيم لهؤلاء الكفار، وبعدُ لم ينتهِ العذاب ?وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ?21?? ?مَّقَامِعُ? جمع مِقمَعة، بكسر الميم الأولى وفتح الثانية، وهي المراد بها في هذه الآية مرازب كبيرة كثيرة في أيدي الملائكة تضرب بها وجوه أهل النار -والعياذ بالله تعالى- لماذا؟ لأن ربنا -سبحانه وتعالى- بعدما قال: ?وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ?21?? عقب عليها بقوله: ?كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ?22?? وهذا الجزء من الآية يبين أن(3/89)
أهل النار
(3/15)
---
يحاولون أن يخرجوا من النار، وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنهم لا يستطيعون الخروج ولا يتمكنون من التعرض وإنما إرادة الخروج هنا هي أن لهيب النار -والعياذ بالله تعالى- حينما يلفحهم يدفعهم إلى أعلى فيودون الخروج فيجدون الملائكة تطرقهم بما لديهم، بما في أيديهم من مقامع من حديد، فتردهم بعد ذلك إلى أسفل سافلين في دركات جهنم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
والله -عز وجل- قد أخبر عن أهل النار في أكثر من آية أنهم يريدون أن يخرجوا من النار، وقال سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?36? يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ?37?? [المائدة: 36، 37] ونعوذ بالله من هذا العذاب الذي أشارت إليه هذه الآيات ونحن حينما نتحدث نحاول أيها الإخوة الكرام أن نربأ بأنفسنا أن نكون مع هؤلاء حتى لا ننال ولا نقع في هذا العذاب والجحيم الذي أعده رب العزة والجلال سبحانه ?كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ? وهذا يفيد أنهم يعيشون ويكابدون غماً وهماً، وهم في النار ?أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ? وذوقوا بالفعل، وفي آية سورة السجدة، ?وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ? [السجدة: 20] وأفادت سورة السجدة أنهم يهانون بالقول والفعل، ففي آية الحج ?وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ? هذا فعل، وفي آية السجدة ?وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ? إذن يقال لهم من باب الإهانة لهم، والمذلة لهم، لأنهم أبوا أن يسجدوا لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
أنتقل بعد ذلك إلى المحور الثالث من محاور هذا اللقاء وهو بعنوان:
(3/16)
---(3/90)
المحور الثالث: ما أعده الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين في الجنان: ومصداق ذلك في قول الحق -تبارك وتعالى- أو الذي يوضح ما أعده ربنا للمؤمنين في الجنان ما جاء في قول الحق سبحانه: ?إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ …? إلى آخر الآية هذه الآية -كما تلاحظون أيها الإخوة الكرام- جاءت عقب ذكر رب العزة والجلال لمن؟ لأهل النار، وما هم فيه وما عليهم من ثياب، والحميم الذي يصب عليهم وما إلى ذلك، عقب على ذلك بذكر مآل أهل الجنان، وما أعده رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لأهل الإيمان وهذا يدعونا إلى أن ندخل في صف من؟ وأن نكون مع من؟ وأن نحاول ونحرص على الإيمان والعمل الصالح لأن بالإيمان والعمل الصالح ننال ما أعده الله -تبارك وتعالى-، للمؤمنين في جنات النعيم وبدونهما فالمآل -والعياذ بالله تعالى- كما ذكر أولاً، الله -عز وجل- ذكر في هذه الآية أنه أعد للمؤمنين وأعطف وأؤكد على أن الإيمان يجب أن يقترن معه ماذا؟ ما سبق ذكره، أم نسيتم؟ العمل الصالح، لابد من أن يقوم العمل الصالح وأن تتلبس به أيها المؤمن فلا تكتفي وتقول: الإيمان ما وقر في القلب فقط، أو تنطق بكلمة بلسانك، لا.. لابد أن تطبق جوارحك ما قاله لسانك وما انطوى عليه قلبك.
?إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? الحقيقة هذه الآية ذكرت أربعة أمور أعدها ربنا -عز وجل- للمؤمنين في الجنة:
(3/17)
---(3/91)
الأمر الأول: المسكن، المسكن أين؟ الذين آمنوا وعلموا الصالحات ربنا يدخلهم أين؟ جنات تجري من تحتها الأنهار، ولا شك أن الجنان كثيرة وأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، من منا تعرض عليه الجنة فيأباها؟ لا يمكن لعاقل أبداً يدعى إلى جنة عرضها السماوات والأرض فيأبى أن يدخل فيها، الله -عز وجل- أعد لكم يا أيها المؤمنون ولذلك نحن ننادي الناس جميعاً أن ادخلوا في دين الله -تبارك وتعالى-؛ لأننا نحب لهم الخير نناشدهم أن يؤمنوا بكتاب الله وأن يصدقوا برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن يلتزموا بدين الإسلام، الذي كله خير وكله سعادة، ويؤدي إلى الخير وإلى المآل الكريم.
فمسكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما هو؟ من الذي يقول؟ موجود في الآية، أنا أغششكم على الملأ ?جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ? إذن الأمر الأول الذي أعده الله -عز وجل- للمؤمنين هو المسكن والمسكن عبارة عن جنات تجري من تحتها الأنهار، فيها ماء وفيها أنهار من لبن وفيها أنهار من خمر لذة للشاربين وفيها أنهار من خمر لذة للشاربين وفيها أنهار من عسل كما جاء ذكر ذلك في سورة محمد.
(3/18)
---(3/92)
الأمر الثاني: الذي أعده الله -عز وجل- للمؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات: الحلية، قال: ?يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤً? وهذه الحلية في أيديهم، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: كما في صحيح مسلم: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) المؤمن تبلغ حليته وهو في الجنة حيث يبلغ الوضوء، إذن المؤمن يحلى أم لا يحلى في الجنة؟ يحلى، يحلى بماذا؟ بذهب، وأيضاً يحلى بلؤلؤ وأيضاً يحلى بفضة، كما جاء في سورة الإنسان: ?عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ? [الإنسان: 21] إذن سيحلون بالذهب وباللؤلؤ وبالفضة جزاء ماذا؟ جزاء إيمانهم بالرب -تبارك وتعالى-، وتأملوا الآية التي جاءت بعد آية سورة الإنسان لما ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- أيضاً لباس أهل الجنة وأنهم يحلون باللؤلؤ، تعرفون ماذا يقال لهم الآية التالية مباشرة: ?إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ?22?? [الإنسان: 22] وهذه آية عظيمة للغاية، تعرفون معناها ماذا؟ الله -عز وجل- يريد أن يقول لكم يا أهل الإيمان بأنكم كنتم تشكرون الله -عز وجل- في الدنيا وتؤمنون به وتخضعون له وتسجدون له، فتتحولون وأبشروا يا أهل الإيمان من شاكرين في الدنيا إلى مشكورين من الله في يوم الدين، ?إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم? ماذا؟ ?مَّشْكُوراً? فالله -عز وجل- يشكركم على ما قدمتموه في الدنيا فإذا شَكرت في الدنيا شُكرت بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وشتان بين الأمرين، أنت عبد ضعيف يجب عليك أن تَعبد إنما حينما تشكر من رب العزة والجلال فهذا أمر عظيم يجب أن يسعى له أيضاً كل مؤمن.
إذن الأمر الثاني الذي تحدثة عن الآية فيما أعده الله لأهل الإيمان: الحلية.
(3/19)
---(3/93)
الأمر الثالث: الملبوس، ?يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ? يعني أهل الجنة يتمتعون بالنعيم وبأطيب الثياب, وهنا فائدة يجب أن نتنبه إليها، ولماذا نحن ندعو الناس اليوم إلى الإيمان والعمل الصالح؟ لأن الله -عز وجل- حرم على الرجال في الدنيا أن يلبسوا الذهب والحرير، فمن استجاب منهم وأطاع رب العزة والجلال حلاه الله -عز وجل- بما حرمه عليه في الدنيا، مع الفرق بين الأمرين، ذهب الدنيا وحرير الدنيا، لا وزن ولا قيمة له إذا قيس بنعيم وذهب وحلي الآخرة، لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الذي أخبر عن ذلك لما قال: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ونحن نؤمن بخبر رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
إذن ما حرمه الله -عز وجل- على أهل الإيمان في الدنيا أحله عليهم في الآخرة، وهذا يدعوك يا عبد الله كما أشرت أن تستجيب لتعاليم الإسلام, أن تستجيب لرب العزة والجلال, أن تسلم لهدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تكن بذلك من الفائزين وواللهِ إن المؤمن المستقيم ليرى في هذه الدنيا النعيم ومع ذلك يتنعم في هذه الدنيا ولكن يتنعم بالطيبات، يتنعم ومع ذلك لا يقرب هذه المحرمات، ولا يقع فيها ويشعر بغاية السعادة ويكون حقاً في غاية الهدوء والسكينة والطمأنينة والاستقرار لماذا؟ لأن الله -عز وجل- أحل له كثيرًا من الطيبات، وما حُرم عليك يا عبد الله ما هو إلا شيء قليل، فما عليك إلا أن تستجيب لرب العزة والجلال سبحانه، تستجيب له، تستجيب لربك -عز وجل- وهو الذي خلقك حتى يتفضل عليك بهذا النعيم المقيم في الدار الآخرة.
(3/20)
---(3/94)
الأمر الرابع: الذي أعده ربنا -عز وجل- لأهل الإيمان هو ما جاء في هذه الآية الأخيرة: ?وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ?24?? ?وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ? يعني أن الله -سبحانه وتعالى- يوفق أهل الإيمان ويطمئنهم بالبشارات التي تبشرهم بها ملائكة الرحمن بقول طيب, بقول جميل كريم، ?تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ? [الأحزاب: 44] ?لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا ?25?? [الواقعة: 25] هذا هو الطيب من القول، وقد اختلف المفسرون في المراد بـ ?الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ? أيضاً فقال بعضهم: بأن ?الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ? هو شهادة أن لا إله إلا الله, استندوا على ذلك بأن هذه هي الكلمة الطيبة الواردة في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً? [إبراهيم: 24] قالوا: الكلمة الطيبة هنا هي شهادة أن لا إله إلا الله وهي أيضاً هنا شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: القرآن الكريم, الكلمة الطيبة القرآن الكريم، وقيل: الكلمة الطيبة هو ما يتكلمه الإنسان بالحق والخير فيشمل القرآن الكريم ولا إله إلا الله وسائر أنواع الذكر، ولكن ختام الآية أفاد أيضاً شيئاً عظيماً، قال: ?وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ? قال أهل العلم: وهدوا إلى صراط الله الحميد، يعني أنهم هدوا إلى صراط الله -عز وجل-، والحميد من أسماء الله -تبارك وتعالى-.
(3/21)
---(3/95)
وفي ذكر الحميد نكتة علمية لطيفة، وهي أنهم ما نالوا ما نالوا إلا بحمد الله -تبارك وتعالى- وفضله, وتفيد أيضاً أنه يجب عليهم أن يحمدوا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في الدنيا والآخرة لأنه من حمد في الدنيا سيحمد في الآخرة، وأهل الحمد في الدنيا سيحمدون ربهم أيضاً في الآخرة، ?وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ? [الزمر: 74] فأهل الإيمان سيحمدون رب العزة والجلال أيضاً في الدار الآخرة وسيهدون إلى هذا الأمر وما هم فيه من النعيم هو تفضل أيضاً من الحميد -سبحانه وتعالى- الذي تفضل عليهم بذلك.
ونستفيد من هذه الآية، أنه يجب علينا طالما أن الله -عز وجل- هدى أهل الجنة إلى الطيب من القول، فلماذا يا أهل الإيمان لا نهتدي نحن في الدنيا اليوم إلى الطيب من القول؟ لماذا لا نعرف لا إله إلا الله وهي أطيب الكلام وأفضله وأحسنه؟ وإن قيل القرآن فهذا كتاب ربنا بين أيدينا؟ وإن قيل كل قول حسن من ذكر وتسبيح واستغفار فهو واجب أو لازم عليك أيها المؤمن أن تفعله؟ ويجب علينا إذن أن ننتهي عن السيء من القول، الفاحش من القول. القول البذيء ليس من صفات أهل الإيمان، الله -عز وجل- يحلي أهل الإيمان، ويرطب ألسنتهم بذكره -سبحانه وتعالى- وبالقرآن الكريم وبأعلى وأفضل أنواع الذكر ألا وهو قول المؤمن: "لا إلا إلا الله" ويتبعها أيضاً كما تعلمون: "محمد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-".
(3/22)
---(3/96)
في الحقيقة الإنسان ينشرح حينما يسمع هذه الآية ويعرف مصير أهل الإيمان، ويقبل على رب العزة والجلال أو تكون مثل هذه الآيات مدعاة إلى الإقبال على الرب -تبارك وتعالى-، الإنسان يسأل نفسه لماذا الإيباء والاستكبار؟ لماذا النفور؟ لماذا عدم الطاعة؟ لماذا الخروج على عبادة الرب -تبارك وتعالى-، وأنت يا عبد الله في قبضة الله -عز وجل-؟ أين ستذهب؟ مهما تكن أو يكن من أمرك فمردك ومصيرك إلى ربك -سبحانه وتعالى- فبادر أيها المؤمن وبادروا أيها الناس وادخلوا كما ذكرت في دين الله أفواجاً تنعمون وتسعدون في الدنيا والآخرة؛ لأن من كفر أهانه الله -عز وجل- في الدنيا ?وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ? هؤلاء هم أهل الشقاء, أما من آمن فله النعيم في الدنيا والآخرة، والله -عز وجل- ذكر في هذه الآية شيئًا من نعيم أهل الجنة، كي يقابل به ما ذكره عن أهل النار، الذين قال عنهم في الآية السابقة، ?فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ …? إلى آخر الآية.
المحور الرابع: الكافرون يصدون عن سبيل الله:
(3/23)
---(3/97)
في ذلك يقول الله جل ذكره: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ?25?? بعد أن بين الله -عز وجل- مآل أهل الإيمان، ومآل الكافرين في النيران ذكر أن الكفار يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، وهم يظنون أنهم أولياء المسجد الحرام وما كانوا أولياءه، إذن من الأولياء؟ من يقول لي الأولياء مذكورين في القرآن أيضاً؟ ?إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ?34??[الأنفال: 34] فالمتقون هم أولياء الله -تبارك وتعالى-، وهم الذين يؤمون المسجد الحرام وواقع الأمر أن الكافرين والمشركين يصدون عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، وقد ذكر رب العزة والجلال أنهم يصدون كثيرًا خاصة أهل الكتاب لما ناداهم رب العزة والجلال في كتابه: ?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ?99?? [آل عمران: 99] يا أيها القوم لم تصدون عن الله, تصدون الناس عن الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، لم تصدون عن السبيل، لم تُنفرون الناس من الحق، لماذا إذا كنتم صادقين وتزعمون وتدعون أنكم تتبعون بعض الأنبياء والمرسلين؟ لماذا تصدون إذن عن الله -تبارك وتعالى-، ولا تؤمنون وتصدقون بالنبي الخاتم -صلوات الله وسلامه عليه- وما زال الكافرون إلى اليوم يصدون عن سبيل الله ولكن أين سيذهبون؟ ?وَيَأْبَى اللهُ إِلا? ماذا؟ ?إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ?.
أدخل بعد ذلك في تفصيل يسير حول هذه الآيات وأيضاً شيء من الكلام العلمي:
(3/24)
---(3/98)
الله -عز وجل- قال: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ? يصدون هذا فعل ماذا؟ فعل مضارع، عُطف على الماضي فما وجه ذلك؟ قيل بأن هذا الفعل في هذه الآية لم يرد به فعل الحال أو الاستقبال ولم يقصد به زمان وإنما خرج عن حاله الذي وضع له وأريد به الاستمرار، يعني أن الكافرين يستمرون في صد الناس عن الله -تبارك وتعالى-، وهذا كقول الله جل ذكره: ?الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ? [الرعد: 28] العكس، المؤمنين عكس هؤلاء الكافرين، وأيضاً ?وَتَطْمَئِنُّ? عطفت على ?آمَنُو? فيريد بها الاستمرار يعني أن المؤمن دائماً مطمئن بذكر الله -تبارك وتعالى-، والكافر دائماً صاد عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، وقيل: ?يَصُدُّونَ? هنا: خبر جملة خبرية لمبتدأ محذوف تقديره وهم يصدون عن سبيل الله، ويصدون أيضاً عن المسجد الحرام، المسجد الحرام قيل: الحرام نفسه، وقيل: المسجد الحرام كلمة تشمل كل مكة، الذي جعله الله -عز وجل- للناس ? سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ? معنى العاكف يعني المقيم في مكة والباد القادم من سائر أقطار الدنيا أو من البادية، الله -عز وجل- جعل قصد البيت والتواجد فيه، والخضوع والسجود لله -عز وجل- فيه والطواف بالكعبة وعبادة رب العزة والجلال سبحانه أراد الله -عز وجل- أن يكون ذلك للعاكف يعني للمقيم عند البلد الحرام وكذلك للقادم من خارج البلد الحرام.
والمشركون كانوا يصدون المؤمنين عن سبيل الله وكانوا أيضاً يصدونهم عن المسجد الحرام، وهم اليوم يصدون عن سبيل الله ولكن الله -عز وجل- كما ذكرت وأشرت يأبى إلى أن يتم نوره، ولا يستطيعون أن يصدوا عن المسجد الحرام بفضل الله -تبارك وتعالى- وإن فعلوا شيئًا من ذلك فهي أمور محدودة قد تقع على أفراد مخصوصين أما البيت -بحمد الله وفضله- يؤمه الناس من مشارق الأرض ومغاربها، يسجدون لله هناك ويخضعون لرب العزة والجلال سبحانه.
(3/25)
---(3/99)
هنا بحث فقهي ذكره الفقهاء ولولا أن الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- ذكره وأشار إليه لما تحدثت عنه، وهو موجود في الكتاب، هل دور مكة وأرضها تباع وتورث وتملك أم لا؟ اختلف فيها بعض أهل العلم وقد جرت مناظرة بين الإمام الشافعي -رحمه الله- وبين إسحاق بن راهويه في المسجد والإمام أحمد بن حنبل حاضر وانتصر الشافعي لرأيه لأن معه الدليل، وهي أن بيوت مكة ودور مكة تورث وتُملَّك وتباع ويعني هذا أمر واضح ومعلوم وهو إلى يوم الناس هذا وسيظل -إن شاء الله تبارك وتعالى- الأدلة على ذلك واضحة على ذلك واضحة:
أولاً: منها أن الله -عز وجل- أضاف الدور إلى أهلها فقال: ?الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ? [الحج: 40] فأضاف الدور إلى أهلها وهذا يدل على أنهم تملكوها وأيضاً لما قال أسامة بن زيد للنبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري ومسلم لما ذهب إلى الحج: (أتنزل في دارك بمكة) أسامة بن زيد يقول هذا للنبي -عليه الصلاة والسلام-: (أتنزل في دارك بمكة؟ فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: وهل ترك لنا عقيل من رباع) يعني هل ترك لنا عقيل بن أبي طالب من منزل؟ يعني أنه كان قد باعها، فلو لم يكن بيع البيوت جائزاً في مكة لما أقره النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- اشترى داراً من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم وجعلها سجناً يؤدب فيها من يشاء.
(3/26)
---(3/100)
بعد ذلك الآية ختمت بقول الله -تبارك وتعالى-: ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ? الله -عز وجل- جعل لهذا البيت مكانة عظيمة, وأنا أقول هذا وأخاطب قوماً بعد أيام سيرحل بعض الناس إلى بيت الله الحرام، هذا البيت العظيم له مكانة عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وله خصوصية تختلف عن سائر البقاع، ذكرت في هذه الآية ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ? لماذا؟ لأن الإنسان لو أراد يعني هَمَّ أن يفعل معصية في أي مكان من بقاع الأرض ثم لم يفعلها كتبت له حسنة، كما جاء الخبر بذلك عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهذا بخلاف البيت الحرام، تعظيماً لهذا البيت، قال الله ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ? ولذلك ربنا -سبحانه وتعالى- عدَّى فعل يرد هنا ويتعدى هنا بنفسه، عداه بالباء في إلحاد، قال العلماء: لأنه ضَمَّن فعل يورد معنى هَمَّ، فيصبح المعنى ومن يَهُمُّ فيه بإلحاد بظلم يعني بمجرد أن تَهُمَّ بشيء من الظلم، والظلم هنا قيل: هو الشرك، وقيل: الكفر، وقيل: سائر أنواع المعاصي والذنوب، وهذا هو الراجح، فكل من هَمَّ بمعصية عند بيت الله الحرام أذاقه رب العزة والجلال من النكال ما أذاقه، ولذلك ورد عن السلف أن الإنسان لو هم أن يظلم في بلد الله الحرام وهو بعدن أبين، لأذاقه الله من العذاب الأليم لو أراد وهو بعدن كما تعلمون في جنوب الجزيرة العربية, إذا أراد وهو في هذه البلدة، أراد وهم أن يعصي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- عند بيته لأذاقه الله العذاب الأليم، ولذلك أخاطب الجميع وحجاج بيت الله خاصة أن يوطنوا أنفسهم أن لا يفعلوا انحرافاً عند بيت الله -تبارك وتعالى- فما بالنا إذا كانت نيات بعض الناس أن يذهب ليسرق مثلاً، أو أن يفعل شيئًا من الظلم والكذب والبهتان والزور، أو أن يرفع لواء الباطل أو شيئًا من ألوان المعاصي أو من(3/101)
(3/27)
---
البدع أو ما إلى ذلك عند بيت الله الحرام فيكون مصيره أليماً وعذابه شديداً عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والله -عز وجل- أهلك جيشاً بأكمله لما أرادوا ولم يفعلوا، لما أرادوا أن يهدموا بيت الله الحرام وذلك في أي سورة؟ في سورة الفيل. أرسل الله عليهم حجارة من سجيل هذه الحجارة معلمة مسومة ترمي كل واحد بعينه فأهلكهم الله -تبارك وتعالى- عن آخرهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين يقول: (يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم) وهذا تكريم وتعظيم لبيت الله الحرام، ولذلك ناشدت الناس كثيرًا في هذا اللقاء, أناشد المؤمنين أيضاً بالإيمان والعمل الصالح وأن يرجعوا ويتوبوا إلى رب العزة والجلال وأن يسجدوا لله خاضعين طائعين قبل أن يذلوا وهم مكرهين، ثم بعد ذلك من ذهب إلى بيت الله الحرام ومن أقام عند بيت الله الحرام عليه أن يعظم هذا البيت وأن يعرف قدره وأن يعرف أن له فضلاً على غيره، فالبقعة بلد الله الحرام وبيت الله الحرام، التي يؤمه الناس من سائر الآفاق له مكانة عظيمة عند رب العزة والجلال سبحانه, فلنقدر هذه الأمور ولنعد إلى الله -تبارك وتعالى- ولنصدق مع الله -عز وجل- في هذا العوز ولنحقق الإيمان والعمل الصالح الذي ننال به الجنات التي ذكرت فيها ما ذكرت من المسكن والملبس والحرير وما إلى ذلك وأكتفي بهذا وصلِّ الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فضيلة الشيخ وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية.
كان السؤال الأول: قال الله تعالى فيمن يعذبهم من الكافرين: ?ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ …? الآية. مع أن الكفر ليس من عمل اليد؟ فكيف توجون ذلك؟
وكانت الإجابة:
(3/28)
---(3/102)
قال تعالى فيمن يعذبهم من الكافرين: ?ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ?10?? مع أن الكفر ليس من عمل اليد وإنما يكون بالقلب واللسان قال أهل العلم: هذا أسلوب عربي معروف وذلك لأن العرب يضيفون الأعمال إلى اليد لأنها الجارحة التي يفعل الإنسان بها معظم الأفعال فغلبت عليه.
إلى جانب أنه يترجم بيده عما قام به في قلبه من كفر وضلال إلى اليد فتكون أعماله غاية في الضلال, ومعظمها تكون بيده لذلك قال الله تعالى له: ?ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ …? الآية، أي يقال له هذا تقريعاً وتوبيخاً، وعبر باليد عن الجملة لأن اليد التي تفعل وتبطش بالجملة وذلك بمعنى هذا كما تقدم في أول سورة البقرة قال الله -عز وجل-: ?وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ? كقوله تعالى: ?خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ?47? ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ?48? ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ?49? إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ?50?? [الدخان: 47- 50].
انتهت الإجابة.
في الحقيقة هذه إجابة موفقة جداً وكاتبه جزاه الله خيراً استفاد مما قلت وأيضاً مما لم أقله، إلى جانب أنه ذكر أشياء قلتها ولعله استمع إليها جيداً يعني عبرت عنها بعبارات لم أقرأها في بعض كتب التفسير وهذا يؤكد لي أنه استمع استماعاً جيداً فجزاه الله خيراً إلى جانب إضافاته أيضاً إضافات قيمة ومعناها صحيح ومدلولها سليم فجزاه الله خير الجزاء.
السؤال الثاني: ما معنى قول الله تعالى: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ? الآية؟ أيد ما تقوله بحديث لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟
وكانت الإجابة:
(3/29)
---(3/103)
قال الله تعالى: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ?11?? [الحج: 11] قال مجاهد وقتادة وغيرهما: ?عَلَى حَرْفٍ? أي على شك، وقال غيرهم: على طرف منه ومنه حرف الجبل أي طرفه، أي دخل في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر وإلا فلا، وهذه الآية خبر عن المنافقين, قال الحسن: هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قلبه، وبالجملة فهذا الذي يعبد الله على حرف ليس داخلاً بكليته ويبين هذا بقوله: ?فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ? صحة جسم ورخاء معيشة رضي وأقام على دينه، ?وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ? أي خلاف ذلك مما يختبر به انقلب على وجهه، أي ارتد فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر، ?خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ? وقال البخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث ابن عباس -رضي الله عنه-: (?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ? قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونسجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء) وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (كان ناس من الأعراب يأتون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب قالوا: إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به وإن وجدوا عام جدوبة وعام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير فأنزل الله على نبيه هذه الآية).
انتهت الإجابة.
ما شاء الله يعني أنا أرى أنه أولاً ما ترك لي شيئًا ثانيًا: لو كان هناك جوائز للمتسابقين نجمعها ونعطيها إياه. جزاه الله خيراً.
(3/30)
---(3/104)
السؤال الثالث: اذكر الوجهين في تفسير قول الله تعالى: ?مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ …? الآية. [الحج: 15) مع ذكر الراجح منهما؟
كانت الإجابة:
قول الله تعالى: ?مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ …? الآية [الحج: 15]
القول الأول: في تفسير هذه الآية قول ابن عباس من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً -صلى الله عليه وآله وسلم- في الدنيا والآخرة ?فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ? أي بحبل ?إِلَى السَّمَاءِ? أي سماء بيته ثم ليقطع يقول: ثم ليختنق به، وكل ما علاك فهو سماء فسقف البيت يعد سماء بالنسبة إليك، ويرشد إلى ذلك المعنى قول الله -تبارك وتعالى- في المنافقين: ?وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ? [آل عمران: 119] ويقول البعض: ما علاقة هذه الآية بنصر الله -عز وجل- لنبيه -صلى الله عليه وسلم؟ والدليل على ذلك في أن الآية السابقة على ذلك قول الله تعالى: ?إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ …? الآية [الحج: 14] وكذلك قال به قتادة: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ولا دينه ولا كتابه ?فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ? أي بحبل ?إِلَى السَّمَاءِ? أي إلى سماء اليبت فليختنق به.
(3/31)
---(3/105)
القول الثاني: في تفسير هذه الآية قول مجاهد وعكرمة وعطاء وابن الجوزاء وقتادة وغيرهم وقال عبد الرحمن: ?فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ? أي ليتوصل إلى بلوغ السماء فإن النصر إنما يأتي محمداً -صلى الله عليه وسلم- من السماء، وعن ابن عباس أيضاً أن (الهاء تعود على من، والمعنى من كان يظن أن الله لا ينصره فليختنق فليقتل نفسه إذ لا خير في حياته تخلو من عون الله -تبارك وتعالى-) والنصر على هذا القول الرزق تقول العرب: من ينصرني نصره الله، أي من أعطاني أعطاه الله، ومن ذلك قول العرب: أرض منصورة، أي ممطورة قال الفقعسي:
وإنك لا تعطي أمراً فوق حقه ولا *** تملك الشق الذي الغيث ناصره.
انتهت إجابته.
في الحقيقة إجابة أيضاً طيبة وقد توسع فيها كثيرًا، ولكن لو ذكر في الوجه الأول كيف عاد الخطاب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أو كيف يكون الخطاب مراداً به النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يسبق له ذكر في آيات سبقت، وأنا قد أشرت إلى ذلك من قبل, قال الله -عز وجل-: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُو? والإيمان يشمل الإيمان بالله والإيمان بمن؟ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لا يعترض عليك معترض حينما تذكر هذا الوجه في تفسيرك للآية وجزاك الله خيراً.
الأخ الكريم يقول: أبليتم بلاءً حسناً في تفسير قوله تعالى: ?إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ?، هل هناك فرق بين الإرادة والمشيئة؟ يعني هل المشيئة مرتبطة بالقدر والإرادة مرتبطة بالقضاء مثلاً؟
السؤال الثاني: ما تعليقكم في الأخذ من تفسير القرطبي كمنهج وحيد ومتاح لدى طالب العلم، يعني هل هناك أشياء يمكن أن يتقيها بحيث لا يقع في مشبوهات قط؟
(3/32)
---(3/106)
الأخ الكريم يقول: بالنسبة نحن نتابع معكم في تفسير ابن كثير, لكن أحيانًا نكون بحاجة إلى توسع فكنا نريد من الشيخ أن يشير علينا ببعض التفاسير إذا أردنا أن نتوسع وأن يبين لنا مناهج المفسرين. لأنه كما يعلم فضيلة الشيخ أن كثيراً من مناهج المفسرين على خلاف منهج أهل السنة والجماعة حتى لا نقع فيما لا نعلم. ولو كان هناك نوع من كلام في أصول التفسير نرجو أن يذكر شيئاً من ذلك. وجزاكم الله خيراً.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم كان له سؤالان:
سؤاله الأول: ما الفرق بين الإراة والمشيئة؟
في الحقيقة الإرادة والمشيئة بمعنى واحد، يقال: أراد كذا أو شاء كذا والقرآن الكريم عبر عن المشيئة بالإرادة وعن الإرادة بالمشيئة وكلاهما يدخلان في القضاء والقدر، فكل شيء بقدر، أو بمشيئة الله -تبارك وتعالى-، لأن السائل كما سمعته يذكر هل الإرادة أو المشيئة تدخل في القدر؟ نعم تدخل في القدر, فالمشيئة أو الإرادة وكلاهما بمعنى واحد كما ذكرت، تدخل في القدر وتعني مشيئة الله -عز وجل- الشاملة لكل ما يقع في الكون، أو إرادة الله -تبارك وتعالى- الشاملة لكل ما يقع في الكون، فلا يقع في الكون ولا يسكن ساكن في الكون ولا تتحرك ذرة في الكون إلا بمشيئة الله -تبارك وتعالى- وإرادته، وأعني بذلك المشيئة الكونية القدرية التي تشمل كل ما يكون في هذا الكون، بخلاف الدينية الشرعية وقد أشرت إليها سابقًا حقيقة أيضاً الدخول في مثل هذه التفصيلات قد يطول ويحتاج إلى شيء من الوقت فأقول اختصاراً بأن الإرادة بمعنى المشيئة هكذا جاءت في كتاب الله -عز وجل- وقد نص على ذلك الإمام الصنعاني وغيره من أئمة أهل العلم.
كان سؤاله الثاني: ما تعليقكم على تفسير القرطبي كمرجع وحيد لطالب العلم؟
(3/33)
---(3/107)
في الحقيقة أنا فيما سمعت من الأستاذ الكريم -جزاه الله خيراً- أنه يقول: إنه بادئ في طلب العلم، وتفسير القرطبي -رحمه الله تعالى- تفسير أيضاً فيه توسع وفيه دقة وفيه كثير من الأحكام الفقهية التي يصعب على المبتدئ أن يتناولها، وبالتالي فأنا أنصحه أن يقتصر بداية على ما يسمع وعلى تفسير الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- لماذا؟ لأن الإمام الحافظ ابن كثير جمع بين فني الرواية والدراية في التفسير ويفسر القرآن بأعظم ألوان التفسير ألا وهو تفسير القرآن بالقرآن وتفسير القرآن الكريم بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وتفسير القرآن بما ورد عن الصحابة وعلى مقتضى لغة العرب، وهو تفسير يسير على منهج أهل السنة والجماعة.
الإمام القرطبي -رحمه الله تبارك وتعالى- عنده بعض الأمور التي خالف بها في بعض الأماكن أو المواطن بعض أو معتقد أهل السنة والجماعة كما في مسائل أو في شيء من مسائل الأسماء والصفات فيُقتَصَر الآن على تفسير ابن كثير وإن وجدت أنك ترقيت وحاولت أن تستفيد من تفسير القرطبي فعنئذ تكون قد عرفت الصواب والمنهج الصحيح ثم تستفيد بعد ذلك منه -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم كان يريد من فضيلتكم الترشيح لبعض الكتب لمن أراد التوسع في التفاسير؟
هو في الحقيقة إمام المفسرين كما هو معلوم من؟ الإمام ابن جرير الطبري، طيب متى توفي؟ نسأل الشباب لأننا نحرص على وفيات أهل العلم ودائما كنت أقول هذا أم لا؟ نحرص على أننا نعرف خصوصيات أهل العلم وخاصة أمثال الإمام ابن جرير من المشهورين, هل أحد يعرف أم لا؟ طيب تجيبون أم أقول؟ ثلاثمائة وعشرة، إذن ابن جرير الطبري متقدم وهو إمام المفسرين أو عمدة المفسرين -رحمه الله تبارك تعالى-، أنا أنصح السائل يعني من أجل الوقت أن يلتزم بالتفاسير التي سلكت مسلك أهل السنة والجماعة من ذلك:
(3/34)
---(3/108)
تفسير الإمام ابن جرير، تفسير الإمام ابن كثير, تفسير البغوي -رحمه الله تبارك وتعالى-, تفسير جمال الدين القاسمي -رحمه الله تبارك وتعالى-، تفسير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله تبارك وتعالى-، هذه التفاسر اعتنت في الحقيقة عناية جيدة بإبراز منهج أهل السنة والجماعة وكانوا هم على هذه الجادة.
وهو يسأل عن مناهج المفسرين ويتوسع في ذلك، هذا أمر طبعاً لا شك أنه في مثل هذه الحلقات يصعب الآن ولكن أقول بأنه يجب عليك أن تلتزم بكتاب أو بكتب للمفسرين الذين كانوا يسيرون على منهج أهل السنة والجماعة لأن بعض الفرق وبعض أربابها فسروا القرآن الكريم ولكنهم لووا النصوص على أعناقهم لتتوافق مع مذاهبهم، أما أمثال هذه الكتب فهي كتب على المنهج الحق والصواب الذي يجب أن يحرص عليه الإنسان. والله أعلم.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم يقول: ذكر بعض المفسرين أن السجود المذكور في الآية هو الخضوع لله بما يراد منه, فما رأيكم؟
(3/35)
---(3/109)
هذا في الحقيقة وارد أيضاً عن كثير من المفسرين والسجود يأتي بمعنى الخضوع ويأتي: سجود على الحقيقة وهو هنا مراد لتفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك يعني النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذكر أن (الشمس والقمر كلاهما يسجد لله -تبارك وتعالى-)، وكما جاء عن أبي العالية أنه (ما في السماء من شمس ولا قمر ولا نجم إلا يخر لله -تبارك وتعالى- ساجد) والحديث الذي حسنه الألباني -رحمه الله تعالى- وفي سنن الترمذي وابن ماجه وغيرهما وذكر بأنه حسن (أن الشجرة سجدت خلف الذي كان يصلي، وصدق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك) فما بالنا نصرف هذا الظاهر عن حقيقته المرادة، وكل ذلك حينما نذكره، إنما هو لبيان أن الكون كله يعظم رب العزة والجلال سبحانه بالسجود له، يعظمه لأن هذا يبين أن حق الله على هذه المخلوقات أن تطيعه وأن تخر أو أن تسجد له -سبحانه وتعالى- وهذا في مقابل الذين لم يسجدوا لله من الإنس، وكثير من الناس لم يسجد لله -تبارك وتعالى- الذين قال الله فيهم: ?وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ? فالآية تريد أن تبرز أن الكافر يجب عليه أن يسجد سجود طاعة، وسجود فعل؛ لأن هذه المخلوقات الصماء أيضاً تسجد سجود طاعة وسجوداً فعلياً، وهذا هو الراجح، والله أعلم.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بإلقاء أسئلة هذه المحاضرة
أسئلة سهلة -إن شاء الله-، أنا أعرف أنكم -إن شاء الله- حريصون على طلب العلم.
السؤال الأول: لماذا نص الله تعالى على سجود الشمس والقمر مع أنهما داخلان فيما ذكر أولاً؟
السؤال الثاني: اذكر ما وعد الله به المؤمنين في هذه الآيات؟
السؤال الثالث: عرف الإلحاد؟ وما المراد به في قوله تعالى: ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ …? إلى آخر الآية؟ .
(3/36)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر(3/110)
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الرابع
التفسير/ المستوى الثالث/ الدرس الرابع
تفسير سورة الحج
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحبا بكم
يا أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالمشاهدين الكرام وحياكم الله في هذا اللقاء المبارك الجديد ومع شرح بعض آيات من كتاب الله -تبارك وتعالى- من سورة الحج وهذه الآيات التي ستستمعون إليها بعد قليل -إن شاء الله تبارك وتعالى- سيدور الحديث حولها في محاور متعددة:
المحور الأول: تهيئة البيت الحرام لإبراهيم -عليه السلام-.
المحور الثاني: الحج وبعض فوائده.
المحور الثالث: كونوا حنفاء لله غير مشركين به.
المحور الرابع: تعظيم شعائر الله من تقوى الله.
والآن يتفضل الأستاذ الكريم - جزاه الله خيراً- يقرأ علينا الآيات التي سأتناولها بالشرح والتحليل -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(4/1)
---(3/111)
?وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ?26? وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ?27? لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ?28? ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ?29? ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ?30? حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ?31? ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ?32? لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ?33??.
جزاك الله خير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا وإمامنا وحبيبنا محمدًا عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم وسلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد...
المحور الأول: تهيئة البيت الحرام لإبراهيم -عليه السلام-
(4/2)
---(3/112)
هذه الآيات التي استمعنا إليها الآن وُجه الخطاب فيها أولاً للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-وفي ذلك يقول الله له: ?وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا? وهذا- في الحقيقة- فيه تقريع وتوبيخ للمشركين الذين عبدوا مع الله -سبحانه وتعالى- غيره عند البقعة الجليلة العظيمة التي شرفها وكرمها رب العزة والجلال – سبحانه- وما كان ينبغي لهم ذلك لأن الحق -تبارك وتعالى- أقام بيته لكي يعبد هناك وحده دون سواه, ولكن- وللأسف الشديد- غير المشركون ذلك وعبدوا هناك - كما سنعلم بعد قليل إن شاء الله تعالى- عبدوا مع الله -سبحانه وتعالى- غيره، ويخبر رب العزة والجلال في هذه الآية أنه بوأ لإبراهيم -عليه السلام- مكان البيت، كلمة «بوأ» بمعنى هيأ، تقول العرب: بوأت له منزلاً يعني: هيأته له ومكنت له فيه، ومن هذا قول الحق -تبارك وتعالى- ?وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتً? [يونس: 87] والله -عز وجل- قد هيأ الجنة لأهل الإيمان كما ذكر ذلك ?وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا? [العنكبوت: 58] الشاهد أن كلمة بوأ تفيد هيأ المكان ومكن من يريد إنزاله فيه، والله -عز وجل- قد بوأ هنا كما ذكر في كتابه لإبراهيم -عليه السلام- مكان البيت بمعنى أنه هيأه له ويسر له السبيل إليه وأنزله فيه -عليه الصلاة والسلام- وهنا من هذه الآية أو هذا المطلع ?وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ? يستدل من يقول على أن إبراهيم -عليه السلام- هو أول من بنى البيت، وهذه مسألة - في الحقيقة- فيها خلاف كبير، والآية لا تدل على أن إبراهيم -عليه السلام- هو أول من بنى البيت غاية ما تدل عليه الآية أن الله -عز وجل- هيأ مكان البيت وأعلم به إبراهيم -عليه السلام- والخلاف في هذا واسع، البعض يذكر أن الملائكة هم(3/113)
(4/3)
---
أول من بنى البيت وقيل: آدم -عليه السلام- وقيل: شيث من ولد آدم وغير ذلك وتعجبني كلمة للإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- قالها في تفسير سورة البقرة عند الآية رقم 125 وهي تتحدث حول هذا الموضوع، ذكر أن هناك أموراً ذكرها أهل العلم وتوسعوا فيها فيمن أول من بنى البيت ثم ذكر أن هذه الأقوال مستقاه من أهل الكتاب والحق في ذلك ما جاءنا عن الله أو عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كلمة الإمام الحافظ هنا سأقرأها عليكم لأنها مفيدة للغاية في توضيح منهج أهل السنة والجماعة في مثل هذه المسائل التي يمكن أن يرد فيها خلاف بين أهل العلم، وهي أصل من أصول أهل السنة والجماعة وهي أنهم يسلمون أو يرجعون إلى النصوص الواردة وحسبهم في ذلك ما جاءهم عن الله أو عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فكلمة الإمام الحافظ ابن كثير هنا تعتبر قانوناً أو تعد قاعدةً من القواعد المهمة التي أحب أن يسمعها إخواني وأن يعملوا بها لأنها مفيدة للغاية يقول -رحمه الله تبارك وتعالى- بعد أن أشار إلى هذه الأقول: «وغالب من يذكر هذا» يعني هذه الأقوال إما البيت بناه الملائكة أو آدم أو شيث أو غير ذلك أو إبراهيم -عليه السلام- قال: « وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها» ثم ختم هذه الكلمة وهذا بيت القصيد الذي أود أن أصل إليها قال: « وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين» هذه كلمة جميلة للغاية يعني: إن صح لنا حديث في مثل هذه المسائل أخذنا به وما عداه لا نلتفت إليه لا تصديقاً ولا تكذيباً طالما أنه لم يأتنا خبر عن الله -تبارك وتعالى- ولكن قد يتساءل البعض يقول: ما الراجح إذن في هذه المسألة؟ هل أن إبراهيم -عليه السلام- هو أول من بنى البيت, مثلاً على أقل تقدير؟ أو أن غيره هو الذي بناه سواءً قلنا بالملائكة أو قلنا آدم أو غير ذلك؟ الراجح - والله أعلم-(3/114)
أن
(4/4)
---
إبراهيم -عليه السلام- هو الذي رفع القواعد من البيت هو وإسماعيل وليس هو أول من بنى البيت -عليه السلام- ومما يدل على ذلك ما جاء في سورة إبراهيم -عليه السلام-: ?رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ? [إبراهيم:37] إبراهيم -عليه السلام- هاجر بأم إسماعيل وإسماعيل عند البيت الحرام وأرشده الله -تبارك وتعالى- أن يضع زوجه وابنه هناك عند البيت الحرام وهذا قبل أن يقوم إبراهيم وإسماعيل ببناء البيت ورفعه فدلت هذه الآية على أن البيت كان معلوماً من قبل, بل إن هذه الآية فيها إشارة إلى أن البيت كان معلوماً من قبل وكان معروفاً بدليل قول الحق -تبارك وتعالى- في هذه الآية: ?وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ? يعني هيأناه له وأعلمناه به وأرشدناه إليه، فإذن البيت كان موجوداً من قبل ذلك ?وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا? ?أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئً? هنا على تقدير محذوف دل عليه ما جاء في سورة البقرة، ومعنى الكلام وعهدنا إليه أن لا تشرك بي شيئًا، وهذه الآية الواردة في سورة البقرة، ?وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ?125?? [البقرة: 125] وأفادت آية البقرة أن إسماعيل -عليه السلام- أيضاً طولب بأن يقوم بما قام به من؟ إبراهيم -عليه السلام- وأن العهد من الله كان لإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام- وأول ما عهد الله إليهما في هذه الآية وفي غيرها من الآيات هو عدم الشرك بالحق -تبارك وتعالى- ?أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئً? وذلك لأن الشرك من أخطر الأمور على الإطلاق وأنه مفسد للدين ومضيع له وأن المشرك لا ينال خيراً ولا جزاءً عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وآثار الشرك عليه - كما سأذكر ذلك(3/115)
بعد قليل في
(4/5)
---
آيات ستأتي - إن شاء الله تعالى- في هذا اللقاء ما يوضح خطورة وضرر الشرك -إن شاء الله تبارك وتعالى- إذن أول أمر عهد الله به إلى إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام- هو عدم الشرك بالحق -تبارك وتعالى- وهذه مسألة مهمة تجعلنا - أيها الإخوة الكرام- ننأى بأنفسنا عن مواطن الشرك بحال، سواءً كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر لأن كل منهما يؤدي بالإنسان إلى خطر عظيم, وإن كان الشرك الأكبر هو أخطر الأمور على الإطلاق لأنه لا يغفره الله -تبارك وتعالى- بحال من الأحوال.
الأمر الثاني الذي عهد الله به في هذه الآية إلى إبراهيم -عليه السلام- وإسماعيل في آية البقرة أيضاً وهو متعلق أيضاً بالمقطع الأول ?أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئً? قوله -تبارك وتعالى-: ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ? [الحج: 26] الطهارة هنا تشتمل على نوعين من الطهارة, هل أحد منكم يمكن أن يذكرهما لي؟ ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ? تشتمل على نوعين من أنواع الطهارة؟
أولاً: طهارة المكان. ثانيًا: الطهارة من الشرك.
(4/6)
---(3/116)
نعم إذن يمكن أن نقول: طهارة حسية يعني طهارة المكان من الأوساخ والقذر وما إلى ذلك، والطهارة المعنوية من الشرك ومن المعاصي ولذلك قلت لكم ?وَطَهِّرْ? في الآية هذه تتعلق أيضاً بالعهد الأول ?أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئً? إذن أفادت وأوجبت على من يتسلم هذا البيت أن يطهر بيت الله -تبارك وتعالى- يطهره من الأقذار الحسية كما يطهره أيضاً من جميع ألوان الشرك والمعاصي ولذلك لا يجوز - أيها الإخوة الكرام- بحال من الأحوال أن يقترف شيء من ذلك في بيت الله الحرام، إبراهيم -عليه السلام- طولب بذلك، قد يسأل سائل: ومن أين كانت أو أتت الأصنام عند الكعبة؟ ورد أن قبيلة جرهم أتت بالأصنام والأوثان وعبدتها عند بيت الله الحرام، وإن إبراهيم -عليه السلام- قام بتطهير البيت من هذه الأوثان، كما فعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- النبي -عليه الصلاة والسلام- طهر البيت أيضاً من الأوثان ومتى كان ذلك؟ متى طهر النبي -صلى الله عليه وسلم- البيت الحرام من الأوثان؟ من يجيب؟
في عام الفتح
(4/7)
---(3/117)
في عام الفتح، النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- طهر الكعبة المشرفة مما وضعه المشركون من أصنام عندها وقيل بأنها بلغت أكثر من ثلاثمائة صنم ودخل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وجد فيها صوراً لإبراهيم وإسماعيل وكانت هذه الصور تفيد أنهما كانا يستقسمان بالأزلام فكسرها نبي الرحمة - صلوات الله وسلامه عليه- وكانت بيده عصاة يضرب بها الصنم في قفاه فيقع على الأرض ويتلو قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ?81?? [الإسراء: 81] فالآية لما وجهت هنا لإبراهيم -عليه السلام- ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ? نقول أيضاً بأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مخاطب بهذه الآية وفعل ما فعله إبراهيم -عليه السلام- وطهر بيت الله الحرام مما وضعه المشركون حوله من أوثان وهو في ذلك متبع ملة إبراهيم حنيفاً -عليه السلام- لأن إبراهيم أمر بهذا والنبي -صلى الله عليه وسلم- متبع لملة إبراهيم، كما قال الله له في كتابه: ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ?123?? [النحل: 123] وكلاهما كان من أخلص الناس في عبادة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(4/8)
---(3/118)
أيضاً أيها الإخوة الكرام وقفة هنا مهمة عند قول الله تعالى: ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ? الله -عز وجل- هنا أضاف البيت إلى نفسه فقال: ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ? هذه الإضافة ماذا تعني؟ تعني التكريم والتشريف، فالبيت أعني بيت الله الحرام ليس جزءاً من الله -تبارك وتعالى- ولهذا سأذكر مسألة دقيقة عند علماء الاعتقاد آمل أن تتنبهوا إليها, يعني لن أسألكم فيها لأنها مسألة عقدية ليست معنا ولكنها مهمة، قال أهل العلم: ما يضاف إلى الله -تبارك وتعالى- نوعان: إما أن يكون المضاف معاني وإما أن يكون أعياناً، المعاني: هي الصفات، وهي الأشياء التي لا تقوم بنفسها، فإذا أضاف رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- شيئًا من المعاني إلى نفسه أعني من الصفات كان هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، ويوجب وصف الله -تبارك وتعالى- بما أضافه إلى نفسه، أما إذا أضاف رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- الأعيان وكلمة أعيان تفيد أنها أشياء قائمة بذاتها، منفصلة عن رب العزة والجلال – سبحانه- إذا أضاف الأعيان إلى نفسه تكون هذه الإضافة من باب التكريم والتشريف، ولذلك نحو نقول عن المساجد ماذا؟ بيوت الله فنضيفها إلى رب العزة والجلال وهنا أضاف الكعبة أو بيته إليه فقال: ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ? كما قال: ?نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَ? [الشمس: 12] كما أضاف عباد الرحمن إليه ونسأل الله أن نكون منهم فقال: ?وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا? [الفرقان: 63] وهذه مسألة دقيقة آمل أن تتنبهوا إليها لأنه - وللأسف الشديد- بعضاً ممن استهواهم الشيطان ظنوا أن الله يحل في خلقه أو بعض من اتخذ لله ولداً قال بأن عيسى -عليه السلام- جزء من الله لأنه من كلمة الله أو نفخ الله فيه أو ما إلى ذلك, وكل هذا كلام باطل، فما أضافه الله -عز وجل- إلى نفسه من الأعيان يكون هذا من باب التكريم والتشريف كما ذكرت.
(4/9)
---(3/119)
?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ? لمن؟ نصت هذه الآية قالت: ?لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ? كلمة هنا ?لِلطَّائِفِينَ? جاء بها الله -عز وجل- قبل ?وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ? وهذه فيها فائدة وهي أن الطواف بالبيت من أخص أوصاف بيت الله الحرام ولا يطاف إلا بكعبة الله -تبارك وتعالى- لا يجوز الطواف بمكان بحال من الأحوال إلا أن يطوف الطائف حول بيت الله الحرام، فما يفعله بعض الناس اليوم من الطواف بأضرحة أو قباب أو أماكن اتخذوها اعتبروها مقدسة أو ما إلى ذلك كل هذا من البدع والضلال الذي انحرف به بعض الناس عن دين الله -تبارك وتعالى- والطواف بالبيت من أخص خصائص بيت الله الحرام ولا يطاف إلا به، والله -عز وجل- أمر إبراهيم -عليه السلام- كما فعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يطهر البيت وأن يهيأه لمن يطوف به لمن؟ لله -تبارك وتعالى- قال: ?لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ? كلمة القائمين والركع السجود المراد بها من؟ المصلون لله -تبارك وتعالى- في البيت الحرام، وذكر القائم والراكع والساجد لأن المصلي لا يخلو حاله وهو واقف بين يدي الله -عز وجل- من هذه الحالات الثلاثة، إما أن يكون قائماً وإما أن يكون راكعاً وإما أن يكون ساجداً، إذن الآية التي معنا بينت أن الله -عز وجل- هيأ لإبراهيم -عليه السلام- مكان البيت وأمره أو عهد إليه ألا يشرك به شيئًا وأن يطهر بيت الله الحرام وهذا واجب على المسلمين في كل مكان وزمان، يمكن أن يفعلوا فيه شيئاً تجاه بيت الله الحرام فلا يجوز لإنسان بحال من الأحوال أن يذهب عند بيت الله الحرام ويشرك بالله تعالى أو يأتي بشيء من الوسخ والقذر فيؤذي به بيت الله الحرام كل ذلك لا يجوز، وقد هيأ الله -تبارك وتعالى- حكومة المملكة العربية السعودية - جزاهم الله خيراً- وهم الآن ينافحون ويدافعون في تطوير البيت بما يملكون فمن يذهب إلى هذه الديار(3/120)
(4/10)
---
يرى مكانة هذا البيت وما يقومون به من تطهير حسي وما يدفعون عنه ما يمكن أن يرد إليه ممن يرد بشيء من البدع أو الخرافات وذلك بتعليم الناس أمور دينهم والوقوف وقفة قوية ضد من يمكن أن يشرك بهذا البيت أو أن يعبد مع الله -تبارك وتعالى- عند هذا البيت شيئًا من مخلوقات الله -تبارك وتعالى- وهذه نعمة يجب أن نشكر الحق -تبارك وتعالى- عليها فما يقدم اليوم من خدمات لبيت الله الحرام أرى التنويه به في مثل هذا الموطن لأننا نشكر من يقوم بهذه الأفعال بعد شكر الله -تبارك وتعالى- كما أننا نذكر أن هذه نعمة من نعم الله -تبارك وتعالى- علينا حينما طهر بيته من ذلك, وهيأ من يقوم بتطهير البيت والحفاظ عليه.
(4/11)
---(3/121)
المحور الثاني: الحج وبعض فوائده: وهذا المحور تندرج تحته بعض آيات القرآن الكريم في هذا اللقاء، وأبدأها بقول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ?27?? هذه الآيات حقيقة تثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن, ونسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا حج بيته الحرام، ?وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ? الخطاب موجه لمن أولاً؟ لإبراهيم -عليه السلام- هو الذي خوطب بذلك بعدما هيأ الله -عز وجل- له البيت والأذان:هو الإعلام ومنه قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ? [التوبة: 3] يعني الله -عز وجل- يقول لإبراهيم -عليه السلام- بعد أن هيأ له البيت قم فنادِ بالناس لحج هذا البيت الحرام، وادعهم إليهم وقد جاء أن إبراهيم -عليه السلام- لما أمره ربه -تبارك وتعالى- ?وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ? قال: يا ربي وكيف يُسمعهم صوتي؟ وكيف ينفذهم صوتي؟ فقال الله -تبارك وتعالى- له: عليك النداء وعلينا البلاغ، نادِ وعلينا البلاغ، فقام إبراهيم -عليه السلام- قيل: في مكانه وقيل: رقى على الصفا وقيل: رقى على جبل أبي قبيس ونادى فقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، وورد أن الجبال تواطأت يعني انخفضت حتى عم هذا النداء أرجاء المعمورة وأسمع من في الأرحام والأصلاب وسمعه كل من لبى نداء الله -تبارك وتعالى- وقصد وحج بيت الله الحرام، إذن ?وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ? يعني قم, نادِ في الناس وأعلمهم بأن الله -تبارك وتعالى- اتخذ بيتاً يرجع الناس إليه ويحجوه، ?وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ? الحج في اللغة: هو القصد وتفيد كثرة التردد والرجوع إلى البيت وهذا حاصل وواقع عند بيت الله الحرام فيكثر المترددون عليه كما سيظهر لنا من هذه الآيات لما قال الله: ?وَأَذِّن فِي(3/122)
(4/12)
---
النَّاسِ بِالْحَجِّ? قال بعدها ماذا؟ هناك جواب سيجيب الناس قال: ?يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ? الرجال في الآية: جمع راجل والراجل هو الذي يمشي على رجليه يعني يأتيك الناس إما ماشين على أرجلهم وإما على بعير لأنه قال: ?يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ? الضامر: هو البعير الضعيف الذي أتعبه السير من كثرة المشي هذا البعير الذي أتعبه السير من كثرة المشي يقال عنه: بعير ضامر يعني مهزول، ?يَأْتُوكَ رِجَال? يعني: على الأقدام وأيضاً وعلى البعير ?مِن كُلِّ فَجٍّ? يعني: من كل طريق فالفج بمعنى الطريق كما قال تعالى: ?وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُل? [الأنبياء: 31] يعني طرقاً ?مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ? عميق يعني بعيد.
(4/13)
---(3/123)
هذا الجزء من الآية ذهب بعض أهل العلم من خلاله إلى أن الحج ماشياً أفضل من الحج راكباً قالوا: لأن الله -تبارك وتعالى- قدم ذكر الماشي على الراكب فقال: ?يَأْتُوكَ رِجَال? والصحيح من أقوال أهل العلم أن الركوب في الحج أفضل؛ لفعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وذكر ذلك في هذه الآية ليبين رب العزة والجلال أن هناك من الناس من يأتي هكذا ومن يأتي هكذا ولكن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد حج راكباً هذا شيء يتعلق بهذه الآية. أيضاً هذه الآية أفادة ودلت على أنه يجب الحج إلى بيت الله الحرام؛ لأن الله قال فيها: ?وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَال? وهذا من خلال هذه الآية على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأتِ ناسخ يدل على نسخه فما بالنا إن أتى ما يؤكد ما جاء في شرع ما قبلنا من خلال آيات القرآن الكريم فالله -عز وجل- أوجب الحج على هذه الأمة في كتابه كما أوجبه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في سنته وأجمع أهل العلم على وجوبه بالشروط التي هي معروفة عند أهل الفقه، قال الله في كتابه ?وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيل? [آل عمران: 97] والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أكد ذلك، كما في حديث الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله -تبارك وتعالى- عنه أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا, فقام رجل فقال: أفي كل عام هو يا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ فسكت النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى كررها هذا الرجل ثلاث مرات، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ساكت لم يجبه فلما كررها ثلاث مرات قال النبي -صلى الله عليه وسلم- له: لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) وقد دلت السنة(3/124)
(4/14)
---
النبوية على فضل الحج ومكانته وهذا ما أذكره لنرغب الراغبين إلى حج بيت الله الحرام ومن لديه قدرة واستطاعة على حج هذا البيت لأن الله فرضه على المؤمن القادر المستطيع ?وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيل? [آل عمران: 97].
النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سئل: (أي الأعمال أفضل؟ قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: إيمان بالله ورسوله) هذا الجزء من الحديث يدل - يا إخواني- على أن الأعمال تدخل في الإيمان ما وجه ذلك؟ من يجيب؟ الأعمال تدخل في الإيمان من خلال هذا الجزء من الحديث ما وجه ذلك؟ سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله) هو سئل عن ماذا؟ عن الأعمال فلما يقول: (إيمان بالله ورسوله) دل ذلك على أن الإيمان من الأعمال، وإلا لا يكون الجواب صحيحاً، (قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الحج المبرور) -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك أيضاً: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (العمرة إلى العمرة والحج إلى الحج كفارة لما بينهما ما لم تغشَ الكبائر) إلى غير ذلك مما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه فضل الحج ومكانته. الحج المبرور - أيها الإخوة- يجب أن يكون وأنا أتحدث اليوم ونحن في موسم استعداد للحج فأذكر هذه الفوائد لكي يكون الحج مبروراً أن يكون العبد فيه مخلصاً وجهته لرب العزة والجلال، يعني يقصد بيت الله الحرام لأنه يريد أن يتعرض لوجه الله -تبارك وتعالى- ولغفران الله -عز وجل- ولنفحات رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وأن يخلص أعماله لله وأن يتبع هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في آداء النسك وهذا أمر واجب يتبع النبي -عليه الصلاة والسلام- في آداء النسك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حج بأمته وقال: (خذوا عني مناسككم) والعمل إذا لم يكن على هدي النبي(3/125)
-عليه الصلاة
(4/15)
---
والسلام- لا يكون مقبولاً ولذلك أطالب الحجاج من هذا المكان وكل من يشاهد أو يستمع أن يتعلم ما يجب عليه أن يتعلمه من مناسك الحج، وعلى رأس ذلك أن يتعلم التوحيد وإفراد الحق -تبارك وتعالى- بالعبادة ويخلص عبادته كلها لله -عز وجل-، ثم يعرف كيف كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يحج، ما هي طريقته في الحج؟ ما هي هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- فيه ليكون حجه حجاً مبروراً؟ وينال ما وعد به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) يعني كأنه طازج, جديد, لم يرتكب ذنباً من قبل وهذا يدل على فضل الحج. ومن أفضال الحج أيضاً ما ذكره ربنا -سبحانه وتعالى- بعد ذلك: ?وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ? وهذه الآية أيضاً تفيد قبل أن أنتقل إلى غيرها، تفيد أن الناس يتطلعون ويتشوقون ويأتون من أرجاء الدنيا لحج بيت الله الحرام؛ لأنه قال: ?يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ? وهذا هو معنى قول الحق -تبارك وتعالى- ?فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ? [إبراهيم: 37] وكما قال رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ?وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنً? [البقرة: 125] قيل: ?مَثَابَةً? يعني يثوب الإنسان إليه يعني: يرجع ويتردد وهذا حاصل وواقع ومشاهد، فاسألوا أي إنسان ذهب إلى بيت الله الحرام ثم هم بالرجوع وهو خارج من بيت الله الحرام وبعدما يتركه يجد الحنين ويجد الشوق إلى أن يرجع مرة أخرى إلى بيت الله الحرام ولذلك صدق الله لما قال: ?يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ? لماذا؟ لماذا تشد الرحال, ويستعد الناس والأبرار للوصول إلى بيت الله الحرام؟ قال رب العزة والجلال سبحانه ?لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ? الناس يذهبون إلى الحج ليشهدوا منافع ومنافع جمع ولا مفرد؟(3/126)
جمع، إذن منافع عظيمة
(4/16)
---
وكبيرة على رأس هذه المنافع منفعة دينية منفعة أخروية ينالها العبد عندما يقف بين يدي رب العزة والجلال وينال من خلالها كرامة وسعادة وتشريفاً أيضاً في الدنيا وهي رضاء الله -تبارك وتعالى- عنه, المنفعة الأولى التي تعود على الحجاج وقاصدي بيت الله الحرام إذا أخلصوا لله وتوسلوا ولجأوا إليه وحجوا على العهدي النبوي ومن مال حلال أن يتعرضوا لرضوان الله -تبارك وتعالى- وأي منفعة أيها الكرام أعلى من رضوان الله -عز وجل- كل مؤمن يسعى إلى أي شيء؟ كل صادق في دينه يسعى إلى أن يرضى الله -تبارك وتعالى- عنه، وتأملوا جمال الآية ?لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? [الفتح: 18] تأمل وفكر في كلمة ?رَضِيَ? ونزلها في نفسك وتشعر في ذاتك وقرارة نفسك أن الله -سبحانه وتعالى- رضي عنك ما أعظمها من سعادة وما أجملها من كرم وما أجلها من نعمة واللهِ إنها أفضل النعم على الإطلاق وأفضل المنافع على الإطلاق ?لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ? هذه هي المنفعة الأولى منفعة الدين منفعة تعود عليك بما تكون به مقبولاً عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(4/17)
---(3/127)
وهناك أيها الإخوة الكرام منافع أخرى كثيرة دنيوية أيضاً في الحج وعلمية وغير ذلك ولا بأس أن ينتفع الإنسان بما ينتفع به من رزق حلال أو تجارة مباحة أثناء الحج لا حرج عليك أبداً أن تحج وتقصد بيت الله الحرام متعرضاً أو سائلاً أو طالباً الفضل والعفو من عند الحق -تبارك وتعالى- ثم تتاجر إن أردت ذلك تبيع وتشتري وما إلى ذلك والله -عز وجل- يقول: ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ? [البقرة: 198] وهنا جمع فقال: ?لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ? والحج أيها الكرام مؤتمر عظيم مؤتمر دولي كبير تحضره الملايين وهناك تكون المنافع هناك تكون المنافع تكثر التجارات ويكثر منافع الناس حتى تكثر منافع العلم عند الناس فهناك لقاءات علمية تدور وهناك كتب تتداول وأشرطة تسمع وهناك تعقد الجلسات التي يعرف فيها المسلمون أحوال بعضهم البعض، يعرفون أخبارهم فيتلاقون وتتلاقى أرواحهم وأفكارهم في مكان واحد لأنهم معاً يعيشون ويقومون وينامون لفترة معينة من الزمان ويجلس بعضهم إلى بعض يتم بينهم التعارف ويتم من خلال الحج اللقاء والتقارب ولو استغل المسلمون هذه المنافع استغلالاً جيداً لسادوا العالم بفضل الله -تبارك وتعالى- ووجدوا تأييداً قوياً عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فاحرصوا عباد الله يا من ترجعون وتحجون وتقصدون بيت الله الحرام احرصوا على منافع الحج وفوائده واشهدوا هذه المنافع وحققوها في أنفسكم تنالوا سعادة الدارين ?لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ? أولاً: ?وَيَذْكُرُوا اسْمَ ? هنا ذكر اسم الله -عز وجل- ليفيد أن المسلم دائماً على ذكر لله -تبارك وتعالى- وأن المسلمين لا يفترون عن ذكر اسم الله -عز وجل- وأن الذبائح يذكرعليها اسم الحق -تبارك وتعالى- وتفيد هذه الآية أيضاً أو هذه الكلمة
(4/18)
---(3/128)
?وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ? على أن المسلمين يفعلون ما يفعلون تقرباً إلى الرب -تبارك وتعالى- وليعلوا ذكر الله -عز وجل- ليرتفعوا به ويشعروا الناس به ويعلموا الناس به فهم يذكرون الله -عز وجل- وما يقومون به من مناسك غايتهم في ذلك أن يذكر الله وحده دون سواه، وكان المشركون يذكرون اسم آلهتهم إذا قصدوا بيت الله الحرام فنص رب العزة والجلال على أن المسلمين لا يذكرون إلا اسم الله -تبارك وتعالى- ?وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ? الأيام المعلومات ذكر أهل العلم فيها كلاماً، قال بعضهم وهذا مروي عن عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه-: إن الأيام المعلومات هي أيام العشر الأول من ذي الحجة، هذا ورد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- وهو قول وجيه لأن العشر الأول من ذي الحجة من أفضل الأيام عند الرب -تبارك وتعالى- كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله -عز وجل- من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ -صلى الله عليه وآله وسلم-، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) فأفاد هذا الحديث أن هذه الأيام من أفضل الأيام عند الرب -تبارك وتعالى- ويعد بهذا القول هي المقصودة في قول الحق -تبارك وتعالى- ?وَالْفَجْرِ ?1? وَلَيالٍ عَشْرٍ ?2?? [الفجر: 1، 2] وفي هذه الأيام أيضاً أيام فاضلة منها من يذكر لي؟ في الأيام العشر؟ يوم عرفة، الذي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن صامه أنه قال: (أحتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والسنة الآتية) صيام يوم عرفة أما الحاج فلا يسن له أن يصوم يوم عرفة لأنه متفرغ لأعمال الحج وله في هذا اليوم أعمال يعملها وينال عليها فضلاً كبيراً من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- النبي -صلى الله عليه وسلم-(3/129)
(4/19)
---
يقول: (خير الدعاء دعاء عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله) وأيضاً في هذه الأيام العشر يوم ماذا؟ وما أيضاً في هذه الأيام العشر؟ اليوم العاشر الذي هو يوم النحر الأكبر, يوم الحج الأكبر لأن معظم أعمال الحج تؤدى فيه ولذلك سمي اليوم العاشر بيوم الحج الأكبر ولهذا قال ابن عباس وغيره إلى أن الأيام المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة لما فيها من فضل ولما يؤدى فيها من كثير من أعمال الحج.
(4/20)
---(3/130)
وقيل بأن المراد بالأيام المعلومات هي يوم عرفة وثلاثة أيام بعده، أو يوم الحج الأكبر الذي هو يوم العيد وأيام التشريق والقول بأنها العشر الأول من ذي الحجة لعله أصوب الأقوال لأن أعمال الحج الواجبة تنتهي في يوم العاشر من ذي الحجة، ويفهم من قوله تعالى: ?وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ? أن المسلمين عليهم أن يحسبوا ويدرسوا ويعلموا هذه الأيام المعلومات يعني يعرفوها وينتظروها لأنها أيام معلومات، ودائماً الشيء الذي يرغبه الإنسان أو يرغب فيه يحرص على معرفة متى يأتي هذا الشيء وهذا يدل على أنه يجب على المسلمين أن يتحروا هذه الأيام ويتحروا أيضاً الهلال، لإثبات دخول الشهر والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان له في هذه الأيام أعمال جليلة فقد أخرج أبو داود عنه: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم هذه الأيام العشر) يعني: التسع نحن نقول العشر يعني التسع، وصحح هذا الحديث الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- في صحيح سنن أبي داود، ?وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ? بهيمة الأنعام فسرها رب العزة والجلال في كتابه ووضحها لنا في سورة الأنعام وهي ما جاءت في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ?143? وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ?144?? [الأنعام: 143، 144] هذه هي بهيمة الأنعام ?وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ? فكلوا منها: هذا أمر ذهب البعض إلى أن هذا الأمر للوجوب ولهذا(3/131)
(4/21)
---
أوجبوا على الحاج أن يأكل من البدن التي يذبحها وهذا قول غريب والذي عليه جمهور أهل العلم أن الأكل منها إنما هو للاستحباب وقوله الله تعالى: ?فَكُلُوا مِنْهَ? للرخصة، والأمر للإباحة، ولذلك قال كثير من أهل العلم بأن هذا كقول الحق -تبارك وتعالى- ?وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُو? [المائدة: 2] لأن الله -عز وجل- حرم الصيد على المحرم ثم قال: ?وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُو? هل يجب على كل حاج أو محرم بعمرة إذا حل من إحرامه أن يذهب للصيد، لم يقل بهذا أحد، هو كقول الحق -تبارك وتعالى-: ?فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ? [الجمعة: 10] إذن فكلوا منها للاستحباب والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما ذبح الهدي وذبح كثيرًا -صلى الله عليه وسلم- بسني عمره ثلاثاً وستين -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر بأن يؤخذ من كل بدنة شيء من اللحم فطبخت ثم أكل منها وحسى من مرقها - صلوات الله وسلامه عليه- ?فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ? وهذا فيه من التكافل ودعوة إلى المجتمع المسلم أن يرحم بعضهم بعضاً، وأن ينظر المؤمن إلى أخيه المؤمن وما يحتاج إليه فلما قال الله -عز وجل- ?فَكُلُوا مِنْهَ? يا أيها الفاعلون لم يقتصر لم يقتصر الأكل على المنفعة فقط وإنما تعدى ذلك لينال المحتاج ?فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ? البائس هو الذي بلغ من الفقر بؤساً وحالةً شديدة صعبة من الحاجة والاحتياج، والفقير هو المتعفف الذي لا يسأل الناس ?فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ?28? ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ? التفث: هو الوسخ، ?ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ? يعني يزيلوا عنهم ما لحق بهم من متاعب في الحج ومع هذا أنهم يضعون الإحرام، يعني يكفون عنه فيتحلل من ملابس الإحرام يحلق رأسه يستخدم الطيب وما إلى ذلك هذا هو المعنى المقصود في هذه الآية ?وَلْيُوفُوا(3/132)
نُذُورَهُمْ?
(4/22)
---
وهذا يشمل أي نذر نذره الإنسان على نفسه، نذر نذرته على نفسك يجب الوفاء به ونص الله -سبحانه وتعالى- عليه هنا ?وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ? ويستفاد من هذه الآية أيضاً أن من دخل في الحج عليه أن يتمه وأن يأتي بأعمال الحج وفاءً لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لأن هذا مما أوجبه الله -سبحانه وتعالى- على العبد ?ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ? يطوفوا بالبيت العتيق: الذي هو ماذا؟ الكعبة، يطوفوا ببيت الله الحرام، يطوفوا به المقصود بالطواف الوارد هنا في هذه الآية ما هو؟ الذي هو طواف ماذا؟ طواف الإفاضة الذي هو ركن من أركان الحج ولا يتم الحج إلا به ?وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ? والبيت العتيق معناه ماذا؟ قيل العتيق: القديم، وقيل العتيق لأن الله -عز وجل- أعتقه من الجبابرة فلن يسلطوا عليه ولن يأتوا إليه، ?وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ? المراد كما ذكرت هو طواف الإفاضة لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما نزل إلى منى أول شيء فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه رمى الجمرة بسبع حصيات ثم نحر بدنه ثم بعد ذلك حلق رأسه ثم نزل فأفاض إلى مكة فطاف ببيت الله الحرام، ووصف الله -عز وجل- للبيت بالقديم والعتيق يفيد كما ذكر ربنا -عز وجل- في آيات آخر في كتابه يفيد بأنه أول بيت وضع للناس، كما قال تعالى: ?إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ?96?? [آل عمران: 96] وهو أول بيت إذن عبد فيه رب العزة والجلال سبحانه وتعالى, والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما سئل: أي بيت وضع للناس أول؟ أجاب -صلى الله عليه وسلم- مفيداً: (أن البيت الحرام هو أول بيت وضع للناس، قيل ثم ماذا؟ قال ماذا؟ عندنا الثقافة نريد أن نراها؟
المسجد الأقصى
(4/23)
---(3/133)
قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون) - صلوات الله وسلامه عليه- كل هذا أفاده قول الحق -تبارك وتعالى- ?وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ? ثم عقب رب العزة والجلال بعد ذلك بقوله: ?ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِنْدَ رَبِّهِ? ذلك: يعني من يقوم بأداء النسك لله -عز وجل- ويفعل ذلك ويعظم حرمات الله يعني ما حرمه الله -تبارك وتعالى- فيجتنب ما حرم الله -عز وجل- فلا ينتهك الحرام ويكون ارتكاب الحرام كبيراً في نفسه، وهذه نقطة مهمة آمل أن يتنبه لها إخواني, يكون ارتكاب الحرام كبيراً في نفسك يعني عظيماً عليك وهكذا كان سلف هذه الأمة الصالحين، كان الذنب عندهم إذا ارتكبوه كأنه جبل يخافون أن يسقط على رؤوسهم بخلاف من جاء بعدهم المعاصي والذنوب عنده كذبابة وقفت على أنفه ففعل لها هكذا ثم طارت، أما من يعظم حرمات الله -تبارك وتعالى- فيكون الذنب إذا اقترفه كبيراً عنده وعظيماً في نفسه، وهذا يدعوه إلى أي شيء؟ يدعوه إلى التوبة إلى الإنابة إلى العود إلى الاستغفار إلى التحلل من هذا الذنب وهذا أمر يجب أن يوطن كل مسلم نفسه عليه، أن تكون حرمات الله -عز وجل- عندك كبيرة فلا تعصي الله -تبارك وتعالى- ولذلك صدق من قال: لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. فالله عظيم والله كبير ولا يحب أن تنتهك حرماته فعظموا حرمات الله -عز وجل- وذلك يكون أيها المؤمنون باجتنابها وأن تكون كبيرة في نفسك أن ترتكب معصية تخالف رب العزة والجلال فيها ?ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِنْدَ رَبِّهِ? هذا خير لك, منفعته والله تعود إليه.
(4/24)
---(3/134)
?وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ? وهذا من فضل الله علينا أن أحل لنا الأنعام وجعل لنا فيها من ال فوائد العظيمة وذكر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في أول سورة النحل فوائد هذه الأنعام, هذه الأنعام لها فوائد عظيمة ?وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَّمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ?5? وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ?6?? إلى آخر ما ذكر بنا -سبحانه وتعالى- أحلها ربنا فضلاً منه -عز وجل- ثم استثنى ولم يبين هنا ما استثناه، قال: ?وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى? أين ما تلي علينا؟ الراجح من أقوال أهل العلم أن هذا يعود إلى ما جاء في سورة الأنعام في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ? [الأنعام: 145] هذا هو الراجح لأن البعض أحاله أو أعاده إلى سورة المائدة وسورة المائدة نزلت بعد هذه السورة فلا يحال إلى شيء لم ينزل بعد، ما يمكن أن نقوله: إنه بعد نزول سورة المائدة شملها هذا القول.
(4/25)
---(3/135)
شيء مهم أود أن أشير إليه جاء في هذه الآية بعدما بين ربنا -عز وجل- أنه أحل لنا بهيمة الأنعام وجه الخطاب إلى المخاطبين جميعاً فقال: ?فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ? وهذا هو ختام المحور الثاني الذي أتحدث عنه وختام يجب أن نتنبه له، أمر من رب العزة والجلال أن نجتنب الأوثان، نجتنب عبادة الأوثان نجتنب دعاء غير الله -تبارك وتعالى- والله -عز وجل- قد حرم علينا ذلك، وبين في كتابه أن كل رسول بعث إلى قومه ليحذر من عبادة الطاغوت، ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ? [النحل: 36] وأثنى الله -عز وجل- على أهل الإيمان فقال: ?وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ?17?? [الزمر: 17] وبين لنا ربنا أيضاً في كتابه أن إبراهيم -عليه السلام- دعا ربه وسأله أن يجنبه وبنيه ونحن منهم عبادة الأصنام ?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ? [إبراهيم: 35] فنجتنب إذن الرجس من الأوثان وربنا -سبحانه وتعالى- سماها رجساً والرجس هو الشيء المستقذر ?وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ? وعلى رأس الزور الشرك بالله -تبارك وتعالى- والقول الباطل قول الضلال الإفساد في الأرض والسعي في ذلك بالقول والفعل هو في الحقيقة من قول السوء، وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- كما في الصحيحين: (أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سئل عن أكبر الكبائر؟ فقال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على ماذا؟ على عظم قول الزور، وشهادة الزور وحرمة ذلك، عن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وهذا يدعو المسلم إلى أن يرتفع وينأى بنفسه عن أن يقول زوراً أو أن يشهد أو أن(3/136)
(4/26)
---
يقع فيه، فلا يضل ولا يكذب ولايتكلم المنكر ومن الزور أيها الكرام إنكار أو تكذيب بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا من الزور ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ?4?? [الفرقان: 4] وكل ما يتعلق بالضلال والمنكر والمعاصي من قول الباطل وما إلى ذلك من الزور ومن ذلك ما نص عليه القرآن الكريم قول الرجل لامرأته ويذكر هذا لأنه يقع كثيرا بين الناس وكثيرا ما أسأل عنه يقول الرجل لامرأته: أنتِ علي كظهر أمي وهي في الحقيقة ليست كذلك والله -عز وجل- سمى هذا من قول الزور فقال: وإنهم ماذا؟ لما قال: ?الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورً?.
المحور الثالث: كونوا حنفاء لله غير مشركين به:
(4/27)
---(3/137)
رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بعدما ذكر ما ذكر في الآيات السابقة ولا أريد أن أرجع إليها لأربط بينها فحديثي بها قريب بعدما أمر بطاعته وخاصة فيما يتعلق بالحج ومناسكه والذهاب إليه ونهى عن عبادة الأصنام وأمر باجتنابها وقول الزور وشهادة الزور كذلك أمر أو بين ما يجب أن يكون عليه أهل الإيمان فقال: ?حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ? يعني كونوا أيها المؤمنون مخلصين لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لا تعبدوا مع الله غيره لأن الحنيف هو الذي مال عن الباطل قصداً إلى الحق وتوجه إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ثم ضرب رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- مثلاً لمن أشرك به ووقع في الشرك بعدما قال: ?حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ? قال: ?وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ? ضرب له مثلاً: ?فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ? من أشرك بالله -عز وجل- مثله في الضلال والغواية والوقوع في أسفل سافلين كمثل من هوى من السماء فتخطفته الطير لأن الإنسان لو هوى من مكان عالٍ ستتمزق أوصاله وإذا تمزقت أوصاله وصار قطعاً جاء الطير فأخذ منه كما يحب لأنه لا يملك حراكاً أو دفاعاً أو ما إلى ذلك لأنه أشلاء أو أوصال هذا مثال يضربه الله لهذا المشرك إما أن تخطفه الطير أو يتمزق فتهوي به الريح في مكان سحيق، وما تضمنته هذه الآية جاء له ذكر في آيات أخر كقول الحق -تبارك وتعالى-: ?مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ? [المائدة: 72] وأيضًا ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى- وأنا أذكر هذا لكي أستفيد وتستفيدوا ونحذر من الشرك والمعاصي وما إلى ذلك تأملوا نداء أهل النار حينما ينادون أهل الإيمان وماذا يقول لهم أصحاب الجنان في ذاك الوقت: ?وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ(3/138)
(4/28)
---
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ?50?? [الأعراف: 50] وربنا -عز وجل- ضرب في سورة الأنعام مثلاً آخر يبين حيرة المشرك وضلاله وهي أن سعيه في وبار ?قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدٌّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ? [الأنعام: 71] هذا هو مثل، هذا أيضاً مثل آخر.
المحور الرابع: تعظيم شعائر الله من تقوى الله -تبارك وتعالى-:
(4/29)
---(3/139)
الله -عز وجل- بعدما تكلم عن المناسك والحج وبهيمة الأنعام والبدن وما إلى ذلك، بين أن هذا من شعائر الله -تبارك وتعالى- لأنه نص على أن البدن من شعائر الله كما قال: ?وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ? فالبدن من شعائر الله -عز وجل- وما فرض الله -عز وجل- على عباده من صلاة وزكاة وصيام وأمر بمعروف وغير ذلك من ألوان وأنواع البر من شعائر الله -عز وجل-، ومن يعظم شعائر الله -تبارك وتعالى- يكون هذا حاصل نتيجة تقوى القلوب، وهذا يدل على أن التقي هو الذي يخاف رب العزة والجلال ويعرف قدر ربه ومولاه ?ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ? ويدخل في تعظيم شعائر الله أول ما يدخل حسب سياق هذه الآية وورودها: البدن كما ذكرت ومن تعظيمها استسمانها واستحسانها يعني الإنسان ينتقي عندما يذبح لله أرقى الأشياء وأعلى الأشياء هذه البدن ذكر ربنا -عز وجل- إلى أن تنتهي فقال: ?ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ?32? لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ?33?? يعني هذه البدن لنا فيها منافع إلى أجل مسمى إلى أن يشاء الله بذبحها والمنافع في البدن كما أشرت إلى ذلك كثيرة, ثم محلها: نهايتها إلى أين؟ إلى البيت العتيق، كما قال رب العزة والجلال ?هدياً بالغ الكعبة? فنهاية هذا البدن عند بيت الله الحرام وذلك عند الانتهاء من النسك، أو أداء شعائر الحج كما فرض رب العزة والجلال وهذا يبين أو نستفيد من هذه الآية حينما قال ربنا -عز وجل- ?ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ? أنه لا يذبح لغير لله -تبارك وتعالى-، فالذابح يقصد بذبحه وجه الله -تبارك وتعالى-، ويؤي نسكاً لله -عز وجل- هذا ما وفق الله -تبارك وتعالى- إليه في هذا اللقاء, وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد(3/140)
(4/30)
---
وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الأخ الكريم من مصر يقول: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، بالنسبة لقول الله تعالى: ?وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ? هل ضامر من أضمر الشيء عقد النية مثلاً؟
لا... هو الضامر لأن هذا جاء بعد قوله تعالى: ?يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ? يعني راكب على الضامر والضامر في لغة العرب هو البعير المهزول الضعيف كما ذكرت.
طيب بالنسبة من ذبح لله فقد أشرك؟ من المتداول عندنا في العرف أن مثلاً الواحد لما يبني بيتاً أو يشتري عربية يقولون: اذبح لها، فيذبح بدون أي نية، يعني نية مثلاً أن يحصل بركة, هل هذا شرك؟
الأخ الكريم من الإمارات يقول: عندي سؤالان:
السؤال الأول: من يقول: إننا نتقرب إلى الله عن طريق هذا القبر أو هذا الولي هل يسمى مشركاً؟ لأننا عندما نتكلم معه يقول: نحن لسنا مشركين إنما هذه وسائل إلى الله -سبحانه وتعالى-؟
السؤال الثاني: هل إذا قيل إنه مشرك فهو يقول: لا إله إلا الله فإطلاق كلمة مشرك هل لها قيود؟ هل إذا قلنا: إنه مشرك يكون بالمعين ولا يشمل كل من عمل هذا العمل ولو كان جاهلاً بالحكم؟
الأخ الكريم من مصر كان يسأل عن الذبح لغير الله وهي عادة أن الناس الذي اشترى سيارة أو اشترى شقة جديدة يقولون له: اذبح لهذه السيارة؟
(4/31)
---(3/141)
لا يجوز بحال من الأحوال الذبح لغير الله -تبارك وتعالى- النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من ذبح لغير الله فقد أشرك) وأنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم-: ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ?1? فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ?2?? [الكوثر: 1، 2] أي انحر واذبح لربك -سبحانه وتعالى- فالذبح لا يكون إلا لله، ولعلي فهمت من سؤال السائل أنه إذا اشترى سيارة أو بنى بيتاً ربما يريد أن يشكر الله -عز وجل- مثلاً على ذلك وأن يدعو من يحب لكي يكرمهم على ما تفضل الله به عليه وأنعم به عليه فليكن ذبحه لله -تبارك وتعالى-، لا يقصد غير ذلك بذبحه إن فعل بهذه النية يعني على إكرام إخوانه أو أن نعمة جدت له فدعا إخوانه ليشاركوه فرحته على طعام له إن كان الله -سبحانه وتعالى- قد وسع عليه فيذبح لله ويكرم إخوانه ويقصد بهذا وجه الله -تبارك وتعالى-.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من الإمارات كان له سؤالان:
السؤال الأول: ما حكم التقرب إلى الله -عز وجل- عن طريق القبور؟
(4/32)
---(3/142)
أشكر في الحقيقة السائل - جزاه الله خيراً- لأنه تعرض لمسألة مهمة، نحن نعرف القبر وصفته في الإسلام ولا يجوز بحال من الأحوال أن يتوجه العبد بأي عبادة لغير الله -تبارك وتعالى- لا عند قبر ولا عند غيره، وكما تعلمون لما جاء رجل للنبي -عليه الصلاة والسلام- وقال له: (إني نذرت أن أذبح إبلاً ببوانة, فالنبي -صلى الله عليه وسلم- استفسر منه، هل كان هناك عيد من أعياد الجاهلية يقام) لماذا؟ لأنه لو كان هناك عمل من أعمال الجاهلية أو وثن يعبد للجاهلية فلا يجب أن يوفي هذا العبد بنذره في هذا المكان لأنه لا نذر في معصية الله -تبارك وتعالى- يجب على الإنسان أن يتوجه بكل عبوديته لله -عز وجل- وقد ذكرت أن الذبح عبادة، ?قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?162? لاَ شَرِيكَ ?163?? [الأنعام: 162، 163] فلا يجوز للعبد أن يتوجه بهذا لغير الله -تبارك وتعالى-.
وإن كان سؤاله الثاني: هل يسمى مشركاً بعينه من فعل هذا العمل وما هي قيود تشريك المعين؟
(4/33)
---(3/143)
في الحقيقة هذه أيضاً من المسائل الدقيقة التي سأل عنها السائل الكريم - جزاه الله خيراً- اعلموا أيها الإخوة أنه يجب أن نفرق بين الفعل والفاعل وهذه مسألة عقية مهمة، يجب أن نفرق بين الفعل والفاعل، فالذبح لغير الله شرك، وفاعله أتوقف عنه إلى أن تتحقق فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع، ما معنى ذلك؟ سآخذ دقيقة فقط أو دقيقتين لأهمية المسألة هذه، لو رأيت رجلاً يطوف بغير الكعبة أو يقف أمام قبر ومقبور ويقول له: يا فلان أعطني أو اشفي ولدي أو امرأة تقول: أريد ولداً أو ما إلى ذلك مما يفعله بعض الناس في هذه الأيام، هذا الفعل الذي يفعلونه هو في الحقيقة شرك، فعل شرك, أما الفاعل فلا أطلق عليه أو أصفه أو أوقع لفظ الشرك عليه إلا بعد أن أقيم الحجة عليه، فأعلمه وأبين له أن هذا من فعل المشركين، ومما يدل على ذلك أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما ذهب إلى غزوة حنين وكان معه بعض من أسلموا حديثاً وطلبوا أن تكون لهم ذات أنواط كما للمشركين يعني شجرة يعلقون عليها أسلحتهم, النبي -عليه الصلاة والسلام- ما قال لهم أنتم مشركون ذكر أن هذا من فعل المشركين قال: الله أكبر إنها السنن قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى ?اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ? [الأعراف: 138] ولم يقل لهم: جددوا إيمانكم لأنكم بهذا مشركون لماذا؟ لأنهم حدثاء عهد الإسلام، لم يعرفوه بعد ولم يتعلموه بعد ومما يمكن أن يكون مناسباً أن أقوله في هذا المقام، ما قاله الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وقد جاء هذا في المجلد الأول من الدرر السنية على الأجوبة النجدية، أقول هذا لأن بعض الناس يقول بأن أصحاب هذه الدعوة وهي دعوة على منهج أهل السنة والجماعة ولا تتسمى باسم معين إلا باسم أهل السنة والجماعة يكفرون من يفعل ذلك أو يطلقون عليه ألفاظ الشرك، وقد سئل الشيخ رحمه الله تعالى عليه، وقيل له: أنت تكفر الأعراب في البادية وتكفر من(3/144)
(4/34)
---
لم يذهب معك وتقول بأن من يفعل كذا مشرك. فأجاب - رحمه الله تبارك وتعالى- ما يبين أن الإنسان إذا لم تقم عليه الحجة لا يوصف بأنه مشرك، قال -رحمه الله- أنا لا أفعل ذلك وهذا الكلام موجود في الدر السنية في المجلد الأول ولعله ما بين الصفحة الخمسين والستين وما حولها قال: «أنا لا أكفر الذين يطوفون حول البدوي في مصر ولا حول الجيلاني في العراق وأعذرهم بجهلهم فكيف أكفر من لم يخرج معي ويمشي معي في الطريق» يعني يريد أن يقول: هؤلاء يفعلون أفعال الشرك ولكنه لا يصفهم ولا يكفرهم ولا يطلق عليهم هذا القول لماذا؟ هو يعذرهم بالجهل لأنهم لا يفقهون ولا يعلمون، ففرق إذن بين الفعل والفاعل، الفعل شرك أما الفاعل فلا أنزل الحكم عليه إلا بعد أن أقيم الحجة عليه التي بها يقتنع ويعرف أن هذا من أفعال المشركين، وأعتقد أن هذا الجواب لعله يكون نافعاً -إن شاء الله تعالى-.
فضيلة الشيخ وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية:
وكان السؤال الأول: لماذا نص الله -تبارك وتعالى- على سجود الشمس والقمر مع أنهما داخلان فيما ذكر أولاً؟
وكانت الإجابة:
قال بعض أهل العلم بأنها خصت بالذكر إنما ذكرت على هذا التنصيص لأنها قد عبدت من دون الله فبين أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة لله قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ? [فصلت: 37] الآية. انتهت الإجابة.
إجابة سليمة جدًا, وأشار فيها رب العزة والجلال كما أجاب المجيب إلى أن هذه الأشياء نص عليها لأنها عبدت من دون الله، تعرفون أن قوم إبراهيم كانوا يعبدون الكواكب وما إلى ذلك فبين الله أن هذه المخلوقات مربوبة في الله -تبارك وتعالى- فلا تعبد.
السؤال الثاني: اذكر ما وعد الله به المؤمنين في هذه الآيات؟
وكانت الإجابة:
(4/35)
---(3/145)
هناك أربعة أمور وعد الله بها المؤمنين في الجنة:
أولاً: المسكن في قوله تعالى: ?جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ?.
ثانيًا: الحلية في قوله تعالى: ?يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ?.
ثالثًا: الملبوس في قوله تعالى: ?وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ?، وهنا فائدة أن ما حرم الله على أهل الإيمان في الدنيا أحله لهم يوم الْقِيَامَةِ.
رابعًا: الطيب من القول في قوله تعالى: ?وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ?24??.
الجواب لا شك أنه سليم ومن الآية ونسأل الله -عز وجل- أن يمتعنا جميعاً بهذه الأمور الأربعة.
السؤال الثالث: عرف الإلحاد وما المراد به في قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ?؟
كانت الإجابة:
المراد بالإلحاد في الآية الهاء هنا عائدة على البيت الحرام ويرد هنا بمعنى هم، أي مجرد النية الجازمة على المعصية في البيت الحرام ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول، والراجح أنه هو سائر أنواع المعاصي والذنوب وقيل: لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو (كلمة غير مفهومة) لأذاقه الله من العذاب الأليم. انتهت الإجابة.
الإجابة لا شك أنها صحيحة ولكن أود أن أضيف إضافة يسيرة هذه الإضافة هي أن هذه الآية مخصصة من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) لأبين أن هذا ليس عند بيت الله الحرام (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) إلا من هم بسيئة في بيت الله الحرام، والله أعلم.
(4/36)
---(3/146)
الأخ الكريم يقول: ما حكم من يذبح لله وهو يعلم أنه لله ولكن يختار مكاناً مثل الأضرحة أو أماكن لم ينص عليها دليل؟ وما حكم من يذبح عند شرائه للسيارة أو بنائه للمنزل وهو يعلم أنه لله ولكن يلطخ بعد ذلك يده في الدماء ثم يلطخ البيت وغير ذلك؟
في الحقيقة كلاهما ممنوع، أما الذبح عند الأضرحة وما إلى ذلك فهذه ليست لله، هذا مما ذبح على النصب، وهذه من أفعال المشركين وللأسف الشديد من يفعلها لا يفهم ذلك، بل بعض من يفعلها يعني لو كان عنده بعيران أحدهما مات, كان يريد أن يضحي مثلاً بأحدهما والآخر نذره أن يذبحه عند ضريح من الأضرحة إذا مات الذي لله لا يأسف عليه، ولا يحزن، وإذا مات الذي وعد به الأضرحة يحزن ويشتد حزنه وإذا مات الذي للأضرحة وبقي ما لله أخذ ما لله ووضعه عند الضريح وهذه كلها من أفعال المشركين السابقين، ويجب أن يعرف المسلمون أمور دينهم وأن يرضأوا بأنفسهم كما أكرر عن الوقوع في مثل ألوان هذا الشرك الذي حذر ربنا -عز وجل- عنه في كتابه وبينه نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- في سنته، والحديث الذي سبق أن أشرت إليه: (لما جاء رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: إني نذرت أن أذبح إبلا ببوانة, فالنبي -عليه الصلاة والسلام- سأله واستفصل عنه، هل هناك عيد من أعياد الجاهلية؟ قال: لا، هل هناك وثن أو صنم من أصنام الجاهلية يعبد؟ قال: لا، قال: فأوف بنذرك) فيستفاد من ذلك أنه لا يجوز الذبح عند الأضرحة ولا عند الأصنام والأوثان ولا عند كل ما عبد من دون الله -تبارك وتعالى-.
(4/37)
---(3/147)
أما السؤال الثاني: فهذا أيضاً من الضلال، تذبح لله وتلطخ هذا لا يمكن أن تضع يديك فيه، أو تذبحه على عتبة البيت هذا يدل على أنه ليس لله، بعض الناس إذا فتح دكاناً ذبح على عتبة الدكان أو إذا اشترى أو بنى بيتاً جديداً أيضاً ذبح على عتبة البيت، هذا ليستجلب به البركة كما يزعم ويدفع عن نفسه العين أيضاً وهذا كله ليس من الدين في شيء ولا يجوز، العمل يجب أن يكون خالصاً لله -تبارك وتعالى- مبرأً من كل شائبة شرك يمكن أن يقع فيها الإنسان.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: هل السجود والركوع المذكور في الآية السادسة والعشرين معناه أن الصلاة كانت موجودة سابقاً؟ أرجو من فضيلة الشيخ أكرمه الله أن يدعو لي بحجة هذا العام؟
نتوجه إلى الله أولاً بما طلبت به ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا جميعاً حج بيته الحرام, نسأل الله لنا أن نعود ونزور وأن تتكرر زيارتنا لبيت الله الحرام وهو في الحقيقة أمل يشتاق إليه كل مؤمن، أما عن ما ورد في سؤال السائلة من ذكر الركوع والسجود لا شك أن العبادات كانت مفروضة من قبل على الأنبياء والمرسلين والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يتعبد يتحنث لربه في غار حراء ولا نعرف كيفية العبادة التي كان يتعبد بها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لربه ومن المعلوم أن الصلاة فرضت متى؟ فرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- متى؟
في ليلة الإسراء والمعراج
في ليلة الإسراء والمعراج، ومتى كان الإسراء والمعراج؟ متى كان؟ في أي عام؟ كان في العام العاشر من بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فرضت على النبي -عليه الصلاة والسلام- الصلاة بهيئتها التي نصليها الآن ولكن كان عند الأنبياء السابقين عبادات وشرائع يتعبدون بها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
الأخ الكريم يقول: هل أثر القدم الذي بالمقام هو أثر قدم سيدن ا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-؟
(4/38)
---(3/148)
والله هذه أمور ما عندنا فيها أدلة يعني ليست هناك أدلة على مثل ذلك والله أعلم بهذه الأمور ونحن لسنا متعبدين بمثل ذلك، ولن يسألنا رب العزة والجلال عن هذا وطالما أن السائل - جزاه الله سأل- فأود أيضاً أن ألفت نظر المستمعين أيضاً والمشاهدين إلى أن مثل هذه المكان الذي فيه قدم إبراهيم -عليه السلام- لا يتمسح به ولا يتبرك به، فنحن مأمورون بأن نطوف بالكعبة ولكن لا نعبدها، نحن نطوف بالكعبة تعبداً واستجابة لأمر الله -تبارك وتعالى-، فبعض الناس تجد يزدحم الطواف جدًا عند هذه البقعة التي فيها أثر قدم إبراهيم -عليه السلام- للبركة والتمسح وكل هذا أيضاً لا يجوز، ونحن كنا نذكر الآن قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ? ومن تطهير البيت أن لا يفعل عند بيت الله الحرام شيء من ذلك، فيا حجاج بيت الله الحرام انتبهوا لمثل هذه الأمور ولا تقعوا فيها.
هناك سؤال تكرر يقول: ما الفرق بين قوله تعالى في سورة الحج: ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ? وقوله تعالى في سورة البقرة: ?أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ? فلما اختير في الأولى ?وَالْقَائِمِينَ? وفي الثانية ?وَالْعَاكِفِينَ? وجزاكم الله خيراً؟
في الحقيقة ليس هذا اختياراً جاء هكذا الله -سبحانه وتعالى- لما قال: ?وَالْقَائِمِينَ? في الآية التي معنا ?وَالْقَائِمِينَ? أشار إلى المصلين كما ذكرت، وقلت بأن المراد بذلك من يقوم يصلي لله لأنه لا يخلو من حالات ثلاث.
(4/39)
---(3/149)
آية البقرة أفادت شيء آخر وهي ماذا؟ الاعتكاف، فأفادت أو أضافت أمراً آخر وهو بيان أن البيوت أعني بيوت الله -تبارك وتعالى- يعتكف فيها وأن الأنبياء والمرسلين وعلى رأسهم إبراهيم ومحمد -صلى الله عليه وآله وسلم- عليهم أن يطهروا بيوت الله -عز وجل- للطائفين بها وللعاكفين وللقائمين لله -عز وجل- بالصلاة، والعاكف يصلي لله -تبارك وتعالى- إذا جاء وقت الصلاة ولكن أشير إليه للإشارة إلى أن بيوت الله -عز وجل- أيضاً يعتكف فيها وأن الاعتكاف يكون في المساجد. والله أعلم.
الأخت الكريمة من السودان تقول: هل البيع والشراء يجوز في الحج؟
نعم، البيع والشراء يجوز في الحج بالأمور المباحة وطبعاً ألا يؤثر ذلك على أداء ما فرضه الله أو أوجبه عليك من النسك وقلت: بأن هذا من المنافع الداخلة في قول الله -تبارك وتعالى- ?لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ? وأيضًا نص على ذلك رب العزة والجلال في آيات الحج في سورة البقرة: ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ? [البقرة: 198] وهذا عام فيما يعود على الإنسان بنفع من تجارة وغيرها طالما أنه في دائرة الحلال وهذا من فضل الله -تبارك وتعالى- ورحمته بعباده.
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة من الأردت تقول: كيف نؤول حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أول مسجد وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى وبينهما أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة فصلِّ) متفق عليه صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع وفي الحديث الآخر: (أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالاً ثلاثة) الحديث أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- وصححه الحافظ في الفتح والألباني، الرجاء التوضيح حفظكم الله خاصة أن بين سليمان وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام قروناً عدة؟
(4/40)
---(3/150)
في الحقيقة المسألة هذه كنت أود أن أتعرض لها لكن ضيق الوقت وأرى بأنها يعني لا تعود بنفع كبير طالما أنني قلت ورجحت أن إبراهيم -عليه السلام- ليس هو أول من بنى البيت فحينما نعلم ذلك إذن لا يرد مثل هذا السؤال, وقيل أيضاً: إن سليمان ليس هو أول من بنى البيت، كلاهما جدد في البيت، القرآن الكريم أشار إلى ذلك في آيات عدة أشرنا إليها ولم أشر إلى بعضها كقول الله -عز وجل-: ?وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ? [البقرة: 127] يرفع القواعد من البيت إذن القواعد الأصول موجودة ولكنه رفع القواعد فإبراهيم -عليه السلام- هو لم يكن هو أول من بنى البيت وبالتالي لا يوجد هناك -إن شاء الله تعالى- خلاف أو تصادم بين أن بينهما ما ذكرت من أربعين سنة وأن ما بين إبراهيم وسليمان ما يتجاوز ألف سنة أو أكثر، فإبراهيم -عليه السلام- لم يكن هو أول من بنى بيت الله الحرام وبالتالي وبالتالي لا يرد علينا بفضل الله تعالى هذا الخلاف والله أعلم.
الأخ الكريم من فرنسا يقول: لماذا ذكر الله في هذه الآية اسم الله ولم يطلبهم بذكر اسم آخر من أسمائه؟ هل هذا يعني اسم الله الأعظم؟ أم ماذا؟ وجزاكم الله خير
في الحقيقة اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة المذكور في هذه الآية وقد رجح هذا كثير من أهل العلم وذكروا لذلك أسباباً منها: أن الأسماء كلها ترجع إليه ونحن نقول: الرحمن من أسماء الله، الصبور من أسماء الله، إلى جانب أن ذكر الله -عز وجل- هنا كما أشرت يفيد أن الأعمال يجب أن تكون كلها خالصة لرب العزة والجلال وأن الإنسان إذا عمل عملاً يذكر اسم الله عليه وقد قال أو فعل ذلك أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ألا هو نوح -عليه السلام- وقال ?وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَ? [هود: 41].
الأخت الكريمة من السعودية تقول: ما هو الأفضل عشر ذي الحجة أو العشر الأخيرة من رمضان؟
(4/41)
---(3/151)
أحسنت جزاهما الله خيراً، أيضاً هذا فيه خلاف بين أهل العلم والراجح -إن شاء الله تعالى- ما أشار إليه الإمام الحافظ ابن القيم في زاد المعاد، وهو جمع بين الأقوال فإن البعض قال بأن العشر الأول من ذي الحجة أفضل من العشر الأخيرة من رمضان، والبعض قال: لا العشر الأخيرة من رمضان أفضل، وجمع ابن القيم -رحمه الله تعالى- بين هذين القولين فقال: أيام العشر من ذي الحجة، الأيام ويعني بها النهار، أفضل من أيام العشر الأخير من رمضان، والليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل من الليالي العشر الأول من ذي الحجة، استند إلى ذلك إلى أن في ليل العشر من ليالي العشر الأخيرة من رمضان فيها ليلة خير من ألف شهر، واستند في المقابل إلى أن النهار لما ورد من أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تبين أن خير الدعاء دعاء عرفة وأكثر ما يعتق الله -عز وجل- رقاب الناس من النار في يوم عرفة وإنما رؤي الشيطان مدحوراً في يوم كيوم عرفة ويوم الحج الأكبر الذي هو يوم العاشر من ذي الحجة وفيها تؤدى معظم أعمال الحج وفيها الطواف بالبيت والذبح والحلق وما إلى ذلك وهذا جمع حسن جمع به ابن القيم -رحمه الله تعالى- الأقوال وأنا في الحقيقة أميل إليه وهي أن ليالي العشر الأخيرة من رمضان أفضل من ليالي العشر الأول من ذي الحجة، وأيام العشر الأول من ذي الحجة أفضل من أيام العشر الأخير من رمضان، والله أعلم، وإذا حصل خلاف في ذلك فلعله مدعاة إلى أن نجتهد في هذا وهذا لنرجو الفضل من الله في كل.
جزاكم الله خيراً فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه الحلقة؟
السؤال الأول: ما معنى ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ? ؟ وهل طهر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- البيت من الأصنام؟ وضح ذلك مستدلاً لما تقول بآية من القرآن الكريم.
السؤال الثاني: ما المراد بالأيام المعلومات؟ ولماذا نص على اسم الله في الآية؟ وما القول الراجح في قوله تعالى: ?فَكُلُوا مِنْهَ?؟
(4/42)
---(3/152)
السؤال الثالث: قال تعالى: ?ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ?29?? ما معنى ?تَفَثَهُمْ?؟ وما هو الطواف المقصود في هذه الآية؟
(4/43)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الخامس
التفسير/ المستوى الثالث/ الدرس الخامس
تفسير سورة الحج
فضيلة الشيخ: عبد الله شاكر
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم.
أهلا ًوسهلاً بكم وأرحب بكم وبالمشاهدين والحاضرين الكرام, وحياكم الله في هذه الحلقة الجديدة التي سنتناول فيها - إن شاء الله تعالى- بعضاً من آيات القرآن الكريم ومن سورة الحج - إن شاء الله تبارك تعالى- وهذا اللقاء سيدور حول محورين - إن شاء الله تعالى-:
المحور الأول: القصد من التشريعات الربانية، إفراد الله بالوحدانية.
المحور الثاني: الكبير المتعال يدافع عن أهل الإيمان.
هذه هي المحاور التي سأتحدث عنها - إن شاء الله تعالى- في هذا اللقاء بعد أن يتفضل الأستاذ الشيخ - جزاه الله خيراً- فيسمعنا هذه الآيات.
(5/1)
---(3/153)
?وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ?34? الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ?35? وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?36? لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ?37? إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ?38? أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?39? الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ?40? الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ?41?? [الحج: 34- 41].
(5/2)
---(3/154)
إن الحمد لله نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا وإمامنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم وسلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد...
أرحب بكم - أيها الإخوة الكرام- في هذا اللقاء المتجدد والذي يجمعنا كما سمعتم مع آيات من كتاب الله -تبارك وتعالى- نبتدئ فيها بقوله الحق جل ذكره: ?وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ? إلى آخر...... ما جاء في هذا السياق القرآني الكريم، وفي هذا الجزء من الآية يخبر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أنه جعل لكل أمة من الأمم ضرباً من القربان وإراقة الدماء, وكل ذلك أو الحكمة في ذلك هو ذكر الحق -تبارك وتعالى- ولكن هنا ملحظ يجب أن نقف عنده عند قراءتنا لهذه الآية وتأملها وتدبرها ?وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًاً? هذا يفيد أن كل أمة كما ذكرت لها منسك وهو ضرب من الذبائح والنحر يقدمونه لله -تبارك وتعالى- ليذكروا اسم الله -عز وجل- عليه, والفائدة التي أرى أن نفهمها من ذلك هي أننا نسارع إلى الخيرات ونتنافس في فعل الطاعات لينظر ربنا -سبحانه وتعالى- أينا أحسن عملاً، طالما أننا نشترك مع سائر الأمم السالفة أو السابقة في هذا الأمر فعلينا نحن أن نجتهد لنكون أسبق من غيرنا والدعوة إلى التنافس في الخيرات والمسارعة في فعل الصالحات أمر - كما تعلمون- مقرر في شريعة الإسلام, وما كان هذا كله إلا لإقامة ذكر الحق -تبارك وتعالى- جعل هذه المناسك وهي إراقة الدماء كما أشرت وذكرت العلة فيها ?لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ?، وقد سبق في لقاء(3/155)
(5/3)
---
سابق أن ذكرت لكم معنى أو المراد من ?بَهِيمَةِ الأنْعَامِ?، فمن يعلمني به الآن مستدلاً عليه بآية من القرآن الكريم، أو إن شئت قلت بآيتين؟ ولا تترددوا، ما المراد ببهيمة الأنعام, وقد سبق أن ذكرتها لكم؟ أفتح عليكم بالجواب وارد ذكرها في سورة الأنعام.
بسم الله الرحمن الرحيم ?ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ? [الأنعام: 143].
والآية التالية؟
?وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ? [الأنعام: 144].
(5/4)
---(3/156)
هذه هي بهيمة الأنعام التي سبق أن أشرت إليها وقلت بأن ما شرعه الله -عز وجل- لإقامة ذكر الحق -تبارك وتعالى- وأن يذكر اسم الله -عز وجل- وحده دون سواه ولتأكيد هذه الحقيقة ولأنها مقصودة من مثل هذه التشريعات، وقد عنونت لهذا المحور بقولي: القصد من التشريعات الربانية إفراد الله بالوحدانية أقول بأن ذكر الله -عز وجل- مقصود هنا ويؤكد ذلك قول الحق جل ذكره عقب هذا القول الذي ذكرته آنفاً في مطلع هذه الآية: ?فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُو?. إذن لا يذكر اسم الله -عز وجل- لماذا؟ لأنه هو الإله الواحد جل في علاه، تفرد بالوحدانية وتفرد بالألوهية فلا يجوز لأحد مهما كان أن يذبح لغير الله أو أن يتوجه بأي منسك مهما كان لغير الله -تبارك وتعالى- والأنبياء جميعاً جاءوا بهذا التوحيد ألا وهو إفراد الله -عز وجل- بالعبادة، قال الله جل ذكره: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ?25?? [الأنبياء: 25] فدين الأنبياء جميعاً دين واحد في الأصل والأساس قائم إلى الدعوة إلى توحيد الحق -تبارك وتعالى- ?إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ?98?? [طه: 98] جميع الأنبياء إذن اشتركوا في هذه الحقيقة لأن جميع الأنبياء كانت لهم شرائع يتعبدون الله -عز وجل- بها ومهما اختلفت الشرائع وتعددت ونسخ بعضها بعضاً في الديانات السابقة إلا أن الجميع يتفق على مبدأ واحد وعلى أصل واحد ألا وهو إفراد الله -سبحانه وتعالى- بالوحدانية، والتوجه إليه بجميع ألوان العبادة ?فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ? ولذلك جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم -صلوات الله وسلامه عليه- ثم يقول: والأنبياء أبناء عَلات, أمهاتهم شتى وأبوهم(3/157)
(5/5)
---
واحد) هذا حديث عظيم يقرر الأصل في جميع الديانات السماوية التي جاءت من عند الحق -تبارك وتعالى- ألا وهي أنها تشترك في أمر واحد ألا وهو الدعوة إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-.
(الأنيباء أبناء علات) ومعنى (أبناء علات) جاء شرحه في الحديث (أمهاتم شتى وأبوهم واحد) وأبناء علات يعني أبناء ضرائر وسميت ضرة لأن المرأة تتضرر كل واحدة منهما بالأخرى فقال: أبناء علات أمهاتهم شتى ولكن الأصل من؟ أبوهم واحد، ويعني بذلك أن أصل الدين وإن تنوعت شرائع الأنبياء والمرسلين أصله واحد، كما جاء من عند الحق -تبارك وتعالى-، فالأنبياء يدعون إلى عبادة الله -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه، أبناء علات كما ذكرت أمهاتهم شتى.
الأبناء إذا كانوا من أب وأم واشتركوا معاً في هذا ماذا يسمون؟ من باب الفائدة من يجيب عليه؟ الإخوة لأب يقال لهم: أبناء علات فإن كانوا من أب وأم؟
يقال لهم: أولاد أعيان أو أبناء أعيان، هذه يعني من الفوائد.
(5/6)
---(3/158)
?فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ? وهذا يعني أننا لا نذكر اسماً غير اسم الله -تبارك وتعالى- في أي منسك يقوم به الإنسان, ولا يتوجه العبد بأي لون من ألوان العبادة لغير هذا الإله الواحد -سبحانه وتعالى-، والآية - أيها الإخوة- تشير أيضاً إلى شيء من ذلك لأن الله قال: ?لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ? فالذي أعطاك وتفضل عليك هو الله -سبحانه وتعالى- الذي ملكك ومنَّ عليك هو رب العزة والجلال – سبحانه- فكيف تترك الخالق الرازق المتفضل الذي أعطاك ثم بعد ذلك وتذهب وتعطي غير الحق -تبارك وتعالى- هذا في العقل لا يجوز فكيف إذا جاء الشرع من عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- يحسم هذه القضية ويبين أن الإله الذي يتوجه إليه بالعبادة هو الذي خلق ورزق وأعطى وقدر -سبحانه وتعالى جل في علاه- ولذلك بعدما أمر بإفراده وحده بالعبودية قال: ?فَلَهُ أَسْلِمُو? يعني انقادوا لأمره، انقادوا لحكمه استسلموا لما جاء من عنده صدقوا بأنبيائه ورسله، ?فَلَهُ أَسْلِمُو? طالما أنه الإله المدبر الخالق الرازق فما يأتيك من قبله يجب أن تنقاد له وأن تخضع له وأن تذل لأوامره ?فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ? ختام جميل لهذه الآية ?الْمُخْبِتِينَ? قيل: هم الطائعون الخائفون الوجلون من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وورد عن عمرو بن أوس -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لا ينتصروا، يعني ظاهر ?وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ? أنهم الخاضعين الخاشعين القانتين وقيل: هم الذين لا يظلمون وإذا وقع عليهم ظلم من غيرهم لا ينصرفون لكي يأخذوا ثأرهم ممن ظلمهم وإنما يصبرون على من ظلمهم فلا يأخذون حقهم منه.
(5/7)
---(3/159)
الحافظ الإمام ابن كثير رحمه الله -تبارك وتعالى- هنا ذكر كلمة جميلة أحب أن أقيدها هنا لأنها تنفع كقاعدة أيضاً من قواعد التفسير قال: «أحسن ما يفسر به القرآن الكريم أن يفسر القرآن بالقرآن وعندما نأتي لنطبق هذه القاعدة على هذه الآية قال: ?وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ? قال نفسرها بما جاء بعدها، فما هي الصفات التي جاءت هنا بعد ذلك, بعد أن قال الله ?فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ?؟ قال: ?الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ? يعني: خافت قلوبهم ورجعوا وأنابوا وخشعوا إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ووجل القلب. والخوف من الله -سبحانه وتعالى- من أجل صفات عباد الرحمن بل هي من صفات المؤمنين حقاً برب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- كما ذكر ربنا ذلك في مطلع سورة الأنفال ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ?2?? [الأنفال: 2] إلى آخر هذه الآيات والسياق فيها يطول ولكن الله بعد آية أو آيتين قال: ?أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا? [الأنفال: 4] فالمؤمنون حقاً وصدقاً هم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم كما ذكر ربنا -عز وجل- هنا في هذه الآية، والوجل: هو الخوف والخضوع كما ذكرت وهي صفة جليلة لأهل الإيمان والله -عز وجل- قد وعد من خاف منه بوعود عظيمة جليلة منها ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ?46?? [الرحمن: 46] وكقوله سبحانه: ?وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ?40? فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ?41?? [النازعات: 40، 41] وبالتالي أرى نفسي مندفعاً إلى أن أناقش مناقشة هادئة يسيرة لمن ذهبوا إلى أنهم يعبدون الله -تبارك وتعالى- لغير قصد ولا غير غرض وأنهم يحبون الله
(5/8)(3/160)
---
ويعبدونه لأنه أهل لأن يحب وأهل لأن يعبد دون خوف من ناره ودون طمع في جنته, ذهب بعض الناس - وللأسف الشديد- إلى ذلك، قالوا: نحن لو قلنا بأننا نعبد الله لأننا نخاف من ناره ونطمع في جنته معنى ذلك أننا نكون قد عبدنا الله لغرض ونفع يعود علينا، وقالوا: نحن ننزه أنفسنا عن ذلك فنحن نعبد الله ونحبه لأنه أهل لأن يعبد وأهل لأن يحب -تبارك وتعالى- وهذا في الحقيقة قول غير سديد، لأن الخوف من الله وحب الله -تبارك وتعالى- والرجاء والطمع فيما عند الله -عز وجل- من صفات أهل الإيمان التي وصف الله -عز وجل- بها حتى أنبياء الله ورسله: ماذا قال الله عن زكريا -عليه السلام- لما طلب منه الولد ووعده الله به؟ قال: ?إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبً? [الأنبياء: 90] فلا يضر بحال من الأحوال أن يكون الله -عز وجل- أهلاً لأن يعبد وأهلاً لأن يُحمد وأهلاً لأن يُحب لما هو عليه من صفات الجلال والكمال - جل في علاه- ومع ذلك تعبده وأنت واجل أو خائف منه -تبارك وتعالى-، تعبده وأنت تطمع فيما عند الله -تبارك وتعالى- لأنك إذا خفت من الله ورجوت فيما عند الله -تبارك وتعالى- تكون بذلك كالطائر الذي يطير بجناحين ليقصد أو ليحقق هدفاً معيناً والطائر إذا طار بجناحين يصل إلى مبتغاه في الغالب إذا بذل وسعه وما يحتاج إليه في ذلك والعبد إذا اتخذ الخوف والرجاء وسار بينهما كجناحي الطائر هذا يؤدي به إلى الوصول إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لأن الخوف من الله يعصمه ويكون سداً منيعاً عن الوقوع في معصية الله -تبارك وتعالى- لأنه يخاف من عذاب الله -عز وجل- وحينما يطمع المؤمن فيما عند الحق -تبارك وتعالى- ويرجو رحمته هذا يحفزه في ألا ييأس من رحمة الله -تبارك وتعالى- إذا ارتكب معصية أو وقع في خطيئة, إذن من يقول بأنه يعبد الله ولا يخاف منه ولا يطمع في جنته مخالف لمنهج القرآن الكريم ولدعوة(3/161)
(5/9)
---
الأنبياء والمرسلين ولما كان عليه أولياء الله وعباد الله الصالحين وعلى رأسهم أنبياء الحق -تبارك وتعالى- كما ذكرت أدلة ذلك من القرآن الكريم.
أيضاً أود أن أشير هنا إلى مسألة أخرى، قال الله في هذه الآية: ?وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ? وقلت بأن المراد بالمخبتين هنا الذين يخافون الله -تبارك وتعالى- ويتواضعون وينيبون لله -عز وجل- هل هذا الخوف من الله إذا ذكروا ربهم -سبحانه وتعالى- يتعارض مع قول الله- جل ذكره-: ?الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ?28?? [الرعد: 28] هل هناك تعارض بين ?وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ? الخائفين, وإذا ذكر الله -عز وجل- خافوا, وبين من ذكرهم الله -عز وجل- بأنهم إذا ذكروه اطمأنوا؟ نقول: ليس بين ذلك تعارض بأي حال من الأحوال لماذا؟ لأن هذا يكون في جانب وهذا يكون في جانب آخر وكلاهما يحتاج إليه المؤمن كما أشرت سابقًا، فالمؤمن يخاف من الله -تبارك وتعالى- لماذا؟ لأنه يخشى عذاب الله -عز وجل- يخشى ألا يتقبل الله -عز وجل- منه، يخشى أن يتغير ويتبدل حاله والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان كثيرًا ما يدعو ربه: (يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك) وفي رواية (ثبت قلبي على طاعتك) فأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- سألته كثيرًا: (ما تذكره ذلك يا رسول الله) فماذا قال -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (يا عائشة إن قلوب العباد بين أصبعين بين أصابع الرحمن -تبارك وتعالى-، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ)، فالمؤمن يخشى أن يزيغ عن الحق الذي هداه الله -تبارك وتعالى- إليه ثم هو أيضاً مطمئن بذكر الله -تبارك وتعالى- وذلك لأن صدره ينشرح بذكر الله -تبارك وتعالى-، ينشرح بطاعة الله -عز وجل- فلما يطيع الله -تبارك وتعالى- ينشرح صدره وتطمئن نفسه ويسكن إلى ما وعد الله -تبارك وتعالى- به أهل الإيمان الذين استجابوا لله وللرسول-(3/162)
صلوات الله
(5/10)
---
وسلامه عليه-.
?وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ? من هم يا رب؟ وصفهم ربنا -سبحانه وتعالى- في هذه الآيات فقال: ?الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ? الآية التالية أو الوصف التالي: ?وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ? أهل الإيمان الذين تواضعوا وأخبتوا واستكانوا لرب العزة والجلال يتصفون أيضاً بصفة الصبر والصبر منقبة جليلة عظيمة لأهل الإيمان والله -سبحانه وتعالى- في كتابه بشر الصابرين ?وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ?155? الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ?156?? [البقرة: 155، 156] كما أن الله -عز وجل- يعطي الصابرين أجرهم بغير حساب، فالإنسان يحاسب على أعماله في كثير من العبادات التي يؤديها لرب العزة والجلال، وله عليها جزاء مقرر يعطيه رب العزة والجلال له، أما الصبر فقال الله عن أهله: ?إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ? [الزمر: 10] والصبر له فروع ثلاثة كما هو معلوم عند طلبة العلم:
- أن تصبر على طاعة الله -تبارك وتعالى-، يعني تذم النفس على الطاعة.
- وأن تصبر على أقدار الله -تبارك وتعالى-.
(5/11)
---(3/163)
- وأن تصبر عن معاصي الحق -تبارك وتعالى- فلا تقترف ما حرم الله جل ذكره. تصبر على طاعة الله لأن سلوك الطريق إلى الله -عز وجل- يحتاج إلى مشقة وصبر، قيام ليل, خضوع وخشوع, تلاوة, وذكر, صوم, وتسبيح, جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر, وما إلى ذلك... وكل هذه الأمور تحتاج من الإنسان أن يدفع نفسه وأن يذمها لله -تبارك وتعالى- ويصبرها على طاعة الله -عز وجل- أيضاً لا شك أن العبد يبتلى بأقدار الله -تبارك وتعالى-، فالدنيا ما فيها ما يفرح الإنسان وما يحزنه, ولابد فيها من بسمة ودمعة, يأتي هذا للإنسان والإنسان والله -عز وجل- قال: ?وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً? [الأنبياء: 35] فلابد أن يمتحن الإنسان ويبتلى الإنسان بأقدار الله -عز وجل- التي قد لا يرضى الإنسان عن شيء منها، فما عليك إلا أن يتذرع بالصبر يواجه به ما ينزل ويقدر الله -سبحانه وتعالى-.
أيضاً يصبر الإنسان عن اقتراف المعاصي والآثام فيحبس نفسه لأن شهوات الدنيا كثيرة والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث الصحيح يقول: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) فدواعي الشهوات تأتي إلى الإنسان من أماكن كثيرة ومتفاوتة, ومتفاوتة جداً والإنسان في ذلك يحتاج إلى أن يتذرع بالصبر ليقف أيضاً أمام هذه السيئات أو الموبقات أو المحرمات فلا يقترفها ويدعها ويتركها لله -تبارك وتعالى- يصبر فلا يقع في معصية الله -عز وجل-.
(5/12)
---(3/164)
فإذن من صفات هؤلاء المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم أنهم يصبرون ويتصفون بالصبر لله -تبارك وتعالى- ?وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ?، وكلاهما صفتان جميلتان جليلتان، ?وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ? والإشارة هنا بإقامة الصلاة يعني أن الإنسان يقيمها لله -تبارك وتعالى- كما أرادها الله -عز وجل- وكما شرعها وبينها لنا نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- كما أن على الإنسان أن يحسن قيام الصلاة لله -تبارك وتعالى-، يحسن الركوع يحسن السجود يحسن القيام يحسن الذكر يحسن حضور النفس لله -تبارك وتعالى- في الصلاة، ثم بعد ذلك هو يعطي مما أعطاه الله -تبارك وتعالى- ?وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ? يعني أنهم يؤدون حق المال الذي أوجبه الله -سبحانه وتعالى- عليهم، وهذا واجب على الإنسان أن يؤدي هذه العبادات لرب العزة والجلال -سبحانه- ونص الله هنا على الصلاة وإخراج المال ويعني بها الزكاة لأنها فرائض، الإنسان ربما يشح عنها يعني قد يكسل عن شيء من الصلاة وإذا أعطاه الله المال قد لا ينفق هذا المال في سبيل الله -تبارك وتعالى- ويصاب بشيء من الشح فذكرت هذه الآية إقامة الصلاة كما ذكرت الإنفاق في سبيل الحق -تبارك وتعالى- لكي يندفع الناس إلى القيام بالشعائر كلها لله -عز وجل- ويحرصوا على ما ذكره رب العزة والجلال لأن النفس قد لا تنصاع بسهولة لإقامة الصلاة وإخراج حق الله من المال كما ذكر ذلك رب العزة والجلال في كتابه وأشار إليه ربنا -سبحانه وتعالى- في أكثر من موضع.
(5/13)
---(3/165)
بعد ذلك يقول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ? الله -عز وجل- يمتن على هذه الأمة في هذه الآية فيذكر أن الهدي جعلها لهم من شعائر الله -تبارك وتعالى- والله -عز وجل- أمر أن تؤدى شعائر الحق -تبارك وتعالى- وأن تعظم كما أشرت إلى ذلك في اللقاء السابق، ?ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ?32?? [الحج: 32] والهدي أو البدن هنا المذكور في هذه الآية هو من شعائر الله -تبارك وتعالى-، والله -سبحانه وتعالى- عظمها وأكثر من ذكرها في كتابه، ومن ذلك قول الحق -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ? [المائدة: 2] فإذن رب العزة والجلال يعظم ذلك وهذا يدعونا - أيها المؤمنون- إلى أي شيء؟ إلى أن نعظم ما عظمه رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وأن نقوم لله -عز وجل- به والله -سبحانه وتعالى- وعدنا خيراً عميماً عظيماً على ذلك.
(5/14)
---(3/166)
?وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ? والعاقل يقبل على شيء شهد الله -عز وجل- بأن فيه خيراً له، العاقل يتفكر وينظر في هذه الآية لينظر أن الله شهد بأن هذه البدن وما تقدمه لله -تبارك وتعالى- يا عبد الله لك فيه خير هذا يجعلك ماذا؟ تقبل عليك أم تنصرف؟ تقبل عليها لله -تبارك وتعالى-، ثم بعد ذلك يبين أيضاً رب العزة والجلال – سبحانه- أنه ما شرع هذه الشرائع وما كانت هذه الشعائر إلا لإقامة ذكر الله -تبارك وتعالى-، فبعدما قال: ?وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ? كرر ذكر اسم الله -تبارك وتعالى-: ?فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ? وهذا يدعوك - أيها المؤمن- إلى أن تعيش مع الله -تبارك وتعالى- وأن تكون دائماً ذاكراً لله -عز وجل- وألا تذبح ذبحاً إلا وتذكر اسم الله -سبحانه وتعالى- عليه ولا تذكر اسماً غير اسم الله -تبارك وتعالى-، ومعنى صواف في هذه الآية يعني بها الإبل لأن الإبل تنحر بطريقة معينة تختلف عن الطرائق الأخرى التي تذبح بها كافة الحيوانات فهي تعقل قائمة واقفة على ثلاث معقولة رجلها اليسرى وهذا معنى صواف، وفي الصحيحين أن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-: (مر على رجل قد أناخ بدنته يذبحه) يعني: وضعها على الأرض يذبحها، فقال له ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: (أقمها على ثلاث معقولة رجلها اليسرى سنة أبي القاسم -صلى الله عليه وآله وسلم-) يعني: أرشده إلى أن يذبح هذه البدنة وهي قائمة على ثلاث معقولة رجلها اليسرى وهذه هي سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقرئ ?صَوَافيَ? وقال العلماء: صوافي يعني: خالصة لله -تبارك وتعالى- ?فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ?.
(5/15)
---(3/167)
هذا بالنسبة للطريقة التي أشار الحق -تبارك وتعالى- إليها, ثم قال بعد ذلك: ?فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا? يعني: ماتت وانتهت حركتها وسقطت على الأرض وجب عندئذ أن نبدأ في إنهائها وإعدادها لتناولها والأكل منها, وهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى-، ومن رحمة الإسلام بهذه الأنعام التي نذبحها لله -تبارك وتعالى-، وهي أنه لا يجوز لنا بحال بمجرد أن نذبح شيئًا من هذه الأنعام أن نبدأ في سلخها أو أن نقطع شيئًا من لحمها كي نأكله هكذا، لا، بل لابد أن تنتهي حركتها وأن تموت تماماً وأن تسقط على الأرض ثم بعد ذلك يبدأ الإنسان في أخذ حاجته منها بالطريقة المعروفة المعهودة.
(5/16)
---(3/168)
وهنا أود أن أشير إلى سماحة الإسلام ويسره وإلى أنه كيف يعتني حتى بالحيوان، وأوجه الخطاب إلى من يرفعون الصوت في هذه الأزمان وأنهم هم الذين يدافعون عن حقوق الحيوان، أين هؤلاء قبل أربعة عشر قرناً من الزمان؟ حينما نزل القرآن على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يأمره بهذا الأمر ?فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا? يعني أنك لا تأكل منها إلا بعد أن تصير على هذه الحالة وأين هؤلاء وهؤلاء من قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) الإسلام دين سماحة ويسر لا يعرف سفك الدماء ولا قتل الأبرياء وإنما يقيم دين الله -عز وجل- بالحق والعدل وهو رحيم بخلق الله -تبارك وتعالى- ليس مع بني البشر فقط، وإنما حتى مع الحيوان ومع البهائم التي لا تعقل, هذا هو النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقرر في سنتته يقرر الرفق بالحيوان ويدعو إلى هذا الرفق (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، ولا يخفى عليكم أيها الحاضرون والمشاهدون خبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي أخبر به بأن (امرأة دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، كما (أن بغياً من بغايا بني إسرائيل غفر الله لها لأنها سقت كلباً شربة ماء) أي رحمة أكثر من هذه الرحمة وأي عدل بعد هذا العدل وأي سماحة بعد هذه السماحة التي بعث بها محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
(5/17)
---(3/169)
?فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ? يعني أننا لا نأكل منها إلا إذا سقطت على الأرض وإذا ماتت وأصبحت لا تتحرك بدأنا بعد ذلك بأخذ بغيتنا منها بالأكل والتصدق بعد ذلك على القانع والمعتر، والقانع والمعتر ورد فيهما أقوال كثيرة، قيل: القانع المستغني وهو جالس في بيته بما عنده ولا يسأل الناس. والمعتر: هو الذي يسأل الناس، وقيل: القانع هو المتعفف والمعتر: هو الذي يعتريك يعني يتعرض لك ولا يسألك وقيل عكس ذلك، قيل: القانع هو السائل والمعتر: هو الذي يتعرض لك فقط ولا يسأل, وقد رجح الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله تبارك وتعالى- أن القانع هو الذي يتعرض للسؤال ويسأل وأن المعتر هو الذي يعتريك ويتعرض لك ولا يسألك، والمسألة في هذا الأمر سهلة والأقوال فيها متقاربة ولو سئلت عن شيء من ذلك فيكفيك أن تذكر واحداً مما ذكرت الآن.
بعد ذلك ونحن نتكلم عن ذبح الهدي والأضاحي أرى أن أتعرض لمسألة قبل أن أنتقل للآية التالية، لأننا نتحدث عن البدن والذبح لله -تبارك وتعالى-، متى تذبح الأضحية لله -عز وجل-؟ تذبح بعد صلاة العيد من يوم النحر، هذه هي سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- أن نذبح الأضاحي بعد صلاة العيد من يوم النحر وقد صح في ذلك الحديث الذي رواه البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله) يعني الذي يذبح قبل الصلاة لحم قدمه لأهله أما إذا صلى العبد عليه أن يذهب بعد ذلك فيذبح الهدي الذي سنه له رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
(5/18)
---(3/170)
هذه البدن الذي جعلها الله -سبحانه وتعالى- لنا، وامتن بها علينا يقول لنا عنها ربنا في كتابه: ?كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ? سخرناها يعني ماذا؟ يعني ذللناها لكم, جعلناها منقادة لكم، ويا إخواني هذه مسألة واضحة جداً ولكننا أحياناً مع إلفنا للأشياء تغيب عنا بعض الأمور هذا الحيوان, هذا البعير أضخم منك وأقوى منك وأكثر وزناً منك ومع ذلك سخره رب العزة والجلال لك وهذه نعمة نحن نشاهد وليدة صغيرة أو طفلاً صغيراً يقود بعيراً كبيراً يزنه أضعاف أضعاف من الوزن، ومع ذلك سخره الله -سبحانه وتعالى- وذلله له فقوله جل ذكره: ?كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ? نعمة من نعم الله -عز وجل- علينا وقد أشار إلى ذلك في سورة يس: ?أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ?71? وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ?72? وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ?73?? [يس: 71- 73] وهذا التسخير يحتاج إلى شكر, وكل نعم الله عليك يا عبد الله تحتاج إلى شكر ?كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ? لماذا؟ ?لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ? وهي دعوة يا عباد الله إلى أن نتوجه إلى الله -تبارك وتعالى- بالشكر، والشكر ليست كلمة تقال، وإنما هو عمل يقوم به العبد لله -تبارك وتعالى-، ربنا -سبحانه وتعالى- يقول: ?اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ? [سبأ: 13] فشكر الله -عز وجل- على نعمه ليست مسألة سهلة على حال من الأحوال وإنما تتطلب منك أيها المؤمن عملاً قوياً تقوم به لله -تبارك وتعالى-، وشكر الله -عز وجل- منزلة عالية لم ينلها إلا القليل من عباد الله الصالحين وأولياء الله المخلصين كما قال رب العزة والجلال: ?وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ? وقد أثنى الله -عز وجل- على بعض أنبيائه ورسله(3/171)
(5/19)
---
ووصفهم بهذه المنقبة العظيمة فقال مثلاً عن نوح -عليه السلام-: ?ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ? لماذا؟ ?إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا? [الإسراء: 3] وقال عن إبراهيم -عليه السلام-: ?إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ?120? شَاكِرًا لأنْعُمِهِ? [النحل: 120، 121] فالشكر منزلة عالية أيها المؤمنون يجب أن تحرصوا عليها ومعناها أن تقوموا لله -عز وجل- بما فرض الله عليكم، لأن الشكر عمل يحتاج إلى أن تقوم به لوجه الله -تبارك وتعالى-، وعلى رأس ذلك أن تشكر الله على نعمة الإيمان وأن تشكر الله على نعمة الإسلام وأن تشكر الله على نعمة بعثة النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن تشكر الله على نعمة الهداية والتوفيق.
ثم بعد ذلك قال رب العزة والجلال: ?لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ? يخبر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في هذه الآية أن ما نقدمه له وما نذبحه ونذكر اسم الله -عز وجل- عليه من أضاحي وغير ذلك لا يصل بشحمه ودمه ولحمه لله -عز وجل- وإنما ينال الله من ذلك إخلاصنا وتوجهنا لله -تبارك وتعالى-، والله -عز وجل- قال ذلك لأن المشركين كانوا يذبحون لأصنامهم فيزدادون بذلك شركاً وكانوا يفعلون شيئًا عجيباً إذا ذبحوا لأصنامهم إذا ذبحوا لأصنامهم قطعوا مما ذبحوه لحماً ووضعوه على الأصنام وأتوا بدماء هذه الذبائح ولطخوا بها أصنامهم التي يعبدونها من دون الله -تبارك وتعالى-، والله -عز وجل- يبين أن عمل المؤمن ليس كذلك؛ لأن الله لا ينال شيئًا من اللحم ولا من الدماء وإنما فرض ما فرض وشرع ما شرع -سبحانه وتعالى- كي نحصل نحن الفاعلون والمستجيبون لأوامر الله -تبارك وتعالى- نحصل تقوى الحق - جل ذكره- وهذا مقصد نبيل وهدف يسعى إليه كل مؤمن صادق في إيمانه.
(5/20)
---(3/172)
?لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ?37?? عاد لذكر التسخير والله -عز وجل- سخر هذه الأنعام كما أشارت الآيات الكريمة إلى ذلك في أكثر من موطن، ثم بعد ذلك يشير رب العزة والجلال إلى أن هذا التسخير وهذه النعم التي يفيضها رب العزة والجلال عليكم يا أهل الإيمان تحتاج إلى شكر وإلى ذكر وعلى رأس ما يذكر الله -عز وجل- في الأيام المباركة في أيام الأضحية وتقديم القرابين لرب العزة والجلال هو التكبير ولذلك قال ماذا؟ ?وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ? [البقرة: 185] ومن المشروع كما تعلمون ومن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يرفع صوته بالتكيبر في أيام منى وسُن لنا أن نذكر الله بالتكبير بدءاً من يوم عرفة إلى نهاية أيام التشريق، وهو ما يعرف بالتكبير المقيد الذي يكون في أدبار الصلوات وهناك تكبير مطلق يبدأ من أوائل ذي الحجة وكان صحابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يرفعون أصواتهم بالتكبير فهو شعار عظيم في أيام الحج ومناسكه لدرجة أن ابن عمر وهو جالس في خيمته في منى كان يذكر الله -عز وجل- بالتكبير ويرفع صوته به فيسمع الناس صوته فيرفعون أصواتهم بالتكبير حتى ترتج منى من التكبير، ولذلك نص الله -عز وجل- على ذلك: ?لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ? بشرى لكم يا أهل الإيمان بشرى عظيمة لمن؟ للمحسنين من هو المحسنون؟ الذين يعبدون الله كأنهم يرون رب العزة والجلال سبحانه ولذلك يخافون من الله -عز وجل- فيحسنون أعمالهم ويحسنون معتقداتهم كما أنهم يحسنون إلى خلق الله -تبارك وتعالى-، ?وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? [آل عمران: 134] كما أشار ربنا إلى ذلك في آيات أخر والإحسان هو أعلى درجات الإيمان، النبي(3/173)
(5/21)
---
-صلى الله عليه وآله وسلم- لما سأله جبريل عن الإحسان ماذا قال؟ قال: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذه أعلى مرتبة ينالها المؤمن عند الله -تبارك وتعالى-، ولذلك رب العزة والجلال كما أشرت يبشر هنا المحسنين وأخبر ربنا في كتابه أنه يحب المحسنين كما أخبر جل ذكره أن رحمته قريبة من أهل الإحسان فاحرصوا يا عباد الله على أن تكونوا من المحسنين والإحسان يكون بإحسان القصد والإخلاص والاعتقاد الصحيح لله -عز وجل- وإحسان العمل يعني إتقان العمل وأيضاً الإحسان إلى خلق الله -عز وجل- من نفع مادي ونفع دنيوي ونفع أخروي: نفع مادي بأن تقدم لهم ما يحتاجون إليه، ونفع أخروي بأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وكل ذلك يدخل في الإحسان.
المحور الثاني: الكبير المتعال يدافع عن أهل الإيمان:
(5/22)
---(3/174)
والله إنه لأمر جميل أن يتذكر المؤمنون دائماً أن الله -سبحانه وتعالى- معهم، وأن رب العزة والجلال وهو فوق عرشه يدافع عنهم وتأملوا هذه الآيات: ?إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ? يا أهل الإيمان ربكم -سبحانه وتعالى- معكم، يدافع عنكم, وكل مؤمن له قسط من هذا الدفاع، بحسب ما لديه من إيمان، فإن كان المؤمن مكثراً من الإيمان والعمل الصالح كان دفاع الله عنه أكبر، وإن كان مقلاً كان الدفاع عنه قليل، بحسب الدرجات، ولكن أبشروا يا أهل الإيمان واعلموا أن الله -سبحانه وتعالى- معكم وأنه -عز وجل- هو الذي يتولى الدفاع عنكم وهذا أمر يدعو المؤمنين إلى أن يسلموا وجوههم لله -تبارك وتعالى- ويتذكروا دائماً قول الحق جل ذكره: ?أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ? [الزمر: 36] يعني ربنا -عز وجل- لا يستطيع أن يحمي عباده وأن ينصر جنده وأن يقدم لهم ما يحتاجون إليه؟!! ?أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ? الله -عز وجل- يفعل ما يشاء وكل مؤمن عليه أن يكون واثقاً في وعد الله جل ذكره: ?وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ?171? إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ?172? وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ?173?? [الصافات: 171- 173] لماذا؟ لأن رب العزة والجلال معهم, وفي المقابل وطالما أنه معهم فليس مع أعدائهم بحال ونص على شيء من ذلك في قوله: ?إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ? وإذا كان الله لا يحب من هذه الصفة فلا يكون معه بحال من الأحوال والخيانة والكفر يكرههما ويبغضهما رب العزة والجلال من الأصل والأساس, وإن كان التعبير هنا فيه صيغة مبالغة ولكن الله -عز وجل- لا يحب أي خائن مهما كان، ولا يحب أي كافر مهما كان كفره ولو كان كفره على شيء قليل والدليل على ذلك ما ورد ذكره في القرآن ?وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ(3/175)
(5/23)
---
إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ?58?? [الأنفال: 58] جنس الخائنين لا يحبهم الله كذلك جنس الكافرين مهما كان كفرهم لا يحبهم رب العزة والجلال ?قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ?32?? [آل عمران: 32].
بعد ذلك ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?39?? هذه الآية كما ذكر أهل العلم نزلت في النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وصحبه، وهي أول آية جاءت فيها إشارة إلى شريعة الجهاد والقتال في سبيل الله -عز وجل- والقتال في سبيل الله -تبارك وتعالى- يقوم على أسس وعلى مقاصد فليس من باب الارتجال أو الفوضى يقوم به أي إنسان أو يفعله متى يشاء وإنما الجهاد في سبيل الله -عز وجل- كان لحكمة ومقصد ذلك أن أعداء الإسلام واجهوا المؤمنين ووقفوا ضدهم وحاربوهم وقتلوا منهم ما فعلوا وصدوا عن سبيل الله -تبارك وتعالى- فجاء الإذن بعد ذلك للمؤمنين بالقتال خاصة أن الله -عز وجل- شرع الشرائع وأمر وأوجب حج بيت الله الحرام، وقد سبق أن أشرت إلى أن الكفار يصدون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام الكفار يصدون عن سبيل الله فكان الجهاد ليدفع ظلم وبغي هؤلاء القوم الذين صدوا عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، ولذلك قال الله جل ذكره: ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?39?? كلمة ?وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?39?? يا إخواني تحمل معنيين عظيمين:
(5/24)
---(3/176)
الأمر الأول: بشرى لأهل الإيمان أن الله -سبحانه وتعالى- ناصرهم, وأنه -سبحانه وتعالى- قد وعد عباده ومن آمن به وصدق برسالة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعده بالنصر، ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ?51?? [غافر: 51] يعني: نصرك أيها المؤمن واقع وحاصل وقائم في الدنيا والآخرة، هذا هو المعنى الأول الذي نستفيده ?وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ? هو وعد الله -عز وجل- للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه ولكل مؤمن بالنصر على أعدائهم.
(5/25)
---(3/177)
الأمر الثاني: أن الله -سبحانه وتعالى- وهذا معنى مهم قادر على أن ينصر عباده دون قتال، ولكنه شرع الجهاد لحكم عظيمة غالية، الله -عز وجل- شرع الجهاد لحكم غالية عظيمة منها اختبار الصادق في إيمانه الله -عز وجل- يبتلي المؤمنين بالجهاد ليعلم الصادقين ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ?31?? [محمد: 31] وأيضاً لكي يتخذ رب العزة والجلال شهداء من هذه الأمة فيكونوا على رؤوس الأشهاد والخلائق يوم الدين والشهيد له منقبة عظيمة عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وكما أشرت الجهاد والقتال في سبيل الله -تبارك وتعالى- لم يشرع هكذا عبساً ولم يكن دون داع أو دون قصد وإنما تطلبته ضرورة ودعت إليه مواقف وذلك لما بغى أهل الشرك والضلال على أهل الإيمان وأخرجوهم من ديارهم ولذلك عقب ربنا -سبحانه وتعالى- بعد أن ذكر الإذن بالقتال والجهاد لأهل الإيمان عقب على ذلك بقوله: ?الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ? وهذه أيضاً في النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن معه؛ لأن المشركين أخرجوهم من ديارهم بغير حق ظلموهم في هذا الإخراج أخرجوهم لأنهم ماذا قالوا؟ قالوا ربنا الله وهذا دأب أهل الشرك والضلال في كل زمان ومكان أنهم يحاربون أولياء الله ويصدون عن سبيل الله ويقفون حجر عثرة في دعوة الناس إلى الحق والخير، وقد فعلت أمم سابقة كثيرة على أمة الإسلام مثل ما فُعل أو ما فعل المشركون بأصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فلا يخفى عليكم ما حدث من قوم إبراهيم لإبراهيم -عليه السلام- ولا يخفى عليكم ما حصل من أصحاب الأخدود للقوم الذين أحرقوهم لأنهم آمنوا بالله -عز وجل- وما نقموا منهم إلا ماذا؟ ?وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا? إلا ماذا؟ ?إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ?8?? [البروج: 8] كل(3/178)
(5/26)
---
الجرم الذي ارتكبه هؤلاء الناس الذين ألقي بهم في النار وخدت لهم أخاديد من نار جرمهم أنهم قالوا: ربنا الله، كذلك أهل مكة الذين عثوا في الأرض فساداً هؤلاء الذين ظلموا أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أخرجوا النبي -عليه الصلاة والسلام- وأخرجوا صحبه الذين كانوا معه لماذا؟ أخرجوهم من ديارهم بغير حق لأنهم قالوا فقط كلمة ربنا الله، وهي الكلمة التي جاء بها كل نبي وكل رسول يدعو الناس إلى الله -تبارك وتعالى-.
(5/27)
---(3/179)
?وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا? ?وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ? يعني لولا أن الله -عز وجل- يدفع بقوم عن قوم ويدفع شر قوم عن قوم لوقع هلاك كبير في الكون, ولكن الله -عز وجل- يدفع كثيرًا من الشرور بقضائه وقدره جل في علاه، فلولا أنه يدفع لهدمت صوامع، والمراد بالصوامع: هي معابد الرهبان، ولكنها تكون صغيرة، يعني مخصوصة أو محصورة على عابد واحد أو اثنين ولذلك سميت صومعة، ونحن نعرف في التاريخ نقول: فلان اتخذ له صومعة، ?صَوَامِعُ وَبِيَعٌ? وبيع هي مكان العباة للنصارى، وهي تكون كبيرة عن الصوامع، ?وَصَلَوَاتٌ? قيل: الصلوات هي معابد للمجوس وقيل: هي معابد لليهود وقيل أيضاً هي معابد للنصارى ثم قال: ?وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا? تلحظون - أيها الإخوة الكرام- أن الله -عز وجل- ذكر أولاً الصوامع والبيع والصلوات وأخر ذكر المساجد لماذا؟ لأن المساجد آخر ما يهدم، ولأن المساجد هي التي فقط أقيمت لذكر الله -تبارك وتعالى- ولأن المساجد هي التي يعبد الله -سبحانه وتعالى- فيها وحده دون سواه، وغير ذلك قد غير فيه أصحابه وعبدوا من دون الله -سبحانه وتعالى- ما عبدوا، أما أهل الإيمان فهم يعبدون الله -سبحانه وتعالى- الواحد القهار ولذلك أخر ربنا -عز وجل- ذكر المساجد لإبعادها عن الهدم، قال: ?لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ? وهذه تهدم وإذا هدمت لا حرج فيها اليوم لأنه يذكر فيها غير الله -عز وجل- أما المساجد التي شيدت لذكر الحق -تبارك وتعالى- فهي بيوت الله -عز وجل- في أرضه، ثم قال جل ذكره: ?وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ? وهذه منة أخرى من الله -عز وجل- على عباده، وهو قسم أقسم به رب العزة والجلال هنا أنه ينصر من ينصر دين الله -عز وجل-، لأن الله -عز(3/180)
(5/28)
---
وجل- ليس بحاجة إلينا أيها الناس، لما يقول: ?وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ? ما معنى من ينصره؟ هل الله -عز وجل- ضعيف يحتاج إلى نصر عباده له؟ كلا، وإنما المراد بنصرك لله -عز وجل- أن تقوم بامتثال أوامر الله -تبارك وتعالى-، وتنفيذ شرع الله -عز وجل- وأن تكون وقافاً عند حدود الله -تبارك وتعالى-، معظماً لحرمات الله جل ذكره والله -عز وجل- قد وعد عباده في أكثر من موطن من كتابه أنه سينصرهم إن نصروا دينه وأقاموا شرعه وطبقوا أوامره كما جاءت من عنده -سبحانه وتعالى-، وهذا يحتاج أيها المؤمنون إلى أن أوجه توجيهاً عاماً الآن إلى كل مؤمن عليه أن ينصر دين الله -تبارك وتعالى-، وأن يكون ممتثلاً أوامر الله -عز وجل- وأن يحقق التشريعات الربانية في نفسه ومن يعول، وأن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر حتى ينال ما وعد الله -سبحانه وتعالى- به أهل الإيمان وحتى لا يشك شاك في قدرة الله -عز وجل- على التنفيذ عقب وختم هذه الآية بقوله: ?إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ? فهو أقسم بذلك أنه سينصر من ينصره، ثم عقب على ذلك بقوله: ?إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ? فالله -عز وجل- قوي لا تقف أمامه قوة ?عَزِيزٌ? لا يغلبه شيء بحال من الأحوال فهو الذي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيءٌ -جل في علاه- ولذلك أقبلوا أيها المؤمنون على ربكم لتناولوا التمكين الذي ذكره رب العزة والجلال في هذه الآية التالية ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ?41??، وأرى أن أقف عند هذه الآية لأتناولها بداية في اللقاء القادم -إن شاء الله- بشيء من الشرح والتحليل مع الآيات التي سيتم حديثي عنها في اللقاء القادم -إن شاء الله تبارك وتعالى- وختاماً أصلي وأسلم على النبي المختار وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله.(3/181)
(5/29)
---
فضيلة الشيخ وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية.
كان السؤال الأول: ما معنى ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ? [الحج: 26] وهل طهر النبي -صلى الله عليه وسلم- البيت من الأصنام؟
وكانت الإجابة:
قال تعالى لنبيه إبراهيم -عليه السلام- ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ? والطهارة نوعان: حسية من النجاسة والأوساخ والقاذورات ومعنوية من الشرك والمعاصي وعبادة غير الله من الأوثان وغيرها.
ورد أن قبيلة جرهم أتت بالأوثان وعبدتها عند البيت وطهر إبراهيم -عليه السلام- بيت الله من ذلك كما أُمر، وكذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد طهر بيت الله من قاذورات المشركين ونجاساتهم ومنع العراة من الطواف بالبيت وحطم الأصنام عام الفتح وهو يتلو قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ?81?? [الإسراء: 81] متبعاً في ذلك ملة إبراهيم -عليه السلام- كما أمره ربه بقوله تعالى: ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ?123?? [النحل: 123].
انتهت إجابة السؤال الأول
إجابة صحيحة, وجزاها الله خيراً.
كان السؤال الثاني: ما المراد بالأيام المعلومات؟ ولم نُص على اسم «الله» في الآية وما القول الراجح في قوله تعالى: ?فَكُلُوا مِنْهَا? [الحج: 28]؟
وكانت الإجابة قال الله تعالى:
هنا إجابة السؤال الثاني مكان السؤال الثالث.
(5/30)
---(3/182)
روى البخاري معلقا بصيغة الجزم عن ابن عباس أن الأيام المعلومات هي الأيام العشر من ذي الحجة وهو مذهب الشافعي والمشهور عن الإمام أحمد وكثير من أهل العلم وقال ابن عباس هو يوم النحر وثلاثة أيام بعده وروي هذا عن ابن عمر والنخعي وذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه، ولأبي حاتم قول ثالث عن ابن عمر أنه كان يقول: الأيام المعلومات المعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده والمعدودات ثلاثة أيام بعد النحر، قال السدي وهو مذهب الإمام مالك بن أنس ومذهب أبي حنيفة أنها يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده، وقال ابن وهب: المعلومات يوم عرفة والنحر وأيام التشريق.
ونص على اسم الله ليذكر على بهيمة الأنعام عند النحر والذبح خلافاً للمشركين الذين كانوا يذبحون وينحرون لغير الله وتنفيذاً لأمر الله ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ?2?? [الكوثر: 2] والراجح في قوله تعالى: ?فَكُلُوا مِنْهَا? أنه يُحمل على الاستحباب كما في قوله تعالى: ?وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُو? [المائدة: 2] والله أعلم.
هذه صحيح وجزاهم الله خيراً.
كان السؤال الثالث: ما معنى ?تَفَثَهُمْ?؟ وما هو الطواف المقصود في هذه الآية؟
وكانت الإجابة:
قال الله تعالى: ?ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ? التفث هو الوسخ أي يزيل ما لحقهم من الوسخ والأذى يعني يتحللوا من الإحرام ويحلقوا ويغتسلوا ويتطيبوا والطواف المراد هنا هو طواف الإفاضة
نعم الجواب صحيح.
الأخ الكريم من مصر يقول: في قوله تعالى: ?وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ?27?? [الحج: 27] في قوله تعالى: ?يَأْتِينَ? يعني نعلم أن ?يَأْتِينَ? جملة أتت بعد نكرة فهي صفة، ولو بينتم لنا فضيلتكم هل هي صفة للرجال أو صفة وإذا كانت صفة لـ ?ضَامِرٍ? فلماذا أتت على الجمع ?وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ? ؟
(5/31)
---(3/183)
نُص في كتب التفسير - بارك الله- فيك أنها صفة للبعير الضوامر، وأفردت وجاءت جمعاً لأنه ليس بعيراً واحداً وإن ذكر البعير مفرداً إلا أن ما يأتي لا شك أنه من أماكن متفرقة وبالآلاف في السابق، والشاهد أن الآية أو ما جاءت فيها هو صفة أو الضوامر صفة للبعير، وهذا منصوص عليه لو فتحت أي كتاب من كتب التفسير ستجد هذا - إن شاء الله تعالى-.
الأخت الكريمة من الإمارات تقول: في الحديث: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه من الرقاب أكثر من يوم عرفة) أو كما قال -صلى الله عليه وسلم- سؤالي حفظكم الله؟ هل العتق للحجاج فقط؟ أم يشمل غير الحجاج؟
في الحقيقة الحديث ورد فيمن يقفون على عرفات وقد ورد بروايات متعددة وأنه نص فيه أو ذكر فيه أنه لم يُرَ الشيطان مدحوراً في يوم كهذا اليوم المبارك الذي هو يوم عرفة، ولكن أرى أنه إن أخلص العبد نيته لله -تبارك وتعالى- وتوجه إلى الله بالدعاء وصام في مكانه إن لم يحج وسأل الله -عز وجل- العتق من النار نرجو أن تشملنا جميعاً رحمة الله -تبارك وتعالى- ومن يحجب رحمة الله عن العباد؟!! ولكن الحديث حينما ذكره النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان مريداً به من هم في الموقف ولكن لم يمنع ذلك أن يشمل غيرهم بفضل الله -عز وجل- وتوفيقه ونرجو أن نكون من هؤلاء وأن تعمنا رحمة الله -تبارك وتعالى-.
سؤاله الثاني: وبالنسبة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) هل يكثر غير الحجاج من هذا الدعاء أيضاً وبالنسبة للحاج هل يكثر من التلبية أم من الدعاء الآنف ذكره؟
(5/32)
---(3/184)
جزاها الله خيراً، في الحقيقة نحن قد أمرنا الله -عز وجل- لأن نذكر الله -سبحانه وتعالى- في كل وقت في كل حين، ولكن آمل من إخواني المشاهدين والمستمعين أن يعلموا أن هناك أوقاتاً جعل لها النبي -صلى الله عليه وسلم- وجعل الإسلام وجعل لها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أشياء تفضل فيها عن غيرها، ومن ذلك يوم عرفة، فلما قال: (خير الدعاء دعاء عرفة) الدعاء كله خير، وهو مطلوب منك أن تدعو الله -تبارك وتعالى-، وأن تلح في الدعاء وأن تطلب من الله -عز وجل- ولكن من أفضل أوقات الإجابة ومن الأوقات التي هي مظنة أن يستجيب الله لمن دعاه هو يوم عرفة، هذا اليوم إذا ذكر العبد ربه ودعا رب العزة والجلال فيه على رأس ما يذكر العبد ربه ومولاه في هذا الوقت وفي هذا الموقف العظيم هو أن يرفع صوته بالتوحيد لله -تبارك وتعالى-، فيقول: لا إله إلا الله ولا يمنع ذلك أنه ينقطع عن التلبية؛ لأن التلبية أيضاً توحيد لمن؟ توحيد لله -تبارك وتعالى-، وإن كان قول لا إله إلا الله شعار الإسلام، ورأس الدين وهو العنوان على وحدانية الله -سبحانه وتعالى- دون سواه، فليكثر الحاج إذن ولا يتعارض مع قول لا إله إلا الله اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كما ذكر كذلك يكثر من التلبية وكلاهما مطلوبان من العبد في هذا الموقف وكلاهما يشعران بالتوحيد لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، والله أعلم.
ذكرتم فضيلتكم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للسيدة عائشة: (أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن) فهل يجوز الإشارة؟
وذكرتم أيضاً قوله تعالى: ?وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ? [سبأ: 13] فهل يتعارض مع قوله تعالى: ?وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ? [النمل: 40]؟
السؤال الأول تعني بالإشارة، الإشارة بإصبعين؟
الإشارة بأصبعين
(5/33)
---(3/185)
لا حرج أن العبد يفهم أو يوضح هذا وقد فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أشار بيديه إلى عينيه وأذنيه وهو يقرأ قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرً? [النساء: 134] ليأكد ويثبت على أن الله -سبحانه وتعالى- يسمع ويبصر وليس هذا فيه شيء من التشبيه لرب العزة والجلال سبحانه، فالله -عز وجل- أجلّ من أن يشبه أحداً من خلقه جل في علاه، ولا يتوهم متوهم أنه يكون كرب العزة والجلال أو أنه يشبه الله -عز وجل-، أين الله من المخلوق؟ أين العبد الضعيف من الخالق جل في علاه؟ فالله -عز وجل- حينما تطلق عليه أسماؤه الحسنى وصفاته العلا فتنصرف إلى ما يليق بجلاله وكماله حتى ولو أطلقت على المخلوقين شيء أطلق على المخلوقين من هذه الصفات شيء فلنعلم أن صفات المخلوق تناسب عجزه وضعفه وافتقاره وصفات الخالق تليق بجلاله وكماله -سبحانه وتعالى-.
الأمر الثاني؟
ذكرتم فضيلتكم ?وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ? [سبأ: 13] فهل يتعارض ذلك مع قوله تعالى على لسان سليمان: ?وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ? [النمل: 40]؟
لا يتعارض هذا بل كلمة ?وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ? يعني أن ما يعود عليه من نتيجة هذا الشكر يعود إلى نفسه هو، النفع نفع الشاكر يعود إلى من؟ يعود إليك أنت، فالله -عز وجل- كما ذكر في كتابه لا يستفيد ?مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ? [النساء: 147] فلا يعود إلى الله -سبحانه وتعالى- شيء من ذلك وإنما النفع عائد كله إلى العباد، وآية ?وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ? [سبأ: 13] خبر من الله -عز وجل- بأن من يقوم بشكر الله -عز وجل- بالعمل قليل.
ثم تبين الآية الأخرى أن الإنسان إذا فعل وقام بشكر الله -عز وجل- كما ينبغي بالعمل عاد ذلك على الشاكر، ونفعه يرجع إليه، وهو واضح إن شاء الله.
الأخ الكريم من السعودية له سؤالان:
(5/34)
---(3/186)
سؤاله الأول: هل البدن جمع البدنة، وهل تعني جميع أنواع الهدي من البقر والغنم والماعز؟
نعم، البدن جمع بدنة وهي تعني الإبل والبقر، وهي تجزئ عن سبعة، يعني البدن يعني تطلق على الإبل قولاً واحداً واختلف في إطلاقها على البقرة، والراجح أنها تطلق أيضاً على البقرة.
سؤاله الثاني: هل التكبير والتلبية في الحج بصوت جماعي فيه شيء؟ وهل هناك دليل على المنع أو الإباحة؟
التكبير بصوت جماعي غير وارد عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهذا هو دليل المنع من أن يكبر الناس جماعات جماعات لأن العبادات في الإسلام توقيفية، يعني نأخذها كما جاءت من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فما فعله نفعله وما تركه نتركه -صلوات الله وسلامه عليه- فلم يرد أنهم كانوا يكبرون جماعات وإنما كانوا يكبرون فرادى فنحن نقتدي بفعلهم في هذا الأمر، وهذا هو دليلنا على أننا نكبر فرادى اقتاءً بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الأخت الكريمة من الكويت تقول: ما معنى ?الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ?؟
والله ذكرنا أقوالاً متعددة في معنى ?الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ?، وقلت بأن قيل القانع: هو المستغني بما أعطيته وهو في بيته، والمعتر هو الذي يتعرض لك ولا يسأل، وقيل القانع: هو المتعفف، والمعتر الذي يعتريك أيضاً ويتعرض لك ولا يسأل، وذكر بعض أهل العلم وكما أشرت مال إلى ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان أن القانع يعني القانع قال بعضهم المتعفف قال: لا، القانع هو الذي يتعرض إليك ويسألك، أما المعتر: فهو الذي يعتريك ويتعرض لك عن بعد، ولا يسأل وكما ذكر هو كلها أقوال متقاربة.
(5/35)
---(3/187)
الأخ الكريم من الجزائر يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في بلادنا عادة يوم العيد يقوم مجموعة عند المحراب مثلاً الإمام وجماعته فيقومون بالتكبير والتهليل بصوت واحد متواطئ منغماً ويردد معهم من في المسجد بصوت واحد كذلك فهل هذا ما يدل عليه أثر عمر -رضي الله عنه- حين يكبر ويكبر بتكبيره الناس وما هي السنة في ألفاظ التكبير وطريقة أدائه من حيث الفرد والجماعة؟ وجزاكم الله خيراً.
هو في الحقيقة كما أشرت سابقًا للسائل الذي سأل عن التكبير وأنه يكون بطريقة جماعية أو كل واحد يكبر لنفسه الوارد من هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن كل واحد كان يكبر لنفسه، والقول بأنه كان يكبر والناس يكبرون بتكبيره، يعني أنهم إذا سمعوه يكبر كبروا أيضاً بتكبيره، ولو كبر كل واحد ورفع صوته وكل الناس تكبروا وجربوا هذا لن يكون هناك تشويش من واحد على الآخر وهذا أمر مجرب وقد أشار إلى ذلك أيضاً فضيلة شيخنا الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله تبارك وتعالى-.
يقول: وما هي السنة في ألفاظ التكبير وطريقة أدائه؟
السنة في التكبير وردت روايات متعددة لعل أصحها: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر,,, الله أكبر ولله الحمد، وورد هذا التكبير جاء بالصيغة مرتين الله أكبر الله أكبر، وورد أيضاً الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ورد هذا أيضاً ولكن الأول أصح وكان البعض يعني يزيد بعض صيغ التكبير في ذلك: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلاً, كل هذا قد وردت به آثار عن السلف ولا حرج فيه - إن شاء الله تبارك وتعالى-.
الأخ الكريم من مصر يقول: هل الذي بنى البيت الحرام الملائكة أم سيدنا إبراهيم؟
(5/36)
---(3/188)
قلت في الحلقة السابقة بأنه وردت آثار كثيرة في هذا عن المفسرين وأقوال للمؤرخين بعضهم قال: بأن الملائكة هي التي بنت البيت والبعض قال: بأن آدم هو الذي بنى البيت والبعض قال بأن شيث هو الذي بنى البيت والبعض قال بأن إبراهيم -عليه السلام- هو الذي بنى البيت، وقد ذكرت لكم كلمة الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- بأن كل ما يذكر عن هذا هو من أهل الكتاب وهم لا يصدقون ولا يكذبون في أقوالهم طالما أنه ليست عندنا نصوص تردها أو تقبلها ولكن ما يجب أن نلتزم به هو ما جاءنا خبر عن الله أو عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن ابن كثير قال: إن صح في ذلك حديث فعلى الرأس والعين، غاية ما أشرت إليه أنه يفهم من الآيات الواردة في بناء إبراهيم للبيت -عليه السلام- أنه هو لم يبنِ البيت، أو لم يكن هو أول من بنى البيت، لأن قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ? [البقرة: 127] يبين أنهما رفعا ماذا؟ رفعا القواعد، ولما هاجر إبراهيم -عليه السلام- بزوجه وابنه إسماعيل وهو طفل رضيع وضعهما أين؟ ?رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ? [إبراهيم: 37] فالبيت المحرم معلوم وأعلمه الله به قبل أن يقوم إبراهيم -عليه السلام- برفع البيت أو بنائه بعد ذلك فهذه إشارة إلى أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- والله أعلم.
الأخ الكريم من الولايات المتحدة الأمريكية يقول: هل المقصود في قوله تعالى: ?وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ? هو دفع المسلمين للكافرين؟ أم يكون أيضاً دفع الكافرين بعضهم ببعض؟
(5/37)
---(3/189)
هو في الحقيقة هذا يشمل هذا وهذا، فربنا -سبحانه وتعالى- يكف أذى المشركين والكافرين بالمؤمنين، كما أنه يدفع عن المؤمنين حينما يُشغل الكافرين بعضهم ببعض، فهذا أيضاً من دفع الله -سبحانه وتعالى- عن المؤمنين. والله أعلم.
الأخت الكريمة من السعودية لها سؤالان:
سؤالها الأول: هل صحيح أن الكافرين ندعوهم إلى الإسلام أولاً، فإذا لم يدخلوا في الإسلام أخذنا منهم الجزية وإذا لم يعطونا قاتلناهم؟
هذا ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أنه كان يبعث بعوثاً لدعوة الناس إلى الله -تبارك وتعالى- يدعو أولاً إلى الإسلام فإن دخلوا الإسلام فبها ونعمت، وهذا هو المطلوب، وإن أبوا فلتضرب عليهم جزية وليكونوا تحت المسلمين، فإلا فالقتال.
سؤالها الثاني: ما هو الأفضل إذا انتهى يوم عرفة: أن يفرح العبد لأن الله فضله للوقوف بعرفة؟ أم أنه يكون مهموماً خائفاً ألا يتقبل الله منه؟
(5/38)
---(3/190)
والله نأمل أن يجمع الإنسان بين هذا وبين هذا فهو يطمع في رحمة الله -تبارك وتعالى-، وفي نفس الوقت يخاف أن لا يكون الله -تبارك وتعالى- قد قبل منه ولكن أقول: إن أخلص العبد نيته لله وصدق مع الله -عز وجل- وحج من مال حلال لا يريد سمعة ولا يحج لغير الله -تبارك وتعالى-، فيرجى له القبول - إن شاء الله تبارك وتعالى-، والله -عز وجل- غفور رحيم إذا ذهبت إليه ولجأت إليه تفضل ربك عليك، وعليك يا عبد الله أن تحسن الظن بالله -عز وجل- ولكن اتخذ الأسباب والوسائل المشروعة الصحيحة المؤدية إلى ذلك، يعني أنت ابذل مالاً من حلال وأقصد وأصلح النية وأخلصها لله -تبارك وتعالى-، واذهب إلى هناك وكن مستيقناً واعُ الله -عز وجل- وأنت طامع وأنت ملح في الدعاء وتقبل على الحق -تبارك وتعالى- باليقين بوعد الله -سبحانه وتعالى- لك بالعفو والمغفرة وهذا اليوم يوم عظيم ورحمة الله -سبحانه وتعالى- واسعة، والإنسان لا يقنط ولا يخاف أن من أن تشمله رحمة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فلنصلح النية والمال, والله عليه التوفيق والسداد.
الأخ الكريم من السعودية يقول: ذكرتم أن الإبل يعقل رجلها اليسرى، بينما ذكر المؤلف يدها اليسرى ما هو الصحيح؟
والله يقال هذا ويقال هذا، هذه مسألة مختلف فيها بين العلماء هل يقال لها: رجل أو يقال لها: يد، والكل في هذا يعني سهل وواسع وهي إطلاقات ليس بينها تضاد أو تنافر، فإذا قلنا: يد أو قلنا: رجل فإن هذه المسألة اختلف فيها حتى الفقهاء في مسألة هل الإنسان ينزل على يديه أو ينزل على ركبتيه، والبعض قال: رجلي البعير في ركبتيه أو في يديه وخلاف يعني سهل ميسور - إن شاء الله تعالى- فإذا قلنا: تعقل رجله أمر جائز -إن شاء الله- وإذا قلنا تعقل يده فهو أمر أيضاً جائز -إن شاء الله- ولا حرج في ذلك، المهم أن تقوم على ثلاث، وأن تعقل رجلها أو يدها اليسرى والله أعلم.
(5/39)
---(3/191)
الأخت الكريمة من السعودية تقول: هل المعتكف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إن كان الإنسان معتكفاً في بيت الله الحرام، وذكرتم يعني من فضيلة المؤمن أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهل هو إذا كان معتكفاً هل يجوز له هذا؟
السؤال الثاني: ما هي أفضل أنواع الحج؟ يعني: أفضل أنواع الحج نعلم أن الحج ثلاثة أنواع، يعني أفضلها؟
السؤال الثالث: ذكرتم فضيلة الشيخ أن المال على الحاج أن يحج من مال حلال، أود أن أسأل فضيلتكم في مسألة إذا كان الشخص يعمل مع شركة وصاحب هذه الشركة يحجج الناس على حسابه فهل هذا يجوز أم من الأفضل أن يأخذ الإنسان من ماله الخاص؟
فضيلة الشيخ سؤالها الأول: هل المعتكف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟
في الحقيقة المشروع للمعتكف أن يفعل جميع أنواع البر، والخير ويكثر منها من قراءة القرآن الكريم والذكر والصلاة وما إلى ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفضل أنواع البر والخير، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة من شعائر الإسلام، وللإنسان فيها إذا فعل خير عظيم والدال على الخير كفاعله، فلا حرج أبداً ولا تناقض من أن يكون الإنسان معتكفاً وأن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما باختصار أفضل أنواع النسك، تعرفون أو تسمعون أنه فيه خلاف بين الفقهاء في ذلك والذي أراه والله أعلم والذي دلت عليه السنة أن حج التمتع هو أفضل أنواع النسك، الحج ثلاثة: إفراد وقران وتمتع، النبي -عليه الصلاة والسلام- حج قارناً ولكن أفضل أنواع الحج هو حج التمتع لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر أصحابه بعدما طاف باليبت وسعى بين الصفا والمروة أن يحلقوا رؤوسهم أو يقصروا وأن يقلبوا حجهم إلى عمرة، يعني يقلبوا الحج الذي لبوا به لله -عز وجل- إلى عمرة، فدل ذلك على أن التمتع أفضل أنواع الحج.
(5/40)
---(3/192)
أما الإنسان إذا حج على حساب غيره رغبة منه في أن يعطيه شيئًا من المال طالما أنه يعمل عنده ويحج من خلال ذلك فهذا من فضل الله -تبارك وتعالى- ولا نضيق واسعاً على المسلمين وحجه مقبول -إن شاء الله تبارك وتعالى- فهو يعمل عند صاحب المال وصاحب المال طالما أن ماله من حلال وهو الذي أعطاه إياه دون استشراف نفس منه وطلب منه أن يحج وساعده بذلك فكلاهما مأجور - إن شاء الله تعالى- وحجه مقبول -بإذن الله عز وجل-.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه الحلقة.
السؤال الأول: وعد الله عباده الخائفين منه بالجنة, اذكر ما يدل على ذلك من القرآن الكريم. وكيف ترد على من يزعمون أنهم يعبدون الله لا خوفاً من عقابه ولا طمعاً في جنته؟
السؤال الثاني: اذكر معاني الكلمات الآتية: ?صَوَافَّ?، ?وَجَبَتْ جُنُوبُهَا?، ?الْقَانِعَ?، ?وَالْمُعْتَرَّ?؟
السؤال الثالث: قوله تعالى: ?وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ? يشير إلى معنيين, اذكرهما.
(5/41)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس السادس
التفسير/ المستوى الثالث/ الدرس السادس
تفسير سورة الحج
فضيلة الشيخ :عبد الله شاكر
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالمشاهدين الكرام ويسرنا مجدداً أن نلتقي في هذا اللقاء المبارك - -إن شاء الله تعالى- ومع بعض آيات من كتاب الله -عز وجل- وسيدور لقاؤنا -إن شاء الله تعالى- في هذه الحلقة حول محاور كالتالي:
المحور الأول: تلسية الله لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بذكر المكذبين للأنبياء والمرسلين.
المحور الثاني: الشيطان ووساوسه للإنسان.
ويسعدني الآن أن أقدم لكم الأخ الكريم؛ ليقرأ علينا هذه الآيات فليتفضل, جزاه الله خيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(6/1)
---(3/193)
?وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ?42? وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ?43? وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ?44? فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ?45? أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ?46? وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ?47? وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ?48? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ?49? فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ?50? وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ?51? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ?52? لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ?53? وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ
(6/2)(3/194)
---
مُّسْتَقِيمٍ ?54??.
جزاك الله خيراً، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد.
أواصل الحديث في هذا اللقاء -إن شاء الله تعالى- مع هذه الآيات التي استمعنا إليها جميعاً الآن، وقبل البدء فيها أود أن أشير إلى الآية السابقة عليها ألا وهي قول الحق -تبارك وتعالى-: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ?41?? وهذه الآية كانت هي ختام الآيات التي تحدث عنها في اللقاء السابق وهي في الحقيقة وصف وبيان لمن مكنهم رب العزة والجلال في الأرض والمراد بالتمكين هنا: من مكنه الله -سبحانه وتعالى- على العباد بالسلطان وكانت لهم قوة ونفوذ, هؤلاء الذين مكنهم رب العزة والجلال لا شك أنهم يتصفون بصفات جميلة جعلت هذه الصفات رب العزة يمكنهم فيما مكنهم فيه وكانت سبباً في هذا التمكين وهذه الصفات هي صفات أربع:
الصفة الأولى: أنهم يقيمون الصلاة، يقيمونها لله كما أراد.
الصفة الثانية: أنهم يؤتون الزكاة.
الصفة الثالثة: أنهم يأمرون بالمعروف.
الصفة الرابعة: أنهم ينهون عن المنكر.
(6/3)
---(3/195)
وهذه الآية تفيد أن هذه الأوصاف تحققت في صحابة النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- لأن الله -عز وجل- مكنهم في الأرض وتفيد أيضاً أن خلافة هؤلاء الصحب الكرام -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- صحيحة وأنها كما أراد رب العزة والجلال سبحانه فلا يطعن على واحد منهم لأنهم جميعاً مكنهم ربنا -سبحانه وتعالى- في الأرض واتصفوا بهذه الصفات الجليلة الكريمة، وهنا قبل أن أنتقل من هذه الآية إلى غيرها، أود أن أشير وأن أدعو كل من مكنه رب العزة والجلال في الأرض وأصبح له سلطان ونفوذ على بعض البلاد أو العباد أن يعتني بهذه الأوصاف وأن يحقق هذه الصفات وعلى رأسها أن يقيم الصلاة بين العباد، وهذا أمر مهم للغاية فالصلاة - كما تعلمون أيها الإخوة الكرام - هي الركن الأول بعد الشهادتين وعليها يحاسب الإنسان عندما يقف بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ولابد للمرء أن يقيمها خالصة لله وأن يتعلم فيها هدي النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-.
أما آيات هذا اللقاء - وإن شاء الله تعالى- سأحاول أن أنتهي منها في هذا اللقاء أيضاً وهي تدور كما سمعتم وكما ذكرت في المحور الأول بالحديث عن الأمم السابقة على أمة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى المشركين الذين بعث فيهم رسول الهدى والرحمة -صلى الله عليه وآله وسلم-.
المحورالأول: تسلية الله لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بذكر المكذبين للأنبياء والمرسلين:
(6/4)
---(3/196)
وفي هذا يقول الحق جل ذكره: ?وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ?42? وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ?43? وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ?44?? هذه الآيات فيها تسلية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وبيان له، بأن الذين كذبوه من قومه إنما هم يفعلون ما فعل السابقون، فالأنبياء والمرسلون قبل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كانوا يقابلون بهذا التكذيب من أقوامهم, فكم من أنبياء بعثهم رب العزة والجلال ومن رسلهم كان مآلهم من أقوامهم ألا يتبعهم إلا القليل وألا يسير في ركابهم إلا أعداد يسيرة محدودة فتكذيب المشركين للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هي سنة لدى هؤلاء المكذبين والله -عز وجل- يذكر ذلك لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد ذكره له مراراً في القرآن الكريم كقول الحق -سبحانه وتعالى- مثلاً مبيناً له هذا الأمر وهو أن التكذيب كان واقعاً من قبل لكثير من الأنبياء والمرسلين: ?وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ الْمُرْسَلِينَ ?34?? [الأنعام: 34] ويقول سبحانه: ?وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى? [هود: 120] فقول الله -تبارك وتعالى- يوعظ النبي -صلى الله عليه وسلم- ويذكره ويعلمه بأن ما يحدث له من قومه من التكذيب والإنكار وما إلى ذلك إنما هو أمر قد حصل لمن قبله من الأنبياء والمرسلين، والمصائب أيها الكرام إذا عمت, مصائب الدنيا إذا عمت هانت، يعني إذن هذا فيه تسلية للنبي -عليه الصلاة والسلام-، معلوم أن المصيبة إذا عمت بين الناس وجد الناس فيها(3/197)
(6/5)
---
مسلاة ويؤكد ذلك ما قالته الخنساء في أخيها صخر:
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي
تقول: أنها تجد مسلاة وأسوة لها وتتصبر حينما تجد من حولها يبكي قريباً من بكائها وبهذه المناسبة خطرت الآن علي خاطرة أود أن أسأل فيها الشباب الآن وهي فائدة أود أن أعلمهم إياها: المصائب كما أقول في الدنيا إذا عمت هانت ووجد الناس فيها مسلاة فهل مصائب الآخرة كذلك؟ إذا عمت تهون؟ أو أن الأمر على العكس؟ مصائب الآخرة تتحقق في العذاب؟
العكس
ما الدليل؟ عندك دليل؟ الحقيقة ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- هذا في الجواب الكافي وذكر أن أهل المصائب يجدون مسلاة حينما تجتمع عليهم المصائب ولكن أهل النار لا يجدون ذلك حينما يعذبون وهم جميع، واستند إلى قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ?39?? [الزخرف: 39] وهذه الآية تفيد أيضاً أن المصائب حقاً تخفف عن أصحابها عند الاشتراك فيها.
الشاهد أن هذا فيه تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ذكرت الآية سبعة من الأمم التي كذبوا بالأنبياء والمرسلين بدئهم رب العزة والجلال بقوم نوح -عليه السلام- وقوم نوح كذبوه كما قال ربنا في كتابه: ?كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ?105?? [الشعراء: 105] وقال جل ذكره: ?كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ?9?? [القمر: 9]
أما النبي الثاني: فهو عاد -عليه السلام- والله -عز وجل- يقول: ?كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ?123?? [الشعراء: 123] وقال قوم عاد له والنبي المرسل إليهم وهو هود -عليه السلام- ?قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ?53?? [هود: 53] وهذا تكذيب له.
(6/6)
---(3/198)
أما النبي الثالث: فهو من أرسل إلى قوم ثمود، وهؤلاء أيضاً كذبوا بنبيهم صالح -عليه السلام- وفي ذلك يقول الحق جل ذكره ?كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ?141?? [الشعراء: 141] والله -عز وجل- أرسل مع صالح -عليه السلام- آية من الآيات ألا وهي الناقة، وصالح -عليه السلام- نبههم إليها وبين لهم كيف يتعاملون معها ومما قال لهم: ?نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَ? [الشمس: 12] ولكنهم أيضاً كذبوه ?فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَ? [الشمس: 13].
أما الأمة الرابعة: وهم قوم إبراهيم -عليه السلام-، كذبوه أيضاً وقالوا له أمرا عظيماً ?فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ? [العنكبوت: 24].
الأمة التي بعد: قوم لوط أيضاً ردوا على وجهه وهي أمة خبيثة والعياذ بالله -تبارك وتعالى- وكان ذنب لوط -عليه السلام- الذي اقترفه عندهم أنه كان شريفاً يحب الطهر والعفاف ?فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ?56?? [النمل: 56].
الأمة السابعة والأخيرة: قوم فرعون وما أدراكم ما قوم فرعون, أتاهم موسى -عليه السلام- ببينات متعددة وتعرفون ماذا ذكر القرآن عنه ولكنهم قالوا في الرد عليه كلمة مختصرة ذكرها القرآن الكريم ?وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ?132?? [الأعراف: 132].
ردوا إذن هؤلاء جميعاً على أنبياء الله ورسله بالتكذيب.
(6/7)
---(3/199)
بعد أن ذكر رب العزة والجلال هؤلاء جميعاً وأشار إلى تكذيبهم وذكرت الآن بعضاً من أقوالهم لأنبيائهم ورسلهم قال الله مباشرة: ?فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ? فأمليت للكافرين يعني أمهلتهم وأنظرتهم وأخرت العذاب عنهم شيئًا قليلاً ولكن هل تركوا هكذا بلا عذاب أو استئصال؟ كلا ثم كلا بل جاءهم من الله -سبحانه وتعالى- عذاب أليم، لأنه قال: ?فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ? وأتى بـ ?ثُمَّ? التي تدل على التراخي، يعني أنه أمهلهم شيئًا قليلاً ثم أخذهم -سبحانه وتعالى- بعد ذلك.
وقد بينت آيات القرآن الكريم أيضاً ماذا أرسل الله -عز وجل- على كل أمة, وما هو العذاب أو نوع العذاب الذي أصاب كل أمة من هذه الأمم.
الآيات ابتدأت بذكر نوح -عليه السلام- وما كان من قومه له وقوم نوح أهلكوا بماذا؟ أهلكوا بالغرق، ?فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ?11? وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ?12?? [القمر: 11، 12].
الثاني على حسب ترتيب الآية قوم عاد ماذا حصل لهم؟ أهلكهم الله -عز وجل- بأي شيء؟ بالريح ?وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ?41? مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ?42?? [الذاريات: 41، 42].
الأمة الثالثة: قوم صالح, ثمود, بأي شيء عذبهم رب العزة والجلال سبحانه؟ ?وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ?17?? [فصلت: 17].
(6/8)
---(3/200)
قوم إبراهيم ذكر المفسرون أن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أهلكهم بما ذكرهه عنهم في كتابه في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ?26?? [النحل: 26].
أما قوم لوط فتعلمون وتعرفون بأي شيء أهلكهم رب العزة والجلال – سبحانه- بأن قلب قرى اللوطية عليهم ?جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَ? [هود: 82] ويكفي هذا العذاب فيهم، مع قوله بعد ذلك: ?وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ? [هود: 82] هذا عذاب من الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة.
أما أصحاب مدين وهم قوم شعيب -عليه السلام- فأخذوا أيضاً بالصيحة ?وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ?94? كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ?95?? [هود: 94، 95] وأسأل إخواني الحاضرين: لماذا ختم الله -عز وجل- هذه الآية هنا ?أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ?؟ لماذا ذكر مدين مع ثمود؟ أنا أشرت إليها الآن في نوع العذاب.
لأن عذاب كلٍّ واحد
لأن عذاب كلٍّ واحد ما أهلك به ثمود هو ما أهلك به قوم أصحاب مدين، الذين هم قوم شعيب -عليه السلام-.
(6/9)
---(3/201)
أما فرعون وهو آخر أمة من الأمم المذكورة معنا في الآيات فأهلكه رب العزة والجلال كما جاء الحديث عنه في كتاب الله -عز وجل- كما جاء الحديث عنه في رب العزة والجلال كما جاء الحديث عنه في كتاب الله -عز وجل-، أغرقهم أيضاً رب العزة والجلال وأطبق عليهم البحر لما أرادوا أن يذهبوا إلى موسى -عليه السلام- وأن يسيروا خلفه في البحر بعد أن جعله الله -عز وجل- يعني جعله لموسى آية، البحر آية من الله -تبارك وتعالى- أراد فرعون عليه - لعنة الله ومن معه- أراد أن يستفيد من هذه الآية ومن هذا التكريم فما كان منه إلا أن أذاقه الله -عز وجل- أيضاً العذاب الأليم ?حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ?90?? [يونس: 90] ولم ينفعه ذلك.
هذا هو معنى قول الحق -تبارك وتعالى- عن هؤلاء جميعاً ?فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ? والأخذ هنا أخذ استئصال وعذاب أليم ولذلك في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (إن الله يملي للكافر (للظالم) حتى إذا أخذه لم يفلته) يعني الله -عز وجل- قد يمهله يعطيه فرصة لعله يعود أو ليقيم الحجة عليه ثم إذا أمهله أخذه أخذ عزيز مقتدر، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما ذكر هذا الحديث قرأ بعده مباشرة قرأ قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ?102?? واللهِ إنها آيات فيها من العبر ما فيها ولو أن المشركين في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقهوا معنى هذه الآيات ومعنى ما ذكره رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- عن الذين كذبوا سابقًا الأنبياء والمرسلين لرجعوا إلى الحق -تبارك وتعالى- ولآمنوا ولصدقوا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(6/10)
---(3/202)
والسياق متصل بعد ذلك بعدما ذكر ربنا -عز وجل- أنه أملى للكافرين ثم أخذهم ذكر في الآية التالية: ?فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ?45?? يبين رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في هذه الآية الكريمة أنه كم أهلك من القرى. لأن ?فَكَأَيِّن? هنا بمعنى كم الخبرية التي تفيد الكثرة ?فَكَأَيِّن? يعني كثير من الأمم التي أهلكها رب العزة والجلال حالة كونها ظالمة وظلمها بتكذيبها للأنبياء والمرسلين وعدم الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- رب العالمين، ثم ذكرت الآية صورة وهيئة هذه الأمة أو الأمم التي أهلكها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وحينما صورها القرآن الكريم وكأنك تنظر إليها تشعر بمنظر مفزع مقلق مؤلم، قال: ?فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا? العروش هي السقوف، وقول الله تعالى: ?فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا? يفيد شدة وقبح المنظر الذي هم عليهم من أين؟ لأنه قال: ?فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهاَ? العروش هي السقوف وهذا يفيد أن السقوف سقطت أولاً ثم سقطت فوقها العروش، وهناك يا أيها الناظر تجد بئراً معطلة، كان يردها الناس ويشربون منها وتشرب منها أنعامهم وتشرب منها دوابهم وكانوا يشربون أو يسقون منها ما يحتاج إليه من ثمارهم وزروعهم ولكنها أصبحت الآن معطلة.
(6/11)
---(3/203)
أيضاً ?وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ?، قصر مشيد: هو العالي، الكبير، القصر المنيع، وذكر فيه تفسيرات متعددة وكلها بمعنى أن هذا شيء جميل؛ لأن البعض قال: المشيد هو المبني من الجص، يعني أشياء جميلة مزخرفة، وفائدة الإشارة إلى ذلك أنها أصبحت خاوية لا يستفيد منها أحد وأن القصور كانوا يسكنونها فزالوا وبقيت قصورهم عبرة لمن يأتي بعدهم بعد ذلك, ثم فائدة أخرى هي أن هذه القصور لم تنفع ولم تحمِ من كان فيها، وكأن هذه الآية تذكر بقول الحق -تبارك وتعالى-: ?أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ? [النساء: 78] فلو كنت حتى في قصر عالي منيع مهما كنت, مهما وصلت يا أيها الإنسان في هذه الحياة الدنيا فسيأتيك قدر الحق -تبارك وتعالى-.
(6/12)
---(3/204)
ثم بعد ذلك تأتي الآية التالية والسياق أيضاً يتحدث مع الكافرين والمشركين الذين سيقت إليهم هذه الآيات وذكر الله -عز وجل- في آيات أخر كثيرًا ممن كذبوا وما حاق بهم فيعتبر هؤلاء المشركون تشير الآية التالية إلى المشركين ليتأملوا وينظروا فيقول رب العزة والجلال سبحانه: ?أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَ? هذه الآية ترشد أهل مكة المكذبين للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يسيروا في الأرض بأبدانهم وأن يفكروا بعقولهم ويتأملوا, فيسيروا بالأبدان ويفكروا أيضاً بالعقول والبصيرة التي غفل عنها هؤلاء الناس ولما غفلوا حجبها الله -سبحانه وتعالى- عنهم، وختم بذلك أو بسبب ذلك على قلوبهم، الله -عز وجل- يأمر هؤلاء أن يسيروا في الأرض وقد أمرهم في آيات كثيرة أن يسيروا في الأرض ليتأملوا قال سبحانه: ?أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ?10?? [محمد: 10] وخاطبهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- مرة أخرى مبيناً أنهم كم من مرات يمرون على ديار أقوام أهلكم رب العزة والجلال ولكنهم أيضاً لا يستفيدون من ذلك، كانوا يمرون على أقوام أهلكم ربهم وهم لا يستفيدون، ?وَإِنَّكُمْ لّتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ ?137? وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ?138?? [الصافات: 137، 138] يا أيها القوم المخاطبون ألا تتذكرون؟ ألا ترجعون؟ وهذه الدعوة للمشركين إلى أن يتأملوا في آيات التنزيل الحكيم وأن يعملوا عقولهم وأن يسيروا في هذا الكون، سير نظر واعتبار وتأمل ليصلوا إلى حقيقة غائبة عنهم، ألا وهي التسليم والتصديق والإذعان لرب العالمين خالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى- وأن يوحدوه وأن يفردوه بالعبادة ولكنهم يسيرون ولا يتأملون لأن لهم قلوب كما ذكر رب(3/205)
(6/13)
---
العزة والجلال في آيات آخر لا يعقلون بها ولهم آذان ولكن لا يسمعون بها، والله -عز وجل- لذلك ختم هذه الآية بما يفيد هذا المعنى فقال: ?فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ? وهذا استنبط منه بعض أهل العلم كلمة هي حكمة في الحقيقة، ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، أو عمى القلب، ليس العمى عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، ?فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ? كم من أناس تجده أعمى البصر ولكن إذا ذكر تذكر ويفتح الله -سبحانه وتعالى- عليه، فيجيل بفكره وخاطره فتجده من أولياء الله الصالحين وعباد الله المتقين وعبد الله بن أم مكتوم الصحابي الجليل ليس عنا ببعيد، والقرآن الكريم أخبر أنه لا يرى بمعنى أنه أعمى البصر ولكن بصيرته متوقدة، فلما كانت تتلى عليه آيات الله -عز وجل- يستفيد منها وينتفع، ?عَبَسَ وَتَوَلَّى ?1? أَن جَاءَهُ الأعْمَى ?2? وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ?3? أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ?4?? [عبس: 1 - 4] فكان يتذكر - رضي الله تعالى عنه- وهو رجل أعمى ومع ذلك تنفعه هذه الذكرى، وكم من أناس من الله -عز وجل- عليهم بالأبصار ولكن قلوبهم قد عميت عن الحق فلا يجد الحق إليها منفذاً، وهي دعوة أيضاً أيها الإخوة الكرام أن لا نأخذ الناس بظاهر الآحاد وإنما علينا ماذا؟ علينا أن نأخذ الناس بما هم عليه في الواقع وبما هم عليه من إيمان وتصديق واتباع للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويستفاد من ذلك أيضاً ألا تغرنا المظاهر التي هي عند بعض الناس واجهة ملونة مزخرفة ولكن في حقيقة الأمر تكون قلوبهم خربة لأنهم لم يؤمنوا بالله ولم يتابعوا رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - وصدق الله في قوله: ?فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي(3/206)
الصُّدُورِ
(6/14)
---
?46??.
ثم يقول رب العزة والجلال والحديث ما زال متصلاً مع هؤلاء المشركين المكذبين للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ?وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ? ما أجمل آيات القرآن الكريم, حقاً إنه كلام صدق وكلام حق، ?وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا? [النساء: 82] تأملوا معي السياق وجمال التعبير وحسن الصياغة، ?وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ? هذه كلمة عن المشركين , رد الله عليهم ماذا؟ ?وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ?، الخطاب للنبي -صلوات الله وسلامه عليه- هؤلاء الناس يطلبون العذاب ويستعجلونه طغياناً وعناداً يطلبونه من من؟ من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكم من مرة ومرة، طلب هؤلاء العذاب, وسجل القرآن الكريم ذلك عنهم، ?يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ?54?? القرآن يأتي بهذه الآيات كي يرتدعوا كي ينزجروا لما قال: ?يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ? عقب عليها بقوله: ?وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ? وهنا ?يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ?.
(6/15)
---(3/207)
وأيضاً واقع هؤلاء المشركين واقع فعلاً من عمي قلبه وعميت بصيرته، وتأملوا في آية أخرى لما استعجلوا العذاب ماذا قالوا لربهم؟ ماذا قال هؤلاء المشركون لربهم لما استعجلوا العذاب؟ وطلبوه من النبي - صلوات الله وسلامه عليه-: ?وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ?32?? [الأنفال: 32] لو أن هؤلاء يعقلون أو عندهم أدنى فهم لقالوا: لو كان هذا هو الحق من عندك ماذا؟ فاهدنا إليه, فوفقنا للصواب، فدلنا عليه، فخذ بأيدينا إليه. طالما أنه حق، وإنما يقولون: إن كان هذا هو الحق فائتنا بالعذاب، ?فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ? [الأنفال: 32] وهذا يبين يا إخواني ويدل على أن الكفر فعلاً يعطي غشاوة على صاحبه، يعطي غشاوة على قلبه فلا يجد الإيمان سبيلاً إليه.
وقول الحق -تبارك وتعالى- ?وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ? يعني أنه إذا أمهل عنهم العذاب -سبحانه وتعالى- فإن عذابه واقع لا محالة، وسيأتيهم مهما طال الزمن أو قصر، وقد يظنون هؤلاء أن إمهال الله -سبحانه وتعالى- لهم لأنه ليس قادراً على أن يفعل ما أوعدهم به سبحانه ولذلك قال لهم: ?وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ? يعني وعد الله -عز وجل- في إهلاك المكذبين الظالمين سيأتي لا محالة، كما أن وعده -سبحانه وتعالى- بإكرام أوليائه قائم أيضاً في الدنيا والآخرة ولكن على هؤلاء أن يتمهلوا, على هؤلاء أن يتريثوا ولذلك ربنا -عز وجل- أراد أن يبين لهم هذا الإمهال فقال: ?وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ? يعني يوم عند رب العزة والجلال كألف سنة مما يعده العباد.
(6/16)
---(3/208)
وقول الله -عز وجل- في هذه الآية وذكره بأن اليوم عنده كألف سنة مما نعد، جاء مثله في سورة السجدة ?يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ?5?? [السجدة: 5] وجاء في سورة المعارج بأن مقدار اليوم خمسين ألف سنة، هل هناك تعارض بين هذه الآيات؟ نتحدث عن هذا ولا ما رأيكم؟ هل هناك تعارض بين هذا؟ لا، هذا كلام رب العزة والجلال وله توجيه.
(6/17)
---(3/209)
اليوم كألف الوارد في سورة الحج قيل: من الأيم الستة التي خلق الله -عز وجل- الدنيا والسماء فيها والأرض فالله -عز وجل- خلق السماء والأرض وما بينهما في كم يوم؟ في ستة أيام، اليوم كألف سنة، هذا الوارد في سورة الحج، أما اليوم بألف في سورة السجدة هذا الزمن عروج الأمر وسير الأمر إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، اليوم فيه كألف عند الله كألف مما نعد نحن أما خمسين ألف سنة فهذا خاص بيوم القيامة فقط، وقيل أيضاً بأن الألف كالخمسين وإنما الأمر في الزمن ومقداره على اختلاف حال الناس، وهو المراد به يوم القيامة، بمعنى أن يوم القيامة يشعر به الكافر على أنه طويل، وكبير خمسين ألف سنة، والله -عز وجل- بين شدة هذا اليوم على الكافرين فقط، ?فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ?9? عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ?10?? [المدثر: 9، 10] أما هذا اليوم فيخفف على المؤمن، فهو إن كان عند الكافر خمسين فهو عند المؤمن أقل من ذلك بكثير، ويؤيد هذا ما أورده ابن أبي حاتم وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-: (بأن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام) وهو مقدار نصف يوم ما ذكر رب العزة والجلال في كتابه، وقد ذكر هذا ابن جرير أيضاً موقوفاً وصحح العلماء كثير أو كثير من العلماء صححوا هذه الرواية الواردة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في ذلك، ثم يعود السياق مرة أخرى هو أيضاً بصيغة التكثير يعني الكثرة ?وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ?48?? وهذه الآية كالآية التي سبق أن ذكرتها ?فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ? هنا رب العزة والجلال يبين أن كثيرًا أيضاً, وجد كثير من القرى أهلكها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- حالة كونها ظالمة وأن الله -عز وجل- أخذها لأن المرجع والمصير والنهاية لرب العزة والجلال -سبحانه(3/210)
(6/18)
---
وتعالى- وحده دون سواه.
الختام بقوله: ?وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ? يفيد أن هؤلاء الكفار لن يفلتوا من عذاب الله أبداً، لماذا؟ لأنه قد يقول قائل، أو يقوم في ذهن إنسان مثلاً اعتراض يقول: بعض الكافرين الموغلين في الكفر يموت دون أن يهلكه رب العزة والجلال سبحانه, يموت وهو في غاية الثروة أو في غاية الصحة أو في غاية القوة أو في غاية الهيمنة والسيطرة ولم نر شيئًا فعل به فنقول: هو بين يدي الله -سبحانه وتعالى- فإن لم يأخذه رب العزة والجلال في الدنيا فهو سيعود لمن؟ ويرجع لمن؟ وسيقف بين يدي من؟ ومن الذي سيحاسبه ويأخذ منه حقه؟ هو رب العزة والجلال سبحانه ولذلك ختم هذه الآية بقوله: ?وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ?.
(6/19)
---(3/211)
ثم يلتفت الخطاب ويتوجه مرة أخرى للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولذلك كما أقول السياق يسير مساقاً واحداً في الحديث عن الأمم المكذبة وتسلية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهنا تؤكد هذه الآيات, ويؤكد رب العزة والجلال وهو يسوقها, وهو يتحدث عن المكذبين به وبالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يؤكد ويثبت صدق وصحة نبوة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيوجه الخطاب إليه بقوله: ?قُلْ? والخطاب للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ?49?? يقول الله لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يقول للكفار حينما طلبوا منه استعجال العذاب لأنهم طلبوا استعجال العذاب ممن؟ من النبي -عليه الصلاة والسلام-، ?وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللهُ? ?يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ? في كل الخطاب موجه لمن؟ للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فالله -عز وجل- هنا أولاً أمره أن يقول لهم مبيناً أنه نذير مبين بمعنى أنه رسول من قبل الحق -تبارك وتعالى-، ويفيد ذلك الرد على هؤلاء المشركين وهو أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لا يملك أن يأتي بما طلب به المشركون، لا يملك هو -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيهم به؛ لأنه نذير كما قال الله له: ?إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ? [الرعد: 7] ولما طلب المشركون من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما طلبوه مما جاء ذكره في أواخر سورة الإسراء عند قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا? [الإسراء: 90] إلى آخر الآيات ... بأي شيء ختمها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-؟ ختمها بقوله موجهاً أيضاً الخطاب للنبي -عليه الصلاة والسلام- ليقول: ?قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولا? [الإسراء: 93] صلوات الله وسلامه عليه، فهنا هذه الآية(3/212)
(6/20)
---
تبين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رسول من قبل الحق -تبارك وتعالى- وأنه نذير مبين يبين للناس ويهديهم إلى صراط الحق وإلى الطريق المستقيم، من أجابه سعد ومن لم يجبه شقي، ويبن ربنا ذلك في الآيات التالية، فبعدما قال الله لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- مثبتاً نبوته ورسالته ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ?49?? عقب عليها بقوله: ?فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ?50?? الذين آمنوا آمنوا بالله -تبارك وتعالى-، آمنوا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يكن إيمانهم إيماناً فارغاً عن العمل وإنما إيمان يصل بالعمل يستجيب للعمل, قائم على الطاعة على امتثال الأوامر واجتناب النواهي ?فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? ماذا أعد رب العزة والجلال لمن آمن وعمل صالحاً؟ قال الله: ?لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ? ?لَهُم مَّغْفِرَةٌ? قال أهل التفسير: في الدنيا ?وَرِزْقٌ كَرِيمٌ? يعني: حسن في الدار الآخرة، ومغفرة الله -عز وجل- واسعة وقد وعد بها عباده المؤمنين قال الحق -تبارك وتعالى-: ?نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ?49?? [الحجر: 49] وقال سبحانه: ?غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ? [غافر: 3] والرزق الكريم هو الرزق الواسع الحسن الذي أعده الله -عز وجل- لعباده المؤمنين في الجنة، فقد زعم محمد بن كعب القرظي -رحمه الله تعالى- أنه قال: كل رزق في القرآن الكريم وعد الله به فهو سيكون في الجنة.
(6/21)
---(3/213)
هذا مآل من آمن وعمل الصالحات، واستجاب للنذير المبين -صلى الله عليه وآله وسلم- أما من شقي وكذب وكفر ?وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ? ?سَعَوْا? يعني: ساروا وسلكوا في آيات الله -عز وجل- معاجزين، ?مُعَاجِزِينَ? قيل: معاندين، ومشاقين لله وللرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقيل: مثبطين، يعني مثبطين لغيرهم أن يدخلوا في دين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ماذا أعد الله لهم؟ قال: ?أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ? يعني هؤلاء القوم أعد الله لهم النار الحامية, النار التي تستعر عليهم أعاذنا الله -سبحانه وتعالى- وإياكم منها، وهذا يدعونا أيضاً إلى أن ندعو البشرية كلها ونقول لهم: هلموا إلى دين الله أفواجاً، هلموا إلى الإيمان والتسليم للنذير المبين الذي بعثه رب العالمين، ادخلوا في دينه وامتثلوا أوامر ربكم واتبعوا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تكن لكم مغفرة من رب العالمين ورزق كريم ولن ينال ذلك إلا من؟ إلا من آمن بالله وصدق بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
المحور الثاني: الشيطان ووساوسه للإنسان:
(6/22)
---(3/214)
وأبدء فيه بقول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ?52?? حقيقة هذه الآية تحتاج إلى تأمل ونظر وبسط حولها، الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- قال: ذكر كثير من المفسرين عند هذه الآية قصة تعرف بقصة الغرانيق وهي لم تصح عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وسأسمعكم-إن شاء الله تعالى- بعض أقوال أهل العلم في ذلك، خلاصة هذه القصة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كما ذكروا وهو يقرأ افتح سورة النجم حتى وصل عند قول الحق -تبارك وتعالى-: ?أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى ?19? وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ?20?? [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان على لسانه فقال: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، سمع الخبر أهل مكة فقالوا: هذه أول مرة يذكر فيها آلهتنا بخير، لأنه لما قال: ?اللاَّتَ وَالْعُزَّى ?19? وَمَنَاةَ ?20?? قال: تلك الغرانيق، والغرانيق هذا الغرنوق طائر أبيض يحلق في السماء فكأن معنى الآية أن هذه الأصنام ترفعهم وتقربهم إلى رب العزة والجلال ولها شفاعة مقبولة وإن شفاعتهم لترجى، وسمع بذلك من كان قد هاجر إلى الحبشة وأتى كثير منهم إلى مكة ظناً منهم أن المشركين رضوا بكلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد أثنى على آلهتهم وورد في آخر الآية ?فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا ?62?? [النجم: 62] أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سجد ومعه المؤمنون وسجد المشركون أيضاً، وهذه في الحقيقة كما ذكرت أو أشرت الآن بأنها قصة لم يصح نسبتها للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد ألف علامة عصره في الحديث الشيخ: محمد نصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى- رسالة في هذا سماها: "نصب المجانيق لنسق(3/215)
(6/23)
---
قصة الغرانيق" وأود أن أذكر لكم أيضاً الآن بعض أقوال أهل العلم في أن هذه القصة لا تصح ولا يجوز نسبتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وسأبين أيضاً بطلانها من عدة وجوه:
أولاً: قال الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- عنها بعد أن ذكرها وأشار إليها قال: هذه كلها جاءت من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح. هذا كلام من؟ كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى-.
وقال القاضي عياض في كتابه الشفاء: يكفي أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، ثم قال: قال أبو بكر البزار -رحمه الله تعالى- هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بإسناد متصل وقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته -عليه الصلاة والسلام- ونزاهته.
أما العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- وهو بارع في تفسير القرآن بالقرآن ذكر كلمة جميلة حكيمة قال: إن في هذا السياق الذي جاءت فيه هذه الآية ما يبين بطلان هذا القول وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضاً لا يمكن أن يقوله لأن في هذه السورة ما يبين بطلان أنه لا يمكن أن يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا القول ولا يمكن أن يثني على هذه الأصنام لأنه شنع عليها وبين تفاهتها وأنها ليست بآلهة ولا يصلح بحال من الأحوال أن يكون لها شيء من ذلك لأنه بعدما قال الله -عز وجل-: ?أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى ?19? وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ?20? أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى ?21?? [النجم: 19- 21] بعدها ماذا؟ ?إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ? [النجم: 23] فالقرآن الكريم يعقب بهذه الآية على ذلك ويطعن على هذه الأصنام, فكيف بعد ذلك يقول قائل بأن هذه الأصنام لها شفاعة ترتجى أو أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول ذلك؟(3/216)
(6/24)
---
إلى جانب أيها الإخوة الكرام أود أن أشير إلى أمر أيضاً مهم في مثل ذلك، وهو أن الشيطان لا سبيل له على أهل الإيمان، ورأس المؤمنين في هذه الأمة من؟ نبينا -صلى الله عليه وسلم- فكيف يتسلط الشيطان عليه ويلقي على لسانه كلمات لا ينبغي أن تقال، بل هي عين الشرك بالله -تبارك وتعالى- الذي جاء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ليمحوه، وليقف أمام من أشركوا بالله -تبارك وتعالى-، القرآن الكريم يبين لنا أن الشيطان لا سبيل له على أهل الإسلام، ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ?65?? [الإسراء: 65] الشيطان يخسر ويخسأ أن يأتي ويلبس على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم إن القرآن الكريم الذي يقول بعض المفسرين عنه بأن هذه الآيات جاءت على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يجوز لنا أن نقول ذلك أو أن نتصوره، والله -عز وجل- يثني على كتابه غاية الثناء، فيقول: ?وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ?41? لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ?42?? [فصلت: 41، 42] ؟!!! لا يأتيه الباطل وهذا باطل فكيف يقوله النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ وأيضاً لا يمكن أبداً أن نتصور أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يمكن أن يقول على الله -سبحانه وتعالى- كلاماً باطلاً والله يول له وعنه: ?وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ ?44? لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ?45?? [الحاقة: 44، 45] وما كان له -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يفعل أو أن يقول بعد أن قال الله له وفي مفتتح هذه السورة: ?وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ?3? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ?4?? [النجم: 3، 4] فكل هذه الإشارات تشير إلى ماذا؟ إلى أن هذه القصة لا يصح نسبتها إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- منزه عن أن يثني على شرك(3/217)
المشركين وكفر
(6/25)
---
الكافرين والأصنام التي عبدوها لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
ولكن قد يقول قائل: ما الصواب إذن في معنى الآية: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ? ؟ في الحقيقة ظهر لي بعد البحث والتحري والتدقيق أن الصواب في معنى الآية: أن الشيطان كان يلقي وساوس وشبهات حول ما يقرأ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كأن يقول عنه بأنه سحر أو شعر أو أساطير الأولين وكان المشركون يتلقفون ذلك من الشيطان وقول الحق -تبارك وتعالى- في هذه الآية ?إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ? تمنى هنا بمعنى: تلا، يعني تمنى استعملها العرب بمعنى تلا وجاء ذلك في أبيات عند العرب فلما قتل عثمان الخليفة الزاهد الورع ثالث الخلفاء الراشدين -رضي الله تعالى عنه- لما قتل قال بعض الشعراء:
تمنى كتاب الله أول ليله وآخرها لاقى حمام المقادر
(6/26)
---(3/218)
فقوله: تمنى كتاب الله يعني ماذا؟ تلا كتاب الله، أو قرأ كتاب الله فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان إذا قرأ كتاب الله ?إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ? يعني ألقى الشيطان في قراءته بالوسوسة والشبهات والشكوك التي كان يصدقها أولئك المشركون الذين كفروا وكذبوا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولكن الشيطان كيده في وبار وهلاك وخسران ولذلك كان الله -عز وجل- ينسخ ما يلقي الشيطان من شبهات وشكوك حول ما يقرأه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويحكم آياته ولذلك ربنا -عز وجل- يختم هذه الآية بقوله ?وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? ?عَلِيمٌ? لا تخفى عليه خافية من الحوادث ومن ذلك إلقاء الشيطان ?حَكِيمٌ? في تقديره وخلقه -سبحانه وتعالى- ولا يمكن لمثل الشيطان ولا لمن يمكن أن يضع يده مع الشيطان أن يأتي بهذا البهتان الذي يمكن أن يجري على لسان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو -ولا شك- كلام الله.
وهذه الآية قبل أن أنتقل منها أود أيضاً أن أفيدكم فائدة وهي مسألة عقدية: علماء الكلام وكثير ممن كتبوا في العقيدة لما جاءوا ليفرقوا بين النبي وبين الرسول فرقوا بينهم بتعريف مشهور، ولكن يحتاج إلى إعادة نظر، هل أحد منكم يعرف التعريف المشهور في الفرق بين النبي والرسول؟
قالوا: النبي من نُبئ ولم يؤمر بالتبليغ، يعني: أوحي إليه بشرع ولم يأمره الله بالتبليغ والرسول من أرسل أو أوحي إليه بشرع وأمر بالتبليغ.
(6/27)
---(3/219)
هذا التعريف –في الحقيقة- عليه اعتراض، هذه الآية ترده؛ لأن الله يقول: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ? فدل ذلك على أن النبي مرسل كالرسول، قال: ?وَمَا أَرْسَلْنَ? لأن تعريفهم يقول: بأن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بالتبليغ. وما فائدة أن يوحى إليه بشرع ولم يؤمر بالتبليغ؟ وطالما أني ذكرت ذلك ولا أريد أن أقف عنده أيضاً، أيضاً قد يسألني سائل يقول: ما الصواب في الفرق بين النبي وبين الرسول؟
(6/28)
---(3/220)
ذكر العلماء فروقاً هي قريبة إلى الصحة فيما أرى، منها أن الرسول من أوحي إليه بشرع جديد ونزل عليه كتاب، والنبي من جاء تابعاً لكتاب ولشريعة النبي السابق، كأنبياء بني إسرائيل ولكن الكل مأمور بالبلاغ والبيان، إذا كان الله -عز وجل- أخذ العهد على العلماء وغيرهم أن يبينوا للناس فكيف يوحى إلى رجل ونبي ثم بعد ذلك لا يأمره رب العزة والجلال بالبيان؟ الله -عز وجل- بعد ذلك يعقب على هذه الآية ويبين أن هذه الوسوسة الواقعة من الشيطان والكيد الذي يكيده إنما هو من باب الابتلاء والاختبار وأن هذا لم يخفَ على رب العزة والجلال خاصة أنه ختم الآية الآولى بقوله: ?وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? إذن لماذا يحدث ذلك؟ قد يسأل سائل هذا، هذه فتنة هذه وسوسة هذا كيد من الشيطان لماذا شاء رب العزة والجلال أن يكون؟ قال الله -عز وجل-: ?لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً? لمن؟ ?لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ? أي في شك وشرك وكفر ونفاق وارتياب وعدم تصديق للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، لأن المشركين يفرحون بذلك ويعتقدون أنه صحيح, إذا لبس الشيطان عليهم فيما يذكره النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يفرح أهل الشرك والضلال والنفاق بذلك، ويفرح معهم أيضاً كما قال الله: ?وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ? يعني من في قلبه مرض ومن في قلبه قسوة، ولذلك قال بعض أهل العلم: المراد بمن في قلبه مرض هم أهل النفاق والمراد بالقاسية قلوبهم هم المشركون، ولا أود أن أطيل عليكم وأشير إلى أن قسوة القلوب لها أسباب منها:
- عدم الإيمان- ومنها نقد العهد والموثيق كما قال الله تعالى: ?فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً? [المائدة: 13] ومنها طول الأمد أو طول العهد وما إلى ذلك وأنا أشير إلى هذا ليحذر أهل الإيمان مما وقع فيه من كان قبلهم من المكذبين المشركين الظالمين.
(6/29)
---(3/221)
?لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً? لمن كما ذكرت؟ ?لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ? يعني هؤلاء الذين كذبوا ظلموا أنفسهم وأشركوا بالله -تبارك وتعالى- وواقع أمرهم أنهم في ضلال ومخالفة وعناد بعيدين عن الحق والصواب الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى-.
هذه هي الطائفة الأولى التي ذكرها القرآن الكريم وموقفهم مما يمكن أن يكيد به الشيطان. أما أهل الإيمان فلا يتأثرون بهذه الوسوسة ولا بهذه الشكوك، ولذلك أثنى الله عليهم فقال: ?وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ? أي: ليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل أن الذي أنزله الله على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هو الحق، وأن ما يكيد به الشيطان ويزينه ويوسوس به لا مجال له بين أهل الإيمان، يعلمون ذلك ? فَيُؤْمِنُوا بِهِ? يعني يذعنوا له ويسلموا وينقادوا ويعترفوا أن ما جاء من عند الله هو الحق المبين، والآية هذه فيها فائدة أيها الأشبال ويا أيها المشاهدون يا ممن تتعلمون العلم الشرعي فيها فائدة إلى أهمية ما أنتم عليه، فائدة في أهمية ما أنتم مقبلون عليه، وهو ما نفتتح به هذا اللقاء من كلمة سماحة الوالد الشيخ عبد الله بن باز -رحمه الله تعالى- حينما يدعو ويحث على العلم الآية تقول: ?وَلِيَعْلَمَ? من؟ ?الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ? وهذا يبين ويشير إلى أهمية العلم وضرورته وأنه لابد للأمة كلها أن تقبل عليه, وأهل العلم هم الذين يؤمنون ويصدقون وينقادوا ويزداد إيمانهم بما ينزل على رسول الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه- وإذا آمنوا خبتت قلوبهم بمعنى خضعت وذلت وسلمت لحكم الله -تبارك وتعالى-، وإذا سلمت بحكمه وآمنت يظهر من ذلك عليهم هداية الله -تبارك وتعالى-، ولذلك قال الحق جل ذكره ?وَإِنَّ اللهَ(3/222)
(6/30)
---
لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? وهداية الله -عز وجل- لأهل الإيمان الذين آمنوا وازدادوا إيماناً وخضعت وخشعت قلوبهم لرب العزة والجلال هي –واللهِ- في الدنيا وفي الآخرة, هداهم ربهم في الدنيا إلى الإيمان به والإذعان لأمره والتسليم بحكمه، وهداهم إلى الإيمان والتوفيق وهناك إيمان يكون من توفيق رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لا دخل للعبد فيه بشرح الصدر وما إلى ذلك مما أشار إليه القرآن كذلك أيضاً هداية الآخر ألا وهي ماذا؟ إلى الجنة، ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ? [يونس: 9] ما هي نوع الهداية هنا؟ ?تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ? [يونس: 9] فهذه هي هداية الله -عز وجل- لأهل الإيمان في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح وفي الآخرة بجنات النعيم.
وبهذا ينتهي الحديث حول هذا اللقاء وحول هذه الآيات الكريمة وأرجو من إخواني أن يتنبهوا إلى شيء مما ذكرت خاصة مما يمكن أن يذكر في بعض كتب التفسر وأن يلحق بها من كلام لا يليق أن ينسب إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولنعلم جميعاً صدقَ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأن الكافرين هم الخاسرون.
وصلِّ اللهم وسلمْ وباركْ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إجابات الحلقة الماضية:
كان السؤال الأول: وعد الله عباده الخائفين منه بالجنة, اذكر ما يدل على ذلك من القرآن الكريم وكيف ترد على من يزعمون أنهم يعبدون الله لا خوفاً منه ولا طمعاً في جنته؟
وكانت الإجابة:
(6/31)
---(3/223)
إن الخوف من الله عبادة وهي من صفات أهل الإيمان قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ?40? فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ?41?? [النازعات: 40، 41] وقال تعالى: ?وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ?46?? [الرحمن: 46] وقال الله عن زكريا -عليه السلام-: ?فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ?90?? [الأنبياء: 90].
ومن العجيب أن تجد أناساً يزعمون أنهم يعبدون الله لا خوفاً منه ولا طمعاً في جنته لعلهم لم يسمعوا قول الله -جل وعلا-: ?قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ?15? لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ?16?? [الزمر: 15، 16] ولعل هؤلاء لم يتعرفوا على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان من أكثر دعائه: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ولما سألت عائشة -رضي الله عنها- متعجبة لهذا الدعاء قال -صلى الله عليه وسلم-: (يا عائشة إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن فمن شاء أقامه ومن شاء أزاغ) -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي قد غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر وعلى هذا الهدي سار أبو بكر وعمر والصحابة أجمعين -رضي الله عنهم- والله أعلم.
(6/32)
---(3/224)
في الحقيقة أحسن المجيب وقد أفاد فائدة كنت أود أن أطلبها منكم وهو أنه استدل أيضاً ببعض الآيات التي لم أذكرها، وهذا شيء جميل يشرح الصدر وأشكر من أجاب على ذلك؛ لأنني أذكر بعض الآيات ولا يمكن أن أذكر كل ما يدور حول المعنى، فكوني أسمع إجابات وآيات لم أذكرها يدل على فهم - بفضل الله تبارك وتعالى- وأن المستمع والمشاهد يربط بين هذا وبين ذاك.
السؤال الثاني:
اذكر معاني الكلمات الآتية: ?صَوَافَّ?، ?وَجَبَتْ جُنُوبُهَ?، ?الْقَانِعَ?، ?وَالْمُعْتَرَّ?؟
وكانت الإجابة:
?صَوَافَّ?: أي قائمات صففن قوائمها الأربع ثم تعقل يدها اليسرى ثم تنحر.
?وَجَبَتْ جُنُوبُهَ?: أي سقطت بجنوبها على الأرض وتسلخ فحينئذ قد استعدت لأن يؤكل منها.
?الْقَانِعَ?: الفقير الذي لا يسأل تقنعاً.
?وَالْمُعْتَرَّ?: الفقير الذي يسأل ويتعرض للناس. والله أعلم.
الإجابة طيبة, ولكن هذه يعني استعدت لكي يؤكل منها، يعني نحن الذين أعددناها.
السؤال الثالث:
قال الله تعالى: ?وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ? يشير إلى معنيين اذكرهما.
وكانت الإجابة:
يشير قول الله -جل وعلا- إلى معنيين هما:
الأول: أن في هذه الآية بشرى لأهل الإيمان أن الله ناصرهم مهما ضاق الأمر ومهما رأت العين ?إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ? [البقرة: 214].
الثاني: مع تمام قدرة الله على النصر غير أنه شرع الجهاد لإقامة سنة الله في الأرض في الابتلاء وليعلم الصابرين والمجاهدين وليعلم المنافقين, وعلم الله مطلق فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولكن ليقيم عليهم الحجة. والله أعلم.
الكلام سليم ولكن لو توسع في المعنى الثاني وهو من معانيها أن الله -عز وجل- أراد أن يتخذ شهداء ويرفع درجات هؤلاء وما إلى ذلك فكان هذا الجهاد لمثل هذه الأمور في سبيل الله -تبارك وتعالى- وعلى كل فالجواب سليم, إن شاء الله.
الأخ الكريم من مصر يقول: لي سؤالان:
(6/33)
---(3/225)
السؤال الأول: ما صحة رواية أن سيدنا إبراهيم عرض له الشيطان ليثنيه عن ذبح ولده عند العقبة فرماه بسبع حصيات إلى آخره؟
السؤال الثاني: المشركون يستعجلون الأنبياء بالعذاب ويقولون: ائتنا بالعذاب إن كنتم صادقين, فما الحكم في المسلم الذي يستعجل الموت؟
بالنسبة للسؤال الأول: هذا قد ورد في كتب التفسير وأن هذا كان من السنن التي شرع رب العزة والجلال رمي الجمرات بها، وهذا وارد عن إبراهيم -عليه السلام- ولا غضاضة في هذا، يعني ما أدري ما وجه إن كان هناك استفسار عن مثل ذلك, فهذا ورد أن الشيطان كان يسير وراء إبراهيم -عليه السلام- وكان إبراهيم -عليه السلام- يرميه بهذه الحصيات كي يرد بأسه ووسوسته عنه.
أما بالنسبة للسؤال الثاني: وهو أن المسلم يتمنى الموت، أو يستعجل الموت. نهى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن ذلك: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه) الإنسان لا يتمنى الموت بسبب أي مصيبة تنزل عليه، ووجه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى مخرج إذا وقع الإنسان في ضائقة أو حصل ما يمكن أن يحدث له مما يقلقه أو يزعجه أو يتعبه فإن وجد الإنسان شيئًا من ذلك يدعو ربه بأن يختار له الخير ويقول: اللهم أحييني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي، أما استعجال الموت فهو منهي عنه بنص حديث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة من الإمارات تقول: ذكرتم -حفظكم الله- أن التكبير المقيد عقب الصلوات فهل التكبير المقيد عقب الفرائض فقط؟ أم عقب كل صلاة سواء فريضة أو نافلة من ليل أو نهار؟
(6/34)
---(3/226)
هو الوارد التكبير المقيد عقب الصلوات, عقب الفرائض وإن كان بعض الصلوات الأخرى فسيصبح وسيدخل في التكبير المطلق؛ لأن الصلوات الفرائض محددة بأوقات فمن هنا قلنا: إنه مقيد، أما النوافل المطلقة فليست مقيدة بوقت، فإذا ذكر الإنسان بعدها وكبر هو مطلوب منه أن يكبر بعد الصلوات وهو قائم وهو ماشٍ في طريق وهو جالس في بيته فيصبح من التكبير المطلق، والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: ما رأيكم في القول بأن النبي هو من بعث في قوم مؤمنين ولكن عصاة؟ أما الرسول فهو من بعث في قوم مشركين؟
في الحقيقة من سياق آيات القرآن الكريم وذكر المكذبين للأنبياء والمرسلين يظهر لنا بوضوح أن كل نبي أرسل إلى قوم كان فيهم من أهل الشرك ما فيهم، ومن الضلال ما فيهم، فهذا القول لا يستقيم ولكن الصواب فيما أراه -والله أعلم- وكما أشرت أن الرسول هو: من جاء بشريعة جديدة مستقلة، وبكتاب من عند رب العزة والجلال والنبي يأتي مجدداً لهذه الشريعة سائر على نفس الطريق طريق الرسول الذي قبله، يعني لا يأتي بشريعة جديدة مستقلة، هذا هو الفرق الذي أراه صحيحاً قد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما أشار إليه غيره، وأرجو أن يكون هذا هو الصواب إن شاء الله -تبارك وتعالى-.
الأخ الكريم من مصر يقول: من أهل العلم من صحح حديث الغرانيق فما حجته في ذلك؟
(6/35)
---(3/227)
لا شك أن بعض العلماء يختلفون في الحديث الوارد يعني تصحيحاً أو تحسيناً أو تضعيفاً لكن البحث والتحري والتدقيق أمر مطلوب في مثل ذلك، وكما أسمعتكم أيها المشاهدون بعضاً من أقوال أهل العلم والأقوال كثيرة ومن أراد أن يرجع في مثل ذلك فرسالة الشيخ الألباني -رحمه الله- التي أشرت إليها تشفي وتكفي في هذا المقام وترد على من يقول بهذه الرواية أو بصحتها ولا شك أن هناك بعض الكتب للمفسرين كانوا يسوقون كثيرًا من الروايات الضعيفة والواهية بل الموضوعة، ولا أريد أن أسمي بعض كتب التفسير بأعيانها ولكن هذا موجود عند بعض المفسرين والعبرة بما صح عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وذكر أهل العلم عنه أنه صحيح، وهذه القصة سندها واهٍ كما ذكرت إلى جانب أنها أيضاً تتعارض أو يتعارض متنها مع كتاب الله -تبارك وتعالى- الذي أثبت الله فيه العصمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأن هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه كتاب أحكمت آياته وما إلى ذلك، كل هذا يتعارض مع أن نقول بأن هذه القصة صحيحة, والله أعلم.
الأخ الكريم من الكويت يقول: بالنسبة للتفسير -بارك الله فيك وجزاك الله خيراً- هل ستخرج في المستقبل تفسيراً كما سبق لبعض أهل العلم؟
-إن شاء الله تعالى- يعني هو يدفعنا لهذا العمل الطيب وفي الحقيقة ما أجمل ذلك ونأمل أن يتسع الوقت لشيء من هذا -إن شاء الله تعالى- ففي الحقيقة الأعمال كثيرة وتتزاحم ونسأل الله -عز وجل- التوفيق والسداد وأرجو -إن شاء الله- أن يوفق ربي -سبحانه وتعالى- لما طلبه الشيخ -جزاه الله خيراً- وهذا حسن ظن منه أشكره عليه، وأئمتنا بفضل الله –تعالى- لهم كلام جميل وجيد في تفسير الله -تبارك وتعالى- ونسأل الله -عز وجل- أن يوفقنا في أن نضيف إلى كلماتهم كلمات والتوفيق بيد الله وحده.
(6/36)
---(3/228)
الأخ الكريم يقول: في قول الله -عز وجل-: ?فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ? [المعارج: 4] ذكرتم فضيلتكم أن هذا اليوم يكون بمثابة خمسين ألف سنة على الكافر فهل يشترك معه المسلم العاصي في هذا اليوم أم أنه يقتصر على الكافر فقط؟
أحسنت -جزاك الله خيراً- هذا في الحقيقة سؤال مهم، وبيانه كالتالي: أن هذا اليوم على الكافر بخمسين ألف سنة وعلى عصاة المسلمين يتفاوت على حسب المعاصي، وهذا من عدل الله -تبارك وتعالى- فالناس أمام الحق -تبارك وتعالى- ليسوا سواء والعذاب كما تعلمون متفاوت كما أن الجرائم والمعاصي أيضاً والكبائر متفاوتة وكل ينال بقدر ما قدم، ?وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً? [الكهف: 49] فالمسلم العاصي لن يشترك ولن يكون في صف واحد مع الكافر حاشا لله أن يكون كذلك وعدل الله -عز وجل- يأبى ذلك، كذلك أيضاً لا يمكن للعاصي المفرط المقصر أن يكون كالسابقين السابقين والله -عز وجل- قد أخبر بأن الجنة درجات وهناك أناس لا شك أنهم سابقون مقربون وهناك أصحاب اليمين يتلون يأتون بعد هؤلاء السابقين وهكذا فلا يمكن أن يكونوا لا مع الكفار ولا مع أصحاب النعيم العالي في الفردوس الأعلى في الجنة، ولكن أيضاً تتمة لهذا البيان، أقول: قد يتفضل الله -عز وجل- على عصاة المسلمين بالمغفرة والرحمة فلا يناله شيء من ذلك وفضل الله -سبحانه وتعالى- واسع، ويرشدني إلى هذا قول الحق -تبارك وتعالى-: ?إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ? [النساء: 48] فهذه الآية جعلت ما عدا الشرك داخلاً تحت المشيئة فإن شاء غفر الله لصاحبه وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم بعد ذلك أخرجه من النار، وكما أنه إذا عذب في النار عذب بقدر ذنبه كذلك يناله من طول اليوم بقدر ما فرط في حق الله -تبارك وتعالى-، والله أعلم.
(6/37)
---(3/229)
الأخت الكريمة من السعودية تقول: عندما ننصح بعض المقصرين من الشباب والشابات في التوبة والعودة إلى الله والاستقامة على شرع الله يقولون بأن، يعني عندما نصحت إحدى الشابات الواقعة في المعاصي قالت: إني أعلم أن توبتي قد تجر علي مصائب لأنكم تقولون: إن الله -سبحانه وتعالى- إذا أحب عبداً ابتلاه وأن أشد الناس ابتلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ما أدري ماذا نرد على هؤلاء؟
في الحقيقة التوبة مطلوبة والتوبة يعني كما ذكرت الأخت ليست مقصورة فقط على الشباب الذي هو مقصر أو مفرط في جنب الله -تبارك وتعالى-، بل التوبة مطلوبة من كل مؤمن، الله -عز وجل- يقول: ?وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [النور: 31] وحينما يتوب العبد إلى ربه ويرجع إلى الله -تبارك وتعالى- يكون في سكينة واستقرار ونعيم وهدوء لا يشعر بذلك إلا أهله، يعني عبارات قد لا يسعفني التعبير أن أصورها لأنها مسألة يعيشها المؤمن التقي الورع التائب الراجع إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وليس معنى ذلك أنه إذا تاب وأناب ورجع إلى الله -تبارك وتعالى- أنه يبتلى حتماً، فكثير من الناس المقربين إلى رب العزة والجلال لا يبتليهم رب العزة والجلال والابتلاء حينما يكون للمؤمن هو في الحقيقة رفع لدرجاته عند الله -عز وجل- وإذا ابتلى الله -عز وجل- المؤمن ابتلاه بقدر ما عنده من إيمان، فكان هذا الإيمان دافعاً له إلى ألا يخرج على طاعة الله -تبارك وتعالى-، يكون الابتلاء موجود والتثبيت أيضاً لدى هذا المؤمن قائم له من عند رب العزة والجلال سبحانه وما ذكرته السائلة من الحديث يشير إلى هذا المعنى (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) لماذا؟ لماذا أشد الناس بلاء الأنبياء لأنهم أعلى الدرجات من العابدين المؤمنين المصدقين برب العزة والجلال، فحينما يأتيهم ابتلاء كبير يتناسب مع ما هم عليه من إيمان كبير(3/230)
(6/38)
---
وبالتالي لا يتزعزع إيمانهم بل يرتفعون بهذا الابتلاء درجات عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فلا يخاف الإنسان من أن يعود إلى الله فيبتلى، يا عبد الله قد تكون بعيداً عن الله -عز وجل- وتأتي عليك المصائب من كل جانب ووقتئذٍ لن تستطيع أن تواجهها بشيء من المعروف أو من المصداقية أو من الصواب الذي يمنعك ويحجزك عن أن تخرج من الدين بالكلية ولكن إن كنت في دائرة الإيمان أعانك رب العزة والجلال سبحانه على ما ابتلاك به وأقام في قلبك من الإيمان ما تستطيع به أن تواجه به هذه البلايا والمصائب والله -عز وجل- لا يتخلى عن أهل الإيمان ولا يضيعهم، ولا يجعلهم عرضة للضياع، أو للتشتت أو للرجوع إلى الخلف والوراء بل يبتليهم رب العزة والجلال لينالوا بذلك الدرجات العلى، وليرتفعوا عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فهذه الابتلاءات هي في الحقيقة ليست نقمة من الله وإنما هي نعمة من الله -عز وجل- للعبد المؤمن والعبد المؤمن يبتلى من عند رب العزة والجلال على قد إيمانه وما يقوم في قلبه من إيمان يحجزه في الحقيقة عن أن يضل أو أن يضيع حينما ينزل به الابتلاء أو يقع في كرب أو ما إلى ذلك. والله أعلم.
الأخ الكريم من السعودية يقول: الحديث الذي هو فيما معناه، الذي يقول في آخره: (فأعانني عليه فأسلم) الذي هو الشيطان يعني، أريد شرحه مختصراً مع الآية التي هي ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ?؟
(6/39)
---(3/231)
هذا الحديث وارد في صحيح البخاري وغيره وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر: (ما من عبد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة، فقيل للنبي -عليه الصلاة والسلام-: حتى أنت معك قرين من الجن؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم) هذه (فأعانني عليه فأسلم) وردت بروايتين: (فأسلمَ) و (فأسلمُ) فأسلمَ يعني أن هذا الجن القرين للنبي -عليه الصلاة والسلام- أسلم ودخل في الإيمان بالله -تبارك وتعالى- ومن المعلوم أن الجن ينقسمون إلى فريقين أو إلى قسمين: جن صالح وجن مشرك طالح والرواية الأخرى: (إلا أن الله أعانني عليه فأسلمُ) أي يعني فأنا أسلمُ منه، ومن إيذائه لي فلا يمكن أن يؤذي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وعلى كلا الروايتين إذن لا ينال الشيطان إذن حظاً من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا يدخل هذا الحديث إذن في هذه الآية في أن يكون الشيطان قد لبس على النبي -صلى الله عليه وسلم- في القراءة أو أنه أدخل عليه أنه أدخل على لسانه ما ليس من كتاب الله -تبارك وتعالى-؛ لأن الأمر لا يخلو من حالتين كما ذكرت إما أن يكون الشيطان أو الجن الذي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صار من أهل الإيمان وإما أن الله -عز وجل- حمى نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- من كيد هذا الشيطان, والله أعلم.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: هل الحديث: (إن الله يملي للظالم أم للكافر)؟
الحديث يعني قرأته يمكن صباح هذا اليوم أو أمس بهذه الرواية (إن الله ليملي للظالم) ولا يمنع أن تكون هناك روايات متعددة لهذا الحديث، وأذكر أنني مررت أيضاً على هذه الرواية ولكن الرواية التي قرأتها أخيراً: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه الحلقة؟
(6/40)
---(3/232)
السؤال الأول: اذكر أسماء الأنبياء الذين أرسلوا إلى كل من: عاد، ثمود، أصحاب مدين. وما نوع العذاب الذي نزل بكل قوم من هؤلاء؟ مع الدليل لما تذكر.
السؤال الثاني: ليس "العمى عمى البصر" اذكر ما يدل على ذلك من الآيات التي درستها.
السؤال الثالث: اذكر ثلاثة أقوال لأهل العلم في إبطال قصة الغرانيق. وما الصواب في قول الله تعالى: ?إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ?؟
(6/41)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس السابع
التفسير/ المستوى الثالث/ الدرس السابع
تفسير سورة الحج
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً بكم ومرحباً وبالسادة المشاهدين والمستمعين ويسرنا في هذا اللقاء المبارك -إن شاء الله تعالى- أن تستمر الحلقات التي أقدمها من سورة الحج بفضل الله -سبحانه وتعالى- وتوفيقه، وهذا اللقاء سأتحدث فيه عن ثلاثة محاور -إن شاء الله تعالى-:
المحور الأول: الكافرون في شك وارتياب من التنزيل الحكيم.
المحور الثاني: فضل الهجرة في سبيل الله, وما وعدهم الله به.
المحور الثالث: بعض مظاهر قدرة الله في الكون.
وهذه المحاور ستستمعون -إن شاء الله تعالى- الآن إلى الآيات التي سيدور الحديث عنها -إن شاء الله تعالى- فمع فضيلة الأستاذ الكريم لنستمع إلى هذه الآيات فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(7/1)
---(3/233)
?وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ?55? الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ?56? وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ?57? وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ?58? لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ?59? ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ?60? ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ?61? ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ?62? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ?63? لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ?64??.
جزاك الله خيراً.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا وإمامنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد.
(7/2)
---(3/234)
فأجدد الترحيب بكم أيها الحاضرون والمشاهدون الكرام، ومع هذه الآيات التي استمعنا إليها الآن وتبدأ من قول الحق -تبارك وتعالى- ?وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ?55??
المحور الأول: الكافرون في شك وارتياب من التنزيل الحكيم:
ذكر الله -عز وجل- في هذه الآية أن الكفار لا يزالون في شك وارتياب من هذا القرآن العظيم، فالكافرون منذ أن بعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وإلى يوم الناس هذا في شك وارتياب من الذكر الحكيم الذي جاءهم من عند الله -تبارك وتعالى- وما كان لهم ذلك، وهذا القول في الحقيقة هو القول الظاهر من هذه الآية، حيث إن بعض المفسرين - رحمهم الله تعالى- ذكر أن الشك والارتياب واقع فيما كان الشيطان يلقيه على المشركين وهم يستمعون إلى الذكر الحكيم وهو المراد من قول الله -تبارك وتعالى- فيما ذكرته من اللقاء السابق: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ? [الحج: 52] فقيل بأن الشك والارتياب فيما يلقيه الشيطان، ولكن الواضح أن المراد بشك المشركين وارتيابهم هو في القرآن العظيم وقد قيل بأنهم أيضاً في شك وارتياب من بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهذا يشمل ما ذكرته الآن من الشك والارتياب في القرآن العظيم؛ لأنهم إذا شكوا في القرآن وارتابوا فيه فقد شكوا في النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لأنه هو الذي نزل عليه القرآن وهو الذي يبلغهم القرآن, وفي الحقيقة وواقع الأمر أن المشركين جميعاً كانوا في شك وارتياب من هذا ومن هذا، وكانوا في شك وارتياب في أمور أخر ذكرها القرآن الكريم وكان الشك والارتياب أكثر ما يكون عند هؤلاء في أمر الساعة وقد تحدثت الآيات عن هذا, وسيأتي ذكر الكلام بعد قليل -إن شاء الله تعالى-.
(7/3)
---(3/235)
فالمشركون عمومًا كانوا يرتابون ويشكون في البعث والجزاء، وكانوا لا يجيزون بحال من الأحوال ولا يتصورون أن يبعثهم رب العباد بعد ذلك إلى الدار الآخرة، وفي أوائل هذه السورة المباركة التي تناولتها في هذه اللقاءات ما يبين ذلك: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ? [الحج: 5] وكما قال جل ذكره في سورة الشورى: ?أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ? [الشورى: 18] هؤلاء إذن - أعني بهم الكفار- في شك وارتياب القرآن العظيم ومن النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-، متى ينتهي هذا الشك؟ ومتى ينقطع هذا الريب؟ سجلته هذه الآية: ?وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً? حتى تفيد ماذا؟ حتى للغاية، وماذا تفيد، حرف الغاية هنا ماذا يفيد؟ هل أحد يجيب علي؟ حرف الغاية يفيد..
يفيد الاستدراك عليهم في أمر الساعة
(7/4)
---(3/236)
لا شك أنه كما هو معلوم أن ما قبل حتى ينتهي إذا تحقق ما بعدها، لأن حتى حرف غاية فتفيد أن ما بعدها إذا وقع وتحقق انتهى وانقطع ما قبلها، فالآية تقول: بأن الكفار والمشركين في شك وارتياب إلى يعني أن الشك والارتياب سينتهي وسينقطع عندما يفاجئوا بالساعة، وهذا معلوم حتى في التاريخ السابق، فالكفار حينما يشاهدون عذاب الله -عز وجل- حتى حينما يشاهدون الموت وهو مقدم أو مقبل عليهم يفيقوا من غفلتهم ولكن لا يفيد ندم أو إيمان في هذا الوقت، ففرعون كان متكبرًا وحينما أدركه الغرق قال: ?حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ? [يونس: 90] فلم ينفعه ذلك، فانتهى تكذيبه عندما كانت أمواج البحر تتلاطمه لماذا؟ لأنه لا سبيل أمامه وقد شاهد العذاب بعينيه, كذلك الكفار هنا والمشركون في شك وارتياب ومتى سينتهي هذا الشك؟ ومتى سنقطع عنهم هذا الرأي حينما تفاجئهم الساعة، ولذلك قال رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-: ?حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ? ?حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً? الساعة تأتي العبادة بغتة كما ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه، ومعنى بغتة يعني ماذا؟ يعني فجأة، يقال: بغت القومَ أمرُ الله إذا نزل بهم أمر الله -تبارك وتعالى- وهم في سكرتهم، وهنا يقرر القرآن الكريم أن الساعة ستأتي الناس جميعاً وتبغتهم فستأتي عليهم فجأة, إذن سينتهي ريبهم وشكهم وكفرهم وتكذيبهم عندما يعاينون العذاب ويبعثهم رب العباد -سبحانه وتعالى- ?أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ? اختلف المفسرون في المراد بهذا اليوم ما المراد بقوله تعالى: ?أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ?؟ قال بعض المفسرين هو يوم بدر، واختار ذلك إمام المفسرين الإمام الحافظ ابن جرير -رحمه الله تبارك وتعالى- وقال بأنهم لم يجدوا يوماً قضى الله -عز وجل- فيه على المشركين بسوء وكان أول لقاء كما(3/237)
(7/5)
---
كان في يوم بدر، وقال كثير من المفسرين ومنهم الإمام الحافظ الذي يدور حديثي حول شرح كتابه ألا وهو الإمام الحافظ ابن كثير - رحمه الله تبارك وتعالى- قال: المراد باليوم العقيم هو يوم القيامة، وفي الحقيقة هذا هو القول الصحيح كما نص على ذلك الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- ويسمى باليوم العقيم كما قال عكرمة وغيره، لأنه لا ليل له، وأنه يوم لن يلد بعده يوماً آخر من أيام الدنيا فانتهت أيام الدنيا بهذا اليوم فكأن اليوم بعد ذلك عقيم لا يلد بعد ذلك يوماً آخر، يعني لا يأتي بعد ذلك يوم آخر، ومن قال كالإمام ابن جرير -رحمه الله- بأن المراد باليوم العقيم هو يوم بدر يكون المعنى والتوجيه أن الرجال يقتلون من المشركين في هذا اليوم فكأن النساء لم تلد، والمرأة إذا لم تلد كانت عقيماً.
(7/6)
---(3/238)
هنا مسألة مهمة يجب أن أقف عندها وأتحدث عنها في هذه الآية: ?وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ?55?? هذه الآية تقرر أمراً مهماً للغاية يدورالكلام حوله في مثل هذه الأيام: ألا وهو متى تكون الساعة؟ هل من مجيب؟ متى تقع القيامة؟ لا تعرفون؟ الله أعلم. قال الله -تبارك وتعالى- في كتابه: ?حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً? إذن الساعة تأتي فجأة, وهذا هو صريح الكلام في كتاب الله -تبارك وتعالى-، ويفهم من ذلك أن من يذهب إلى أن الساعة ستكون في يوم كذا أو في عام كذا أو ما إلى ذلك كل هذا كلام لا دليل عليه ولا برهان مع قائله بل إن القرآن الكريم يقرر عكس ما يذكر هؤلاء الله -تبارك وتعالى- في كتابه أخبر أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سئل من المشركين مرات عن وقت القيامة، فما كان منه إلا جواب الله -سبحانه وتعالى- الذي أتاه في القرآن الكريم يعني لم يجب من عند نفسه -صلى الله عليه وآله وسلم- ?يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ?63?? [الأحزاب: 63].
(7/7)
---(3/239)
ومن أصرح الآيات في ذلك ما جاء في سورة الأعراف: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَ? [الأعراف: 187] سؤال للنبي -عليه الصلاة والسلام- متى تكون الساعة؟ بماذا أجاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ أجاب لأنه سئل أجاب بما أجاب الله به في كتابه ?قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي? [الأعراف: 187] وهذا نبي الهدى والرحمة -صلى الله عليه وآله وسلم-، فإذا كان القرآن يقرر وينطق بذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- ويقول: ?قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي? إذن لا يأتي بعد ذلك واحد ويقول بأن الساعة ستقع في وقت كذا وسنة كذا وما إلى ذلك ?لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ? [الأعراف: 187] يعني لا يظهرها لوقتها إلا رب العالمين سبحانه ?ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? [الأعراف: 187] ثم يؤكد أن الساعة فجأة فيقول: ?لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً? [الأعراف: 187] يعني ستأتيكم فجأة، ?يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ? يعني مبالغ في السؤال عنها، قل ?قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ? ولما سئل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من جبريل -عليه السلام- كما هو في الحديث المشهور الذي افتتح به أحد أئمة الحديث كتابه، من هو؟
الإمام مسلم في كتاب الإيمان.
(7/8)
---(3/240)
الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في حديث سؤال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن الساعة بماذا أجاب؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل، إذن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو رسول رب العالمين لا يعلم متى تكون الساعة فغيره من باب أولى، فالساعة ستأتي فجأة كما أخبرنا ربنا في كتابه في حديث الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر في حديث طول أن الساعة تأتي فجأة والناس سائرون في أعمالهم فيقول -صلى الله عليه وسلم-: (ولتقومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعان ولا يطويانه وعليهما تقوم الساعة) يعني يأتي رجل ليشتري وأمامه رجل آخر ليبيع له هذا يفرد ثوبه أمامه فلا يطوي الثوب ولا يشتري المشتري وعليهم تقوم الساعة، فدل ذلك على أن الساعة ستقوم دون أن يعلم الناس بها، غاية الأمر أن الساعة لها أمارات ولها علامات لابد أيضاً أن يقف عليها المسلمون وأن يتعلموها وأن يعرفوها وعلامات الساعة كثيرة منها أمارات أو علامات متقدمة أو ما تعرف عند بعض أهل العلم بالعلامات الصغرى وهناك علامات كبرى والعلامات الصغرى قد وقعت أو وقع الكثير منها الآن ومنها ادعاء النبوة وكثرة القتل وكثرة الزلازل والخراب وكثرة الزنا والفواحش وما إلى ذلك كل هذا من علامات الساعة، أما علامات الساعة الكبرى فلم تأتِ بعد وستأتي تباعاً ويجب على المسلم أن يتعلم ذلك من كتاب ربه ومن هدي النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
(7/9)
---(3/241)
بعد ذلك يقول رب العزة والجلال سبحانه: ?الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ? هذه الآية الكريمة أتت بعد هذه الآية الأولى وهي تبين أن الملك في يوم الدين وفي يوم الجزاء وفي يوم القيامة وفي الساعة التي أخبر ربنا -سبحانه وتعالى- عنها سيكون لمن؟ سيكون لله وحده دون سواه، والملك كله لرب العزة والجلال سبحانه، ولكنه ينص على هذا حتى لا يغتر مغتر أو ينخدع مخادع بمن لديه قوة أو سلطان في الدنيا أنه كما ملكه الله شيئًا في الدنيا يمكن أن يكون له شيء من هذا الأمر في الدار الآخرة، ولذلك يقول رب العزة والجلال: ?الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ? كما قال -سبحانه وتعالى- في كتابه: ?مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ?4?? [الفاتحة: 4] فالله -عز وجل- هو الذي يملك وحده اليوم الآخر ?الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرً? [الفرقان: 26] وكما يقول سبحانه: ?يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ?16?? [غافر: 16].
(7/10)
---(3/242)
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (يطوي الله -عز وجل- السماوات والأرض بيمينه ثم يقول: أنا الملك أنا الجبار أنا المتكبر أين الملوك؟ أين المتكبرون؟ أين المتجبرون؟ فلا يرد على رب العزة والجلال أحد كيف وقد أخذهم ربهم -سبحانه وتعالى-؟ فيجيبهم قائلاً: لله الواحد القهار) -سبحانه وتعالى- جل في علاه، والملك أيضاً في الدنيا لله جل ذكره، قلت بأنه نص هنا على أن الملك له في الآخرة حتى لا ينخدع منخدع بأن بعض الناس لهم من الملك في الدنيا, فقد يكون لهم كذلك في الدار الآخرة؟ لا... الملك حتى في الدنيا هو لله -سبحانه وتعالى- وحده، وإن أعطى الله -عز وجل- بعضاً من عباده شيئًا من الملك فهو ملك يسير، أو ملك جزئي، أو ملك محدود، أو ملك نسبي ضعيف، يعني ليس من الملك الكامل الذي يتصرف فيه المالك كما يشاء، فالملك في الحقيقة لله، وإذا ملك اليوم ملكاً على قوم من الناس، فإن الله -عز وجل- هو الذي ملكه، وملكه إما أن يزول هو عن هذا الملك وإما أن ينصرف الملك عنه، والله -عز وجل- هو مالك المالك: ?قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ? [آل عمران: 26] سبحانه وتعالى وهو بهذا يثني على نفسه، فملوك الدنيا، من الذي ملكهم رب العالمين -سبحانه وتعالى-، وهم مستخلفون فيما ملكهم الله -عز وجل- إياه، ولذلك أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن أخنع اسم عند الله -عز وجل- ما هو؟ شاهٍ شاه، يعني ملك الملوك أو ملك الأملاك لماذا؟ النبي -عليه الصلاة والسلام- بين قال: (لأنه لا ملك إلا الله) فالذي يتسمى بملك الملوك كما يطلق في بعض البلاد شاه شاه مثلاً كل هذا من الافتراء على الله -تبارك وتعالى-، ومن البهتان الذي لا يليق بأحد من البشر, بمخلوق ضعيف أن ينسب إلى(3/243)
(7/11)
---
نفسه ذلك، لأن ملك الملوك من؟ هو رب العالمين سبحانه وحده دون سواه.
ثم عقب رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- على قوله: ?الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ? عقب على هذا بقوله: ?فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ?56? وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ?57?? وهذا تفصيل للحكم الذي يحكم به ربنا بين العباد، لأنه قال: ?الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ? ما هو الحكم الذي يحكم الله به؟ فصلته هذه الآية لأن الناس كما سبق أن أشرت إليكم فريق في الجنة وفريق في السعير فالذين في الجنة قال الله عنهم: ?فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ? من آمن بالله -عز وجل- وصدق بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعمل الصالحات وآثر عبادة الله -تبارك وتعالى- فهذا في جنات النعيم أما من كفر وكذب واستكبر فهذا الذي هو في العذاب المهين، الذي أخبر عنه ربنا -سبحانه وتعالى- وقد جاءت الآيات في القرآن الكريم تبين كثيرًا مما أنعم الله -سبحانه وتعالى- به على عباده وتبين أيضاً كثيرًا مما يصيب به المكذبون الذين كذبوا بالله وبرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولعلي أذكركم بقول الله -تبارك وتعالى- فيما مضى: ?هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ? ثم بيَّن رب العزة والجلال ماذا لهذا وماذا لهذا وقد سبق أن أشرت إلى هذا في اللقاءات السابقة.
المحور الثاني: فضل الهجرة في سبيل الله -عز وجل- وما وعد الله به المهاجرين:
الهجرة لها فضل عظيم، ولها شأن كبير، وهذه الآية التي معي الآن بينت ذلك وهي قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ?58??
(7/12)
---(3/244)
الهجرة: هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وقد هاجر كثير من صحابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعضهم هاجر إلى الحبشة وبعضهم هاجر إلى المدينة وبعضهم اشترك في الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة النبوية, والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هاجر من مكة المكرمة إلى طيبة الطيبة مدينة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وكتب الله ولمن كان معه من الصحابة ثواباً عظيماً لهذه الهجرة، والآيات التي معنا أو الآية التي معنا الآن، تقرر هذا الأمر بوضوح، ?وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُو? وهذه الآية تبين أن المهاجرين ينقسمون إلى قسمين:
مهاجر يقتل في سبيل الله -عز وجل- ومهاجر يموت على فراشه، وكلاهما أعد الله له أجراً عظيماً، بنص القرآن الكريم حتى في غير هذه الآية, فمثلاً المهاجر الذي يقتل في سبيل الله -تبارك وتعالى- ماذا قال الله -سبحانه وتعالى- عنه؟ الذي يقتل في سبيل الله -عز وجل-: ?وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ?169?? [آل عمران: 169] هذا فيمن قُتِل في سبيل الله -عز وجل-.
(7/13)
---(3/245)
أما من مات على فراشه, هاجر في سبيل الله -عز وجل- ولم يُقتَل في سبيل الله -تبارك وتعالى- أيضاً له أجر عظيم وذلك بنص التنزيل كما قال رب العزة والجلال في كتابه: ?وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ? [النساء: 100] ومن وقع أجره على الله كان له من الله -عز وجل- حسن الثناء وحسن الثواب، والمآل الطيب الحسن، وقد أخبر ربنا -سبحانه وتعالى- عن هذا المآل في هذه الآية، فبعدما قال: ?وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا? اللام هنا لام ماذا؟ قسم يعني أقسم الله -عز وجل- أنا لا أغشش، أقسم الله -عز وجل- بأن هؤلاء سيرزقهم رزقاً حسناً، ورزق الآخرة عظيم وكريم يقول عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في هذا الرزق الحسن قال: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) والله -عز وجل- أثنى على هذا الرزق الحسن وذكره في كتابه في مقام الإشادة به، ?فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ?88? فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ?89?? [الواقعة: 88، 89] هذا شيء من الرزق الحسن، الذي سيرزق الله -سبحانه وتعالى- به من جاهد في سبيله أو خرج مهاجراً في سبيل الله -عز وجل- أو من أقام الدين وطبقه ونفذه لله -تبارك وتعالى-، كل هؤلاء جميعاً موعودون بالرزق الحسن، العميم في الدار الآخرة من الله -تبارك وتعالى-، ورزق الآخرة كما ذكرت كبير وواسع وعظيم، خاصة وأنه من عند الكبير -سبحانه وتعالى-. الناس في هذه الدنيا يرزقون كل الناس ترزق، البر والفاجر والمؤمن والكافر فالهواء الذي نستنشقه رزق من الله -تبارك وتعالى-، والطعام الذي نأكله رزق من الله -تبارك وتعالى-، والأمم كلها تشترك في ذلك، سواءً كانوا من المؤمنين أو من الكفار، ورزق الدنيا أيضاً يتفاوت أما(3/246)
(7/14)
---
الرزق الذي أعده الله -عز وجل- للمؤمنين في الدار الآخرة فهو رزق أفضل وأعظم من رزق الدنيا بكثير، بل إن الإنسان لا يستطيع أن يقارن بين هذين الرزقين: الرزق في الدنيا قد يفسد وقد يتحلل وقد لا تتمكن من الحصول عليه بسهولة وقد تعجز عن الحصول عليه أو على ما تشتهيه أما رزق الآخرة فهو لا ينفد ولا ينقطع، ولا ينتهي، ولذلك أهل الجنة يذكرون هذا النعيم وهم في الجنة، وهم يتنعمون برزق الله -تبارك وتعالى- عليهم يقولون: ?إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ?54?? [ص: 54] ويقول جل ذكره: ?وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا? [مريم: 62] يعني صباحًا ومساءً وطول الوقت رزق الله -تبارك وتعالى- لأهل الجنان دائم لا ينقطع، ولا ينتهي، ولا يجد المؤمنون في الجنة عناءً في الحصول عليه بل كلما اشتهوا شيئًا وجدوه بين أيديهم, بل في أفواههم.
(7/15)
---(3/247)
وهذا الرزق العميم مع كثرته وسيكون لأهل الإيمان -ونسأل الله أن نكون منهم- سيحرم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- منه الكافرين، بنص القرآن الكريم تأملوا هذه الآية من سورة الأعراف: ?وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ?50?? [الأعراف: 50] وهذا الرزق الذي يرزق الله -سبحانه وتعالى- به أهل الإيمان سيرضيهم، وسيشعرون بالسعادة وهم يتلقون هذا الرزق وهذا هو معنى قول الحق -تبارك وتعالى-: ?ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ?28?? [الفجر: 28] وهو معنى الحق -تبارك وتعالى-: ?وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ?72?? [التوبة: 72] ثم ختم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- هذه الآية بقوله: ?وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ? وهذا ختام جميل وتذييل يتناسب مع أول الآية ?وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ …? إلى آخره يختم ربنا -عز وجل- هذه الآية بقوله: ?وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ? عليم بأي شيء؟ عليم بما يُرضي أهل الإيمان فيعطيهم ما يستحقونه حتى يرضى أهل الإيمان، أو عليم بما يستحقونه فيفعله -سبحانه وتعالى- بهم، وأيضاً حليم فهو يؤخر العقوبة ولا يعاجل من اقترف ذنباً من أهل الإيمان لعله يرجع إلى الله -تبارك وتعالى-، أو من تأخر في الهجرة أو التوبة، وظهرت له فليرجع والوقت إن كان كافياً، فرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- عليم حليم.
الهجرة قد انقطعت أم لم تنقطع قبل أن أنتقل من هذه الآية؟ الهجرة انقطعت أم سائرة؟
نعم هي سائرة إلى يوم القيامة
من أين أكمل الجواب؟
(7/16)
---(3/248)
على تقسيم على أساس تقسيم فضيلتكم للهجرة
طبعاً قائمة من دار الكفر إلى دار الإيمان، ولكن كيف نجمع بين هذا وهذا كلام صحيح وبين قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)؟ ما معنى (لا هجرة بعد الفتح) ونحن نقرر الآن أن الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإيمان ما زالت قائمة؟ (لا هجرة بعد الفتح) يعني لا هجرة بعد أن فتح الله مكة على نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم-، لأن مكة أصبحت دار إسلام، وبعد أن أصبحت دار إسلام فلا هجرة فيها، وهذا الحديث كان له سبب بأن رجلاً أتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه أخوه يريد أن يهاجر، إن أخي يريد أن يهاجر يا رسول الله بعد فتح مكة، فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا هجرة بعد الفتح) وقبل أن أنتقل من هذه النقطة أفيدكم فائدة عظيمة جداً، يستبشر بها أهل الإيمان سمعتها من شيخي -رحمه الله تعالى- الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين وأنا أدرس عليه في الحرم المكي وهو يتعرض لهذا الحديث قال: هذا فيه بشارة بأن مكة ستظل على الدوام دار إسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا هجرة بعد الفتح) ومعنى أنه (لا هجرة بعد الفتح) يعني لا هجرة من مكة إلى غيرها بعد أن فتح الله مكة أنها ستصبح دار إيمان وإسلام، ولن يهاجر منها المؤمنون بعد ذلك، وهذه بشرى لكم يا أهل الإيمان فكعبتكم مصونة بفضل الرحمن.
طيب هناك مثل سائر عند الناس وبين طلبة العلم، ما أدري تعرفونه أم لا؟ ألا وهو لا هجرة بعد الفتح، هذا مثل سائر، فما معناه؟ من الأمثال السائرة بين طلبة العلم؟
لا هجرة في طلب الحديث بعد فتح الباري
(7/17)
---(3/249)
يعني بعد فتح الباري للحافظ ابن حجر -رحمه الله تبارك تعالى- يعني لا هجرة في طلب العلم أو طلب الحديث وهذا يعني فيه ثناء جميل على هذا الكتاب القيم لأنه في الحقيقة جمع بين الحديث وبين الفقه وبين علم مصطلح الحديث وبين اللغة وبين الأدب والرقائق، وما إلى ذلك, رحمه الله تبارك وتعالى.
المحور الثالث: بعض مظاهر قدرة الله -تبارك وتعالى- في الكون:
وأبدأ فيه بقول الحق -تبارك وتعالى- ?ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ?60?? كان الأستاذ الكريم ينظر إلي الآن ويقول هذا المحور كيف تبدأ به بهذه الآية؟
هذه الآية تبين عظمة الله -عز وجل- وأنه ينصر المظلومين وهذا فيه تأكيد على قدرة رب العزة والجلال سبحانه، وافتتح رب العزة والجلال هذه الآية بقوله: ?ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ? ذلك معناها ماذا؟ قال الزجاج وهو إمام من أئمة اللغة: أي الأمر ذلك، والمعنى يعني ما قصصناه عليك من أن من جاز ظالماً بمثل ظلمه دون اعتداء عليه ثم بُغي على المظلوم بعد ذلك، لينصرنَّ الله -تبارك وتعالى- المظلوم.
(7/18)
---(3/250)
وهنا لفتة قرآنية جميلة لأن فيها عبارة بلاغية لغوية عظيمة: ?ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ? عاقب يعني جازى، يعني أنت إذا جئت لتأخذ حقك من الذي ظلمك هل أخذ حقك منه يسمى عقوبة، هذا جزاء حسن، أنت تأخذ حقك منه، فكيف يطلق القرآن الكريم على الجزاء عقوبة، قال علماء اللغة: بأن هذا من المشاكلة في اللفظ، يعني لكي يكون بين اللفظين تجانس ومشاكلة ونظيره قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ? [الشورى: 40] فيمن يقتص من الذي قتله، طيب السيئة الأولى هي القتل, والثانية قصاص، والقصاص حسن وهو مطلوب، ومع هذا قال الله: ?وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ? [الشورى: 40] السيئة الثانية هنا جاءت من باب المشاكلة، ويمكن أن نعتبرها أو سيئة أو عقوبة بالنظر إلى المعنى الذي تحدثه في المعاقب، حتى ولو كان ظالماً، فهو يشعر بألم أم لا يشعر بألم؟ ومن هنا يطلق عليه عقوبة لأنه يقع على من؟ يقع على الظالم. الشاهد أن الله -تبارك وتعالى- ذكر في هذه الآية أن من عاقب بمثل ما عوقب به يعني أخذ حقه من ظالمه دون أن يزيد عليه، ثم رجع الظالم على هذا المظلوم بالبغي والعدوان، فرب العزة والجلال هنا يخبر أنه سينصر من؟ سينصر المظلوم ويقف إلى جواره، ويختم هذه الآية بقوله: ?إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ? وهذا الختام حقاً حسن، لو تأملتموه يا طلبة العلم، لأن فيه تحريضاً وندباً إلى العفو والمسامحة، وقد قرر ذلك القرآن الكريم في مواطن متعددة، فقول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [البقرة: 237] وكما قال سبحانه: ?وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ?34?? [فصلت: 34] ويقول سبحانه: ?وَلَمَنْ صَبَرَ
(7/19)(3/251)
---
وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ?43?? [الشورى: 43] إذن تذييل الآية, والله -عز وجل- يتكلم عن المجازاة والعقاب ويبيح للمظلوم أن يأخذ حقه من ظالمه، بالطرق المشروعة طبعاً وبمن يقيم الحدود حينما تقام في البلاد والدول، فالإنسان لا يستطيع أن يجازي هو من ظلمه بنفسه في كثير من الأحيان وإنما يعرض هذا الأمر على من يتولون الحكم في البلاد بين الناس، فمن ظلم إنساناً مثلاً وأخذ المظلوم حقه من هذا الظالم دون أن يعتدي عليه ثم رجع الظالم بعد ذلك على المظلوم فليعلم المظلوم في هذه الحالة أن ربه -سبحانه وتعالى- سينصره، وإن عفا المظلوم في الدار الآخرة عن الظالم فسيجمع رب العزة والجلال بينهما في يوم الدين ويأخذ أو ينال حقه عند الله -تبارك وتعالى- ورب العزة والجلال يصلح بين المؤمنين إن كانوا مؤمنين في يوم الدين أو يأخذ حق المؤمنين من الكافرين أيضاً في يوم الدين.
ثم يقول رب العزة والجلال سبحانه: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ?61?? هذه الآية عظيمة، ولها تعلق بالآية التي قبلها من وجهين: انتبه معي، الآية هذه لها تعلق بالآية التي قبلها من وجهين:
الوجه الأول: أن ذلك النصر المشار إليه في قوله: ?لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ? بسبب أن الله -سبحانه وتعالى- قادر ومن كمال قدرته أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.
الوجه الثاني: أن المراد أن الله -سبحانه وتعالى- مع ذلك النصر ومع هذه القوة ومع هذه العظمة، ينعم على عباده ويتفضل عليهم، ومن ذلك الإنعام: إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل.
(7/20)
---(3/252)
ومعنى ?يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ? يعني أنه -سبحانه وتعالى- يدخل هذا في هذا ويأخذ من هذا في هذا، وإدخال أو إيلاج الليل في النهار نعمة من الله -سبحانه وتعالى- على عباده امتن بها عليهم، فوجود ليل ونهار، هذا يعين الكائنات الحية على أن تراوح بين نومها ويقظتها، وعملها وراحتها، وصدق الله -عز وجل- حينما قرر ذلك فقال: ?وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ?10? وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ?11?? [النبأ: 10، 11] والله -عز وجل- حينما يقول هنا: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ? ويشير إلى ذلك, ويشير إلى شيء من عظمته وقدرته في هذا الكون، يعلم البشرية والخلق جميعاً ومن يعقل أنه لا يستطيع أحد أن يفعل ذلك إلا رب العالمين -سبحانه وتعالى- وتأملوا هذه الآيات من سورة القصص: ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ? [القصص: 71] إن كان الليل دائماً أبد الآباد عليكم إلى قيام الساعة هل يستطيع أحد غير الله -عز وجل- يأتيكم بضياء؟ ثم يعقب على ذلك فيقول: ?أَفَلاَ تَسْمَعُونَ ?71? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ?72?? [القصص: 71، 72] إن كان النهار دائماً أبد الآباد هل هناك أحد يستطيع أن يأتي العباد بليل يسكنون فيه؟ حاشا وكلا، فالذي يفعل ذلك على الحقيقة من؟ هو رب العالمين -سبحانه وتعالى, جل في علاه- وهذا من رحمة الله -سبحانه وتعالى- بعباده فإيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل يعني نقصان الليل ونقصان النهار ونحن نشاهد ذلك، فليل الشتاء طويل، أخذ من نهار هذا الشتاء، وليل الصيف قصير، أخذ النهار من ليل الصيف، وهكذا، هذا معنى: ?يُولِجُ اللَّيْلَ فِي(3/253)
(7/21)
---
النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ? والتعبير بـ ?يُولِجُ? هنا له فائدة، وهي ماذا؟ أن إيلاج الليل في النهار لا يأتي بغتة، وإنما يأتي على التدريج، الله -عز وجل- لم يقل يدخل الليل في النهار، وجربوا أنفسكم حينما تكونون في ظلمة قاتمة ثم تنتقل منها إلى ضوء ساطع شديد قوي هذا يؤثر عليك وعلى أعصابك، ولكن حينما تتدرج من النهار إلى الليل ومن الليل إلى النهار تكون في هدوء وتكون في راحة ولا تتأثر أي حاسة أو أي عصب من أعصابك بحال، وهذا من رحمة الله -سبحانه وتعالى- بعباده، ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ?61?? هذان اسمان من أسماء الله -تبارك وتعالى-، يفيدان أيضاً أن الله يتصف بالسمع والبصر، ومعنى ?سَمِيعٌ بَصِيرٌ? يعني سميع بما يقول عباده، بصير فلا تخفى عليه حركاتهم فهو -سبحانه وتعالى- يسمع كل شيء ويرى كل شيء -جل في علاه- الله -عز وجل- يرى ما تحت طبقات الثرى كما يرى ما تحت دون عرشه -سبحانه وتعالى- الكل عند الله -سبحانه وتعالى- سواء، كما أنه يسمع حتى دبيب النمل وهذا من عظمة رب العزة والجلال سبحانه، ونحن يجب علينا أن نفقه هذه المعاني لكي نعرف عظمة وجلال وقدر الله -عز وجل-.
(7/22)
---(3/254)
أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- أثنت على رب العزة والجلال بصفة السمع، لما جاءت المجادلة تجادل النبي -عليه الصلاة والسلام- وهي خولة -رضي الله تعالى عنها- في زوجها تقول أم المؤمنين عائشة: ( في ناحية من نواحي البيت) والبيت يعني يكون ماذا حجمه؟ قليل، تسع غرف لأصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام-، ترون مكانها في مسجد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الآن، يعني مترين في مترين وإن زاد ثلاثة في ثلاثة ليس إلا، تقول أم المؤمنين عائشة: (أنا في ناحية البيت وجاءت المجادلة تجادل النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم أسمع كثيرًا أو لم أسمع بعض كلامها وسبحان من سمع كلامها من فوق سبع سماوات) ?قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ? [المجادلة: 1] فهو -سبحانه وتعالى- يسمع شكوى الشاكي ومناجاة المناجي ودعاء الداعي واختلاف المختلف وكل ما يكون يسمعه رب العالمين -سبحانه وتعالى جل في علاه- كذلك يبصره رب العزة والجلال وقد جمع بينهما في قوله لموسى وهارون -عليهما السلام-: ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى? [طه: 46] أسمع ما يقال وأرى ما يفعل، وهذا يفيد إثبات صفتي السمع والبصر لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(7/23)
---(3/255)
ويستمر السياق في ذكر بعض المعاني الدالة على قدرة رب العزة والجلال سبحانه، فطالما أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وأنه سميع عليم إذن هذا هو الإله الحق، ولذلك عقب على ذلك بقوله -سبحانه-: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ? والله -عز وجل- هو الحق، واسمه الحق وفعله الحق وكلامه حق وما خلقه -سبحانه وتعالى- خلقه بالحق، والقرآن الكريم الذي نزل من عند رب العالمين ما أنزله ربنا -سبحانه وتعالى- إلا بالحق فلقاء الله حق ووعد الله حق وجنة الله حق ونار الله حق وكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به حق؛ لأنه -سبحانه وتعالى- هو الحق، ولذلك يقول عن نفسه: ?لَهُ? لا لغيره، ?لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ? [الرعد: 14] وهنا يقرر ذلك قائلاً: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ? وطالما أنه هو الحق فلا يُعبد إلا هو ولا يتوجه الإنسان لغير هذا الحق -سبحانه وتعالى-، ولذلك عقب على قوله: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ? عقب على ذلك بقوله: ?وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ? وهذه حقيقة، كل من دُعي من دون الله -تبارك وتعالى- باطل، لأنه لا يملك شيئًا، وليس لديه شيء ولا يستطيع أن يجيب دعاء من دعاه، وكيف يجيبه وهو لا يسمعه، والقرآن الكريم يقرر ذلك في مواطن متعددة ?إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ? [فاطر: 14] إن دعوتموهم وتوجهتم إليهم وطلبتم منهم لا يسمعونكم لأنهم إما أصنام وأوثان أو رجال غيبوا تحت الأرض وتحت الثرى، فلا يشعرون ولا يتحركون، ولا يملكون من وسائل الحياة التي هي عند الأحياء فكيف يا أيها الأحياء تدعون من هذه صفته؟ ?إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ? وعلى فرض ?وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ? [فاطر: 14] ولذلك كل من دُعي من دون الله -تبارك وتعالى- فهو باطل وضلال أما(3/256)
(7/24)
---
الذي يُدعى بحق فهو رب العالمين -سبحانه وتعالى- وعقب أيضاً على ذلك بقوله: ?وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ? وهذا أيضاً تذييل جميل وختام حسن لهذه الآية، تحتاج إليه أول الآية طالما أنه حق وأنه هو الذي يستجيب الدعاء وأن غيره لا يملك من الأمر شيئاً، قد يسأل سائل لماذا كل ذلك؟ الجواب: لأن الله هو العلي الكبير، كلمة ?الْعَلِيُّ? تفيد معاني عظيمة وكثيرة للغاية، تفيد علو الذات فالله -عز وجل- فوق عرشه بائن من خلقه - جل في علاه- والجميع تحت رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لأنه كما أخبر عن نفسه في كتابه بأنه استوى على العرش وأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك ويؤمنون باستواء الله على عرشه استواءً يليق بجلال الله وكماله، دون تشبيه أو تمثيل أو تأويل أو ضعف، فهو العلي بجميع ما تحمله هذه الكلمة من معنى، علو الذات وعلو الشأن، وعلو المكانة، وعلو القهر، جل جلال ربنا -سبحانه وتعالى-، ولذلك الإنسان حينما يسجد يقول ماذا؟ سبحان ربي الأعلى، لأنه في هذا الموطن قد وضع أشرف أو أعلى شيء فيه على الأرض ثم يشعر في قرارة نفسه أن رب -سبحانه وتعالى- فوقه, كذلك الملائكة يخافون ربهم من ماذا؟ كما أنك أنت يا عبد الله تسجد لربك وتعترف بأنه هو الأعلى ?سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى ?1?? [الأعلى: 1] كذلك الملائكة يخافون ربهم من أين؟ ?يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ? [النحل: 50] أما الكبير فهو الكبير المتعال -سبحانه وتعالى- فلا أعظم ولا أكبر من الله -عز وجل- بحال من الأحوال ولا يمكن أن يخطر على بشر أو على عقل عاقل أنه يكون أو يدعي أو يزعم أنه أعظم أو أعلى أو أكبر من الكبير المتعال جل في علاه.
(7/25)
---(3/257)
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ?63?? ما زال السياق قائماً ويعدد بعض مظاهر قدرة الله -تبارك وتعالى- وما ذكر في هذه الآية شيء من ذلك، تعالوا معي أولاً لنعرف ما المراد بالرؤية هنا: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً?؟ هل يا ترى هل رؤية بصرية أم رؤية علمية؟
رؤية علمية
أحسنت رؤية علمية، الظاهر وقد قال بذلك بعض المفسرين أنها رؤية بصرية، هذا الظاهر، لماذا؟ لأنه يقول: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً? إنزال الماء من السماء واخضرار الأرض أمر يشاهد بالأبصار أم لا؟ فقال بعض المفسرين الرؤية بصرية.
(7/26)
---(3/258)
ولكن الراجح -والله أعلم- أن المراد بالرؤية هنا الرؤية العلمية لماذا؟ قيل: لأن إدراك أن الله هو الذي ينزل المطر من السماء لا يكون إلا بالعلم، ولا يدرك هذا الأمر كثير من الكفار والمشركين, لا يدركون أن الله بيده وحده، الذي ينزل المطر من السماء إلى الأرض وبيده وحده الذي ينبت البقل من الأرض، أو النبات من الأرض، فإدراك الإنسان لذلك هو العلم، والرؤية إن كانت بصرية، دون علم يقوم بها فلا فائدة منها، ?أَلَمْ تَرَ? يعني ألم تعلم، وبعض المفسرين قال: ?أَلَمْ تَرَ? هنا على سبيل الاستفهام، يعني ألم تخبر؟ وقد يكون هذا بعيد، فالرؤية كما هو الراجح أنها رؤية علمية، يعني إذن ?أَلَمْ تَرَ? يعني ألم تعلم، ماذا نعلم؟?أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ? في الحقيقة إنزال المطر من السماء نعمة من الله -تبارك وتعالى- على عباده، ولا يقدر أيضاً على شيء من هذه القدرة أو على أمر من هذه الأمور إلا خالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى, جل في علاه- فالله -عز وجل- وحده هو الذي يقدر على إنزال المطر من السماء، والآية فيها إشارة جميلة عندما نقول: إن الرؤية هنا رؤية علمية لماذا؟ لأن الله -عز وجل- يعلم -سبحانه وتعالى- ويوجه المطر إلى المكان الذي يَنبُت فيه الزرع، وإلى مكان البذور التي وضعت في الأرض حتى تنبت بإذن الله -تبارك وتعالى-، ولا يعلم ذلك إلا من؟ إلا رب العالمين -سبحانه وتعالى-، ويؤكد هذا المعنى ما جاء على لسان لقمان -عليه السلام- حينما قال لابنه ?يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَ? ماذا؟ ?يَأْتِ بِهَا اللهُ? [لقمان: 16] -سبحانه وتعالى-، أما غيره من المخلوقين فلا يستطيعون شيئًا من ذلك بحال من الأحوال، فالله -عز وجل- هو الذي ينزل المطر من(3/259)
(7/27)
---
السماء وهو الذي يُنبت الأرضَ -سبحانه وتعالى- بقدرته, وهذا الإنزال من السماء، والإنبات من الأرض يدل دلالة واضحة على شيء سبق أن قلته وذكرتكم به ما هو؟ وسبق أن تحدثنا عنه في اللقاءات السابقة؟ على أي شيء بالذات؟ هذا طبعاً لا شك أنه دليل قوي على قدرة الله -تبارك وتعالى-، ولكن على قدرته على البعث والنشور على وجه الخصوص، لقول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ? [فصلت: 39] بعدها ماذا؟ هذه الآية؟ ?أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ? اهتزت بالنبات وانتفخت الأرض به, بعدها: ?إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? [فصلت: 39] فكما أحيى هذه الأرض الجرداء كذلك أيضاً يحيي رب العالمين -سبحانه وتعالى- الأرض بعد موتها.
(7/28)
---(3/260)
?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً? قيل: ?فَتُصْبِحُ? يعني تصير، ويصبح لا إشكال في ذلك، ولكن على ?فَتُصْبِحُ? على ظاهر الآية ؟ يعني ينزل المطر في الليل نصبح في الصباح نجد الأرض مخضرة؟ الفاء لا تفيد ذلك، لأن الفاء تفيد الترتيب والتعقيب المباشر، قال العلماء: بأن التعقيب هنا في كل موطن بحسبه، الله -سبحانه وتعالى- لما قال: ?ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا? [المؤمنون: 14] الفاء هنا للتعقيب ولكن السنة النبوية المطهرة كما في الصحيحين وغيرهما بينت أن بين كل شيئين من هؤلاء كم؟ أربعون يوماً، إذن فتعقيب كل شيء على حسبه. ?فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً? هنا مسألة: المطر إذا نزل من السماء اخضرت الأرض وهذا أمر مشاهد ومعلوم، ولكن هنا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- عطف الفعل المضارع على الماضي ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً? ?أَنْزَلَ? هذا فعل ماضٍ، و ?تُصْبِحُ? فعل مضارع، عطف المضارع على الماضي هنا لفائدة عظيمة جداً، وهي ماذا؟
دوام إنزال المطر واخضرار الأرض في وقت بعد وقت، وأيضاً يفيد استحضار الهيئة التي عليها الأرض من الاخضرار والفعل الماضي لا يفيد ذلك، فكأن القرآن الكريم ينادي على المخاطبين استحضروا دائماً إنزال المطر من السماء واخضرار الأرض بهذا المطر الذي نزل من عند الله -تبارك وتعالى-، لأنها آيات مشاهدة بين الحين وبين الآخر وما ذاك إلا لأن الله -سبحانه وتعالى- ?لَطِيفٌ خَبِيرٌ?.
(7/29)
---(3/261)
?لَطِيفٌ? يعرف دقائق الأمور و?خَبِيرٌ? يعلم خفايا الصدور، وأود أن أعود في اللقاء القادم - إن شاء الله تبارك تعالى- إلى كلمة ?إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ? وما بعدها لأني أود أن أقف عندها - إن شاء الله تعالى- وقفة يسيرة لأن وقت البرنامج قد انتهى معنا الآن فأكتفي بهذا وأسأل الله -عز وجل- أن ينفعنا بما نقول وبما نسمع وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه, وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إجابات الحلقة الماضية:
السؤال الأول: اذكر أسماء الأنبياء الذين أرسلوا إلى كل من: عاد، وثمود، وأصحاب مدين. وما نوع العذاب الذي نزل بكل قوم من هؤلاء مع الدليل لما تذكر؟
وكانت الإجابة:
عاد: أرسل الله إليهم هود -عليه السلام- قال الله تعالى: ?فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ?15? فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ ?16?? [فصلت: 15، 16].
قوم ثمود: أرسل الله إليهم صالحاً -عليه السلام- قال الله تعالى: ?وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ?17?? [فصلت: 17] وقال الله تعالى: ?وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ?77? فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ?78?? [الأعراف: 77، 78].
(7/30)
---(3/262)
أصحاب مدين: أرسل الله إليهم شعيباً -عليه السلام- قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ?94?? [هود: 94].
الإجابة صحيحة لكن كنت أتمنى من المجيب أن يذكر أيضاً لأني طلبت منه أن يستدل من القرآن على ما يقول والآيات التي ذكرها مع صالح وشعيب -عليهما السلام- فيها اسم صالح وشعيب -عليهما السلام- أما لم يأتِ ذكر لهود -عليه السلام- فلو ذكر اسم النبي هود في قول الله –تعالى-: ?وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودً? [الأعراف: 65] لاكتمل الجواب تماماً, والله أعلم.
السؤال الثاني: «ليس العمى عمى البصر» اذكر ما يدل على ذلك من الآيات التي درستها.
وكانت الإجابة:
قال الله -تبارك وتعالى-: ?أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ?46?? [الحج: 46].
إجابة صحيحة.
السؤال الثالث: اذكر ثلاثة أقوال لأهل العلم في إبطال قصة الغرانيق. وما الصواب في قوله تعالى: ?إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ? [الحج: 52]؟
وكانت الإجابة:
كثير من العلماء أبطلوا قصة الغرانيق لاعتبارات كثيرة منها:
1- أنه لا يمكن أن يتصور أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يتقول على الله ما لم ينزل من الكتاب، قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ ?44? لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ?45? ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ?46?? [الحاقة: 44- 46].
(7/31)
---(3/263)
2- أن في سياق السورة نفسها -سورة النجم- ما يدل على بطلان هذا الحديث فقد جاءت السورة مبينة بطلان هذه الآلهة التي لا تضر ولا تنفع، قال الله -تبارك وتعالى-: ?إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ? [النجم: 23]
3- ذكر الحافظ ابن كثير أن هذه الروايات التي تذكر هذه الروايات كلها روايات جاءت من طرق مرسلة وأنها ليست صحيحة، والرأي الراجح في تفسير هذه الآية أن التمني هنا بمعنى القراءة وأن الشيطان كان يلقي وساوس حول ما يقرأ به النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان يقول: سحر وكهانة وكان المشركون يتلقون هذا القول ويقولون به، فهم أي المشركون يتلقون هذه الشكوك من الشيطان وكيد الشيطان في هلاك وخسران، فقد جعل الله في هذه الوسوسة للشيطان من باب الفتنة لمن كان في قلبه مرض.
الجواب سليم وصحيح، جزى الله خيراً المجيبب.
فضيلة الشيخ هناك سؤال من الأخت الكريمة من فلسطين تقول: ما هو الفرق بين ?عَذَابٌ مُّهِينٌ ? ?عَذَابٌ أَلِيمٌ? و?عَذَابٌ عَظِيمٌ? و?عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ?؟
الحقيقة يعني ليست هناك فروق متنوعة بين هذه الألفاظ التي ذكرتها السائلة الآن ولكنها كلها تطلق على عذاب الله -تبارك وتعالى- فالعذاب المبين أو المهين أو الرجز كله يشترك في أنه وصف للعذاب بأنه أليم وشديد أو محرق كما جاء في بعض الآيات وقد سبقت الإشارة إلى شيء من ذلك.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: أليست الكعبة ستهدم في آخر الزمان؟
(7/32)
---(3/264)
بلى هذا صحت به الأحاديث ولكن في الوقت الذي ستهدم فيه الكعبة وهذا تقدير كوني من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فيأذن بعده رب العزة والجلال بنهاية العالم لأن الأحاديث التي وردت في نهاية الساعة أخبرت وصحت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنه سيرسل ريحاً طيبة أو نسمة ريح طيبة قبل قيام الساعة فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ولا يبقى إلا الكافرون والمشركون والمنافقون، وعليهم تقوم الساعة) فلا حاجة لوجود الكعبة وقتئذ -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
أعتقد فضيلة الشيخ أنها تريد أن تربط بين هذا الحديث وبين كلام فضيلتكم عن أن مكة ستظل إسلامية؟
لا، هذا طبعًا واضح، يعني مكة تظل باقية -إن شاء الله وتعالى- وفيها الكعبة المشرفة وهدم الكعبة في آخر الزمان لن يكون بعده أو هناك من يعبد الله -تبارك وتعالى- حتى نقول بأننا بحاجة إلى دار إيمان أو هناك كعبة يزورها حجاج أو معتمرون أو يصلي عندها من يصلي، فسيكون هذا في نهاية هذا العالم -إن شاء الله تبارك وتعالى- فلا تعارض بين الأمرين.
الأخ الكريم يقول: ذكرتم فضيلتكم أن فرعون قال: ?آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ? [يونس: 90] ومع ذلك لم تقبل توبته، لأن التوبة عند المقابلة أو المعاينة لا تقبل؟
(7/33)
---(3/265)
نعم هذا صحيح، ونص العلماء قالوا يعني عند الغرغرة، يعني عند خروج الروح من البدن، فلا تقبل التوبة، لماذا؟ لأن ملك الموت كا جاء في الحديث يأتي ويجلس عند رأس الميت ويجلس أعوان ملك الموت، عندما يراهم هو ببصره ويتولى ملك الموت قبض الروح، هنا الميت يعاين هذا كله، فكأن الأمر أصبح الذي كان يكذب به حقيقة واقعة بين يديه لا يجد مناصاً من إنكاره أو التكذيب به، فإذا آمن في هذه اللحظة لا يقبل إيمانه كما أيضاً لا يقبل إيمان من آمن بعد طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها هي آية أو علامة من علامات الساعة الكبرى، كل كافر كان موجود في ذاك الوقت ويريد أن يؤمن لا يقبل الله -تبارك وتعالى- منه الإيمان.
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة لها سؤالان تقول: فضيلة الشيخ حفظكم الله أستأذنكم أن توضحوا لي قوله تعالى: ?لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ? [الحج: 53] هل ما يلقيه الشيطان في تلاوة وقراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء مسموع مثلاً؟ أم هو كناية عن فهم خاطئ يفهمه مرضى القلوب والقاسية قلوبهم؟
(7/34)
---(3/266)
بالنسبة لما يلقيه الشيطان وقد سبق أن ذكرت ذلك في اللقاء السابق هي وساوس يوسوس بها إلى الكفار والمشركين يسمعهم إياها، أو يجريها على ألسنتهم، أو يضعها في قلوبهم، فهذه الوساوس التي يلقيها الشيطان تصل إلى أسماع المشركين من طرق متعددة فالشيطان إما أن يسمعهم إياها وإما أن يوسوس أو أن يوقع بها في قلوبهم وما إلى ذلك، وما يفعله الشيطان كما نصت عليه الآية إنما هو فتنة لهؤلاء القوم المكذبين المشركين الذين أنكروا بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وفي المقابل عندما يشك هؤلاء ويكون هذا فيه من الفتنة ما فيه لهم، يكون طمأنينة وسكينة على من؟ على أهل الإيمان فيطمئنوا لما نزل من عند الرحمن -تبارك وتعالى-، وعلى كل فالشيطان له وسائل متعددة مع الإنسان: إما أن يزين له هذا بالقول وإما أن يوسوس له في أذنه بذلك أو أن يقيمه في قلبه، بالطرق الكثيرة المتعارفة.
الأخ الكريم من سوريا يقول: قلت يا شيخ: إن الشمس عندما تغيب تسجد تحت العرش، هذا هو الحق ولا ريب فيه، ويقولون: إن الشمس إذا غابت من سوريا تذهب إلى مصر، من مصر إلى المغرب يعني تكون دائماً غروب دائماً على مدار الأربع والعشرين ساعة, فكيف التوفيق في هذا الأمر؟
الأخت الكريمة من السعودية تقول:
السؤال الأول: أريد بعض التوضيح في آية العقاب التي تفضلتم بشرحها.
السؤال الثاني: سألتني إحدى النساء قالت: من النساء من تستضيفينهن في بيتك وتقدمين لهن ما تستطيعين من طعام وقول حسن إلى غير ذلك، فيقابلون ذلك بغيبة لكِ في مجالسهن، والكذب عليكِ وكذا سرقة أشياء من بيتك كالمال وغيره بالإضافة إلى إخراج أسرار البيت. فكيف تقابلين هذه الأنواع من الظلم بمعاملات يرضاها الله ورسوله إذا كنت لم تستطيعي العفو أحياناً نظراً لعمق الجرح؟
السؤال الثالث: إذا تعمد الإنسان قول السوء في وجهك مباشرة فهل تدافعين بقول السوء مثله بأخذ العقاب بمثله أم لا؟ وجزاكم الله خيراً.
(7/35)
---(3/267)
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من سوريا كان يسأل عن الشمس وكيف نجمع بين أنها تسجد تحت عرش الرحمن وبين أنها حول العالم؟
هذه بارك الله فيك يا أخي الكريم أمر سهل جدًا وميسور للغاية, هذه في الحقيقة أمور لا تتعارض فهي مسائل غيبية فالشمس تسجد تحت العرش حقيقة وهي أيضاً تمضي في طريقها على الحقيقة ونحن لا نعرف كيفية ذلك أو ما هي الهيئة التي يتم بها سجود الشمس، فهي من المسائل الغيبية فنحن مثلاً نؤمن بعذاب القبر ونعيم القبر وقد نفتح القبر على رجال مختلفين متعددين فيهم البر وفيهم الفاجر فيهم من ينعم وفيهم من يعذب، ومع هذا لا نشعر لا بنعيم ولا بعذاب، وهم في الحقيقة أمرهم دائر بين النعيم وبين العذاب، لماذا؟ لأن هذه مسألة غيبية نحن لا نعرف حقيقتها ولا نعرف كنهها، فالشمس كما أخبر رب العزة والجلال تسجد وكما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي ذر وهو في الصحيحين وغيرهما أنها تسجد تحت العرش، وأنها ستأتي عندما تخرج من المغرب بعد ذلك تستأذن ربها في أن تخرج كعادتها من المشرق بعدما تسجد فلا يأذن لها ربها -سبحانه وتعالى- في أن تخرج من المشرق ولكنها يأذن لها أن تخرج من المغرب، وعندئذ ?لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ ?158?[الأنعام: 158] كما ذكر ذلك القرآن الكريم، فلا إشكال بحمد الله -تبارك وتعالى- لأن هذه مسائل غيبية نؤمن بها كما وردت، ونكل علم كيفيتها وحقيقتها إلى ربنا -سبحانه وتعالى-.
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة من السعودية كان لها ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: تريد تفصيلاً أكبر في آية العقاب؟
(7/36)
---(3/268)
التفصيل في العقاب، ?ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ? الآية تقرر أن الإنسان إذا وقع عليه ظلم واستطاع أن يأخذ حقه من ظالم فلا حرج عليه، وذلك فيما يمكن أخذ الحق فيه, رجل أو امرأة سرق منك شيئًا أو امرأة سرقت وتمكنت من أخذ هذا أو أن يقام عليه الحد أو ما إلى ذلك ففعلك في هذه الحالة وسعيك في هذه المسألة لا شيء عليك فيه، ولا ضرر عليك ولا إثم عليك في فعله وإن كان رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- رغب في العفو والصفح، هذا معنى ?وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ? يعني لا حرج على من أخذ حقه من غيره، وإن رد الظالم بعد أخذ الحق منه، رد ظلمه مرة أخرى على المظلوم، فليعلم المظلوم في هذه الحالة أن الله -سبحانه وتعالى- مؤيده وناصره لا محالة.
سؤالها الثاني: عن أخوات تكرمهم ويقابلوها بالغيبة ولا تستطيع أن تعفو لعمق الجرح؟
(7/37)
---(3/269)
المطلوب هو العفو والصفح كما ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه، وإذا لم يعفُ الإنسان ويصفح أرجو أن تنتبهوا لدقائق الألفاظ كما قلتها، قلت: من استطاع وكان رد العقاب أو أخذ حقه من الظالم ميسوراً وممكناً فلا حرج في أخذ الحق وإن كان العفو والصفح أقرب إلى التقوى كما ذكر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، ولكن لو أن الظالم بغى عليك وقال فيك ما لا ينبغي أن يقول ظلماً وبهتاناً ورماك بكلام لا يجوز أنت كمسلم أن تقوله، كأن سبك بكلمات لا ينبغي ولا يجوز لك أن تقولها، هل تفعل فعله؟! لا، إنسان سرق بيتك تقول: أذهب أسرق أنا بيته، أو فعل فاحشة مثلاً عند قوم يذهب أصحاب هذا القوم ليفعلوا به؟ هذا ما لا يجوز ولا يفهم هذا بحال من الأحوال، ولكن العقوبة أو الجزاء فيما يمكن أخذ الجزاء فيه، وما عدا ذلك فإما العفو والصفح وإما أن يأخذ المظلوم حقه من الظالم، في الدار الآخرة كما جاء في ذلك الحديث عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: المفلس من أمتي ليس الذي ليس من معه مال ولا دينار ولا درهم وما إلى ذلك، وإنما المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة وقد ظلم هذا وقد شتم هذا وقد أخذ عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته ويأخذ هذا من حسناته ويأخذ هذا من حسناته فإذا فنيت حسناته ألقي من سيئاتهم ثم طرح في النار).
سؤالها الثالث: كانت تسأل عن رد السوء بالسوء؟
لعلي أجبت عليه الآن.
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة من الكويت: هل هذا الإلقاء من الشيطان خاص بتلاوة الرسل -صلوات الله عليهم-؟ وما المراد بنسخ الله ما يلقي الشيطان؟
(7/38)
---(3/270)
لاشك أن الشيطان يوسوس ولكن هذه حالات خاصة في الآية فيما يتعلق بالأنبياء والمرسلين يعني أن النبي أو الرسول إذا تلا يعني قرأ القرآن وسوس الشيطان فيما يتلوه هذا النبي أو هذا الرسول كأن يوحي إلى قومه بأنه شعر أو سحر أو أساطير الأولين وما إلى ذلك، ?فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ? [الحج: 52] يعني أن الله -تبارك وتعالى- يثبت الحق في قلوب المؤمنين فلا يزيغون ولا ينصرفون ولا يتأثرون بما يلقيه الشيطان وإن زاغ الكافرون وضلوا في فعل الشيطان هذا، فالله -عز وجل- ينسخ هذا القول الذي ألقاه الشيطان وأذاعه عن قول النبي أو مع قول النبي أو الرسول ويُحكم الله -سبحانه وتعالى- آياته وتبقى في صدور أهل الإيمان وفيما قاله النبي -عليه الصلاة والسلام-.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من الجزائر يقول: ما مدى صحة القول بأن الساعة تكون يوم الجمعة؟
ورد هذا عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الأخ الكريم من الولايات المتحدة الأمريكية يقول: قوله تعالى: ?وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ? ما المقصود ?مِن دُونِهِ?؟ وهل تعني أن كل شيء دون الله -سبحانه وتعالى-؟
نعم، يعني بها رب العزة والجلال أن كل من دُعي من دون الله -تبارك وتعالى- فهو من الباطل، سواءً كان ملكاً مقرباً أو نبيًا مرسلاً أو ولياً صالحاً أو ما إلى ذلك ممن توجه الناس بهم ودعوهم من دون الله -تبارك وتعالى-، هذا هو معنى الباطل وكل ما يُدعى من دون الله -عز وجل- فهو باطل والله -سبحانه وتعالى- هو العلي الأعلى جل في علاه.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من الولايات المتحدة الأمريكية يقول: من الناس من يقول: إنه لا إله في الوجود إلا الله وهذه الآية وأمثالها تثبت أن هناك آلهة تعبد من دون الله فنرجو من فضيلة الشيخ أن يعلق على ذلك.
(7/39)
---(3/271)
أحسنت يعني الحقيقة هذا سؤال جميل للغاية، والقرآن الكريم ذكر أن من عُبِدَ من دون الله أطلق عليه إلهاً، ولكن إله بالباطل، فالذي يعبد بحق هو الله -تبارك وتعالى-، وهذه الآلهة وإن عبدت من دون الله -تبارك وتعالى-، وأطلق القرآن الكريم عليها بأنها آلهة إلا أنها آلهة باطلة، وأنها عبدت بباطل، أما الذي عبد بحق، فهو رب العالمين -سبحانه وتعالى-.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة.
السؤال الأول: ما المراد بالساعة في قول الله تعالى: ?حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً?؟ ولماذا سميت بذلك؟ وماذا تفهم من قوله ?بَغْتَةً?؟
السؤال الثاني: قول الله تعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ? له تعلق بما قبله من وجهين اذكرهما.
السؤال الثالث: ما الراجح في الرؤية في قوله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً?؟ وماذا يفيد عطف المضارع ?فَتُصْبِحُ? على الماضي ?أَنْزَلَ?؟
(7/40)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الثامن
الدرس الثامن: تفسير سورة الحج
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً بكم ومرحباً بالمشاهدين الكرام ونلتقي -إن شاء الله تعالى- في اللقاء الثامن وأيضًا مع سورة الحج كما تعلمون, وسيدور الحديث في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- حول المحاور التالية:
المحور الأول: تعداد بعض نعم الله على خلقه.
المحور الثاني: التشريع حق لله وحده دون سواه.
المحور الثالث: كراهية المشركين لآيات القرآن الكريم.
وسنستمع -إن شاء الله تعالى- إلى الآيات التي سأتحدث عن هذه المحاور من خلالها -إن شاء الله تعالى- وأطلب الآن من الأخ الكريم فلنستمع معه إلى هذه الآيات.(3/272)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(8/1)
---
?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ?65? وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ?66? لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ?67? وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ?68? اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ?69? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ?70? وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ?71? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ?72??.
أحسنت وجزاك الله خيراً.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا وإمامنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واقتفى أثرهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد.
(8/2)
---(3/273)
أيها المشاهدون الكرام نلتقي كما ذكرت في هذا اللقاء مع الآيات التي استمعتم إليها قبل قليل، وهي تبدأ من قول الحق جل ذكره: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ?65?? وهذه الآيات سيكون الحديث عنها مع المحور الأول:
المحور الأول: ألا وهو تعداد بعض نعم الله على خلقه، والآيات السابقة قبل هذه الآية بآيتين أو ثلاث لها اتصال وثيق بهذه الآية، وقد عنونت لها فيما مضى: حديث عن قدرة الله -تبارك وتعالى- في الكون، وما نراه من نعم الله -سبحانه وتعالى- وما ذكرته هذه الآية وما جاء في آيات أخر من كتاب الله الكريم، كل ذلك يسير في نمط واحد، وفي سياق واحد كريم ليؤدي إلى حقيقة واحدة، ألا وهي قدرة الحق -تبارك وتعالى- وأنه -سبحانه- له نعم على عباده لا تعد ولا تحصى، والله -عز وجل- قد ذكر لنا هذه الآيات كي يتأمل الإنسان من خلالها إلى أن خالق هذا الكون واحد وإلى أن موجد هذا الكون هو رب العالمين وعليه فيجب على العباد جميعاً أن يتوجهوا لله -سبحانه وتعالى- بالعبادة، في اللقاء السابق ذكرت قول الحق -تبارك وتعالى- وهو في سياق بيان قدرة الله وتعداد نعمه على عباده، ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً? [الحج: 63] وقد تحدثت عن هذا فيما مضى، وقلت: ختام هذه الآية ?إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ? [الحج: 63] جاء في مكانه تمامًا، لأن اللطيف هو الذي يفعل الأشياء ويعلم دقائقها -سبحانه وتعالى- ويعلم ما فيها من أسرار واللطيف: هو الذي يفعل للعباد ما يصلحهم ويدفع عنهم الشر الذي يمكن أن ينزل بهم إذا أراد ربنا -سبحانه وتعالى- أن لا ينزل بهم مكروه، ولذلك لطف الله بعباده ظاهر خاصة بين المقربين من عباد الله -جل(3/274)
(8/3)
---
ذكره- ولأضرب بعض الأمثلة على ذلك:
- يوسف -عليه السلام- مر بمحن وبكرب كبير وعظيم، وشدائد متعددة منذ أن ألقاه إخوته في البئر ثم بعد ذلك وبعد أن خرج سكن في قصر امرأة العزيز أو جلس مع امرأة العزيز وراودته عن نفسه كما ذكر القرآن الكريم، ثم بعد ذلك خرج من هذا القصر ليدخل السجن ظلماً وعدواناً دون أن يقترف ذنباً أو يُلِمَّ بمصيبة ثم بعد ذلك كانوا كما تعلمون فعل به إخوته ما فعلوا وتفرق عنه إخوته وابتعد عنه أبوه، وشاء الله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك أن يخرج من السجن وأن يولى شيئًا في إمارة هذه البلاد وأن يجمعه بأبيه، كل ما حدث كان من لطف الله -تبارك وتعالى-، والقرآن الكريم هو الذي أخبرنا عن هذا وذكر لنا ربنا ذلك لكي نعتقد ونعلم ونرجع إلى اللطيف -سبحانه وتعالى-، تأملوا قول الله - جل ذكره- في نهاية الحديث عن يوسف بعد أن ساق رب العزة والجلال الحديث عنه وما مر به يقول -سبحانه وتعالى-: ?وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ? [يوسف: 100] فيبين صلوات الله وسلامه عليه، أن ما حصل له من نجاة وما وقع فيه من نعم، إنما هو بسبب من؟ بسبب لطف الله -تبارك وتعالى-، ومن لطف الله -جل ذكره- أنه أمر أمهات المؤمنين أن يعلمن المؤمنين آيات الله والحكمة التي كانت تتنزل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو في بيته بين أزواجه، ?وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ?34?? [الأحزاب: 34] إلى غير ذلك من المواقف التي يصعب علينا أن نحصر مثلها الآن ثم(3/275)
جاءت الآية
(8/4)
---
التالية بعد ذلك, وقبلها ختم رب العزة والجلال باللطيف الخبير، والخبير أيضاً هو الذي يعلم دقائق الأمور، ولذلك نجد أن بعض الآيات القرآنية التي يكون فيها عمل يحتاج إلى شيء من الخفاء يذكر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- اسمه الخبير؛ ليبين للفاعل أنه هو وحده يعلم بما يفعله وأنه لا يحتاج إلى غيره أن يشاهد أو أن يرى، وأن الكتمان في مثل ذلك مطلوب وذلك كالأمور المعلومة في الصدقات وما إلى ذلك واقرؤوا قول الله -جل ذكره- في هذا: ?إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ?271?? [البقرة: 271] فختم باسمه -سبحانه وتعالى- الخبير في مثل هذا الموطن ليدعو الناس ويعلمهم إلى أنه بهم عليم وأن هذا الاسم يفيد علم الله -سبحانه وتعالى- بدقائق الأمور التي قد تخفى على الكثيرين.
(8/5)
---(3/276)
ثم يقول رب العزة والجلال سبحانه: ?لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ?64?? [الحج: 64] بصيغة التأكيد عود إلى أن الملك كله لله -تبارك وتعالى- والدنيا والآخرة كلها ملك لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وما ذاك إلا لأنه الغني، وما ذاك إلا لأنه الحميد، ولو تأملتم آيات القرآن الكريم ستجدون دائماً أن اسم الغني والحميد يقترنان بعضهما ببعض في كثير من آيات القرآن الكريم، اسم الله الغني مع اسم الله الحميد، جاء في القرآن الكريم مقترناً في أكثر من موضع والله -عز وجل- هو الغني وغيره فقير إليه، ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ?15?? [فاطر: 15] وذكر أيضاً الحميد هنا وفي قوله عن لقمان -عليه السلام-: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ?12?? [لقمان: 12] أيضاً جاء بالحميد إلى جوار الغني وهذا ثناء من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- على نفسه خاصة حينما يختم هذه الآية بالحمد فهو الحميد وحمد ربنا -سبحانه وتعالى- نفسه في كثر من آيات القرآن الكريم, بل إنه افتتح خمس سور من كتابه بالحمد، خمس سور من كتابه افتتحها ربنا -سبحانه وتعالى- بالحمد.
(8/6)
---(3/277)
أما الآيات التي تلت هذه الآيات فهي تعداد أيضاً لنعم الله -سبحانه وتعالى- على عباده، ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ? تأمل يا أيها الإنسان إلى ما تراه في هذه الأرض من زروع وثمار وجبال وأودية وأنهار وبحار وما يدب على ظهر هذه الأرض من حيوانات وما إلى ذلك كل هذا سُخر لك أنت أيها الإنسان والتسخير بمعنى التذليل والله -عز وجل- سخر أصلب الأشياء للإنسان، فالحجارة والحديد من أصلب الأشياء وهي مسخرة للإنسان يستخدمها الإنسان في حاجاته وما يحتاج إليه من منافع فيها، هذه الدواب التي سبق أن تحدثنا عنها, الإنسان يستخدمها في نقل متاعه ويشرب منها لبناً سائغاً للشاربين ويستخدمها لحماً في طعامه وتنقله من مكان إلى مكان وما إلى ذلك، ذللها رب العباد -سبحانه وتعالى- لك أيها الإنسان، هذه الأرض بما شق الله -عز وجل- فيها من أودية وأنهار وبحار هذا تسخير لك أيها الإنسان, ما يوجد في قاع البحر من لحم طري ومن لؤلؤ ومرجان ومن منافع كثيرة أودعها رب العبادة -سبحانه وتعالى- في الأنهار والبحار والمحيطات هو تسخير لك أنت أيها الإنسان، هذه الجبال أيضاً سخرها الله لك، لأن الله -عز وجل- لكي يسخر لك هذه الأرض ويذللها جعلها أمامك منبسطة وحتى لا تميد بك ولا تضطرب جعل الله -سبحانه وتعالى- فيها الجبال أوتاداً، ?أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا ?6? وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ?7?? [النبأ: 6، 7] ?وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ? [المرسلات: 27] عاليات مرتفعات حتى لا تضطرب بك هذه الأرض فتكون مذللة لمنافعك ولمصلحتك أنت أيها الإنسان، ولم يقتصر الأمر كما ذكر الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- لم يقتصر الأمر على تسخير ما في الأرض فقط, بل سخر الله -عز وجل- ما في السماء للإنسان، وجاء هذا في آية أخرى في كتاب الله ذكرها الإمام الحافظ عند هذه الآية -رحمه الله تعالى- وهي قول الله -جل ذكره-:
(8/7)(3/278)
---
?وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ? [الجاثية: 13] فأشار رب العزة والجلال أيضاً إلى ما في السماء هذه الكواكب النيرات التي أودعها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في السماء هي مسخرة لك أنت أيها الإنسان، ?وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَّزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ?16?? [الحجر: 16] ولذلك في صحيح البخاري عن قتادة -رحمه الله تعالى- قال: (خلق الله النجوم لثلاث: -ثم ذكر- قال: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلاماتٍ يهتدي بها الناس، فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخط) يعني من طلب في هذه النجوم غير هذه المسائل الثلاث فقد أخطأ، والناس اليوم كما نرى ونشاهد يخطئون كثيرًا في مسائل النجوم وهي مسخرة لهم بتسخير الرب -تبارك وتعالى-، فالبعض ينسب نزول المطر من السماء إلى هذه النجوم، والبعض ينسب ما يحدث على ظهر هذه الأرض من أحداث له إلى النجوم، والبعض يعتمد على حسابات مختلفة متعددة ويظن أن هذه النجوم تعطيه نحساً أو سعداً أو أنه يعرف من خلالها ما سيقع عليه وهذا مشهور ومعروف بين الناس فيما يعرف بـ«حظك اليوم» وما إلى ذلك مما يتداوله بعض الناس وكل هذا خروج عن التسخير الصحيح الذي أفاد الله -سبحانه وتعالى- به العباد ومَنَّ به عليهم من نعم كثيرة أودعها رب العزة والجلال في هذا الكون.
(8/8)
---(3/279)
أود أن أشير قبل أن أنتقل إلى نقطة يسيرة في قول الله -تبارك وتعالى- ?وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ? [الجاثية: 13] بعض الناس يظن أن كلمة ?مِّنْهُ? هنا تفيد أن الله -سبحانه وتعالى- حال في هذا الكون، وهذا ضلال وبهتان، فمعنى تسخير الله -سبحانه وتعالى- هذه الأشياء ?مِّنْهُ? يعني من عنده -سبحانه وتعالى-، هو الذي تفضل عليك بها وهو الذي منَّ عليك بها والله -عز وجل- عالم على جميع خلقه مستوٍ على عرشه -سبحانه وتعالى- وهو بذلك يعلم ما الخلق عاملون, وهذا من عظمة رب العزة والجلال، هذا شيء مما أشار الله -سبحانه وتعالى- إليه هنا من تسخير الله -عز وجل- لشيء مما في الكون لهذا الإنسان، وأشارت الآية إلى الأرض وأشارت بعد ذلك إلى أمر آخر: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ? بعدها ?وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ? هذه الفلك آية من آيات الله -عز وجل- هكذا سماها ربنا في كتابه ?وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلاَمِ ?32? إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ?33?? [الشورى: 32، 33].
قد يقول قائل كيف سخر الله لنا الفلك واليوم قد صنع الناس لها مكائن تسير بها؟ نقول: من الذي سخر هذه الأنهار والبحار والمحيطات لهذه الفلك حتى تسلك فيها وتسير؟!! من الذي أوجد هذه المادة التي صُنعت منها هذه الفلك؟!! ومن الذي وفق وهدى الإنسان إلى أن يصنع هذه الفلك كي تمخر عباب البحار والمحيطات وتنقل أيضاً الإنسان من مكان إلى مكان ومن قطر وعليها متاع الإنسان وما يحتاج إليه؟!! كل ذلك بتسخير رب العباد -سبحانه وتعالى-.
(8/9)
---(3/280)
ثم يقول رب العزة والجلال في هذه الآية مبيناً أمراً آخر من نعمته على عباده: ?وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ? السماء عالية رفعها رب العباد بغير عمد كما نشاهد ونرى، هذه السماء شديد ثقيلة، كما قال الله: ?وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ?12?? [النبأ: 12] وحُقَّ لها أن تكون كذلك، لما جاء في سنن الترمذي وابن ماجه وحسنه أو صححه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-: (أطت السماء وحق لها أن تئط) الأطيط هو ماذا؟ الحركة التي يفعلها الحيوان حينما تضع عليه حملاً، تجد أنه ينزل شيئًا ثم يعود بعد ذلك إلى ارتفاع: (أطت السماء وحق لها أن تئط) لماذا؟ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم أو راكع لله -تبارك وتعالى- فالسماء ثقيلة ورفعها رب العباد بغير عمد ومع ذلك أمسكها ربنا -سبحانه وتعالى- بقدرته وحكمته وعزته عن أن تسقط على هذه الأرض، حتى لا تهلك العباد وربنا توعد المكذبين بقدرته ونعمه بشيء من ذلك، ?إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ? [سبأ: 9] يقول سبحانه: ?إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ? [فاطر: 41] ولا يوجد أحد يمكن أن يفعل ذلك إلا رب العالمين سبحانه فهذه نعمة عظيمة تأمل يا عبد الله إلى السماء وقد رفعها ربك بغير عمد ومع ذلك لا تسقط عليك، أمسكها ربنا -سبحانه وتعالى- بعظمته وقدرته وكبريائه وقوته وكل ذلك لمن؟ لك أنت أيها الإنسان.
(8/10)
---(3/281)
?وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ? والاستدراك هنا لماذا؟ لأن العالم سيتغير حينما يشاء ربنا -سبحانه وتعالى- أن تكور هذه الشمس وأن تندثر هذه النجوم وأن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وما إلى ذلك فسيحدث انقلاب كوني هائل في هذا الكون، ولذلك استثنى رب العزة والجلال أنه يمكن أن يحدث ولكن لن يكون ذلك إلا إذا شاء رب العبادة -سبحانه وتعالى- ثم يبين ربنا -عز وجل- أن كل ما يحدث في هذا الكون وهذه النعم العظيمة يا عباد الله التي عددها ربكم عليكم, كل ذلك ما كان إلا لأن الله بكم رحيم، ?إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ? -سبحانه وتعالى- فلولا أن الله بعباده رحيم ولولا رأفة الله -سبحانه وتعالى- بعباده، ما كان ذلك مع ماذا؟ مع ظلم العباد لله -سبحانه وتعالى- وظلمهم لله لماذا؟ يخالفون شرعه ويخرجون على أمره ويقترفون ما حرم الله, بل إنه -وللأسف الشديد- بعض الناس اليوم يجادلون في وجود الله -تبارك وتعالى-، وينسبون ما يحدث على ظهر هذه الأرض إلى أمور هي مخلوقة من عدم أوجدها رب العبادة -سبحانه وتعالى- ومع ذلك ينسبونها إلى غير الله -عز وجل-، فالناس يظلمون أنفسهم ويتطاولون على مقام رب العزة والجلال ومع ذلك ربنا -سبحانه وتعالى- بهم رؤوف رحيم ?وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ? [الرعد: 6] رغم ظلم العباد فالله -عز وجل- يغفر لهؤلاء الناس، ولذلك أنتهزها فرصة لأدعو أيضاً عموم الناس أن هلموا إلى الغفور الرحيم, تعالوا إلى رب رحيم يغفر الذنب الكثير، ويعفو عن السيئات ويعفو عن كثير، ربنا -سبحانه وتعالى- بنا يا أيها المؤمنون ويا مستمعون ويا أيها المشاهدون بنا رؤوف رحيم.
(8/11)
---(3/282)
ثم يعدد ربنا -عز وجل- نعماً أخرى علينا قائلاً: ?وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ?66?? وختام الآية أيضاً مناسب ?وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ? ما معنى ?أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ?؟ يجب أن نعلم، أحياكم نحن كنا موتى؟ نعم، قبل أن نموت الموتة التي ستأتي أيضاً كنا موتى، متى كان ذلك؟ إما أننا نكون موتى في العدم أو أننا موتى ونحن في نطف أمهاتنا قبل أن تنفخ فينا الروح، فالإنسان في هذه الحالة ميت، ولذلك في الحقيقة هما إماتتان وإحياءتان، كما قال الله -عز وجل-: ?كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا? فماذا؟ ?فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ? [البقرة: 28] فموتتان وإحياءتان، رب العزة والجلال أشار إليهما في كتابه، الموتة الأولى قبل أن توجد وأنت نطفة في رحم أمك كنت ميت، ثم جاء أمر الله -عز وجل- فنفخ فيك الروح أيها الإنسان كنت ميتاً فأحياك الله -عز وجل-، وتخرج بعد ذلك أو بعد فترة من رحم أمك حياً إن شاء الله لك ذلك ثم تعيش ما شاء الله لك أن تعيش ثم بعد ذلك تموت، ثم بعد ذلك يبعثك ربك من جديد فيحييك، هذه نعمة من الله عليك أيها الإنسان ومع هذا الناس من الكفار والضلال والمشركين ومن يخالف أو يجحد برب العزة والجلال لا يدرك ذلك ولا يعرف معاني هذه الكلمات فهو مع ذلك كله ومع هذه النعم التي يتقلب فيها: نعمة الإيجاد, نعمة أن من الله عليك بالحياة، نعمة أن أعطاك الله -عز وجل- هذه الروح هذه نعمة من الله عليك، مع هذا كله ?إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ? وما كان له ذلك، ما كان ينبغي للإنسان أن يقابل ربه -سبحانه وتعالى- بهذا الأمر، ولذلك الآية جاءت بكلمة الكفر على صيغة المبالغة لأن الإنسان إذا لم يدرك هذه الحقائق ولم يرجع إلى ربه ومولاه، فهو كافر مبالغ في الكفر، لأن هذا(3/283)
(8/12)
---
كان داعياً كبيراً له، إلى أن يسلم لأمر الله -تبارك وتعالى- فلما لم يفعل كان كافراً بل في غاية الكفر وأعلاه كشأن القوم الذين منَّ الله عليهم بالجنان، الذين ذكروا في سورة سبأ: ?لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ? [سبأ: 15] هؤلاء الناس شوف ?جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ? ربنا ما طلب منهم شيئًا يكلفهم طلب منهم يعني شيء يسير جداً، ?كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ? وهذا يعود إليهم، الأمر الثاني: ?وَاشْكُرُوا لَهُ? [سبأ: 15] طلب منهم أن يأكلوا ويشكروا فأعرضوا عن ذلك فسلط الله عليهم ما سلط وختم الآية بقوله: ?فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ?16? ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ?17?? [سبأ: 16، 17] يعني ما كان ينبغي عليك أيها الإنسان بعد أن أوصلك ربك ومن عليك بهذه المنن وتفضل عليك بهذه النعم أن تكون جاحداً لربك ومولاك فمن لم يؤمن إذن يا أيها المؤمنون الكرام من لم يؤمن فهو كافر مبالغ في الكفر والعياذ بالله -تبارك وتعالى-، وحسابه وعقابه عندما يقف بين يدي رب العزة والجلال سبحانه وقد أشارت إليه الآية بعد قليل أو آيات ستأتي أشارت إلى مثل ذلك سنعرفها وسنقف عليها -إن شاء الله تعالى-.
المحور الثاني: التشريع حق لله وحده دون سواه:
(8/13)
---(3/284)
التشريع حق لله وحده دون سواه، وذلك كما قال رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ?لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ? والخطاب موجه لمن؟ للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ?إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ? الله -عز وجل- في هذه الآية بعدما ذكر وعدد نعمه على عباده الدنيوية بما أعطاهم مما أشارت إليه الآيات سواء كان في هذا اللقاء أو السابق، بدأ يعدد نعمة أخرى على عباده غفل عنها الكافرون والظالمون ألا وهي نعمة التشريع، نعمة الوحي نعمة ما جاءنا به الأنبياء والمرسلون من عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، فهذه نعمة معنوية تحيي القلوب فكما أن أجسادنا تنبت وتصل إلى ما تصل إليه من تطور بسبب ما نتغذى عليه من نعم الله في أرض الله كذلك الروح تسعد وتنعم وتسلك الطريق القويم وتسير في صراط مستقيم إذا التزمت بالشرع الذي جاء من عند الله وكله حق لله وحده دون سواه فالمشرع على الحقيقة منزل الأوامر الذي يجب أن يرجع إليه وأن يتحاكم الناس إلى ما أنزل هو رب العالمين -سبحانه وتعالى-، والآية أخبرت أن الله -عز وجل- قد جعل لكل نبي من الأنبياء نسكاً ?لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكً? والمنسك في لغة العرب: هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه.
ولذلك نحن نسمي مناسك الحج مناسكَ لماذا؟ لأن الناس يرجعون إليها ويترددون عليها، فرمي الجمرات متكرر والذهاب إلى عرفات متكرر في كل عام، والطوف بالبيت يتكرر، ولذلك سميت مناسكَ لأنها أمور يرجع إليها الناس وقتاً بعد وقت.
(8/14)
---(3/285)
الله -عز وجل- أخبر أنه جعل ?لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ? يعني هم عاملون به، ومن هنا أقول: كل أمة جاءها نسك من عند الله -عز وجل- كان يجب عليها أن تلتزم به، وبعد بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يجب على الجميع أن يدخل في دين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لأن الله أخبر أنه جعل لكل أمة منسكاً، وقيل: المنسك عيد يعتادونه، يعني أعيادهم، وقيل: المراد بالمنسك الذبائح، وقيل: المراد بالمنسك الشرائع التي شرعها الله -عز وجل- لكل أمة، وقد سبق أن أشرت وذكرت أن الله -عز وجل- جعل لكل أمة شرائع تختلف عن الأمة الأخرى وكان اتفاقهم في أصل الدين وأساسه ألا وهو التوحيد والإيمان بالله -تبارك وتعالى-، وذكرت الحديث الذي يؤيد ذلك فيما مضى، والله -عز وجل- بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر الأنبياء والمرسلين وأخذ عليهم العهد إن بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم أحياء أن يتابعوه وأن يدخلوا في شريعته لأن شريعة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ناسخة لجميع الشرائع السابقة، فإن جاء منازع اليوم أو جاء منازع حتى في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد وقع لا يُلتفت إليه والله -عز وجل- قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما قال في أول الآية: ?لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ? قال له: ?فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ? يعني لا يخالفوك فيه، ولا يناقشوك ويجادلوك فيه، وقد وقع من المشركين مجادلة ومنازعة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في مسائل كثيرة، منها مسائل عقدية ومسائل تشريعية فالمسائل العقدية واضحة أبوا أن يعبدوا الله -عز وجل- استكبروا أن يقولوا: لا إله إلا الله قالوا: ?أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ?5?? [ص: 5] وفي التشريع كانوا يموهون على الناس بقياس فاسد باطل، فمثلاً كانوا يقولون للناس وللمسلمين: أتأكلون مما قتلتم(3/286)
(8/15)
---
بأيديكم ولا تأكلون مما قتل الله؟ يعني يقولون: هذه البهيمة التي ماتت الله الذي قتلها فكيف لا تأكلون مما قتل الله وتأكلون مما قتلت أيديكم؟ وكانوا ينازعون أيضاً في البيع الذي أحله الله -عز وجل- ويقولون: ?إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا? [البقرة: 275] وهكذا الله -عز وجل- نهى هؤلاء الناس أن ينازعوا وأن يخالفوا نبي الهدى والرحمة-صلوات ربي وسلامه عليه- ثم يثبت رب العزة والجلال أيضاً قلب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حينما يقول له: ?وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ? الله أكبر ما أجمل أن يدعو العبد إلى الله -تبارك وتعالى-، لا يدعو إلى قبلية ولا إلى عصبية ولا إلى راية ولا إلى زعامة وإنما يدعو إلى الله -عز وجل- وهذا شأن المصلحين الذين بعثهم الله -عز وجل- من الأنبياء والمرسلين وكل من يدعو إلى الله على بصيرة متبعاً في ذلك النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-, الله -عز وجل- في القرآن الكريم أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يدعو إلى الله: ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? [النحل: 125] وهكذا يأمر الله -عز وجل- النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعو إليه وقد قال الله له وقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- معلناً هذا كما ذكره ربنا في كتابه: ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ?108?? [يوسف: 108] وشهادة الله لنبيه بأنه على الحق شهادة يعتز بها لا شك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعتز بها كل مؤمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(8/16)
---(3/287)
?وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ?، ومثله: ?فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ?79?? [النمل: 79] كلها شهادات للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأنه متبع ما أنزله ربه -سبحانه وتعالى- عليه.
ثم يقول رب العزة والجلال بعد ذلك: ?وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ?68?? أي: إن خاصموك بالباطل وجادلوك فماذا تفعل أيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ ?فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ?.
حقيقة هذه الآية لي معها وقفة يسيرة، أولاً: هل الجدال مذموم أو ممدوح؟ أقول باختصار شديد: الجدال بالباطل مذموم ليس بممدوح، الجدال لإبطال الحق وإحقاق الباطل أو المراء في دين الله -عز وجل- أو الجدال للفخر والكبرياء والاعتلاء على عباد الله كل هذا لا يجوز بحال من الأحوال وقد نهت عنه السنة النبوية المطهرة.
أما الجدال بالحق فهو دائرة مسموحة ولكن بالتي هي أحسن, بالخلق القويم, النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يجادل المشركين، وقد أمره ربه بذلك فقال: ?وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? [النحل: 125] وقال لنا ربنا يا أيها المؤمنون: ?وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? [العنكبوت: 46].
بعد ذلك وقفة أخرى مع هذه الآية، هذه الآية أفادت أيها الإخوة الكرام أمرين يكفي، لا أقول ثلاثة:
الأمر الأول: إعراض النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن المشركين:
(8/17)
---(3/288)
هذا يفهم من قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ?68?? يفهم منها إعراض النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن هؤلاء المكذبين وقد قال له ربه في كتابه: ?وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ?41?? [يونس: 41] هذه الآية تفيد إعراض النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هؤلاء، أعرض عن هؤلاء لا تستحق أن تقف أمامهم، ولا أن تتعب نفسك في الحوار معهم والمجادلة بل أعرض عن هؤلاء لأنهم كذبوا بما هو أوضح من ذلك.
الأمر الثاني: تهديد ووعيد للمشركين:
(8/18)
---(3/289)
قوله: ?فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ? هذا تهديد ووعيد للمشركين شأنه كقول الله -تبارك وتعالى- مثلاً: ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ? [فصلت: 40] ويفهم الوعيد والتهديد من هذه الآية من آيات أخر، فقول الله -تبارك وتعالى- مثلاً في المكذبين: ?هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ? [الأحقاف: 8] لما تختلف مع إنسان الآن أو تجادل إنسان جاحد أو منافق أو ما إلى ذلك، تقول: الله شهيد بيني وبينك، أو تقول: حسبي الله ونعم الوكيل هذا فيه تهديد ووعيد لهذا المكذب والله -عز وجل- قد توعد في كتابه المكذبين ومن أصرح الآيات في ذلك: ?فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ?11?? [الطور: 11] إذن ?وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ?68?? على صغر حجم هذه الآية الكريمة وكلماتها إلا أنها تفيد فوائد عظيمة للغاية تفيد إعراض النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هؤلاء المشركين, وتهديد رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أيضاً لهؤلاء المشركين ويتبع هذا التهديد تهديد آخر ولكنهم لا يعقلون، وهو في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ?69?? الله -سبحانه وتعالى- يحكم أيها المخالفون, أيها المجادلون, أيها المكذبون هو -سبحانه وتعالى- الذي سيتولى الحكم بينكم يوم القيامة فيما اختلفتم فيه وهذه الآية كقول الحق -تبارك وتعالى- في سورة الشورى: ?فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ?15?? [الشورى: 15] واللهِ إن قلب العبد المؤمن ليسعد بمثل(3/290)
(8/19)
---
هذه الآيات حينما يسمعها أو يقرؤها ونحن حينما نقرؤها ونعلمها ونتدبرها ونؤمن بها ونثق بوعد الله -عز وجل- فإننا نركن إلى قوي متين -سبحانه وتعالى- ونسند ظهورنا ونكل أمورنا إلى من بيده ملكوت كل شيء -سبحانه وتعالى- وبالتالي نحن جميعاً نشعر بأن أهل الإيمان يعيشون في سعادة غامرة حتى ولو ظلمهم الظالمون وافترى عليهم المفترون وتعالى عليهم المتعالون وهذه فترات تكون مؤقتة بين الحين والآخر، نصبر لأننا نعلم أن موعدنا عند رب العالمين -سبحانه وتعالى-، ?اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ?.
ثم تتوجه الآيات بعد ذلك للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيقول الله له: ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ?70?? بعدما أخبر رب العباد -سبحانه وتعالى- في الآية السابقة أنه يحكم بين العباد ذكر أنه يعلم ما في السماء والأرض -سبحانه وتعالى- ومعنى هذا أنه يفيد المستمع أن الحكم سيكون بالعدل وبالإنصاف لا بالجور والظلم، لماذا؟ لأنه يعلم ما في السماء والأرض -سبحانه وتعالى-.
والآية أولاً وجه الخطاب فيها للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ?أَلَمْ تَعْلَمْ? والأمة يشملها هذا الخطاب، فهو ليس خاصاً بالنبي -صلوات الله وسلامه عليه-.
الاستفهام في ?أَلَمْ تَعْلَمْ? قال العلماء: هذا الاستفهام للتقرير، والنبي -عليه الصلاة والسلام- مقر, ما فائدته؟ كأن الله -عز وجل- يقول له: أما علمت وتيقنت من أن الله يعلم ما في السماء والأرض -سبحانه وتعالى- وهذا أيضاً يفيد تقوية وتثيت قلب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(8/20)
---(3/291)
?أَن اللهْ يَعْلَمْ? تفيد إثبات صفة العلم لله -تبارك وتعالى- والله -عز وجل- يعلم كل ما في السماوات وما في الأرض منذ أن وجد وقبل أن يوجد وإلى أن تنتهي الآجال، علم الله -سبحانه وتعالى- واسع ومحيط، وعلم الله -عز وجل- علم أزلي كانت تعجبني عبارة نسبت إلى الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يثني على ربه فيقول: «الله -عز وجل- علم ما كان أزلاً أو يعلم ما كان ويعلم ما سيكون ثم يقول: وما لم يكن لو كان كيف يكون»، يعني الله -عز وجل- حتى ما لم يوجد لو كان يعلم رب العزة والجلال أنه على أي هيئة سيكون وهذا له مستند شرعي من القرآن الكريم ليس كلاماً باطلاً في سورة الأنعام طلب المشركون أن يردوا إلى الحياة الدنيا والله -عز وجل- قضى أن من يموت لن يرجع، إذن هذا أمر لن يكون، ثم يخبر رب العزة والجلال عن أنهم لو رجعوا ماذا سيكون حالهم؟ فيقول: ?وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ? [الأنعام: 28] إذن يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون فالله -عز وجل- يعلم كل ما السماوات وما في الأرض وما بين السماوات والأرض وما تحت طبقات الأرض وما إلى ذلك وعلم الله -سبحانه وتعالى- محيط وشامل لكل شيء والله -سبحانه وتعالى- يتصف بهذه الصفة الجليلة وهذه الكائنات ما وجدت إلا بعلم الله -تبارك وتعالى- ولن تحاكم ولن تحاسب إلا بعلم الله -سبحانه وتعالى- فالله -سبحانه وتعالى- بكل شيء عليم والعلم صفة ذاتية أزلية لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- يتصف بها ربنا -سبحانه وتعالى- وليحذر أي مؤمن يمكن أن يقول: كيف يعلم رب العزة والجلال ما كان وما سيكون وقد تمر عشرات الآلاف من السنين وسيكون مليارات من الأمم والناس والحيوانات غير ذلك احذر أن يوسوس لك الشيطان بذلك فالله -عز وجل وتبارك وتقدس- عظيم وأي عظمة فهو يتصف بالعلم وهو -سبحانه وتعالى- حقاً بكل شيء عليم -سبحانه وتعالى- والآية أفادت أن علم الله قديم وأنه -سبحانه(3/292)
(8/21)
---
وتعالى- كتب في الذكر هذا العلم لأن الله يقول في هذه الآية ? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ?، ماذا بعدها ? إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ ?يعني هذا يعني هذا مسجل في كتاب عند رب العزة والجلال ما المراد بالكتاب؟ من يجيب علي؟
اللوح المحفوظ
المراد بالكتاب اللوح المحفوظ, الله -عز وجل- فعلاً كتب في الذكر كل شيء ألا وهو اللوح المحفوظ في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: هذا حديث يرويه عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث صحيح في صحيح مسلم يذكر فيه (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ) وقد روى أصحاب السن أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب, قال: وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء فجرى القلم بكل ما هو كائن إلى يوم القيامة).
(8/22)
---(3/293)
إذن علم الله أزلي والله -سبحانه وتعالى- كتب في الذكر كل شيء أو كتب في اللوح المحفوظ كل شيء على ما سبق في علم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ونحن معشر أهل الإيمان نؤمن بهذا ونصدق به ونسلم له لأنه يسير على الله -عز وجل- والله -عز وجل- يخاطبنا بما نعلم وإلا فليس هناك يسير وصعب عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ولكن في عرفنا نحن -إن كنا نعقل- هذا أمر يسر للغاية على من ملك السماوات والأرض وعلى الكبير المتعال -سبحانه وتعالى- بقي أن أقول لكم وأحذر كل من يمكن أيضاً أن تسول له نفسه بأن ينكر كما أنكر بعض الهالكين شيئاً من صفة العلم فيما يعرفون بالقدرة الأولى الذين خرجوا في أخريات عهد الصحابة وأنكروا علم الله السابق للأشياء وهؤلاء -بحمد الله وفضله- انقرضوا في منتصف القرن الثاني للهجرة وابتلينا بعد ذلك بمن أطلقوا على أنفسهم فلاسفة, بعض هؤلاء الفلاسفة يقول: بأن الله -عز وجل- لا يعلم الجزئيات والله -سبحانه وتعالى- يعلم في الجملة علم جملي إجمالي أما تفاصيل هذه الأمور فلا يعلمها رب العباد إلا بعد أن تقع وهذا كذب وضلال وافتراء فالله -عز وجل- يعلم ما في السماء والأرض وقد سجل ذلك في اللوح المحفوظ وهو أمر هين وسهل ويسير على رب العالمين -سبحانه وتعالى- ثم بعد ذلك يقول رب العزة والجلال ويحكي عن المشركين: ? وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ?71??، وهذه الآية تأتي بعد أن عدد رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- نعمه على عباده وبين لهم أنه هو الفاعل الحقيقي وهو الذي منَّ عليهم بهذه النعم ومع ذلك يتركون المنعم ويتوجهون إلى غير الله -سبحانه وتعالى- ويا ليتهم حينما توجها توجهوا بحجة أو دليل أو برهان ولكنهم وقعوا في ضلال مبين حينما تركوا المنعم وتوجهوا إلى غير الله –تبارك وتعالى- ممن يستفيد بنعم الله -عز(3/294)
(8/23)
---
وجل- عليه: ? وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ? من هؤلاء ؟ المشركين يعبدون من دون الله -تبارك وتعالى- ?مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا? يعني ليس عندهم حجة وليس معهم برهان وليست معهم أدلة حينما انصرفوا عن عبادة الله إلى عبادة غير الله -سبحانه وتعالى- ليس معهم دليل على ذلك ولا يمكن أن يكون معهم دليل وليس هذا فحسب أيضاً ليس معهم علم بهذا الأمر ? وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ? فعلوا هذا لأي شيء؟ ما الدافع؟ ما الأمر الذي أدى بهم إلى أن يفعلوا ما فعلوا؟ هو محاكاة الآباء والأجداد في الكفر والشرك قالوا كما ذكر الله عنهم: ? إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ? [الزخرف: 22] هكذا قال المشركون للنبي -صلى الله عليه وسلم- المهم أن هذه الآية تبين أنه ما كان ينبغي للعباد أن يتركوا ربهم -سبحانه وتعالى- الذي أعطاهم وتفضل عليهم ومنَّ عليهم ويلجؤون إلى غيره –سبحانه- وهؤلاء إذن في أسوأ حالة حينما يعبدون ما لم ينزل الله به سلطاناً وما ليس لهم به علم ثم تصفهم الآية بأنهم من الظالمين وليس لهم من دون الله من ولي ولا نصير يقول سبحانه: ? وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ?71?? هذ الختام أفاد أن هؤلاء المشركين, أن هؤلاء الظالمين وقعوا في الشرك لأن الظلم عند الإطلاق يراد به الشرك كما قال لقمان لابنه ? إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ?13??[لقمان: 13] فهم أيضاً مشركون ثم يا ليتهم لما أشركوا بالله -تبارك وتعالى- وعبدوا غير الله يستفيدون شيئاً أو الآلهة التي عبدوها من دون الله -تبارك وتعالى- تعطيهم وتقف إلى جوارهم أو تعطيهم شيئاً من النعم ولو يسير التي أنعم الله بها عليهم أو تدفع عنهم سوءاً أومكروهاً يمكن أن ينزل بهم الآية ذكرت هذا ويفهم هذا من قول الله -تبارك وتعالى-:? وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ? يعني أن هذه الآلهة لن تنفعهم ولن يستفيدوا(3/295)
منها ولن
(8/24)
---
تنصرهم بل -وللأسف الشديد أيها الإخوة الكرام- القرآن الكريم يلفت نظر الناس إلى أمر واللهِ لو فقهوه وهم يعلمونه ويقفون عليه ولكنهم لا يفقهونه لو فقهوه لتركوا كل ما يعبد من دون الله -تبارك وتعالى- تأملوا ماذا يقول الله -عز وجل- لهؤلاء المشركين في سورة يس: ? وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ?74? لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ?75? ?[يس: 74: 75] هذه الآلهة يا أيها المخاطبون الذين عبدتم هؤلاء من دون الله لا تستطيع هذه الآلهة بحال أن تنصركم والأعجب من هذا أن هؤلاء المشركين هم الذين ينصرون هذه الألهة ويحرسونها يعني: لن أذكر شيئاً لكم ولكن كل واحد منكم بعقله كل مشاهدٍ الآن يسترجع معلوماته وينظر في أحوال الناس اليوم وينظر إلى كل من عبد من دون الله -تبارك وتعالى- ستجد أن هؤلاء العابدين هم الذين يحمون هذه الآلهة المزعومة التي توجهوا إليها من دون الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المشركين هم الذين يحرسونها هم جنود لهم ? وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ?74? لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ ? أي المشركين ? جُندٌ مُّحْضَرُونَ ? واقفون على رؤوسهم يحرسونهم لأنهم لو أتاهم مكروه لن يستطيعوا أن يدفعوه عن أنفسهم ولذلك هذا أمر واضح ومشاهد ولا أريد أن أضرب على هذا أمثلة.
هذه الأمثلة التي نذكرها الآن والقرآن الكريم حينما يذكر ذلك ويعبدون من دون الله أيضاً يدعو هؤلاء أن يفكروا بعقولهم كيف تلجأون إلى أمر لم يأذن الله -سبحانه وتعالى- فيه وليس عندكم حجة أو برهان عليه فهلموا إلى الحق وإلى الطريق القويم وإلى الصراط المستقيم الذي بعث به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
المحور الثالث: كراهية المشركين لآيات القرآن الكريم:
(8/25)
---(3/296)
وهذا المحور سيدور الحديث فيه حول هذ الآية وهي الآية الأخيرة ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ?72?? الله -عز وجل- في هذه الآية يبين حال الكفار والمشركين حينما تتلى عليهم آيات القرآن الكريم يسمعونها من النبي -صلى الله عليه وسلم- أو يسمعونها من أحد من الصحابة ما حالهم؟ وكيف يكونون؟ ?وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ? المراد بالمنكر -أيها الإخوة- هنا هو الغيظ وشدة الغضب وهذا من الحمق والسفه أن يغضب الإنسان لما لانت له الحجارة ويلين له الحديد, الحجارة والحديد تلين لكلمات الله –تعالى- وقلوب الكافرين وعقولهم وأفئدتهم تزداد غيظاً وحمقاً وبغضاً وكراهة لآيات القرآن الكريم القرآن الكريم يصور حالة هؤلاء الناس وكأنه يرسم لهم لوحة ينظر إليها كل مؤمن وهي تشفي صدور المسلمين يعني أنت يا عبد الله اتلُ على هؤلاء المشركين كتاب الله -تبارك وتعالى- حتى يغتاظوا فتعرف في وجوههم المنكر سيتحول حالهم إلى وضع كريه للغاية غضب ومقت لأنفسهم هم لأنهم لم يؤمنوا بآيات الله –تعالى- ولم تنشرح لآيات الذكر الحكيم ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ? ولما تتلى عليهم الآيات وتجدهم بهذه الآية يريدون أن يفعلوا شيئاً يريدون أن ينفسوا عن أنفسهم يريدون أن يكبتوا الغيظ الذي في قلوبهم بإيذاء أهل الإيمان ? يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ? يسطون عليهم لشدة غضبهم فيؤذونهم والسطو: هو الإيذاء بشدة وقد وقع هذا من المشركين(3/297)
(8/26)
---
للنبي -صلى الله عليه وسلم- ووقع من بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- على أهل الإيمان وعباد الله وأولياء لله الصالحين من الكفار الظالمين كم آذى الكفار أهل الله -تبارك وتعالى- والذين يتلون كتاب الله -تبارك وتعالى- وما ذاك لما قام في قلوبهم من غيظ وبغض وحقد على كتاب الله أولاً وعلى المؤمنين الذين آمنوا وصدقوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي نزل عليه هذا الكتاب ولا يقف الحد عندما نقول: إن السطو هو الإيذاء بشدة عند السطو باليد فقط إنما يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا بأيديهم وأيضاً بألسنتهم الجيوش الجرارة من أعداء الله -عز وجل- تجيش بين الحين والآخر وفي كثير من البلاد من يهود ونصارى وعلمانيين وغيرهم لمحاربة دين الله -تبارك وتعالى- باللسان وبالقول وتنوعت وكثرت وسائل الإعلام المختلفة وفيها أبواق كثيرة لهؤلاء المجرمين يسطون بها على الذين يتلون آيات الله -تبارك وتعالى-.
هذه الآية صورت لنا حالهم الكريهة البغيضة التي يمقتها كل إنسان عاقل ولكن الله -عز وجل- بين لهم حالة أخرى أشد من هذه الحالة أنتم إذا عُرف المنكر في وجوهكم أيها المشركون وامتلأت قلوبكم غيظاً وحقداً على آيات الله -تبارك وتعالى- وصرتم على هيئة حقيرة كريهة بغيضة اعلموا أن لكم هيئة أبغض من هذا وأصعب من هذا وأشد عليكم من هذا ما هي؟
(8/27)
---(3/298)
? قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ ? ما هو يارب؟ الله عز وجل يتوعدهم, ما هو؟ قال: ? النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ? هذا فعلا هذا شيء حينما يوقع ويقع على أعداء الله تبارك وتعالى سيكون هذا هو الأمر الشديد هذا سيكون الوقع الأليم على هؤلاء الناس هذه هي الحالة حقاً التي هي حالة أسوأ من الحالة التي هم عليها ? قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم ? بأي شيء؟ ? بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ ? يعني بحالة أشر وأشد عليكم من الحالة التي أنتم عليها ما هي؟ ? النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ? والنار عذابها أليم وحرها شديد وبئس المصير كما قال رب العزة و الجلال يعني أبأس حالة وشر حالة هي التي سيؤول إليها هؤلاء الذين كذبوا بآيات الله وعُرفَ المنكر في وجوهم حينما تلي عليهم كتاب الله تبارك وتعالى والنار حقا بئس المصير لهؤلاء الناس وصدق رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- حينما قال عن النار في كتابه: ? إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ?66??[الفرقان: 66] وأود أن أشير إلى نقطة أخيرة وهي أن الكفار لا تعرف المنكر في وجوههم إذا تليت عليهم آيات الله فحسب، بل بمجرد ذكر الله تبارك وتعالى بمجرد أن يذكر اسم الله عز وجل ترى في وجوه هؤلاء المنكر ولذلك هم حينما يحاربون هم يحاربون رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ? وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ?45? ?[الزمر: 45] يحبون الشرك والأنداد والأصنام وعبادة غير الله والاحتكام إلى غير شرع الله تبارك وتعالى يفرحون لذلك أما إذا قلت: هلموا إلى كتاب الله تعالى رأيت في قلوبهم المنكر.
(8/28)
---(3/299)
أسأل الله عز وجل أن يصد هؤلاء عن المسلمين وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كان السؤال الأول ما المراد بالساعة في قول الله تعالى: ? حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ?؟ ولماذا سميت بذلك؟ وماذا تفهم من قول الله تعالى: ? بَغْتَةً ?؟
وكانت الإجابة: المراد بالساعة هو يوم القيامة ويوم الحساب ويوم الجزاء والعقاب يوم يرى فيه المؤمنون النعيم ويرى فيه الكافرون والمنافقون العذاب الأليم قال الله تعالى: ? يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ?6? فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ?7? وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ?8??[الزلزلة: 6: 8] وسميت بهذا الاسم لأن فيها ساعة الحساب يوم الوقوف أمام الله في محكمة ساحتها القيامة وشهودها الجوارح والأعضاء ثم بعد ذلك إما إلى جنة عالية أو إلى نار حامية ونفهم من قوله تعالى ? بَغْتَةً ? هو أن الساعة ستقوم على الناس فجأة مهما ظهرت لها من أمارات فكما ورد وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (أن الساعة تقوم على رجل يبيع وآخر يشتري) وتقوم كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر على شرار الناس نسأل الله أن يرزقنا حسن الختام والله أعلم.
الحقيقة هذا جواب جيد جداً وفيه تفصيل أحببت الآن أن أسمعه ولكن أضيف إضافة يسيرة وهي لماذا سميت الساعة بالساعة؟ الجواب صحيح مائة بالمائة ولكن من الأسباب التي ذكرها المفسرون في أنها سميت ساعة: أنها ساعة يسيرة خفيفة ويحدث فيها شيء عظيم كبير يعني هي ساعة يسيرة أو وقت زمني محدود قليل ولكن الذي سيحدث فيه شيء عظيم ولذلك سميت بالساعة والله أعلم.
(8/29)
---(3/300)
السؤال الثاني: قال الله تبارك وتعالى: ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ?61?? له تعلق بما قبله من وجهين فما هما؟
وكانت الإجابة الأمر يتعلق بنصر الله من وجهين هما:
الوجه الأول: أن الله يبين لعباده أنه قادر على نصر عباده ومن تمام عباده أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل فمن نظر إلى هذه القدرة التي لا يقدر أحد أن يأتي بمثلها يعلم أن الله قادر على نصره.
الوجه الثاني: أن الله مع هذا النصر وهذه القدرة ينعم على عباده ومن ذلك إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل وقد قال الله: يولج أي يدخل الليل على النهار ببطء والنهار في الليل ببطء حتى لا ينزعج أحد من البشر والحمد لله رب العالمين
الحمد لله الجواب طيب.
السؤال الثالث: ما الراجح في الرؤية في قول الله تبارك وتعالى ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً ?؟ وماذا يفيد عطف المضارع فتصبح على الماضي أنزل؟
وكانت الإجابة: الرؤية في هذه الآية الراجح أنها رؤية علمية لأن الله هو الذي ينزل الماء من السماء فيخرج من الأرض البقل والزروع وعطف المضارع فتصبح على الماضي أنزل يفيد الاستمرار في دوام نزول الماء والنعم من الله -تبارك وتعالى- فهي ليست حادثة عابرة بل هي مستمرة بفضل الله ومنِّه على عباده والله أعلم.،
الجواب سديد والرؤية صحيحة كما ذكر المجيب المراد بها الرؤية العلمية لأن هذا هو المقصود من سياق الآية ويجب أن يذكر هذا المقصود لأن الرؤية البصرية دون علم لا تفيد ولا تحقق المطلوب فالرؤية العلمية هي التي تفيد وتنمي الإيمان وتجعل من لم يؤمن يدخل في الإيمان بعدما يقف ويعلم ويتعلم والله أعلم.
(8/30)
---(3/301)
قلتم: إن العباد يظلمون ربهم تعالى بكفرهم فكيف نجمع بين هذ القول وقوله تعالى ? وَهُوَ يُجِيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ ?؟[المؤمنون: 88]؟
سؤال آخر نبحث عن كتاب يبحث للربط بين المواضيع التي تشتمل عليها السورة الواحدة يعني يربط بين المواضيع في السورة الواضحة.
في الحقيقة بالنسبة للسؤال الأول لا تعارض بين هذا وذاك العباد حينما يظلمون ربهم هل يصل إلى الله شيء من ظلمهم؟ لا.. هم تعدو على حق الله تبارك وتعالى, وربنا عز وجل هو الذي أخبر بأن الشرك ظلم عظيم في حق رب العزة والجلال لأنه ذنب كبير, في حديث في الصحيحين حديث عبد الله بن مسعود لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أي الذنب أعظم عند الله قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك) فالعبد يتطاول على مقام رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- عندما يظلم هذا الظلم أو يقع في أمور أخر من المعاصي ولا يصل شيء من ذلك إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
الله -عز وجل- لما كان المشركون يسبون رب العزة والجلال كما جاء في سبب نزول هذه الآية: ? وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ?[يونس: 65] ماذا بعدها؟ ? إِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا ? قال بعض أهل العلم: قال الله: ? وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ? لأنهم كانوا يسبون رب العزة والجلال, فقال الله جل ذكره: ? إِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا ? فهم يفعلون ويظلمون ويأفكون ويكذبون ولكن لا يصل ذلك إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والله تعالى حقاً هو الذي يجير ولا يجار عليه ولكنه حَكَم عدل جل في علاه.
أما السؤال الثاني: فالحقيقة فيه كتاب لعله يتميز بما ذكر السائل ألا وهو تفسير الشيخ/ برهان الدين البقاعي -رحمه الله تعالى- في تناسب الآيات والسور هذا الكتاب يربط بين الآية والآية وبين السورة والسورة وأيضاً بعض كتب التفسير الأخرى تفعل ذلك ولكن هذا الكتاب يتميز عن غيره في هذا الأمر وعنوانه يدل ويشير إلى ذلك.
(8/31)
---(3/302)
ذكرتم فضيلتكم أن الله خلق النجوم لثلاث زينة للناظرين ورجوماً للشياطين وعلامات، فما حكم من يقرأ مثل ما ذكرتم «حظك اليوم» ويعتقد بها؟
لاشك أن هذا من الباطل ومما لم يأذن الله -سبحانه وتعالى- فيه وكنت أود في الحقيقة أن أقف عند هذه الجزئية وأن أقف عند جزئية أخرى عند ذكر هذه الآية السابقة ? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ?، وهي الجزئية التي لم أشر إليها وأيضاً لضيق الوقت:
(8/32)
---(3/303)
الذين يذهبون إلى الكهان والعرافين لكي يقفوا إلى ما عندهم أو يأخذوا علما لمفقود أو غائب أو ما إلى ذلك هل عند هؤلاء الكهنة أو العرافين شيء؟ هل يعرفون أو يعلمون أو يفقهون؟ حاشا وكلا فالذي يعلم الغيب من؟ رب العباد -سبحانه وتعالى- لا عند النجم شيء ولا عند الكاهن شيء ولا عند الراقي شيء ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر من الذهاب إلى الكهان والعرافين: (من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- ) وفي رواية (لم تقبل له صلاة أربعين يوم) ولما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سمعه الصحابة أنه ينهى عن الذهاب إلى الكهان والعرافين قالوا له: إنا نأتي الكهان ويصدقون يا رسول الله) قد نأتي الكهان ويصدقون أحياناً, فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تلك الكلمة يسمعها الجني الجني يسترق السمع فيسمع لشيء مما قضى الله به في السماء فينزل فيلقيه في أذن وليه) أو الجني الذي هو أسفل منه فيعلمه من؟ فيعلم هذا الكاهن أو العراف والله -عز وجل- حفظ السماء بعد ذلك بالشهب التي تسقط على هؤلاء الشياطين حينما يريدون أن يسترقوا السمع وقبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت الشياطين تسترق السمع والله -عز وجل- حمى السماء بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما قالوا: (نأتي الكهان ويصدقون) بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذا ليس صدقاً على الحقيقة وإنما قد يصدق في مرة بسبب استعانته بهذا الجن ولذلك قال: (تلك الكلمة يلقيها الجن في أذن وليه فيصدق مرة ويكذب في مائة مرة ) وبالتالي ليس عند النجوم علم وليس عند الكاهن علم وليس عند غير الله عز وجل مما استأثر الله -سبحانه وتعالى- به علم ولا يجوز الركون بحال من الأحوال إلى شيء من ذلك لأن هذا فيه أيضاً تطاول على مقام رب العزة والجلال سبحانه لأنه من يفعل ذلك أو يدعيه يزعم لنفسه أنه يشارك الله عز وجل في شيء من خصائصه ألا وهو علم(3/304)
(8/33)
---
الغيب الذي استأثر الله -سبحانه وتعالى- به.
يقول: ما المراد بقوله تعالى: ? مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ?؟ ولماذا أضاف النسك إلى الأمة مع أن الله تعالى هو الذي يشرع لهم؟
في الحقيقة قلت: إن المنسك اختلف فيه العلماء إلى أقوال متعددة بعضهم قال: إن المنسك المراد به العيد وبعضهم قال: وهذا هو الذي رجحه كثير من المفسرين أن المنسك هي الذبائح التي تذبح وقالوا: لأن السياق في سورة واحدة وقد سبق أن أشار القرآن الكريم إليها وهي تسمى أيضا مناسك وقال البعض: إن المراد بالمناسك هي الشريعة والمنهاج الذي نزل من عند الله عز وجل.
والله عز وجل أضاف النسك هنا أولا إلى نفسه فقال: ? لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا ? فأضاف الله هنا النسك إليه أو المنسك إليه -سبحانه وتعالى- ثم لم يضفه إلى العباد ولكن قال ? مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ? يعني بعد ذلك هم قائمون به يعني يتعبدون الله -سبحانه وتعالى- بالنسك الذي أنزله الله -سبحانه وتعالى- عليه.
? هُمْ نَاسِكُوهُ ? يعني سائرون فيه في النسك كما أمرهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- هذا هو معنى المنسك ولم يضفه ربنا -سبحانه وتعالى- إلى العباد وإنما أضافه إلى نفسه لما قال: ? لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا ? يعني هم سالكوه يتعبدون الله -سبحانه وتعالى- به يعني بالنسك الذي شرعه رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
قول الله عز وجل: ? النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ?72?? هل يؤدب المشركون بالنار فحسب أم لهم ألوان من العذاب مختلفة كالبرد مثلاً؟
(8/34)
---(3/305)
هذا في الحقيقة ورد في السنة ووردت أيضاً إشارة إليه في القرآن الكريم لكن لما كانت النار يهابها الإنسان أكثر من غيرها أشير إليها مراراً وتكراراً في القرآن الكريم وإلا ورد أشار الله -عز وجل- في كتابه إلى الزمهرير الذي يصيبهم وجاءت السنة أيضا ببيان شيء من ذلك وهي مسائل غيبية نحن نؤمن بها ونفوض علم حقيقتها إلى رب العباد -سبحانه وتعالى- والله أعلم.
تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سؤالها: ما الفرق بين «على هدى مستقيم» و«إلى صراط مستقيم»؟
سؤالها الثاني: وكذلك ما الفرق بين «غضب الله» و«لعنة الله»؟
في الحقيقة ما يوجد فرق بين هدى مستقيم وإلى هدى مستقيم الهدى المستقيم هو طريق الله -سبحانه وتعالى- وحينما تصف الآيات بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- على هدى مستقيم هذا في الحقيقة عبارة بليغة للغاية وطبعا لا نستطيع أن نتوسع فنذكر كل ما يمكن أن يقال, لعلى هدى مستقيم كأن الآية جعلت الهدى هو أمر معنوي شيئاً ثابتاً وتمكن منه النبي -صلى الله عليه وسلم- ووقف عليه فهو واقف على الهدى -صلوات الله وسلامه عليه-.
أما قوله: ? عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? يعني الطريق المؤدي أنت سالك الطريق المؤدي إلى الله تبارك وتعالى وإلى الصراط المستقيم الذي شرعه رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فأنت سائر إليه وأنت قائم به.
هذا السؤال الأول
السؤال الثاني: الفرق بين غضب الله ولعنة الله؟
غضب الله -تبارك وتعالى- هو لعنة الله -عز وجل- فمن غضب الله عليه أو من لعنه الله فقد غضب الله -سبحانه وتعالى- عليه، ويذكر بعض العلماء بأن الغضب أعم من اللعنة، فالغضب أعم واللعنة أخص، فقد يغضب رب العباد على شخص ما, دون لعنة، فالغضب أعم واللعنة أخص، هكذا ذكر البعض، ولكن الغضب واللعنة -فيما أراه والله أعلم- كلاهما يفيد شيئًا واحداً ألا وهو أن الله -سبحانه وتعالى- لا يرضى على من غضب عليه أو لعنه -سبحانه وتعالى-.
(8/35)
---(3/306)
الأخ الكريم يقول: ما رأي فضيلتكم في الرأي الذي يقول: إن النبي والرسول بمعنى واحد؟ أو متساويان؟
في الحقيقة، فرق العلماء من قديم بين النبي وبين الرسول، بفروق وهذا واضح حتى من السنة النبوية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر عدد المرسلين وذكر عدد الأنبياء وأنا أشرت فيما مضى إلى أن الفرق المشهور بين النبي وبين الرسول عليه بعض الملاحظات، الذي هو أن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بالتبليغ والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بالتبليغ.
قلت: هذا عليه ملاحظة ولعل الصواب والذي ارتضاه كثير من العلماء أن النبي مرسل كالرسول من حيث أنه أوحي إليه وأمر بالبلاغ ولكن الرسول من جاء بشريعة مستقلة وبكتاب جديد أما النبي من يأتي تابعاً لرسول سابق ولكتاب سابق، ولشريعة رسول سابق، ولكنه يوحى إليه ومأمور بأن يبلغ؛ لأن آحاد الناس من الأمة ممن تعلم العلم ولم يبلغه مذموم أم ممدوح؟ مذموم، يعني الآن لو تعلمت أنت علماً والناس بحاجة إليه وكتمت هذا العلم هل تمدح على ذلك أم تذم؟ فما بالك بنبي يوحى إليه ما الفائدة منه إذا لم يؤمر بالتبليغ؟ فالنبي والرسول كلاهما يشترك في التبليغ عن الله ولكن بينهما فرق ولا شك، فالنبي يختلف عن الرسول والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: لماذا أفرد الله -تبارك وتعالى- لفظ السماء في قوله تعالى: ?وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ? [الحج: 65]؟ وأي سماء المقصودة من السماوات السبع؟
لاشك أن كلمة ?السَّمَاءَ? هنا مراد بها السماوات السبع، ولكن يظهر -والله أعلم- كما كنت قد قرأت قديماً في هذا أنه عبر هنا بالسماء ليبين أنها كتلة واحدة ولو سقطت ستسقط ككتلة واحدة فيكون وقعها على الناس شديداً وهلاكها أعظم ولا شك، والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: ذكرتم فضيلتكم أن الكفار كانوا يتنازعون ويقولون: لماذا تأكلون مما قتل الله وتأكلون مما قتلتم, فما الرد على ذلك؟
(8/36)
---(3/307)
على هذا القول، لاشك أن هذا افتراء ما ينتهي بأجله هو من الله -تبارك وتعالى-، ولكن الله -عز وجل- شرع أموراً يجب أن نقوم بها وهي في مصلحتنا نحن البشر، وقد توصل العلم الحديث إلى ذلك، فذبح الذبيحة بالسكين المعروف وإخراج الدم منها بهذه الطريقة المعهودة هذا هو الذي شرعه الله -عز وجل- لمصلحتنا نحن والله -عز وجل- يعلم ما في ذلك، أما الشيء أو الذبيحة التي تموت أو تقتل دون أن يفعل بها ذلك، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي فعل هذا وهو الذي أراد ذلك وهذا نسلم به ولكنها لم تمت أو تقتل على الطريقة التي أراد الله -عز وجل- أن تكون مباحة للأكل لبني الإنسان، ولبني البشر ولكي يستفيدوا منها، ولا يمكن أن يأتي سؤال على كل ما يفعله رب العزة والجلال ويسأل الإنسان لماذا يكون كذا؟ ولماذا يكون كذا؟ الله -عز وجل- له الحجة البالغة ولكن لو رجعنا نحن حتى إلى العلم الحديث الآن سنجد أنه يؤكد ويؤيد ما ذهب إليه القرآن الكريم وما شرعه رب العالمين -سبحانه وتعالى- والله أعلم.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة
السؤال الأول: ما المراد بالإحياء المذكور أولاً والإحياء المذكور ثانيًا في قوله تعالى: ?وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ?؟
السؤال الثاني: دل قول الله –تعالى- ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ? على كتابة الله لكل شيء, اذكر آية أخرى تدل على ذلك من القرآن الكريم. وحديثاً للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في ذلك.
السؤال الثالث: اشرح باختصار قول الله تعالى: ?وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ?71??؟
(8/37)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث(3/308)
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس التاسع
الدرس التاسع: تفسير سورة الحج
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً بكم ومرحباً وبالمشاهدين الكرام والحاضرين, ويسرنا في هذا اللقاء المبارك -إن شاء الله تبارك وتعالى- أن نلتقي في آيات مع ختام سورة الحج، وهذا شيء يشرح الصدر حينما ينتهي الإنسان من عمل كهذا وهو فضل وتوفيق من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والآيات التي سيدور الحديث حولها -إن شاء الله تبارك وتعالى- تشتمل على المحاور التالية:
المحور الأول: كل من دُعيَ من دون الله فهو ضعيف ولا يخلق شيئًا.
المحور الثاني: أمرَ الله المؤمنين بألوان متعددة من الطاعات.
المحور الثالث: الله –تعالى- اجتبى هذه الأمة وهو الذي سماها.
هذه هي محاور اللقاء -إن شاء الله تبارك وتعالى- وسأتحدث عنها وأبينها وأشرحها -إن شاء الله بعد أن نستمع إليها من الأخ الكريم فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(9/1)
---(3/309)
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ?73? مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ?74? اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ?75? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ?76? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?77? وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ?78??.
جزاك الله خيراً، إن الحمد لله نحمده, ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم وسلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد.
بعد أن استمعنا إلى الآيات الكريمات من ختام سورة الحج, أبدأ -إن شاء الله تبارك وتعالى- بالحديث عن هذه الآيات في المحاور التي أشرت إليها آنفاً.
المحور الأول: بعنوان: كل من دعي من دون الله فهو ضعيف ولا يخلق شيئًا:
(9/2)
---(3/310)
والذي يوضح هذا المحور من هذه الآيات هو قول الحق -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ?73?? قول الحق -تبارك وتعالى- هنا أولاً ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ? خطاب يشمل الناس جميعاً ويدعو الجميع إلى النظر والتفكر لما سيأتي بعدُ, ولا شك أن الحديث موجه إلى المشركين الذين عبدوا غير الله -تبارك وتعالى- بغير علم ولا بينة أو سلطان كما أشارت إلى ذلك آية سابقة من آيات اللقاء السابق، وهي ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ? هذه الآية تأتي لتشير إلى أن هؤلاء المشركين الذين عبدوا من دون الله -تعالى- ما لم ينزل به سلطاناً عبدوا من لا يستحق أن يُعبد وأنه بلغ بهم السفه والضعف إلى أنهم توجهوا إلى من لا يخلق ولا يتمكن أن يخلق شيئًا ولو كان حقيراً، فالخطاب إذن لجميع البشر ولكن الذي يجب أن ينتبه إليه وأن يعتني به وأن يتفكر في هذا المثل أولاً هم المشركون، وحينما نقول بأن الخطاب لجميع البشر وأعني بذلك أنه يدخل فيه المؤمنون والكافرون, فائدة دخول المؤمنين هنا: أنهم يزدادون علماً وبصيرة، فائدة دخول المؤمنين في هذا النداء يزدادون بذلك يقيناً وعلماً وبصيرةًَ، وفائدة دخول المشركين أن الحجة تقوم عليهم بذلك، لأنه يكون قد بلغهم رب العزة والجلال وبلغهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بطلان ما هم عليه.
(9/3)
---(3/311)
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ? ما هو المثل؟ المثل جملة من الكلام متلقاة بالرضا والقبول سائرة في الناس مستغربة عندهم، كلمة, جملة من الكلام يتلقاها الناس بالقبول وتصبح سائرة دارجة تذكر بين الحين والآخر كلما أتى مورد يدعو إلى ذكر هذا المثل. والمثل كما هو معلوم عند علماء اللغة يقال على ما ذكر في أول حالة أطلق عليها فيها المثل، وهو ما يعرف بمضرب المثل.
الله -عز وجل- هنا يقول: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ? وأنا ذكرت الآن أن المثل جملة من الكلام متلقاة بالقبول والرضا، ولكن السؤال: أين المثل هنا؟ أين المثل السائر؟ هنا لا يوجد مثل ولكن قال الله: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ? قيل في ذلك: لما كان فعل المشركين من الغرابة بمكان وأنه أمر عجيب ويشترك هذا مع المثل في أنه أيضاً يكون مستغرباً أو عجيباً صح أن يطلق على فعل المشركين هذا أنه مثل, ويكون المعنى: الله -عز وجل- يبين أن هؤلاء المشركين جعلوا لله -سبحانه وتعالى- شبهاً حينما عبدوا غير الحق -تبارك وتعالى- وتوجهوا إلى غير الله -جل في علاه- وما كان ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك.
(9/4)
---(3/312)
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ? ومعنى ?فَاسْتَمِعُوا لَهُ? يعني أنصتوا لهذا المثل وتأملوه وتدبروه, وهذا ما دعاني إلى أن أقول بأن الناس كلمة الناس تشمل المؤمنين والكافرين، لأن المؤمن سيزداد بصيرةً ويقيناً وإيقاناً والكافر إن فكر ربما يعود ويرجع وإلا فالحجة تكون قد أقيمت عليه، وكلمة ?فَاسْتَمِعُوا لَهُ? مقصودة هنا بالذات لأن الاستماع يحتاج إلى فهم وتدبر وتأمل ولا يكون الاستماع استماعاً إلا إذا كان بتأمل وتدبر وفهم وإلا لا يعد ذلك من باب السماع في شيء، والله -عز وجل- قد نعى على قوم يسمعون ولا يسمعون، يسمعون بآذانهم ولكنهم لا يتأملون ولا يفكرون ولا يتدبرون ?وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ?21?? [الأنفال: 21].
(9/5)
---(3/313)
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ? نود أن نستمع إلى ما ذكره رب العزة والجلال في هذه الآية الكريمة المباركة، ?إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ? الآية تبين أن كل من دُعيَ من دون الله -تبارك وتعالى- لا يملك أن يخلق ولو كان شيئًا يسيراً حقيراً ضعيفاً كالذباب، وهذا في الحقيقة فيه تسفيه لعقول المشركين الذين توجهوا إلى غير الله -تبارك وتعالى-، والآية تبين لهم عجز هؤلاء المشركين وأنهم لا يملكون شيئًا في الكون ولا يستطيعون أن يكون لهم شيء من دلائل الربوبية أو الألوهية فلم تصرفون إليهم ألوان العبادة؟ ?إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابً? وهذا يبين ضعف كل من دعي من دون الله -تبارك وتعالى-، وإبراهيم -عليه السلام- أيضاً بين لقومه المشركين الذين عبدوا غير الله -عز وجل- أن ما عبدوه ضعيف حقير لا يملك شيئًا، لما قال لأبيه: ?إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا ?42?? [مريم: 42] وهذا يبين حقارة الأصنام وسفه المشركين وضعف عقول الضالين الذين لجؤوا إلى غير الله -تبارك وتعالى-، وهذا من الظلم بمكان، يعني عبادة غير الله -عز وجل- مما لا يملك شيئًا وهو مخلوق ضعيف مربوب مقهور هذا من الظلام بمكان، ويؤكد ذلك ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في البخاري ومسلم وغيرهما، وهو حديث قدسي رفعه النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى رب العزة والجلال وفيه يقول: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو يخلقوا شعيرة أو يخلقوا حبة، ولا يستطيعون) والذرة لا شك أنها أقل من الذباب ومع ذلك أيضاً لا يستطيع كل من دعي من دون الله -تبارك وتعالى- أن يخلق شيئًا من ذلك.
(9/6)
---(3/314)
ثم يقول سبحانه: ?وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ?، ولو اجتمعوا له هذه حال، وتفيد فائدة عظيمة وهي: أن هؤلاء الذين دعوا من دون الله -تبارك وتعالى-، لا يستطيعون أن يخلقوا هذا الشيء الحقير الضعيف حالة كونهم مجتمعين، فما بالك إن كانوا منفردين يكون العجز أعظم، والضعف لاشك أكبر.
وبالتالي يجب على من يستمع إلى هذه الآية وإلى خطاب رب العزة والجلال فيها أن يتأمل حقارة ما عليه المشركين وسفه ما عليه هؤلاء الضالين حينما يتوجهون إلى غير الله -عز وجل-.
(9/7)
---(3/315)
والآية لم تقف عند هذا الحد: ?لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ? بعدها، ?وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ? الآية تقول: والله -عز وجل- يتنزل مع هؤلاء المشركين المخاطبين بهذه الآيات أولاً قائلاً: دعونا من الخلق والإيجاد، فهذه الأصنام أو كل من عبد من دون الله -تبارك وتعالى- لا يملك شيئًا من ذلك ولا يقدر على هذا الأمر فلننزل إلى شيء آخر أضعف من الإيجاد والخلق؛ لأن هذه الآلهة عاجزة عن أن تُوجِدَ أو تخلق ما هو الأمر الذي أقل من ذلك وهو أن الذباب الضعيف الحقير هذا لو أخذ شيئًا من هذه الآلهة المزعومة ما استطاعت أن تنقذ نفسها منه، وقيل: الذباب يأخذ ما عليها من الطين، هذا كما كان يراه كثير من المفسرين في السابق، ولو جئنا إلى قوم اليوم يعبدون غير الله -تبارك وتعالى- من البشر ولا نعجب من ذلك، فبعض الناس يعبدوا الشياطين وليس منا ببعيد ما سمعناه قبل سنوات عن قوم عبدوا الشيطان وأطلقوا على أنفسهم بأنهم من عبدة الشيطان، فلا شك أن هذا قد يوجد ولذلك نقول: لو دعا إنسان شخصاً آخر دون الله -عز وجل- وطلب منه وخاف منه وجاء الذباب أو البعوض وأخذ من هذا المخلوق شيئًا من دمه، هل يستطيع هذا المدعو المزعوم إلهاً أن يرده مرة أخرى، أو أن ينقذ نفسه مما أخذه منه البعوض؟ لا يمكن، وهذا تدرج في إقامة الحجة على هؤلاء فبعد أن بين رب العزة والجلال سبحانه أنهم لا يخلقون شيئًا وأنهم أضعف من ذلك, الأمر أقل من ذلك، وضعفهم أضعف من أن يوجدوا أو أن يخلقوا فلا ننظر إلى الإيجاد والخلق لأن هذا أمر بعيد تعالوا بنا إلى أمر آخر وهو أنهم أضعف من الذباب نفسه الذي لو أخذ منهم شيئًا ما استطاعوا أن ينقذوا أنفسهم مما سلبه منهم الذباب، يعني إقامة حجة واضحة على أمثال هؤلاء ودعوة صريحة من كتاب الله -تبارك وتعالى- إلى أن يرجعوا هؤلاء الناس فيفكروا فيما هم عليه ?وَإِن يَسْلُبْهُمُ
(9/8)
---(3/316)
الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ? ثم يقول رب العزة والجلال ?ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ? الراجح من أقوال المفسرين وهو ما رجحه الإمام الحافظ ابن جرير -رحمه الله تعالى- وتبعه عليه الإمام الحافظ ابن كثير: أن المراد بالطالب الصنم، لأنه يطلب ما أُخذ منه، أو ما عبد من دون الله -تبارك وتعالى-، والمطلوب هو الذباب؛ لأن الصنم أو ما عبد من دون الله -تبارك وتعالى- طالب لما أخذه الذباب منه وكلاهما ضعيف، ?ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ? وفي الحقيقة أيها الإخوة الكرام هذه الآية من كتاب الله -تبارك وتعالى- تؤيدها آيات آخر كثيرة تبين أن من لا يخلق ولا يُوجِدَ شيئًا لا يستحق أن ينُظر إليه أو أن يعبد بحال من الأحوال, والله -عز وجل- يتخذ من الخلق دليلاً قوياً على أنه -سبحانه وتعالى- هو الرب الإله الذي يجب أن يعبده البشر جميعاً الذين خوطبوا في هذه الآية.
(9/9)
---(3/317)
سورة النحل افتتحها ربنا -سبحانه وتعالى- بآية ثم بعد ذلك ذكر بعض نعمه على عباده، ?خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ?3?? [النحل: 3] إلى آخر تقريباً ما يقرب من خمس عشرة آية وفي الختام رب العزة والجلال يذكر شيئاً جميلاً لو فكر فيه هؤلاء الناس لأيقنوا أنهم على ضلال ولرجعوا إلى رب العزة والجلال, يقول سبحانه: ?وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ?15? وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ?16? أَفَمَن يَّخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ?17?? [النحل: 15- 17] يعني كيف تسوون يا أيها المخاطبون بعد آيات سبقت ومرت في بيان قدرة الله على الخلق, كيف تسوون بين من يخلق وتفرد بالخلق والإيجاد وبين من لا يخلق؟ ولذلك آية أخرى صريحة في كتاب الله -عز وجل- تبين أن الخالق هو الإله وأنه هو الرب: ?ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ?102?? [الأنعام: 102] طالما أنه خالق كل شيء فيجب يا أيها المخاطبون أن تعبدوا ربكم وحده دون سواه، وأن غير الله عاجز ضعيف لا يملك شيئًا من الإيجاد ولا يملك شيئًا في نفع نفسه هو، يعني لا يتمكن إذا أخذ منه أحقر الأشياء شيئًا لا يتمكن من أن ينقذ نفسه منه فما هذا الضعف الذي هو عليه هذه الآلهة المزعومة الباطلة؟ ثم بعد ذلك -وللأسف الشديد- نجد قوماً عميت بصائرهم, عميت قلوبهم, طبع عليها، يعبدون حتى البقر من دون الله -تبارك وتعالى-، أين هؤلاء؟ أين فهمهم؟ أين عقولهم؟ هل هذه الآلهة المزعومة يمكن أن تقدم شيئًا؟ حاشا وكلا وصدق رب العزة والجلال سبحانه حينما قرر ذلك فقال: ?ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ?.
(9/10)
---(3/318)
ثم يعقب رب العزة والجلال بكلام جميل للغاية ويبين أن هؤلاء الناس ما عرفوا بعدُ عظمة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ما وقر في قلوبهم وما استطاعوا أن يفقهوا أن ربهم كبير وأنه صاحب السلطان الأعظم -جل في علاه- والقرآن الكريم ينعي عليهم ذلك فيقول: ?مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ?74?? هؤلاء الذين يفعلون ذلك ما عرفوا مكانة وجلال وعظمة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والله -عز وجل- نعى على المشركين في كثير من آيات القرآن الكريم غير هذه الآية كفرَهم بالله -عز وجل- وبين أن كفرهم نابع من عدم معرفتهم بقدر جلال الله -سبحانه وتعالى- وعظمته وقوته, وذلك لما أنكر المشركون بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكذبوه قال الله -جل ذكره-: ?وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ? [الأنعام: 91] فالذي ينكر بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما عرف قدر رب العزة والجلال سبحانه حتى ولو انتسب إلى أي دين مهما كان ما عرف عظمة الله -عز وجل- وما وقف وما فقه كيف يعبد الله -سبحانه وتعالى- عبادة صحيحة كما جاء بها حتى النبي المرسل إليه؛ لأنه خالف بذلك النبي المرسل إليه ووقع في أمر عظيم حينما لم يعلم قدر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وفي آيات أخر يعظم ربنا -سبحانه وتعالى- نفسه ويمجدها فيقول: ?وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ? [الزمر: 67] ثم يعقب على ذلك بقوله: ?سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ? [الزمر: 67] يعني ما كان ينبغي لهؤلاء الناس أن يقعوا فيما وقعوا فيه وربهم بذلك عظيم، السماء والأرض، التي قال الله عنها: ?لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ? [غافر: 57] هذه السماء وهذه الأرض كلها(3/319)
(9/11)
---
في قبضة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- هذا الملكوت العظيم الذي يحتار الإنسان فيه عند التأمل ولكنه لا شيء أمام هذا العظيم -سبحانه وتعالى-.
ثم بعد ذلك يأتي بعض الناس فيشرك مع الله -سبحانه وتعالى- أياً كان من المخلوقين أو يدعو غير الحق -تبارك وتعالى- ?سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ? [القصص: 68] والله -عز وجل- يختم هذه الآية لما قال: ?مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ? يختمها أيضاً بختام مناسب للغاية فيقول: ?إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ? يثبت لنفسه القوة التي لا تُقهَر، والله -عز وجل- أيضاً في القرآن الكريم قد أثبت لنفسه هذه القوة في آيات كثير: ?إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ?58?? [الذاريات: 58] والله -عز وجل- يقول أيضاً: ?إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ?12?? [البروج: 12] وكثير من الآيات التي تشير إلى هذا المعنى وكما أنه قوي فهو أيضاً -سبحانه وتعالى- عزيز، ومعنى عزيز هنا: يعني لا يغالبه شيء، إذا أراد ربنا -سبحانه وتعالى- شيئًا كان، فالجميع تحت قهر رب العزة والجلال سبحانه وما شاء الله كان ولو اجتمعت قوى الأرض على أن لا يكون، وما لم يشأ لا يكون، ولو اجتمعت قوى الأرض على أن يكون، وهذا من عظمة رب العزة والجلال -سبحانه-، ولذلك أوجه الخطاب إلى كل من لم يؤمن بالله -تبارك وتعالى- وأدعوه إلى أن يقف وأن يفكر وأن يتأمل بما أودع الله -سبحانه وتعالى- فيه من كوامن الفطرة إن لم تتغير وتتبدل ومن عقل من الله -سبحانه وتعالى- عليه به، ومن آيات بثها رب العزة والجلال في الآفاق تشير وترشد وتدل على رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ونقول للجميع: هلموا إلى الإسلام, ادخلوا في دين الله -عز وجل- تكونون بذلك من المقدرين لعظمة رب العزة والجلال سبحانه ولا تدخلوا فيمن نعى الله عليهم: ?مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ?.(3/320)
(9/12)
---
ثم يقول سبحانه: ?اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ?75??، بعدما بين ربنا -سبحانه وتعالى- وذكر في هذه الآيات السابقة شيئًا من أمور الإلهية والعبادة وأوجب على العباد أن يتأملوا وأن يصلوا من خلال هذا التأمل ومن خلال هذا التدبر الذي دعاهم إليه القرآن الكريم إلى أن ربهم واحد بدأ رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- يتكلم في النبوة والرسالة، وهذه أمور مقصودة؛ لأن الرسل هم الذين يبلغون عن الناس ما يأتي من عند رب العزة والجلال سبحانه وفي هذه الآية يبين ربنا -عز وجل- أن النبوة اصطفاء واجتباء منه سبحانه, وهي كما هي كائنة للملائكة هي أيضاً كائنة لمن أرسلهم رب العزة والجلال من البشر، فكلاهما مصطفى ومجتبى من عند رب العزة والجلال ?اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ? والله -عز وجل- في آيات أخر من القرآن الكريم أثبت أن الملائكة رسل فقال في أول سورة فاطر: ?الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ? [فاطر: 1] الشاهد: ?جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُل? وقال عن جبريل -عليه السلام-: ?إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ?40?? [الحافة: 40] وهكذا يبين لنا القرآن الكريم أن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- اصطفى من الملائكة رسلاً وكذلك اصطفى من البشر رسلاً وهم الذين أرسلهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- إلى الناس، ليبلغوا دعوة ربهم إلى سائر الأمم الذين أرسلوا إليهم، والله -عز وجل- أيضاً قد أثبت النبوة والرسالة للأنبياء والمرسلين فقال: ?تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ? [البقرة: 253] وخص النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بذكره بلفظ النبي والرسول في أكثر من موطن من القرآن الكريم، من يذكر لي موطناً منها؟ ?يَا أَيُّهَا(3/321)
النَّبِيُّ
(9/13)
---
اتَّقِ اللهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ? [الأحزاب: 1] ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ? [المائدة: 67] -عليه الصلاة والسلام- هذا تكريم وتشريف خاص بمن؟ خاص بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وسيأتي في ختام هذا اللقاء -إن شاء الله تبارك وتعالى- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أفضل وأمته أفضل الأمم -صلوات الله وسلامه عليه- وهذه نعمة ومنة من رب العبادة على أمة محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
وهذه الآية ?اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ? تبين مكانة من اصطفاهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وتبين أيضاً أيها الإخوة الكرام وهذه مسألة وأنتم طلاب علم، أن النبوة كما ذكرت وأؤكد على ذلك اصطفاء واجتباء لماذا؟ لأن الفلاسفة ذهبوا إلى أن النبوة مكتسبة، قالوا: أي إنسان من البشر يمكن أن يكتسب النبوة والرسالة بأمور عندهم وقالوا: يعني أن تتوفر فيه قوة تخييلة كبيرة, وقوة ظنية واسعة وأن تكون عنده شفافية من النفس ومن الروح فيكون أهلاً لأن تفيض عليه الفيوضات الربانية من عند الإله كما يزعمون وليس عندهم بذلك نبي يوحى إليه من عند الرب -تبارك وتعالى- ولا رسول من الملائكة ينزل من عند رب العزة والجلال إلى النبي المصطفى المختار، هذا شيء.
(9/14)
---(3/322)
الشيء الآخر: الذي تفيده هذه الآية أن الأنبياء والمرسلين أفضل من غيرهم من سائر البشر، وأقول هذا لأن بعض الناس يزعم أن درجة الولاية أعلى من درجة النبوة والرسالة، ويزعمون أن الولي يتلقى من الله مباشرة دون حجاب، أما الرسول فيتلقى عن طريق واسطة ألا هو جبريل الذي كُلِّفَ بالوحي والنزول على الأنبياء والمرسلين أما الولي فهو أعلى درجة من النبي ومن الرسول وهذا في الحقيقة أيضاً انحرام عن الحق وعن الطريق القويم الذي بُعث به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهذه الآية تبين خطأ ما ذهب إليه هؤلاء حينما أثنى ربنا -سبحانه وتعالى- على من أرسلهم أو جعلهم رسلاً من الملائكة ومن الناس في قوله: ?اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ? ثم تختم الآية بقول الله -تبارك وتعالى-: ?إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ? يعني أنه سميع بأقوالهم بصير بأحوالهم، وهذه تفيد ماذا؟ تفيد ما نص عليه ربنا في آية أخرى من كتابه، ?اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ? [الأنعام: 124] فالاصطفاء والاجتباء قائم على علم, قائم على علم يتصف به رب العزة والجلال وإلى جانب هذا العلم صفات أخرى قائمة بالله -عز وجل- كالسمع والبصر وغيرها من صفات الجلال والكمال التي اتصف بها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ومما يزيد هذا المعنى أيضاً وضوحاً أولاً وقوله: ?إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ? يعني عليم بأحوالهم مطلع عليهم، يبصر ويسمع -سبحانه وتعالى- الآية التالية ألا وهي قول الحق -تبارك وتعالى-: ?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ?76?? وهذه الآية تعود إلى من أرسلهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- الضمير فيها ?يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ? يعني الأنبياء والمرسلين الذين أرسلهم رب العزة والجلال وقد نص ربنا -عز وجل- على ذلك في آيات أخر من القرآن الكريم كقوله -عز(3/323)
(9/15)
---
وجل-: ?عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ?26? إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ?27? لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ?28?? [الجن: 26- 28] فالله -عز وجل- يعلم حقاً ما بين أيديهم وما خلفهم والله -عز وجل- لما أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يبلغ رسالة ربه يدل على أنه أيضاً عليم بما يفعله ونص ربنا -عز وجل- في ذلك ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ? [المائدة: 67] وهذا يدل على أن الله -عز وجل- مطلع إذا لم يفعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما أنزله الله عليه ولقد بلَّغ ونحن نشهد بذلك أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بلَّغ أمته البلاغ المبين -صلوات ربي وسلامه عليه- فلم يقبض إلى ربه -عليه الصلاة والسلام- إلا وقد تركنا على المحجة البيضاء, على الواضحة ليلها ونهارها سواء -صلوات ربي وسلامه عليه-.
ثم تختم هذه الآية أيضاً بقول الله -تبارك وتعالى-: ?وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ? قد يقول قائل: لماذا هذا الختام؟ لأنه بعد دعوة النبي والرسول لاشك أنه سيستجيب من يستجيب ويكفر من يكفر والمرجع والمآل إلى رب العزة والجلال ليقف الجميع بين يدي ربهم -سبحانه وتعالى- فيجازي العامل بقدر عمله، إن كان من المحسنين فجزاؤه ما تعلمون وإن كان من المكذبين الضالين فجزاؤه أيضاً ما سبق أن ذكرناه وهو موجود أيضاً في القرآن الكريم وهذه دعوة أيضاً إلى أن يتفكر الإنسان وأن يقف متأملاً في ألا يعصي ما جاءه من الرسول, من لدن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لأن المرجع والمآل إلى الله -عز وجل-.
(9/16)
---(3/324)
بعد ذلك أدخل في الآية الأخرى التالية لهذه الآية ومع المحور الثاني من محاور هذا اللقاء وهو بعنوان:
المحور الثاني: أمر الله المؤمنين بألوان متعددة من الطاعات:
ونبتدئ الحديث عن ذلك بقول الله -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?77?......? إلى آخر ما جاء في هذا السياق القرآني الكريم، هذه الآية في الحقيقة والآيات التالية، جاءت بعد أن بين الله -عز وجل- وحدانيته ثم تكلم عن النبوة والرسالة يتكلم في هذه الآية عن الشرائع وما أوجبه على عباده، والكلام في هذه الآية وما يليها سينحصر في أربعة أمور أذكرها بإجمال ثم أعود إلى التفصيل فيها:
المسألة الأولى: ما نوع المأمور هنا؟
المسألة الثانية: ما هي أقسام المأمور به؟
المسألة الثالثة: لماذا كلف الله -سبحانه وتعالى- هؤلاء المأمورين بما كلفهم به؟
المسألة الرابعة: عودة مرة أخرى إلى ذكر شيء من هذا التكليف.
وأرجع بعد هذا الإجمال إلى التفصيل فأقول:
أولاً: تعيين المأمور به:
من هم المأمورون في هذه الآية؟
المؤمنون
أحسنت، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو? فأهل الإيمان هم المأمورون بهذه الآية, والله -عز وجل- في الآية التي افتتحت بها اللقاء قال: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ? وهنا قال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو? سر افتتاح والنداء لأهل الإيمان كما تعلمون ولعل هذا من الأمور المعروفة لدى طلبة العلم هو أن تتفتح آذانهم وأن يسرعوا في الاستجابة لنداء الله -تبارك وتعالى-، الله -عز وجل- يناديك يا مؤمن بلفظ الإيمان، هلم وأقبل ولا شك أن المؤمن سيستجيب لنداء الله -سبحانه وتعالى- له هذا هو نوع المأمور.
ثانياً: أقسام المأمور به:
(9/17)
---(3/325)
طب ما هي أقسام المأمور به؟ أقسام المأمور به مذكورة في هذه الآية والآية التي تليها، أولها: الصلاة، والأمر الثاني: العبادة والأمر الثالث: فعل الخيرات، والأمر الرابع: الجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى-.
الأمر الأول: الصلاة:
أقول الصلاة، وأخذت ذلك من قول الله جل ذكره في هذه الآية: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُو? وهذه كناية عن الصلاة، يعني صلوا لله -عز وجل- وذكر الله -سبحانه وتعالى- الركوع والسجود لأنهما من أشرف أركان الصلاة، إلى جانب ما يظهر فيهما من شدة الخضوع والتذلل لرب الأرض والسماء -سبحانه وتعالى- فأنت تركع على هيئة تختلف عن الهيئة التي تكون وأنت واقف في الصلاة، وتسجد كذلك فهذه الهيئة تفيد الخشوع والخضوع والتذلل لله -تبارك وتعالى-، فالركوع والسجود هنا يقوم الواحد منهما مقام قول الله -تبارك وتعالى-: [يا أيها الذين آمنوا صلو] وقلت: ذكر الركوع والسجود لأنهما من أشرف الأركان ويفيدان شدة الخضوع والتذلل لله -سبحانه وتعالى-.
الأمر الثاني: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ? أمر بعبادة الله وحده دون سواه قد يقول قائل: طيب الصلاة والقيام لله -تبارك وتعالى- يدخل في عبادة الله -عز وجل- فلما أفرد الصلاة بالذكر أولاً؟ نقول: لا شك أن الصلاة تدخل في العبادة ولكنه أفردها لبيان الاهتمام بها ويكون أيضاً الأمر في هذا فيه شيء من التدرج فينتقل به من ركن من أركان الإسلام إلى إيجاب ما أوجبه عليك من سائر ألوان العبادة.
وكذلك أقول في قوله تعالى في الأمر الثالث:
(9/18)
---(3/326)
الأمر الثالث: ?وَافْعَلُوا الْخَيْرَ? الخير: كل أمر مندوب, كل أمر حسن، كل أمر يشتمل على البر والإحسان والفضل يجب أن يسارع الناس إليه, والله -عز وجل- يدعوكم يا أهل الإيمان إلى فعل الخيرات وفي مقابل ذلك أن تنتهوا عن فعل القبائح والسيئات والعبادة أيضاً تدخل في فعل الخير ولكنه ذكر الخير حتى لا يظن ظان أن العبادة تقتصر على شعائر تعبدية فحسب، من صلاة وصيام وزكاة وحج وما إلى ذلك، لا.. فعل الخير في أي أمر يعود عليك بنفع وهو أمر صالح، وعلى الأمة الإسلامية يعود عليها أيضاً بنفع سواء كان زرعاً في مكان في أرض أو عمل في مصنع بإخلاص لله -تبارك وتعالى- كل ذلك من فعل الخيرات التي يعود أثرها عليك أنت أيها المخاطب لأن العبادة تشمل الدنيا والآخرة, العبادة ليست مقصورة على شعير يقوم الإنسان بها لله -تبارك وتعالى- بل يجب على الناس جميعاً والمؤمنين بصورة خاصة أن تكون حياتهم كلها لله -تبارك وتعالى- فالعبادة كلمة تسع الحياة كلها، أنت يا عبد الله في أي مكان كنت أخلص نيتك لله -تبارك وتعالى- واقصد وجه الله والدار الآخرة فيما تفعل تكون بذلك عبداً وعابداً لله -تبارك وتعالى-.
وبعد ما قال: ?وَافْعَلُوا الْخَيْرَ? قال: ?لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? الفلاح: هو الظفر بالمطلوب، الفلاح: أمر أنا أريده, أريد أن أحققه فأناله وأظفر به، هذا هو الفلاح، والله -عز وجل- يذكره هنا بقوله: ?لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? ولعل تفيد الترجي فلعل للترجية، طيب ما معناها إذن؟ معناها أن العبد المؤمن الذي طولب منه أن يفعل هذه الأشياء يفعلها وهو يرجو ثواب الله -تبارك وتعالى-، يرجو فضل الله -عز وجل- وأن يظفر بالمطلوب لماذا؟ لأن العبد لا يستطيع أن يحكم على نفسه بأنه قد نال الفلاح، لأنه قد يقع في التقصير وقد يفعل ولكنه لا يدري هل قبل الله -عز وجل- منه ما فعل أو لم يقبل منه ما فعل؟ وبالتالي قال رب العزة والجلال: ?لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?.(3/327)
(9/19)
---
الأمر الرابع: الذي هو من أقسام المأمور به في هذه الآيات: قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ? الجهد أو الجهاد هو أن يبذل الإنسان وسعه فيما يمكن أن يبذله فيه لله -تبارك وتعالى- والجهاد كما تعلمون بالمال والنفس والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- في سبيل الله -عز وجل- والجهاد في الإسلام له قواعد تنظمه، فليس من شيئًا قائماً دون ضوابط يمكن أن تحكم هذه الشريعة التي جاءت من عند الله -تبارك وتعالى- والجهاد يلجأ إليه أهل الإسلام حينما لا يجدون مناصاً، إن كان جهاداً بالقتال فيلجؤون إليه عندما لا يجدون مناصاً منه، ولا شك أن هذا الجهاد يدعو إليه ولي الأمر ويقوم تحت راية واضحة، كذلك الجهاد في سبيل الله -عز وجل- بالكلمة واللسان والبيان والجهاد في سبيل الله -عز وجل- بالمال كل ذلك يدخل في قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ?.
ثم أنتقل بعد ذلك إلى المحور الثالث في هذا اللقاء: وهو داخل ضمن هذه الآيات التي افتتحها رب العزة والجلال بقوله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُو? وهو قول الحق -تبارك وتعالى-: ?هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ?
المحور الثالث: الله تعالى اجتبى هذه الأمة وهو الذي سماها -سبحانه وتعالى-:
(9/20)
---(3/328)
وفي ذلك يقول رب العزة والجلال: ?هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? وهذا هو الأمر الثالث الذي تحدثت فيه هذه الآيات وهو بعنوان أشرت إليه إجمالاً فيما مضى: ذكر الأمور التي أوجبت التكليف لهذه الأمة، بالركوع والسجود وفعل الخيرات وعبادة الله والجهاد في سبيل الله، ما الذي أوجب هذه الأمور؟ ما ذكره رب العزة والجلال هنا في كتابه: ?هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? تفيد هذه الآية أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي اصطفى أمة النبي واختارها وفضلها على سائر الأمم، وخصها بهذا التشريف وبهذه المكانة فأنزل عليها أفضل الكتب وأرسل إليها أفضل الرسل -صلوات الله وسلامه عليه- وهذه منة يا أهل الإيمان يجب أن تقدروها وأن تقوموا بحقها فتؤمنوا بالله وتتابعوا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، تتنافسون في الطاعات، وتتسابقون إلى فعل الخيرات لأنكم أمة أيضاً مصطفاة، في الآية قبل السابقة: ?اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ? وهنا يقرر الله لكم يا أهل الإيمان أنه كلفكم بأمور وما كلفكم إلا لأنه اجتباكم لأنه اختاركم لأنه فضلكم فيا أهل الإيمان قدروا هذه المنقبة العظيمة وتأملوا في فضل الله -سبحانه وتعالى- عليكم، ?هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? قوله تعالى: ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? بعد قوله: ?اجْتَبَاكُمْ? وهي تبين لماذا كانت هذه التكاليف على هذه الأمة جاءت هذه الآية كأن سؤالاً طرح هنا، كيف اجتبانا وهذه التكاليف قد يكون فيها شيء من المشقة والصعوبة على بعض الناس؟ فأجاب رب العزة والجلال بقوله وأزال هذا الوهم الذي يمكن أن يقوم في قلوب بعض الناس وهو قائم ولا شك، كم من أناس نرى ونحن في طريق الدعوة إلى الله -عز وجل- يقولون لك: أنت تشدد علينا, حينما تأمرهم بشيء من(3/329)
(9/21)
---
التكاليف الشرعية: أو هذه مسائل فيها شيء من الصعوبة: كيف أترك فراشي وأقوم لصلاة الفجر: كيف أضحي بشيء من مالي ووقتي وما إلى ذلك ... الله -عز وجل- يقرر أن هذه الشريعة المحمدية رفع الله -عز وجل- الحرج عن أصحابها فقال: ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? الحرج أيها المستمعون الكرام هو الضيق والمعنى: ما كلفكم الله -سبحانه وتعالى- بشيء يشق عليكم أو يسبب العنت لكم فالتكليف في الإسلام وفي شريعة النبي -عليه الصلاة والسلام- قائم على قدر الوسع والطاقة، كما رب العزة والجلال سبحانه: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَ? [البقرة: 286] وهذه الآية كقول الله -تبارك وتعالى-: ?يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ? [البقرة: 185] وكقوله جل ذكره: ?وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا ?27? يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ?28?? [النساء: 27، 28] والإسلام حينما كلف كلف بشيء في مقدور الإنسان واستطاعته لا يكلفه شيئاً من العنت فالله -عز وجل- رفع الإصر عن هذه الأمة ولذلك كما جاء في حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قرأ قول الحق -تبارك وتعالى-: ?رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَ? [البقرة: 286] قال الله: قد فعلت) وهذا رفع للحرج عن هذه الأمة فيما أخطأت فيه أو ذلت فيه أو قصرت فيه ومثله أمور أخر جاءت في شرعة الإسلام يا أيها المشاهدون الكرام من أمثلة رفع الحرج والضيق في هذه الملة المحمدية أن الله -سبحانه وتعالى- خفف عن المسافر الصلاة فسن لهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يجمع وأن يقصر الصلاة أيضاً فالصلاة بدلاً من أن يصليها أربعاً يصليها كم؟ ركعتين لله -تبارك وتعالى- ويجمع بين(3/330)
الظهر
(9/22)
---
والعصر وبين المغرب والعشاء إذا كان مسافراً. كذلك للعبد أن يفطر في رمضان إن كان صاحب عذر، لا يتمكن من الصيام أو لا يستطيع أن يقوم به أو كان مسافراً ويشق عليه الصيام. إذا لم تستطع يا عبد الله أن تقوم لله -عز وجل- في الصلاة والقيام في الصلاة ركن من أركانها فصلِّ جالساً فإن لم تستطع فصلِّ نائماً أو على جنب كما جاء عمران بن حصين للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: (كانت بي بواسير) لا يستطيع القيام في الصلاة، فكلم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في ذلك فقال له: (صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب) وهذا رفع للحرج والضيق عن هذه الأمة المحمدية وعلى نبيها -صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ? كلمة ?مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ? جاءت منصوبة هكذا وذكر البعض أنها منصوبة على تقدير يُفم على الكلام السابق يعني وسع دينكم توسعةَ ملة أبيكم إبراهيم وقيل وهو الصواب ورجحه أيضاً ابن جرير وأيضاً رجحه الإمام ابن كثير: إنها منصوبة على تقدير فعل محذوف للإغراء، يعني يغرينا باتباع ملة أبينا إبراهيم، وتقديره: الزموا ملة أبيكم إبراهيم، والله -عز وجل- قد قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- في كتابه: ?قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ?161?? [الأنعام: 161].
(9/23)
---(3/331)
قال: ?مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ? هل إبراهيم –عليه السلام- أبو المؤمنين جميعاً؟ نقول: لا، فإبراهيم -عليه السلام- يعد أباً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أباً أعلى لأنه من ولده من سلالته من سلالة إسماعيل -عليه السلام- ومعظم العرب من سلالة إسماعيل -عليه السلام- وكثير من المخاطبين في ذاك الوقت كذلك ولذلك صح أن يقول الله -عز وجل-: ?مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ? ولا يقول قائل بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه إذن لم يأتِ بشريعة جديدة مستقلة، نقول: لا، هو جاء بشريعة جديدة مستقلة ولكنه متبع ملة إبراهيم -عليه السلام- الملة الحنيفية السمحاء، ملة التوحيد وعدم الشرك بالله -تبارك وتعالى-.
ثم يقول رب العزة والجلال سبحانه وهذا داخل معنا في هذا المحور لأن المحور: الله اجتبى هذه الأمة وهو الذي سماها، يقول رب العزة والجلال سبحانه، ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ? ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ? الضمير في هو يعود على من؟ اختلف فيه العلماء قال البعض وهو الصواب، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وكثيرون بأن الضمير يعود إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- يعني الله -عز وجل- هو الذي سمى هذه الأمة بالمسلمين. وقيل: الضمير يعود إلى إبراهيم -عليه السلام- ولكن هذا مرجوح لأن الله -عز وجل- يقول في الآية وهذه قرائن لأن البعض يقول -وقد أسألكم في هذا- يقول: بأن إبراهيم -عليه السلام- أقرب مذكور فالضمير يعود إليه ?مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ? نقول: يعود إلى أقرب مذكور إن لم يكن هناك صارف يصرفه إلى غيره، وهنا قامت قرائن تصرف ذلك عن أن يكون المراد بذلك إبراهيم -عليه السلام-:
(9/24)
---(3/332)
أول قرينة: أن الله قال: ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَ? يعني في القرآن الكريم، القرآن الكريم نزل بعد إبراهيم -عليه السلام- بمدة طويلة.
القرينة الثانية: أن الخطاب من الأول والأفعال القائمة به هي منسوبة إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فكما نقول: الله هو الذي اجتبى هذه الأمة قال: ?هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ? فالسياق من أوله يتحدث عن أفعال رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وهذا فيه تكريم أيضاً وتشريف لهذه الأمة بأن الله سماها من قبل، يعني سماها لدى الأنبياء السابقين، تأملوا التكريم والتشريف، وفي هذا تشويق لأهل الإيمان إلى الزيادة والإقبال على الله -تبارك وتعالى-، الله -عز وجل- كرمكم يا هذه الأمة وسماكم من قبل في الكتب السابقة وعند الأنبياء السابقين بالمسلمين، وهذا يدعونا أيضاً يا إخواني إلى أن أذكر أمراً مهما جداً وهو: هل يجوز لنا أن نستبدل بهذا الاسم بغيره؟ الله -عز وجل- يقول: ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ? [آل عمران: 19] ويقول: ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ? هل يجوز أن أقول بأنني شاذلي أو برهاني مثلاً أو ما إلى ذلك؟ أنتسب إلى طريقة وإلى شيخ وأترك النسبة التي سماها لي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ? يعني في الكتب السابقة ?وَفِي هَذَ? يعني في القرآن الكريم؟ يا رب لماذا كل ذلك؟ لماذا كان هذا التكريم وهذا التشريف؟ كان هذا التكريم وهذا التشريف كما قال رب العزة والجلال في هذه الآية: ?وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ? النبي -صلى الله عليه وسلم- شهيد على هذه الأمة وهذه الأمة شهيدة على من قبلها من ماذا؟ على الأمم التي(3/333)
(9/25)
---
قبلها، وهذه الآية كقوله الله -تبارك وتعالى-: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً? [البقرة: 143].
وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت رسالة ربك؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه، هل بلغكم نوح؟ فيقولون: ما أتانا من بشير ولا نذير، فيقول الله لنوح -عليه السلام-: من يشهد لك؟ فيقول -عليه الصلاة والسلام- محمد وأمته، فتشهد هذه الأمة، وهذا هو قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ? تشهد هذه الأمة ويشهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على شهادة هذه الأمة) وهذا فيه تكريم وتشريف وعلو ومكانة لأمة النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-.
يا أيها المشاهدون الكرام أنتم أشرف الأمم وأنتم أكرم الأمم على الله -عز وجل- أنتم أفضل الأمم أنتم الذين اختاركم وكرمكم فأقبلوا على ربكم وقدروا هذه النعمة فلا تخالفوا أمر الحق -تبارك وتعالى-، فأنتم شهداء على الناس، ونبيكم -صلى الله عليه وآله وسلم- شهيد عليكم، ?فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا ?41?? [النساء: 41] والله يقول له: ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرً? [الأحزاب: 45].
(9/26)
---(3/334)
وإذا كان الأمر كذلك فأرجع إلى الأمر الرابع الذي أجملته فيما مضى وهو عودة إلى التكاليف مرة أخرى طالما أنه وقع الاجتباء ووقع الاصطفاء ووقع التكريم فحافظوا يا أمة الإسلام على هذا الشرف واغتنموا هذه الفضيلة: ?فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ? ?فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ? عودة بعد ذلك وأمر بإقامة الصلاة والتركيز أو التذكير بها أيضاً هنا لأنها هي الركن الأول بعد الشهادتين وللأسف الشديد، وليس هذا هو مجال الحديث الآن عن مثل ذلك, فرط بعض المسلمين في الصلاة والله لم يأمر الصلاة فحسب وإنما أمر بإقامتها يعني بأحسن قيام يمكن أن يقوم به العبد بين يدي رب العزة والجلال ?وَآتُوا الزَّكَاةَ? كذلك ?وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ? أي استعينوا به وتوكلوا عليه، وتأيدوا به وتأيدوا برب العزة والجلال سبحانه والعبد إذا أوكل نفسه إلى رب العزة والجلال واعتصم به هداه الله -عز وجل- وأدخله جنته ?فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ?175?? [النساء: 175] ?وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ?.
(9/27)
---(3/335)
ونعم الختام الجميل ?فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ? والله لا مولى لنا إلا ربنا ولا نصير لنا إلا ربنا، وكما قال سبحانه: ?اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ? [البقرة: 257] وكما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وذكر ربنا عنه ذلك في كتابه ?إِنَّ وَلِيَّيَ اللهُ? [الأعراف: 196] تأمل قول النبي -عليه الصلاة والسلام-، يذكر بأن الله -سبحانه وتعالى- هو وليه وكذلك أيها المخاطبون الكرام الله -سبحانه وتعالى- هو ولينا ?فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ? وأكرر القول فأقول ما أجمل هذا الخطاب وهي دعوة أيضاً إلى أن نحتمي بالولي الكبير المتعال ألا وهو رب الأرض والسماء وأن ننتصر بربنا -سبحانه وتعالى- فهو نعم المولى ونعم النصير.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أسئلة الحلقة الماضية:
كان السؤال الأول:
ما المراد بالإحياء المذكور أولاً والإحياء المذكور ثانيًا في قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ?؟
وكانت الإجابة:
المقصود بالإحياء الأول أن الله -تبارك وتعالى- أحيانًا بعدما كنا موتى في العدم أو أننا موتى ونحن نطف في أرحام أمهاتنا ثم جاء رب العزة ونفخ فينا الروح كما قال الله -تبارك وتعالى-: ?كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ? [البقرة: 28].
الإحياء الثاني: بعد الخروج من رحم الأم فإذا قدر الله له أن يعيش فيعيش ما شاء الله له ثم يموت ثم يبعثه الله للحساب. انتهت الإجابة.
الإجابة صحيحة وسليمة، والحمد لله.
السؤال الثاني: دل قول الله -تبارك وتعالى-: ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ? على كتابة الله لكل شيء, اذكر آية أخرى تدل على ذلك وحديثاً في ذلك.
وكانت الإجابة:
(9/28)(3/336)
---
الآية قول الله -تبارك وتعالى-: ?عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ? [سبأ: 3] هناك أكثر من آية أقولها؟
يعني نذكر أن لفظه كتبه في كتاب، وفيه آيات صريحة يعني ?مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ?.
فيه إجابات أخرى.
وقول الله -تبارك وتعالى- ?هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ? [الحشر: 22] وقوله تعالى: ?هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ? [النجم: 22].
أما الدليل من السنة فروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: (سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أولاد المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين).
وروى الإمام مسلم عن عائشة أم المؤمنين قالت: (توفي صبي فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: أو لا ترين أن الله خلق الجنة والنار فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً؟).
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وكل الله بالرحم ملكاً فيقول: أي رب علقمة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقه قال: أي رب ذكر أم أنثى أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كل ذلك في بطن أمه).
(9/29)
---(3/337)
في الحقيقة هذه الأجبة التي سمعتموها الآن تفيد علم الله -سبحانه وتعالى- السابق للأشياء وكنت أود أن يذكر أيضاً التعليق على قول الله -تبارك وتعالى-: ?إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ? [الحج: 70] يعني دلت هذه الآية كما قلت على كتابة الله -سبحانه وتعالى- مقادير الأشياء ومن أصرح أو الآيات الصريحة من أصرح الآيات في ذلك، ?مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَ? [الحديد: 22] كذلك حديث عبد الله بن عمر بن العاص وهو في صحيح مسلم وقد سبق أن قلته في اللقاء السابق.
السؤال الثالث: اشرح باختصار قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانً?؟
وكانت الإجابة:
يقول الله -سبحانه وتعالى- مخبراً عن المشركين الذين عبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً كقوله -تبارك وتعالى-: ?وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ?117?? [المؤمنون: 117] فهم يعبدون من دون الله ما ليس عنده به علم وإنما تلقوه عن أسلافهم بل سوله لهم الشيطان وما كان ينبغي لهم أن يتركوه ويبعدوا غيره وأفاد ختم الآية ?وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ? أن هذه الآلهة لن تنفعهم ولن تنصرهم بل هم الذين ينصرونها كما قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ?74? لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ?75?? [يس: 74، 75].
الإجابة صحيحة والاستدلال في موطنه فجزاه الله خيراً.
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة لها سؤالان:
(9/30)
---(3/338)
السؤال الأول: تقول فضيلة الشيخ الكثير من الآيات القرآنية تتوعد المشركين وتصف مواقفهم الصعبة التي سيمرون بها على أرض المحشر فكيف يكون الموقف إذا كان أحد أشرك بجماد مثل أن عبد الدرهم وعبد الدينار هل يوقف هو والدرهم والدينار هناك؟
لا شك أن الله -سبحانه وتعالى- أخبر بأنه سيأتي العابد والمعبود بين يدي رب العزة والجلال وهذه مسائل في كيفياتها مسائل غيبية والدرهم والدينار ليس من المكلفين وبالتالي يعني بعثه بالطريقة التي يمكن أن يُظن لدى الإنسان أنه يبعث وأنه يسأل أو أنه سيناله شيء من العذاب أو ما إلى ذلك، لا أجد آية في القرآن الكريم أو في السنة النبوية المطهرة تشير إلى ذلك، ولا شك أن عبادة هذه الأشياء وإن أطلق عليها هي عبادة وهي أيضاً من صرف همته لها في تحصيلها من الحرام أو أضاع حدود الله -تبارك وتعالى- لكي يحصل هذه الأشياء فهو عابد لها على الحقيقة وهو الذي سيحاسب على قدر ما فرط في جنب الله -تبارك وتعالى-، والله أعلم.
سؤالها الثاني فضيلة الشيخ تقول: قال الإمام ابن القيم في استحقاق وعيد الشرك: «الكامل للكامل والحصة للحصة»، فهل ذلك يأذن لنا أن نهدد من خيف عليه من الشرك بالآيات المذكورة للمشركين وأن نخبرهم بأن لكم نصيباً منها؟
(9/31)
---(3/339)
لاشك أن الآيات القرآنية تتلى كما أنزلت، وتطلق على من يأتي بفعل من أفعال الشرك ولكن لا تنزلها على الشخص بعينه، يعني لا تنزل هذه الآية على شخص بعينه؛ لأن التنزيل على شخص بعينه له شروط وقواعد وضوابط معلومة لدى أهل السنة والجماعة، وهو ما يعبرون عنه بأن تتحقق فيه الشروط وأن تنتفي فيه الموانع، وأضرب مثلاً يسيراً على ذلك؛ لأن هذه المسألة أراها مهمة جداً، النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو متوجه إلى غزوة حنين ومعه بعض المسلمين الذين كانوا حديثي عهد بإسلام، أسلموا بعد فتح مكة أو مع فتح مكة فمروا على المشركين وهم قد علقوا أسلحتهم على شجرة يتبركون بها ويظنون أنهم إن فعلوا ذلك انتصروا على من يواجههم فقال بعض المسلمين من الذين مع النبي -عليه الصلاة والسلام-: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إنها السنن، قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ?اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ? [الأعراف: 138])، فهذا الفعل وهذا الطلب لا شك أنه شرك ولكن هل أشرك هؤلاء القوم حينما طلبوا ذلك أو وقعوا في الشرك؟ لا .. ما يتنزل ذلك عليهم لماذا؟ لأنهم حديثوا عهد بإسلام، لم يعرفوا ذلك بعد، ولم يتعلموه، الشاهد من كل ذلك أنك لو رأيت فعلاً من أفعال الشرك تقول: هذا من الشرك وتنزل عليه الآيات أما من يفعله فيجب عليك أن تتوقف حتى تقام عليه الحجة والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: هل كان يوجد هناك على دين التوحيد قبل بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عهد الجاهلية والشرك؟ وكيف كانوا يعبدون الله؟ هل كان عبادتهم سراً وهل كان المشركون يؤذونهم؟
(9/32)
---(3/340)
لا شك أن الله -عز وجل- أخبر في كتابه أنه ما من أمة إلا وقد أرسل إليها رسول ?وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ? [فاطر: 24] وإبراهيم -عليه السلام- وإسماعيل أيضاً كان في مكة، وكان الحنفاء الذين أُطلق عليهم هكذا في مكة كانوا يعبدون الله -عز وجل- على ما جاء به إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- من دين وهو دين صحيح ولا ينسخ الدين إلا بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فهناك كان حنفاء يعبدون الله بهذه الشرائع التي بعث بها الأنبياء والمرسلون, كذلك الأمر في كل أمة أرسل إليها رسول, فمثلاً من كان متبعاً لموسى -عليه السلام- سائراً على الحق الذي جاء به موسى -عليه السلام- وعنده التوراة الحقيقية التي لم تحرف ولم تبدل فهو على حق وعلى خير إلى أن يبعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كذلك أتباع عيسى وكذلك يقال في كل نبي ورسول والله أعلم.
الأخت الكريمة لها ثلاثة أسئلة:
سؤالها الأول: لماذا دائماً يقول الله -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو? ولم يقل يا أيها المؤمنون؟ ويقول تعالى: ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ? ولم يقل يا أيها الذي أرسل؟
لا أجد في الحقيقة فرقاً في مثل هذا فقول الله -عز وجل-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو? كقوله يا أيها المؤمنون، الشاهد من ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- نادى أهل الإيمان وأكثر من هذا النداء في القرآن لسرعة استجابة من يسمع؛ لأنه يتوقع ممن آمن وصدق أن يستجيب، طالما أنه آمن بالله -تبارك وتعالى- سيستجيب لنداء الله -تبارك وتعالى-، ولا أرى فرقاً في ذلك والله أعلم.
سؤال الأخت الثاني: يوجد كثيراً في القرآن قول الله -تبارك وتعالى-: ?يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ? وكذلك: ?يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ? فما الفرق بينهما؟ وأيهما أبلغ؟
(9/33)
---(3/341)
?يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ? و?يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ? الدعاء عبادة، وهذا بنص القرآن الكريم، يعني الدعاء يدخل في العبادة الله -عز وجل- يقول: ?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي? [غافر: 60] فأحل كلمة العبادة محل كلمة الدعاء، لأنه في غير القرآن: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن دعائي، ولكن قال: ?إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي?، فإحلال كلمة العبادة محل كلمة الدعاء تدل على أن الدعاء عبادة، إلا أن الدعاء أخص من العبادة، فالعبادة تشمل الدعاء وغير الدعاء، فأنت مثلاً حينما تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر هذه عبادة حينما ترفع الأذى عن الطريق، مبتغياً فضل الله ووجه الله -عز وجل- تكون بذلك عابداً لله -سبحانه وتعالى-، في حين لم يحدث منك في مثل هذه الحالات دعاء توجهت به إلى الله -عز وجل-، فالعبادة أعم من الدعاء، والدعاء أخص، وهذا واضح يعني الحمد لله.
الأخت الكريمة تقول: لو سمحت عندي سؤالان:
السؤال الأول: بالنسبة للإنسان الذي يمكن أن يدخل له الرياء في العمل الصالح وهو لا يعلم؟ لو مات على ذلك هل مات مشركاً؟
السؤال الثاني: فيه أحد الأخوات كانت دائماً تصلي استخارة وترى نتيجتها وتقول: أنا أرى نتيجة الأعمال حتى إن الناس تطلب منها أن تصلي لها استخارة وترى النتيجة, وتقول لهم: أنا رأيت لك كذا وكذا، هل هذا العمل يعتبر من أنواع الشرك؟
السؤال الثالث: هل الدعاء بصالح الأعمال, الإنسان يأخذ أجره في الدنيا على هذا وليس له أجر في الآخرة؟
(9/34)
---(3/342)
بالنسبة للسؤال الأول: أطلب من أهل الإيمان أن لا يشددوا على أنفسهم وأن لا يجعلوا للشيطان طريقاً عليهم حتى لا يقنطهم من رحمة الله -تبارك وتعالى-، فالإنسان يخلص أعماله لله -عز وجل- ولا يلتفت إلى شيء يمكن أن يؤثر على هذه الأعمال, لا تلتفت إليها، أنت طالما أخلصت وجهك لله -تبارك وتعالى-، فلا تلتفت إلى شيء يمكن أن يقوم به الشيطان كي يقنطك من هذا العمل، والمخرج من ذلك أن تستغفر الله -سبحانه وتعالى- وتستعيذ به من أن تشرك به شيئًا وأنت تعلم وتستغفره فيما لا تعلم وهذا توجيه نبوي من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فأنا أقول للسائلة بأن تفعل ذلك وأن تسأل الله -سبحانه وتعالى- وأن تستعيذ به من أن تشرك به شيئًا وهي تعلم وتستغفر الله -عز وجل- مما لا تعلم والله -سبحانه وتعالى- عنده القبول.
سؤالها الثاني: على الاستخارة ورؤية نتيجة الاستخارة لأخوات غيرها فهل هذا يعد من الإشراك؟
هي التي تفعل، الحقيقة بالنسبة للاستخارة هذه مقصورة على الشخص ذاته لأن الاستخارة مسألة يقوم بها العبد والله -عز وجل- هو الذي يسهل له الأمور ويشرح صدره له وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة...) إلى آخر ما جاء في الحديث فقال: (أحدكم) عين الشخص بذاته، فالاستخارة لا يفعلها أحد مقام أحد، إن أردت أن تخدمه يا عبد الله فادعو الله -عز وجل- أن يختار له الخير.
كان سؤالها الثالث: عن الدعاء بصالح الأعمال هل الإنسان يأخذ أجره في الدنيا ولا يأخذ عليه أجراً يوم القيامة؟
في الدنيا والآخرة -إن شاء الله تعالى- والله -عز وجل- في كتابه وهي دعوة مسجلة في القرآن الكريم ومن السنة أن يقول العبد بين الركن اليماني والحجر الأسود ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وفضل الله -سبحانه وتعالى- واسع وعظيم.
بمناسبة الركن اليماني نأخذ اتصالاً من مكة من الأخ الكريم،
(9/35)
---(3/343)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بالنسبة لأثناء الصلاة في الحرم هل يمكن إن الواحد ينظر إلى الكعبة؟
السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينظر المصلي بين يديه، ولا ينظر إلى الكعبة.
فضيلة الشيخ السؤال الثالث للأخت الكريمة أيضاً تقول: الكفار ?مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ? فهل المؤمنون حق الإيمان قد قدروا الله حق قدره أم أن قدر الله لا يمكن أن يقدره أحد مهما كان؟
لا شك أن مقام الله -سبحانه وتعالى- عظيم، وهذه الآية كقول الله -عز وجل-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ? [آل عمران: 102] يعني هي دعوة إلى أن يبالغ الإنسان قدر استطاعته في ذلك، وإن كان العبد لا يستطيع أن يوفي بجميع ما أوجب الله -سبحانه وتعالى- عليه، ولا يظن الإنسان أنه يمكن أن يكافئ الله -عز وجل-، تقول: أنا قدرته حق قدره، أو أنا اتقيته حق تقاته، حاشا وكلا، فالعبد ضعيف وربك -سبحانه وتعالى- أعلى وأعظم، وأجل غاية الأمر أنك ترجو وجه الله -سبحانه وتعالى- وتبذل الوسع والطاقة والجهد ما أمكنك من سبيل في تقوى الله -عز وجل- ومعرفة قدر الله -سبحانه وتعالى- وعظمته وعظيم سلطانه -سبحانه وتعالى-.
شيخنا الفاضل، في قول الله: ?ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ? هل يصح أن يكون الطالب هو المشرك نفسه الطالب للعبادة والمطلوب هو الصنم المطلوب من قبل المشرك كمعبود؟
(9/36)
---(3/344)
أحسنت جزاك الله خيراً، هذا قاله ومذكور في بعض كتب التفسير ولكنه قول مرجوح، هو قاله فيما أذكر الآن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: بأن الطالب هو من؟ المشرك، والمطلوب هو الوثن أو الصنم ولكن الذي رجحه الإمام ابن جرير وابن كثير وقال نصاً ابن كثير عنه، قال: وظاهر السياق أن الطالب هو الصنم الذي أخذ منه، والمطلوب هو الذباب الذي أخذ من الصنم ما أخذ. وفي الحقيقة كون هذه العبارة تأتي بعد الحديث عن المثل وقول الله -عز وجل-: ?لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ?، يدل على هذا المعنى، ولذلك الحافظ ابن كثير قال: وهذا ظاهر السياق، متابعاً في ذلك الإمام ابن جرير وهذا هو الصواب والراجح والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: في الآية الأخيرة من سورة الحج: ?وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ? هل هذه الآية كلها تتكلم عن الجهاد، الله -عز وجل- يقول بعدها: ?هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ? وفي النهاية يقول: ?فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ? هل هذه الآيات كل متكامل أم هي كل فقرة فيها منفصلة عن الفقرة السابقة؟
في الحقيقة هذه آية اشتملت على معاني متعددة وأنا حينما تحدثت عنها من أول قولي: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُو? قلت إلى آخر السياق: هذه الآيات اشتملت على أمور أربعة:
الأمر الأول: تعيين المأمور، من الذي أمر في هذه الآية؟
(9/37)
---(3/345)
الأمر الثاني: أقسام المأمور به، الذي ذكرناها وقلنا بأنها أربعة: وهي الصلاة والعبادة وفعل الخيرات والجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى-، ثم ذكرت بعد ذلك الآيات أيضاً بينت سبب هذا التكليلف وهو الاجتباء الحاصل من الله -سبحانه وتعالى- ?هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? الأمر الثاني: ?مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ? ثم بعد ذلك قلت: رجعت الآيات فأكدت المأمور به مرة أخرى ووجوب الإتيان به لله -تبارك وتعالى-، فقال: ?فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ? فالآية كلٌّ مكتمل، ولكنها تشتمل على معاني متعددة ومفرداتها تفيد هذه المعاني التي أشرت إليها الآن، والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: سمعت من أحد المشايخ في تفسير قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ? أن الذباب إذا أخذ شيئًا من الطعام، فإنه يقوم بتحويل هذه المادة إلى مادة أخرى قبل وصوله إلى معدته ولو حاولوا أخذ هذه المادة التي أخذها يجدونها غير المادة التي أخذت كما اكتشف ذلك العلم الحديث، فهل لهذا القول صحة؟ وجزاك الله خيراً.
(9/38)
---(3/346)
نعم هذا هو معنى الآية، معناها أن الذباب لو أخذ شيئًا من الصنم أو أي من عبد من دون الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يعود إليه مرة أخرى ولا شك أن المأخوذ يتحول مباشرة بل إن الطعام بمجرد أن ينتقل من مضغ الإنسان له يتحول أيضاً إلى أمور بالتدريج كما هو معلوم ومعروف لدى العلماء في مثل ذلك، فما يأخذه الذباب أيضاً سرعان لا شك بأنه يتحول وحينما يثبت العلم الحديث ذلك فهو يتفق مع منطوق القرآن الكريم في أن ما أخذه الذباب من الأصنام أو مما عبد من دون الله -تبارك وتعالى- لا يمكن للإنسان أن يعيده إلى نفسه مرة أخرى، أو إلى الصنم أن يعيده إليه مرة أخرى، وما ذاك على الأقل إن لم يتحلل سيختلط بما لدى هذا الذباب، والله أعلم.
الأخ الكريم من فرنسا يقول: فضيلة الشيخ السجدة الثانية من سورة الحج يراها الإمام مالك وأبو حنيفة من العزائم أريد من فضيلتكم التفصيل في هذه المسألة أثابكم الله.
جزاه الله خيراً أعتقد هو متفق مع الأخ القارئ، هذه السجدة الثانية اختلف فيها الفقهاء، السجدة الأولى الواردة في سورة الحج، اتفق الأئمة الأربعة على القول بالسجود فيها، أما الثانية فاختلف فيها الفقهاء وعلى أية حال من أخذ بهذا فحسن ومن لم يأخذ بها أيضاً فحسن ولكن الحديث الوارد: (في أن هذه السورة فضلت على غيرها بالسجدتين) حديث ضعيف، يعني برز في بعض الآثار أن سورة الحج فضلت على غيرها بالسجدتين هو حديث ضعيف، ولكن الفقهاء كما ذكر الأخ الكريم اختلفوا في هذه السجدة فبعضهم قال: بأنه يستحب أن يسجد فيها الإنسان وبعضهم قال: لا تعد سجدة من سجود التلاوة الواردة في آيات القرآن الكريم ولا يوجد نص في مثل ذلك يعتمد عليه والله أعلم.
(9/39)
---(3/347)
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة تقول: إذا تعود الإنسان على فعل النوافل من الطاعات وعدم استشعاره للأجر في كثير من الأحيان ينقص من أجره رغم أن دافعه الأول الباعث على العمل هو الرغبة في الثواب كصيام الاثنين والخميس وغير ذلك؟ وجزاكم الله خيراً.
لا، نحن منذ قليل عند أول سؤال وجه إليها كان قريباً من هذا ونحن نقول: على الإنسان أن يخلص وجهته لله -تبارك وتعالى- ويرجو من الله -عز وجل- نحن أيها المخاطبون نسأل الله -عز وجل- التوفيق والسداد والقبول فنحن نعمل ونخلص في أعمالنا لله -سبحانه وتعالى- ونطلب من رب العزة والجلال أن يأجرنا عليها خيراً، وأن يتفضل علينا بأجر عظيم في الدنيا والآخرة، وليحذر الإنسان من وساوس الشيطان في مثل ذلك؛ لأن الشيطان إذا وجد من الإنسان إقبالاً على الطاعة، يحاول أن يوقفه أو أن يصده عنها أو أن يقلل من أعماله بما يمكن أن يوسوس إليه في مثل هذه الأمور فلا يلتفت العبد إلى ذلك بل عليه أن يقبل على الطاعة وأن يرجو فضل الله -تبارك وتعالى-.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة
السؤال الأول: عرف المثل. وما المراد بقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ?؟
السؤال الثاني: ذهب البعض إلى أن النبوة مكتسبة ناقش هذا القول مبيناً الصواب في ذلك. مع الدليل لما تذكر.
السؤال الثالث: اختلف العلماء في الضمير الوارد في قوله تعالى: ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ?؟ اذكر الأقوال في ذلك. مع الترجيح.
صل الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم.
(9/40)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس العاشر
الدرس العاشر
تفسير سورة المؤمنون
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم(3/348)
أهلاً بكم ومرحباً وبالمشاهدين والحاضرين, ويسرنا في هذا اللقاء أن نلتقي بعد أن انتهيت في اللقاء السابق من سورة الحج ونبدأ بعون الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة الكريمة المباركة ألا وهي -كما تعلمون- سورة المؤمنون. وسيدور الحديث -إن شاء الله تعالى- حول الآيات التي سأتحدث عنها -بإذنه سبحانه- في محاور متعددة هي كالتالي:
المحور الأول: الله تعالى حكم بحصول الفلاح للمؤمنين.
المحور الثاني: الصفات التي يجب أن تتوفر في أهل الإيمان.
المحور الثالث: الفردوس مآل عباد الله الصالحين.
المحور الرابع: الله –تعالى- أحسنُ الخالقين.
ولنستمع الآن إلى الآيات الجليلة المباركة التي سأتحدث عن هذه المحاور من خلالها -إن شاء الله تعالى- فمع القارئ الأخ الكريم فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, بسم الله الرحمن الرحيم
(10/1)
---(3/349)
?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1? الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ?2? وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ?3? وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ?4? وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ?5? إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ?6? فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ?7? وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ?8? وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ?9? أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ?10? الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?11? وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ?12? ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ?13? ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ?14? ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ?15? ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ?16??.
أحسنت وجزاك الله خيراً.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا وإمامنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واقتفى أثرهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد.
فمع الآيات الأولى من هذه السورة الكريمة المباركة، والتي افتتحها رب العزة والجلال بقوله: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1?? ولذلك عنونت لهذه الآية بمحورٍ قلت فيه:
المحور الأول: الله تعالى حكم بحصول الفلاح للمؤمنين:(3/350)
(10/2)
---
ذلك أن أهل الإيمان الذين أمرهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في آيات كثيرة من القرآن الكريم وخاصة في سورة الحج، هذه الصفات والأوامر الربانية التي أمرهم بها رب العزة والجلال رجوا من خلالها أن يحصلوا على الفلاح، فمثلاً ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?77?? [الحج: 77] وختام السورة: ?فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ? [الحج: 78] هذه كلها أوامر، يرجو المؤمن إن قام بهذه الأوامر أن يحصل على الفلاح فبعدما ذكر رب العزة والجلال رجاء أهل الإيمان لذلك افتتح ربنا -سبحانه وتعالى- هذه السورة بما يفيد ويدل على حصول الفلاح لأهل الإيمان، فقال: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1?? والفلاح: هو الظفر بالشيء، أن تظهر أن تنال الشيء الذي تحب وتريد أو أن تبقى في الخير، هذا كله يقال له: فلاح، والله -عز وجل- قد أثبت هذا الفلاح للمؤمنين بمطلع هذه السورة حينما قال: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1?? لأن "قد" تثبت المتوقع بخلاف "ما" التي تنفيه، وتقرب أيضاً "قد" الماضي من الحاضر، فالله -عز وجل- هنا لما رجا أهل الإيمان الفلاح أثبته لهم هنا فلا كتابه وفي مطلع هذه السورة مؤكداً وقوع هذا الفلاح وهي بشرى عظيمة لأهل الإيمان فقال -سبحانه وتعالى-: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1?? وهذه السورة سميت بذلك لاشتمالها على ذكر الفلاح للمؤمنين واشتمالها على ذكر أفضل أوصاف وخلال أهل الإيمان، فهذه الأوصاف التي ذكرها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ولها جانب كبير من الأهمية ومن الوجود أو التحقق في صفات المرء المسلم والمرأة المسلمة لهذا كله سمى ربنا -سبحانه وتعالى- هذه السورة باسم المؤمنين، لاشتمالها على أعظم أوصاف وخلال أهل الإيمان، وفي نفس الوقت وفيها بشارة لأهل الإيمان(3/351)
وأيضاً تنويه
(10/3)
---
بذكر هذه الصفات وحث للمؤمنين أن يتنافسوا لتحصيل هذه الخلال الحميدة التي ذكرها ربنا -سبحانه وتعالى- ووصف بها هؤلاء القوم الذين سماهم بالمؤمنين وأثبت لهم الفلاح الذي توقعوه في آيات كثيرة من القرآن الكريم أثبته لهم حينما قال: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1??، يعني أن الفلاح ثابت وواقع لأهل الإيمان بفضل الرب -تبارك وتعالى-.
المحور الثاني: الصفات التي يجب أن تتوفر في أهل الإيمان.
الله -عز وجل- في مطلع السورة أثبت الفلاح لقوم وأطلق عليهم كما سمعتم الآن أطلق عليهم اسم الإيمان، وذكر ربنا -سبحانه وتعالى- بعض الصفات التي يجب أن يتحلى بها من يريد هذا الفلاح، والآيات التي بين أيدينا الآن وكما سنستمع إليها -إن شاء الله تعالى- نجد أن هذه الآيات اشتملت على سبع صفات، يجب أن تتوفر فيمن يريد الفلاح، هي بالترتيب كالتالي:
(10/4)
---(3/352)
الصفة الأولى: صفة الإيمان، وهي الصفة التي يدور عليها محور جميع الصفات التي تلحق بالمؤمن بعد ذلك؛ لأن الإيمان هو الدخول في الصدق والوعد لرب العزة والجلال سبحانه, التصديق الكامل بكل ما جاء عن الله وعن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- واعتقاد القلب بذلك والنطق به باللسان والعمل بعد ذلك بمقتضى النطق باللسان وما قام به أو ما قام في القلب من معاني للإيمان، والله -عز وجل- ذكر هذه الصفة وذكرها بأنها هي الصفة الأولى لأن بقية الصفات ترجع إليها، فمن لم يكن مؤمناً بالله ولا مؤمناً بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم مثلاً حفظ نفسه عن ارتكاب الفواحش أو أدى الأمانات إلى أهلها ورعاها، فهذا لا تكون له الحسنى بحال من الأحوال وكيف تكون له وقد فاته أصل الحسنى؟ ألا وهو: وجوب الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وبالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والصفة الأولى هذه مذكورة في الآية الأولى: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1?? إذن الصفة الأولى التي يجب أن تتوفر فيمن ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- عنهم بأنهم من أهل الفلاح هي الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والإيمان بالنبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-.
(10/5)
---(3/353)
الصفة الثانية: التي تلت هذه الصفة مباشرة: جاءت في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ?2?? هذه هي الصفة الثانية التي وصف ربنا -سبحانه وتعالى- بها من وسمهم أو من أثبت لهم الفلاح وهم أهل الإيمان الذين يتصفون بصفات سبع كما ذكرت، الصفة الثانية بعد الإيمان: هي الخشوع في الصلاة، والخشوع في اللغة هو السكون والخضوع وفي الاصطلاح أمر يقوم بالقلب يسكن إليه القلب ويطمئن به ويظهر أثره على الجوارح، الخشوع مسألة قلبية ترجع إلى القلب وإذا سكن القلب واطمأن وخشع وخضع لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ظهر ذلك على الجوارح, والخشوع في الصلاة المذكور هنا في الحقيقة هن روح الصلاة ولبها، روح الصلاة ولبها في الخشوع، ونحن نشاهد أن بعض الناس اليوم يمكن أن يدخل في الصلاة وربما يسير بعقله عشرات الآلاف من الكيلومترات كأنه ذهب إليها وسافر إليها والتقى بأناس هناك وحقق له مآرب وهو قد وقف بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في الصلاة هذا ينافي الخشوع والخشوع في الصلاة مسألة قلبية كما ذكرت يظهر أيضاً آثارها على الجوارح ونحن لا نشاهد من أعمال الخشوع في الصلاة إلا ما يظهر على الجوارح وإلا فما يقوم في القلب لا يعلمه إلا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والخشوع في الصلاة كما ذكرت أمر مهم للغاية ومن أراد الوقوف على ذلك فليرجع إلى مدارج السالكين لابن القيم في الجزء الأول في آخره سيجد أنه -رحمه الله تبارك وتعالى- تكلم عن هذا كلاماً مفيداً جليلاً يجب على المسلم أن يرجع إليه وأن تتفتح ذهنه على هذا الأمر كي إذا وقف بين يدي رب العزة والجلال تحقق في نفسه الخشوع، أهل الإيمان إذا وقفوا بين يدي الله نسوا كل الدنيا وما عليها لأن الخشوع يمكن أن يتحصل عليه الإنسان بصدق الإقبال على الله -تبارك وتعالى- وأن يترك مشاغل الدنيا وما فيها وما عليها فإن كان أمره كذلك فعلاً أصبحت الصلاة قرة عين له،(3/354)
(10/6)
---
كما صح الخبر عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو في الصحيحين وغيرهما أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وكان -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا أهمه أمر لجأ إلى أي شيء؟ لجأ إلى الصلاة لأن فيها خشوعاً لأن فيها سكينة لأن فيها تواضعاً لأن فيها تفريغ قلب الإنسان المقبل على الله -عز وجل-، عن جميع مشاغل الدنيا والإقبال بالكلية على الله -تبارك وتعالى-، واعلموا أيها المشاهدون الكرام أن الله -تبارك وتعالى- توعد من لم يخشع في الصلاة ولم يحافظ عليها وذلك في قول الحق -تبارك وتعالى- ?فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ?4? الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ?5?? [الماعون: 4، 5] البعض يظن أن ?سَاهُونَ? هنا بمعنى: تاركون للصلاة، وخاصةً إذا قيل: ?عَن? ولكن الصواب والله أعلم في كلمة ?سَاهُونَ?: أنهم ساهون فيها عن أمرين: عن الوقت والاستعداد لها، أو عن الخشوع فيها، فقد يستعد وقتا ويؤدي ما يجب أن يقوم به تجاه الصلاة كالاستعداد في معرفة القبلة مثلاً والطهارة وما إلى ذلك، ولكنه حينما يدخل فيها لا يكون خاشعاً فيكون قد أتى بأمر لا يجب أن يأتي به ويكون في هذه الحالة متوعد من الله -تبارك وتعالى- بذلك والدليل على هذا أن الله -عز وجل- قال ?فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ?4?? ولو كان القصد فويل لمن ترك الصلاة ما أثبته أنه مصلي وإنما قال: ?فَوَيْلٌ? لمن؟ ?لِّلْمُصَلِّينَ?، إذن هو قام بالصلاة ولكنها حركة جوفاء لم تؤدى من خلالها معاني الصلاة الحقيقية ألا وهو الخشوع فيها لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ولذلك نجد أن الله -عز وجل- ذكر أن هذه الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين فقال: ?وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ? [البقرة: 45] فقال: ?وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ? يعني ماذا؟ يعني الصلاة، ?إِلاَّ عَلَى? من؟ ?إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ? الذين(3/355)
خشعوا واستكانوا
(10/7)
---
واطمأنوا وركنوا إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
الصفة الثالثة: الإعراض عن اللغو: من الصفات التي يجب أن تتحقق في أهل الإيمان وأن يفوز بها من يفوز وأن يتحقق له الفلاح إن إراد ذلك، الصفة الثالثة هي ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ?3?? ذكر الله في هذه الآية أن من صفات المؤمنين المفلحين إعراضهم عن اللغو، واللغو أيها الإخوة الكرام ما لا فائدة فيه، من الأقوال والأفعال وما توجب المروءة تركه، فكل ما يخل بالمروءة أو يقدح في خلق الإنسان ودينه، هو في حقيقة القول من اللغو، ولذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- قال: ?عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ? يعني عن الباطل، وقال البعض بأن المراد باللغو أو الباطل الشرك وقال آخرون بأن المراد به المعاصي وواقع الأمر أن الكل مراد، فالشرك من اللغو، والمعاصي من اللغو، وليست من صفات أهل الإيمان بحال من الأحوال، فأهل الإيمان لا يعرفون الباطل ولا يعرفون اللغو بل إنهم يعرضون عن اللغو كما أثبت لنا ربنا ذلك لهم في كتابه، قال الله -عز وجل- مثنياً على أهل الإيمان ومبينا أنهم يبتعدون بعداً شديداً عن اللغو، وعن مقدماته وأسبابه فقال: ?وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ?72?? [الفرقان: 72] وفي آية أخرى: ?وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ?55?? [القصص: 55] وكم نشاهد في دنيانا اليوم أيها المشاهدون الكرام، كم نشاهد من لغو في القول والفعل وما إلى ذلك، في حياة الناس أمور كثيرة يحتاج أهل الإيمان بوجه أخص أن يراجعوا أنفسهم فيها، فلا يذكرون قولاً أو كلاماً أو يفعلون فعلاً لا يرضى الله -تبارك وتعالى- عنه، ولا يرضى عنه رسول الله -صلى الله عليه(3/356)
وآله وسلم- إذا كنا نقول
(10/8)
---
بأن من اللغو ما يخدش المروءة فما بالك بمنكرات الأقوال والأفعال إنها يا أيها المسلمون أس اللغو وأساسه، ولذلك يجب أن يربأ أهل الإيمان عن أن يقعوا في هذا اللغو الباطل لأن من اللغو ما يكون كفراً -والعياذ بالله تعالى- من اللغو ما يكون كفراً وهذا قد وقع من المشركين وقد يقع اليوم أيضاً من أعداء الإسلام حينما يلغون في الدين، فيسبون الله -عز وجل- أو يسبون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أو يعارضون القرآن بأهوائهم، كما قال رب العزة والجلال عن الكافرين: ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ? [فصلت: 26] فاللغو هنا الوارد في هذه الآية هو في الحقيقة كفر بالله -تبارك وتعالى-؛ لأنه لغو في ما جاءنا من عند الله -عز وجل- ألا وهو: القرآن الكريم.
الصفة الرابعة: التي يجب أن تتحقق في من أراد الفلاح هي ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-:
(10/9)
---(3/357)
?وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ?4?? واختلف العلماء في المراد بالزكاة الواردة في هذه الآية، فقال بعضهم: بأن المراد بها زكاة الأموال، وهذا عليه أكثر أهل العلم، وهو ما رجحه الإمام ابن كثير وغيره من المفسرين رحم الله –تعالى- الجميع، وقيل المراد بالزكاة هنا: زكاة الأنفس، زكاة النفوس، طهارة الروح، ويصبح معنى الآية يساوي ما جاء في قول الله -تبارك وتعالى-، ?قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ?14? وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ?15?? [الأعلى: 14، 15] أو ?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَ? [التوبة: 103] على كلٍّ أهل العلم يرجحون أن المراد بالزكاة الواردة هنا: زكاة الأموال، وإن قام الذي قال بأنها زكاة الأنفس استدل على أن الصورة مكية، وأن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة النبوية، ولكن الواقع والحاصل -إن شاء الله تعالى- أن الزكاة وإن لم تفرض إلا في المدينة النبوية، إلا أن أصلها كان موجوداً في مكة، وما فرض في المدينة كان هو تقدير النصاب الوارد لكل نوع أو فرع من أنواع الزكاة، والدليل على أن أصل الزكاة كان موجوداً في مكة ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى- في سورة مكية، ألا وهي سورة الأنعام: ?وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ? [الأنعام: 141] ولم يحدد الحصاد النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، لم تحدده السنة ولم يحدده القرآن الكريم ولكنها أشارت إلى أن هناك واجباً يجب أن يخرج من زكاة المال، وإذا قلنا بأن المراد بالزكاة أيضاً طهارة النفس والروح فكلاهما على كلٍ مطلوب ولا غير مطلوب؟ كلاهما مطلوب ولذلك نقول: بأن الزكاة هي النماء ويجب على الإنسان أن يخرج زكاة ماله فينميه بذلك وأن يطهر روحه ونفسه كي ترقى سليمة نظيفة، إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- نفس طاهرة, نفس تتقبلها ملائكة الرحمن ويقولون لها: ?ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ?28?? [الفجر: 28](3/358)
(10/10)
---
بعد أن زكت هذه النفس أو زكت هذه الروح وتكون زكاة المال إذن وزكاة النفس بطاعة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فتطيع ربك وما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- في إخراج الذي أوجبه الله عليك من مالك ثم بعد ذلك أيضاً تطيع الله وتطيع نبي الإسلام -صلى الله عليه وآله وسلم- فتتبع أوامره وتنتهي عما نهى عنه، فتزكو أيضاً بذلك نفسك وروحك، وهنا قال الله -عز وجل-: ?وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ?4?? معنى ?فَاعِلُونَ? يعني: مؤدون، قائمون بحق هذه الزكاة، كما أمر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
الصفة الخامسة: الواردة في هذه الآيات هي ما جاء في قول الله -عز وجل-: ?وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ?5? إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ?6? فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ?7?? في الحقيقة هذه الآيات الثلاث مجتمعة فيها فوائد عظيمة جداً:
- أثبتت أولاً أنه يجب على المسلم والمسلمة والمؤمن والمؤمنة أن يحفظ كل فرجه عن الوقوع في المعاصي.
- وأن لا يحفظه عن زوجه أو ما ملكت يمينه.
- وأن من ابتغى الحلال لا لوم عليه وليس من المعتدين.
إذن الآية بينت ثلاثة أمور:
1- أنه يجب على المسلمين أن يحفظوا فروجهم، وأعني المسلمين والمسلمات أن يحفظوا فروجهم.
2- وأن يوظفوا ما أودع فيهم من شهوات فيما أباحه رب العزة والجلال في الأزواج وما ملكة أيمانهم.
3- وأن من يفعل منهم شيئًا من ذلك فهو من المعتدين، ومن الملومين، يعني يقع أيضاً عليه اللوم، كما أثبتت الآيات ذلك.
(10/11)
---(3/359)
وهذه الآية تدعو المسلمين والمؤمنين إلى أن يترفعوا عن هذه الفاحشة الدنيئة التي قال الله عنها: ?وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ?32?? [الإسراء: 32] يعني تكفي المسلم أن يتأمل هذه العبارة لأن فيه مفاسد شديدة مفاسد عظيمة، ولذلك نجد أن الإسلام حينما نهى عن هذه الفاحشة نهى عن المقدمات المؤدية إليها، فأمر بغض الأبصار، واستتار واحتشام النساء، وأمر بالبعد عما يثير الأنفس أو يؤدي إلى الوقوع فيما حرم الله -عز وجل- في هذا المنكر، وكل ذلك وارد في كتاب الله وفي سنة النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-، والإمام أحمد -رحمه الله تعالى- كان يرى أنه لا يوجد ذنب عظيم عند الله -عز وجل- بعد القتل إلا الزنا، وهذا يبين جريمة هذه الفاحشة، يعني أعظم الذنوب بعد إزهاق النفس المؤمنة هو الزنا، وكان يستدل على ذلك بحديث الصحيحين الذي رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- (أنه سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: أي الذنب أعظم عند الله -تبارك وتعالى-؟ قال- صلى الله عليه وسلم-: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك) ولعلك تلاحظ أيها المشاهد الكريم أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أجاب السائل بمثل ما سأل عنه، فهو قد سأل عن أعظم الذنوب، فذكر له الشرك وهو أعظم الذنوب على الإطلاق، ثم بعد ذلك له القتل، ذكر له القتل، وهو يلي الشرك، ولكنه ذكر أعظم شيء في القتل ألا وهو: أن يقتل الإنسان طفله، الذي كان سبباً في إيجاده, والإنسان قد يقتل غيره من الناس، أما أن يقتل، وأن يقتل طفله فهذه نفس أعتقد من السوء بمكان، ويقتل الطفل مخافة أن يشاركه في الطعام الذي تكفل به رب العباد، ثم ذكر في الثالثة: (أن تزاني حليلة جارك) الزنا كله منكر وفاحشة وبلاء ولكن حينما يكون للجار يكون ذنبه أعظم، وبلاؤه أشد وأنا أؤكد على(3/360)
(10/12)
---
هذا؛ لأنه غالباً ما يقع الناس نتيجة الجوار، ومعرفة بعضهم ببعض، واختلاط بعضهم ببعض على وجه غير مشروع، يكون هذا سبباً في الوقوع، في هذه الفاحشة المنكرة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
ثم هذه الآية أيها الكرام فيها بعض الأحكام، ذكر منها العلماء أن هذه الآية استدل بها الإمام الشافعي والإمام مالك وغيرهما على تحريم الاستمناء، لأنه مما وراء ذلك، وأيضاً استدل أهل العلم على تحريم نكاح المتعة، من هذه الآية الكريمة، لماذا؟ لأن الله -عز وجل- أباح الأزواج أو ما ملكت اليمين فقط، ونكاح المتعة لا يدخل في هذا ولا في ذاك، أما كونه لا يدخل في ملك اليمين فواضح، وأما كونه لا يدخل في الأزواج لأنه لا يترتب عليه ما يترتب على الزواج، فليس للمرأة فيه طلاق ولا عدة، ولا نفقة، وما إلى ذلك، فلا يترتب عليه حكم الزواج بحال من الأحوال، ولذلك النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حرم نكاح المتعة في عام خيبر، وأكد التحريم في عام الفتح -صلوات الله وسلامه عليه-.
ويستفاد أيضاً من هذه الآية تحريم نكاح المحلل، المحلل الذي يعقد على امرأة ليحللها لزوجها الأول الذي بانت منه بالطلاق ثلاثاً، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا يقول: (لعن الله المحلِّل والمحلَّل له) لماذا؟ لأنه أيضاً ابتغى وراء ذلك.
ولذلك يا أيها المؤمنون هذه مسألة دقيقة مهمة جداً، الله -عز وجل- يخاطبكم فيها ويدعوكم يا أهل الإيمان , ويصفكم إذا كنتم مؤمنين حقاً، أن تحفظوا فروجكم عما حرم الله -تبارك وتعالى-، واستخدموها فقط، فيما أباحه الله لكم في الأزواج وملك اليمين، وأجمع جمهور أهل العلم على أن ما ملكت أيمانكم خاصة بالرجال دون النساء، فالرجل هو الذي له أن يتسرى بجاريته، أما المرأة إن كانت تملك عبداً فلا يجوز لها بإجماع أهل العلم.
(10/13)
---(3/361)
أيضاً في قوله تعالى: ?إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ? ?عَلَى? هنا بمعنى "عن"؛ لأن حفظ لا تتعدى بـ ?عَلَى? قال: ?وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ?5? إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ?6?? ويصبح المعنى والذين هم لفروجهم حافظون إلا عن أزواجهم وما ملكت أيمانهم فالله -عز وجل- أباح لهم ذلك، وهذا تشريع حكيم، يجمع بين مصالح الدنيا وبين مصالح الدين، فهو يجعل للإنسان مجالاً في أن يستفرغ طاقته التي هي في داخله فيما أباحه الله -سبحانه وتعالى- وينظم بذلك ما هو معلوم من الأنساب والأعراض وهذا أمر معروف في شريعة الزواج ولا شك أن المقام يضيق في ذلك ولكني أود أن أؤكد داعياً أهل الإيمان إلى أن يترفعوا حتى عن المقدمات التي تؤدي إلى هذه الفاحشة الشنيعة -والعياذ بالله تعالى- ويكفي أن الله سماها كما ذكرت في الآية السابقة وحينما نهى عنها قال: ?وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى? بلفظ القربان، وهذا النهي يؤكد أنه يجب على الإنسان أن يبتعد عن هذه الفاحشة وعن الوسائل المؤدية إليها، ?إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيل?.
(10/14)
---(3/362)
الصفة السادسة: بعد ذلك هي ما جاءت في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ?8?? هذه هي الصفة السادسة بعد أن ذكرت صفات خمس لمن أثبت لهم ربهم -سبحانه وتعالى- الفلاح جاءت الصفة السادسة، وهي صفة عظيمة للغاية، ?وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ?8?? أي يحافظون على أماناتهم ويحافظون على عهودهم، والأمانة هي كل ما استودعك الله إياه، وأمرك بحفظه، مما يتعلق بما أوحاه إليك، أو مما يتعلق بحقوق العباد، وكذلك العهود والمواثيق, ما عاهدت الناس عليه وما عاهدت الله -سبحانه وتعالى- عليه، والأمانة أمرها عظيم والوفاء بها جليل، والأمانة في القرآن الكريم تأتي غالباً بمعنى التكاليف الشرعية، يعني حينما قال ربنا -سبحانه وتعالى-: ?إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ? [الأحزاب: 72] قال أهل العلم بأن المراد بـ ?الأمَانَةَ? هنا التي حملها الإنسان: هي جملة التكاليف الشرعية التي جاءت من عند الله -تبارك وتعالى-، والله -عز وجل- هنا يصف أهل الإيمان بأنهم ?لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ? يعني يحافظون على الأمانة ويحافظون على العهد، والله -عز وجل- قد أمر بذلك المؤمنين في أكثر من آية وذلك كقول الله جل ذكره: ?إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ? [النساء: 58] ونهى الله -عز وجل- عن الخيانة، نهى المؤمنين وأمرهم بالأمانة فقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?27?? [الأنفال: 27] فنهى عن الخيانة وأثبت الوفاء بالأمانة، ومن الوفاء بالأمانة أيها المؤمنون، أن نفي بالعهد الذي(3/363)
(10/15)
---
بيننا وبين الله -تبارك وتعالى- ومن ذلك ميثاق الفطرة الذي أخذه الله على العباد، وأنا دائماً أود أن أنادي من لم يؤمن بالله -تبارك وتعالى- وأدعوه إلى الإيمان بالله -عز وجل- يا أيها الإنسان الله -عز وجل- فطرك على التوحيد والإيمان وأخذ عليك العهد بذلك وهذه أمانة، يجب أن ترجع إليها وأن تسلم لله -تبارك وتعالى- بها، وأقول أيضاً لمن قرأ الكتب السابقة، وتابعوا الأنبياء السابقين: أوفوا بالأمانة التي بلغ بها الأنبياء الذين بعثوا إليكم، لأنهم بشروا بالنبي الخاتم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويا أيها المؤمنون أوفوا بالأمانة فيما بينكم وبين الله -عز وجل-، بأداء التكاليف الشرعية، وأوفوا بالأمانة فيما بينكم وبين الناس، فإذا ائتمنك إنسان على أمانة سواءً كانت هذه الأمانة في القول أو في الفعل أو في المال، أو في الحفاظ على أمر ما، يجب عليك يا عبد الله أن توفي بالأمانة حتى تكون من أهل الفلاح الذي أثبتته هذه الآية لأهل الإيمان.(3/364)
كذلك الوفاء بالعهود؛ لأن الله قال: ?وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ?8?? والله -عز وجل- أوفى بالعهد بينك وبين الله عهد يجب الوفاء به، بينك وبين الناس عهد يجب الوفاء به، الله -عز وجل- يثبت في كتابه، ويأمر أهل الإيمان أن يوفوا بالعهود، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ? [المائدة: 1] ويقول جل ذكره: ?وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُول? [الإسراء: 34] ولذلك عدم الأمانة أيها الإخوة الكرام صفة من صفات أهل النفاق، وأنا أقول هذا لأحذر أهل الإيمان، بعد أن دعتهم الآية إلى الوفاء بالأمانة والعهود نحذرهم أيضاً من خيانة الأمانة أو خيانة العهود، النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان) فعلى المسلم أن لا يشارك أهل النفاق فيما هم عليه بحال من الأحوال.
(10/16)
---
الصفة السابعة والأخيرة: من الصفات التي أثبت رب العزة والجلال لمن قامت به الفلاحَ، ألا وهي قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ?9?? وهذه الآية تبين أيها الكرام مكانة الصلاة وفضل الصلاة في الدين، وقد أشرت إلى ذلك في آخر سورة الحج، ولكني أود هنا أن أقول: بأن أهمية الصلاة ومكانة الصلاة ظهرت أكثر من خلال هذه السورة، لماذا؟ لأن الله -عز وجل- افتتح أول صفة وصف بها أهل الإيمان بأنهم خاشعون في الصلاة، ثم بعد ذلك ختم هذه الصفات أيضاً بالأمر والمحافظة على الصلاة، فقال: ?وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ?9?? والله -عز وجل- قد أمر عباده المؤمنين في آيات أخر من القرآن الكريم بالمحافظة على الصلاة كقوله جل ذكره: ?حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ ?238?? [البقرة: 238] المحافظة على الصلوات يجب أن يدخل فيه:
(10/17)
---(3/365)
المحافظة على أوقاتها، على الطهارة لها، على أركانها، على شروطها، على الخشوع فيها، كل ذلك من المحافظة على الصلاة، ومن لم يفعل ذلك فليس من المحافظين على الصلاة، من لم يحافظ وتقوم به هذه الشروط، كأن يأتي بأركانها كما يجب وبشروطها كما يجب وبالاستعداد لها كما يجب والدخول فيها بعد أن فَرّغ قلبه وهمه مما وراءه لا يكون بحال من الأحوال قد حافظ على الصلاة كما ذكرها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، فالصلاةَ الصلاةَ يا عباد الله، أقبلوا على الصلاة لأنها الركن الأعظم بعد الشهادتين والله -سبحانه وتعالى- أمر أنبياءه ورسله أن يدعوا إلى الصلاة وأن يحافظوا عليها وأن يأمروا بها من يعولون: ?وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ?132?? [طه: 132] كما بين رب العزة والجلال وتوعد الذين لا يحافظون على الصلاة، ويضيعون ما افترض الله -سبحانه وتعالى- عليهم فيها، فيقول: ?فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ?59?? [مريم: 59].
وختاماً لهذه الصفات السبع أقول: يا أهل الإيمان هذه صفات جليلة, صفات عظيمة، الله -عز وجل- قد أعطى لمن أتى بها الظفر والفلاح في الدنيا والآخرة، والعاقل هو الذي يريد النجاة، فهلموا إلى صفات الفلاح وتمسكوا بها يا أهل الإيمان بدءاً بالصلاة ومروراً بما ذكرت الآيات التي أشرت إليها وختاماً أيضاً بالمحافظة على الصلاة كما أمر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
المحور الثالث في هذا اللقاء: الفردوس مآل عباد الله الصالحين:
(10/18)
---(3/366)
وهذا لقول الله -عز وجل- بعد أن ذكر أصحاب هذه الصفات قال سبحانه: ?أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ?10? الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?11?? ?الْفِرْدَوْسَ?: هو البستان الواسع الكبير، والله -عز وجل- أخبر في هذه الآية أن من تحققت فيه هذه الصفات ملك هذا الفردوس العظيم والفردوس النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هو الذي بينه لأمته ووضح مكانته لهم، في حديثه الصحيح في البخاري عن أبي سعيد الخدري: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس) لماذا؟ (قال: فإنه أعلى الجنة) أعلى مكان في الجنة هو: الفردوس، (ومنه تفجر أنهار الجنة)، (ومنه تفجر) يعني من الفردوس أنهار الجنة، لماذا؟ لأن الجنة كما تعلمون درجات، فالذي يمد هذه الدرجات كلها هو الفردوس، هو البستان العظيم الواسع الذي أعده رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لمن قامت به هذه الصفات، وأيضاً فوق الفردوس ماذا؟ عرش الرحمن -تبارك وتعالى-، هذا كله يدعو هل الإيمان إلى أن يتحققوا بهذه الصفات لأن لهم أو مآلهم عند الله -تبارك وتعالى- هو الفردوس العظيم، البستان الواسع الجليل، وقول الله -تبارك وتعالى- هنا: ?أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ?10? الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ?11?? والجنة كما ذكر بعض أهل العلم لا ميراث فيها؛ لأنها تفضل من رب العزة والجلال على عباده، قال بعض أهل العلم ومنهم الإمام ابن كثير وغيره ساق هنا حديثاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (بأن كل إنسان له منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات الكافر صاحب المنزل الذي في الجنة ولم يؤمن ورث أهل الإيمان منزله في الجنة) ولا شك أن هذا يكون إلى جانب ما أعده الله -عز وجل- له، لأن الله -عز وجل- أعد لأهل الجنة الجنة بما قدمت أيديهم، ?وَنُودُوا? يعني أصحاب الجنة، ?أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [الأعراف: 43] فالله -عز وجل- يورثهم هذه الجنة(3/367)
(10/19)
---
بأعمالهم وليس لأن الكافر لم ينل مكانه الذي كان فيه، فرق بين الأمرين، صحيح أن صاحب النار له مكان في الجنة، يتمتع به أهل الإيمان ولكن مع هذا أعد الله -عز وجل- لأهل الإيمان، ولمن قامت فيهم هذه الصفات الفردوس الأعلى, والجنة كما ذكرت درجات، وعلى أهل الإيمان أن يتنافسوا في الحصول على أعلى منزلة في الجنة، (فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه) -كما ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم- (أعلى الجنة).
ثم بعد ذلك أدخل في المحور الرابع:
المحور الرابع: الله تعالى أحسن الخالقين:
(10/20)
---(3/368)
وتحت هذا المحور ما جاء في قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ?12? .......? إلى آخر الآيات، الله -عز وجل- يذكر ويخبر في هذه الآية أنه خلق الإنسان ويعني به آدم، لأنه قال: ?مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ? والسلالة هو الشيء الذي يستل من الشيء يعني يؤخذ منه، وآدم -عليه السلام- أخذ من هذه الأرض، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض) الله -عز وجل- خلق آدم من قبضة واحدة، قبضها من جميع الأرض، (فجاء بنو آدم فيهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، وفيهم الخبيث والطيب وبين ذلك) ثم لما خلق الله -عز وجل- آدم كما ذكر من تراب أو من طين ?مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ? وقال: ?إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ? خلقه من ماذا؟ ?خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ? [آلعمران: 59] هذا نص القرآن في خلق آدم، خلق الله -عز وجل- بعد ذلك حواء من أين؟ من آدم، كما جاء في أول سورة النساء: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَ? [النساء: 1] ثم بعد ذلك ذكرت الآيات لأنها لم تشهد إلى خلق حواء ذكرت بعد ذلك مراحل وأطوار الإنسان وقد أشارت إليها أو ذكرتها أيضاً سورة الحج، فبعدما قال الله -جل ذكره-: ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ?12?? عقب عليها بقوله: ?ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ?13?? يعني: تبين الآية إذن وتشير إلى ما تم في الخلق بعد ذلك، بعد خلق آدم وحواء أراد الله -عز وجل- أن يكون الخلق بعد ذلك عن طريق التناسل، ومن ذلك النطفة التي يلقيها الرجل في رحم المرأة، وتظل هذه النطفة كما سبق أن ذكرت وأشرت إلى الحديث عند الكلام في سورة الحج، حديث ابن مسعود -رضي الله تعالى(3/369)
(10/21)
---
عنه- بأن مراحل وأطوار الإنسان فيما ذكر في هذه الآيات لمدة أربعين يوماً في كل طور، فالنطفة تبقى أربعين يوماً، ثم تتحول من نطفة إلى علقة، لأن الله قال بعد ذلك، ?ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً? والعلقة هي الدم الجامد المعلق، ?ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً? خلق الله -عز وجل- بعد ذلك العلقة مضغة، وهي قطعة لحم جامدة بقدر ما يمضغها الإنسان، بعدها ?فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامً? يعني أن الله -سبحانه وتعالى- شكل هذه المضغة وشكلها على أي هيئة؟ فخلق لهذا الجنين وهو في بطن أمه، خلق له رأس كما خلق الله -سبحانه وتعالى- له يدين كما خلق له رجلين هذا معنى ?فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامً? بعدها: ?فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمً? يعني أنه شد هذه العظام، شدها بعد ذلك باللحم، الذي يأتي على هذه العظام، فيكسوها فمعنى ?فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمً? يعني: شددنا العظم باللحم، وهذا واضح أيضاً من قول الله -تبارك وتعالى-: ?نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ? [الإنسان: 28].
ثم قال رب العزة والجلال بعد ذلك: ?ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ? قال أهل العلم: ?أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ? يعني: نفخنا فيه الروح، وجعلنا فيه السمع والبصر وما إلى ذلك، هذا معنى ?أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ? وقال ابن عباس: أخرجناه طفلاً من بطن أمه، والكل صحيح، فنفخ الروح في الإنسان وكونه ذا سمع وبصر وما إلى ذلك هذا خلق آخر يمر بمراحل بعد ذلك ألا وهي خروج هذا الإنسان من بطن أمه، ثم بعد ذلك يعيش ما شاء الله -سبحانه وتعالى- له أن يعيش، وقد سبق كما أشرت ذكرت الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهو يبين هذه الأمور، وهذه الأطوار والمدة الزمنية التي يسير الإنسان فيها في كل طور مما ذكرته هذه الآية.
(10/22)
---(3/370)
ثم يقول رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وهو المحور الرابع عنونته أيضاً بقولي: الله تعالى أحسن الخالقين:
بعدما جلا رب العزة والجلال مظاهر القدرة والعظمة التي هو عليها ببيان خلقه للإنسان في هذه الأطور المختلفة المتعددة، عقب على ذلك بقوله: ?فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ? معنى ?تَبَارَكَ? يعني: تعالى وتعاظم، وهو بذلك يثني ربنا -سبحانه وتعالى- على نفسه، ويمجدها، وينسبها إلى العلو والرفعة، ?فَتَبَارَكَ? من؟ الله؛ ولم يتبارك غيره؛ لأنه ?أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ? هناك إشكال عند بعض الناس في هذه الآية لقول الله -تبارك وتعالى- هنا: ?أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ? لأن ?أَحْسَنُ? أفعل تفضيل تفيد أن غير الله اشترك في الخلق مع الله، ولكن أحسنهم هو رب العزة والجلال؛ لأن أفعل التفضيل يفيد بأن شيئين اشتركا في أمر وزاد أحدهما على الآخر فيه، في حين أن الله -عز وجل- لم يشاركه أحد من خلقه في الإيجاد، فما معنى إذن أو ما تفسير قول الحق -تبارك وتعالى- هنا: ?فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ?؟ قال بعض أهل العلم: أفعل التفضيل هنا ليس على بابه، وإنما أريد به الحسن المطلق أو مطلق الحسن، ولكن لو رجعنا إلى اللغة سنجد حلاً يسيراً وقد خاطبنا الله -عز وجل- في القرآن بلغة العرب، وهو أن العرب يطلقون الخلق على التقدير، العرب تطلق كلمة الخلق على التقدير فقول الله -عز وجل-: ?فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ? يعني أحسن المقدرين والتقدير يطلق على الإنسان، فالذي مثلاً يحيك لك ثوباً أو قميصاً يخيطه لك يأخذ أبعادك ويقدرها ثم يقول: خلقت لك مثلاً الثوب، بمعنى أنني قدرت لك الأبعاد من طول وعرض وما إلى ذلك، وأوجدت لك هذا الثوب صناعةً، وقديماً قال الزهير:
ولأنت تفري ما خلقت *** وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
يخلق ثم لا يفري: يعني يقدر.
ثم لا يفري: يعني لا يتمكن من تنفيذ ما قدره.
(10/23)
---(3/371)
إذن الخلق يطلق في اللغة ويراد به التقدير، ويطلق ويراد به الإيجاد من عدم، فالخلق بمعنى التقدير يطلق على الخالق والمخلوق، أما الخلق بمعنى الإيجاد من عدم، وإخراج الشيء من حيز الوجود على غير مثال سابق، فلا يكون إلا لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، ولذلك أول سورة فاطر التي ذكرتها آنفاً في اللقاء السابق قال الله فيها ماذا؟ ?الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? [فاطر: 1] ?فَاطِرِ? يعني ماذا؟ يعني موجدها على غير مثال سابق، منشؤها ومبدعها وفي القرآن الكريم ?بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? [البقرة: 117] يعني هو الذي أبدعها هو الذي فطرها هو الذي أوجدها على غير مثال سابق، هذا لا يكون إلا لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أما إذا أطلق الخلق على العباد فينصرف إلى التقدير، لأننا نعتقد أنه لم يوجد أحد من الخلق ذرة واحدة وخلقاً وإيجاداً من عدم في هذا الكون، وإنما الذي أوجد الكون رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- جل في علاه.
(10/24)
---(3/372)
ثم يقول ربنا بعد ذلك: ?ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ?15?? يبين الله -عز وجل- في هذه الآية أن الإنسان بعدما يمر بهذه الأطوار، من نطفة فعلقة فمضغة إلى غيره، وينزل من رحم أمه إذا شاء الله له ذلك حياً، ويتطور أيضاً أو ينتقل وهو على ظهر هذه الأرض في أطوار أيضاً مختلفة، يكون طفلاً ثم شاباً، ثم كهلاً ثم شيخاً كبيراً، وما إلى ذلك، يخبر رب العزة والجلال بعد هذا كله أن الجميع سيموت، وأن المرد إلى الله -عز وجل-، وهذه دعوة لمن يعتبر ويتفكر إلى أن يحقق في نفسه الصفات التي سبق ذكرها آنفاً، يا أيها المؤمن أنت ستموت وتنتقل وتلقى وجه الله -عز وجل- ولا تسوف فمن أدراك أنك ستعيش إلى صباح اليوم أبداً لا أحد يعلم ذلك والله -عز وجل- يقرر في هذه الآية أن الجميع سيموت، ?ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ? يعني بعد هذه الأطوار وهذا الخلق وهذا الإيجاد ?لَمَيِّتُونَ?، والله -عز وجل- يقول لنبيه في كتابه: ?وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ?34? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ?35?? [الأنبياء: 34، 35] إذا كان لم يجعل الله -عز وجل- لبشر مهما كان أمره لم يبقِ له وجوداً، فما بالنا بآحاد الناس وأفرادهم اليوم، ولذلك الآية تحكم ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ? [الأنبياء: 35] ?ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ?15? ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ?16?? وهذه الآية ختام هذا اللقاء، وهي مهمة للغاية واللهِ كما صدق الله ?وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرً? [الأنفال: 82] ربنا أولاً في أول الآيات يدعو إلى الفلاح ويثبته لأهل الإيمان ثم بعد ذلك يدعوهم إلى أن يتمثلوا بصفات ثم بعد ذلك يذكرهم بالدار الآخرة وبالموت، وأنهم سينتقلون من هذه الدنيا إلى دار بعد ذلك ولكن هل الموت هو نهاية كل حي فحسب(3/373)
(10/25)
---
وليست هناك حياة أخرى؟!! وليست هناك نشأة جديدة؟!! لا. هناك نشأة جديدة، وهناك بعث ونشور، ووقوف بين يدي رب العباد للحساب والجزاء وهذا معنى ?ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ?16??، ليس القصد هو الإخبار بالبعث فحسب وإنما نبعث لماذا؟ للوقوف بين يدي الله -عز وجل-، فيا أيها المؤمن ارعَ هذا اليوم وانتبه لهذا اليوم وتحقق أو وحقق في نفسك الصفات السابقة لهذا اليوم، والله -عز وجل- في كتابه يقول: ?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ?115? فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ?116?? [المؤمنون: 115، 116] ويجب على كل مسلم أن يضع البعث والجزاء نصب عينيه؛ لأن حينما يؤمن الإنسان باليوم الآخر وأنه سينتقل من هذه الدار ليقف بين يدي الله -عز وجل-، فيجازى على ما قدمت يداه لاشك أنه سيتحسس مواطن أقدامه، والعباد كل واحد منهم سيجزى على قدر ما قدم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، والله -عز وجل- هو الذي يفصل ويحكم بين العباد، وحينما يخبرنا -عز وجل- في ختام هذه الآيات بأننا سنموت وأننا سنبعث يدعونا من خلال ذلك كما أشرت أولاً إلى أن نحقق في أنفسنا هذه الصفات فهذا تنويه أيها المشاهدون الكرام، تنويه لأهل الإيمان بأن يخلصوا أنفسهم من متابعة الشيطان ويتابعوا الرحمن فيتحققوا ويقفوا ويعملوا بهذه الصفات كي ينالوا النعيم المقيم الذي وعد الله -سبحانه وتعالى- به أهل الإيمان حينما قال: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1?? وبختام هذه الآية آتي إلى ختام هذا اللقاء وأسأل الله -عز وجل- أن يتقبل من الجميع وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أسئلة الحلقة الماضية
فضيلة الشيخ وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية.
وكانت السؤال الأول:
(10/26)
---(3/374)
عرف المثل وما المراد بقوله -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ?؟
وكانت الإجابة:
تعريف المثل: المثل هو جملة من الكلام متلقاة بالقبول والرضا وتصبح دارجة تذكر بين الحين والآخر كلما أتى شيء يدل على هذا المثل والمراد بقول الله -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ? مثل ضربه الله لقبح عبادة الأوثان وبيان نقصان عقول من عبدها وضعف الجميع فقال الله -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ? هذا خطاب للمؤمنون والكفار، المؤمنون يزدادون علماً وبصيرة والكافرون تقوم عليهم الحجة، ?ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ? أي ألقوا إليه أسماعكم وتفهموا ما احتوى عليه ولا يصادف منكم قلوباً لاهية وأسماعاً معرضة، بل ألقوا إليه القلوب والأسماع. انتهت إجابة السؤال الأول
الجواب صحيح، والحقيقة مفيد وشامل، يعني الجواب بهذا الترتيب وحتى ذكر معنى السماع وما إلى ذلك فيه فائدة عظيمة.
السؤال الثاني: ذهب البعض إلى أن النبوة مكتسبة. ناقش هذا القول مبيناً الصواب مع الدليل لما تذكر.
وكانت الإجابة:
(10/27)
---(3/375)
يقول الله -تبارك وتعالى- ?اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ?75?? هذه الآية تبين من اصطفاهم الله -عز وجل- وتبين أن النبوة اصطفاء واجتباء من الله -تبارك وتعالى- لأن الفلاسفة ذهبوا إلى أنها مكتسبة وقالوا: أي إنسان من البشر يمكن أن يكتسب النبوة والرسالة ويكفي أن تتوفر فيه قوة تخيلية كبيرة وقوة ظنية واسعة وأن تكون عنده شفافية من النفس والروح فيكون أهلاً لأن تفيض عليه الفيوضات الربانية من عند الله كما يزعمون وينكرون أن النبوة اصطفاء منه سبحانه وتعالى, وهي كائنة للملائكة ولمن أرسلهم الله -عز وجل- للبشر، والله -سبحانه وتعالى- يبين أن جاعل الملائكة رسلاً كما قال الله -عز وجل-: ?الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُل? [فاطر: 1] وهكذا يبين لنا القرآن أن الله -عز وجل- اصطفى من الملائكة رسلاً، وكذلك من البشر رسلاً ليبلغوا دعوة ربهم -عز وجل-، بدليل قول الله -تبارك وتعالى-: ?تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ? [البقرة: 253].
الجواب في الحقيقة صحيح، ولكن عندي إضافة يسيرة فيه، وهي أن نذكر أن النبوة اصطفاء لمن يستحقها من البشر، بالنسبة للبشر لأن الله -عز وجل- ذكر في البشر: ?اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ? [الأنعام: 124] وبالتالي فالأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله -عز وجل- أيضاً مفضلون على سائر البشر، باصطفاء الله -سبحانه وتعالى- لهم.
السؤال الثالث: اختلف العلماء في الضمير الوارد في قول الله -تبارك وتعالى-: ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ? [الحج: 78]؟ اذكر الأقوال الواردة في ذلك مع الترجيح.
وكانت الإجابة:
(10/28)
---(3/376)
الضمير في قول الله -تبارك وتعالى-: ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ? [الحج: 78] اختلف فيه العلماء وقال فيه البعض وهو الصواب لما قال ابن عباس ومجاهد وكثير من أهل العلم أن الضمير يعود على رب العزة والجلال -جل وعلا- يعني: الله -عز وجل- هو من سمى هذه الأمة بالمسلمين، وهذا فيه تكريم وتشريف لهذه الأمة لأن الله -عز وجل- سماها من قبل في الكتب السابقة وقيل: إن الضمير يعود على إبراهيم -عليه السلام- ولكن هذا القول مرجوح، والله أعلم.
الجواب صحيح جداً يعني ذكر القولين ورجح الراجح. والله أعلم.
مداخلات
الأخت الكريمة من السعودية تقول: أرجو من فضيلتكم ذكر الأسباب المعينة على الخشوع وجزاكم الله خيراً؟
(10/29)
---(3/377)
ذكرت في أثناء حديثي بأن من الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة أن يفرغ الإنسان قلبه من هموم الدنيا وما يحتاج إليه فيها، وأن يقبل بكليته على الله -تبارك وتعالى-، وأن يتذكر عند الإقبال أو الدخول في الصلاة أنه بين يدي الله -عز وجل-؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، والعبد فيها يناجي ربه -سبحانه وتعالى-، واقف بين يديه يناجيه يطلب منه، يسأله، فعلى العبد أن يحسن الوقوف بين يدي الله -عز وجل-، يعني يجعل هذا في قلبه ورعاً وتقوى وخشية وإقبالاً على الله -تبارك وتعالى- فيورث له الخشوع في قلبه، فالعبد إذا أقبل على الصلاة يجب أن يقبل عليها وقد فرَّغ قلبه من كل هموم الدنيا، وما فيها ويجب عليه أن يعرف أنه مقبل على العظيم، ولذلك أيها الإخوة الكرام، الإنسان حينما يدخل في الصلاة ماذا يقول؟ يقول الله أكبر، ما معنى هذه العبارة؟ أنه داخل تحت مظلة الكريم -سبحانه وتعالى- والكبير الذي هو أكبر من غيره، فتصغر لدى المسلم ولدى المؤمن في نفسه كل شيء ويهون عنده كل شيء لماذا؟ لأنه مع الكبير المتعابل، قال: الله أكبر، أكبر من كل شيء وفوق كل شيء فتفهم هذه المعاني يحصل الخشوع -إن شاء الله تبارك وتعالى-، وفي رسالة يا ليتها توجد ذكر فيها مؤلفها ثلاثة وثلاثين سبباً للخشوع في الصلاة.
الأخ الكريم من مصر يقول: أود أن أسأل الدكتور عبد الله بخصوص وصف الجنة؟ الأوصاف التي وردت في القرآن الكريم عن وصف الجنة هل هي فعلاً حقيقة ما سنراه بإذن الله في الجنة؟ أم أنها قد ضرب الله مثلاً لقوله تعالى: ?مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ? [الرعد: 35]؟
وأود لو سمح فضيلة الشيخ أن أسأله عن مراحل خلق الطفل في رحم أمه؟
(10/30)
---(3/378)
الأخ الكريم من مصر يقول: ?وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ?5? إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ?6?? هل الخادمات في المنازل تعتبر من ملك اليمين؟ وما هي الحكمة في معاشرة ملك اليمين معاشرة الزوجات؟ وهل ملك اليمين تعتبر من عدد الزوجات التي في ذمة الرجل؟
فضيلة الشيخ الأخ الكريم كان له سؤالان: سؤاله الأول: وصف الجنة في القرآن هل هو على الحقيقة أم مجرد للأمثلة؟
في الحقيقة وصف الجنة في القرآن، هو على الحقيقة وما قال بأن هذه أمثلة إلا الباطنيون الذين جعلوا لكل أمر جاء في القرآن باطناً وظاهراً وقال بهذا أيضاً بعض الفلاسفة بأن الموجود في القرآن في وصف الجنة والنار ما هي إلا أمثال مضروبة في الخيال أريد بها ترغيب الناس في المعروف وترهيبهم عن المنكر ولكن في الحقيقة ما ورد ذكره في القرآن الكريم من آيات في وصف الجنان وما صح به الخبر عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حق ثابت، كيف وقد شاهد بعضها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ووصفه، ففيها من القصور وفيها من الحور العين وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، إلى آخر ما ذكر كتاب ربنا -سبحانه وتعالى- وهو حق على حقيقته، يجب الأخذ به والتسليم له.
الأخ الكريم من السعودية يقول: أريد أن أسأل: كيف نجمع بين قول الله تعالى: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ?35?? [الأنبياء: 35] وقوله تعالى: ?بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ? [النساء: 158]؟ عيسى -عليه السلام- رفعه الله عليه، وفي آية أخرى: أن ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ?35?? فكيف يجمع بينهما؟
فضيلة الشيخ السؤال الثاني للأخ الكريم كان عن مراحل الخلق في بطن الأم؟
(10/31)
---(3/379)
هذا جاء في سورة الحج وفي أول هذه السورة التي كانت معنا اليوم، فالإنسان يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة وبعد ذلك ينفخ فيه الروح كما ذكر رب العزة والجلال في هذه الآيات في هذه السورة التي تناولتها فالله -عز وجل- يعني يكسو العظام لحماً ثم يكون خلقاً آخر بنفخ الروح، وهذه مراحل وأطوار خلق الإنسان وواضحة في سورة الحج وهذه السورة وأيضاً في حديث الصادق المصدوق الذي هو حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-.
الأخ الكريم من مصر كان له سؤال عن قول الله -عز وجل- ?وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ?5?? هل الخادمات من ملك اليمين؟ وما الحكمة من معاشرة ملك اليمين معاشرة الأزواج؟
هذا والله سؤال جميل جداً في الحقيقة وأنا كنت أراود نفسي أتحدث عنه أم لا؟ ولكن قلت: لعل الخادمات عندنا قليل، لاشك أن الخادمات لا تدخل في ملك اليمين؛ لأن ملك اليمين معلوم، يتملكها الإنسان بالطريقة التي هي مشروعة حينما تأتي في أسرى الحرب أو تكون هي مملوكة عند سيد لها قبل ذلك ويشتريها إنسان بماله، أما الخادمة فهي عاملة، يعني أجيرة, تعمل بأجر مقابل مال تعطيها إياه، فالخادمات ليسن من مما ملكت أيماننا.
أيضاً الحكمة وهذا منصوص عليه في بعض كتب التفسير، ونسيت من ذكره الحكمة في أن الله -عز وجل- أباح أن يتسرى العبد بملك اليمين أن في هذا حفاظاً على البيئة والمجتمع الإسلامي؛ لأن هذه المرأة التي تخدمك وتعيش معك في البيت هي بحاجة إلى أن تعف من هذا الجانب، وطالما أنها ملك لك، وأنت تستخدمها في بيتك للعمل فقد تتكشف لك وقد ترغب في إتيانها، وبالتالي إن وقعت -إن لم يكن مباحاً- تكن قد وقعت في الحرام، فالضرورة داعية إلى ذلك، والله -عز وجل- يعلم من خلقه هذا، فكان هذا التشريع الحكيم ليوافق هذا الأمر، وأعتقد سؤاله قال: هل له عدد أو لا؟ فهو ليس له عدد، مفتوح العدد فيه.
(10/32)
---(3/380)
الأخ الكريم من السعودية كان سؤاله عن كيفية الجمع بين قول الله -عز وجل-: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ? [الأنبياء: 35] وقول الله -عز وجل- في سيدنا عيسى ?بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ? [النساء: 158]؟
والله قل له: أحسنت جداً في هذا السؤال, والجمع بينهما سهل ميسور، عيسى ابن مريم يعني خلق بطريقة تختلف عن المعهود لدى جميع البشر، وأيضاً رفع إلى السماء ولم يمت إلى الآن، الله -عز وجل- أخبر بأنه رفع عيسى إليه -صلوات الله وسلامه عليه- كما قال في كتابه ?بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ? [النساء: 158] لما ادعى من ادعى من ادعى بأنه قتل وصُلِب، وذلك لأن عيسى -عليه السلام- ما جلس إلا فترة يسيرة في الأرض ولما أراد به اليهود ما أرادوا رفعه الله -عز وجل- تكريماً له، وأخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن عيسى ابن مريم سيرجع في آخر الزمان، بل إنه علامة من علامات الساعة الكبرى، فعيسى -عليه السلام- لم يمت بعد، وسينزل في آخر الزمان يحكم بشريعة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يعني لا يأتي بشرية جديدة؛ لأن بعد بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- لا نبي ولا رسول، وإنما هو سيأتي تابعاً لشريعة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وبعدما ينزل كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بأنه سينزل فيقتل الخنزير ويكسر الصليب وعندئذ سيفيض المال حتى لا يقبله أحد ويعم الخير أرجاء الدنيا، وبعد ذلك وبعدما يمضي ما يقدر الله -عز وجل- له أن يمضي المدة التي أرادها الله -عز وجل- وقيل بأنها سبع سنوات أو أكثر أو أقل في روايات متعددة في هذا مذكورة في كتب العقائد يموت عيسى بن مريم -عليه السلام- وبالتالي يذاق الموت، ويصبح قوله تعالى: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ? [الأنبياء: 35] حق على حقيقته ولكن عيسى مؤجل فقط، ولكنه أيضاً سيموت وقد ورد في السنن وهذا مذكور في بعض كتب العقائد وردت هذه الأحاديث بأن عيسى بن مريم -عليه السلام-(3/381)
(10/33)
---
سيموت في المدينة النبوية وسيدفن هناك وهذا ذكره السفاريني في لوامع الأنوار ونحن على كل نعتقد ما جاء في كتاب الله بأن الله -عز وجل- رفع عيسى -عليه السلام- حياً عنده ثم إنه جعله علامة من علامات الساعة سينزل في آخر الزمان كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته، ثم بعد ذلك يموت ويدخل تحت قول الله -عز وجل- ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ? [الأنبياء: 35] والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: عذاب القبر ونعيمه هل يُعد ذلك بعثاً أول للإنسان أم أنه يقتصر على يوم القيامة؟
في الحقيقة مرحلة القبر أو البرزخ مرحلة انتقالية بين الدنيا والآخرة؛ لأن الدور كما ذكره العلماء ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار الآخرة، والناس في قبورهم، لا يبعثون إلا عندما يريد رب العزة والجلال بعد النفخ في الصور أن يبعثوا وإنما الموت سيظل هكذا ويتحلل جسده إلى أن يشاء الله -عز وجل- فترجع الروح إلى الجسد ويأذن رب العزة والجلال بالقيام من القبور، إذن البعث مراد به البعث للدار الآخرة، ونصوص الأحاديث النبوية دالة على ذلك وتوضحه.
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة من مصر تقول: السلام عليكم سؤالي عن الدرس الماضي: كيف يستشهد نوح -عليه السلام- بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته يوم العرض الأكبر على أنه بلغ أمته رسالة ربه ونحن لم نرَ نوح ولم نسمع منه؟
الحقيقة نحن نؤمن بما جاء في القرآن ونسلم له، والله -عز وجل- كلامه حق وصدق، وأخبر بأن قوم نوح كذبوا من؟ كذبوا نوحاً -عليه السلام-، لا نحن ولا النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن أحد منا موجوداً في عهد نوح، وبالتالي نحن نؤمن ونصدق ونشهد بما جاءنا في كتاب الله أو على لسان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، حقاً نحن لم نرَ ولم نشاهد ولكن جاء في القرآن وفي خبر الله وتلقينا خبر الله -عز وجل- بالقبول ونشهد لكلام الله -تبارك وتعالى-.
(10/34)
---(3/382)
الأخ الكريم من السعودية يقول: هل الفردوس الذي يرثه المؤمنون، والذي كما النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هو أعلى الجنة) هل هو موجود على الأرض التي نعيش عليها الآن أم هو في مكان آخر؟ وكيف نربط بين هذا وبين حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد: (أن النيل والفرات من الجنة)؟.
في الحقيقة أولاً المسائل مثل هذه المسائل الغيبية يجب أن نقف فيها عند حدود النص، ولا شك أن الجنة والنار موجودتان الآن، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، إذن هي ليست في الأرض التي نحن عليها، وهي مخلوقة، لأن الأرض ليس فيها هذه الجنة التي نشاهد، والله -عز وجل- يبدل هذه الأرض والسماوات غير الأرض والسماء كما ذكر في سورة إبراهيم في القرآن الكريم: ?يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ? [إبراهيم: 48] إذن هي في مكان لا يعلمه إلا رب العزة والجلال سبحانه، غاية الأمر أننا نؤمن من خلال الآيات أن الفردوس الأعلى في أعلى عليين؛ لأن الله -عز وجل- مستوٍ على عرشه وعرش الله فوق السماوات، فحينما يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن عرش الرحمن فوق الفردوس الأعلى يدل ذلك على أن الفردوس في أعلى عليين، والله أعلم.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة
السؤال الأول: اذكر الصفات التي يجب أن تتوافر في أهل الإيمان كما جاءت في هذه السورة.
السؤال الثاني: فصل القول في حكم نكاح المتعة. وما معنى ?عَلَى? في قوله تعالى: ?إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ?؟
السؤال الثالث: كلمة الخلق تطلق ويراد بها أكثر من معنى، اذكر ما تعرف من ذلك, مؤيداً قولك بالدليل.
انتهت الأسئلة.
الأخ الكريم من الجزائر يقول: هل الموتة التي نموتها أي موتة البعث يموت خلالها الأنبياء والرسل؟
(10/35)
---(3/383)
في الحقيقة كما قال الله -عز وجل-: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ? [الأنبياء: 35] ونفخة الصعق يموت بها كل حي، النفخة الأولى يموت بها كل حي حتى الملائكة، ثم يكون بعد ذلك، البعث للدار الآخرة من جديد.
الأخ الكريم يقول: قلتم: إن الإنسان يرجو من تنفيذ أوامر الله -عز وجل- الفلاح له في الآخرة فهل يجوز للإنسان أن يرجو من تنفيذ هذه الأوامر قضاء حاجة له في الدنيا؟
من هذه الأوامر؟
من تنفيذ أوامر الله قضاء حاجة له في الدني
في الحقيقة سؤاله سيجعلني أتكلم شيئًا طالما يوجد وقت: قلت بأن الفلاح يشمل الدنيا والآخرة، ولكن أود أن أقول: الواردة في هذه السورة لا شك أنها لم تشتمل على كل ما جاء في الدين، يعني ما جاء فيها ذكر الصيام ولا للحج وما إلى ذلك، فهل نقول بأنه لو أنني أتيت بهذه الصفات فقط يتحقق لي الفلاح وإن لم آتِ بغيرها من الأمور الواجبة؟ نقول: لا، بل نقول الأشياء التي لم تذكر في هذه الآيات تدخل تحت قول الله –تعالى- ?وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ?8?? إلى جانب كما ذكرت بأن السورة مكية، والصيام والحج قد فرض أين؟ في المدينة النبوية فلم يذكرا إذان لأنهما لم يفرضا بعد، فإذا فرض وجب العمل بكل.
الشاهد بأن الإنسان يطلب خيري الدنيا والآخرة والفلاح هو فلاح في الحقيقة في الدنيا وفي الآخرة، وعلى الإنسان أن لا يقتصر على الصفات هذه فقط، وإنما يأتي بكل ما أمر الله -سبحانه وتعالى- به مما يعود نفعه عليه في العاجل والآجل، والأشياء التي لم تذكر وذكرت في بقيت الآيات تدخل تحت قول الله تعالى: ?وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ?8??، والله أعلم.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: هل عدد درجات الجنة بعدد آيات القرآن؟
(10/36)
---(3/384)
الوارد في الأحاديث: النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله -عز وجل- للمجاهدين في سبيله) ولم أسمع بأن عدد درجات الجنة كعدد الآيات التي وردت في الحديث، وبهذه المناسبة كنت أود أن أدعو إخواني خاصة الأخ الكريم لما سأل عن وصف الجنة، أنا أدعوه إلى قراءة كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" للإمام الورع الزاهد الإمام ابن القيم -رحمه الله تبارك وتعالى- فهو كتاب نافع جداً وفيه فصول عظيمة للغاية، فليرجع إليه المسلم فيستفيد في مثل هذا الجانب -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
الأخ الكريم يقول: تفضلتم ودعوت المشاهدين وجميع المؤمنين إلى حفظ فروجهم والبعد عن كل لغو يدعوهم إلى ذلك، ونحن نرى في هذا العصر من جميع الفتن التي تحيط بنا من كل جانب وأخص بالذكر غلاء المهور، فهلا تفضلتم من مقامكم هذا ودعوتم أولياء الأمور إلى الترفق بشبابنا وفتياتنا، خاصةً أن الفواحش تنتشر في هذه الأوقة.
(10/37)
---(3/385)
جزاك الله خيراً، في الحقيقة ما أشرت إليه وجيه والله -عز وجل- ساقه على لسانك كي يستمع إليه من يشاهد الآن قبل أن أوجه أنا كلمةً إليه، في الحقيقة أقول لأولياء الأمور: اتقوا الله -عز وجل- في البنين والبنات نحن فعلاً نعيش في عصر مليء بالفتن، ومليء بالشهوات، بل بمضلات الفتن، والعياذ بالله -تبارك وتعالى-، وإن التقدم العلمي الذي وصل إليه العالم اليوم أدى إلى مثل ما نرى، وكان يمكن أن يستغل ويستفاد منه في النافع المفيد كما تقوم مثلاً قناة المجد الآن بما تقدمه من برامج نافعة للعالم أجمع، فكان يجب على كل من يشارك في مثل هذه الأمور أن يكون مشاركاً بالخير وبالمعروف وبالبر، وأن يدعو الناس إلى تقوى الله -تبارك وتعالى-، وعلى كل حال فما الذي يعود على ولي الأمر عندما تجلس ابنته عنده؟ أو عندما يلقى ولده لديه؟ ماذا سيستفيد الكل من ذلك؟ ونحن أيها المشاهدون الكرام عندنا بنين وعندنا بنات، فإذ تشددت على من أتى لابنتك، أيضاً سيتشدد عليك رجل آخر عندما تذهب بابنك إليه، وستقاسي ويقاسي هو كما أنت كنت سبباً في أن يقاسي من تقدم لابنتك , والله -عز وجل- يأمر المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار، والمسارعة إلى حفظ الفروج وهذه طرق يا عباد الله كي نلبي أمر الله -تبارك وتعالى-، ومن ذلك أن نجمع بين الرجل وبين المرأة، في الحلال المشروع الذي أباحه رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، فأنا أضم صوتي إلى صوت المتحدث وأنادي المؤمنين بما منَّ الله -سبحانه وتعالى- عليهم به من صدق وإيمان وإسلام، أن يراعوا حق الله -عز وجل- في أودلاهم وفي بناتهم وأن يعملوا الصالح المفيد النافع لهم، وفي الحقيقة غلاء المهور واللهِ لا يقدم ولا يؤخر بل إن آثاره السلبية على المجتمع إنها لكبيرة، وكلما قل مهر المرأة كلما ارتفع فيها درجات -إن شاء الله تعالى- في الدنيا والآخرة، فتكون بذلك عفيفة ويتقبل الله -سبحانه وتعالى- منها عملها. والله أعلم.
(10/38)(3/386)
---
الأخ الكريم من مصر يقول: كيف نتلو القرآن حق تلاوته؟ وما هي الطريقة المثلى لحفظ القرآن الكريم؟
نتلو القرآن الكريم حق تلاوته كما نزل من عند الله -تبارك وتعالى-، الله -عز وجل- قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ?وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ?4?? [المزمل: 4] والحمد لله وهي نعمة من نعم الله -عز وجل- يوجد أصحاب الأسانيد إلى يومنا هذا الذين تلقوا القرآن الكريم عن السابقين ويوجد عندنا بحمد الله -تبارك وتعالى- أئمة حفاظ للقرآن الكريم، فنحن نرتل القرآن ونتلو القرآن حق تلاوته كما نتلقاه من المشايخ وكما تعلموه بسلسلة الإسناد التي قرأها نبي الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه-.
أما الطرق التي يحفظ الإنسان بها القرآن، في الحقيقة في هذا كتب كثيرة، ولي في مثل ذلك تجربة حتى مع بعض الناس، الإنسان يجب أولاً أن يجمع همته وأن يوجهها لحفظ القرآن الكريم، وأن يحرص على ذلك وأن يسأل الله -عز وجل- أن يفتح عليه لحفظ كتابه، ثم بعد ذلك على حسب إمكانياته يبدأ لأن (المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) كل إنسان يختلف عن الآخر في مثل ذلك، في الاستعداد الذهني والعقلي وكذلك البدني والوقتي، كل إنسان عنده مشاغل فالإنسان يضبط نفسه على وقت ثم يحدد لنفسه مواطن أو آيات محددة يحرص على أن يحفظها كل يوم، وأقول: يجب التحديد وعلى نمط كل إنسان وحاله؛ لأن هذا يساعدك على الوفاء بما تُلزم به نفسك، يساعدك، تريد إمكانياتك خمس آيات فهي خمسة عشر فهي عشر، أكثر فهي أكثر، ثم بعد ذلك، نحن كما نذكر الآن مطالبون بأداء الصلاة والاستعداد لها في أول أوقاتها والطهارة وما إلى ذلك، فعندما يؤذن للأذان وهذه تجربة أعد نفسك يا عبد الله قبل الأذان للصلاة تذهب إلى المسجد, تصلي تحية المسجد وتمسك بعد ذلك كتاب الله خلال خمس فروض تراجع فيها -إن شاء الله تعالى- لا يأتي عليك وقت طويل إلا وقد حفظت كتاب الله -تبارك وتعالى-، والله أعلم.
(10/39)
---(3/387)
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(10/40)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الحادي عشر
الدرس الحادي عشر
تفسير سورة المؤمنون
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم.
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين والمشاهدين الكرام ويسرنا -إن شاء الله تعالى- في هذا اللقاء أن نتابع سلسلة من التفسير ومع السورة التي بدأت فيها في اللقاء السابق ألا وهي سورة المؤمنون، وسيدور الحديث -إن شاء الله تبارك وتعالى- حول آيات سنستمع إليها بعد قليل سأتحدث من خلالها عن المحاور التالية:
المحور الأول: بيان شيء من عظمة الله في الكون.
المحور الثاني: تكذيب الملأ لنوح -عليه السلام- بعد إرسال الله له.
المحور الثالث: ما فعله الله بالمكذبين من قوم نوح -عليه السلام-.
ولنستمع الآن إلى الآيات التي سأتحدث عنها -إن شاء الله تبارك وتعالى- فمع الأخ الشيخ فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(11/1)
---(3/388)
?وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ?17? وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ?18? فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ?19? وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآََكِلِيِنَ ?20? وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ?21? وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ?22? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ?23? فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الأوَّلِينَ ?24? إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ?25? قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ?26? فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ?27? فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?28? وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ?29? إِنَّ فِي ذَلِكَ(3/389)
(11/2)
---
لآَيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ?30??.
جزاك الله خيراً.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد.
المحور الأول الذي سيدور الحديث عنه وتحته آيات متعددة هو بعنوان: بيان شيء من عظمة الله في الكون.
(11/3)
---(3/390)
وأبتدئ هذا المحور بأول آية سمعتموها الآن ألا وهي قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ?17?? الله -تبارك وتعالى- لما ذكر فيما مضى خلق الإنسان عطف بعد ذلك بذكر خلقه للسماوات والأرض وكثيراً ما نجد في القرآن الكريم ذكراً للسماوات والأرض مع خلق الإنسان ومن ذلك قول الحق -تبارك وتعالى-، ?لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ? [غافر: 57] والأمر واضح جدًا في سورة السجدة: أن الله -عز وجل- ذكر خلق السماوات والأرض ثم ذكر بعد ذلك خلقه للإنسان ثم ذكر المعاد وما إلى ذلك. وكان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقرأ في صلاة الفجر في الركعة الأولى هذه السورة لاشتمالها على هذه الأمور العظيمة؛ لأن فيها تعداداً لنعم الله -سبحانه وتعالى- على عباده أو لشيء منها ثم بعد ذلك المصير الذي سيؤول إليه من آمن بالله -تبارك وتعالى- وصدَّقَ المرسلين، والله -عز وجل- هنا يعظم نفسه في مطلع هذه الآية فيقول: ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا? هذه النون تفيد تعظيم المتكلم، والله -سبحانه وتعالى- لا يوجد في الوجود أعظم منه -جل وعلا-، ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ? المراد بـ ?سَبْعَ طَرَائِقَ? ماذا؟ السماوات وأطلق الله -سبحانه وتعالى- عليها ?طَرَائِقَ? إما لأنها مركبة بعضها فوق بعض من قول العرب: طارق بين ثوبين، إذا لبس أحدهما فوق الآخر، وهذا أسلوب معروف عند العرب، وقيل: قيل لها ?طَرَائِقَ?؛ لأنها طُرُقُ الملائكة، يعني فيها طرق الملائكة من النزول والعروج ومسيرها إلى الرب -سبحانه وتعالى-، والله هنا يشير إذن بهذه النعمة العظيمة لأن الأمر كما سبق أن ذكرت فيما مضى، بأن السماء هي مسكن الملائكة، والله -عز وجل- هنا يذكر هذه النعمة، ويذكر بها عباده، وهناك آيات أخر سبق الحديث عنها، لفتُّ النظر من خلالها إلى فضل الله -تبارك(3/391)
(11/4)
---
وتعالى- في خلقه لهذه السماوات وما أودع فيها وما نستفيد مما أودع الله -سبحانه وتعالى- فيها وتسخير الله -عز وجل- لما أودعه في هذه السماوات ويختم ربنا -سبحانه هذه الآية بقوله: ?وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ? خلق ?سَبْعَ طَرَائِقَ? وقلنا: يعني سبع سماوات، وذكرت لماذا سميت كذلك، ويعقب عليها بقوله: ?وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ? لأنه سبحانه يعلم ما يلج في الأرض وما يعرج في السماء، كذلك يعلم ما يخرج من الأرض وما ينزل من السماء، ورب العزة والجلال سبحانه حينما يقول: ?وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ? يفيد أنه هو الذي يتولى أمر هذا الخلق وهو الذي يحفظه -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه، ولعلكم تتذكرون معي الآية: ?إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُول? [فاطر: 41] مما يدل على أنه حافظ لهذا الكون ولهذا الخلق العظيم، ولم يغفل ربنا -سبحانه وتعالى- ولا يليق أن يكون شيئًا من ذلك مضافاً إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وهو الله – سبحانه- القائم بإصلاح شؤون الخلق وهذا كله نستفيده من قوله ?وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ?.
(11/5)
---(3/392)
ثم يعقب ربنا -سبحانه وتعالى- في آية تالية بذكر أيضاً بعضاً من نعمه على عباده فيقول: ?وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ?18?? الله -عز وجل- يذكر في هذه الآية أنه أنزل من السماء ماءً بقدر، قدر معلوم، على قدر حاجة البلاد والعباد. وتعجبني كلمة أود أن أخاطب بها المشاهدين وأسمع الحاضرين وهي أن الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- رغم أنه أين كان يعيش ويسكن؟ كان يعيش في بلاد الشام ومع ذلك ذكر عند هذه الآية في تفسيره كلمة عن هذه البلاد التي نحيى فيها، فقال: ?وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ? يعني أن الله -عز وجل- ينزل من السماء ماءً بقدر ما تحتاج إليه البلاد؛ لأن الماء الكثير إذا نزل على بعض البلاد ربما أفسد زرعهم، وذكر أو مَثَّلَ بمصر، قال: ولذلك أنزل الله -سبحانه وتعالى- الماء على جبال بالحبشة هناك، وينزل الماء عليها من هناك حاملاً معه الطمي الأحمر -بهذه العبارة يذكر-؛ لأن أرض مصر عبارة عن سباخ أو سبخة تحتاج إلى هذا الطمي وينزل إليها أو يأتي إليها الماء بقدر لتستفيد منه ويبقى الطمي الذي أتى مع هذا الماء لتستفيد منه التربة وهذه نعمة جليلة من الله -سبحانه وتعالى- على عباده ونعمة جليلة أيضاً علينا نحن في هذه الديار، بهذا الماء العذب، الذي يسوقه رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- إلى عباده.
(11/6)
---(3/393)
?وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ? يعني أن الله -تبارك وتعالى- سلك هذا الماء في هذا الأرض, أسكنه فيها لينتفع به الناس، وقال بعد ذلك -سبحانه وتعالى-: ?وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ? وهو أيضاً يعظم نفسه -سبحانه وتعالى- فيقول: ?وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ? كلمة ?ذَهَابٍ? جاءت نكرة وهي تفيد أنه يذهب به على أي وجه من الوجوه، ومعنى هذا أن الله -تبارك وتعالى- إذا غضب على عباده لا يبالي بهم، ولأنه -سبحانه وتعالى- لا يحتاج إلى شيء مما مَنَّ به على العباد فلا يحتاج إلى حفظ ماء، ولا يحتاج إلى حفظ كنوز، كل ذلك رب العزة والجلال مُنَزَّهٌ عنه، ولذلك قال: ?وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ? ولذلك أقول: هذه الآية بهذا السياق القرآني الكريم أفادت ثلاثة أمور:
الأمر الأول: هو أن الله -سبحانه وتعالى- أنزل الماء من السماء بقدر، وقد نص ربنا -عز وجل- في آيات أخر فقال: ?وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ?21?? [الحجر: 21].
الأمر الثاني: أن الله -تبارك وتعالى- أسكن الماء المنزل من السماء إلى الأرض وهذا أيضاً كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى-: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ? [الزمر: 21].
الأمر الثالث: إخبار الله -تبارك وتعالى- أنه قارد على إذهاب هذا الماء، والله -عز وجل- يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل، وهذا كقول الحق -تبارك وتعالى-: ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَّأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ ?30?? [الملك: 30].
(11/7)
---(3/394)
هذا نوجهه للبشرية كلها، إن لم يكن لديكم ماء أنزله ربنا -سبحانه وتعالى- ووفره لكم من السماء، من أين لكم بماء؟! أو نذكر الآية الأخرى التي يقول رب العزة والجلال فيها: ?لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ?70?? [الواقعة: 70] ?أُجَاجًا? يعني ملحاً أجاجاً، لا تستسيغونه أنتم أيها البشر, بل دوابكم لا يمكن أن تشربه والماء إذا كان ملحاً أجاجاً كالمعدوم؛ لأنه لن يستفيد منه الإنسان, ولكن الله -عز وجل- أخرج من هذا الماء الأجاج بتسليطه أشعة الشمس المحرقة عليه , وتبخر الماء ولعل يأتي بذلك حديث قادم -إن شاء الله- ثم بعد ذلك يتراكم هذا الماء ويصعد إلى السماء وينزل بأمر الحق -تبارك وتعالى جل في علاه-.
(11/8)
---(3/395)
والله -عز وجل- حينما يذكر هذه النعمة على عباده ويذكرهم بها، كي لا يكفر به أحد من خلقه؛ لأن بعض الخلق مع أنه -سبحانه وتعالى- أنزل عليهم هذه النعم العظيمة، إلا أنهم يكفرون بالله -تبارك وتعالى-، ولقد نص الله على ذلك في قوله: ?وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ?48? لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ?49? وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ?50?? [الفرقان: 48- 50] ومن الكفر بالله -تبارك وتعالى- إسناد إنزال الماء إلى الطبيعة أو إلى ما يحدث في السماء، أو إلى الملائكة أو إلى الجن أو ما إلى ذلك, كل هذا كفر بالله -تبارك وتعالى- ولذلك في المسند في حديث زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنهم- قال: (صلى بنا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صلاة الصبح على أثر سماء كانت من الليل) -يعني على أثر ماء نزل من السماء في الليل- (وبعد أن صلى الصلاة -صلى الله عليه وآله وسلم- انصرف إلى أصحابه) يعني أعطاهم وجهه- (ثم قال: يقول الله -تبارك وتعالى-: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي. ثم قال: من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فهو مؤمن بالله كافر بالنجوم، ومن قال: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا فهو كافر بي مؤمن بالنجوم) فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أن بعض الناس يكفرون، ويردون نعمة الله -سبحانه وتعالى- عليهم.
(11/9)
---(3/396)
ثم يذكر ربنا -عز وجل- بعد ذلك شيئًا من النعم في آية تالية فيقول: ?فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ? اعلموا أولاً أن الماء في ذاته نعمة، وكثير من الناس يحب أن ينظر إلى قطرات الماء وهي تنزل من السماء، وبعض الناس قد لا يستفيد من ماء المطر؛ لأنه لا يزرع وقد يسر السبيل إليه إلى أن يأتيه الماء بطريقة معينة، فقد لا يحتاج في الظاهر إلى الماء ومع هذا يفرح بالماء؛ لأن الماء في ذاته نعمة، والماء أيضاً مع أنه نعمة هو أيضاً سبب في النعمة، وقد ذكر الله -عز وجل- في هذه الآيات هذا وهذا، فأشار إلى الماء أولاً: ?وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ? وأشار إلى النعمة التي تحصل نتيجة نزول هذا المطر من السماء ألا وهو وجود الجنان والزرع والنخيل والأعناب، ?فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ? أيضاً الآيات لو تلاحظون كلها تسير مساقاً واحداً في تمجيد وتعظيم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
?فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ? الله -عز وجل- ذكر هنا النخيل والأعناب لأن هذا أمر مألوف لدى أهل الحجاز الذين خوطبوا أولاً بالقرآن الكريم، والشيء يؤخذ بنظيره، فكل بلد لديها من النعيم ومن الجنات ما الله -سبحانه وتعالى- به عليم، وقيل: ذكر الله -عز وجل- النخيل والأعناب لفوائدهما العظيمة، فالنخيل والأعناب يصلحان إداماً ويصلحان أيضاً فاكهة يعني يتغذى عليهما الإنسان ويتفكه بهما الإنسان ومن ثَمَّ ذكرهما رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(11/10)
---(3/397)
ثم عقب على ذلك بقوله: ?لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ? فبعد أن ذكر النخيل والأعناب ذكر جملة ما يخرج من هذه الأرض من الفواكه الكثيرة التي يمتن بها رب العباد -سبحانه وتعالى- على الناس في الآفاق والله -عز وجل- أعطى كل بلد ما تحتاج إليه ونوَّع بين الإنتاج من مكان إلى مكان وهذا فيه من المصالح ما فيه، فيه من تبادل المنافع بين الناس فهذا يبيع لهذا وهذا يشتري من هذا, وهذا كله فضل من الرب -تبارك وتعالى- على عباده، وقد أوضح الله -عز وجل- هذا المعنى في آيات أخر، كقول الله -عز وجل- في سورة النحل بعد أن ذكر هذه الفواكه: ?يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ? [النحل: 11] وكما قال رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-: ?أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ?60?? [النمل: 60] والله -عز وجل- حينما يذكر هذه الآيات ويعدد هذه النعم على العباد يدعوهم ويبين لهم أنه وحده -عز وجل- هو الذي أوجد ذلك, ولكن وللأسف الشديد كما كفر بعض الناس مع أن الله هو الذي أنزل عليهم الماء النافع من السماء أيضاً يعدلون عن الله -عز وجل- إلى غيره ويذهبون إلى غير الله -تبارك وتعالى- ممن لم يوجد جنةً ولا شجرةً ولا نخيلاً ولا أعناباً، وما كان ينبغي على العباد أن يفعلوا ذلك، فالله -عز وجل- يسوق هذه الآيات ليذكر العباد بنعمه عليهم ويدعوهم إلى أن يلجؤوا إليه وحده دون سواه.
(11/11)
---(3/398)
ثم يقول -سبحانه وتعالى- بعد ذلك: ?وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآََكِلِيِنَ ?20?? ?وَشَجَرَةً? بالنصب معطوفة على ?جَنَّاتٍ? والشجرة هي شجرة الزيتون، والله -عز وجل- يقول: ?تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ? وعدى هنا المفعول بالباء ?تَنْبُتُ? كفعل يتعدى بنفسه، قال بعض العلماء: الباء زائدة ومعنى الكلام: تنبت الدهن، وقيل: ضمن الفعل الذي هو ?تَنْبُتُ? ضمنه تخرج الدهن، أو تأتي بالدهن، فإذا ضمنه فعلاً آخر فتخرج أو تأتي يمكن أن يتعدى بالباء، ?تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ? المراد بالدهن: هو زيت الشجرة التي يخرج منها، وهو الذي أشار إليه رب العزة والجلال في سورة النور في قوله: ?يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ? [النور: 35] ومع ذلك ومع أن زيتها بهذه المثابة العظيمة, ويكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، إلا أن فيه منفعة أخرى للإنسان وهي أن الإنسان يأكل الزيتون ويأتدم به، وهذا معنى قول الحق -تبارك وتعالى- بعد ذلك: ?وَصِبْغٍ لِّلآََكِلِيِنَ? فالإنسان يستخدم الزيتون في أمرين كما أشارت إليه هذه الآية وله منافع أخرى إذا خرجنا عن الزيت، وهي منافع ثانوية توجد في الأشجار وغير ذلك، ولكنَّ المهم النافع المفيد في هذه الشجرة المباركة أن الإنسان يدهن أو يستخدم زيتها ويأكل أيضاً طعامها يأتدم به. والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما جاء في مسند الإمام أحمد رغب -عليه الصلاة والسلام- في استخدام الخارج من هذه الشجرة المباركة، فقال: (كلوا الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة) التي هي شجرة ماذا؟ ألا وهي شجرة الزيتون.
(11/12)
---(3/399)
ثم يقول -سبحانه وتعالى- بعد ذلك معدداً أيضاً نعمه على عباده منتقلاً بهم إلى أمر آخر: ?وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ?21?? بعد أن ذكر الله -سبحانه وتعالى- نعمه على عباده في النبات الخارج من الأرض، وسبب إخراج هذا النبات وهو كله بفضل الله -عز وجل- ولكن الماء سبب فيه، ذكر بعد ذلك نعمه أيضاً على عباده في الأنعام التي خلقها رب العزة والجلال للعباد كي يستفيدوا منها وسخرها لهم ربنا -سبحانه وتعالى-، وهذه الآية ذكرت الفوائد والمنافع كما يلي:
أولاً: قال-عز وجل-: ?وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً? كلمة عبرة كلمة مجملة، جمع، يعني لنا فيها عبر متعددة، ثم بعد ذلك أتى بتفصيل شيء من هذه العبر فقال: ?نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَ? وهو الألبان التي تخرج من هذه الأنعام على مختلف أنواعها ويستفيد منها الإنسان.
قد يقول قائل: وما هي النعمة في ذلك؟ لاشك أنه غذاء طيب للإنسان, والعبرة التي فيه ما أشار الله -عز وجل- إليه في سورة النحل وهو أن هذا اللبن الذي يخرج من هذه الحيوانات يخرجه رب العزة والجلال سبحانه من بين الفرث والدم، ومع هذا يخرجه لبناً سائغاً للشاربين، نقياً صافياً، لا يشوبه شيء من الوسخ أو القذر، من الذي أخرج هذا الماء بهذه الصورة الناصعة البياض للعباد كي يستفيدوا منه من بين الفرث والدم؟!! يخرج لبناً خالصاً ثائغاً للشاربين، وأنت لو ذبحت أي حيوان به حليب تستخرجه منه، لا تجد قطرة واحدة من الحليب، فبالله عليكم ما أعظم هذا الخالق -سبحانه وتعالى-، وما أعظم عبره لعباده التي وجههم إليها حينما قال: ?وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً?.
(11/13)
---(3/400)
الأمر الثاني: من العبر التي أشارت إليها هذه الآيات في الأنعام أيضاً وهي ما جاء في قوله: ?وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ? يعني لنا فيها منافع أخرى وهذا يعرفه أصحاب الغنم والإبل والبقر ممن يربي هذه الأشياء فهو يبيع فيها ويشتري ويتاجر ويستفيد من أثمانها هذه منافع، كذلك أيضاً نحن نستفيد من أوبارها وأصوافها وأشعارها، وهذه كلها منافع ساقها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ثم عقب على ذلك بقوله: ?وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ? وهذه أيضاً منفعة أخرى، فالإنسان أيضاً يستفيد من الأنعام وهي حية فيما سبق أن ذكرته, وعند الذبح أيضاً يستفيد منها ويأكل منها الطعام الذي أباحه رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- للعباد.
ثم قال جل ذكره: ?وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ?22?? وتأملوا هذه اللفتة الكريمة, وكيف أن الله -عز وجل- جاء بالفلك بعد الأنعام مباشرة؛ لأننا كما نحمل أمتعتنا على الفلك في البحر نحمل أمتعتنا على الإبل بالذات في البر, فالإبل في البر نستفيد منها كما نستفيد من الفلك في البحر وهذه أيضاً نعمة من الله -سبحانه وتعالى- على عباده، أشار رب العزة والجلال إليها في كتابه فقال: ?وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ?7?? [النحل: 7] وكما قال سبحانه: ?أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ?71? وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ?72?? [يس: 71، 72] وقد ذكرت فيما مضى كيف سخر الله -عز وجل- هذه الحيوانات، رغم ضخامة ما هي عليه سخرها للإنسان بحيث أن وليدة صغيرة أو طفلاً صغيراً يمكن أن يسوق حيواناً كبيراً يزن أضعاف ما يزن هذا الطفل، أو الفتاة التي تسوق هذا الحيوان.
(11/14)
---(3/401)
المحور الثاني في هذا اللقاء: تكذيب الملأ لنوح -عليه السلام- بعد إرسال الله له:
وأبدأ هذا المحور بقول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ?23?? لما بين الله -عز وجل- دلائل التوحيد, أتبع ذلك بذكر شيء من القصص عن الأنبياء والمرسلين, وكأن القرآن يريد أن يقول: يا أيها الناس يا من يجب عليكم أن تعقلوا وقد مَنَّ الله عليكم بالعقل وزودكم به، هذه النعم التي منحكم ربكم -سبحانه وتعالى- إياها وهي منه وحده دون سواه ألا يليق بكم بعد ذلك أن تحمدوا الله وتشكروه فتصدقوا بالأنبياء والمرسلين، والله إنه لمن العيب على بني البشر بعدما يسوق رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- هذه النعم ويسخر لهم ما في هذا الكون وهم لم يملكوا شيئًا ولا يستطيعون أن يقدموا لأنفسهم شيئًا دون الله -عز وجل-، كان الأولى بهم بعد ذلك أن يسلموا ويتابعوا الأنبياء والمرسلين وخاصة نبينا -صلوات الله وسلامه عليه- الذي هو خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وقد ختم الله -عز وجل- به النبوة والرسالة ونسخ كل رسالة كانت قبله.
(11/15)
---(3/402)
فسياق هذه الآيات بعد ذلك أرى بأنه مناسب تمام المناسبة وهذا يدل ويؤكد أيضاً أن هذا القرآن من عند الرب -تبارك وتعالى-؛ لأن نسقه وسياقه لا يمكن أبداً أن يخرج من مخلوق بحال من الأحوال وصدق الله في قوله: ?وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرً? [النساء: 82] الله -عز وجل- ذكر في هذه الآية أنه أرسل نوحاً إلى قومه بأي شيء، ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ? وسيأتي في اللقاء القادم -إن شاء الله تعالى- بيان أيضاً أن سائر الأنبياء والمرسلين اشتركوا في هذا الأمر ولعلي أقف هناك عند هذا النقطة؛ لأنه يجب أن يعلم الناس جميعاً أن الغاية العظمى من بعثة الأنبياء والمرسلين هي إفراد الله -تبارك وتعالى- بالتوحيد، والخضوع لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وما يتبع ذلك -ولا شك- من التصديق بالأنبياء والمرسلين والإيمان بالبعث والنشور وإذا صدق الأنبياء والمرسلين صدق العبد بكل ما جاء به الأنبياء والمرسلين ولكن المبدأ الذي يجب أن يتعلمه الناس أولاً هو عبادة الله وحده دون سواه، وهذه الآية جاءت كما ذكرت بعد سياق نعم الله -تعالى- على عباده، فيا أيها المخاطبون من البشر ويا أيها الذين تستمعون من البشر اليوم تأملوا في نعم الله -تبارك وتعالى- عليكم، ثم بعد ذلك حققوا العبادة لله وحده دون سواه، لأنها الغرض الذي خلقتم من أجله.
(11/16)
---(3/403)
نوح -عليه السلام- جاء إلى قومه قال لهم هذه الكلمة: ?اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ? ثم ذكر لهم كلمة فيها ذجر وتهديد ووعيد: ?أَفَلاَ تَتَّقُونَ? أفلا ترجعون إلى الله -عز وجل-؟ ألا يليق بكم بعد ذلك وبعدما أنعم الله -سبحانه وتعالى- عليكم أن ترجعوا إلى ربكم فتتقوه وتعبدوه وتنصرفوا إليه بالكلية؟ ?أَفَلاَ تَتَّقُونَ? وهذه العبارة كما ذكرت في الحقيقة فيها تهديد ووعيد لهؤلاء القوم المكذبين، ماذا كان رد هؤلاء القوم على نوح -عليه السلام-؟ إنه حقاً لمن العجب العجاب، وسيأتي أيضاً في اللقاء القادم شيئ من هذا وهو تكذيب هؤلاء الناس وصد الناس عن الأنبياء والمرسلين.
نوح -عليه السلام- جاء يدعو قومه إلى الله -عز وجل- ودعاهم إلى عبادته وحده لا شريك له، فما كان من أمرهم إلا كما قال الله: ?فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الأوَّلِينَ ?24?? تأملوا هذه الشُبَهَ، وهي شُبَهٌ في الحقيقة يمكن أن أقول عنها بأنها شبه تافهة للغاية، ولذلك هنا أعرض رب العزة والجلال عن الجواب عنها؛ لأنها لا تستحق أن يقف إنسان عاقل عندها، وستأتي بعض هذه الشبه فيما بعد -إن شاء الله تعالى- ولعلي أقف هناك على شيء من الرد على هذه الشبه.
ما هي الشبه التي استند إليها هؤلاء الملأ الذين كذبوا نوحاً -عليه السلام-؟
أولاً: المراد بالملأ من؟ لا شك أن قوم نوح من لم يؤمن معه كذبه، ولكن كلمة الملأ غالباً تذكر على السادة والكبراء والأشراف, غالب كلمة الملأ تنصرف على هؤلاء.
(11/17)
---(3/404)
الشبهة الأولى: أنه بشر: ?فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ? هذه أول شبهة أنه بشر، وهذا أمر لا يناسبهم ولا يعجبهم وكونه بشراً كأنهم يريدوا أن يقولوا كما ذكر الله -عز وجل- ?يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ? وفرعون ومن معه شاركوا هؤلاء الناس في هذه الفرية، وأيضًا استبعدوا أن يرسل الله -عز وجل- نبيًا رسولاً من البشر، واتهموا المرسل من البشر بأنه يريد أن يعلو عليهم وأن يتكبر عليهم وهذه فرية باطلة؛ لأن الأنبياء والمرسلين ليسوا تجار دنيا وليسوا أصحاب مراكز أو مناصب، وإنما عملهم كله لله ولا يبحثون عن أمر في هذه الحياة الدنيا إلا أن يُعبَدَ الله وحده دون سواه، قوم فرعون ماذا قالوا لموسى هارون عليهما السلام؟ ?قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ? [يونس: 78] وهكذا قوم نوح، قالوا: ?مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ? شأنه ماذا؟ ?يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ? هذه هي الشبهة الأولى.
الشبهة الثانية: قالوا: ?وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً? لأن الملائكة في زعمهم أقوياء وأشداء وأن البشر إذا نزل عليهم ملك من السماء سينصاعون له، وهؤلاء الناس في الحقيقة لا يفقهون، لو نزل ملك من السماء ما استطاعوا أن ينظروا إليه، ولا أن يقفوا عنده، ولا أن يتكلموا معه، ولا أن يستمعوا إليه، لا شك أنهم سينفرون منه، والله -عز وجل- قال للمشركين في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-: ?وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ?9?? [الأنعام: 9] يعني لو على فرض أن الله -عز وجل- سيرسل ملكاً سينزل ملكاً يظهر بصورة بشرية حتى يكون قريباً إلى من؟ يكون قريباً إلى المخاطبين.
(11/18)
---(3/405)
الشبهة الثالثة: عند هؤلاء: ?مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الأوَّلِينَ? رغم كان قبل نوح -عليه السلام- نبي يوحى إليه وهو من؟ آدم -عليه السلام- أبو البشر وأول المخلوقات من البشر نبي يوحى إليه ولكنهم مع تقادم العهد والكفر الذي لحق بهم, قلدوا آباءهم فلم ينظروا إلى نبوة آدم -عليه السلام-، قلدوا الآباء وحاكوا الآباء فيما هم عليه من كفر وتكذيب وضلال واستندوا إلى أن آباءهم لم يعرفوا شيئًا عن الأنبياء والمرسلين، ولم يلقنوهم شيئًا من ذلك، ولو لقنهم الآباء لآمنوا به، وهذه حجة باطلة لأن التقليد لا ينفع بعد إقامة الحجة على العباد، هنا قلدوا لما قالوا: ?مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الأوَّلِينَ?.
(11/19)
---(3/406)
الشبهة الرابعة: التي رد بها قوم نوح دعوة نوح -عليه السلام- شبهة أيضاً تأتي عند كثير من الأقوام الذين كذبوا بالأنبياء والمرسلين ماذا قالوا؟ ?إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ?25?? ?رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ? يعني به جنون، أو به مس من الجن أفسد عليه عقله؛ لأنه كان عوام العرب يقولون بأن الجن إذا مس إنساناً أذهب عقله، فهؤلاء قالوا هذا في نوح -عليه السلام-، وهذا القول من هؤلاء المشركين في الحقيقة لينفروا الناس من نوح -عليه السلام-؛ لأن الإنسان العاقل لا يمكن أن يتبع رجلاً مجنوناً، ولذلك هم أرادوا أن يصدوا الناس عن دعوة نوح -عليه السلام- فقالوا لهم: ?إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ? فماذا نفعل؟ ?فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ? يعني تربصوا به ريب المنون، تربصوا به قوارع الدهر حتى يموت ويقضى عليه، وهذا سفه من هؤلاء القوم، حينما ينسبون إلى هذا النبي الرسول الذي أتاهم من عند الله -تبارك وتعالى- ينسبون إليه أنه مجنون وحاشاه ذلك، وللأسف الشديد قال مشركو قريش هذا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، قالوا هذا للرسول -عليه الصلاة والسلام- ورب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- نصَّ على ذلك في كتابه في قوله: ?وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ?51?? [القلم: 51] ويقصدون من؟ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهم حينما قالوا هذا القول هم في الحقيقة أرادوا تنفير الناس أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(11/20)
---(3/407)
في الحقيقة هذه الشبه الأربعة -كما ذكرت- شُبَهٌ ركيكةٌ؛ ولذلك ما أجاب رب العالمين -سبحانه وتعالى- عنها، غاية الأمر أن نوحاً -عليه السلام- لما رأى هذا الصدود، استنصر بربه -سبحانه وتعالى-؛ لأنه هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ولأنه هو الذي يكشف الغوث عن الذي يلجأ إليه -سبحانه وتعالى- ولذلك سأتحدث عن نصر الله -عز وجل- لنبيه نوح -عليه السلام- بعد أن دعا ربه أن ينصره على هؤلاء المكذبين الذين ردوا دعوته وكذبوا برسالته وهذا في المحور الثالث وهو بعنوان: ما فعله الله بالمكذبين من قوم نوح -عليه السلام-.
المحور الثالث: ما فعله الله بالمكذبين من قوم نوح -عليه السلام:
ويبدأ هذا بقول الله -عز وجل- ?قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ?26?? نوح -عليه السلام- توجه إلى رب -سبحانه وتعالى-؛ لأنه لا ملجأ لهذا العبد الرسول إلا الذي أوحى إليه، فلجأ إلى الله -عز وجل- قائلا: ?قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ?26?? وفي سورة القمر توضيح أكثر لهذه المسألة، ولو تأملتم سياق الآية لوجدتم فقر الأنبياء لربهم -سبحانه وتعالى-، وحاجة الأنبياء وتوجههم إلى رب العزة والجلال تأملوا ماذا قال نوح لربه كما جاء في سورة القمر: ?فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ?10?? [القمر: 10] كلمة جميلة، قصيرة, صغيرة، ولكن تحمل معاني عظيمة جداً، هي تذكرني بقول موسى -عليه السلام- لربه، بعدما سقى ابنتي العبد الصالح: ?فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ? [القصص: 24] وأنا حينما أذكر ذلك أود أن أوجه المستمعين والمشاهدين الكرام إلى أن يعرفوا كيف أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يلجؤون إلى الرب -تبارك وتعالى- بأسلوب المسكنة، والشعور بالحاجة والفقر والاحتياج إلى من بيده خزائن السماوات والأرض.
(11/21)
---(3/408)
نوح -عليه السلام- توجه إلى ربه قائلاً: ?قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ?26?? فجاءه المدد من السماء المتمثل في التوجيه الإلهي الرباني له: ?فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ?27?? مدد الله -تبارك وتعالى- جاء لنبي الله نوح -عليه السلام- متمثلاً في أمر الله له أن يصنع السفينة التي سارت بسم الله -عز وجل- تنخر الماء العباب تاركة من وراءها ومن لم يركب فيها يموج بين أمواج وطلاطم الماء الذي أنزله الله -عز وجل- من السماء وأخرجه رب العباد من الأرض.
(11/22)
---(3/409)
أوحى الله -عز وجل- إلى نبيه نوح -عليه السلام- أن يصنع الفلك بأمر الله -عز وجل- له وبوحي الله له، وأن يصنعه برعاية الله وعونه وأن الأمر كما قال الله -عز وجل- له: ?فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا? يعني أن الله -عز وجل- يرى نوحاً -عليه السلام-؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- يسمع ويرى، ويتصف بصفة السمع وصفة البصر، ونحن نؤمن بصفات الله -سبحانه وتعالى- كما وردت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة دون تشبيه أو أو تأويل أو تكييف، فما ورد في هذه الآيات نؤمن به على حقيقته ولكننا لا نعرف كنهه ولا ذاته ولا الحقيقة التي هو عليها في نفس الأمر، ولكن نفهم من هذه الآيات ما فهمته العرب من لغتها، وما أشار إليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في سنته, فالله -عز وجل- في هذه الآية يخبر بأن له عيناً ونحن نؤمن بذلك وهي من الصفات الذاتية الخبرية التي تليق برب العزة والجلال سبحانه مع التأكيد أن الله -عز وجل- في ما ثبت له لا يشبه أحداً من خلقه لأنه قال عن نفسه في كتابه: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ? [الشورى: 11] فنحن نربأ بالمسلمين عن الوقوع في التشبيه كذلك أيضاً عن الوقوع في التعطيل أو التأويل، ?فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا? ثم قال الله له: ?فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ? جاء الأمر من الله -تبارك وتعالى- بإغراق هؤلاء الناس ?وَفَارَ التَّنُّورُ? كلمة ?التَّنُّورُ? قيل: المراد بها التنور على الحقيقة ولا أدري أصحاب الحضرة اليوم الذين جالسون معنا يعرفوه أم لا؟ التنور معروف وهو المكان الذي يوقد فيه النار كي يطهى فيه طعام أو ما إلى ذلك، وقيل: ?وَفَارَ التَّنُّورُ? يعني أخرج الله الماء من الأرض، وعلى القول الأول وهو ظاهر الأمر، ?وَفَارَ التَّنُّورُ? قيل: بأنه نوح -عليه السلام- اتخذ(3/410)
(11/23)
---
تنوراً في الأرض فلما وضع عليه ماءً فلما رأى الماء يغلي ركب السفينة ومن معه بأمر الله -تبارك وتعالى- له، ?فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ? هذا أمر من الله -تبارك وتعالى- لنوح -عليه السلام- كي تبقى سلالة الحيوانات قائمة، أمره أن يأخذ معه من كل صنف من الحيوانات والطيور زوجين ذكراً وأنثى، كما أيضاً يأخذ معه من آمن معه من أهله، ?فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ?؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- سبق في علمه أن يُهلِكَ من؟ أن يهلك ابن نوح وزوجه؛ لأن ابن نوح وقيل: كان الرابع واسمه يام وقد ذكر ذلك الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- كان من الكافرين، وزوجة نوح كذلك, وقد ذكر الله -عز وجل- في آيات أخر عنها في كتابه ما ذكر، ولذلك أمره الله -عز وجل- أن يحمل معه من كل زوجين اثنين وأن يحمل معه أيضاً أهله ممن آمن معه، ولم يسبق عليه القول أن يكون من الكافرين، والأنبياء تشتمل قلوبهم على الرحمة، رغم أنهم آذوا نوحاً -عليه السلام- ورغم أن نوحاً -عليه السلام- استنصر بربه ودعاه، ورغم أن نوحاً -عليه السلام- قال لربه كما ذكره الله عنه في القرآن: ?وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ?26?? [نوح: 26] ومع ذلك تأملوا هذا الجزء من الآية ألا وهو: ?وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا? لماذا؟ لأن الله -عز وجل- يعلم أن نوحاً -عليه السلام- ستأخذه الشفقة فيما بعد، ستأخذه الرحمة، وهذا ديدن الأنبياء والمرسلين وحقاً لقد استفسر نوح -عليه السلام- عن ابنه، ولما قال: ?رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ? [هود: 45] وكان ذلك بعد أن انتهى الطوفان، فقد دعا نوح -عليه السلام- ابنه أن يكون معه، فأبى ذلك، والله -عز(3/411)
وجل- قبل أن
(11/24)
---
يكون ما يكون يأمر نوحاً -عليه السلام- ألا يسأل ربه شيئًا عن هؤلاء الظالمين، ?وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا? وقول الله -عز وجل-: ?وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا? وصف لهم في غاية من القبح والشناعة، وهو يشتمل على معاني كثيرة على رأسها: وقوعهم في الشرك بالله تعالى، ثم بعد ذلك سائر المعاصي, والله -عز وجل- يصفهم في هذه الآية بأنهم مشركون وأصحاب معاصٍ، ?وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا? لماذا؟ ?إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ? يعني أن الله -تبارك وتعالى- سيقضي عليهم، وأن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- سينهيهم ثم يوجه ربنا -سبحانه وتعالى- نوحاً -عليه السلام- إلى أمر آخر فيقول له: ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?28?? الإنسان يقف أمام آيات الله يجد فيها عبراً كثيرة، ويظهر لديه حقاً الإحكام والتتابع في كلمات الله -تبارك وتعالى-، الله -عز وجل- بعدما أمر نوح بصناعة الفلك، وأن يركب الفلك، وأن يصطحب معه من يصطحب, يوجه توجيهاً لطيفاً: ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?28?? يعني يا نوح تذكر نعمة الله -سبحانه وتعالى- عليك، وأن الفلك التي تسير واستواؤك على هذه الفلك إنما هو بتدبير الله -عز وجل- وما سارت من مبدئها إلى نهايتها إلى نهايتها إلا بأمر الله -عز وجل-، من يأتيني بالدليل من الحاضرين؟ من سورة هود؟ يفيد أن مبدأ السفينة ونهايتها سار بسم الله؟
?بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا? [هود: 41].
(11/25)
---(3/412)
?وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا? [هود: 41] والآية بهذا السياق أبرزت مزية نوح وفضل نوح -عليه السلام- لما قال الله له: ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ? رغم أن الذين مع نوح كانوا من أهل الإيمان فليقولوا هم أيضاً هم لا شك أنهم سيقولوا، وسيتبعوا نوحاً في ذلك، ولكن الله -عز وجل- أراد أن يبرز نوحاً -عليه السلام- وأن يذكره بمزية وفضل فوجه إليه الخطاب: ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?28?? والله -عز وجل- هنا يثني على نفسه، في أمر مهم جداً، لماذا؟ لأنه يبين عظمة الله -عز وجل- وسطوته، وعزته، وكبرياءه، وأنه -عز وجل- يهلك الظالمين ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وفيها توجيه لأهل الإيمان، أن ترجع يا عبد الله إلى الله -عز وجل- وأن تستنصر به وسترى أمامك من كذَّب بالله وبالمرسلين وآذى أولياء الله الصالحين، ستجده في النهاية من المهزومين وعندئذ احمد الله -سبحانه وتعالى- على ذلك, واشكر الله -عز وجل- على هذه النعمة العظيمة، ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?28?? وهذه الآية كقول الله جل ذكره: ?فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?45?? [الأنعام: 45] وقول الله هنا: ?وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? وفي الآية التي معنا: ?فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ? دعوة إلى أن يتأمل العباد حكمة رب العزة والجلال –سبحانه- في إهلاكه الظالمين، ونصره لعباده وأوليائه الصالحين، وهذا يدفع قلوب أهل الإيمان إلى التمسك بما هم عليه، حتى ولو مروا بفترات من الضعف، أو مما يمكن أن يأتي(3/413)
(11/26)
---
بهم الأعداء من كل جانب إلا أن الأمر كما قال الله -عز وجل-: ?وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? [الأعراف: 128] وأن نصر الله -سبحانه وتعالى- آتٍ لعباده الصالحين, وعليكم يا أيها المؤمنون أن تسلكوا الطريق وأن تستنصروا بمن بيده النصر -جل في علاه- وعندئذٍ إذا أتاكم النصر اشكروا الله واحمدوه على فضله: ?فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ? وكما نهى رب العزة والجلال نوحاً -عليه السلام- أن يخاطبه في الذين ظلموا، هنا يأمره أن يحمده سبحانه يعني أن يحمد نوحٌ ربه على إهلاكه من؟ على إهلاكه هؤلاء الظالمين.
(11/27)
---(3/414)
ثم بعد ذلك وبعد أن حمد نوح -عليه السلام- ربه؛ لأنه نجاه ونصره على المكذبين الجاحدين المعاندين قال الله -عز وجل- لنوح آمراً له أمراً آخر: ?وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ?29?? ما المراد بالمنزل المبارك هنا؟ قيل: المراد به السفينة، يعني ينزل منزلاً مباركًا في السفية، وقيل: ينزل منزلاً مباركاً بعد خروجه من السفينة، ولا مانع من إرادة الأمرين معاً، فالمنزل كان مباركًا، الذي نزل فيه نوح -عليه السلام- وكيف لا يكون مباركًا وقد نجاه الله -سبحانه وتعالى- فيه بعد أن أغرق وأهلك الظالمين؟!! ثم نوح -عليه السلام- يطلب من ربه أن ينزل منزلاً مباركًا وآيات سورة هود قد تشير إلى الأمرين معاً فما جاء أو مما جاء في سورة هود: ?وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ? [هود: 44] فقول الله -عز وجل-: ?وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ? يفيد أن المكان مبارك، وأنه مستوٍ بنعمة وفضل من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ثم ذكر -عز وجل- في سياق هذه الآيات: ?قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ? [هود: 48] ?اهْبِطْ? يعني من السفينة، فأيضاً يهبط على منزل مبارك، والله -عز وجل- يقول لنوح ولنا لكي نستفيد: بأنه ?خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ? لماذا؟ لأن الإنسان قد يكون سبباً في إنزال إنسان في مكان ما، بأن يقدم له مسكناً أو يتفضل عليه بأمر أو ما إلى ذلك، ولكن الأمر كله لله -عز وجل-، والفضل كله يرجع إلى رب العزة والجلال سبحانه، وإذا أنزل الله عبده منزلاً أو مكاناً، وقد رضي الله عنه، فلا يمكن لبشر مهما كان أو مخلوق أياً كان أن يعطي لهذا العبد ما أعطاه ربه -سبحانه وتعالى- ولذلك أمر ربنا -عز وجل- نوحاً -عليه السلام- أن يسأل ربه هذا السؤال اللطيف(3/415)
(11/28)
---
الجميل: ?وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ?29?? ونحن نستفيد، إن وقعنا فيما وقع فيه نوح -عليه السلام- أن نخلص النية لله -عز وجل-، وأن نتشبه بهؤلاء الأنبياء والمرسلين وبمن كان معهم، ونطلب النجاة من الله -عز وجل- والمكان الدائم الجميل، وأن ينزلنا رب العزة والجلال منزلاً نرضى عنه؛ لأنه ?خَيْرُ الْمُنزِلِينَ?.
ثم يختم ربنا -سبحانه وتعالى- هذا السياق بقوله: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ?30?? يعني في هذه القصة وما فيها من عبر وما أخبر رب العزة والجلال فيها من إنجاء الله -عز وجل- للمؤمنين وإهلاكه للكافرين، إن في كل ذلك ?لآَيَاتٍ? يعني لحجج، وبراهين، ودلالات على أن الله -سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير، وأنه وحده هو المعبود، وأنه ينصر عباده الذين ينصرون دينه -سبحانه وتعالى-، فنوح -عليه السلام- ظل في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يصدون الناس عنه ويكذبون بدعوته ويُؤذى -عليه السلام- ويُسخَر منه كما ذكرت الآيات ولكن النهاية كان النصر من الله -عز وجل- لنوح -عليه السلام- ولذلك صدق الله -عز وجل- في قوله: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ?30?? يعني وإن كنا لمختبرين العباد بإرسال الرسل لننظر كيف يعملون, وهل سيستجيبون للأنبياء والمرسلين أم أنهم سيكذبون؟ وليعلم الجميع أن الرسل إنما جاءت من عند الله -تبارك وتعالى-، وأيدهم ربنا بالمعجزات، وعلى العباد أن يدخلوا وأن يسلموا لما جاء به الأنبياء والمرسلون من قبل رب العباد سبحانه. وبعد بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على البشرية كلها أن تدخل في دين الله أفواجاً، وأكتفي بهذا وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أسئلة الحلقة الماضية.
وكان السؤال الأول: اذكر الصفات التي يجب أن تتوفر في أهل الإيمان كما جاءت في هذه السورة؟
وكانت الإجابة:(3/416)
(11/29)
---
الصفات التي يجب أن تتوفر في أهل الإيمان كما جاءت في هذه السورة هي:
بعدما أثبت الله -عز وجل- الفلاح لأهل الإيمان ذكر لهم بعض الصفات التي يجب أن يتحلى بها أهل الإيمان وهي: سبع صفات اشتملت عليها سورة المؤمنون:
وأول هذه الصفات: الإيمان وهي الصفة التي تدور حولها كل الصفات وهي الصدق بما جاء من عند الله ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، والاعتقاد به بالقلب والعمل بذلك.
الصفة الثانية: التي بينها الله -عز وجل- في الآية هي الخشوع في الصلاة قال تعالى: ?الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ?2?? [المؤمنون: 2].
الصفة الثالثة: التي يجب أن تتحقق في أهل الإيمان هي الإعراض عن اللغو وهو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال وما توجب المروءة تركه قال الله تعالى: ?وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا? [الفرقان: 72].
الصفة الرابعة: هي إيتاء الزكاة قال تعالى: ?وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ?4?? [المؤمنون: 4] وتكون زكاة المال والنفس بطاعة الله -سبحانه وتعالى-، وطاعة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الصفة الخامسة: هي حفظ الفرج عن المعاصي قال تعالى: ?وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ?5?? [المؤمنون: 5] وهذه الآية تدعو المؤمنين إلى الترفع عن الفواحش كالزنى بما فيه من المفاسد العظيمة والشديدة.
الصفة السادسة: تكمن في قول الله -عز وجل-: ?وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ?8?? [المؤمنون: 8] بمعنى حفظ كل ما استودعه الله إياهم لأنه أمانة والأمانة أمرها عظيم، والأمر بحفظ العهد كما قال الله -عز وجل- في سورة الإسراء: ?وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا? [الإسراء: 34].
(11/30)
---(3/417)
ثم ختم الله -عز وجل- هذه الصفات بالصفة السابعة: وهي المحافظة على الصلاة والمحافظة عليها تكون بالمحافظة على أدائها في وقتها والحرص على الطهارة والخشوع فيها، قال الله تعالى: ?حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ ?238?? [البقرة: 238] انتهى.
في الحقيقة هذا الجواب في غاية من الروعة؛ لأن المجيب -جزاه الله خيراً- ذكر الصفات وذكر كلاماً حولها مفيداً، فأشكره على هذا الجواب، وعلى هذا الفهم، وندعو جميع الشباب إلى أن يكونوا كذلك.
السؤال الثاني فضيلة الشيخ:
فصِّل القول في حكم نكاح المتعة. وما معنى ?عَلَى? في قول الله -سبحانه وتعالى-: ?إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ?؟
وكانت الإجابة:
أجمع الفقهاء على تحريم نكاح المتعة ولم يخالف في ذلك إلا الروافض وتحريم نكاح المتعة ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أولاً: دليل التحريم من الكتاب قال الله تعالى: ?وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ?5? إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ?6? فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ?7?? وجه الدلالة من الآية ما قالت به السيدة عائشة -رضي الله عنها- حين سُئلتْ عن نكاح المتعة فقالت: بيني وبينكم كتاب الله وقرأت الآية وقالت: فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدى، والمرأة المستمتع بها في نكاح التأقيت ليست زوجة ولا مملوكة، أما كونها غير مملوكة فواضح، وأما الدليل على كونها غير زوجة فهو انتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث والعدة والطلاق والنفقة ونحو ذلك، فلو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق ووجبت لها النفقة، فلما انتفعت عنها لوازم الزوجية علمنا أنها ليست بزوجة لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم بإجماع العقلاء، فتبين بذلك أن مبتغي نكاح المتعة من العادين المجاوزين ما أحل الله إلى ما حرم.(3/418)
(11/31)
---
ثانيًا: دليل التحريم من السنة، فنكاح المتعة أباحه -صلى الله عليه وسلم- قبل خيبر لعزوبة بالناس كانت شديدة ولكثرة أسفارهم وقلة صبرهم عن النساء، ثم حرمت زمن خييبر ثم أبيحت عام الفتح، ثم نهي عنها إلى يوم القيامة والدليل على إباحتها قبل خيبر ثم تحريمها ما رواه البخاري في صحيحه أن علياً قال لابن عباس -رضي الله عنهما-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر) رواه البخاري وكلمة (نهى) هنا تدل على أنه كان مباحاً قبل خيبر ثم نهي عنه في خيبر والأحاديث في تحريم النكاح متعددة ومشهورة حتى قال ابن رشد: وأما نكاح المتعة فقد تواتر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحريمه.
أما معنى قوله -عز وجل-: ?إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ? بمعنى يعفُّون أنفسهم بالحلال مع زوجاتهم أو ما ملكت أيمانهم؛ لأن الله -عز وجل- أحلهما.
في الحقيقة لا أملك الآن بعد استماعي لهذا الجواب إلا أن أسجل شكري للمجيب، يعني هذه الاستفاضة وذكره لهذه الأدلة المتنوعة واستدلاله بالأحاديث وبقول أم المؤمنين عائشة في غاية من الجودة، فأشكره على ما قدم، وجزاه الله خيراً.
هي أخت من المغرب فضيلة الشيخ
جزاها الله خيراً، أرجو أن تكون تسمعنا الآن وأشكرها على ما قامت به من جواب في الحقيقة متقن ومحكم جداً.
السؤال الثالث: كلمة الخلق تطلق ويراد به أكثر من معنى؟ أذكر ما تعرفه من ذلك؟ مؤيداً قولك بالدليل؟
وكانت الإجابة:
كلمة الخلق تطلق ويراد بها التقدير وهذا يدخل فيه الإنسان والخالق مثلاً من يأخذ مقاسك وتقديراتك ليخيط لك ثوباً أو يخلق لك ثوباً والإيجاد من العدم وهذا خاص بالله -سبحانه وتعالى- قال الله تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ? [الروم: 22] هذا والله أعلم
(11/32)
---(3/419)
في الحقيقة الجواب يعني فيما ذكره الأخ المجيب صحيح، ولكنه لم يكثر فالخلق يأتي بمعنى التقدير وبمعنى الإيجاد من العدم هذا ما ذكرته في اللقاء السابق، وكنت حينما وضعت السؤال تركت شيئًا لم أذكره لعل باحثاً يأتي به، وهو أيضاً الخلق تطلق على افتراء الكذب وهذا قد ورد في قول الله تعالى: ?وَتَخْلُقُونَ إِفْكً? [العنكبوت: 17] يعني كذباً، والله أعلم.
الأخ الكريم من السعودية يقول: الفرق بين الرسل وبيننا نحن إذا احتجنا إلى شيء نرجع إلى الوسائط، نتوسط بفلان وفلان، هل توسطنا في هذا الأمر من أمور الدنيا نأثم فيه؟ ويكون هناك شرك أم أن الوسائط هذه التي نتوسط بها قبل أن نلجأ إلى الله نتوسط بفلان من الناس أو غيره هل هناك إثم؟
أعتقد يا شيخ كان يسأل عن التوسل في أمور الدنيا بالأشخاص؟
هو في الحقيقة معلوم من دين الإسلام -تبارك وتعالى- أن العبد في أموره كلها يرجع إلى الله -تبارك وتعالى-، ولا يسأل المخلوق فيما يقدر عليه الخالق، ولا يقدر عليه المخلوق، لا يسأل إلا الله -تبارك وتعالى-، أما بالنسبة لما سأل عنه أولاً الفرق بيننا وبين الرسل، فنحن جميعاً بشر والرسل فضلوا على البشر بالوحي والرسالة، وكانوا يلجؤون إلى الله -تبارك وتعالى- كما نلجأ نحن، ولكن بالنسبة لسؤاله بعد أن ذكرت، أن العبد في أموره كلها يسأل ويرجع إلى الله -عز وجل-، إلا أنه لو أن إنساناً طلب من إنسان شيئًا مما يقع تحت مقدوره، فلا شيء في ذلك، وأضرب على ذلك مثلاً:
(11/33)
---(3/420)
لو أن مثلاً غريقاً, إنساناً وقف على شاطئ بحر أو نيل أو نهر ثم سقط فيه، ورأى الناس أمامه فناداهم أن يغيثوه واستنقذ بهم، فنقول له: أنت مشرك، ويتركوه؟!! لا.. في هذه الحالة، يغيثوه؛ لأن هذا أمر في مقدورهم، فما يستطيع أن يقدمه العباد بعضهم لبعض من منافع ويطلب البعض من البعض شيئًا من ذلك، فهذا لا حرج فيه، مع الاعتقاد أن الذي أوجد هذه الأشياء ومكَّن العبدُ مثلاً المعطي أو الذي تقضى الحاجة على يديه، يعتقد السائل أن الله -عز وجل- هو الذي أعطاه وهو الذي سخره وهو الذي تفضل عليه وهو الذي مكنه مما أعطاه إياه، ولكن المشكلة الخطيرة أن يطلب العبد من المخلوق شيئًا لا يقدر عليه إلا الخالق -سبحانه وتعالى-، ومع ذلك لعله من باب الورع لو استطاع الإنسان أن لا يسأل الناس شيئًا فليفعل، والله أعلم.
الأخ الكريم من مصر يقول: قلتم في قول الله -سبحانه وتعالى-: ?وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ? هل المعلوم في التفسير يا دكتور عبد الله مكان الجودي؟
بالنسبة ?وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ? المراد به الأرض التي نزلت عليها أو رست عليها السفينة، وقد وردت أمور كثيرة متعددة في كتب التفسير في تحديد ذلك، ولكن كثير من أئمة التفسير أعرضوا عن ذلك وقالوا بأن غالب ما يذكر في هذا من الإسرائيليات ولا يوجد شيء يعتمد عليه في هذا والذي يعنينا صلب هذه القصة والعبر التي جاءت فيها ومن خلالها وامتنان الله -عز وجل- على عبده نوح -عليه السلام- بهذه السفينة، ونجاته فيها وهبوطه بعد ذلك إلى الأرض والله أعلم.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: ما هي الأسباب المعينة على تقوية ذاكرة الحفظ علماً أنني دائماً أشتكي من النسيان؟
(11/34)
---(3/421)
أعتقد بأن الجميع قد يشكون من هذا الداء أو المرض وفي الحقيقة أرجع أنا شخصياً بشيء من النظر, ومراجعة النفس إلى هذا بكثرة المشاغل التي يتحملها الإنسان، والإنسان لو خفف عن نفسه بعض المشاغل التي يقوم بها ويتحملها ويسندها إلى نفسه، يعني أطمع أن يكون استذكاره إلى درجة كبيرة فيه شيء من القوة، ومن الحفظ، هذا شيء.
الشيء الثاني: كنا نتعلم من مشايخنا -رحم الله من مات وحفظ الله من هو حي- أن الطاعة وكثرة تلاوة القرآن الكريم وأن يعيش العبد ذاكراً لله -عز وجل- من أسباب الحفظ، وكان دائماً بعض مشايخنا يلفتون أنظارنا إلى أن بعض المعمرين في السن يعني من تجاوز الثمانين تجد أحيانًا شيئًا كثيرًا في جسده يعني غير قوي ومع هذا تجد ذاكرته وحافظته قوية جداً، ويؤثر عن بعض السلف أنه كان صاحب ذاكرة قوية ويعني أيضاً صحة قوية فلما سئل عن ذلك قال: «هذه جوارح حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر»، فعلينا بالطاعة والتزام قول الحق -تبارك وتعالى- والطلب من رب العزة والجلال أن يحفظ علينا عقولنا ونسأل الله أن يستجيب لنا والله أعلم.
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة من الإمارات تقول: عند تلاوة قول الله -تبارك وتعالى-: ?إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ?56?? [الأحزاب: 56] في الصلاة أي تقصد عند قراءتها في الصلاة وخارجها، فهل يشرع في هذه الحال الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
(11/35)
---(3/422)
في الحقيقة ورد في النوافل أمرا قاس العلماء الصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوافل عليه، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان يقرأ على الجن: ?فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى? قالوا: (ولا شيء من ذلك ربنا نكذب فلك الحمد) فقالوا أيضاً: في النوافل النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا مر بآية فيها سؤال أو طلب سأل الله -عز وجل- وإذا مر بآية فيها عذاب استعاذ بالله -تبارك وتعالى-، وكان هذا في النوافل، فقيل: في النوافل يصلي العبد على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا ورد ذكره، والله أعلم.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم من مصر يقول: الرجاء التوضيح ما هو الفرث والدم المقصود في آية النحل؟
لا شك هذه أمور معروفة الفرث هو ما يخرج من الحيوان نتيجة الطعام الذي يأكله، والدم الذي هو يسير في عروقه وجسده، والعبرة فيه كما ذكرت وأشرت أن اللبن الذي يخرج من هذا الحيوان قريب من هذه الأحشاء التي هي مليئة بهذا الروث وبهذا الدم ومع ذلك يخرجه رب العزة والجلال لبناً سائغاً صافياً صالحاً يستخدمه الإنسان في منافع وألوان متعددة.
الأخ الكريم من المغرب له سؤالان: سؤاله الأول يقول: سيدنا نوح -عليه السلام- لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين، السؤال: هل قومه كانوا معمرين مثله؟
(11/36)
---(3/423)
في الحقيقة لم يأتنا شيء من ذلك، ونحن في مثل هذه المسائل الغيبية نقف عند حدود النص الوارد، فالله -عز وجل- أخبرنا بأن نوحاً ظل يمكث في قومه يدعوهم والناس لا شك حتى الآن وحتى في أيام بعثة النبي -صلوات الله وسلامه عليه- يتفاوتون في الأعمار، منهم من يموت صغيراً ومنهم من يموت شاباً ومنهم من يموت كبيراً وهكذا، أما أن نستطيع أن نحكم بأن رجلاً كان موجوداً من البشر أو امرأة ومكثت هذا السن كنوح -عليه السلام- هذا أمر لا سبيل لنا إليه إلا بوحي ولم يرد في ذلك شيء لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية المطهرة، فعلينا أن نقف إذن عند حدود النص الوارد في ذلك ولا نتعداه.
أعتقد سؤاله الثاني فضيلتكم جاوبتم عليه ولكن أقوله أيضاً، يقول: هل زوج نوح -عليه السلام- عاشت ألف سنة إلا خمسين؟
لا شك أن زوج نوح هلكت ممن هلك, متى زوجها نوح؟ الله أعلم، فهي هلكت مع من هلك مع قوم نوح، ولكن هل عمرها كان كعمر نوح؟ هذا الله أعلم، فلا ندري متى تزوجها نوح -عليه السلام-.
الأخ الكريم من فرنسا له سؤالان: السؤال الأول: قال الله -عز وجل-: ?فَقُلِ الْحَمْدُ للهِ? لماذا أمر الله نوحاً أن يحمد الله ولم يأمر الآخرين بالحمد؟
قلت وأنا أتكلم: بأن الأمر لنوح -عليه السلام- وأيضاً أمر لمن معه، ولكن مُيز أو فُضل أو ذكر نوح -عليه السلام- للتنويه بذكره والإشادة به -صلوات الله وسلامه عليه- فخصه الله -عز وجل- بهذا الأمر تكريماً له؛ لأنه هو الذي عاش لهذه المسألة وهو الذي تعب فيها وهو الذي واجه هؤلاء الأقوام وهو الذي ناله من الأذى ما ناله، بخلاف قومه الذين حملهم معه، فنوح -عليه السلام- بهذا كله تفضل الله -عز وجل- عليه، وكرمه فذكر الأمر الموجه إليه ومن معه لا شك يتبع نوح -عليه السلام- في هذا القول وقد قلت بأن علينا نحن إذا حصل لنا كما حصل لنوح ومن معه فلنحمد الله -عز وجل- أيضاً على هلاك الظالمين وما إلى ذلك.
(11/37)
---(3/424)
سؤاله الثاني فضيلة الشيخ يقول: من خلال هذا الشرح هل يصح أن نقول: إن نوحاً كان أصبر من أيوب -عليهما السلام-؟
هو في الحقيقة التفضيل بين الأنبياء في مثل هذه الجزئيات وهذه نصوص أمر غير وارد لماذا؟ لأن الله -عز وجل- نهى عن المفاضلة بين الأنبياء وبين المرسلين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خاتم الأنبياء والمرسلين قال الله له: ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ? [الأحقاف: 35] ولا يعني ذلك أن أولي العزم من الرسل أصبر من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فكلاهما أو كل الأنبياء والمرسلين كانوا يتميزون بهذه الخصال الحميدة والصفات الجليلة، والتفاضل الوارد بينهم لا ينبغي أن يذكر بهذا الأسلوب، ونحن نؤمن بأن بينهما تفاضلاً ولكن ما وردنا فيه قلنا به وما لم يرد فنقول: الله أعلم -سبحانه وتعالى- به لأن الذي أخبرنا عن ذلك هو ربنا سبحانه لما قال: ?تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ? [البقرة: 253] والنبي -عليه الصلاة والسلام- نفسه رغم أنه (سيد ولد آدم ولا فخر) قال: (لا تفضلوني على يونس بن متى) وفي رواية: (لا تفاضلوا بين الأنبياء) والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: ذكرتم فضيلتكم دعاء نوح -عليه السلام- قوله تعالى: ?فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ?10?? [القمر: 10] ?قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ?30?? [العنكبوت: 30] فهل ما نراه الآن من الدعاء الطويل في الصلاة يعني يمكث ساعة أو نصف الساعة يدعو هل هذا من التعدي أو هل يجوز ذلك شرعًا؟
(11/38)
---(3/425)
هو في الحقيقة السنة في الدعاء هو فعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يعني جوامع الكلم في مثل هذا حتى لا يشق الإمام على نفسه وعلى المأمومين قد يكون هذا أولى من غيره، يجلس الإنسان ساعة أوساعة ونصف فيشق على نفسه ويشق على الآخرين وأذكر لما الرجل جاء للنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول له: (لا أحسن الدعاء كما تدعو، ولكني أسأل الله -عز وجل- الجنة وأستعيذ به من النار، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال له: حولها ندندن)، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- حتى لما علم عمر بن الخطاب الدعاء في الوتر وما إلى ذلك كلمات قليلة وفيها منافع عظيمة فالإنسان يقول بمثل هذا ويقول بما عنده يعني مما يحتاج إليه ويجمل القول في هذا, فلعل هذا يكون أنفع وأصوب لعدم المشقة على نفسه وعلى الناس أيضاً وعلى كلٍّ نسأل الله -عز وجل- القبول لكل من أخلص وتوجه إلى ربه -سبحانه وتعالى- بالدعاء.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: هل يشرع لمن نزل مكاناً أو نزل منزلاً أن يقول هذا الدعاء: ?رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ?؟
لا بأس إذا قال الإنسان هذا هي دعوة حتى قبل أن ينزل الإنسان يدعو الله -عز وجل- أن ينزله منزلاً مباركاً ومن السنة النبوية جاء أن الإنسان يقول دعاءً آخر خاصة إذا نزل في مكان موحش كقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك) إذن الأمور تؤخذ على حسب حالة الإنسان إن نزل في مكان موحش ويخاف من شيء على نفسه فليدعُ هذا الدعاء، وإن أراد يعني منزلاً مباركاً جميلاً أو قصراً واسعاً فليطلب من الله -سبحانه وتعالى- شيئًا من ذلك وهي من الأمور المباحة والإنسان يسأل ربه في الدنيا والآخرة.
(11/39)
---(3/426)
الأخ الكريم من السعودية يقول: أرجو أن تسدوا نصيحة عامة لإخواننا المسلمين الذين أوذوا وحوربوا دون أي خطيئة سوى أنهم يقولون: ربنا الله وهل يتشابه واقعهم مع وضع قوم نوح؟
في الحقيقة كل من يبتلى في سبيل الله -عز وجل- نسأل الله له الثبات على الدين ونعرف أن الإنسان يبتلى على قدر دينه كما ذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهذه قد تكون محناً وابتلاءاتٍ من الله -عز وجل- وقد يكون السبب فيها أفعال بعض العباد، يعني ?إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ? [الرعد: 11] والإنسان على كل إذا ابتلي عليه أن يصبر وأن يسأل الله -عز وجل- رفع الابتلاء الذي وقع به، ونحن الآن بفضل الله -تبارك وتعالى- ليس عندنا أنبياء ورسل حتى نقيس أنفسنا بزمن نوح أو زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ونحن الآن في بلادنا -بحمد الله تبارك وتعالى- وفضله نؤدي ونعبد الله -عز وجل- ونقوم بما يمكن القيام به دون أن يتعرض لنا أحد أو يمنعنا أحد من عبادة الله -تبارك وتعالى-، فلا أرى قياساً بين النبي وما صار مع قومه وبين ما نحن عليه الآن، وإن ابتلي الإنسان عليه أن يصبر وأن يدعو الله -عز وجل- أن يفرج عنه ما فيه ونحن نسأل الله -سبحانه وتعالى- لكل مبتلىً بشيء من ذلك أن ينجيه رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- من القوم الظالمين، والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: أود أن أسأل شيخنا: كلنا يوقن بأن الله -عز وجل- هو الذي يعلم الغيب وأنه هو الذي ينزل الغيث ولكن هل الأخذ بكلام علماء الأرصاد يعني يقولون: أن الجو سيمطر غداً، أو الأخذ بكلام بعض الأطباء الذين يقولون: إن الجنين أنثى أو ذكر هل يتنافى ذلك مع اليقين بالله -عز وجل-؟
(11/40)
---(3/427)
طيب جزاك الله خيراً، هذا سؤال في الحقيقة طيب جدًا وجميل ومفيد، من يخبر الآن عن توقع نزول المطر أو من يخبر عن الجنين مثلاً وهو في بطن أمه بأنه ذكر أو أنثى، هذا في الحقيقة إن تم عن دراسة علمية مع التقدم العلمي اليوم أو التقنية الواقعة اليوم، فهذا لا شيء فيه ويعتبر أمراً من التوقع ليس مسألة غيبية ولكن هي قياسات يتوقع من خلالها أن يكون، ويخبرون وقد يكون وقد لا يكون، أما الإخبار بأن الجنين ذكر أو أنثى وهو في بطن أمه فهذا إلى الآن لا يعلم إلا بعد نفخ الروح في الجنين في بطن أمه، ونفخ الروح في الجنين يكون بعد أربعة أشهر، والملك المرسل الذي ينفخ الروح هو من المخلوقين ويعلم هل هو سيكون ذكراً أو أنثى فكون الطب الحديث يعرف الآن ويتقدم العلم الحديث ليخبرنا بأنه ذكر أو أنثى فأمر خرج في الوقت بعد الشهر الرابع أو في الخامس، يكون الأمر قد خرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة؛ لأن الملك قد علم هو ذكر أو أنثى، وأيضًا علم الطبيب بذلك ليس رجماً بالغيب في هذه الحالة، وإنما نتيجة التوصل العلمي الذي وصل إليه، فهو لا يأتي إلى امرأة يراها ويقول: والله أنت فيك ذكر أو أنثى، لا، هو يتوصل إلى هذا الأمر نتيجة دراسة علمية وأجهزة متطورة وعلى كل معرفة الإنسان بهذا الأمر بالذات كان بعد أن خرج من عالم الغيب إلى عالم الشهادة؛ لأن الملك الذي ينفخ الروح ويقول بأنه ذكر أو أنثى وشقي أو سعيد من المخلوقات، فخرج الأمر من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، والله أعلم، وجزاكم الله خيراً.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة
السؤال الأول: قال تعالى: ?وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ?18?? ماذا أفاد الجمع في قوله: ?وَأَنْزَلْنَا?؟ وما هي الفوائد التي أفادتها هذه الآية؟
(11/41)
---(3/428)
السؤال الثاني: ما المراد بالشجرة الوارة في قوله تعالى: ?وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ?؟ وعلى أي شيء عطفت كلمة ?شَجَرَةً?؟ وما فوائد هذه الشجرة؟
السؤال الثالث: ما هي الشُبَهُ التي أنكر بسببها قومُ نوحٍ نبوته -عليه السلام-؟
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(11/42)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الثاني عشر
الدرس الثاني عشر
تفسير سورة المؤمنون
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً ومرحباً بكم وبالمشاهدين الكرام والحاضرين ويسرنا أن نستمر في هذه اللقاءات المباركة -إن شاء الله تبارك وتعالى- وسيدور الحديث في هذا اليوم حول محاور متعددة للآيات التي سنستمع إليها -إن شاء الله تعالى- بعد قليل ومحاور هذا اللقاء كالتالي:
المحور الأول: الأنبياء والمرسلون دعوا إلى عبادة الله وحده دون سواه.
المحور الثاني: من كذب بالأنبياء والمرسلين أذاقه الله العذاب الأليم.
المحور الثالث: تتابع إرسال المرسلين لتبليغ الدعوة عن رب العالمين.
والآن نستمع إلى الآيات التي سأتحدث عنها من خلال هذه المحاور -إن شاء الله تعالى- فمع الأخ الشيخ فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(12/1)
---(3/429)
?ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ?31? فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ?32? وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ?33? وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ?34? أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ?35? هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ?36? إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ?37? إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ?38? قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ?39? قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ?40? فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?41? ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ?42? مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ?43? ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ?44??.
جزاك الله خيراً.
(12/2)
---(3/430)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ?102?? [آل عمران: 102] ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ?1?? [النساء: 1] ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ?70? يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ?71?? [الأحزاب: 70، 71] أيها المشاهدون الكرام هذه الآيات الكريمات التي استمعنا إليها الآن سأتحدث عنها أولاً ومع المحور الأول.
المحور الأول: الأنبياء والمرسلون دَعَوا إلى عبادة الله وحده دون سواه:
(12/3)
---(3/431)
والآية التي معنا تبدأ بقول الله جل ذكره: ?ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ?31?? ذكر الله -عز وجل- فيما مضى وفي اللقاء السابق تحدث عن قصة نوح -عليه السلام- وما كان من قومه له، ثم بعد ذلك يخبر ربنا -سبحانه وتعالى- أنه أخرج بعد قوم نوح -عليه السلام- قرناً آخرين، والآيات لم تعين أيةَ أمةٍ هذه, ومن الذي أرسل لهذه الأمة ولعل هذا السياق بهذا الأسلوب كي يتعلم المخاطب ويعرف أنه إذا كذب مكذب بالأنبياء والمرسلين أياً كان هو سيحيق به العذاب الأليم كما نزل بهؤلاء المكذبين، ومع ذلك فقد ورد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- أن المراد بهؤلاء الأقوام هم قوم عاد الذين أرسل إليهم هود -عليه السلام-، ومستند عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- ومن ذهب من المفسرين إلى ذلك وعلى هذا أكثر المفسرين كما ذكر الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- الذين ذهبوا إلى هذا القول استندوا إلى أن الله -عز وجل- قال لقوم عاد بعد قصة قوم نوح أن هوداً -عليه السلام- قال لهم كما في سورة الأعراف: ?وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ? [الأعراف: 69] فإذن الأمة التي جاءت بعد قوم نوح -عليه السلام- هم قوم عاد، كما جاء في سورة الأعراف وفي سورة هود وفي سورة الشعراء، قصة هؤلاء القوم بعد قوم نوح -عليه السلام- ومن هنا ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذه الآية وبقول الله -تبارك وتعالى-: ?ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ?31?? أنهم قوم عاد الذين بعث فيهم هو هود -عليه السلام- وذهب البعض إلى أن المراد بهؤلاء قوم صالح، ألا وهم ثمود، واستدلوا على ذلك بقول الحق -تبارك وتعالى- في نهاية هذه القصة ?فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ? والذين دمروا بالصيحة كما جاء الذكر في القرآن الكريم بذلك هم قوم صالح -عليه السلام- ولكن يظهر والله أعلم أن المراد كما هو الحال(3/432)
(12/4)
---
عند كثير من المفسرين وكما ذكر الإمام الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- أنهم قوم عاد لأن هذا ترتيب مطابق لما جاء في القرآن الكريم، وقد أشرت الآن قبل قليل إلى أن عدم ذكر هذه الأمة والنص عليها كي يحذر كل مكذب من عذاب الله -تبارك وتعالى-، والقرآن الكريم حينما يذكر لنا هذا القصص إنما أراد من كل مستمع له أن يتدبر وأن يتذكر وأن يعتبر بهذا القصص.
بعد أن ذكر رب العزة والجلال أنه لم يخلِ فترة بين نوح -عليه السلام- وبين ما حصل لقومه من الغرق الذي وقع بهم كما ذكرت وأنه -سبحانه وتعالى- أنشأ بعدهم قرناً آخرين أيضاً أرسل فيهم بعضاً من الأنبياء والمرسلين ولم تحدد الآيات أيضاً من هو النبي المرسل إلى هؤلاء القوم قال جل ذكره: ?فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ? أفادت هذه الآية أن الحق -تبارك وتعالى- أرسل إلى هذا القرن أو إلى هذه الأمة أيضاً رسولاً يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- وهنا قال -سبحانه - وتأملوا حتى كلمات القرآن الكريم وحروفه، قال: ?فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ? هذه تفيد أن النبي المرسل كان من هؤلاء بقوله: ?فِيهِمْ? قبل أن يقول: ?فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ? ?رَسُولاً مِّنْهُمْ? نص على أنه منهم ولكن كون الله -تبارك وتعالى- يأتي بفي ويعدي بها فعل أرسل وهو يتعدى بعلى ليفيد أن النبي المرسل من نفس البيئة التي منها هؤلاء القوم وأنهم نشأ فيهم ?فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ? واقتضت حكمة الحق -تبارك وتعالى- أن يكون النبي المرسل من جنس القوم المرسل إليهم، لماذا؟ حتى يعرفوا لغته ويعقلوا كلامه ويأنسوا إليه والله -عز وجل- قد نص على ذلك في كتابه كما جاء في سورة إبراهيم: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ? [إبراهيم: 4] ولا يعترض معترض ونخشى من(3/433)
المعترضين على
(12/5)
---
بعثة النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم- لأنه قد يقول قائل بأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- خرج من بين ظهراني العرب ولكنه مرسل إلى العرب والعجم والعجم لا يعرفون العربية، فكيف نقول: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ? [إبراهيم: 4] ؟ لا شك أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين وأنه فُضل على غيره بأمور متعددة منها: أنه بعث -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الناس كافة، ولا شك أن اللغات متفاوتة مختلفة، ولكن لما كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من العرب نزل القرآن الكريم بلسان العرب، وحمل العرب أولاً الدعوة إلى دين الله -تبارك وتعالى- وعقلوا من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم بعد ذلك قاموا بتبليغ الرسالة المحمدية إلى غير العرب وقد وقع ذلك عن طريق الترجمة والدعوة بالمشافهة إلى الله -تبارك وتعالى- وكل من وصله الترجمة إلى دين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بلغته فتكون قد أقيمت عليه الحجة بذلك، ولا فرق بين أن ينطق الإنسان بالعربية وتقوم عليه الحجة وبين أن ينطق بغير العربية ولكنه يفهم الحجة التي بُعث بها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ثم يأبى بعد ذلك لا فرق بين هذا وبين هذا، فكلاهما إذا وصلت إليه الحجة بأي طريق فتكون قد أقيمت عليه, ونحن نشاهد اليوم بأن المسلمين ولله الحمد وفي السابق كانوا ينتقلون إلى البلاد هنا وهناك ويبلغون دعوة الله -تبارك وتعالى- حتى دخل الكثير في دين الله -عز وجل- ممن لا يحسن اللسان العربي بعد أن أقيمت عليهم الحجة بدين الله -تبارك وتعالى-، ولا يقول قائل أيضاً بأننا نؤمن بأنه إلى العرب خاصة وقد ذهب إلى هذا بعض الناس من أهل الكتاب على وجه الخصوص قالوا بأن بعثت النبي -صلى الله عليه وسلم- المرسل إلى العرب خاصة بالعرب ونحن نأخذ عليهم هذا القول فنقول: إن آمنتم وصدقتم أنه(3/434)
رسول يوحى إليه وأنه مرسل
(12/6)
---
إلى العرب وجب عليكم أن تصدقوه في كل ما يقول طالما أنك آمنت وصدقت أنه رسول فيجب عليك أن تصدقه فيما يقول بعد ذلك، وهو قد قال: بأنه رسول إلى الناس كافة قال الله عنه في كتابه: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ?107?? [الأنبياء: 107] صلوات الله وسلامه عليه، ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا? [الأعراف: 158] وكما ذكر -صلى الله عليه وآله وسلم- بأنه فضل على الأنبياء بخمس وفي رواية بست، وذكر منها: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) صلوات الله وسلامه عليه.
هذا الرسول المرسل إلى هؤلاء القوم دعاهم بما يدعو به كل نبي ورسول إلى الله -عز وجل-، ?فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?، وهذا في الحقيقة قاسم مشترك بين الأنبياء جيمعا، وقد أشرت إلى هذا فيما مضى ولا يحتاج التذكير به الآن لأنني أعتقد بأن هذا صار من الأمور المعروفة لكثرة ما يتردد من الحديث والكلام حوله من أهل العلم الذين يعرفون كيفية دعوة الأنبياء والمرسلين والأسس التي قامت عليها هذه الدعوة.
(12/7)
---(3/435)
كل نبي أتى إلى قومه ابتدء قوله ودعوة قومه إلى الله -عز وجل- بإفراد الله -تبارك وتعالى- ب العبودية في قصة نوح كما مضى ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ? [المؤمنون: 23] وفي سورة الأعراف: ?وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ? [الأعراف: 65] ?وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ? [الأعراف: 73] ويصبح بالتالي الدعوة إلى توحيد الله -عز وجل- وإلى عبوديته وحده دون سواه هي لب دعوات الأنبياء والمرسلين وأن جميع الأنبياء والمرسلين اشتركوا في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- في هذا الأمر المهم العظيم ألا وهو إفراد الله -تبارك وتعالى- بالوحدانية، وبالتالي يجب على الدعاة إلى الله أن يعرفوا هذا المعنى وأن يقفوا على هذا الفهم وأن يبتدئوا دعوتهم بدعوة الناس إلى الله -تبارك وتعالى- وإلى إفراد الله -عز وجل- بالوحدانية لأن هذا هو الهدف الأصلي من دعوة الأنبياء وبعثة المرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم- ويجب على الدعاة إلى الله أن يفتتحوا دعوتهم وعوة من يدعونهم إلى الله -عز وجل- بالقيام بالدعوة إلى التوحيد وإرساء قواعد الملة على لا إله إلا الله محمد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(12/8)
---(3/436)
ثم قالت الآية لهم: ?أَفَلاَ تَتَّقُونَ? وفي هذا زجر ووعيد وسيأتي له تكرار أيضاً وسبق أن ذكر في قصة نوح -عليه السلام- يعني يا أيها المخاطبون ألا ترتدعون عندما يدعوكم الأنبياء والمرسلون إلى الله -عز وجل- إلى الله -عز وجل- فتجعلوا بينكم وبين عذاب الله وبين غضب الله وبين سخط الله وقاية فتستجيبون لدعوة الأنبياء والمرسلين، نأمل ذلك من سائر الأمم والشعوب أن يتقوا الله -تبارك وتعالى- وأن يعرفوا لماذا وجدوا؟ وما هو الهدف من خلق الناس جميعاً؟ إنما الهدف الواضح الذي نص عليه القرآن الكريم والعاقل يدركه هو عبادة الله وحده دون سواه فليجعل العبد إذن بينه وبين عذاب الله -سبحانه وتعالى- وقاية.
(12/9)
---(3/437)
بعد ذلك تذكر الآيات خطاب القوم الذين أرسل فيهم هذا الرسول الذي لم يرد له ذكر ولم يسم الله -عز وجل- قومه في هذه الآيات اعترضوا أيضاً على دعوته وسلكوا مسلك السابقين فقالوا كما ذكر الله عنهم: ?وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ?33?? نتأمل معاً هذه الآية هذا القول أيضاً من هؤلاء الناس سبق من قوم نوح وأتى بعد هؤلاء القوم أيضاً للأنبياء والمرسلين والله -عز وجل- في سورة الأعراف أتى بمثل هذا السياق ولكنه لم يأتي بالواو قال: ?قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ? [الأعراف: 75] كأن سائلاً هناك سأل: بعد أن كذب هؤلاء القوم رسولهم الذي أرسل إليهم ماذا كان؟ أو ماذا قالوا لما أرسل إليهم هذا الرسول؟ ?قَالَ الْمَلأ? وهنا عطف الله -عز وجل- قولهم على قول النبي الذي أرسل إليهم, عطف كلاماً باطلاً على الكلام الحق، الكلام الحق: ?أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ? الكلام الباطل: هو هذا الذي قاله هؤلاء الناس، ولعل العلة في ذلك أن ينظر الإنسان بعين الاعتبار وأن يوازن بين القولين ليعرف أيهما أهدى سبيلاً؟ ومن الذي سلك الصراط المستقيم؟ والحق مع من؟ ?وَقَالَ الْمَلأ? وهم أيضاً من قومه لم يخرجوا عن قوم الرسول المرسل إليهم ماذا قالوا؟ هذه الآية ذكرت صفات اتصف بها هؤلاء الناس, ثم ذكرت أيضاً لهم شبهات قامت في عقولهم دفعتهم ودعتهم إلى أن يردوا دعوة هذا النبي والرسول، ما هي الصفات التي اتصف به هؤلاء الذين ردوا دعوة هذا النبي؟
(12/10)
---(3/438)
أولها: الكفر بالله تعالى: ?وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا? وكفر هؤلاء الناس أيضاً من أشد أنواع الكفر؛ لأنهم جمعوا بني كفر التكذيب وكفر العناد وكفر الإباء والإعراض عن الاستماع لتوجيهات النبي المرسل إليهم من قبل الله -تبارك وتعالى- كفروا بالله -عز وجل- كفروا بالنبي المرسل إليهم, عاندوا دعوته, أعرضوا عن الاستجابة له، هذه هي الصفة الأولى التي اتصف بها هؤلاء القوم أنهم كفروا بالله وبالنبي المرسل إليه.
الصفة الثانية: ذكرها ربنا في كتابه هنا وفي هذه الآية فقال: ?وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآَخِرَةِ? يعني أنهم لم يؤمنوا بيوم سيرجعون فيه إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وسيأتي حديث من خلال هذه الآيات حول هذا المعنى وحول هذا السياق -إن شاء الله تبارك وتعالى- بعد قليل.
الصفة الثالثة: ذكرت عن هؤلاء القوم أنهم من المترفين الذين ركنوا إلى الحياة الدنيا وأعجبوا بها فهم قوم منعمون يحبون العيش في رغد ولا يحبون شيئًا من التكاليف عبرت عن ذلك الآية بقول الله -تبارك وتعالى-: ?وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا? هذه هي الصفات الثلاثة التي اتصف بها هؤلاء القوم.
أما الشبهات التي وقعوا فيها أو قامت بعقولهم وكانت سبباً في أن يردوا دعوة هذا النبي وهذا الرسول ذكر القرآن الكريم عنهم هنا شبهتين:
(12/11)
---(3/439)
الشبهة الأولى: أنه بشر وقد ورد ذكرها مع قوم نوح قالوا: ?مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ? [المؤمنون: 33] وهؤلاء في الحقيقة قوم سفهاء ماذا يريدون؟ هل يريدون ملكاً ينزل عليهم من السماء؟!! وهل يمكن أن يستجيبوا لواحد من غير جنسهم يألفون إليه ويتكلمون معه ويخاطبونه ويتحدث إليهم ويجلس معهم؟؟ لا يمكن بحال من الأحوال إلا أن يكون الرسول المرسل من قبل الله -تبارك وتعالى- بشر من جنس البشر ولكنها شبهة أتى بها قوم نوح وأتى بها هؤلاء الناس وأتى بها من؟ المشركون في بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقالوا أيضاً بأنه لا يصلح أن يكون الرسول بشراً يأكل مما نأكل ويشرب مما نشرب ?وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ?7?? [الفرقان: 7] إلى آخر الآيات التي وردت في هذا السياق وهي تبين أيضاً اعتراض هؤلاء الناس على أن يكون النبي المرسل إليهم بشراً وهي شبهة واهية بكل المقاييس؛ ولذلك القرآن الكريم كما ذكرت سابقًا أعرض عن الجواب عن هذه الشبهات؛ لأنها لا تستحق أن يوقف عندها والصواب والأولى والصحيح أن يكون الرسول المرسل إلى القوم المرسل إليهم، أن يكون من جنسهم كي يألفونه ويأنسون إليه ولا يحدث منهم اشمئزاز منه، أو نفور أو بعد أو ما إلى ذلك، ولم يقتصر الأمر عند هذه الشبهة، هي الشبهة الأولى وستأتي بقية الشبهات، الشبهة الثانية، ولكن هم عقبوا على ذلك كما ذكر القرآن الكريم بتعقيب في غاية أيضاً من السف والضلال والجهالة، قالوا: ?وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ?34?? قالوا: أنتم لو أطعتم بشراً يأكل كما تأكلون ويشرب كما تشربون وينام كما تنامون، ويمرض كما تمرضون، إن أضعتم مثل هذا البشر ?إِنَّكُمْ إِذًا(3/440)
(12/12)
---
لَّخَاسِرُونَ ?34??وللأسف الشديد أنهم يؤكدون هذا الخسران، وهذا من السفه والضياع وهنا لي مع هؤلاء القوم ومع غيرهم ممن يقولون بقولهم أو يعتقدون ذلك وقفة يسيرة وهي: أن أعداء الحق في كل زمان ومكان يصفون أهل الحق بأنهم هم الخاسرون وبأنهم هم الكاذبون وبأنهم هم الضلال وبأنهم هم الذين يسعون في الأرض بالفساد، من السفه والحمق والضلال والجهالة أن يتهم أصحاب الدعوة إلى الله -عز وجل- بمثل هذه التراهات من القول، وقد تتابع المكذبون للأنبياء والمرسلين على الاستهزاء والسخرية من الذين يدعون إلى الله -عز وجل- ويصفونهم بالضلال وبالإجرام وبالخسارة وبالندامة وبأنهم أتوا بما لم يأتِ به أحد من قبلهم وأنهم هم المصلحون في الأرض وأعتقد أنه لم يحدثنا القرآن الكريم عن رجل بلغ من الكفر مبلغ فرعون، يعني في فساده وضلاله وطغيانه الرجل الذي كان يقتل ويذبح الأطفال ويأخذ النساء ويقتل الرجال ويسعى في الأرض بالفساد والله -عز وجل- قال عنه في كتابه: ?إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا? [القصص: 4] إلى آخر ما ذكره القرآن عنه ولا يعنيني الآن أن أذكر مثل ذلك لضيق الوقت ولكن تأملوا مع فساد هذا الرجل وبلوغه من الطغيان هذا المبلغ العظيم الكبير ماذا قال لقومه؟ ماذا قال لهم؟ ?ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ? [غافر: 26] لماذا؟ قال عن موسى الرجل النبي المصلح الأمين الصادق القوي قال: ?نِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ? [غافر: 26] أي فساد بعد فساد هذا الطاغية يخاف منه؟ وهكذا نجد أن دعوات الأنبياء والمصلحين تواجه من أعداء الحق بمثل هذا الإفك وهذا الضلال والبهتان، العلة في ذلك ماذا؟ تنفير الناس عن الاستجابة لدعاة الحق حتى يبتعدوا عنهم ولا يقربوا منهم، وأيضاً امرأة العزيز تدعو يوسف -عليه السلام- إلى الفاحشة والمنكر والرجل يهرب ويسعى(3/441)
ويهرب ويشهد
(12/13)
---
شاهد من أهلها أنه بريء ومع ذلك حينما رأت زوجها قالت: ?مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا? [يوسف: 25] هذا الرجل النبي الصالح العفيف الطاهر الذي هرب وفر من الفاحشة وقطعت ثيابه بسبب عدم الاستجابة مع ذلك تقول هذه المرأة التي استغرقت ووقعت في مستنقعات الضلالة والفواحش تقول لزوجها: ?مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا? [يوسف: 25] إذن فليحذر كل مسلم عاقل لبيب من أن يصف الذين يقومون بدعوة الناس إلى الله -عز وجل- أن يصف دعاة الحق بشيء من الباطل، أو بشيء من الجور، أو بشيء من الظلم، أو بشيء من الفساد، إن مثل ذلك أيها الكرام، مثل ذلك يُجَرِّئ أعداء الدين على عدم الاستجابة لله -عز وجل- وعلى عدم الدخول في دين الله -تبارك وتعالى- وكأن هذه الأمور أمور مبيتة عند هؤلاء الأقوام توارثوها جيلاً بعد جيل في طعنهم على دعوات الأنبياء والمرسلين ومن يكونون نيابة عن الأنبياء والمرسلين في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- هؤلاء السفهاء يقولون: ?وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ?34?? أي خسارة من أن يستجيب العبد لداع الله -تبارك وتعالى-؟ أي خسارة تقع على من يقول: يا رب على من يشهد لله بالوحدانية أي خسارة لرجل قام قلبه بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- واستجاب لدعوة الأنبياء والمرسلين.
(12/14)
---(3/442)
بعد ذلك ذكرت الآيات الشبهة الثانية: وقد جاءت عَرَضَاً في سياق الآية السابقة، بعدما قوال: ?وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ?34? أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ?35??، قالوا: أتصدقون بهذا الوعد الذي يأتي به هذا الرجل وهو أنكم بعدما تموتون وتتحللون وتصيرون تراباً أو عظاماً نخرة ليس فيها عصب ولا عروق ولا دماء هل يمكن بعدما صرتم كذلك أنكم ستخرجون من قبوركم؟ هذا أمر بعيد بعيد، وأكدوا ذلك بقولهم: ?هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ?36?? هذا مبالغة في الإنكار، وكرروا كلمة ?هَيْهَاتَ? يعني بعيد بعيد ما توعدون لتأكيد الشبهة عند من يمكن أن لا تكون عنده متمكنة، حتى يجعلوا كل أقوامهم بعيدين عن الله -تبارك وتعالى- ولا يؤمنون بالبعث والجزاء والنشور، ثم أكدوا الشبهة أكثر فأكثر فقالوا: ?إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ?37?? ?إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا? يعني ما الحياة إلا هذه الحياة، ومعنى ?نَمُوتُ وَنَحْيَا? يعني يموت أقوام ويحيا آخرون، فالحياة بين هؤلاء تسير على نمط بعضهم يكون حياً وبعضهم لا شك يصير إلى الموت، فيتبع بعضهم بعضاً، أو يخلف بعضهم بعضاً، قالوا: ?إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ?37?? وقولهم هنا أيضاً: ?وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ? عقب قولهم: ?إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا? تأكيد لعدم البعث والحشر والنشور.
(12/15)
---(3/443)
ثم سفهوا بعد ذلك أيضاً دعوة النبي المرسل إليهم من قبل الله -تبارك وتعالى- فقالوا: ?إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ?38?? يعني أن هذا النبي الذي بُعث إليهم جاء بمفتريات ويكذب وينسب نفسه إلى إله وهذا الأمر ليس بصحيح ومهما فعل ?وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ? وهذا في الحقيقة إغراق من هؤلاء الناس في الضلال، ولأن هذه الآيات تحدثت عن هذه الشبهة بشيء من التفصيل أود أن أرد عليها من خلال آيات القرآن الكريم أيضاً بصورة سريعة موجزة فأقول:
هؤلاء الناس قامت في أذهانهم شبهة عدم البعث والنشور، وهذه هي الشبهة الثانية التي ذكرها القرآن الكريم عن هؤلاء الناس، وهذه الشبهة أتى بها أيضاً في السابق قوم نوح، وأتى بها الأقوام الذين جاءوا بعدهم، وقالها المشركون للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأود أن أخاطب المشاهدين والمستمعين الآن بأن أدلة القرآن الكريم، أو ما يمكن أن أقول عنه: براهين القرآن الكريم لإثبات البعث والنشور في غاية من القوة والوضوح، وبيانها باختصار كما يلي:
(12/16)
---(3/444)
القرآن الكريم سلك مسالك متعددة في إثبات البعث والنشور بحجج عقلية ونقلية، يعني جاء في القرآن الكريم وعلى لسان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، منها: خلق السماوات والأرض، كيف ذلك؟ كيف نستدل بخلق السماوات والأرض على أن الله -عز وجل- يعيد الناس من جديد، السماء والأرض أكبر من خلق الإنسان، وهي أعظم منه، والذي يقدر على هذا الشيء الكبير يعجز عن غيره، ?أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ? [النازعات: 27] لا شك أن السماء والأرض أشد خلقا من الإنسان، ولذلك القرآن الكريم يستدل بخلق الله للسماوات والأرض على أنه قادر على إعادة الناس بعد ذلك من جديد، ?أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى? [يس: 80] يعني بلى قادر: ?وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ? [يس: 80] ?أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى? [الأحقاف: 33] أيضاً نقول: بلى قادر بل هو قادر -سبحانه وتعالى- على أن يحيي الموتى.
البرهان الثاني أو الدليل الثاني: خلق الإنسان نفسه وقد أشرت إلى ذلك في آيات سورة الحج، الذي خلق أول مرة يعجز أن يعيد الإنسان بعد ذلك من جديد، ولا أقف عند هذه النقطة لأني ذكرتها في سورة الحج ولكني أذكر عليها دليلاً واحداً من أدلة كثيرة متتابعة وهي قول الحق -تبارك وتعالى- ?أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ?15?? [ق: 15] هل عجزنا أن نخلقهم أول مرة والله ما كان ذلك بحال من الأحوال.
(12/17)
---(3/445)
الأمر الثالث: وقد أشرت إليه أيضاً فيما مضى: إحياء الله -عز وجل- للأرض بعد موتها، ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ? [فصلت: 39] استدل الله -عز وجل- بعد ذلك على إحياء الأرض بعد موتها على البعث والنشور فقال: ?إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى? [فصلت: 39].
البرهان الرابع والأخير: وأنا ما سقت البراهين السابقة إلا لأجله وهو في القرآن الكريم وهو أن الله -عز وجل- أحيا بعض الناس في الدار الدنيا ولو كانت نفس واحدة رغم أنه أحيى ألوف بعدما ماتوا والذي يحيي نفساً واحدة يعجز أن يحيي غيرها، قال الله: ?مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ? [لقمان: 28] هذا دليل قوي أيها الإخوة الكرام على البعث والحشر والنشر والجزاء والوقوف بين يدي الله -عز وجل- إذا كان الله-سبحانه-خلق وأمات في الدنيا وأحيا، بعد الموت في الدنيا هذا أمارة واضحة ودليل صريح أمام كل ناظر والقرآن الكريم قد ذكر ذلك في خمسة مواضع في سورة البقرة:
الموضع الأول: منها مع موسى -عليه السلام- ?وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ?55? ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?56?? [البقرة: 55، 56] ?أَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ? أماتهم الله -تبارك وتعالى- جميعاً، وبعد ذلك ماذا قالوا؟ في الدار الدنيا، قال: ?ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?56??.
(12/18)
---(3/446)
الموقف الثاني: ?وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ?72? فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ?73?? [البقرة: 72، 73] فقام، قال الله بعدها: ?كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى? [البقرة: 73] قتلوا قتيلاً ولم يعرفوا من القاتل, أرادوا أن يعرفوه فالله -عز وجل- أمرهم أن يضربوه ببقرة التي أمرهم أن يذبحوها فقام وأحياه الله -تبارك وتعالى-.
المؤقف الثالث: الذي جاء في سورة البقرة: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ? [البقرة: 243] ولا أود أن أقف عند هذا طويلاً لضيق الوقت، ولكني أذكر فقط هذه الأدلة وأستعرضها وهي دلالة واضحة على أن الله -سبحانه وتعالى- كما أحيا في الدنيا سيعيد الناس بعد ذلك.
الموقف الرابع الذي أشارت إليه الآيات أيضاً: وهي من سورة البقرة: ?أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا? [البقرة: 259] استبعد ذلك فالله -عز وجل- أراه آية في نفسه: ?فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا? ثم شك فقال: ?أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ? وذكر المفسرون أنه مات في أول النهار وقام في آخر النهار في اليوم الذي بعث فيه، فظن أنه نام بعض الساعات ?قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا? الشاهد أن الله -عز وجل- لما استبعد هذا الرجل أن الله يحيي هؤلاء القوم أو هذه القرية بعدما أماتها، أراه ربنا -عز وجل- دليلاً من نفسه، ?فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ? والذي يفعل ذلك في الدنيا يعجز أن يُوجدَ الناس بعد ذلك من جديد.
(12/19)
---(3/447)
الموقف الخامس: في إحياء الله -تبارك وتعالى- لمن مات في الدنيا ثم بعثه ما جاء في قصة إبراهيم -عليه السلام- مع الطير لما قال لربه: ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? [البقرة: 260] أمره الله -عز وجل- أن يأخذ أربعة من الطير ويقطعهن ويضع على كل جبل منهن جزءًا ثم قال الله له: ?ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? [البقرة: 260].
أعتقد بهذا البيان وبعد أن يستمع إليه مستمع لا يبقى عنده أدنى شك في أن الله -سبحانه وتعالى- يعيد الناس بعد ذلك من جديد، ولا يعجز ربنا -سبحانه وتعالى- أن يحيي هذه العظام النخرة بعدما أحيا بعضاً وأعلم عباده بما أحياه في الدار الدنيا.
(12/20)
---(3/448)
إذن هؤلاء القوم كذبوا النبي المرسل إليهم وردوا دعوته وأتوا بالشبهات التي ذكرتها الآن وهي أنه بشر, والتكذيب بالبعث والنشور ولم يستجيبوا له، لما فعلوا ذلك، ما كان من نبيهم المرسل إليهم والذي لم تذكره الآيات إلا أن يفعل إلا ما فعله نوح -عليه السلام- وبنفس الصياغة والأسلوب: ?قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ?39??، لجأ إلى الله -تبارك وتعالى- وطلب النصر ممن؟ ممن يملكه، ألا وهو رب العزة والجلال سبحانه وهنا أيضاً فائدة وهي: أن هذا القول من هذا النبي يؤكد أن جميع الأنبياء والمرسلين حقاً يوحى إليهم من قبل الله -تبارك وتعالى- وأن مصدر التلقي عندهم واحد؛ أنهم جميعاً ينطلقون من منطلق واحد، كلماتهم مع ما يمكن أن يكون بينهم من بعد زمني إلا أنك تجد الكلمات واحدة، تجد الكلمات فيها مطابقة مع أن هذا لم يجد هذا ولم يلتقِ هذا بذاك وما كان ذلك إلا لأن مصدر التلقي واحد، الآن حينما تدرسون في الأكاديمية وتختبرون حينما تدرسون منهجاً واحداً ثم تسألون, إن درست منهجاً واحداً سيكون الجواب على نسق واحد؛ لأن التلقي كان من شيء واحد وهذا دلالة على أن الأنبياء والمرسلين لا يكذبون على الله -تبارك وتعالى- وأفك الأفاكون وافترى المفترون حينما نسبوا إلى الأنبياء والمرسلين أنهم يكذبون على الله -تبارك وتعالى- إذن لما اشتد أذى هؤلاء الناس بهذا النبي وكذبوه وصدوا دعوته استنصر بربه -سبحانه وتعالى-: ?قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ?39?? قال الله له: ?قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ?40?? كلمات تحتاج إلى تأمل ?عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ? أصل الكلمة «عن ما» «ما» هنا زائدة، قال: عن قليل «ما» زائدة من حيث الصناعة اللغوية, أتت هنا في هذا الموطن لتفيد أن البعد الزمني فترة قليلة جداً، ومعنى ذلك ماذا؟ لأن البعض يستشكل، ما معنى ?لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ?؟ وبعدها ?أَخَذَتْهُمُ(3/449)
(12/21)
---
الصَّيْحَةُ? بعد ذلك مباشرة؟ أين أتاهم الندم إذن والصيحة فاجأتهم؟ ذكر بعض أهل العلم أن الله -عز وجل- أظهر لهم الهلاك أولاً فشعروا بالندم ثم وقعت الصيحة ثانية، وكانت هناك فترة زمنية قليلة من خلال السياق القرآني ?قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ? لوجود «ما» هنا، ?لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ? الفترة الزمنية كانت قليلة بين وقوع الندم وبين ما فعل الله -سبحانه وتعالى- بهم.
المحور الثاني يبين ويبرز ما الذي وقع على هؤلاء الناس؟ وما هي العقوبة التي نزلت بهم.
المحور الثاني: من كذب بالأنبياء والمرسلين أذاقه الله العذاب الأليم:
قال الله -عز وجل- مبيناً سطوته وقوته وكبرياءه وأن عذابه لا يرد عن القوم المجرمين، ولا عن المكذبين فكما أغرق قوم نوح الذين كانوا قبل هؤلاء الناس أيضاً أهلك هؤلاء القوم الذين كذبوا دعوة هذا النبي قال الله: ?فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ? وكلمة ?الصَّيْحَةُ? كأنها أمر معهود لنا، وحينما يقول الله الصيحة كأنها لقوتها صارت صيحة ولا صيحة بعدها، وقول الله -عز وجل- هنا ?بِالْحَقِّ? ليبين أن عذابه واقع لا محالة، وأن الظالمين لا يفلتون من عذاب الله -تبارك وتعالى- وأنهم حينما يقعوا بهم العذاب إنما يقع بعدل الله -عز وجل- وحكمته ?وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا? [الكهف: 49].
قيل: ?الصَّيْحَةُ? هي التي جاء بها جبريل -عليه السلام- وقيل: صيحة يعني شدة العذاب أو العذاب نفسه، الذي وقع بهم يطلق عليه صيحة، واستدل على ذلك بقول الشاعر:
صاح الزمان بآل برمك صيحة *** خروا لشدتها على الأذقان
(12/22)
---(3/450)
قالوا: هذه الصيحة معناها العذاب أو الألم الذي وقع بهم وقد ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- كلمةً جمع فيها بين الصيحة وبين ما يمكن أن يكون هؤلاء القوم هم قوم عاد، الذين أهلكوا بالريح، ولم يهلكوا بالصيحة؛ لأن الذي أهلك بالصيحة من؟ قوم ثموم أصحاب صالح فقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: «والظاهر أنهم اجتمع عليهم صيحة، مع الريح الصرصر العاصف القوي البارد» ثم ذكر الآية: ?تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ? [الأحقاف: 25] والصيحة كانت قوية، والتدمير كان كبيراً، بدليل أن الله قال: ?فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?41?? يعني أن الله -تبارك وتعالى- جعلهم صرعى هلكى كغثاء السيل وغثاء السيل هو ما يحمله السيل في طريقه، ما يحمله البحر أو ما يحمله النهر والنيل في طريقه من ورق وغيره مما يكون قد تحلل وفسد وأصبح لا فائدة منه، ونحن نشاهد ما يحمله السيل قد تعفن وتأسن وتغير، ولا فائدة منه، ولا قيمة له، هؤلاء القوم لهوانهم على الله, تأملوا عبارة القرآن القرآن حينما يقول: ?فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءًا? هذا يبين أن هؤلاء الناس من أهون الأشياء عند الله -تبارك وتعالى- لا يبالي الله -عز وجل- بهم، وأن الصيحة حينما أخذتهم وأصبحوا صرعى وأصبحوا لا قيمة لهم ولا وزن، كالذي يحمله السيل في طريقه من الورق وغير ذلك، لا ينتفع به ولا يمكن أن يستفيد منه إنسان وهؤلاء الناس وصلوا إلى هذه المرحلة، وليس هذا فحسب، بل قال في الآيات: ?فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ? بعد أن أخبر الله -عز وجل- أنه أخذهم بالصيحة وأهلكهم بها أو بالريح وأنه اجتمعت عليهم الصيحة مع الريح وأنهم أصبحوا هلكى كغثاء السيل يعني كحميل السيل، قال الله -عز وجل- زيادة في النكاية بهم: ?فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ? تأملوا قال:(3/451)
(12/23)
---
فبعداً للقوم ولم يقل: فبعداً لهم، القرآن الكريم كتاب إعجاز وفيه اختصار والكلام إذا كان منصوصاً عليه سابقًا يمكن أن يشار إليه بضمير فالله -عز وجل- يتكلم عن هؤلاء الناس ولكنه هنا حينما ذكرهم أظهر فقال: ?فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ? ولم يقل: فبعداً لهم، وذلك لإبراز وإظهار ما فعله الله بهم وإظهار وصفهم الذي اتصفوا به ألا وهو الظلم، ?فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ? وبعداً يعني طرداً لهم من رحمة الله -تبارك وتعالى- فلم ينالوها ولن يقفوا عندها، ولن يتحصلوا على شيء منها رغم أن رحمة الله -سبحانه وتعالى- واسعة.
ثم يستمر السياق ويخبر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أنه لم يترك بعد ذلك هذه الأرض بلا أمم بعد أن أهلك أولئك الناس فقال: ?ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ?42?? يعني أن الله -عز وجل- ما أخلى الأرض من قوم يعيشون عليها، فأخرج أيضاً -سبحانه وتعالى- أقواماً كي يعبدونه -سبحانه وتعالى- ويصدق بعضهم بالأنبياء والمرسلين، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالقرون هنا: هوم لوط وأصحاب يوسف وأيوب وغير ذلك من الأنبياء والمرسلين وظاهر القرآن ?ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ?42?? ظاهر القرآن بهذا الخطاب أنه يعني كل من جاء بعد هؤلاء الناس الذين أهلكهم رب العزة والجلال وجعلهم غثاءً كغثاء السيل. وهنا أن القرآن الكريم أجمل الحديث عن هؤلاء الناس، وهكذا شأن القرآن الكريم في القصص أحيانًا يأتي بالتفصيل وأحياناً يأتي بالإجمال أو الإيجاز، هنا أتى مجملاً، ?ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ?42?? لم يذكر نبياً معيناً أو أمةً من الأمم بعينها وإنما أجمل في ذلك وهذا الكلام كما أشرت أو ذكرت يُحمل أو يُصرف إلى كل أمة جاءت بعد هؤلاء الأقوام.
(12/24)
---(3/452)
هؤلاء الأقوام الذين أنشأهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- قال الله عنهم بعدها: ?مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ?43?? يعني لا تتقدم أمة من الأمم ولا تتأخر عن الأجل المعلوم لها عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وقد كتب ربنا -عز وجل- كل ذلك في اللوح المحفوظ -سبحانه وتعالى- كل أمة لا تسبق أجلها، والله -عز وجل- قد ذكر ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم أن الأجل إذا جاء.... ?فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ? ?وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ?[الأعراف: 34] الله -عز وجل- يذكر هذا هنا بعد أن ذكر أنه أنشأ قروناً آخرين يريد أن يقول: يا أيها الناس اعتبروا فلن تتأخروا ولن تتقدموا عما حده الله -تبارك وتعالى- لكم. وهذه دعوة إلى أن ينتهز الإنسان الفرصة فيعمل الصالحات، ويتنافس في فعل الخيرات؛ لأن الله -عز وجل- يقول في كتابه: ?إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ? [نوح: 4] وهذه الآية في الحقيقة تدل على أن الله -سبحانه وتعالى- يميت كل إنسان بأجله حتى المقتول أقول هذا وأنص عليه هنا وقد ذكره بعض المفسرين لأن بعض الفرق للأسف الشديد وهم المعتزلة يقولون بأن المقتول لم يمت بأجل، وإنما القاتل هو الذي قتل المقتول، هذا باطل، كل ميت مات بأجله ?إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ? [نوح: 4] والمقتول ميت بأجله المحدد عند الله -تبارك وتعالى-، وإن كان القاتل سبباً في قتل هذا المقتول، وهم قد ذهبوا إلى هذا القول لشبهات أيضاً جاءت في أذهانهم ليس المكان في هذا مكان حديث عنه.
المحور الثالث: تتابع إرسال المرسلين لتبليغ الدعوة عن رب العالمين:
(12/25)
---(3/453)
الله -عز وجل- في هذه الآيات أعلمنا وبين لنا أن الأمر لم يقف عند حد رسول معين أو أمة من الأمم وإنما أراد أن يبين من خلال هذه الآيات كما ذكر في القرآن الكريم بأن كل أمة أرسل الله -تبارك وتعالى- إليها رسولاً، يقول سبحانه: ?ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى? ?تَتْرَى? قال فيها ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- يعني يتبع بعضهم بعضاً، وقد بينت الآية أنه بعد إرسال نوح -عليه السلام- والرسول المذكور بعده أرسل رسله تترى كل رسول يأتي بعده رسول ?تَتْرَى? يعني متواترين والعرب يقولون على الشيء المتتابع الذي يأتي بعضه عقب بعض، يقولون عنه بأنه متواتر، والله -عز وجل- هن يبين ذلك ?ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى? ولكنه يخبر عن أمر عجيب، ما كان يمكن أن يكون عند قوم عقلاء يمكن أن يتعظوا بما كان في سالف الزمان للأقوام الذين أبادهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- الله أرسل المرسلين ليردوا الناس إلى الأمر الأول؛ ليعيدوهم إلى الفطرة؛ ليدعوهم إلى الرب -تبارك وتعالى- وكما قال: ?وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ? [فاطر: 24] أرسل رسله -سبحانه وتعالى- تترى، وكل أمة تكذب كان يهلكها رب العزة والجلال, وتأتي أمة بعدها ولكنهم لا يستفيدون، والدليل قول الحق -تبارك وتعالى- بعد ذلك: ?كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ? وهذا في الأعم الأغلب، يعني أغلب الناس, أغلب من أرسل إليهم الأنبياء والمرسلين، كانوا يكذبون بدعوة الأنبياء والمرسلين، وهذا من الباطل الذي وقعت فيه الأمم الذين أرسل إليهم ربنا -سبحانه وتعالى- الأنبياء والمرسلين، والله -عز وجل- قد نص على ذلك في كتابه ?كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ?52?? [الذاريات: 52] وكان الأولى والأجدر أن يستفيد اللاحق من السابق، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، ?كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا(3/454)
(12/26)
---
كَذَّبُوهُ?، فتتابعوا على هذا الباطل وركنوا إلى هذا التكذيب وردوا دعوة الأنبياء والمرسلين فماذا كان من رب العزة والجلال تجاه هؤلاء المكذبين، الذين لم يستفيدوا من الأولين؟ قال الله -عز وجل-: ?فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا? ?فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا? في ماذا؟ في الهلاك، الله -عز وجل- أتبع بعضهم بعضاً في الهلاك، يعني كلما أتى إلى أمة رسول كذبوه أهلكهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.(3/455)
وكما قال جل ذكره في القرآن الكريم: ?وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ? [الإسراء: 17] فالله -عز وجل- ذكر أنه أغرق قوم نوح ثم قال بعد ذلك: إنه أهلك من الأمم كثيرًا فكلما جاء رسول إلى أمة من الأمم وكذبوه أهلكهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والأمر لا يقتصر عند هذا الحد وإنما قال الله بعدها: ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ? وهذا فيه أيضاً إهانة وتقريع لهؤلاء الناس، ?أَحَادِيثَ? يعني ماذا؟ يعني أخباراً وقصصاً للناس لمن يأتي بعدهم الناس تسمر وتعقد المجالس فيتذكرون ويقرؤون قول هؤلاء الأقوام وتكذيبهم لأنبيائهم الذين أرسلوا إليهم، وما كان منهم وما فعل رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بهم، ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ? والله -سبحانه وتعالى- ذكر عن قوم سبأ أيضاً أنهم لما كذبوا بالنبي المرسل إليهم جعلهم رب العزة والجلال أحاديث قال: ?فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ? [سبأ: 19] وفي هذا تقريع وتبكيت لمن يكذب بالأنبياء والمرسلين بأن الخزي سيلحقه في الدنيا أيضاً قبل الآخرة، فالله -عز وجل- أهلكه ثم هو بعد ذلك يعيش حديثاً للناس يتكلم الناس عن حاله ويتكلمون عن موقفه وهنا أقف أيضاً وقفة مع المستمعين والمشاهدين لأقول: إذا كان الأمر كذلك فكن يا عبد الله لك حديث خير في المجتمع وبين الناس، يجب على الإنسان أن يقف متأملاً عند هذه الآيات ويتدبر وإذا كان الأمر سيذكر بعدك
(12/27)
---
ما أفعالك؟ سيحكيها الناس بعد ذلك، وستصبح عرضة للحديث في المجالس، فما بالك يا أيها الإنسان لا تتخذ سبيلاً قويماً حتى يكون لك ذكراً حسناً وحديثاً طيباً جميلاً وقديماً قال الشاعر:
وإنما المرء حديث بعده *** فكن حديثاً حسناً لمن وعى(3/456)
على الأمم والشعوب قبل الأفراد أيضاً أن يعتنوا بمثل هذا الأمر في أمورهم, في سياساتهم, فيما يسيرون به بين الناس عليهم أن يقدموا خيراً ليذكروا بعد ذلك بالخير؛ لأن الذكر السيء يلحق الإنسان بعد موته وسيظل يذكر في المجالس ويصبح حديثاً للناس فعلى العبد أن يتفكر ويتأمل في ذلك وأن يتخذ ذكراً حسناً يذكره الناس فيما بعد بعدما يموت، بدل أن يذكر بكلام سيء فليذكر إذن بكلام طيب جميل حسن، والله -عز وجل- بعدما ذكر عن هؤلاء القوم أنه أتبع بعضهم بعضاً، قال -سبحانه وتعالى- عنهم: ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ? وهذا جاء من باب الدعاء عليهم، والذم لهم، وتقبيح أفعالهم ودل ذلك أيضاً على أن الله -سبحانه وتعالى- أهلكهم عاجلاً وأنه سبحانه أيضاً سيذيقهم العذاب في الآخرة؛ لأن اللعنة لحقتهم أيضاً بعد الهلاك، قبل ذلك قال الله -عز وجل-: ?فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ? وهنا بعدما أهلكهم أيضاً دعا عليهم وذكر لهم الطرد والإبعاد من رحمته، فدل ذلك على أن الأمر لن يقتصر على ما حصل لهم، وإنما اللعنة والبعد والطرد من رحمة الله -تبارك وتعالى- لحق بهم وسيلزمهم أيضاً في يوم الدين ولذلك هذه دعوة إلى عموم الناس أن يدخلوا في دين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن يصدقوا ويسلموا برسالة الأنبياء والمرسلين السابقة، الذين بلغوهم وجوب الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى لا يتعرضوا للهلاك الذي تعرض له هؤلاء الأقوام الذين كذبوا بالأنبياء والمرسلين، وأكتفي بهذا.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(12/28)
---
فضيلة الشيخ وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية.
كان السؤال الأول:
قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ?، ماذا أفاد الجمع في قوله: ?أَنْزَلْنَ? وما هي الفوائد في هذه الآية؟
وكانت الإجابة:(3/457)
أفاد الجمع بيان عظمة الله -عز وجل- وقدرته. أفادت هذه الآية ثلاثة أمور:
أولاً: يذكر -سبحانه وتعالى- نعمته في إنزاله المطر من السماء بقدر، قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ? [المؤمنون: 17] أي بحسب الحاجة لا كثيرًا فيفسد الأرض والعمران ولا قليلاً فلا يكفي الزروع ولا الثمار، بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به حتى إن الأراضي التي تحتاج ماءً كثيرًا يسوق إليها الماء من بلاد أخرى كما في أرض مصر، يسوق الله إليها ماء النيل معه الطين الأحمر يجرفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها فيأتي الماء يحمل طيناً أحمر ليزرعوا فيه لأن أرضهم يغلب عليها الرمال.
ثانيًا: في قول الله -تبارك وتعالى-: ?فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ? [المؤمنون: 18] أي جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض وجعلنا في الأرض قابلية له تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى، كما قال الله -تبارك وتعالى-: ?فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ? [الزمر: 21].
(12/29)
---
ثالثًا: إخباره -عز وجل- أنه قادر على إذهاب هذا الماء كما في قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ? [المؤمنون: 18] أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا، ولو شيئنا أذىً لصرفناه عنكم، ولو شئنا لجعلناه أجاجاً فلا ينتفع به، قال الله -تبارك وتعالى-: ?لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا? [الواقعة: 70] ولو نشاء لجعلناه يغور في مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به، كما قال الله -تبارك وتعالى-: ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَّأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ ?30?? [الملك: 30] فلله الحمد والمنة.
ولله الحمد والمنة، الجواب سديد بفضل الله -تبارك وتعالى- وكلام طيب ويعني فيه استفاضة فجزى الله المجيب رجل كان أو امرأة خيراً.
السؤال الثاني:(3/458)
ما المراد بالشجرة في قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ?؟ وعلى أي شيء عطفت؟ وما فوائد هذه الشجرة؟
وكانت الإجابة:
قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ? [المؤمنون: 20] الشجرة: هي شجرة الزيتون، والطور هو الجبل، قال بعضهم: إنما سمي طوراً إذا كان فيه شجر، وعطفت بالنصب على الجنات في قوله تعالى: ?فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ? [المؤمنون: 19] ومن الفوائد أنه طعام نأكل منه، وكذلك ينتفع به من الدهن والاصطباغ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة) وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة).
الجواب سليم غاية الأمر كنت أريد إضافة في العطف ?وَشَجَرَةًا? معطوفة على ?جَنَّاتٍ? من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الجنان فيها شجر ولكنه خص هذه الشجرة وهذا يفيد فوائد هذه الشجرة.
السؤال الثالث:
ما هي الشبهات التي أنكر بسببها قوم نوح نبوته؟
وكانت الإجابة:
(12/30)
---
الشبه التي قالها قوم نوح هي أربع شبه:
أولاً: قالوا: إنه بشر، وقالوا: يريد أن يتفضل عليكم، واستبعدوا أن يكون من البشر أنبياء كما قال فرعون لموسى لما دعاه إلى الحق وادعى أن موسى إنما أراد الترفع والتعاظم عليه.
ثانيًا: أنهم قالوا: ?وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلاَئِكَةًا? [المؤمنون: 24] أي لو أراد الله أن يبعث نبياً لبعث ملكاً من عنده ففي نظرهم أن الملائكة أقوى من البشر.
ثالثًا: أنهم قالوا: ?مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الأوَّلِينَ? [المؤمنون: 24] أي لم نسمع من آبائنا الأولين ببعثة البشر أي لم يسمعوا من أسلافهم وأجدادهم في الدهور الماضية.(3/459)
رابعًا: أنهم قالوا: ?إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ?25?? [المؤمنون: 25] أي مجنون فيما يزعمه من أن الله -سبحانه وتعالى- أرسله إليكم، واختصه من بينكم بالوحي، أو به مس من الجن أفسد عليه عقله، وقالوا: انتظروا به ريب المنون ?أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ?30?? [الطور: 30] أي الموت فتستريحون منه إلا أن هذه الشبه ركيكة.
هذا كلام صحيح وحقاً الشبه ركيكة لا تصمد أمام الهواء فضلاً عن غيره.
هناك سؤال من الأخ الكريم من فرنسا يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في قولكم أن الله توعد الذي يرمي دعاة الحق بالضلالة والباطل، شيخنا أحسن الله إليكم هل يدخل في هذا من يرمي بعض الجماعات التي تدعو إلى الله -تبارك وتعالى-؟
(12/31)
---(3/460)
لا شك أن أهل الباطل هم الذين يرمون أهل الحق، ولكن هذا الكلام ينسحب إن كان السائل يريد ذلك، ينسحب على من يطعن على الدعاة إلى الحق الذين يلتزمون منهج أهل السنة والجماعة فمن يقوم بالدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- وله القدوة أو له أسوة في النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويلتزم منهج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ويسلك مسلك السلف القويم دون زيادة أو إضافة أو إدخال على الدين ما ليس منه، هذا والله يحرم على العبد أن يتكلم عليه أو أن يسيء القول فيه، وإذا أساء القول فيمن ينتسب إلى السنة فمن يبقى إذن؟! هل يبقى المبتعدة؟! هل يبقى أهل الباطل؟! كيف يتجرأ إنسان مسلم عاقل ناصح أمين يتجرأ على أن يتكلم على دعاة الحق الذين ينطقون بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية المطهرة، وإذا تُحُدِّثَ عن هؤلاء الناس فمن يبقى للمؤمنين؟ إذن إذا تكلم الناس في أهل الحق وفي دعاة الحق، وفيمن يقومون بالحق، من يبقى إذن للناس؟ غاية الأمر أنني أريد أن أؤكد أن هذا الكلام يكون بالباطل حقاً إن كان الكلام في من يلتزم بمنهج أهل السنة والجماعة، فالذي يقوم بالدعوة إلى الله -عز وجل- من خلال كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم، وفقه سلف هذه الأمة يحرم أيها الإخوة الكرام بالتأكيد على إنسان عاقل أن يتكلم على مثل هذا بل عليه أن يكون ناصحاً أميناً لأمته يدعو غيره إلى أن يستفيد منه وأن يقرأ له وأن يستمع إليه حتى يتعلم. ولا أود أن أطيل في مثل ذلك فأقول ربما لا يسلم إنسان من خطأ، هذا حق، لا يسلم إنسان من الخطأ، ولكن إن كان المنهج منهجاً صحيحاً قائماً على الكتاب والسنة النبوية المطهرة وهذا معروف عن الداعية أو العالم وينتسب إلى ذلك ويرفعه ويدعو إليه فيحرم حتى لو وقع في خطأ ما أن يُنفر الناس منه، أنت أيها المستمع إن وجدت خطأ في ذلك فبين هذا الخطأ ووضحه له ويمكنك أن تعلم الناس بأن هذا خطأ وهذا من الأمر بالمعروف والنهي(3/461)
(12/32)
---
عن المنكر أما تنفير الناس من الدعاة إلى الله -عز وجل- والطعن عليهم والسب فيهم وما إلى ذلك فهذا في الحقيقة لا يليق بحال من الأحوال ولا ينبغي أن يكون موجوداً بين المسلمين والله أعلم.
الأخ الكريم من المنصورة يقول: دعاء عيسى -عليه السلام- لقومه، بسم الله الرحمن الرحيم ?إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ?118?? [المائدة: 118] بينما كان دعاء سيدنا نوح -عليه السلام-: ?رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ?26?? [نوح: 26] هل هناك فرق بين قوم سيدنا عيسى -عليه السلام- وقوم سيدنا نوح حتى يكون هذا الدعاء دعاء سيدنا نوح بالهلاك مخالفاً لدعاء سيدنا عيسى؟
(12/33)
---(3/462)
لا شك أن الأقوام الذين يرسل فيهم النبي يختلفون، قوم نوح ذكر القرآن الكريم عنه أنه جلس فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ومع ذلك ماذا قال الله عنهم: ?وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ? [هود: 40] أما عيسى -عليه السلام- فلم يجلس في قومه شيئًا، كل ما جلسه -عليه السلام- ثلاث سنوات لم يقم بين ظهراني قومه فترة زمنية طويلة، ولم يجد من العناء ومن المشقة ومن التكذيب مثل ما وجد نوح -عليه السلام-، ولذلك قال عيسى -عليه السلام- ما قال لربه -سبحانه وتعالى-، فقوم نوح ولا شك نتيجة المدة الزمنية وعدم استجابتهم له مع تقلب الدعوة، يعني نوح -عليه السلام- استخدم أساليب دعوية مع قومه متعددة، أشار الله تعالى إليها في سورة نوح: ?قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا ?5? فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا ?6?? [نوح: 5، 6] يعني دعاهم في الليل ودعاهم في النهار ودعاهم سراً ودعاهم علانية -صلوات الله وسلامه عليه- يعني قلب عليهم الألوان فما استجابوا له، أما عيسى -عليه السلام- فلم يمكث فترة بين ظهراني قومه حتى يجد ما وجد نوح -عليه السلام-، ولكن على قوم عيسى اليوم أن يعتقدوا دين الحق -تبارك وتعالى-، وأن يرجعوا إلى دين الإسلام وقد بشر عيسى -عليه السلام- بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وسيعود عيسى -عليه السلام- في آخر الزمان كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تابعاً لشريعة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الأخ الكريم من السعودية يقول: البعض يا شيخ إذا نصح وكان على معصية يقول: ?لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ?6?? [الكافرون: 6] فبماذا تنصحون يا شيخ مثل هؤلاء؟ مع بيان سبب نزول هذه السورة؟
(12/34)
---(3/463)
الإنسان إذا نُصح عليه أن لا تأخذه العزة بالإثم، لأن هذا من خلال المنافقين قال الله -عز وجل- في المنافقين: ?وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ? [البقرة: 206] بعض الناس ينظر إلى الناس من بروج عالية رفيع، يستمعون إليه, وهو لا يستمع إليهم، ومن منا لا يخطئ وهذه مصيبة تقع عند بعض الناس، يعني ذكر ابن كثير الذي ندور حول تفسيره الآن أذكر أنه ذكر عند تفسيره لقول الله تعالى: ?الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ? [النجم: 32] ذكر قولاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (ما منا من إلا من عصى أو هم) وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كل بني آدم خطاء) فالإنسان إذا وقع في خطأ أو ارتكب أمراً أو ما إلى ذلك ونُصح عليه أن يستجيب لمن ينصحه والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال كما في حديث تميم الداري: (الدين النصيحة) قالها ثلاثاً، صلوات الله وسلامه عليه.
فالإنسان إذا نُصح عليه أن يستجيب للناصح وعليه أن يرجع إلى قوله طالما أنه يذكره أو يخبره بالحق، أما استدلال المنصوح بقول الله تعالى: ?لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ?6?? [الكافرون: 6] ليس هذا في موطنه، هذا قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- للكافرين لما كذبوا بدعوته وقالوا له: هيا نعبد إلهك يوماً وتعبد إلهنا يوماً، وما كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعبد غير الله فأعرض عنهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمره الله أن يعرض عنهم، وأن يقول لهم: ?لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ?6?? [الكافرون: 6] والمنصوح من دين الإسلام والناصح مسلم فكيف يعني ينزل هذا القول على ما يحدث بين الناصح والمنصوح، فاستدلال ليس في موطنه بحال من الأحوال.
(12/35)
---(3/464)
الأخت الكريمة من مصر تقول: في بعض آيات القرآن الكريم التي فيها استفهام نجد البعض يتبعها بذكر معين، مثل قوله تعالى: ?قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا? [الملك: 30] يقولون: الله رب العالمين، ?أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ? [النمل: 60] لا إله إلا الله، فهل هذا من السنة؟ وإذا كان هذا من السنة فالأول في الصلاة أن نستمع إلى الإمام أم أن نردد هذا الذكر؟
أعتقد سبق مثل هذا السؤال فيما مضى في غير الصلاة إذا مرت بك هذه الآيات كاستفهام تقريري مثلاً في القرآن الكريم مثل ?أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ? [النمل: 60] يقرر الله -عز وجل- المخاطبين الذين ينكرون أن الله -سبحانه وتعالى- يعبد وحده دون سواه أنه خلق السماوات والأرض هم يقرون بذلك، فلا بأس أن يقر الإنسان بهذا أو أن يذكره في خارج الصلاة، وقد سبق أن قلت بأن الجن كانوا يأمنون على قول النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما كان يقرأ قول الله ?فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ?13?? [الرحمن: 13] يقولون: (لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد) هذا كان في غير الصلاة، أما إذا كان الإنسان في داخل الصلاة فعليه أن ينصحت وأن يستمت للإمام، إن كان في داخل الصلاة عليه أن يستمع وأن يتدبر آيات القرآن الكريم، في غير الصلاة أو في النوافل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في النوافل إن مر بآية فيها رحمة طلب من الله -تبارك وتعالى- وإن مر بآية فيها عذاب استعاذ بالله -تبارك وتعالى- وهذا ثابت عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- في النوافل والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: في قول الله: ?فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ? [المؤمنون: 41] وفي آيات أخرى: ?فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ? [العنكبوت: 37] هل هناك فرق بين الصيحة والرجفة؟ وما معنى الرجفة؟
(12/36)
---(3/465)
الرجفة نتيجة الصيحة، يعني الرجفة تدخل في الصيحة فحينما تكون الصيحة والصيحة هي الصوت الشديد الذي يقرع هؤلاء الناس فيرتجفون ويرتعدون، فالرجفة هي ما يأخذ الإنسان من شدة الرعشة أو الاضطراب الذي يمكن أن يحدث له لموقف من المواقف فالرجفة تتبع الصيحة يعني تكون حاصلة بسبب الصيحة.
الأخ الكريم من مصر يقول: ما الفرق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين؟
هذه في الحقيقة مصطلحات ذكرها بعض الأئمة ويعنون بها أن علم اليقين ما يتعلمه الإنسان يعني عن طريق التلقي، يقرأ مثلاً القرآن ويشاهد وما إلى ذلك فهذا هو علم اليقين، وقد ذكر الإمام ابن كثير أو غيره عن إبراهيم -عليه السلام- لما قال: ?رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? [البقرة: 260] قال إنه يريد أن ينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، فالشاهد أن علم اليقين هو الأمور التي يتعلمها الإنسان سواء تلبس بما لم تعلم أو لم يتلبس، فإن تلبس به قيل بأنه يعني وقف على عين اليقين، يعني شعر به فإن وصل إلى مرتبة عالية رفيعة فيه تصل إلى حد المشاهدة، أو حتى ولو لم يشاهد قيل: حق اليقين، وهي في الحقيقة هذه المصطلحات يعني مصطلحات من وضع بعض الناس يعني ليست لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من الآثار السلفية وهو مصطلح غالباً ما يدور عند المتصوفة، ولكن على العبد أن يتعلم وأن يثق يعني أن يتعلم علم اليقين وأن يثق فيما تعلمه إن كان وعداً من الله -تبارك وتعالى- أو خبراً من الله -عز وجل- فيقع في عين اليقين أو حق اليقين بالتصديق الكامل في قلبه والعمل بما قام في رأسه أو عقله من علم، والله أعلم.
(12/37)
---(3/466)
الأخ الكريم من السعودية يقول: من المعلوم أن قوم صالح هم الذين أهلكهم الله بالصيحة فهل يمكن أن تؤخذ الآية على ظاهرها وأن كلمة «قرناً» تطلق على «قروناً» كما أن ثمود جاءت بعد نوح كما جاء قوم عاد، فالجميع جاءوا بعد قوم نوح وهل «ثم» تعني بعده مباشرة؟ أم يمكن أن تكون على التراخي أي ليس بعده مباشرة؟
ولي أيضاً مداخلة في سؤال الأخ الذي تكلم على دعاء نوح وعيسى على أقوامهم فإن الله -تبارك وتعالى- قال لنوح: ?أَنَّهُ لَن يُّؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ? [هود: 36] فإنه قد علم أنه لن يؤمن أحد ولذلك كان الدعاء عليهم بالهلكة، وأما عيسى ونبينا -عليه الصلاة والسلام- فدعوا لأقوامهم بالصلاح، والعودة إلى الله -تبارك وتعالى-، وجزاكم الله خير.
(12/38)
---(3/467)
في الحقيقة بالنسبة للقرن الذي لم ينص القرآن الكريم على اسم الرسول الذي أرسل إليهم، كما ذكرت اختلف أهل العلم فيمن هم هؤلاء الناس، ذهب عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- كما ذكر ابن جرير وابن كثير وغيرهما أنه قال: بأن هؤلاء قوم نوح واستدل على ما استدل به وفي الحقيقة ذكر ابن كثير أن هذا هو الأظهر واستدلوا بذلك بالآيات الواردة في القرآن الكريم بذكر قوم عاد بعد قوم نوح مباشرة، ولا شك أن ثم هنا تفيد الترتيب مع التراخي وأن هناك فترة زمنية بين قوم نوح -عليه السلام- وبين قوم عاد كما كانت هناك فترة زمنية بين قوم عاد وقوم صالح، وقال بعض العلماء وهم الأقل بأن المراد قد يكون قوم صالح، واستدلوا على ذكر الصيحة أن الله -عز وجل- قال: ?فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ? وقالوا بأن قوم ثمود هم الذين أهلكوا بالصيحة، ولكن الصيحة في لغة العرب أيضاً تطلق على العذاب الشديد وهذا أيضاً لا يعد تأويلاً ولكنه إطلاق صحيح على كلمة الصيحة، فهو تفسير لها، ويصبح بالتالي جمعاً بين الآيات وقد جمع بينهما الحافظ ابن كثير في تفسيره ولو رجع الإنسان سيجد هذا يعني ابن كثير -رحمه الله تعالى- قال: بأنها صيحة يعني عذاب مع الريح التي أتت عليهم من قبل الله -تبارك وتعالى- ولا شك بالنظر وأنا وقفت أتأمل هذه الآيات، قلت: هذه الريح وليس يعني هذا من باب الاختراع العقلي ولكن يمكن أن يفهم ذلك الريح حينما تكون قوية ألا تعطي صوتاً أيضاً شديداً يمكن أن نقول عنه بأنه صيحة، يمكن أن يقع هذا فالصيحة في لغة العرب تطلق على العذاب الشديد والريح التي يمكن أن يسوقها الله -تبارك وتعالى- على قوم عاد أيضاً يمكن أن يصحبها شيء من الصوت الشديد، وعلى كل حال فالخلاف قائم في ذلك بين المفسرين وهذا ما رجحه كثير من أهل العلم ومن أهل التفسير في أن المراد بذلك قوم عاد وأقول ظاهر آيات القرآن الكريم من خلال الترتيب الوارد فيه يشير ويدل على ذلك، ولكننا مع هذا(3/468)
(12/39)
---
كله لا نستطيع أن نقطع في مثل هذا بحال، بل نقول: الله أعلم.
هل لكم أي تعليق فضيلة الشيخ على مداخلته بالنسبة لدعاء سيدنا عيسى ودعاء سيدنا نوح
في الحقيقة كلامه سليم وتوجيه لطيف في هذا القول، يعني لما ذكرت بأن نوحاً -عليه السلام- لاقى من قومه ما لاقى ومكث مدة طويلة وما إلى ذلك فدعا عليهم بما دعا، هذه الإضافة جيدة جداً، وهي أن نوح -عليه السلام- علم بخبر الله -تبارك وتعالى- أو بوحي الله -عز وجل- له أن هؤلاء القوم سدت منافذهم وأغلقت قلوبهم، فلن يؤمن منهم أحد بعد ذلك، وأنا استدللت بقول الله تعالى: ?وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ? [هود: 40] وبعد أن أخبره رب العزة والجلال: ?أَنَّهُ لَن يُّؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ?[هود: 36] فتوجه نوح -عليه السلام- لربه بهذا الدعاء لأنه لا فائدة مرجوة من هؤلاء القوم، بعكس ما كان عليه عيسى أو ما كان عليه النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه.
ونحن لا نستغرب ذلك ففي حديث، حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط) والرهط عدده كم؟ من ثلاثة إلى تسعة، (والنبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي وليس معه أحد)، فبعض الناس وللأسف الشديد لم يؤمنوا بحال من الأحوال وبعض الأنبياء والمرسلين لم يتابعهم أحد فيما جاءوا به من عند الله -تبارك وتعالى- وأشكر الأخ الكريم على ذلك وجزاه الله خيراً.
الأخ الكريم من مصر يقول: كيف نستطيع مذاكرة دروس التفسير وأي الكتب يمكن اقتناؤها لمساعدتنا في تحصيل هذا العلم الشريف؟ وجزاكم الله خير
(12/40)
---(3/469)
شكر الله له، في الحقيقة كتاب ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- كتاب قريب وسهل التناول، وواضح العبارة ولا شك أن ابن جرير مثلاً سابق عليه وابن جرير -رحمه الله تبارك وتعالى- في تفسيره إمام من أئمة المفسرين وهو عمدة كما يقول أو يعبر عنه أهل العلم بأنه عمدة التفسير وكتابه كذلك ولكن تفسير ابن كثير -رحمه الله تعالى- يتميز بسهولة أكثر في العبارة وفيه فائدة لطالب العلم ومع شُغل الناس في هذا الزمان أو انصرافهم بكثرة الأعمال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- يريح القارئ كثيرًا حينما يسوق الحديث في كثير من الأحيان ويذكر ما في هذا الحديث، فتطمئن نفسك إلى العمل بهذا الحديث فلتأخذ به أو لا تأخذ به وهذه فائدة عظيمة وجليلة جداً في تفسير الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- وهناك كتب أخرى أيضاً من كتب التفسير تسلك منهج السلف الصالح في مسائل الاعتقاد وغير ذلك والعبادات وما إلى ذلك، كتفسير معالم التنزيل للبغوي، -رحمه الله تبارك وتعالى-، وكذلك أيضاً تفسير الشيخ محمد أمين الشنقيطي -رحمه الله-، وتفسير تيسير الكريم الرحمن للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله تبارك وتعالى-، هذه كلها كتب نافعة ومفيدة يمكن لطالب العلم أن يرجع إليها وأن يستفيد منها، وإذا اقتصر على بعضها كابن كثير أو معالم التنزيل أو تفسير الشيخ السعدي -رحمه الله- فهو نافع ومفيد -إن شاء الله تعالى-.
أسئلة المحاضرة
السؤال الأول: لماذا أرسل الله الأنبياء والمرسلين من جنس أقوامهم؟
السؤال الثاني: أهل الباطل دائماً يتهمون المصلحين بالفساد، اذكر ما يدل على ذلك من القرآن الكريم؟
السؤال الثالث: ذكر القرآن الكريم أدلة كثيرة على البعث والنشور، اذكر ثلاثة منها مع الدليل لما تقول؟
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(12/41)
---(3/470)
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الثالث عشر
الدرس الثالث عشر: تفسير سورة المؤمنون
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالمشاهدين والحاضرين الكرام ويسرنا في هذا اللقاء المبارك -إن شاء الله تبارك وتعالى- أن أتحدث حول آيات في هذه السورة الكريمة التي ابتدأت الحديث فيها وعنها قبل حلقات سابقة، وسيدور الحديث -إن شاء الله تعالى- في هذا اللقاء حول محاور متعددة هي كالتالي:
المحور الأول: تأييد موسى وهارون -عليهما السلام- بالآيات لمواجهة فرعون وقومه.
المحور الثاني: جعل الله –تعالى- عيسى وأمه آية للناس.
المحور الثالث: أمر الله المرسلين بالأكل من الطيبات والعمل الصالح.
المحور الرابع: دين الأنبياء والدعوة إلى عبادة الله وحده دون سواه.
والآن نستمع إلى آيات هذا اللقاء، ومع الأخ الشيخ فليتفضل جزاه الله خيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(13/1)
---(3/471)
?ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ?45? إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ?46? فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ?47? فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ?48? وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ?49? وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ?50? يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ?51? وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ?52? فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ?53? فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ?54? أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ?55? نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ?56??
جزاك الله خيراً.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم وسلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد.
(13/2)
---(3/472)
نبدأ مستعينين بعون الله - تبارك وتعالى- في هذا اللقاء بالقصة الرابعة التي وردت في هذه السورة المباركة, وهي قصة الحديث عن موسى بن عمران وإرساله إلى فرعون وقومه وتبتدئ الآيات بقول الحق -تبارك وتعالى-: ?ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ?45?? وأود أن أذكر لكم أولاً كلمة قالها الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي -رحمه الله- عندما جاء ليتحدث عن هذه الآية حيث قد ذكر أن عالماً أخبره وذكر أنه لا يعرف هذا العالم ولا يذكره عندما كان يكتب هذه الكلمات، أخبره أن الله -عز وجل- بعد إهلاكه لفرعون وقومه لم يأخذ أحداً أو أُمة من الأمم بعذاب الاستئصال بعد ذلك، ثم ذكر -رحمه الله تعالى- بعدما أخبر أنه سمع هذا الكلام أنه تأمل هذا الكلام ونظر في الآية الواردة في قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ? [القصص: 43] تبين له مصداق قول هذا العالم وهو أنه حقاً أن الله -تبارك وتعالى- لم يذهب بأمة كاملة من الأمم بعد أن أهلك فرعون ومن كان معه، وهذه الآية تخبر أن الله -تبارك وتعالى- أرسل موسى وهارون, أرسلهما بآياته الواضحات البينات إلى فرعون وقومه كي يؤمنوا بالله -تبارك وتعالى-، وقد ذكرت الآيات فيما بعد أن فرعون ومن كان معه من المكذبين لم يؤمنوا بهذا, بل كان أمرهم كما ذكرت هذه الآيات وسيأتي الحديث عنها بعد قليل -إن شاء الله تعالى- ولكنَّ المهم هنا في هذه الآية أن نفهم ونعقل أن هارون -عليه السلام- كان مرسلاً أيضاً مع من؟ مع موسى -عليه السلام-؛ لأن الله تعالى قال: ?ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ? فدل ذلك على أن هارون مرسل كموسى - عليهما السلام-، ودل ذلك أيضاً على أن معجزات موسى هي أيضاً معجزات من؟ معجزات هارون؛ لأن الله قال: ?ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ(3/473)
(13/3)
---
هَارُونَ بِآَيَاتِنَ? وهذه الآيات هي الآيات التسع التي أشار الله -عز وجل- إليها في كتابه، وذكر في القرآن الكريم في سورة الإسراء: ? وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ?101? قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ?102?? [الإسراء: 101، 102] يعني: أظنك من الهالكين الضائعين حينما كذب فرعون ومن كان معه بهذه الآيات، والآيات التسع قد أشار إليها القرآن الكريم في مواطن متعددة, وهي كما نص عليها كثير من العلماء هي: العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفاضع، والدم، وانفلاق البحر، والسنون، والنقص من الثمرات، أرسل الله -عز وجل- بهذه الآيات البينات الواضحات أرسل موسى وأخاه هارون إلى فرعون.
والله -عز وجل- أشار إلى أن موسى وهارون - عليهما السلام- أتوا بسلطان مبين لهذا الطاغية ولكنه أبى أن يتأمل وأن يتدبر فيما جاء من عند الحق -تبارك وتعالى-، ?ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ?45?? أرسلهما إلى من؟ ?إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ?46?? أفادت هذه الآية الثانية أن موسى وهارون -عليهما السلام- أرسلا إلى فرعون وملئه كهامان ومن كان معهم ومن سار في ركابهم، أرسلهما رب العزة والجلال إلى هؤلاء الأقوام فماذا كان منهم؟ ذكرت هذه الآية أنهم وقعوا في أمر عظيم، ألا وهو الاستكبار والعلو عن الاستجابة لدعوة الحق -تبارك وتعالى-، وكذب هؤلاء القوم موسى وهارون -عليهما السلام-، ووقعوا في أمرين أشارت إليهما هذه الآية:
(13/4)
---(3/474)
الأمر الأول: الاستكبار قال الله تعالى: ?فَاسْتَكْبَرُو? وهذه صفة لهؤلاء الناس، وهذه الصفة تدفع كل من اتصف بها عن أن يلتزم بالحق بل إن الله -تبارك وتعالى- ذكر في كتابه أنه يصرف هؤلاء المتكبرين عن الحق الذي ينزل من عنده -سبحانه وتعالى-: ?سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيل? بسبب: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ?146?? [الأعراف: 146] وأيضاً أخبر الله -تبارك وتعالى- أن الجنة مغلقة أمام هؤلاء القوم المتكبرين المكذبين: ?إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ? [الأعراف: 40] ودائماً نجد أن المستكبرين في الأرض يتطاولون على دعوة الأنبياء والمرسلين, هذه سمة بارزة عند هؤلاء الناس كما ذكر الله -عز وجل- ذلك عن قوم صالح: ?قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ?75? قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ?76?? [الأعراف: 75، 76].
(13/5)
---(3/475)
وهكذا كان شأن المستكبرين مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أتوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وأبت نفوسهم أن يجلسوا مع ضعفاء المؤمنين الذين هم في قلة من المال ومن الجاه ومن السلطان, ولكن قلوبهم تعلقت بالله -تبارك وتعالى-، هؤلاء المستكبرين أبت نفوسهم واستعظمت نفوسهم أن يجلسوا مع هؤلاء، وعرضوا على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يخصص لهم يوماً وأن يخصص لهؤلاء الفقراء الضعفاء يوماً آخر فنزل قول الحق -تبارك وتعالى- يسدد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذه المسألة ويقول له: ?وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ? [الأنعام: 52] وهكذا يقف القرآن الكريم مع من آمن بالله -تبارك وتعالى- ولا يلتفت إلى هؤلاء المستكبرين.
(13/6)
---(3/476)
الأمر الثاني: الذي اتصف به فرعون ومن كان معه: أنهم كانوا قوماً عالين، يعني كانوا أصحاب علو ووجاهة ودنيا في هذه الحياة الدنيا إلى جانب أنهم كانوا يبغون في الأرض بالفساد، هاتان الصفتان لما قامتا بهؤلاء الناس كانتا أيضاً سبباً في أن يعرضوا عن الحق الذي نزل من عند الله -تبارك وتعالى-، فبعد أن أخبر سبحانه أنه أرسل موسى وهارون إلى هؤلاء الملأ ماذا كان منهم، ?فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ?، وكان نتيجة هذا الاستكبار والشعور بالعلو في هذه الأرض رغم أن الله هو الذي مكنهم فيها، أن بدا منهم التصريح مباشرة بالكذب فقالوا: ?فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ?47??، يعني كيف نؤمن ونصدق لبشرين يتصفان بالبشرية؟!! وهذه دندنة أعتقد أنكم سمعتموها كثيرًا عن هؤلاء المكذبين,فهي شبهة وردت عند قوم نوح ووردت عند غيرهم ممن أتوا بعد قوم نوح, أنهم ينكرون نبوة الأنبياء والمرسلين لأنهم بشر، ولا نملك إلا أن نقول عن هؤلاء المكذبين: ?تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ? كذلك فرعون ومن كان معه قالوا: ?أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَ? الهمزة في ?أَنُؤْمِنُ? للإنكار، يعني كيف نصدق لبشرين مثلنا، والله -عز وجل- هنا وآيات القرآن محكمة قال: ?أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَ? ولم يقل: مثلينا، لماذا؟ يعني وهذا أسلوب عربي فصيح يأتي كثيرًا في القرآن الكريم وهو أن الله -تبارك وتعالى- يوجز غاية الإيجاز والإفراد فيه من الإيجاز ما لا يوجد في الجمع، فمثلاً قال الله -تبارك وتعالى-: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? [آل عمران: 110] بالإفراد ولم يقل: كنتم أخيار أمة، وكذلك هنا قال: ?أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَ? لأن العرب تحب الإيجاز والقرآن الكريم نزل بلغة العرب، ثم قالوا بعد ذلك: ?وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ? يعني كيف نؤمن لبشرين مستضعفين مع أننا نحكم في هذه الأرض(3/477)
(13/7)
---
ولنا الأمر فيها ولنا الكلمة عليها وقد أخبرت الآيات عنهم أنهم كانوا قوماً عالين، فكيف إذن ننزل من هذا العلو لنتبع بشرين لا يليق بأمثالنا كما زعموا هم بهؤلاء الناس أن لا يليق بهم أن يصدقوا بمن أرسلهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-؟ وقالوا بأن هؤلاء الأقوام عبيد لنا، بمعنى أنهم يقومون بخدمتنا خدمة شاقة، والذي يقوم بخدمتنا خدمة شاقة هو عبيد عندنا، وقد ذكر أبو عبيدة -رحمه الله تبارك وتعالى- أن العرب تسمي كل من دان لملك عابدا له، العرب يسمون من يدين لملك من الملوك ويعملون عنده ويخدمونه عبدا له، وقيل: بأن قولهم: ?وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ? على الحقيقة، لماذا؟ قالوا: لأن فرعون ادعى الألوهية على قومه فلا يستبعد إذن أن قومه كانوا يعبدونه حقيقة من دون الله -تبارك وتعالى-، فلما جاء موسى وهارون إلى فرعون الطاغية وهو بهذه المثابة، لا شك أنه استكبر وبغى في الأرض وأنكر دعوة نبي الله موسى وهارون -عليهما السلام- واحتج بهذه الحجة الباطلة، وهي أنهما بشرين يأكلان ويشربان كسائر البشر وفرعون مسلط على قوم يعبدونه من دون الله -تبارك وتعالى-.
(13/8)
---(3/478)
ثم تصرح الآيات بعد ذلك تصريحاً أكثر وضوحاً في تكذيب هؤلاء القوم، وفي ذلك يقول رب العزة والجلال سبحانه: ?فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ?48?? يعني أن فرعون ومن كان معه كذب موسى وهارون -عليهما السلام-, ثم يخبر رب العزة والجلال أنهم جميعاً كانوا من المهلكين نتيجة هذا التكذيب، وتأملوا صيغة «مهلكين» وهي صيغة اسم مفعول، تفيد فائدة عظيمة وهي أن الله -سبحانه وتعالى- ذو القوة المتين، وأنه -عز وجل- هو الذي تولى إهلاكهم مع ما كانوا فيه من الترف والنعيم، وأنه لم تغنِ عنهم عبيدهم شيئًا ولم تغنِ عنهم أموالهم شيئًا, والهلاك المذكور في هذه الآية يشمل هلاك الدنيا والآخرة، فالله -عز وجل- أهلك فرعون ومن كان معه في الدنيا والآخرة, بل إنه جعل فرعون عبرة للمعتبرين حينما أهلكه أمام قومه من بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى -عليه السلام- وكان هذا في الدنيا, وذلك في قول الحق -تبارك وتعالى- كما جاء في سورة يونس: ?وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ?90?? [يونس: 90] فماذا كان قول الله له؟ ?آَلآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ?91? فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ?92?? [يونس: 91، 92] وفعلاً أصبح فرعون بذلك أمام بني إسرائيل عبرة للمعتبرين وها نحن نذكر هذا القصص اليوم، ونقول للمكذبين: اعتبروا بسير السابقين، فالله -عز وجل- أهلكهم وينتقم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ممن يشاء, وكان هذا الهلاك في الدنيا، وهناك هلاك أيضاً أخروي حينما يدخلهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- النار, وبئس القرار، الله -عز وجل- في سورة هود يقول: ?وَلَقَدْ(3/479)
(13/9)
---
أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ?96? إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ?97? يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ?98? وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً ?99?? [هود: 96- 99] يعني أين؟ إشارة هنا إلى ماذا؟ للدنيا، ?وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ? [هود: 99] وهنا حذف أيضاً اللعنة الثانية لأن اللعنة الأولى دلت عليها، وهذا أيضاً من باب الإيجاز، فالله -عز وجل- لعنهم في الدنيا ولعنهم في الآخرة، ثم أخبر رب العزة والجلال أنه قوي عزيز حكيم، حينما أهلك هؤلاء القوم، وختم الحديث عنهم بقوله: ?وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ?102?? [هود: 102].
(13/10)
---(3/480)
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ?49?? هذه الآية خطاب وُجِّهَ فيما بعد لبني إسرائيل بعد أن نجاهم رب العزة والجلال من فرعون وجنده، ونجاهم مع موسى -عليه السلام- وهارون حينما كانوا يسيرون معهما في البحر، الله -عز وجل- نجى بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى -عليه السلام- ولما نجاهم ربنا -عز وجل- أنزل عليهم التوراة بعد ذلك ?لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ? فيعملوا بأحكامها ويلتزموا بشرائعها وهذه دعوة لبني إسرائيل إلى أن يلتزموا بالحق الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى- ومن الحق الذي جاء به موسى -عليه السلام- الإيمان ومتابعة النبي محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-، والله والله -عز وجل- قد أخبر في كتابه أنه آتى وأنزل التوراة على موسى -عليه السلام- بعدما أهلك القرون الأولى، وفي ذلك يقول كما في سورة القصص: ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ?43?? [القصص: 43] وهي نعمة من نعم الله -عز وجل- على بني إسرائيل حينما أنزل ربنا -سبحانه وتعالى- عليهم التوراة التي خطها ربنا -عز وجل- بيده وكتب في الألواح موعظةً وهدًى وشفاءً كي يلتزم به هؤلاء الناس, ولكنهم -وللأسف الشديد- أعرضوا عن الحق الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى-، والله -سبحانه وتعالى- ما أنزل عليهم ما أنزل إلا لكي يلتزموا به ويهتدوا إلى الله -عز وجل-، ?وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ?49?? ولكن أين بنو إسرائيل اليوم من الهداية الربانية التي نزلت عليهم من السماء؟ وها هم يعربدون اليوم كما عربدوا في السابق، ويسعون في الأرض بالفساد، ويريدون أن يصبح العالم كله -والعياذ بالله تبارك وتعالى- في غاية من الانحلال العقائدي والخلقي فلا يعرفون رباً يعبدونه(3/481)
(13/11)
---
ولا يقيمون أخلاقاً سليمة صحيحة تنبع من الديانة التي جاءت من عند الله -تبارك وتعالى- فيستقر بها المجتمع، هم دائماً يسعون في الأرض بالفساد، وما اهتدوا إلى طريق الحق والصواب والله -عز وجل- ما أرسل إليهم الأنبياء والمرسلين إلا لكي يرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- ويلتزموا بالشرائع التي نزلت من عنده ويدخلوا في الهداية الربانية التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من عند الحق -تبارك وتعالى-.
المحور الثاني في هذا اللقاء بعنوان: جعل الله عيسى ابن مريم وأمه عيسى آية للناس.
وهذه هي القصة الخامسة التي وردت في هذه السورة المباركة، وفي ذلك يقول رب العزة والجلال ?وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ?50?? الله -عز وجل- يخبر في هذه الآية أنه جعل عيسى ابن مريم وأمه آية وهذا واضح عيسى ابن مريم -عليه السلام- آية من عدة جوانب وإن كان كثير من المفسرين يذكرون أنه آية في أمر مهم واضح وهذا لا شك أنه أبرز الآيات التي كانت لعيسى -عليه السلام-، وهو أنه خُلق من أب بلا أب، هذه في حد ذاتها آية وهي آية مريم أيضاً بأنها ولدت ابناً دون أن يمسها رجل أو ذكر، فالله -عز وجل- أولاً جعل عيسى آية لأنه خلق من امرأة بلا أب والبشر بعدما خلق الله آدم وقد أشرت إلى ذلك سابقًا، وبعدما خلق حواء خلق الله -عز وجل- البشر بعد ذلك عن طريق التزاوج والتناسل عدا من؟ عدا عيسى ابن مريم -عليه السلام- فكان بكلمة الله -عز وجل- كما أخبرنا ربنا بذلك في كتابه.
- أيضاً عيسى ابن مريم كان آية لأنه تكلم في المهد وهو صغير تكلم في سن لا ينطق فيها أقرانه.
- أيضاً عيسى ابن مريم كان آية لأنه كان يبرئ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى -بإذن الله-.
- كذلك أمه كما أشرت كانت آية عندما ولدت عيسى -عليه السلام- بلا أب.
(13/12)
---(3/482)
- وأيضاً مرت عليها آيات وعلامات أشار إليها القرآن الكريم، من ذلك أنه كما ذكر الله -عز وجل- في سورة آل عمران: ?كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ? [آل عمران: 37] وهذه أيضاً آية لمريم -عليها السلام-،
ثم يخبر رب العزة والجلال أنه تفضل على مريم الطاهرة البريئة الشريفة كما تفضل على عبده ورسوله عيسى ابن مريم -عليه السلام- تفضل عليهما بأن آواهما ?وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ? الإيواء معروف، والربوة قال عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- الربوة: هي المكان المرتفع وهي أحسن ما يكون في النبات، يعني المكان المرتفع عن الأرض عندما تكون حوله ماء يكون أفضل مكان على الأرض وأفضل مكان يبرز فيه أو يظهر فيه الزرع والنخيل والثمار وما إلى ذلك, فآوى الله -عز وجل- عيسى ابن مريم وأمه إلى ربوة إلى مكان جميل ثم وصف هذه الربوة فقال: ?ذَاتِ قَرَارٍ? والقرار: هي الأرض الخصبة والمعين هو الماء الجاري الطاهر غير الملوث وهذه نعمة من الله -تبارك وتعالى- على عيسى ابن مريم وأمه -عليهما السلام-، وهي تبين أن الله -تبارك وتعالى- لا يترك أنبياءه ورسله بل يحفظهم بكلئه -عز وجل- وحتى إن مريم -عليها السلام- رغم أنها ليست بنبية ولا رسوله إلا أنها أم النبي الرسول عيسى ابن مريم -عليهما السلام- ولما كانت لها ظروف خاصة كان لها من الله من الله -سبحانه وتعالى- عناية تليق بمكانتها منذ أن حملت في عيسى -عليه السلام-، وعند ولادته وبعد ولادته كما أشار الله في هذه الآية: ?وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ?.
(13/13)
---(3/483)
وقد يتبادر هنا سؤال إلى الذهن: أين كانت هذه الربوة؟ الله -عز وجل- أشار إلى أنه آواهما إلى ربوة ذات قرار ومعين، أين مكان هذه الربوة؟ اختلف المفسرون اختلافاً واسعاً في ذلك بدأ الحافظ ابن كثير بقول ذكر أنه غريب جداً هو قول عبد الله بن زيد بن أسلم قال: هذه الربوة كانت بأرض مصر ولا يوجد مكان به ربوات أفضل من هذه الديار وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- أن هذا غريب جداً، ثم ذكر بعد ذلك الأقوال الأخر فقال: بأنها في دمشق أو في أنهار دمشق أو في الرملة في فلسطين، أو في بيت المقدس، ورجح الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- أن ذلك كان في بيت المقدس لماذا؟ لارتباط مريم -عليها السلام- ببيت المقدس منذ أن نذرتها أمها لله -تبارك وتعالى-، كما جاء في سورة آل عمران، الله -عز وجل- أخبر بأن أم مريم -عليها السلام- لما حملت فيها أحبت أن يكون الحمل ولدا ونذرته لبيت المقدس فكانت مريم عليها السلام، وبالتالي رجح الحافظ ابن كثير أن المكان الذي كانت فيه مريم هو بيت المقدس وأشار إلى أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، لأنه ذكر سابقًا في سورة آل عمران أن مكانها الذي كانت تقيم فيه هو بيت المقدس ولعل هذا هو الراجح -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
المحور الثالث في هذا اللقاء بعنوان: أمر الله -تبارك وتعالى- المرسلين بالأكل من الطيبات والعمل الصالح.
(13/14)
---(3/484)
فقال: ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ?51?? والله إن هذه الآية في غاية من الروعة حينما يوجهها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- إلى الأنبياء والمرسلين وهنا يأمرهم -سبحانه وتعالى- أن يأكلوا من الطيبات وقبل أن أدخل فيها هنا لفته في هذه الآية: ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ? الخطاب موجه لمن؟ للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأين الرسل إذن؟ الرسل كانوا قبل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ فكيف يوجه الخطاب للنبي -عليه الصلاة والسلام- وهو واحد ويقول الله: ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ?؟ أفادت هذه الآية أن كل رسول أمر بما أمر به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وفي هذا فائدة، وهي أن الإنسان يحرص على أن يأخذ بما أُمر به الأنبياء والمرسلون بماذا أمرهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-؟ أمرهم أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا الصالحات وهذا يدل على أن الأكل من الطيبات له أثر في العمل الصالح فمن كان مطعمه حلال ومشربه حلال كان عمله -إن شاء الله- صالحاً وسار في ذلك سيراً حسناً وسلك طريقاً إلى الله -عز وجل- طريقاً سليماً مستقيماً, والأكل من الطيبات يعين العبد إذن على العمل الصالح، والمراد بـ ?الطَّيِّبَاتِ?: هي الحلال أو الحلال الذي لا شبهة فيه، وقد قام الأنبياء والمرسلون بما أمرهم به رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- خير قيام, فكانوا يعملون الصالحات ويأكلون من الطيبات ويتوجهون إلى الرب -تبارك وتعالى- بسائر القربات, وكان الأنبياء والمرسلون كما أخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يأكلون من عمل أيديهم، قد ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام-: (أن داود -عليه السلام- كان يأكل من كسب يده)، وهذا في داود خاصة ولكن ورد في البخاري عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم) وهذا يدل على أن قيام النبي برعي الغنم وهي(3/485)
(13/15)
---
مهنة يدل ذلك على أنه كان يأكل من كسب يده وأنه كان يعمل عملاً يعود عليه بشيء من المال فيأكل منه، (ما من إلا وقد رعى الغنم، قالوا: حتى أنت يا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ قال: حتى أنا رعيتها على قراريط لأهل مكة صلوات الله وسلامه عليه).
ثم اعلموا أن الله -عز وجل- كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمركم يا أهل الإيمان بما أمر به الأنبياء وبما أمر به المرسلون وهذا يدعوكم إلى أن تتشبهوا بالأنبياء والمرسلين في الأكل من الطيبات وعمل الصالحات، أخرج الإمام مسلم في صحيحه وغيره عن أبي هريرة -رضي الله تبارك تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحً? [المؤمنون: 51] وقال لأهل الإيمان: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ? [البقرة: 172])، ثم ذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث أن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، أمر المرسلين في هذه الآية ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحً? وأمر المؤمنين ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ? [البقرة: 172] ثم ذكر ثم ذكر -صلى الله عليه وآله وسلم- فائدة تتمة جميلة لهذا الحديث الذي ابتدأه بقوله: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيب) ذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك) ولهذه هي دعوة لأن يأكل المؤمن من كسب يده ومن الطيبات الصالحات، يأكل المؤمن من الطيب الذي لا يقبله إلا رب العزة والجلال سبحانه, وما ليس بطيب لا يقبله ربنا -عز وجل-(3/486)
فالمؤمن يحرص
(13/16)
---
على أن يعمل الصالحات وأن يأكل من الطيبات، وإذا أكل من الطيبات كان ذلك سبباً في أن يدفعه ذلك إلى العمل وأن يقوم بالصالحات لله -تبارك وتعالى-.
بقيت فائدة في هذه الآية أود أن أشير اليها، بفضل الله -تبارك وتعالى- استنبطتها منها ولعله يكون استنباطاً حسناً، هذه الآية ذكرت بعد قصة عيسى -عليه السلام- بعد قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً? قال الله -عز وجل- مباشرة: ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ? وعيسى من الرسل، وأُمر أن يأكل من الطيبات، وهذا يدل على أن عيسى ماذا؟ بشر، يأكل كسائر البشر وكسائر الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليه-؛ لأنه داخل في الأمر الذي أمره الله -تبارك وتعالى- به الأنبياء والمرسلين، ?يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ? وعيسى منهم -عليه الصلاة والسلام- فدل ذلك على أنه بشر رسول -صلوات الله وسلامه عليه-.
المحور الرابع في هذا اللقاء: دين الأنبياء هو الدعوة إلى عبادة الله وحده دون سواه.
(13/17)
---(3/487)
وأفتتحه بقول الله -تبارك وتعالى-: ?وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ?52?? ينص الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية على أن دين الأنبياء واحد، دين الأنبياء الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى- دين واحد، بدليل قوله: ?وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً? والأمة لها عدة معانٍ كما وردت في القرآن الكريم، فالأمة في القرآن الكريم تأتي بمعنى البرهة من الزمن، يعني الوقت من الزمن، كقول الله -تبارك وتعالى- في سورة يوسف: ?وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ? [يوسف: 45] وتأتي الأمة في القرآن الكريم أيضاً بمعنى الجماعة أو الطائفة وهذا أكثر استعمالاً في القرآن الكريم كقول الله -تبارك وتعالى-: ?كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً? [البقرة: 213] يعني جماعة أو طائفة واحدة، ومنه قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ? [النحل: 36] أيضاً أمة يعني طائفة أو جماعة كبيرة من الناس, وأيضاً كلمة أمة تأتي في القرآن الكريم بمعنى الإمام المقتدى به، كما قال الله -عز وجل- في إبراهيم -عليه السلام-: ?إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ? [النحل: 120] تأتي الأمة أيضاً بمعنى الملة والدين، وهي المعنية في هذه الآية: ?وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً? يعني دينكم واحد وملتكم واحدة ?وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ? يعني إذا كان الأمر كذلك فاجعلوا بينكم وبين عذاب الله -سبحانه وتعالى- وقاية، احذروا من مخالفة الأنبياء والمرسلين وهذه الآية أتت بعد أمر الله -عز وجل- للرسل بالأكل من الطيبات وعمل الصالحات وهي تفيد أن المرسلين أتوا من عند رب العالمين –سبحانه- وأنهم أتوا جميعاً بدين واحد وعلى العباد أن يتمسكوا بملة واحدة وبالدين الواحد الذي جاء من عند الله(3/488)
(13/18)
---
-تبارك وتعالى-، وأن يتقوا عذاب الله –سبحانه- فلا يخالفوا أمر الأنبياء أو أمر المرسلين، قد يقول قائل: كيف نقول بأن دين الأنبياء واحد وشرائعهم مختلفة متعددة, والله -عز وجل- في كتابه يقول: ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجً? [المائدة: 48] ؟؟؟ نقول؟ الملة واحدة والدين واحد في أصل الدين ولبه وجوهره وأساسه، وفيما اتفقوا جميعاً عليه ألا وهو: إفراد الله -سبحانه وتعالى- بالوحدانية وبما وصف به -سبحانه وتعالى- نفسه من صفات الجلال والكمال، فكل ما جاء الأنبياء والمرسلون به في أصل الدين هو في الحقيقة واحد، جميع الأنبياء والمرسلين نصوا على أن الله -سبحانه وتعالى- إله واحد وقد سبقت الإشارة إلى ذلك مراراً وتكراراً وأؤكد عليها هنا حتى لا يأتي إنسان فيلبس على بعض المسلمين ويقول: بأنه يحق لنا أن نتبع أي نبي من الأنبياء؛ لأن لكل نبي شرعة تخالف ما كان عليه النبي الآخر، نقول: الشرائع وإن اختلفت أعني التكاليف العملية الشرعية قد تختلف من نبي إلى نبي ومن رسول إلى رسول أما أصل الدين ولبه وأساسه الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى- وبُعث وأتى به كل رسول من عند ربه هو الاشتراك في أمر واحد، ألا وهو: إفراد الله -عز وجل- بالوحدانية، والدعوة إلى عبادة الله وحده دون سواه، وعلى العالم أجمع أن يعرف ذلك وأن يعلموا جميعاً أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو خاتم الأنبياء والمرسلين جاء ليقرر هذه الحقيقة من عند الله -تبارك وتعالى- وهو في الحقيقة جاء تابعاً في هذا الأمر وفي هذه المسألة لما كان عليه الأنبياء والمرسلون قبله -صلوات الله وسلامه عليه-.
(13/19)
---(3/489)
ثم بعد ذلك تذكر الآيات نتيجة حتمية مريرة بعد أمر الله -عز وجل- للأمم كلها أن يلتزموا دين الله -عز وجل- وملته الواحدة التي بُعث بها جميع الأنبياء والمرسلين، الآية السابقة ?وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ?52?? الآية التي بعدها أفادت أمراً صعباً على النفس ولكنه واقع لا محالة: ?فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ?53?? أي تقطع المنتسبون إلى الأنبياء والمرسلين، أمرهم بينهم قِطَعاً متعددة مختلفة قوية ونستفيد هذه القوة من قول الله -تبارك وتعالى-: ?زُبُرً? تفيد أنها قِطَعٌ قوية كزبر الحديد، ?فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ? وما كان ينبغي لهم ذلك، بعد أن أمرهم الله -عز وجل- بأن يتقوه فيلتزموا أمره وشرعه ما وقع هذا الأمر عند الكثير من الناس، موقعاً حسناً وما سلكوا الطريق إلى الله -عز وجل-، كما أمرهم الأنبياء والمرسلون، فكانت النهاية والنتيجة كما سيأتي الإشارة إليه بعد قليل، ولكن هنا ?فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرً? وكأن قائلاً قال: ماذا كان موقفهم بعد هذا التقطع؟ هل ندموا على ما هم فيه من ضلال؟ أم فرحوا بما وصلوا إليه؟ للأسف الشديد فرح هؤلاء المختلفون بما هم عليه، لم يرضوا فقط، بل فرحوا، قال الله -عز وجل-: ?كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?، لم يرضوا فيه فقط ولكنهم بلغ بهم السرور مبلغاً كبيراً وفرحوا بهذا التقطع وبهذا التمزق وبهذا الاختلاف، وأنا أقول من هذا المنبر لأمة الإسلام: إذا اختلفت الأمم السابقة على الأنبياء والمرسلين فإن أمة النبي الخاتم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يجب ألا تختلف في هذا الدين، لماذا؟ لأن لها مرجعية, يجب أن تفهم ذلك تختلف عن مرجعية سائر الأمم، عندها كتاب محفوظ، وعندها سنة أيضاً محفوظة ألا وهي سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.(3/490)
(13/20)
---
الله -عز وجل- أنزل القرآن على هذه الأمة وقال فيه: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ?9?? [الحجر: 9] والله -عز وجل- حفظ السنة كما حفظ القرآن، حينما أهَّل رجالاً وأعدهم لخدمة هذه السنة فجمعوها وميزوا صحيحها من ضعيفها من موضوعها وهذا تأييد من الله -عز وجل- لسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-. والله -عز وجل- في هذا حكم عدل لماذا؟ وإن كانت هذه مسألة عابرة ولكن أتت عليَّ الآن أو خاطرة، الله -عز وجل- حفظ السنة كما حفظ القرآن لماذا؟ لأن الله -عز وجل- أسند بيان القرآن الكريم إلى السنة، في سورة النحل في قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ? لماذا؟ ?لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ? [النحل: 44] فأسند البيان لمن؟ للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والنبي أتى بالسنة، فالسنة هي التي تبين القرآن والله أمرنا باتباع القرآن، ولا يمكن أن يحيلنا ربنا -عز وجل- إلى أمر غير محفوظ لأننا لن نتمكن من العمل بالقرآن إلا من خلال السنة، فلا يمكن أن يحيلنا ربنا -سبحانه وتعالى- إلى شيء غير محفوظ، إذن ما كان ينبغي لهذه الأمة أن تختلف في أمر من أمور الدين، إن اختلفت في مسائل فقهية، يسوغ فيها الخلاف فهذا أمر سائغ، أما أصل الدين وأساسه ولبه وما جاء من عند الله -تبارك وتعالى- من الآيات المحكمات يجب على المرء ألا يخرج عنها بحال من الأحوال، ولكن للأسف الشديد وقع أيضاً شيء من التفرق والاختلاف، وكان هذا سببه يرجع إلى عدة أمور:
الأمر الأول: الجهل بدين الله -تبارك وتعالى-، الجهل يؤدي إلى هذه المسائل.
الأمر الثاني: تحكيم العقل، وتقديم العقل على النص يحدث مثل هذه الفجوات.
(13/21)
---(3/491)
الأمر الثالث: الابتداع في دين الله -تبارك وتعالى-، هذه البدع تؤدي إلى التفرق والاختلاف؛ لأن من يأتِ ببدعة سيترك بذلك سنة، ولله مزيد الحمد والفضل، أن أهل السنة في كل عصر ومصر لهم راية مرفوعة وبالتالي سيختلفون مع أهل البدع الذين يأتون بها والمخرج من كل ذلك هي العودة إلى الأصل الصافي، العودة والرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وتجريد المتابعة مع الإخلاص، الإخلاص لله -تبارك وتعالى-، وتجريد المتابعة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ووالله لن ينجو العبد بين يدي الله -عز وجل- إلا إذا كان متبعاً لكتاب ربه ولسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن العبد إذا وُضع في قبر سيسأل عن ثلاثة أسئلة، ليس فيها هوى متبع وليس فيها إمام يمكن أن ينظر إليه أو أن يؤخذ بقوله إلا رسول الهدى والرحمة -صلى الله عليه وآله وسلم-، العبد إذا وضع في قبر سيسأل عن ربه وعن دينه وعن الرجل الذي بُعث فيه، ألا وهو نبي الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه- وبالتالي أكرر الدعوة إلى عموم المسلمين أن يتمسكوا بدين الله -تبارك وتعالى- وأن يفقهوا الكتاب والسنة، على مقتضى ما فهمه سلف هذه الأمة وأن يرجعوا إلى الدين القويم الذي جاء من عند الله -عز وجل- وأن يتركوا الابتداع والاختلاف في دين الله -عز وجل- حذر وتوعد المختلفين في دينه فقال: ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ? [الأنعام: 159].
(13/22)
---(3/492)
?فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ?53?? بعدها يقول رب العزة والجلال سبحانه: ?فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ?54?? هذا وعيد وتهديد وحُقَّ لرب العزة والجلال سبحانه بعد هذا البيان الصافي أن يهدد وأن يتوعد, يا عبد الله ربك يناديك وينزل عليك الآيات المحكمات ويبعث إليك الأنبياء ثم بعد ذلك تتفرق وتترك العمل بالدين الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى- ليس بعد ذلك أمام كل مكذب إلا التهديد والوعيد الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى- والآية موجه فيها الخطاب لمن؟ للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ?فَذَرْهُمْ? أيها الرسول -عليه الصلاة والسلام- في سكرتهم وضلالتهم وغفلتهم حتى حين، إلى حين انقضاء آجالهم وإلى حين الوقوف أيضاً بين يدي الله -تبارك وتعالى- فحينما ينقضي أجلهم سيكونون في البرزخ إن كانوا كافرين فلهم عذاب البرزخ، ثم بعدما يبعثون ويقفون بين يدي الله -عز وجل- سيدخلون جهنم وبئس القرار وهذا وعيد وتهديد من رب العزة والجلال سبحانه يدعو كل عاقل إلى أن يتأمل في مثل هذه الآيات وأن يدخل في دين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- دون اختلاف فيه أو مخالفة لما جاء من عند الله -عز وجل-، وهذا التهديد والوعيد في هذه الآية جاء مثله في القرآن الكريم كثيرًا كقول الله -تبارك وتعالى- مثلاً: ?فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ?17?? [الطارق: 17] وكقوله سبحانه: ?هُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ?3?? [الحجر: 3].
(13/23)
---(3/493)
ثم يقول -سبحانه وتعالى- بعد ذلك: ?أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ?55? نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ?56?? هذه الآية في الحقيقة جاءت في موطنها تماماً لماذا؟ لأن المؤمن المصدق والمكذب المكذب كلاهما قد يأتي إليه الشيطان من جانب، المؤمن المكذب كثيرًا ما يستدرجهم رب العزة والجلال بالنعم، فيظنون أنهم بهذا على طريق قويم لأن الله -تبارك وتعالى- أنعم عليهم والمؤمن المصدق قد يأتي إليه الشيطان ويقول: أنت ضعيف أو فقير أو ما إلى ذلك، وغيرك ممن كفر وصل إلى الدرجات العلى في هذه الحياة الدنيا، فتأتي هذه الآية لتسد على الشيطان وسائله ووساوسه وتضع الأمر في نصاب صحيح والله -عز وجل- يقول فيها: ?أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ?55? نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ?56?? ومعنى ذلك: أن هؤلاء القوم كانوا يعيشون في نعم متعددة وأنهم حقاً كانوا من المترفين، وحتى لا يظن ظان أن هذا كله بسبب أن الله -سبحانه وتعالى- رضي عنهم ومن عليهم وأعطاهم فبينت الآيات أن ما يعطيه رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- للكافرين من الأموال والأولاد ليس لكرمهم عند الله -عز وجل- وليس لمعزتهم عنده سبحانه؛ لأن المشركين قالوا ذلك، ?وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ?35?? [سبأ: 35] قالوا: طالما أن نحن أكثر أموال وأولاد في الدنيا فلن نعذب وظنوا أن الله فضلهم على غيرهم وأنه رضي عنهم، بسبب ما من عليهم وأعطاهم من المال والبنين ولكن الله -تبارك وتعالى- بين لهم أيضاً في كتابه أن ذلك لم يكن لرضاه -سبحانه وتعالى- عنهم فقال: ?وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى? [سبأ: 37] هذه الأموال وهذه الأولاد لا تقربكم عند الله -سبحانه وتعالى- زلفى ولم يستثنِ(3/494)
(13/24)
---
ربنا -عز وجل- ?إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحً? [سبأ: 37] أما الإنسان إذا كان عنده مال ولم يؤمن برب العزة والجلال –سبحانه- فلا يظن أن هذا المال سينفعه وأنه سيستفيد منه. وصاحب الجنة الذي جاء ذكره في سورة الكهف غرته هذه النعم وقال الله عنه في كتابه: ?وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ? [الكهف: 35] فماذا كان من أمره؟ ?مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدً? [الكهف: 35] وأدى به ذلك إلى أن ينكر الساعة، ?وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً? [الكهف: 36] وعلى فرض أنها ستأتي ?وَلَئِن رُّدِدتٌّ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنْقَلَبً? [الكهف: 36] وهذا فهم في الحقيقة مغلوط، وللأسف الشديد موجود عند بعض الناس اليوم، بعض الناس اليوم يقول: غني الدنيا هو غني الآخرة، لا هذا مفهوم مغلوط، هذا ليس بصحيح، فالله -عز وجل- إن ضيق عليك يا أيها المؤمن في هذه الحياة الدنيا فقد يكون هذا التضييق فيه نفع لك، ومن يدريك أن الله -عز وجل- لو وسع عليك وبسط لك من الرزق أنك ستكون على ما أنت عليه من الإيمان والعمل الصالح فالإنسان أو على العبد أن يشكر ربه ومولاه وأن لا يغتر بما عليه الكافر, ثم يجب أن نعلم أن الله -عز وجل- يعطي لهؤلاء الكافرين؛ لأنه يستدرجهم. الله -عز وجل- يعطي للكافرين الإنسان يكون في غي في ضلال ومع ذلك الله -سبحانه وتعالى- يعطيه ويمن عليه ويوسع له في هذه الحياة الدنيا، وقد يظن بذلك أنه من العالين وأن رب العزة والجلال رضي عنه ورضي عن كفره الذي هو فيه، بدليل أن الله -سبحانه وتعالى- أعطاه، وهذا ليس بصحيح بحال من الأحوال ألا فليعلم المكذبون والظالمون وممن يغفلون في ثوب الصحة والعافية والنعيم ألا فليعلموا أن الله -عز وجل- كلما يعطيهم من هذه الحياة الدنيا من سعة رزق ومال وصحة وولد وما إلى ذلك لا يظنون بحال من الأحوال أن هذا رضاء من الله -سبحانه وتعالى- عليهم، كلا(3/495)
ثم كلا ثم
(13/25)
---
كلا، يقول رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في أمثال هؤلاء: ?فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ?44? وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ?45?? [القلم: 44، 45] ثم اعلموا أيها المخاطبون أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بيَّن لكم في حديثه أمراً مهماً جدًا فقال: حتى المسلم الذي ضيق عليه لا يتأثر ولا يصيبه شيء من الغم أو الهم أو الحزن أو النكد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بيكم أرزاقكم) الله -عز وجل- قسم الأخلاق بين العباد كما قسم الأرزاق، ثم يقول -صلى الله عليه وآله وسلم- في القول الجليل: (وإن الله -عز وجل- يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب) فمن أعطاه الله -عز وجل- الإيمان والعمل الصالح فهو في قمة السعادة والنعيم وفي الآخرة ونحن ننظر إلى المترفين فنقول بأن هؤلاء قوم ابتلاهم رب العزة والجلال سبحانه، ولذلك قتادة -رحمه الله تعالى- قال في هذه الآية كلمة جميلة قال: مكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم يا ابن آدم فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح، ولذلك نحن نتسائل أين قارون؟ أين هامان؟ أين فرعون؟ أين من أعطاهم الله -عز وجل- في هذه الدنيا؟ أين هم الآن؟ لم نراهم، ولم نراهم يوم القيامة في نعيم وإنما خسف الله -عز وجل- بدارهم، وأغرق الله -عز وجل- بعضهم، وقلب قراهم عليهم وكانوا من المترفين المنعمين لديهم أموال ولديهم نعيم ولديهم جنان ولكن كل ذلك لم ينفعهم لما لم يؤمنوا برب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والله -عز وجل- يبين أن ما يعطيه لهؤلاء الكافرين إنما هو استدراج لهم من حيث لا يعلمون، وهذا يدل على أن هؤلاء المكذبين المترفين سفهاء والله والله إنهم جهال، ما عرفوا الطريق إلى الله -تبارك وتعالى- والله -عز(3/496)
وجل- صادق في قوله
(13/26)
---
حينما قال: ?سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ? [الأعراف: 182] كأنهم حيوانات، لا يعقلون ولا يفهمون ويسحبون كالبهائم ?سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ? [الأعراف: 182] وبالتالي المؤمن لا يحب لنفسه أن يكون في هذه المكانة، ولا أن ينزل هذه المنزلة وبالتالي عليه أن يؤمن ويصدق بما جاء من عند الحق -تبارك وتعالى- وأن لا يختلف فيه وأن ينظر إلى من أعطاهم الله -عز وجل- شيئًا من النعيم وهم مع ذلك يكفرون بالله -تبارك وتعالى- أن مآلهم في خسارة ووبال ونكد ووبالن ويكفي يا عبد الله أن الله من عليك بالإيمان والعمل الصالح فاحرص على ذلك واعبد الله -عز وجل- حتى يأتيك اليقين، وأكتفي بهذا وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين.
فضيلة الشيخ وردتنا إجابات عدة على أسئلة الحلقة الماضية.
وكان السؤال الأول:
لماذا أرسل الله الأنبياء والمرسلين من جنس أقوامهم؟
وكانت الإجابة:(3/497)
من الشبهات التي أوردها الكفار عن الرسل والأنبياء بأنهم بشر مثلهم يأكلون مما يأكلون منه ويشربون مما يشربون هم منه، فأنكروا أن يكون الرسول والنبي من جنسهم وكذبوه وخالفوه وأبوا اتباعه لكونه بشرا مثلهم واستنكفوا عن اتباعه عندما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال الله -عز وجل-: ?مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ? [المؤمنون: 33] وقد أرسل الله الرسل وجعلهم من جنسهم لحكمة: وهي معرفة حسبه ونسبه وصدقه ليكون ذلك أسرع لانقيادهم إذا كان منهم وأبعد عن اشمئزازهم ويكون مألوفاً عندهم وكما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة الأنعام: ?وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُل? [الأنعام: 9] أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً ملكياً لكان على هيئة الرجل ليمكنهم من مخاطبته والانتفاع بالأخذ منه ولو كان من الملائكة لالتبس على أنفسهم في قبول الرسالة.
(13/27)
---
الجواب صحيح وسديد الحقيقة وفيه إسهاب عند ذكر أنه لو كان أيضاً المجيب لو كان ملكاً لكان بشرا والتبس أيضاً الأمر على المخاطبين.
السؤال الثاني: أهل الباطل دائما يتهمون المصلحين بالفساد، اذكر ما يدل على ذلك من القرآن الكريم؟
كانت الإجابة:(3/498)
قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ?34?? [المؤمنون: 34] وقال الله تعالى: ?وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً ?41?? [الفرقان: 41] وقال الله تعالى: ?وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً ?94? قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً ?95?? [الإسراء: 94، 95] بين هذه الآيات أن من سفه وجهل أهل الباطل أنهم يتهمون الحق وأهله بالضلال والفساد.
في الحقيقة يعني كلام قريب إلى الجواب المطلوب وإلا هناك آيات أخر صريحة في الإجابة عن هذا السؤال وقد ذكرتها في الحلقة الماضية وهي قول فرعون: ?وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ?26?? [غافر: 26] فقول فرعون وهو إمام المفسدين في الأرض عن موسى أو يخاف من أن موسى يفسد في الأرض دليل على أن أهل الباطل مع ظلمهم وفسادهم يتهمون المصلحين بالفساد.
السؤال الثالث: ذكر في القرآن الكريم أدلة كثيرة على البعث والنشور اذكر ثلاثة منها مع الدليل على ما تقول؟
وكانت الإجابة مختصرة:
(13/28)
---(3/499)
قال الله تعالى: ?كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ? [الأنبياء: 104] وقال الله -تبارك وتعالى-: ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ?68?? [الزمر: 68] وقال الله تعالى: ?وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ?7?? [الحج: 7].
هو في الحقيقة كأن المجيب أخذ بالمقولة والحكمة خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل، السؤال الجواب عليه كان يقتضي شيئًا من الإطناب أكثر من هذا والقصد منه ما ذكرته من أمور أربعة والأمر الرابع ذكرت فيه خمسة أنواع والأمر الأول الذي ذكرته: خلق السماوات والأرض وأيضًا خلق الإنسان أول مرة، وذكرنا أيضاً من الأدلة على البعث والنشور إحياء الله -تبارك وتعالى- الأرض بعد موتها، وإحياء بعض الناس في الدار الدنيا، هذا هو الجواب الصحيح على مثل هذا السؤال.
الأخت الكريمة من مصر تقول: إذا توالت نعم الله -عز وجل- على الإنسان المسلم كيف يفرق بين هل هي مسارعة له في الخيرات من الله -عز وجل- أم هو والعياذ بالله استدراج من الله؟ أي هل يفرح بهذه النعم أم يكون على حذر منها؟
السؤال الثاني: عند ذكر الآيات على سيدنا موسى -عليه السلام- في سورة الأعراف بعدما ذكر الآيات الطوفان والجراد والقمل قال: ? وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ? [الأعراف: 134] فما هو هذا الرجز؟
سؤالها الأول فضيلة الشيخ إذا توالت النعم على العبد المسلم هل هي متابعة للخيرات أم هي استدراج من الله -تبارك وتعالى-؟
(13/29)
---(3/500)
هو في الحقيقة السؤال يوضح ما فيه، لأن السؤال: إذا توالت نعم الله على العبد المسلم، فطالما أنه مسلم فنعم الله -سبحانه وتعالى- كثيرة تأتي بالمسلم من باب الشكر والله -عز وجل- يقول: ? وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ?7? ? [إبراهيم: 7] فالإنسان إذا أنعم الله -عز وجل- وكان مسلماً وقام بأداء شكر هذه النعمة من الله -سبحانه وتعالى- عليه بالزيادة ويمكن للإنسان أن يعرف أن هذا من باب الاستدراك أو غيره، أنه كلما زادت عليه النعم إن كان من المؤمنين حقاً كلما عرف فضل الله -تبارك وتعالى- عليه وازداد طواعية وقياماً بحق الله -تبارك وتعالى- فالإنسان إذا كانت هذه النعم تدفعه إلى الإيمان بالله أو كثرة أو زيادة الإيمان والعمل الصالح يمكن أن يستدل من خلالها على أن هذا مؤشر عن رضا اللله -سبحانه وتعالى- عنه.
أما إن كان هذه النعم تلهيه أو تصده عما كان يفعله ففي هذه الحالة يمكن أن يخشى منها على نفسه، وعليه في هذه الحالة ألا يسعى في الاستكثار من هذه النعم، وأن يوفر شيئًا من الجهد ومن الوقت للعبودية الحقة لرب العالمين -سبحانه وتعالى-، والله أعلم.
الأخ الكريم من فرنسا يقول: السلام عليكم فضيلة الشيخ لي استفسار يقول: عندنا خطيب الجمعة يأتي بالخطبة الثانية مترجمة باللغة الفرنسية ويذكر الآية بعدما يذكر البسملة بالعربية ويظن السامع أنه سيقرؤها بالعربية فإذا به ينطقها بغير العربية وفي الأخير يذكر رقم الآية والسورة وكأنه قرأها بالحرف القرآني، هل هذا يصح ؟ أفيدونا أفادكم الله.
(13/30)
---(4/1)
جمهور أهل العلم على أن القرآن لا يقرأ إلا باللسان العربي كما نزل من عند الله -تبارك وتعالى- وعلى هذا الخطيب ونوجه إليه وأطلب من الأخ الكريم -جزاه الله خيراً- أن يبين له الوجه الصحيح في مثل هذه الحالة، وهو أنه يترجم هذه الآية إلى اللغة التي يتكلم بها يعني يترجم معنى الآية بما يفيد معناها وبما يؤدي الغرض منها، أما أن يكتب نفس الآيات مترجمة على أنها كلام الله -تبارك وتعالى- فليس هذا من الصواب؛ لأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، وهو إذا قرأه على الناس كما نزل من عند الله -تبارك وتعالى- حتى ولو لا يحسنون النطق بالعربية فيتعلمونه هكذا وينطقونه هكذا ويصبح عليه هو، يعني هو سيعلمهم القرآن الكريم كما نزل من عند الله فيتلونه كذلك من ورائه وعليه بعد ذلك أن يعلمهم معنى الآية التي قرؤوها أو عرفوها أو حفظوها أن يعلمهم معناها باللغة التي ينطقوا بها.
الأخت الكريمة من مصر تقول: عندي ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: في آية ? كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ? هل الأكل من الأضاحي يجب أن يكون بعد صلاة العيد؟ أم يمكن للإنسان أن يأكل من أي شيء غير الأضحية بعد صلاة العيد, حتى لو كان هو الذي سيضحي؟
السؤال الثاني: هل ثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- داوم على صيام التسعة أيام من ذي الحجة ولم يتركها أبداً فتكون بذلك سنة مؤكدة؟
السؤال الثالث: هل إذا المرأة طلبت الانفصال بسبب فسق زوجها مثل تقصير اللحية الشديد ينقص في إيمانها؟
فضيلة الشيخ كان سؤالها الأول عن قول الله -عز وجل-: ?كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ? هل الأكل من الأضحية بعد صلاة العيد؟
(13/31)
---(4/2)
هذا السؤال يتناسب مع الزمن الذي نحن فيه -إن شاء الله تبارك وتعالى- وسؤالها في الحقيقة أيضاً مهم بمعنى أن نعلم الناس السنة في مثل هذا. النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان إذا خرج لعيد الفطر قبل أن يخرج أكل ثمرات وتراً -صلى الله عليه وسلم- واحدة أو ثلاثة أو خمسة, أما في عيد الأضحى كان يخرج إلى المصلى دون أن يأكل شيئًا ثم إذا انتهى من الصلاة والخطبة رجع إلى بيته فذبح أضحيته -عليه الصلاة والسلام- وأكل منها، فكان أول شيء يأكل منه النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول أيام العيد وبعد صلاة العيد هو أن يأكل من الأضحية وهذا على سبيل الاستحباب أو من السنة العملية التي فعلها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فيستحب للمرء أن يفعل ذلك وإن أكل من غير ذلك فلا حرج عليه -إن شاء الله تعالى- ولكن الأولى العمل بهدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
سؤالها الثاني تقول: هل ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صام التسعة أيام؟
(13/32)
---(4/3)
ورد حديث في سنن أبي داود وحسنه كثير من العلماء عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (كان يصوم التسع من ذي الحجة) وعند النظر في هذا الحديث والبعض تكلم حوله ولكن الراجح أنه حديث حسن إن لم يكن صحيحاً، عند النظر في هذا الحديث يمكن أن نفهم شيئًا ، وهو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لعله لم يداوم على صيام التسع يعني صام مرة -صلى الله عليه وآله وسلم- لأنه لو داوم لورد هذا كثيراً عن كثير من الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- ولاشتهر هذا بين الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- فدل هذا على أنه -صلى الله عليه وسلم- قد صامه في بعض الأعوام والعلة في هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحياناً كان يحب أن يفعل الشيء ويتركه مخافة أن يفرض على الأمة كما لم يصلِّ بالناس صلاة التراويح في رمضان -صلى الله عليه وآله وسلم- ويداوم عليها، بعدما صلى بهم ثلاث ليال ولكن وارد في سنن أبي داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صام التسع والصيام من أحب الأعمال إلى الله -تبارك وتعالى- والحديث في البخاري ومسلم : (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله -عز وجل- من هذه الأيام العشر) ويعني النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك هي أيام عشر ذي الحجة فإذا صامها الإنسان من تحت هذا الباب فيكون قد فعل فعلاً عظيمًا وقام بطاعة لله -تبارك وتعالى- مرغبٌ فيها من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الأخ الكريم من السعودية يقول: جاء في تفسيره لقول الله -تبارك وتعالى-: ? وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ ? [الأعراف: 145] جاء في التفسير قال أن الله -تبارك وتعالى- كتب التوراة بيده، فهل من إضافة إدلة من السنة النبوية حتى يثبت الأمر؟
(13/33)
---(4/4)
نشكرك يا أخي الكريم على هذا السؤال الطيب والحقيقة النص واضح من القرآن الكريم على أن الله -تبارك وتعالى- كتب الألواح يعني التوراة بيده -عز وجل- والحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يؤكد ذلك، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- ذكر أن الله -سبحانه وتعالى- خلق ثلاثة أشياء بيده، -صلى الله عليه وآله وسلم- النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك في الحديث، بأن الله -عز وجل- خلق ثلاثة أشياء بيده، لا شك أن الله -عز وجل- خالق الخلق كله، خالق الكون من أوله إلى آخره ولكن خص ثلاثة أشياء بأنه خلقها بيده ولذلك قال أهل السنة والجماعة بأن هذا يفيد تعظيم هذه الأشياء وأن الله -سبحانه وتعالى- باشر خلق هذه الأشياء بيديه وأنه -عز وجل- يتصف بصفة اليد وأن له -سبحانه وتعالى- يدين كما يليق ذلك بجلال الله -تبارك وتعالى- ، الحديث أرجع إليه مرة أخرى ، (خلق الله -عز وجل- ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده) وهذا منصوص عليه في القرآن الكريم قال الله -عز وجل- لإبليس: ? مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ? [ص: 75] فدل ذلك على أن الله -عز وجل- له يد، الأمر الثاني: (غرس جنة عدن بيده) -سبحانه وتعالى-، الأمر الثالث: (وكتب التوراة بيده)، وهذا قول صادق صحيح صريح من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذا الأمر ولا شك أن بعد هذا البيان من القرآن الكريم ومن السنة النبوية لا يبقى كلام أو قول لقائل في مثل هذا الأمر.
الأخ الكريم يقول: ما الحكمة من قول الله -سبحانه وتعالى- في الآية السادسة والأربعين في إرسال موسى وهارون إلى فرعون وملئه ? فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ? فما الحكمة من تعدد فاستكبروا والعلو، فإن الفعل واحد والمترتب عليه واحد؟
(13/34)
---(4/5)
أحسنت، في الحقيقة لفتة جميلة من الأخ الكريم -جزاه الله خيراً-، الاستكبار يكون فعل شك أن فيه جانب من جوانب العلو، ولكن الاستكبار يكون على عباد الله -تبارك وتعالى- ويكون أيضاً على ما جاء من عند الله -عز وجل-، يعني يتكبر على هذا وعلى هذا بدليل أن القرآن الكريم ذكر أن هؤلاء تكبروا على ما جاء من عند الله -سبحانه وتعالى-: ?سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيل? [الأعراف: 146] فهؤلاء لما يذكر ربنا -عز وجل- هؤلاء المتكبرين أنهم لا يسلكون طريق الرزق الذي نزل من عند الله -عز وجل- فنفهم من هذا أنهم تكبروا على ما جاء من عنه -سبحانه وتعالى- أما وصفهم بالعلو فهو علو في الأرض على عباد الله -عز وجل- وبالبغي على الموجودين في أزمانهم والتكبر عليهم أيضاً وتسخيرهم في الخدمة الشاقة وما إلى ذلك، الشاهد يصبح إذن الاستكبار أعم من العلو لأنه يشمل الاستكبار على الخلق وعلى ما جاء من عند الله -تبارك وتعالى-، أما العلو فيكون بالاستبداد في الأرض على من تحت أيديهم أو من سخروهم هم، وملكهم الله -عز وجل- أمرهم، والله أعلم.
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة من مصر تقول: السلام عليكم ورحمة الله ما هو السلطان المبين المذكور في قول الله تعالى: ? ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ?45?? ؟
(13/35)
---(4/6)
السلطان المبين أشرت إليه معناه هو: الحجة الواضحة، يعني السلطان في هذه الآية المراد به الحجة الواضحة وأنا قلت بأن الآيات التي أتى بها موسى -عليه السلام- الآيات التسع التي ذكرتها كانت آيات بينات واضحات وفهمنا هذا من قول الله -تبارك وتعالى- عنها أو وصف الله -عز وجل- لها بأنها سلطان مبين، هذا هو المعنى.
الأخ الكريم من إيطاليا يقول: ما دليل حفظ الله للسنة والرد على الذين يحاجوننا بالأحاديث الضعيفة والموضوعة على أن السنة لم تحفظ؟
الدليل على حفظ الله -سبحانه وتعالى- للسنة: أدلة كثيرة متواترة قد ذكرت بعضها ولعل المقام لا يتسع لأن أذكر كثيرًا من الأدلة, يعني ومنها قول الله تعالى: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ?9?? [الحجر: 9] فالذكر أول ما ينصرف ينصرف إلى القرآن ولكن أيضاً السنة هي ذكر من عند الله -تبارك وتعالى- والله -عز وجل- قد أمرنا بالرجوع إلى السنة ولا يمكن أن يردنا إلى شيء غير محفوظ، يعني لا يمكن أن يردنا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- إلى شيء غير محفوظ.
(13/36)
---(4/7)
الأمر العملي الآن في السنة أن السنة دونت بأدق أنواع التدوين، وهذا حفظ من الله -تبارك وتعالى- لها, النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يقول الكلمة ويكررها أحياناً ثلاث مرات, وكان الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- يحفظون من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما يقوله، وأذن لهم -صلى الله عليه وآله وسلم- في الكتابة بعد ذلك, بعدما نهاهم في أول الأمر حتى لا يختلط القرآن بالحديث ثم بعد ذلك أوجد الله -سبحانه وتعالى- رجالاً أفذاذاً كما ذكرت حفظوا السنة في قلوبهم وعقولهم وصدورهم ووعوها وعياً تاماً وسجلوها في كتب ظهر لنا صحيح البخاري وصحيح مسلم وغير ذلك مما جمع بين الصحيح وغيره، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، فوجد بعد ذلك جهابذة السنة، قيل لعبد الله بن المبارك، هذه الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة من يعيش لها؟ قال: يعيش لها الجهابذة، من لهذه الأحاديث؟ قال: يعيش لها الجهابذة، وجد فعلاً رجال ووجد عندنا علم الجرح والتعديل هذا العلم لا يوجد عند أمة من الأمم وله معايير قويمة ودقيقية وهو مدرسة في الحقيقة يمكن أن يدخل تحته مدارس, هذه المدارس ميزت بين الصحيح وبين الضعيف وبين الحسن، وعلى كل فالأمة أجمعت على صحة ما جاء في البخاري وفي مسلم وتلقته بالقبول والصحيح ليس مقتصراً على البخاري ومسلم بل في سائر السنن الصحيح وغيره، والعلماء قد بينوا هذا وهذا، وهذا من فضل الله على هذه الأمة.
هناك سؤال أخير فضيلة الشيخ وأرجو من فضيلتكم الإجابة عليه بإيجاز ؛ لأن الوقت آزَفَ على الانتهاء: السؤال من الأخت الكريم من الإمارات يقول: أرجو أن تذكر المسلمين بما يجب عليهم من الاحتفال بمناسبة مولد عيسى ابن مريم -عليه السلام-؟
(13/37)
---(4/8)
نحن معشر المسلمين سَنَّ لنا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عيد الفطر وعيد الأضحى وأبدلنا بهما خيراً -صلوات الله وسلامه عليه- وإذا كنا نقول للمسلمين لا يجوز لكم بحال من الأحوال أن تتخذوا أعياداً تسمونها أعياداً إسلامية، غير هذين العيدين, فلا تحتفل بأعياد حتى ولو كانت منسوبة إلى دين الله -تبارك وتعالى- فما بالنا إذن بالاحتفال بأمر ليس من دين الإسلام في شيء، لا شك أن الواجب ألا يقع في هذا مسلم يؤمن بالله ويتابع رسول الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه-، والبدع والمحدثات في الدين مردودة على أصحابها بل إنها تفسد القلوب وتغير موازين العبد -والعياذ بالله تعالى- وتضره ضرراً شديداً، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يتبرأ من البدع ومن المبتدعين فيقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وهذا ليس من هدي النبي -عليه الصلاة والسلام-، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما رأى ورقات كما ذكر بعض أهل العلم أو صحائف في يد عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- من التوراة غضب -صلى الله عليه وسلم- وتغير وجهه وقال: (أمتهوكون فيه) وفي رواية: (أمتهودون فيها أنتم يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا اتباعي) لأن الله -عز وجل- أخذ العهد على الأنبياء والمرسلين إن بُعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يتابعوه والله -عز وجل- قد نسخ ببعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جميع الأديان السابقة فلا يحق لنا بعد ذلك أن نقول بأن هذه أديان نحتفل بشيء منها أو نفرح بقدومها أو يهنئ بعضنا بعضاً بها كل هذا ليس من دين الإسلام في شيء، وجزى الله السائل خيراً.
أسئلة المحاضرة
(13/38)
---(4/9)
السؤال الأول: قال تعالى: ? فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ?47?? ما المراد بالاستفهام في ? أَنُؤْمِنُ ?؟ ولماذا قال ? مِثْلِنَا ? ولم يقل «مثلينا»؟ وما معنى ? وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ?؟
السؤال الثاني: لماذا كان عيسى وأمه آية؟ وما معنى الربوة؟ وأين مكانها مع ذكر الراجح في ذلك؟
السؤال الثالث: اذكر معاني كلمة «أمة» في القرآن الكريم, مع الدليل لما تذكر.
وبين كيف تكون ملة الأنبياء واحدة مع أن شرائعهم مختلفة.
(13/39)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الرابع عشر
الدرس الرابع عشر: تفسير سورة المؤمنون
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً وسهلا ومرحباً بكم وبالحاضرين وبالمشاهدين الكرام وأكرر أيضاً التهنئة بالأيام المباركة التي عاشتها الأمة الإسلامية وأسأل الله -عز وجل- أن يعيد هذه الأيام على الأمة الإسلامية وهي ترفل بأثواب العزة والمجد والكرامة وكل عام وأنتم بخير ونلتفي -إن شاء الله تبارك وتعالى- مع تفسير بعض آيات من كتاب الله -تبارك وتعالى-، وحديثي -إن شاء الله تعالى- سيدور في محاور كالتالي:
المحور الأول: صفات من يسارع في الخيرات.
المحور الثاني: التكليف على قدر الوسع والطاعة.
المحور الثالث: من كذب من المترفين له عند الله عذاب عظيم.
وقبل أن تبدأ نطلب من الأخ الكريم أن نستمع معه ومنه إلى هذه الآيات فليتفضل مشكوراً جزاه الله خيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(14/1)
---(4/10)
? إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ?57? وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ?58? وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ?59? وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ?60? أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ?61? وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ?62? بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ?63? حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ ?64? لاَ تَجْأرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ ?65? قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ?66? مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ?67??.
جزاكم الله خيراً.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديهم وسلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد.
لقد استمعنا قبل لحظات إلى الآيات الكريمات التي سيدور الحديث حولها -إن شاء الله تبارك وتعالى- والآية الأولى وما يليها من آيات تدخل تحت المحور الأول ألا وهو:
المحور الأول: صفات من يسارع في الخيرات:
(14/2)
---(4/11)
ونبتدئ هذا المحور بأول آية استمعنا إليها ألا وهي: قول الحق -تبارك وتعالى-: ? إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ?57?? لو لاحظنا -أيها الإخوة الكرام- نجد أن الله -تبارك وتعالى- في الآيات السابقة ذكر المختلفين المتفرقين الذين ليس لهم من الخير نصيب وقد ذكرت ذلك في اللقاء السابق ومن هذا ما ذكره الله عنهم في قوله: ? فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ?53?? كما نفى ربنا -سبحانه وتعالى- عنهم الخيرات الحقيقية كما قال -جل ذكره-: ? أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ?55? نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ?56?? بعد أن نفى الله -عز وجل- عن هؤلاء المختلفين المتفرقين الخيرات ذكر -سبحانه وتعالى- من هم أهل السعادة ومن هم أهل الخيرات الذين أعد الله -سبحانه وتعالى- لهم ما أعد من النعيم المقيم, وقد وصفتهم هذه الآيات بصفات أربع وصفت أصحاب النعيم المقيم أو أصحاب الخيرات الحقيقية بصفات أربع: الصفة الأولى: هي الإشفاق: وهي الواردة في الآية الأولى في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ?57?? والإشفاق قيل: هو الخوف وقيل: الإشفاق هو الخشية وبالتالي يصبح تكراراً للتأكيد لأن الله قال: ? إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ?57?? والحقيقة كما ذكر أهل العلم أن الإشفاق أمر يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف، يعني: شيء يقوم بالنفس يتضمن الخشية لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- مع شعور الإنسان بضعف وذلة لربه ومولاه الذي خَشَعَ له وخشيه وأشفق منه -سبحانه وتعالى-.
(14/3)
---(4/12)
أما الخشية: فقد عرفها أهل العلم أيضاً بأن الخشية هي الخوف من الله -تبارك وتعالى- أو إشفاق مصحوب بخوف وبالتالي الخشية قالوا: أخص من الخوف ، الخوف أعم يكون مع الخشية وبدونها, أما الخشية تكون مع الخوف من مقام رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ولذلك جعلها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- للعلماء، وأضافها إليها فقال: ? إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ? [فاطر: 28] فالخشية إذن خوف مقرون بمعرفة، ليس خوفاً مطلقاً، وإنما خوف مقرون بمعرفة لله -تبارك وتعالى- وبقدره وبمقامه وكلما كان الإنسان أعرف بالله -عز وجل- وأعلم به كان أشد خشية له, ويؤكد ذلك ويؤيده قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- : (إني لأتقاكم لله وأشدكم له خشية) -صلوات الله وسلامه عليه-، ولذلك أقول: لابد للمؤمن من خشية تقوم في قلبه أي خوف مع حرص على عمل الخير وفعل الطاعات، خشية قائمة على المعرفة، قائمة على ما قام في نفسه وتدبره من آيات ربه من كتاب الله -تبارك وتعالى- وسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بما يليق بذي الجلال والإكرام من صفات الكمال والعظمة التي هي لله -عز وجل- وتُورث خشية في قلب المؤمن يخاف من خلالها ربه ومولاه ليصل بعد ذلك إلى النعيم المقيم الذي أعده الله -عز وجل- لمن خاف مقام ربه الأعلى، ولو تتبعنا آيات القرآن الكريم سنجد أن الخشية مهمة بمكان، والله -عز وجل- قد أمر أولاً الناس بها، يعني أن يخشوه -سبحانه وتعالى- وأن يخشوا الوقوف بين يديه، ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ ? [لقمان: 33] كما وصف الله -عز وجل- أهل الإيمان بالخشية فقال: ? وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ?21?? [الرعد: 21] والذين يبلغون رسالات الله -عز وجل- وأهل الإيمان حقاً هم الذين يخشون الله(4/13)
(14/4)
---
وحده دون سواه؛ لأنهم يعلمون أنه هو الكبير المتعال، وأنه هو الذي يملك أمرهم فلذلك يخشونه وحده، ? الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا ?39??[الأحزاب:39] إذن الخشية للمؤمن مهمة، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما في سنن الترمذي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- ذكر أمراً عظيماً جداً لمن يخشون رب العزة والجلال, وستأتي إضافة له الآن، هذا الأمر أن الله -عز وجل- حرَّم على النار عين بكت من خشيت الله -تبارك وتعالى-، عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت ساهرة تحرس في سبيل الله)، إذن يا أهل الإيمان، عليكم بخشية رب العباد -سبحانه وتعالى- يعني الخوف من مقام الله -عز وجل- الرقة في التعامل يعني قلبك يكون خائفاً وجلاً من الله -عز وجل- والوجل في القلب صفة مهمة جداً لأهل الإيمان وقد سبق أن أشرت إليها، وجاءت في أوائل سورة الأنفال، ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ? [الأنفال: 2].
(14/5)
---(4/14)
ثم بعد ذلك لأهمية هذه الخشية أقول بأن الله -تبارك وتعالى- وعد من يخشاه بعد ذلك بأمور متعددة على رأسها الفوز والنعيم المقيم في الدار الآخرة، وقد يقول البعض بأن الفوز هو النعيم، وأقول: حقاً، من يتنعم فقد فاز، ولكنني أنص على الفوز كي يشمل الفوز في الدنيا والآخرة ، لأن البعض قد يظن أن النعيم المقيم هو في الدار الآخرة ولا يكون نعيمٌ ولو كان متقطعاً أو أقل من النعيم المقيم في الدار الدنيا وقد يحصل هذا لبعض الإيمان ، يعني يعيش في فقر أو بؤس أو ضيق أو مرض، وهو مؤمن بالله -عز وجل- فالفوز يشمل الدنيا والآخرة، وقد نص الله على ذلك في كتابه ووعد من يخشاه بالفوز والفوز يشمل الدنيا والآخرة كما وعدهم بالنعيم المقيم في الدار الآخرة، أما بالفوز ففي قول الله جل ذكره: ? وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ?52?? [النور: 52] وأما عن النعيم المقيم ففي سورة البينة: ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ?7? جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ? لمن هذا كله يا رب؟ قال: ?ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ?8?? [البينة: 7، 8] فعليكم يا أهل الإيمان بالخشية التي تقوم في القلب توقرون من خلالها ربكم -سبحانه وتعالى- وتقومون من خلالها بما افترض الله -سبحانه وتعالى- عليكم، وأؤكد مرة أخرى أن الخشية خوف مقرون بتعظيم أو خوف مقرون بمعرفة، ولا يكمل ذلك إلا لأهل الإيمان حقاً، ولذلك كانت أكمل درجات الخشية لمن ، للنبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- ؛ لأنه أعلم الناس بالله وأخشى الناس لله -صلوات الله وسلامه عليه-.
(14/6)
---(4/15)
الصفة الثانية التي وصفت بها هذه الآيات أصحاب الخيرات الحقيقية بعد أن بين الله -عز وجل- زيف المكذبين المنكرين بالأنبياء والمرسلين.
الصفة الثانية: ما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- : ? وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ?58?? يعني يؤمنون بآيات الله -عز وجل- وقد اختلف العلماء ما المراد بآيات الله هنا؟ فقيل: المراد بالآيات هي الآيات التنزيلية, يعني التي نزلت من عند الله -تبارك وتعالى- آيات القرآن الكريم، وقيل المراد بالآيات: الآيات الكونية، يعني الكون المفتوح وما فيه وما بثه الله -عز وجل- وقيل: مجموعهما، وهذا هو المراد -والله أعلم- ونفهم من ذلك أنه ليس المراد بآيات الله ? وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ?58?? أنهم يصدقون بهذه الآيات لأن الحديث عن قوم آمنوا وصدقوا, فيكون المراد إذن من الآيات التنزيلية والآيات الكونية والإيمان بهما يعني أن يتدبر الآيات التنزيلية يعني ما نزل من عند الله -تبارك وتعالى-، فيقرؤوا القرآن الكريم ويتدبروا معناه ويفهموا الآيات التي نزلت فيه، ثم يقوموا بالعمل وفقاً لما جاء في هذه الآيات من أحكام، كذلك ينظر في هذا الكون، الآيات الكونية ويتأمل فيه، وقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يفعل ذلك، كما في حديث ابن عباس: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل للتهجد، نظر إلى السماء وقرأ قول الحق -تبارك وتعالى-: ? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ ?190?? [آل عمران: 190] ? وقد ذم الله -عز وجل- الذين يعرضون عن آيات الله الكونية، فلا يتأملوها ولا يتدبروها ولا ينظرون إلى ما بثه الله -عز وجل- في الآفاق من آيات ترشد إليه، وتشير إليه، وتدل على عظمته وتفرده بالملك سبحانه، فيقول جل ذكره ذاماً لهؤلاء الذين لا يتأملون هذه الآيات: ? وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي(4/16)
(14/7)
---
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ?105?? [يوسف: 105].
الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- ونحن يدور حديثنا حول تفسيره ذكر كلمة جميلة عند تفسيره لهذه الآية: ? وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ?58?? قال -رحمه الله تعالى-: «المراد بالآيات الآيات الكونية الشرعية، فما كان منها مأموراً به»، يعني أمر الله -سبحانه وتعالى- به «فهو مما يحبه الله ويرضاه، وما كان منها يكرهه -عز وجل- فهو يبغضه ويأباه»، وقال بأن الآيات إذن هنا: «تكون كقول الله -تبارك وتعالى- عن مريم عليها السلام: ? وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ? [التحريم: 12]» صدقت بكلمات الله يعني أيقنت بأن ما صار لها وما حدث معها من حملها لعيسى بن مريم -عليه السلام- كل ذلك بقضاء الله وقدره، يعني أن الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- يريد أن يقول بأن هذه الآية تتعلق بمسائل القضاء والقدر, وأن الآيات المرادة في هذه الآية هي الآيات الكونية القدرية والآيات الشرعية ؛ لأن الآيات إذن تنقسم إلى قسمين أو القدر ينقسم إلى قسمين: قدر قدره الله -عز وجل- عاماً شاملاً لكل ما يقع في الكون، ولا يخرج عنه شيء بمعنى أن كل ما يقع في الكون فقد قدره الله -عز وجل- وأراده إرادة كونية حقيقية, أحبه الله -عز وجل- ورضيه أم لم يحبه ولم يرضه، والآيات الشرعية هي التي يحبها ربنا -سبحانه وتعالى- ويرضاها، فما أمر الله -عز وجل- به هو مما يحبه ويرضاه، وما نهى عنه -سبحانه وتعالى- فهو مما يبغضه ويأباه، وإن كان قد أراده الله -سبحانه وتعالى- وقضاه، وأعتقد أن هذه المسألة يجب أن تكون واضحة لدى طلبة العلم بهذا الوضوح أو بهذا التفصيل، أن الله -عز وجل- ما قدره تقديراً عاماً شاملاً يقع سواء أحبه الله -عز وجل- أم لم يحبه، أما ما أبغضه الله -سبحان الله- إن وقع فهو يقع تقديراً كونياً لله -عز وجل-(4/17)
وإن كان
(14/8)
---
الله -سبحانه وتعالى- لا يحبه ولا يرضاه ولا يريده ديناً وشرعاً لعباده، وأنا ذكره هذا لأن الإمام الحافظ ابن كثير-رحمه الله تعالى- ذكر هذا في تفسيره وأشار إلى أن المراد بالآيات هي الآيات الكونية الشرعية، يعني قدر الله -تبارك وتعالى- الكوني الشرعي, الكوني بمعنى أن كل ما يقع في هذا الكون فالله -عز وجل- قد قدره وقضاه وأراده سواء أحبه أم لم يحبه، أما الشرعي فهو الذي يحبه الله -سبحانه وتعالى- ويأمر به.(4/18)
الصفة الثالثة: من صفات أهل الخيرات هي ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ?59?? يعني أنهم يوحدون الله -تبارك وتعالى- ويفردون ربهم بالعبودية وحده دون سواه فلا يتوجهون إلى غير الله -عز وجل- ويؤمنون أن الله واحد أحد لا شريك له في ملكه ولا ند ولا شبيه ولا نظير له -سبحانه وتعالى- ويؤمنون أيضاً بما ثبت لله -سبحانه وتعالى- من صفات الجلال والكمال التي تليق به وحده دون سواه ولا يشاركه في ذلك أحد من خلقه، والله -عز وجل- قد نفى الشرك عن هؤلاء القوم، وقد يسأل سائل: ما المراد بالشرك هنا؟ لا شك أن الشرك كما تعلمون ينقسم في الجملة إلى قسمين: شرك أكبر وشرك أصغر، ومنه الخفي الذي يدخل تحت الشرك الأصغر، ولو فصلنا وقلنا: شرك أكبر وأصغر، شرك أكبر وأصغر وخفي، فلا شيء في ذلك، هي مسألة اصطلاحية ليس إلا، وهؤلاء القوم الذين وصفهم هنا رب العزة والجلال ونزههم عن وقوعهم في الشرك به سبحانه، هل التنزيه هنا يقع على الشرك الأكبر أم يقع على الشرك الأصغر؟ لا شك أن الآية تشمل كلا الأمرين ولكن من آمن بالله حقاً وصدق بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعرف جلال الله وقدر الله -عز وجل- لا يقع في الشرك الأكبر إلا إذا كان جاهلاً، إنما الذي يمكن أن يقع فيه أهل الإيمان وهو الشرك الخطير الذي خاف منه النبي أيضاً -صلى الله عليه وآله وسلم- على أمته المؤمنين هو الشرك الخفي، والنبي -صلى
(14/9)
---(4/19)
الله عليه وآله وسلم- قد خاف على أمته منه، وذكر أنه أخفى من دبيب النمل ، ومن هنا وبهذه المناسبة أحذر عموم أهل الإيمان من الوقوع في هذا الشرك؛ لأن البعض قد لا يقع لإيمانه ولمعرفته بجلال الله -عز وجل- لا يقع في الشرك الأكبر، ولكنه قد يقع في هذا الشرك الخفي أو الشرك الأصغر، وهو أيضاً خطير على أهل الإيمان ولذلك من آمن بالله حقاً وصدقاً لا يقع في كلا الأمرين، والشرك الخفي كي لا يقع فيه الإنسان لابد أن يحقق الإخلاص الكامل لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فلا يلتفت إلى غير الله -عز وجل-، ولا يقصد بعمله إلا وجه الحق -تبارك وتعالى- إن فعل ذلك نجا من كلا الأمرين ألا وهو الشرك الأكبر والشرك الخفي، أو الشرك الأصغر، وهي صفة مهمة يا أهل الإيمان يجب عليكم أن تنزهوا أنفسكم عنها، فلا يصل العبد إلى الخير الحقيقي الذي أعده الله -عز وجل- لأهل الإيمان إلا لمن اتصف بهذه الصفات ومنها تنزيه الله -سبحانه وتعالى- عن الشريك والولد والمثل والكفء أو أن يتوجه العبد بشيء يقوم في قلبه سواء كان خوفاً أو رجاءً أو محبةً أو إنابةً أو تعظيماً لغير رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(14/10)
---(4/20)
الصفة الرابعة: التي وصف الله بها ربنا -سبحانه وتعالى- هؤلاء القوم: هي ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ?60?? أي يعطون العطايا وقلوبهم خائفة أيضاً من مقام رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- يقومون بما أوجب الله -سبحانه وتعالى- عليهم, وهم مع ذلك يخافون مقام رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، والإعطاء أو الإيتاء الوارد في هذه الآية يشمل الإيتاء الواجب لرب العزة والجلال على العبد كالزكاة والكفارات وغير ذلك, ويشمل الإيتاء الواجب على العبد لغيره من الناس فيما وجب عليه، كالأمانات والودائع والصدق وما إلى ذلك، كل هذه حقوق، سواء كان منها ما يتعلق بحق الله أو ما يتعلق بحق المخلوقين المؤمن يعطي هذا وهذا، ويؤدي هذا ويؤدي هذا ? وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ? يعني خائفة ?أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ?، هنا يصف رب العزة والجلال هؤلاء القوم الذين يعطون أن قلوبهم وجلة ? وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ? في محل نصب على الحال ، والمعنى أنهم حينما يقدمون ما يقدمونه لله -عز وجل- خائفون أيضاً من مقام رب العزة والجلال سبحانه، لماذا؟ خوفاً منهم من أن يكونوا قد قصروا في شيء من شروط الإيتاء أو الإعطاء، أو وقع منهم شيء من المخالفات التي تمنع عنهم قبول العمل ولذلك يقدمون ويخافون, ووصفهم بذلك يدل على أنهم يريدون وجه الحق -تبارك وتعالى- ويدل على ذلك أن الله -جل ذكره- ختم الآية بقوله: ? أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ? يعني أنهم يفعلون ما يفعلون لحسابهم ولأنهم يؤمنون ويعتقدون أنهم سيقفون ويرجعون لله -تبارك وتعالى- وأنهم سيسألون عما قدموا، فيرغبون ويودون أن تكون أعمالهم مقبولة عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، ولذلك في البخاري ومسلم وغيرهما: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم-(4/21)
(14/11)
---
سألته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، هذه الآية ? وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ?60? ? قالت: هو الرجل يسرق ويزني ويقتل وهو يخاف الله -عز وجل-؟ قال: لا يا ابنت الصديق ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يتقبل الله منه) انظر إلى موقف أهل الإيمان أصحاب هذه الصفات الخيرة الجميلة الطيبة يفعلون ما يفعلون ويخشون ألا تقبل أعمالهم وألا يعطوا عليها أجراً في الدار الآخرة, فما بال القوم الذين يغترون بمقام رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أين من غرتهم الأماني وقالوا بأننا آمنا وأننا قد وعدنا رب العزة والجلال بالجنة, وطالما أننا موعودون وإذا لم ندخل نحن بإيماننا الجنة فمن سيدخلها بعد ذلك؟!! ويتكلمون على الله في جرءة عظيمة أين هؤلاء من أهل الإيمان حقاً؟ من أصحاب الخشية من أهل الوجل من المشفقين من مقام رب العزة والجلال سبحانه، يجتهدون في العبادة ويقومون بها لله -عز وجل- ويخافون في الوقت ذاته أن لا يقبل الله منهم، فلا تغرنكم يا أهل الإيمان الأماني ولا يغرنكم بالله -عز وجل- الغرور، ولا تركنوا إلى أعمالكم فقط، بل اعمل الصالحات واسأل الله -عز وجل- أن يتقبل منك فعل الخيرات.
(14/12)
---(4/22)
بعد ذلك قال رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- واصفاً هؤلاء القوم وما لهم الذين اتصفوا بهذه الصفات الأربع قال عنهم سبحانه: ? أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ?61?? يعني أنهم مع هذه الصفات وما هم عليه من هذا الخير يسارعون في الخيرات, وكونهم يسارعون في الخيرات يفيد ذلك أنهم دائماً ينظرون إلى عباد الله المُخلَصين والمخلِصين عباد الرحمن الصادقين فيتنافسون معهم في فعل الطاعات، وهنا وقفة أوجهها إلى أهل الإيمان فأقول: يا عبد الله لا تنظر إلى أسافل الناس وأراذلهم ولا تنظر في دينك إلى المفرطين المقصرين ولكن انظر في دينك إلى أصحاب الدرجات العلا؛ كي تتأسى بهم وحتى تتنافس معهم وتتسارع في الخيرات كما يتسارعون وتود أنك تلحق بأفعالهم فتنال بذلك مقاماً عظيماً عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، فأهل الإيمان حقاً ينظرون إلى أهل الدرجات العلا إلى عباد الرحمن، إلى الذين يسارعون في الخيرات، ويؤكد ذلك قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ? يعني أنهم يسبقون الناس إليها، دليل على لأن هناك تنافساً في فعل الخيرات، ? وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ? يعني أصحاب هذه الصفات يسبقون إلى الخيرات ويسابقون غيرهم ويسارعون غيرهم إليها، فاحصروا يا أهل الإيمان على التنافس في فعل الخيرات.
المحور الثاني: في هذا اللقاء ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى- ? وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ? وعنوانه:
(14/13)
---(4/23)
المحور الثاني: التكليف على قدر الوسع والطاقة: هذا عنوان هذا المحور، وأول آية تدخل فيه ? وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ? لما ذكر الله -تبارك وتعالى- مسارعة هؤلاء القوم الذين وصفهم بهذه الصفات إلى الخيرات, قد يزعم زاعم أو يظن واهم أو متوهم أن ما كلف به هؤلاء الناس يدخل تحت الشدة والصعوبة أو أنه خارج عن الوسع والطاقة، وغير مقدور له، فدفع رب العزة والجلال هذا الوهم فقال: ? وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ? وهذه الآية قد ذكرت حكمين من أحكام أعمال العباد، هذه الآية ? وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ?62?? قد اشتملت على حكمين من أحكام أعمال العباد:
الحكم الأول: أن التكليف على قدر الوسع والطاقة، التكليف على قدر الوسع، وقيل: الوسع هو الطاقة، وقيل: الوسع هو ما دون الطاقة، يعني أيضاً التكليف دون طاقة الإنسان؛ لأن الله -عز وجل- كما أخبر في كتابه ? يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ? [البقرة: 185] وهذه نعمة من نعم الله -تبارك وتعالى- على عباده، وقد سبق أن ذكرت لكم في لقاء سابق ونحن نتحدث في أواخر سورة الحج عند قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ? [الحج: 78] أن الله -سبحانه وتعالى- رفع الحرج عن هذه الأمة وكان التكليف على قدر الوسع والطاقة، وقد ذكرت هناك أمثلة على التخفيف والتيسير في الشريعة الإسلامية وأخشى أن يكون العهد قد طال بنا فهل من أحد ممن هو معنا من طلاب العلم يذكر لي ولو مثالاً واحداً من الأمثلة التي تبين أن التكليف على قدر الوسع والطاقة في الشريعة الإسلامية، وقد ذكرت في ذلك أمثلة متعددة فيما مضى، هل من مجيب؟
في قصر الصلاة يا شيخنا في السفر.
(14/14)
---(4/24)
أحسنت يعني هي مسائل كثيرة متعددة كالقصر في السفر والفطر في رمضان أيضاً للمسافر ولغير القادر, وللصلاة لمن لم يستطع أن يقوم فيها فيجلس، وما إلى ذلك وهذا يدل على التخفيف والتيسير في شريعة الإسلام، ولكن هنا مسألة تكلم فيها المتكلمون: هل يمكن أن نقول بأن في الشريعة تكليف بما لا يطاق؟ لأنه ورد مثل هذا الكلام في بعض كتب أهل الكلام، شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تبارك وتعالى- عالج هذه القضية بجواب جميل جداً، هل في الشريعة تكليف بما لا يطاق؟ أجاب -رحمه الله تعالى- وأنا أقول هذا لأنه قد يأتي إنسان فيسألك عن هذه المسألة ويقول لك مثلاً الله -عز وجل- قد كلف مثلاً بعض الكفار بالإيمان وأخبر عنهم أنهم لا يؤمنون وهم أحياء كما جاء في قوله تعالى: ? تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ?1?? [المسد: 1] فهل التكليف بالإيمان هنا مع أن الله -عز وجل- أخبر سلفاً أنه لن يؤمن وهو حي تكليف بما لا يطاق؟ كيف تجيب على هذه المسألة؟ نقول: ما لا يطاق يفسر بأمرين أو بشيئين:
أحدهما: ما لا يطاق للعجز عنه فهذا لم يكلفه الله أحداً أبداً، الله -عز وجل- لم يكلف أحداً بأمر لا يطاق.
الآخر: وما لا يطاق للاشتغال بضده فهذا هو الذي وقع فيه التكليف، يعني مثلاً أبو لهب، لم يدخل في الإيمان وهو التكليف له لما يطاق ولكنه انصرف عنه لاشتغاله عن الإيمان بالكفر ، فما لا يطاق إذن يفسر بأمرين: ما لا يطاق للعجز عنه، فهذا غير واقع في الشريعة الإسلامية ، وما لا يطاق للاشتغال بضده, لا يطيقه الإنسان لأنه اشتغل بضده فهذا هو الذي وقع فيه التكليف. إذن الحكم الأول الذي أثبتته هذه الآية أن التكليف في شريعة الإسلام على قدر الوسع والطاقة وهي رحمة من الله -عز وجل- بعباده.
(14/15)
---(4/25)
الحكم الثاني: الذي اشتملت عليه هذه الآية: ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? المراد بالكتاب هنا : الكتاب الذي يحصي فيه رب العزة والجلال أعمال العباد, والله -عز وجل- يحصي عليك يا أيها الإنسان أعمالك كما قال في كتابه: ? هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ?29?? [الجاثية: 29] والله -عز وجل- في القرآن الكريم قد وصف هذا الكتاب بصفات متعددة وأخبر أن المجرمين مشفقون من هذا الكتاب وأن الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: ? وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ?49?? [الكهف: 49] كما أخبر ربنا في كتابه أن بعض الناس يؤتى كتابه بيمينه، جعلنا الله وإياكم منهم، بعض الناس يؤتى كتابه بيمينه وأن الذي يؤتى كتابه بيمينه سيكون حسابه حساباً يسيراً: ? فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ?7? فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ?8? وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ?9?? [الانشقاق: 7- 9] وبعض الناس يؤتى كتابه بشماله: ? وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ? [الحاقة: 25] -أعاذنا الله وإياكم منه-، الذي يؤتى كتابه بشماله ماذا سيكون أمره؟ هل يحاسب حساباً يسيراً أم حساباً شديداً؟ حساب عسير، حساب شديد، بخلاف أهل الإيمان والله -عز وجل- أيضاً أخبر أن الإنسان أو العبد إذا أنكر شيئًا من هذا الكتاب ختم الله -عز وجل- على فيه وتكلمت جوارحه؛ لتصدق ما جاء في هذا الكتاب كما قال -سبحانه وتعالى-: ? الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ(4/26)
(14/16)
---
وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ?65?? [يس: 65] ولذلك على المؤمن أن يكون على حذر وأن يسعى في هذه الحياة الدنيا لأن يكون كتابه الذي يسجل عليه فيه الخير وفيه العمل الصالح وفيه الطيبات وفيه المنافسة والمسارعة في فعل الخيرات لأنه سينشر هذا الكتاب بين يديك يا عبد الله في يوم الدين، والله -عز وجل- يقول: ? هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ? [الجاثية: 29] ? وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ?62?? [المؤمنون: 62] ومعنى نطق الكتاب بالحق أن كل ما فيه حق مطابق للواقع فكل ما فيه سجله الله -عز وجل- أزلاً، ثم سجلته الملائكة الكرام وقد سبق أن أشرت إلى شيء من ذلك، والكتاب يوضع يوم القيامة بالحق لأن الله -سبحانه وتعالى- هو الحق، وهو -عز وجل- يفصل بين الناس بالحق.
وهذا يفيد أيضاً -هذا الأمر- يفيد فائدتين: قوله تعالى: ? وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? يفيد:
- أن على الكفار والمشركين وأصحاب المعاصي والذنوب أن يرجعوا عن غيهم وعن كفرهم وعن ضلالهم ومعاصيهم؛ لأن الأمر حق، وكله صدق، وهو واقع لا محالة.
- تطمئن أهل الإيمان، وتدخل عليهم السكينة وهي أن أعمالهم لن تضيع هباءً منثوراً وإنما سيجزون عليها خيراً، ويؤكد ذلك قوله -سبحانه وتعالى- في ختام هذه الآية ? وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? وهذا كقول الحق جل ذكره: ? وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ? [الكهف: 49].
(14/17)
---(4/27)
ثم قال -سبحانه وتعالى- بعد ذلك: ? بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ?63?? يخبر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- عن هؤلاء المكذبين المنعمين المترفين هؤلاء القوم أنهم قلوبهم في غمرة، في سكرة التفت حول قلوبهم، فطمست عنهم نور الإيمان ، والله -عز وجل- كلما أنزل شيئًا من كتابه على هؤلاء المكذبين الذين ختم الله -سبحانه وتعالى- على قلوبهم انصرفوا عن الحق الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى-، كما قال جل ذكره: ? وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ?45? وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ?46?? [الإسراء: 45، 46] هذا فعله الله -عز وجل- بهؤلاء الكافرين وهو المعنى أو المقصود بقول الله -تبارك وتعالى-: ? بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا ? في سكر في ضياع في لهو، التف حول قلوبهم لأن الله -عز وجل- قد ختم عليها، ثم يقول سبحانه: ? وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ? يقول الإمام حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه-: (? وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ ? يعني سيئات من دون ذلك وهي الشرك بالله -تبارك وتعالى-، ? هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ? يعني هم لها مأدون وقائمون وفاعلون لها لماذا؟ قال: لتحق عليهم كلمة العذاب، ويصدق فيهم وعيد رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-) والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد أكد هذا في سنته وذلك كما جاء في حديث البخاري ومسلم أيضاً وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (فوالذي نفسي بيده أو فوالله الذي لا إله إلا هو إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخله) هذا تأكيد لقول الله تعالى: ?(4/28)
(14/18)
---
وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ? يعني من حقت عليه كلمة العذاب سيؤدي الأعمال التي تؤدي به إلى أن يدخل جهنم وبئس القرار.
المحور الثالث: من كذب من المترفين له عند الله عذاب عظيم:
وأول آية حول هذا الحور ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ ?64?? حتى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام هو الجملة الشرطية التي أتت بعد حتى، ? حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ ? والمعنى أن الله -تبارك وتعالى- إذا أخذ المترفين المنعمين بالعذاب ? إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ ? والله -عز وجل- سيأخذ ولا شك لأن ما توعد به هؤلاء المترفين واقع لا محالة، سيأخذ هؤلاء المترفين الذين كذبوا واستكبروا, أما من آمن فهو مع من آمن من أهل الإيمان في الحياة الدنيا سواء كان وسع الله -سبحانه وتعالى- عليه وأعطاه ما أعطاه وإنما المراد هنا بهؤلاء المترفين المكذبين المنكرين لرسالة النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-، والله -عز وجل- قد توعدهم في هذه الآية كما توعدهم في آيات أخر: ? وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ?36?? [فاطر: 36] أعاذنا الله وإياكم من هؤلاء القوم الذين ذكر الله -سبحانه وتعالى- عنهم، والآية تصور أن الله -سبحانه وتعالى- إذا أخذ هؤلاء المترفين خرجت منهم صيحات ووقع منهم الوعيد والنداء ? حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ ?64?? والجؤار هو الصراخ والنداء، كما قال الله -سبحانه وتعالى- في قوم من هؤلاء: ? كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ?3? ? [ص: 3] وقد ذكر الله -عز وجل- عن هؤلاء المكذبين وهم(4/29)
يعذبون في نار
(14/19)
---
جهنم أنهم سينادون، سينادون ولكن ? وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ? [الزخرف: 77] ماذا سيكون الجواب؟ ? قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ? [الزخرف: 77] لأنهم بغوا ولأنهم طغوا ولأنهم استخدموا النعم التي مكنهم الله -سبحانه وتعالى- فيها في الوقوف أمام الإيمان بالله -عز وجل- والتصدي للأنبياء والمرسلين والتكذيب بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بل تعدى ذلك إلى أمور أخر ألا وهي السطو والإيذاء لأهل الإيمان كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
(14/20)
---(4/30)
إذن هؤلاء المترفين ذكر الله -سبحانه وتعالى- عنهم أنه إذا أخذهم بالعذاب خرج منهم الوعيل والنداء وصرخوا وجأروا والجؤار كما ذكرت هو الصراخ ولكن لا مجيب لهم، ولا مناص عما وقع بهم كما ذكرت الآية ? وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ?77? ? [الزخرف: 77] وهنا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- يؤكد ذلك بعد أن قال: ? حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ ?64? ? قال لهم: ? لاَ تَجْأرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ ?65?? تجأرون أو لا تجأرون ترتفع أصواتكم أو لا ترتفع افعلوا ما بدا لكم، فلن يكون لكم ناصر ولا محيد ولا مناص عما وقع بكم، لأنهم لا ينصرون بنص هذه الآية، وإذا كان الله -عز وجل- لن يرحمهم وهو أرحم الراحمين فمن الذي يملك لهم بعد الله -عز وجل- شيئًا؟ والله -عز وجل- في كتابه يقول: ? وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ?29?? [الكهف: 29] فهؤلاء الكافرين عليهم أن يتنبهوا تماماً وأن يستمعوا إلى هذه الآيات المحكمات؛ لأن الوعيد الذي ذكره رب العزة والجلال –سبحانه- سيقع حتما كما ذكر رب العزة والجلال وهم لا مناص لهم، ولا محيد عما سيقع بهم والآيات تخبر أنهم سينادون وسيجأرون وسيصرخون وسيستغيثون ولكنهم كما قال الله: ? وَلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ? فارجعوا إلى الله -عز وجل- وآمنوا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- واتبعوا هذا النبي الذي بعث من قِبَلِ رب العزة والجلال سبحانه قبل أن يقع بكم ما وقع.
(14/21)
---(4/31)
ثم يقول رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ? قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ?66?? الله -عز وجل- بين في الآية السابقة أنه لن ينصر هؤلاء الكافرين وأنهم سيستغيثون وسيصرخون وسينادون وسيطلبون ولكنه لن يجيب عليهم أحد، ولن تنفعهم شفاعة الشافعين ولن يستفيدوا شيئًا ينفعهم في يوم الدين ، هذا ما قررته الآية السابقة هذه الآية والآية التي تليها تبين العلة في ذلك، ما السبب يا رب؟ لماذا منعت عنهم شيئًا من فضلك وإحسانك ؟ بينت هذه الآيات أن هذا بسبب ما قدمت أيديهم، وقد ذكرت الآية ثلاثة أمور وقع فيها هؤلاء الناس: ? قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ?66??
(14/22)
---(4/32)
الأمر الأول: الذي ذكرته هذه الآيات عن هؤلاء الناس أن آيات الله -تبارك وتعالى- إذا تليت عليهم رجعوا القهقرى ما استجابوا لها بل انقلبوا على أعقابهم خاسرين، والعقب هو مؤخر القدم، والنكوص هو الرجوع إلى الوراء كقول الله تعالى: ? فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ? [الأنفال: 48] يعني رجع إلى الخلف وإلى الوراء, فأول أمر وقع من هؤلاء الكفار المكذبين المشركين وكان سبباً في وقوع الوعيد عليهم، وعدم نصرة الله -عز وجل- لهم عندما ينادون ويستغيثون ويصرخون أول أمر أنهم إذا تليت عليهم آيات الله -تبارك وتعالى- ارتدوا على أعقابهم, رجعوا, لم يلتفتوا إلى آيات الله -عز وجل- ويا ليت الأمر وقف عند هؤلاء الناس عند هذا الحد بل إنهم رجعوا القهقرى ونكصوا على أعقابهم ولم يستجيبوا للآيات ثم بعد ذلك ظلموا وآذوا من آمن واستجاب لهذه الآيات، وقد ذكرنا ذلك في سورة الحج وأعتقد أن القوم لن يتذكروا هذه الآية, ذكرنا هذا في أواخر سورة الحج ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَ? [الحج: 72] يعني ما وقفوا فقط أو ما كان الأمر منهم أنهم رجعوا القهقري عن هذه الآيات ولم يسلموا بها بل إنها إذا تليت عليهم شعروا بشيء من الضيق، وبشيء من الغضب وظهر ذلك على وجوههم، ثم بعد ذلك لم يتركوا أهل الإيمان، فآذوهم وفعلوا بهم ما فعلوا، وهذا يقع من الكافرين كثيرًا، والله -عز وجل- قد أخبر عنهم بذلك في أكثر من موضع، كقوله تعالى: ? قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ?11?? [غافر: 11] لا ما في خروج، لماذا؟ ? ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ?(4/33)
(14/23)
---
[غافر: 12] فأهل الكفر وأهل الشقاق وأهل النفاق والذين ارتدوا على أعقابهم خاسرين إذا تليت عليهم آيات الله -تبارك وتعالى- لا يسلمون ولا يؤمنون ولا يستجيبون لها، وهذا من الضلال الواقع منهم وهذا هو الأمر الأول الذي جعل الله -تبارك وتعالى- يخبر عنه في كتابه أنه لن ينصرهم أحد ولن يستجيب لهم أحد، ولن تكون لهم شفاعة عند من؟ عند أرحم الراحمين -سبحانه وتعالى-.
الأمر الثاني: الذي يقع من هؤلاء الناس الاستكبار، ? مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ?، الاستكبار و ? مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ? حال يعني هذه الآية تصور إذن حالة هؤلاء الناس عند إعراضهم عن آيات الله -عز وجل- ألا وهو أنهم يكونون في حالة من الاستكبار الشديد، قيل: المراد بالضمير الوارد ? مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ? قيل: ? مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ? يعني مستكبرين بالبيت، يفتخرون به ، لأنهم كانوا يزعمون أنهم كانوا أولياؤه والله -عز وجل- قد نفى ذلك عنهم؛ لأنه أخبر عنهم بأنهم ليسوا بأولياء بيت الله الحرام، لأنهم وقعوا في الشرك وأهل الشرك والضلال والكفر والنفاق لا يليق بحالهم أبداً أن يكونوا من أهل بيت الله الحرام، فلا يجوز لهم إذن أن يفتخروا بهذا البيت الجليل العظيم، الذي وضعه رب العزة والجلال مثابة للناس وأمناً.
(14/24)
---(4/34)
وقيل الضمير في ? بِهِ ? يعود إلى القرآن والمعنى أنهم يستكبرون على القرآن الكريم ويذكرون عنه أنه أساطير الأولين وأنه كذب وما إلى ذلك، وقيل: يستكبرون على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فلا يؤمنون به ، وينظرون إلى من اتبعه من ضعفاء المؤمنين، فيزدرونهم ويتكبرون عليهم وتأبى نفوسهم أن تجلس مع هؤلاء المؤمنين وإن كانوا على شيء من الفقر أو الضعف أو ما إلى ذلك كل هذا من باب الكبر والغرور الذي دخل على هؤلاء الناس، ولا شك أنه قد وقع من الأقوام السابقة وقد أشرنا إلى شيء من ذلك الشيء الكثير كم من أناس استكبروا على الأنبياء والمرسلين. كم من المكذبين والمشركين أبت نفوسهم أن يجلسوا على مائدة واحدة مع أهل الإيمان ويتعلموا القرآن بسبب الكبر الذي ملأ قلوبهم. وهذه صفة وصف بها رب العزة والجلال المعرضين عن آيات الله -تبارك وتعالى- المستكبرين على ما جاء من عنده سبحانه وعلى ما نزل على نبي الهدى والرحمة محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
(14/25)
---(4/35)
وبهذه المناسبة أود أن أوجه كلمة يسيرة لمن يستكبر اليوم على ما بُعث به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعض الناس تأخذهم العزة بالإثم ويستكبرون ويشعرون بشيء من العزة والأنفة والاستعلاء على ما جاء من عند الله -تبارك وتعالى- بل البعض وللأسف الشديد يزين له شيطانه ويزين له هواه أنما يأتي به من قواعد وقوانين وتشريعات أعلى وتساير العصر الذي هو فيه وأن ما جاء من عند الله -تبارك وتعالى- لا يصلح أن يكون شريعة للحياة، استكباراً على كتاب الله وهدي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وعلى المسلمين أن يربؤوا بأنفسهم أن يقعوا في شيء من ذلك، فلا يشعر الإنسان أو يأخذه الغرور بأن عقله أو بأن هواه أو بأن ما يأتي به من تشريعات هي التي يمكن أن تحل مشاكل العالم اليوم، كلا ثم كلا، يا أيها المؤمنون أقبلوا على كتاب الله -عز وجل- وأنتم في ذلة، وأنتم في خضوع وأنتم تشعرون أن الله -سبحانه وتعالى- هو العلي الأعلى, وأنه هو الغني وحده، وأنكم الفقراء الضعفاء الذين لا تملكون لكم ولا لأنفسكم حولاً ولا قوةً، ولولا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ما كان لكم شيء من الحول ولا من القوة، فلا تتعالوا ولا تتعاظموا ولا يظن الإنسان إذا ملك شيئًا من القوة أنه يمكن أن يسير هذا الكون، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يدبر أمره وإنما يقع في الكون أحيانًا من تسلط للكافرين أو تكبر من أعداء الدين إنما هو من باب استدراج الله -سبحانه وتعالى- كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
(14/26)
---(4/36)
الأمر الثالث: الذي وقع من هؤلاء القوم واستدعى أن يعاقبهم الله -عز وجل- بعدم النصر وعدم الاستجابة ما ذكره -سبحانه وتعالى- في ختام هذه الآية وهي ختام اللقاء ? سَامِرًا تَهْجُرُونَ ? والسمر: هو الحديث بالليل, وقد كان المشركن يسمرون عند الكعبة ولكن بأي شيء كانوا يسمرون؟ كانوا يأتون بالقبيح من الكلام والفحش من القول، ولذلك قال الله: ? سَامِرًا تَهْجُرُونَ ? يأتون بالكلام القبيح, بالكلام الفاحش ويذكرون الله -عز وجل- بما لا يليق ويعتدون على القرآن الكريم ويصفونه بما ليس فيه، ويصفون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن معه بما ليس فيه وكل هذا كان يقع منهم أثناء سمرهم بالليل.
بهذه الصفات الثلاثة التي جاءت في هذه الآيات ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- أنه عاقبهم بسببها. وبالتالي أنادي أهل الإيمان وأنادي غيرهم ممن لم يؤمنوا ترفعوا عن هذه الصفات فلا تردوا شيئًا من آيات الله -عز وجل- واصغوا الآذان والأسماع إلى ما جاء من عند الله -تبارك وتعالى- إذا تليت عليكم آيات الله اسمعوا لها وأنصتوا لها ولا تتكبروا عليها وإذا جلستم بالليل فقوموا لله خاشعين قانتين ولا تسمروا بالفجر والفحش من القول, وأوجه ذلك حتى لا يسمر أحد من المسلمين أيضاً بما لا يرضي رب العزة والجلال سبحانه، وأكتفي بهذا وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فضيلة الشيخ كان هناك ثلاثة أسئلة من الحلقة السابقة وردتنا إجابة واحدة على سؤالين فقط، كانت الإجابة من الأخت الكريمة من السعودية,
وكان السؤال الأول: قال الله -تبارك وتعالى-: ? فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ?47?? ما المراد بالاستفهام في ? أَنُؤْمِنُ ?؟ ولماذا قال: ? مِثْلِنَا ? ولم يقل مثلينا؟ وما معنى قوله تعالى: ? وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ?؟
(14/27)
---(4/37)
وكانت الإجابة: المراد بالاستفهام في ? أَنُؤْمِنُ ? الاستفهام للإنكار، وقال ? مِثْلِنَا ? ولم يقل: مثلينا لأن الله على حد تعبيرها تقول: لأن الله يجيز في القرآن كما في قوله تعالى: ? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ? قال: خير وهو مفرد ولم يقل أخيار ولأن العرب تحب الإيجاز، أما معنى قوله تعالى: ? وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ? أي أنهم يقومون بخدمتنا خدمات شاقة، فهم عبيد عندنا وقيل: إن المعنى أن فرعون ادعى الألوهية فيحتمل أنهم كانوا يعبدونه.
فعلاً الحقيقة الجواب صحيح ، وتشكر على هذا الجواب وعلى ذكرها معنى الاستفهام، ولكن طبعاً هي أشارت أيضاً بأنه قال: ? مِثْلِنَا ? ولم يقل مثلينا، لأن العرب تحب الإيجاز، وهذا من البلاغة التي أيضاً نزل بها القرآن الكريم والله -عز وجل- خاطب العرب باللغة التي كانوا عليها، وقد جاء ذكر ذلك كثيرًا في القرآن الكريم.
السؤال الثاني: لماذا كان عيسى وأمه آية ؟ وما معنى الربوة؟ وأين مكانها مع ذكر الراجح في ذلك؟
وكانت الإجابة:
جعل الله عيسى بن مريم وأمه آية لأنه خلق من أم بلا أب وهي آية لمريم من آياته أنه تكلم في المهد ومن آياته أنه يبرئ الأكمه والأبرص ومن الآيات أن زكريا كلما دخل على مريم وجد عندها رزقاً فيقول لها: أنا لك هذا؟ فتقول له: هذا من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
ومعنى الربوة: هو أفضل مكان يبرز فيه النخيل والزروع، ووصف هذه الربوة بأنها ذات قرار واختلف المفسرون في مكان هذه الربوة فقيل: إنها في أرض مصر وقيل: إنها في الرملة وقيل: إنها في فلسطين، وقيل: إنها في بيت المقدس, والراجح أنها في بيت المقدس لارتباط مريم ببيت المقدس عندما نذرتها أمه.
الجواب الحقيقة كافٍ وشافٍ وفيه إضافة وزيادة على المطلوب، جزاها الله خيراً.
السؤال الثالث: اذكر معاني كلمة «أمة» في القرآن الكريم, مع الدليل لما تذكر. وبين كيف تكون ملة الأنبياء واحدة, مع أن شرائعهم مختلفة؟(4/38)
(14/28)
---
يقول الأخ الكريم أمة بمعنى إمام: ? إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ ? [النحل: 120].
وتأتي بمعنى زمن: ? وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ? [هود: 8].
وتأتي بمعنى الجماعة أو القوم ? وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ ? [النحل: 36].
والمعنى الرابع. وتأتي بمعنى فترة من الزمن في قول الله: ? وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ? [يوسف: 45].
يعني برهة من الزمن أو فترة من الزمن، الجزء الثاني من السؤال.
وبين كيف تكون ملة الأنبياء مع أن شرائعهم مختلفة؟
هذا يعني سهل ميسور على طلبة العلم.
أن أصل دينهم التوحيد واحد ولكن تختلف الشرائع بينهم.
يعني أن أصل الدين أو الملة واحدة الذي هو التوحيد أما الشرائع فتختلف من نبي إلى نبي في الصيام في الصلاة وما إلى ذلك, أما أصل الدين الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى- هو دين واحد ألا وهو إفراد الله -تبارك وتعالى- بالعبودية والوحدانية وعدم اتخاذ شريك له ويؤكد ذلك الحديث؟ (الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى وأبوهم واحد) وهذا هو الاشتراك في الأصل.
الأخت الكريمة من مصر تقول: في الآية السابقة ? كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ? نريد أن نسأل أحيانًا تتكرر أن نكون في بلد مثلاً ولكي يشتغل الإنسان في الدعوة ويدعو إلى الله فإنه مضطر أن يمشي مع بعض الأحزاب التي لا تتمسك بالسنة وطريقة أهل السنة والجماعة مثل بعض أحزاب الصوفية وكذا، ولكننا نمشي معهم بما يخدم الدعوة وبدون التعرض للعقيدة أو كذا أو أخطاء في العقيدة، فهل يجب على الواحد ألا يتحزب أحزاباً؟
وبالنسبة للمسارعين في الخيرات, الإنسان يمكن أن يعمل خيراً كثيراً في حياته ولكنه لا يجدد النية دائماً فهل يكون بنية شاملة واحدة في حياته كلها أم عليه أن يجدد النية في كل عمل؟
(14/29)
---(4/39)
الأخت الكريمة من مصر تقول: حديث (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى يكون بينه وبينها ذراع) هذا المعنى يصيب الناس ببعض الإحباط لأنهم يتساءلون: ما دام أن كل شيء مكتوب من قديم الأزل فلماذا يعمل الناس؟
السؤال الثاني: هناك تخبط بين الناس في التفرقة بين المنافق والفاسق، على أساس أن هناك بعض الناس الذين يأخذون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فهم يصلون ويصومون ويحجون لكنهم يقولون على بعض القواعد الشرعية: هذا لا يصلح لهذا العصر. فما حكمهم.
الأخت الكريمة كان لها سؤالان: سؤالها الأول: عن قول الله -عز وجل-: ? كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ? وهل يجوز العمل في أحزاب لا تنتهج منهج أهل السنة والجماعة؟
(14/30)
---(4/40)
في الحقيقة لقد كررت هذا كثيرًا مطالبون بأن نلتزم بكتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وفق ما فهمه الصحابة ومن تبعهم بإحسان من هذا الدين، التفرق والتكتل والأحزاب والشعارات المتعددة أو المختلفة من لم يكن منها رافعاً راية القرآن الكريم والسنة النبوية فلا ينبغي أن يصرف الإنسان جهده فيه ؛ لأنك أيها المؤمن مطالب بما جاء في القرآن الكريم وبما جاء في السنة النبوية المطهرة، كل إنسان قد يدعي ذلك، بأنه متمسك بالكتاب والسنة، أو رافع راية الكتاب والسنة، ولذلك نؤكد ذلك ونفصله ونوضحه أكثر بأن نتبع القرآن والسنة وفق ما فهمه سلف هذه الأمة من صحابة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وتوضيح ذلك أكثر بأهمية مثل هذه المسألة، القرآن الكريم نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- والنبي -عليه الصلاة والسلام- عاش بين ظهراني الصحابة شرح لهم الدين، وبين لهم معاني القرآن الكريم وكان كلما استغلق عليهم أمر سألوه -صلى الله عليه وسلم- فوضحه لهم، والصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- هم الطبقة الوحيدة المثلى، الذين فهموا الدين فهماً صحيحاً من النبي -صلى الله عليه وسلم- وطبقوه تطبيقا عمليا على أرض الواقع، ما فيه أمة من الأمم جاء فيها كصحابة النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- وبالتالي نحن نقول: هذه الأمة التي فهمت هذا الفهم وتلقت هذا التلقي من النبي -عليه الصلاة والسلام- وطبقت هذا التطبيق علينا أن نسلك طريقها، وأن ننهج نهجها فأي حزب لا يتبع كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يتبعه الإنسان, وأخيراً أو ختاماً أقول: ليس في الإسلام أحزاب، الإسلام ما فيه شيء اسمه حزب، ولا تكتل على غير القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فحزب الله، واحد الذي ذكرهم رب العزة والجلال: ? أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ ? [المجادلة: 22] الذين هم حزب الله من؟ الذين هم المفلحين الذين ذكر الله -عز وجل- أو نص عليهم -سبحانه وتعالى-(4/41)
(14/31)
---
في كتابه، والدين واحد لا يتعدد، والحق في أصول الدين أيضاً واحد لا يتعدد، وإن اختلفنا في بعض الفرعيات أو في المسائل الفقهية التي يسوغ فيها الاختلاف فهذا ليس اختلافاً في أصل الدين فما نتفق عليه من أصول الدين أمور واحدة لا تكتل فيها ولا أحزاب من ورائها ولا تعدد لهيئات متعددة فيها وإنما يجب علينا أن نرفع راية القرآن الكريم وراية السنة النبوية المطهرة لفهم سلف هذه الأمة لا غير، والإنسان لا يسلك في طريقه إلا هذا المنهج ولا يتبع أي طريقة مخالفة لكتاب الله ولسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى لو رأى أن فيها المصلحة، لأن نظره في هذه الحالة سيكون قاصراً، المصلحة في أن تتبع لا أن تبتدع، أن تتفق لا أن تختلف، ونتفق على كتاب الله وسنة نبي الهدي والرحمة -صلى الله عليه وآله وسلم-.
الأخت الكريمة من مصر كان سؤالها الثاني عن المسارعين بالخيرات وأن الإنسان يعمل خيرات كثيرًا إلى أن تصبح عادة دون أن يجدد النية؟
(14/32)
---(4/42)
الحقيقة النية محلها القلب ويجب على الإنسان أن يوطن نفسه، في أن يفعل أعماله أو أن يعمل أعماله كلها لله -تبارك وتعالى- وأن يقبل بكليته على الله -عز وجل- وأن يتنافس في الخيرات وقلبه مليء بالإيمان يعني هناك دافع، الدافع إلى فعل الخيرات يدل على أن النية موجودة وأن النية مصاحبة للعمل، فلولا قيام القلب ونية القلب بهذا العمل ودافع القلب إلى القيام بالعمل والتنافس في الخيرات ما قام الإنسان بالعمل, فالإنسان يستحضر النية في كل أعماله ويتنافس ويتسارع في الخيرات, ولا يلتفت إلى غير ذلك، لأنني أخشى أن يلبس الشيطان على الإنسان حتى يصده عن الخير وعن المنافسة والمصارعة في الخيرات, تقول: والله الأعمال أنا أقول أذكار الليل وأذكار النهار إذا جلست على الطعام إذا خرجت من البيت أصبحت المسألة عندي ميكنة أو أن أقوم إلى الصلاة وتعودت عليها خمس مرات فأصبحت كالمكينة، لا، أنت تقوم استجابة وتلبية لرب العزة والجلال مستحضراً النية في الأعمال التي تقوم بها لله -عز وجل-، ويرجى بذلك القبول -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
الأخت الكريمة كان لها سؤالان: سؤالها الأول: عن حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع... ) إلى آخر الحديث، وتقول: معنى هذا الحديث يصيبها بالإحباط وتحتج بالقضاء والقدر في هذه المسألة؟
(14/33)
---(4/43)
في الحقيقة فيه كلمة نقولها دائماً: «الإيمان بالقدر ليس حجة للعصاة ولا لمن كفر»، الإيمان بالقدر ليس حجة لا للعصاة ولا لمن كفر، والله -عز وجل- قد ذم قوم احتجوا بالقدر على شركهم، ? سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ? [الأنعام: 148] الله -عز وجل- ذمهم في سورة الأنعام وفي سورة النحل، وفي سورة الأنعام قال: ? قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ? [الأنعام: 149] عليكم، لماذا؟ لأن الله -عز وجل- حقاً قضى ما قضاه أزلاً ولكن من أين للعبد أن الله -سبحانه وتعالى- قضى عليه وقدر وكتب عليه ما كان، ما قدره الله -عز وجل- يدل على عظمة الله -عز وجل-، فالله -عز وجل- علم أزلاً ما العبد سيفعله، وكتب بناءً على علمه، وعلم الله -عز وجل- السابق لم يدفع العبد إلى أن يعمل ما عمل وإنما لما خلق العبد أو وجد في الفترة التي أراد الله -عز وجل- أو شاء وجوده فيها قام بإظهار معلوم الله فيه، يعني هو قام بفعل ما علمه الله أزلاً فيه وعلم الله -عز وجل- لم يجبره على أن يقع في الكفر أو الشرك أو النفاق أو المعاصي أو ما إلى ذلك، وقد طُرح هذا السؤال على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ، هذا السؤال طُرح على النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- ذات يوم وهو في بقيع الغرقد ذهب عند القبر وكانت الجنازة لم تأتي بعد فجلس -عليه الصلاة والسلام- وجلس حوله بعض الصحابة فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (ما من نفس منفوسة إلا وقد عُلم مكانها من الجنة أو النار) فسأله أحد الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- قال له: أفلا نتكل على كتابنا هذا وندع العمل يا رسول الله؟) -صلى الله عليه وسلم-، وهذا سؤال وجيه من صحابة يفقهون، لما سمع هذا الأمر من النبي -عليه الصلاة والسلام- أن كل ما قدر كان وكل إنسان علم مكانه في الجنة أو النار (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: لا، اعملوا(4/44)
(14/34)
---
فكل ميسر لما خلق له من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ قول الحق -تبارك وتعالى-: ? فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ?5? وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ?6?? [الليل: 5، 6] إلى آخر الآيات) بخصوص هذا الحديث بالذات (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة) ورد في بعض صيغة ورواياته: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يرى الناس) وبالتالي ينحل الإشكال.
الأخت الكريمة من العراق تقول: حول قول الشيخ عند آيات الله -سبحانه وتعالى- الكونية والشرعية مثلاً عن آيات الله الكونية هل أراد بخلقها الابتلاء فقط أم أن لله -سبحانه وتعالى- حكمة ثانية من خلقها؟
هي تسأل ما معنى كونية فيما فهمت أو الذي قدره الله -عز وجل- وهو لا يحبه.
نقول باختصار: كل ما يقع في هذا الكون هو من قدر الله الكوني، يعني لا تتحرك حركة ولا يحدث أمر ولا تقع مصيبة إلا وقدرها رب العزة والجلال وقضاها، لأنه لا يكون في ملك الله ولا يقع في ملك الله إلا ما قدره الله وقضاه، سواء كان هذا المقدور يحبه الله -عز وجل- ويرضاه أو لا يحبه ولا يرضاه، وأفسر المسألة في نصف دقيقة، الله -عز وجل- خلق إبليس وهو رأس الشر كله، خلقه وأراد وجوده أم لم يرد؟ خلقه وأراد وجوده وأنظره إلى أن تقوم الساعة، وهو رأس الشر كله، هذه إرادة كونية قدرية، هل الله -عز وجل- يحب إبليس ويرضى عنه، لا.. ذمه وتوعده بالنار واللعنة وطرده من لعنته فالله -عز وجل- أراد إبليس كوناً وقدراً ولكنه لا يحبه ديناً وشرعاً. والله أعلم.
الأخ الكريم من المغرب يقول: ما هي علامات الإخلاص؟
أحسنت, جزاك الله خيراً، علامات الإخلاص قيل: على رأس العلامات:
- الإخبات لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- العبد إذا أخلص لله -سبحانه وتعالى- كان مخبتاً، هذا أول أمر.
(14/35)
---(4/45)
- الأمر الثاني أن الله -عز وجل- ينجيه من السوء ومن فعل المنكرات، ومن الوقوع في المعاصي والآثام وأن الله -عز وجل- يكلؤه ويحفظه ويرعاه والدليل على ذلك ما جاء في قصة يوسف -عليه السلام-, ابتلي يوسف -عليه السلام- بما ابتلي به، وأعظم مصيبة كان ابتلي بها وهو شاب ما وقع مع امرأة العزيز له، وبعدما ذكرها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، بعد ما ذكر ما حدث قال: ?كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ? لماذا؟ ?إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ? [يوسف: 24] فدل ذلك على أن من علامات الإخلاص أن يكلأ رب العزة والجلال عبده الذي أخلص عبادته لربه.
الأخ الكريم من تونس يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عندي سؤال لو تفضلتم: ما هي العوامل التي تساعد على تحقيق الخشية الدائمة من الله -عز وجل-؟ وبارك الله فيكم.
في الحقيقة العوامل التي تساعد على أن يخاف العبد من ربه -تبارك وتعالى-:
- ترك ما حرم الله -عز وجل-، ? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ?40? فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ?41?? [النازعات: 40، 41] فترك المعاصي والآثام والمحرمات, وأن يكف الإنسان نفسه وعينه وجوارحه عما حرم الله -تبارك وتعالى-، تعين على خشية الله -تبارك وتعالى- لأن هذه المعاصي تحول بين العبد وبين قلب العبد، وبين الخشية وبين الوجل وبين ما يمكن أن يقع من العبد من قلب العبد لله -تبارك وتعالى-، فالإنسان إذا ابتعد عن الفواحش والآثام والمنكرات أُعين بفضل الله -تبارك وتعالى- على خشية الله -عز وجل-.
الأخ الكريم يقول: في قوله تعالى: ? مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ?67?? الضمير يا شيخنا ذكرتم ثلاثة أقوال: أما لكم يا شيخنا في ترجيحها, الأمر فيه إشكال بسيط؟
(14/36)
---(4/46)
في هذا. والله أعلم أنا نظرت فيها في الحقيقة وذكرها الحافظ ابن كثير الثلاثة ولم أجد من المفسرين من رجح فيها, ولكني أرجح -والله أعلم- مستكبرين بالبيت، لدلالة القرآن الكريم ؛ لأن الله -عز وجل- ذكر عنهم أنهم يتباهون بالبيت ويعلنون أنهم أولياؤه والله -عز وجل- نفى تعنهم هذه الولاية، فالراجح -والله أعلم- أنهم مستكبرين بالبيت، وهذا أيضاً سيكون الضمير فيه دون حاجة إلى أي لون من ألوان التأويل فحينما نقول: ? مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ? يعني بالبيت دون أن نقول: مستكبرين بالقرآن ، المستكبرين بالقرآن يعني عن القرآن أو على القرآن، أما مستكبرين به يعني بالبيت فيكون هذا -والله أعلم- هو الظاهر، وجزاك الله خيراً سؤال طيب الله يبارك فيك.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: أحيانًا الإنسان إذا أدى الحقوق الواجبة كالزكاة فإنه يرتاح نفسياً ويفرح لزوال هم الزكاة التي في عنقه، فهل هم مخالفون لقوله تعالى: ? وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ? [المؤمنون: 60]؟
هذا أمر مطلوب فالإنسان يؤدي ما عليه, هو واجب في حقه أن يفعل ذلك ولكن هو في نفس الأمر حينما يقوم بأدائه يحرص على الإخلاص فيه ويسأل الله -عز وجل- القبول، هذه حقوق واجبة مما يتعلق بحق الله ويتعلق بحق العبيد، فأنت حينما تؤدي حق الناس إليهم وهو واجب عليك تؤديه وتسأل الله -عز وجل- أن يتقبل عنك أداء هذا الحق لأنك قد تؤديه مع شيء من القصور فالله -عز وجل- يجبر هذا الأمر ويقبل منك، وهذا مطلوب وهذا مطلوب.
الأخ الكريم يقول: ذكرتم أن الخشية هي خوف مقرون بمعرفة وتعظيم الله جل وعلا، نريد من سيادتكم توضيح الفرق بين الخوف الجبلي والخوف الشركي؟
(14/37)
---(4/47)
طيب، جزاك الله خيراً، الخوف الفطري أو الطبيعي أو الطبعي أو يسمى الخوف الجبلي، الذي هو موجود في الإنسان, في كل الإنسان حتى يقع فيه الأنبياء كما ذكر الله تعالى عن موسى -عليه السلام- لما ألقى العصا من يده، وتحولت إلى حية قال الله عنه: ? فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ?67? قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعْلَى ?68?? [طه: 67، 68] وكأن يخرج مثلاً أسد على أحد منكم وهو يسير في الطريق فيخاف فهذا خوف فطري أو خوف جبلي إنما الخوف المراد هنا، أو المعني خوف العبادة، أو ما يطلق عليه بعض العلماء خوف السر، وهو الذي ليس بينك وبين العبد فيه سبب، الذي هو الخوف من الله -تبارك وتعالى-، من مقام رب العزة والجلال، الخوف الذي هو تتذلل فيه وتخاف وتتضرع لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- دون أن تكون هناك أمور حسية أو مادية تخاف منها خوفاً فطرياً أو جبلياً، فهو يعبر عنه الخوف هذا بخوف العبادة أو بخوف السر؛ لأنه يقوم بين العبد وبين ربه، الإنسان يقف يأتي في الليل ويقف بين يدي الله -عز وجل- ليصلي ما الدافع إلى ذلك؟ هو خائف من مقام الله -عز وجل-, أمر قام في قلبه, أمر قام في نفسه ليست هناك أسباب مادية تدفعه إلى هذا الخوف، وإنما التحقق أو إرادته أن يحقق عبوديته لله -تبارك وتعالى-، وتقديره لمقام رب العزة والجلال وخوفه من الوقوف بين يديه وطمعه في جنة الله -عز وجل-.
فضيلة الشيخ: هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة.
السؤال الأول: عرف الخشية. وما الفرق بينها وبين الخوف؟ وبأي شيء وعد الله من يخشاه؟
السؤال الثاني: اشرح قول الله تعالى: ? وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ?.
السؤال الثالث: ذكر الله في كتابه أن الكفار إذا تليت عليهم آيات الله أتوا بثلاثة أمور، اذكرها بالتفصيل.
(14/38)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث(4/48)
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الخامس عشر
الدرس الخامس عشر: تفسير سورة المؤمنون
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين وبالمشاهدين والمشاهدات ويسعدنا -إن شاء الله تعالى- أيضاً أن نلتقي في هذا اللقاء الكريم المبارك ومع بعض آيات من كتاب الله -تبارك وتعالى- والآيات التي ستستمعون إليها -إن شاء الله تعالى- بعد قليل سأتحدث عنها من خلال المحاور التالية:
المحور الأول: دعوة المشركين إلى تدبر ما جاء به النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم-.
المحور الثاني: الرسول -عليه الصلاة والسلام- يدعو إلى الصراط المستقيم.
المحور الثالث: المكذبون السائرون في غيهم مع ابتلاء الله لهم.
المحور الرابع: نعم الله على عباده توجب الشكر له سبحانه.
والآن نستمع إلى آيات هذا اللقاء -إن شاء الله تعالى- فمع الأخ الكريم, فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(15/1)
---(4/49)
? أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ ?68? أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ?69? أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ?70? وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ?71? أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ?72? وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ?73? وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ?74? وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ?75? وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ?76? حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ?77? وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ?78? وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ?79? وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ?80??.
جزاك الله خيراً.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك وعلى آله وأصحابه ومن وسلك سبيلهم واقتفى أثرهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد.
(15/2)
---(4/50)
أيها المشاهدون الكرام المحور الأول معنا في هذا اللقاء هو بعنوان: دعوة المشركين إلى تدبر ما جاء به النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-:
المحور الأول: دعوة المشركين إلى تدبر ما جاء به النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-:
وهذا المحور يبدأ بقول الحق -تبارك وتعالى-: ? أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ ?68?? الله -تبارك وتعالى- كما ذكرت لكم في اللقاء السابق وصف حال المشركين المكذبين للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وذكر أن قلوبهم في غفلة فهم في سكرة يعمهون وقد ختم الله -سبحانه وتعالى- على قلوبهم وأصبحوا في حالة لا يصل الحق إلى شيء من أفئدتهم، بعدما ذكر الله -عز وجل- عنهم هذا الموقف أشار بعد ذلك في هذه الآيات أن ما حصل لهؤلاء الناس كان لأمور أربعة، يعني استكبارهم عن الحق وعدم قبولهم له كان بسبب هذه الأمور:
(15/3)
---(4/51)
الأمر الأول: عدم تدبرهم للقرآن الكريم، وعدم فهمهم له، وعدم إقبالهم عليه، فهم كانوا يعرضون عن كتاب الله -عز وجل- فالذي لم ينزل من عند الله -سبحانه وتعالى- كتاب أفضل منه، ونزل وبعث به رسول -صلى الله عليه وآله وسلم- هو أشرف الرسل وخاتم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليه- فكان الأولى بهؤلاء المشركين ألا يعرضوا عن الذكر الحكيم، وأن يقبلوا على كتاب الله -عز وجل- وأن يتدبروه ويتأملوا ما جاء فيه، وهذا يدفعهم إن نظروا فيه نظرة تأمل إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، ولكنهم أعرضوا عن التدبر والتأمل فيما جاء من عند الحق -تبارك وتعالى-، ولو نظروا فيه بعين البصيرة لأيقنوا ولعلموا أنه كلام رب العالمين ولدخلوا في دين الله -عز وجل-، لماذا؟ لأن القرآن الكريم نزل بلغتهم، ويشتمل على ألوان من البلاغة والفصاحة والبيان، لو نظر فيه العربي وهو على قدر من البلاغة والفصاحة والبيان، لأيقن ولعلم أنه كلام رب العالمين، وأن البشر عاجزون عن أن يأتوا بمثله ولذلك نجد أن القرآن الكريم في كثير من الآيات يدعو هؤلاء المشركين إلى تدبر القرآن الكريم، ويشير من خلال هذه الآيات إلى أن هناك دواعي لهذا التدبر وفوائد لهذا التدبر، فمن ذلك مثلاً قول الحق -تبارك وتعالى-: ? أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ?82? ? [النساء: 82] يعني يا أيها العربي إن كنت تعقل تأمل وتدبر وانظر في هذا القرآن الكريم وستعلم يقيناً بعد النظر والبحث والاجتهاد وعندك أسلوب البيان فالعرب كانوا من الفصحاة ومن البلاغة بمكان، فلو نظر لأيقن ولعرف ذلك ولذلك قال الله -عز وجل-: ? وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ? والنظر بعين البصيرة سيعرف صدق ذلك لا محالة، ومن ذلك أيضاً ما جاء في سورة محمد في قول الحق -تبارك وتعالى-: ? أَفَلاَ
(15/4)
---(4/52)
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ?24?? [محمد: 24] وحقاً كما ذكرت في اللقاء السابق, ختم الله -سبحانه وتعالى- على قلوبهم، فلا يجدوا الحق منفذاً ولا يجد القرآن سبيلاً وطريقاً إلى هؤلاء.
الأمر الثاني: الذي جاء في هذه الآيات: وكان سبباً في أن ينصرف هؤلاء الناس عن الإيمان والدخول في دين الله -تبارك وتعالى- ما جاء في قول الله سبحانه: ? أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ ? يعني: هل هم يعتقدون أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جاء بأمر مخترع جديد لم يسبقه أحد إليه، وواقع الأمر أن المشركين في جزيرة العرب وغيرهم من سائر الكفرة كانوا يعلمون أن هناك رسلاً أرسلهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بدليل أن في مكة نفسها كان فيها بعض الحنفاء الذين كانوا على ملة خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام-، وكانت الديانة اليهودية قريبة منهم، وكان النصارى أيضاً موجودين في جزيرة العرب، وفي غيرها, في الشمال وما إلى ذلك، فإذن خبر الأنبياء السابقين معلوم لدى من؟ لدى المشركين، فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يأت بشيء جديد، وإنما بعث كما بعث الله -عز وجل- غيره من الأنبياء أو من سائر الأنبياء والمرسلين فهو كما قال الله عنه: «ليس بدعاً من الرسل»، -صلوات الله وسلامه عليه-، ولذلك لو نظر أيضاً المخاطبون بالقرآن الكريم في بداية الأمر ولو نظر أيضاً المخاطبون بالقرآن الكريم في هذه الأزمنة لعلموا أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مرسل كغيره من الأنبياء والمرسلين من قبل الله –تعالى- وأن معرفة الناس بأن الله -عز وجل- أرسل رسلاً وأنزل عليهم كتباً أمر من الوضوح وسمع به العامة والخاصة في الزمن الذي نزل فيه القرآن الكريم وفي هذه الأزمان المتأخرة أيضاً بشيء من الوضوح.
(15/5)
---(4/53)
الأمر الثالث: الذي ذكرته هذه الآيات وكان من الدوافع لاستكبار هؤلاء الناس عن الحق، وعدم الدخول في دين الله -تبارك وتعالى- ما جاء في قول الله -سبحانه وتعالى-: ? أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ?69?? أي أفهم لا يعرفون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومدخله ومخرجه وما كان عليه من الصفات الجليلة الحميدة, وهذه حجة ظاهرة قوية على قريش بصورة خاصة في مثل هذه الآية لماذا؟ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نشأ بين ظهراني قومه، وكانوا يعرفون من صدقه وأمانته وسمو خلقه الشيء الكثير لدرجة أنهم كانوا يشهدون له بذلك, بل إنهم لقبوه بالأمين -صلوات الله وسلامه عليه-، وكانوا يرتضونه حكماً بينهم -عليه الصلاة والسلام-، وكانوا يودعون أماناتهم لديه، وإذا كان الأمر وحالة النبي -عليه الصلاة والسلام- كذلك إذن كان الأولى بقومه حين بعث فيهم وهم يعرفون صدقه وأمانته أن يسلموا له ويتابعوه -صلوات الله وسلامه عليه-.
وقد شهدوا له بالصدق والأمانة في مواطن متعددة كثيرة:
(15/6)
---(4/54)
- العرب لما كانوا يسافرون إلى بلاد الشام وبعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعرف قيصر الروم بخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وسأل هرقل سأل أبا سفيان عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وسأله سؤالاً محدداً دقيقاً وهو نفسه وهو كافر ألزم الكفار حجة كان ينبغي عليهم أن يعقلوها, هرقل سأل أبا سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول؟ كنتم تتهمونه بالكذب؟ قال: لا، هذا جواب أبي سفيان وهو كافر، فماذا قال هرقل؟ قال: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله، وهذا استنباط وجيه، ما كان له أن يدع الكذب عن الناس ثم يأتي بعد ذلك فيدعي الكذب على الله -تبارك وتعالى-، ومثله قال جعفر بن أبي طالب وهو مسلم لما قال للنجاشي ملك الحبشة قال له: وكان ملكاً في بلاد الحبشة وهاجروا إليه في الهجرة الأولى, لما سئل جعفر عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: إن الله بعث فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته, فذكر من خلال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما تعرفه عنه العرب، ولذلك كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يستغل هذه الصفات الحميدة التي هو عليها -عليه الصلاة والسلام- في أن يستجيب له المشركون وأن يدخلوا في دعوته:
(15/7)
---(4/55)
- لما نزل عليه قول الله -تبارك وتعالى-: ? وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ?214?? [الشعراء: 214] رقى النبي -عليه الصلاة والسلام- على جبل الصفا ونادى وجهاء قومه ونادى أقاربه اجتمعوا عنده، وفيهم أبو لهب وغيره، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- انظر المدخل واستدلاله -عليه الصلاة والسلام- وربطه بين صدقه بينهم وبين صدقه فيما يدعو إليه من قبل الله -تبارك وتعالى-، قال لهم -عليه الصلاة والسلام-: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم) لو أخبرتكم بذلك خيلاً: جيشاً كبيراً خلف هذا الجبل في الوادي تريد أن تغير عليكم (أكنتم مصدقيّ؟) قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: (فإني نذير لكم, بين يدي عذاب أليم)، قال له أبو لهب: «تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟» فهم كانوا يعرفون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والقرآن يقيم عليهم الحجة من خلال هذه المعرفة، أنت تعرف صدقه وتعرف أمانته فلما لا يدفعك ذلك إلى التصديق به ? أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ?69?? .
(15/8)
---(4/56)
الأمر الرابع: الذي بينته هذه الآيات وكان سبباً في استكبار هؤلاء الناس عن الحق وعدم الدخول فيه اعتقادهم الجنون في النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-, ولذلك قال الله: ? أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ? يعني هؤلاء يظنون أن به جنوناً, والأمر ليس كذلك؛ لأن الذي به جنون لا يأتي بهذا الحق الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى-، وهذا كتاب كريم والقرآن عظيم الذي عجز الإنس والجن على أن يأتوا بحرف من مثله. هل يمكن بعد ذلك أن يأتي به رجل أصيب بالسكر أو الهزيان فلا يدري ما يقول: ولذلك الهمزة هنا قال فيها العلماء في قوله تعالى: ? أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ? أم: هنا قيل بأنها للإضراب أم المنقطعة التي تأتي للإضراب، وتأتي أيضاً للاستفهام الإنكاري وقد يجمع بينهما وهذا ظاهر في هذه الآية، فالله -عز وجل- يضرب عن كلامهم هذا لأنه باطل، ثم بعد ذلك ينكر عليهم وصْفَ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالجنون، وقد نفى الله -عز وجل- هذا الأمر عنه في آيات كثيرة فقال سبحانه: ? وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ?22?? [التكوير: 22] وما صاحبكم يعني به النبي -صلوات الله وسلامه عليه- ويقول الله له : ? فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ ? [الطور: 29] -صلوات الله وسلامه عليه- وكان المشركون وكل من أرسل الله -سبحانه وتعالى- إليهم رسولاً يتهمون أنبياءهم ورسلهم بالكذب ويسخرون منهم وعلى رأس ما كانوا يتهمونهم به هو الجنون، والعلة في ذلك أن ينفروا الناس عنهم وأن يدعوا الناس إلى الانصراف عنهم وعدم الاستجابة لهم؛ لأن العاقل لا يستجيب لمجنون إن ثبت حقاً أنه مجنون، ولكن هؤلاء القوم في الحقيقة افتروا على هؤلاء الأنبياء والمرسلين وكما قيل لآخر نبي -صلوات الله وسلامه عليه- وقيل عنه بأنه مجنون، قيل أيضاً عن أول رسول ألا وهو نوح -عليه السلام-، وقد سبق أن ذكرت قول الحق -تبارك وتعالى- في هذه السورة التي معنا أن قوم(4/57)
(15/9)
---
نوح قالوا له أو عنه: ? إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ?25?? [المؤمنون: 25] يعني قيل هذا لآخر نبي -صلوات الله وسلامه عليه- وقيل أيضاً لأول رسول ولا شك أفاد القرآن الكريم أن كل رسول بعث في قومه قيل فيه هذا القول، ويؤكد ذلك ما جاء في قول الله -تبارك وتعالى-: ? كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ?52? أَتَوَاصَوْا بِهِ ?53?? [الذاريات: 52، 53] هم في الحقيقة لم يتواصوا به لأنهم بعيدين في الأزمان والديار، فبين كل رسول ورسول فترة، وأمكنة الرسل متفاوتة مختلفة, فلن يلتقي هؤلاء المشركون بعضهم مع بعض حتى يتواصوا بهذا الأمر ولكن الطغيان ومجاوزة الحد والاستكبار والاستعلاء والرغبة في الكذب والشرك والكفر، هي التي دفعت هؤلاء الناس جميعاً إلى أن يتهموا أنبياءهم ومن أرسلهم الله -عز وجل- إليهم بالجنون, وهذا فيه تشابه للقلوب، فكما أن قلوب أهل الإيمان تتقارب وتلتقي فكذلك أيضاً قلوب أهل الشرك والضلال تتقارب، وأفئدتهم تتحد على الباطل وقد أشار الله -عز وجل- في سورة البقرة إلى شيء من ذلك ومن ذلك قول الحق -تبارك وتعالى-: ? كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ? [البقرة: 118] يعني في التكذيب ثم قال: ? تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ? [البقرة: 118] فهؤلاء في الحقيقة قوم طاغون كما أخبر الله -سبحانه وتعالى- عنهم.
(15/10)
---(4/58)
بعدما ذكر الله -عز وجل- هذه الصفات الأربع التي اتصف بها هؤلاء الناس، ولو لم يتصفوا بهذه الصفات لدخلوا في دين الله -سبحانه وتعالى- أفواجاً، وبعد أن عدد الله -عز وجل- هذه الوجوه السابقة وذكرها قال سبحانه مبيناً حال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وحال ما بعث به فقال: ? بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ? وهذا هو الحق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- جاء هؤلاء المشركين بالحق والله -عز وجل- في كتابه يقول لهم: ? لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ?78?? [الزخرف: 78] فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أتى بالحق بكتاب الله والهدي الذي نزل عليه من الوحي الذي أرسله الله -سبحانه وتعالى- إليه, ولكن هؤلاء الناس كرهوا هذا الحق الذي أنزل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن كراهتهم للحق أنهم كانوا لا يستمعون له ويأبون الاستماع إليه: ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ? [فصلت: 26] وهذا لكراهتهم لما بعث به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-, بل كان يوصي بعضهم بعضاً فالمشركون يوصي بعضهم بعضاً ألا يستمعوا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد جاء هذا في السيرة كان أمية بن خلف وأبو جهل وغيرهم كان كل واحد منهم يوصي الآخر ألا يستمع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك كانوا يذهبون فرادى فيجلسون ويستمعون للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا انصرفوا تلاقى بعضهم مع بعض فيتعاهدون ألا يستمعوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم بعد ذلك يعودون هذا كله من كراهتهم وكما كان هؤلاء المشركون يكرهون الذي بعث به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو آخر رسول أيضاً, وكانت هذه الكراهة تدفعهم إلى ألا يستمعوا إلى ما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- كان قوم نوح أيضاً يفعلون ذلك، أيضاً من كراهتهم لما جاء به نوح(4/59)
(15/11)
---
كانوا لا يستمعون إلى قوله يقول الله -عز وجل- عن نوح -عليه السلام-: ? وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ? [نوح:7] حتى لا يسمعوا: ? وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ? [نوح:7] فهؤلاء الناس كرهوا الحق الذي بعث به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقد ذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- عن قتادة: (أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لقي رجلاً فقال له: أسلم, فقال له هذا الرجل: إنك تدعوني إلى شيء وإني له كاره، فقال له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: وإن كنت كاره) يعني أسلم وإن كنت كارهاً، وإن كره الحق ثم أسلم أقبل عليه وفتح الله -سبحانه وتعالى- عليه وشرح صدره لما جاء به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وقول الله -تبارك وتعالى-: ? بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ? يفيد أن بعض الكفار -من خلال مفهوم المخالفة- لا يكره الحق، لأنه قال: ? وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ? فيدل ذلك على أن بعض الكفار كانوا لا يكرهون الحق الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى- وهذا مفهوم صحيح، مفهوم المخالفة هنا صحيح، فقد كان بعض الكفار وإن لم يؤمنوا لا يكرهون الحق الذي بعث به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وعلى رأس هؤلاء من؟ أبو طالب، أبو طالب كان لا يكره الذي نزل من عند الله -تبارك وتعالى- وكان يشد من عضد النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدفع من أزره ويحميه ويمنع قريشاً من أن تؤذي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومع ذلك لم يؤمن, ولكنه كان يعرف صدق الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي قال:
ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دين
ولكن الملامة, ملامة قومه له, وتأييدهم له هو الذي دفعه إلى عدم الإيمان بالنبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(15/12)
---(4/60)
إذن صدق الله -عز وجل- في قوله: ? بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ?.
ثم قال سبحانه: ? وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ? يبين ربنا -سبحانه وتعالى- في هذه الآية أن الحق لا يتبع الهوى, وأنه يجب على الإنسان أن يطرح الهوى وأن يتبع الحق، وقد اختلف العلماء: ما المراد بالحق في قوله تعالى: ? وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ ?؟
(15/13)
---(4/61)
القول الأول: قال قوم: المراد بالحق هو الله -تبارك وتعالى-، والحق من أسماء الله الحسنى، قال الله -عز وجل-: ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ? [الحج: 6] فالحق من أسماء الله -تبارك وتعالى- الحسنى وقد جاء هذا عن مجاهد وأبي صالح والسدي وابن جرير وغيرهم وعزاه القرطبي -رحمه الله تعالى- إلى الأكثرين, ويكون المعنى: ولو اتبع الله -عز وجل- أهواءهم لشرعوا ما لم يأذن به الله -تبارك وتعالى- وأدخلوا شرائع لا تتفق ولا تليق, لأنهم كفار وبالتالي ستفسد السماوات والأرض، ومن الأهواء الباطلة عند هؤلاء الناس ما ذكره الله -سبحانه وتعالى- عنهم يعني من أهوائهم إنكار أن ينزل القرآن الكريم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ? وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ?31?? [الزخرف: 31] هذا من الهوى الذي أصيب به هؤلاء الناس والله -سبحانه وتعالى- عقب على ذلك بقوله لما قالوا: ? لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ? قال: ? أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ? [الزخرف: 32] إذن لا يليق أن يترك رب العزة والجلال لهؤلاء المشركين أن يدخلوا الشرائع وهم أصحاب هوى، والله -عز وجل- يقول لهم مثلاً: ? قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا ?100?? [الإسراء: 100] فمن أين لهؤلاء إذن أن يشرعوا الشرائع للناس أو أن يتبعهم أحد أو أن يضعوا هم ما لم ينزل به رب العزة والجلال شيئًا من البيان أو السلطان؟ ولذلك الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- قال: «في هذه الآية كله، تبيين عجز العباد واختلاف أهوائهم وآرائهم وأن الله -سبحانه وتعالى- هو الكامل»، كامل في صفاته سبحانه، الكامل في كبريائه الكامل في قدره الكامل في شرعه -سبحانه وتعالى-، هذا هو القول الأول في(4/62)
(15/14)
---
المراد بكلمة الحق، الواردة في هذه الآية ? وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ ?.
القول الثاني: في قوله: ? وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ ? أن المراد بالحق هنا ضد الباطل، الحق الذي هو ضد الباطل، ويكون معنى الآية ولو اتبع الحق أهواءهم وأهواؤهم واقعة في الشرك والكفر والضلال لفسدت السماوات والأرض ؛ لأنه سيكون الحق عندهم هو الشرك واتخاذ الأنداد ونسبة الولد إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وبالتالي ستفسد السماوات وستفسد الأرض لأن الله -عز وجل- يقول: ? لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ? [الأنبياء: 22] وهؤلاء يتخذون لله الأنداد والشركاء وأهواؤهم تؤيد ذلك فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع أو كان ما كان.
ثم يقول -سبحانه وتعالى- بعدما قال: ? وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ?71??
القول الثالث: قيل المراد بالذكر هنا القرآن الكريم.
(15/15)
---(4/63)
القول الرابع: وقيل المراد بالذكر : الشرف والفخر، وكانوا هم في الحقيقة أعني المشركين ومشركي قريش بصورة خاصة لهم منزلة وشرف وفخر أن يكون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- منهم لو آمنوا به، ويكون معنى الآية بهذا على أن المراد بالذكر هنا هو الشرف والفخر الذي يمكن أن ينالوه لو صدقوا وآمنوا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لأنه بعث فيهم يكون معنى الآية كقول الله جل ذكره: ? وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ ? [الزخرف: 44] يعني لشرف لك ولقومك، فالله -عز وجل- يقول: بل أتيناهم إذن بذكرهم إما بالقرآن الكريم وإما بالشرف والفخر من أن يكون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- منهم ولكن ماذا وقع منهم؟ أو كيف قابلوا الذكر الذي جاء من عند الله؟ قابلوه بالإعراض ولذلك قال سبحانه: ? بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ? تولوا عنه وأعرضوا عنه فلم يأخذوا بالقرآن الكريم إن كان المراد هو الذكر ولم يستفيدوا من بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكان لهم من الشرف والفخر أن يكون من بينهم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين -صلوات الله وسلامه عليه-، وأعاد الله -سبحانه وتعالى- كلمة الذكر هنا للتفخيم، وتعظيم هذا الذكر الذي جاء من عند الله -تبارك وتعالى- أو الذي بعث به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-, فالله -عز وجل- قال: ? بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ? وقد قلت بأن لغة العرب تقتضي البلاغة والفصاحة والبيان, ومن البلاغة هنا الإضمار إذا سبق للشيء ذكر فإذا أظهر الأمر أو ذكر صراحة فيما مضى فيحسن بعد ذلك أن يعبر عنه بضمير الغيبة ليحال عليه، هذا من البلاغة, ولكن القرآن هنا الكريم صرح به مرة أخرى لشرفه ولفخره ولتعظيمه ولتفخيم ما جاء من عند الحق -تبارك وتعالى-: ? بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ ?.
(15/16)
---(4/64)
ثم يقول سبحانه موجهاً الخطاب لمن يعقل وللنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولمن يعقل من المشركين الذين يستمعون: ? أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ?72?? يعني يا أيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لا تطلب منهم أجرا ولا تطلب منهم مالاً حتى يكون ذلك سبباً للنفرة عن الاستجابة لك. والخَرْجُ والخراج هو الأجر والجزاء، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لقومه كما ذكر القرآن الكريم عنه ? قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ?86?? [ص: 86] -صلوات الله وسلامه عليه- فما كان يسألهم على ما يقدمه لهم، مقابل التبليغ شيئًا، ولا كان يستفيد من ورائهم رفعة أو منزلة أو مكانة, بل إنه كان يدعوهم -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الله لأن الله -عز وجل- أمره بذلك, وفي الحقيقة كان هذا هو نهج جميع الأنبياء والمرسلين, كل الأنبياء وكل المرسلين الذين أرسلهم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- كانوا لا يسألون الناس أجراً ولا يطلبون على ما يقدمون لهم من دعوتهم إلى الخير شيئاً من المال أو الشرف أو الفخر أو ما إلى ذلك مما يمكن أن يسعى إليه الناس ولكن الأنبياء والمرسلين كانوا متجردين في دعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى-, نوح -عليه السلام- أول رسول يقول: ? وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ ? [هود: 29] ولذلك مؤمن آل ياسين فهم هذه القضية لأن لو أخذ النبي مالا في مقابلة دعوته الناس إلى الله -تبارك وتعالى- لكان في ذلك تعريض لدعوته وصرف للناس عنه أو سبب لصرف الناس عنه في أنهم يقولون أتى ليأكل من ورائنا أو ليأخذ شيئًا من أموالنا فهم مؤمن آل ياسين هذه القضية فقال لقومه: ? اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ?20? اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا ?21?? [يس: 20، 21] اتبعوا هؤلاء الناس لا يطلبون منكم(4/65)
(15/17)
---
شيئًا ولا يريدون منكم مالاً وإنما يدعونكم إلى الله -تبارك وتعالى- وهذه شأن الأنبياء وشأن المرسلين ويجب أن يكون أيضاً شأن أتباع الأنيباء والمرسلين يريدون الإصلاح دعوتهم قائمة على الخير وعلى الحق وعلى الإصلاح وعلى التجرد الكامل وبغيتهم أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً، الله -عز وجل- يبين هذا ويذكر في ذلك دعوة الأنبياء والمرسلين وأنها قائمة على الحق وعلى الخير وعلى تقديمه للناس دون مقابل يحصلون عليه ? أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ? يعني عطاء الله -عز وجل- خير، ما أعده الله –سبحانه- للأنبياء والمرسلين ولمن سلك طريقتهم في الدعوة إلى الله -عز وجل- خير مما عند هؤلاء الناس, وتختم الآية بقول الله -تبارك وتعالى-: ? وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ? وهي تدل على أن أحداً من العباد لا يقدر على مثل نعم الله -تبارك وتعالى- ولا على مثل رزقه ولا على مثل ما عنده من الخير لماذا؟ لأن بعض الناس قد يرزق بعض الناس بسبب، فقد يعمل إنسان ما عند إنسان، فيعطيه شيئًا من المال فنقول: قدم إليه رزقاً ومعنى ذلك أنه كان سبباً فيه، أما الرزق في الحقيقة كله فهو عند الله -تبارك وتعالى-، ? وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ?22?? [الذاريات: 22] وإن قدر وساق أحد من العباد بأسباب مادية رزقاً لأحد من العباد فرزق الله -عز وجل- خير وأبقى وأوفى وهذا في الدنيا, أما في الآخرة فالرزق لا يملكه إلا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، رزق الآخرة وما أعده الله -سبحانه وتعالى- للمؤمنين في الجنة لا يقدمه لهم أحد ولا يستطيع أحد أن يشارك في شيء فيه، إن كانت في الدنيا هناك أسباب مادية يتخذها بعض الناس فيوصلون شيئًا من الأرزاق إلى غيرهم، وهي من الله وبتقدير الله -عز وجل- ولكنهم أسباب ليس إلا، أما في الدار الآخرة فالرزق كله عند الله -تبارك وتعالى- ولذلك قال إبراهيم خليل الرحمن(4/66)
-عليه
(15/18)
---
السلام- لقومه: ? فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ? [العنكبوت: 17].
المحور الثاني: الرسول -عليه الصلاة والسلام- يدعو إلى الصراط المستقيم:
وفي ذلك يقول الحق -تبارك وتعالى-: ? وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ?73?? -صلوات الله وسلامه عليه-، هذه الآية تبين صحة ما جاء به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهو أنه يدعو الناس إلى الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه؛ لأن كلمة المستقيم تفيد ذلك، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان قائماً على هذا الأمر، والله -عز وجل- أخبر عنه أنه يهدي إلى الصراط المستقيم قال الله له: ? وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? [الشورى: 52] وهداه الله -سبحانه وتعالى- قبل ذلك إليه, وامتن به عليه, وهذه نعمة يجب أن نقدرها يا معشر المؤمنين حتى نسلك الصراط المستقيم، إعطاء الصراط المستقيم للنبي -صلى الله عليه وسلم- نعمة من الله عليه، وعلى هذه الأمة والله -عز وجل- يمتن بها على النبي -عليه الصلاة والسلام- في أول سورة الفتح ماذا يقول الله لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ ? إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ?1? لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ?2?? [الفتح: 1، 2] يعني هذا من كمال النعمة على النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد الفتح له يخبره رب العزة والجلال أنه قد غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ثم يمتن عليه بهذا الصراط المستقيم من ضمن النعم والمنن، ولا أريد أن أطيل عند هذا الموطن فقال: ? وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ? -صلوات الله وسلامه عليه-، ولذلك الذي أود أن أقوله عند هذه الآية أن أوجه الخطاب لمعشر المؤمنين ولأهل الإسلام: ارجعوا إلى الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي الأمين -صلى الله عليه وآله وسلم-, والله -عز وجل- قد أمركم به؛ لأننا نسأل كثيرًا(4/67)
عن التفرق
(15/19)
---
والاختلاف، أو وجود الأحزاب والتكتلات والرايات وما إلى ذلك والله -عز وجل- في كتابه أخبر أن الطريق إليه واحد لا يتعدد، وأن صراطه المستقيم صراط واحد، والأمة كلها أمة أهل الإيمان مأمورة باتباع هذا الصراط المستقيم، في الربع الأخير في سورة الأنعام وختام الوصايا العشر التي افتتحها ربنا بقوله: ? قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ? [الأنعام: 151] آخر وصية من هذه الوصايا يقول الله فيها: ? وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ? [الأنعام: 153] يفرد هنا ربنا -سبحانه وتعالى- يفرد الصراط المستقيم لأنه صراط واحد ? صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ? ثم يحذر من اتباع الطرق المؤدية إلى الانحراف أو إلى الضلال أو إلى الهوى والتفرق في الدين ? وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ? وهنا جمع السبل ؛ لأن صراط الله واحد، ولأن الطريق إلى الله -عز وجل- واحد لأن كتاب الله واحد والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- المبعوث من عند الله -عز وجل- واحد, والأمة أمة واحدة، فصراط الله واحد، أما المخالفون فصراطهم أو طرقهم متعددة ? وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ? والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عند هذه الآية خطَّ خطاً واحداً وخط خطوطا متعرجة وقال: هذا صراط الله المستقيم وأشار إليه, وأشار إلى طرق الانحراف والضلال وأخبر أن هذه الطرق خارجة عن الصراط المستقيم وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو إليه، ولذلك يا أهل الإيمان اتبعوا الصراط المستقيم ونحن علينا أن نتأمل آية نقرؤها في اليوم والليلة لو اقتصرنا على الفرائض فقط سبعة عشر مرة، نتأمل هذه الآية نحن في كل ركعة ندعو الله -عز وجل- أن يهدينا صراطه المستقيم، فأنت يا عبد الله حينما تقف بين يدي الله -عز وجل- تقول له: ? اهْدِنَا(4/68)
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ?6??
(15/20)
---
[الفاتحة: 6] فيجب علينا يا معشر أهل الإيمان أن نلتزم بهذا الصراط، وأن نكون وقافين عنده ولا نتجاوز ما أنزل الله -تبارك وتعالى- على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فالصراط المستقيم هو كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ونحن لسنا مأمورين بحال من الأحوال إلا باتباع ما جاءنا من عند الله كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، والمخالفون لهذا الصراط خارجون عن الحق بدليل أن الله -عز وجل- بعد أن أخبر وبين عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه يدعو إلى الصراط المستقيم وأن الله -عز وجل- هداه إليه, قال الله سبحانه في الآية التالية: ? وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ?74? ?، ناكبون يعني حائدون جائرون خارجون معتدون، العرب تقول: نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها، كذلك الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون، يعني أن المنكرين للبعث حائدون عن الصراط.
إذن يا أهل الإيمان الخارجون عن الصراط هم في الحقيقة لا يؤمنون بلقاء الله -تبارك وتعالى-، ولو آمنوا بلقاء الله -عز وجل- ما حادوا عن الصراط المستقيم ولا خرجوا عن الدين القويم, ومن خرج عنه متوعد بعذاب الله قال الله -عز وجل- في الكافرين: ? وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ?16?? [الروم: 16].
(15/21)
---(4/69)
ثم يقول سبحانه: ? وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ?75??, يخبر الحق -تبارك وتعالى- عن شدة كفر هؤلاء الناس، وهو أنه -سبحانه وتعالى- لو رحم هؤلاء الكافرين بأن فتح عليهم الفهم للقرآن الكريم، وجعل فيهم الاستعداد والقابلية لأن يتلقوا عن الله -تبارك وتعالى- ما قبلوه ولاستمروا على كفرهم وعنادهم ومصداق ذلك في قول الله -تبارك وتعالى-: ? وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُّعْرِضُونَ ?23?? [الأنفال: 23] كذلك قوله: ? وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ ? هذا القول الأول يعني أن الله لو رحمهم بأن أفهمهم القرآن الكريم لأعرضوا عنه وما استجابوا له، القول الثاني: أن الله -عز وجل- لو رحمهم ودفع عنهم الضر من البلاء والمصائب والجوع والفقر وما إلى ذلك, أيضاً لاستمروا على كفرهم وعنادهم وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله: ? لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ? يعني لأصبحوا في كفرهم وضلالهم أيضاً سائرون, والله -عز وجل- قد كان في بعض الأوقات يتفضل على المشركين في إزالة الكرب التي تنزل بهم، ولكنهم بعد ذلك يرجعون إلى الكفر والشرك فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر ? فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ ? [العنكبوت: 65] ? إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ? [العنكبوت: 65] ارتدوا على أعقابهم.
(15/22)
---(4/70)
طيب أنا أود أن أسأل سؤال للشباب الذين هم أمامي الآن لأنني سبق أن أشرت إلى مثل ذلك هذه الآية تفيد شيئًا في مسألة علم الله -تبارك وتعالى- يعني أنا أقرب لكم المسألة وسبق أن قلتها فما هي؟ ? وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ?75??؟ ذكر الضحاك عن ابن عباس من باب التقريب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: كل ما فيه «لو» لا يتحقق أبداً، ومع هذا فالله يعلمه، قلنا بأن الله -عز وجل- يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، فيه آية في سورة الأنعام: ? وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ? [الأنعام: 28] وهنا قال: ? وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ?75?? وهؤلاء على القول الأول لم يرحموا لأنهم لم يفهموا القرآن الكريم، وقوله -سبحانه وتعالى- في الآية التي ذكرتها آنفاً ? وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُّعْرِضُونَ ?23?? [الأنفال: 23] فهو -سبحانه وتعالى- يخبر هنا أيضاً عن كامل علمه وعلى اتصافه -سبحانه وتعالى- بالعلم المطلق وهو أنه يعلم -عز وجل- شك ما كان وما سيكون وأيضاً يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، بهيئته التي سيكون عليها ونستنبط هذا من قوله: ? وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ?75??.
المحور الثالث: المكذبون سائرون في غيهم مع ابتلاء الله لهم:
(15/23)
---(4/71)
وأفتتح هذا المحور بقول الله -تبارك وتعالى-: ? وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ?76? ? ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية أنه أخذ الكفار بالعذاب، والظاهر أن المراد بالعذاب هنا العذاب الدنيوي، الذي هو العذاب بالقتل والسبي والمرض والمصائب التي تحل بهم وتنزل بهم، أخذ الله -سبحانه وتعالى- الكافرين بالعذاب, ولكنهم ما استكانوا يعني ما خضعوا ولا خشعوا ولا تضرعوا لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ? فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ? ما وقعوا في شيء من ذلك, والله -عز وجل- يخبر عن الكافرين بأن هذا موقفهم يخبر عنهم في قوله تعالى: ? فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?43? ? [الأنعام: 43] والله -عز وجل- قد أخذ كفار قريش بما أخذهم من البلايا والمصائب، من القتل والسبي والجوع قبل ذلك والمرض، لدرجة أن أبا سفيان جاء للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقال له : أنشدك الله والرحم لو أكلنا العلهز، وهذا موجود عندك في تفسير ابن كثير, الوعلهز هذا كان يفعله العرب عندما يقع بهم شيء من القحط، وهو أنهم كانوا يخلطون الدم بأوبار الإبل ويشونه على النار ويأكلونه من شدة الجوع، وهذا يصور لك أن الله -سبحانه وتعالى- أخذهم بالعذاب الدنيوي وقد جاء في البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- دعا عليهم لما قال: (اللهم سبع كسبع يوسف)، فأخذتهم هذه السِّنة من الفقر، ومن المصائب، ووقعوا فيها، ولكنهم ما استكانوا لربهم، ما ذلوا وما خشوا وما خضوا وما ابتهلوا إلى الله -عز وجل- وهذا معنى قوله: ? وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ? فهؤلاء لما ينزل بهم البلاء والبلايا داعية إلى أن يرجع الإنسان, إلى أن يتأمل, إلى أن يتفكر؛ لأن الإنسان لا يرغب أن يعيش في الضنك والضيق(4/72)
(15/24)
---
والمصائب والبلايا وما إلى ذلك، ولكن هؤلاء الناس مع ما ابتلاهم الله -سبحانه وتعالى- به، إلا أن كفرهم كان من نوع شديد، ولذلك بدا لي أن أجعل عنوان هذا المحور ذلك : المكذبون سائرون في غيهم مع ابتلاء الله -سبحانه وتعالى- لهم، فهم لا يرجعون ولا يذلون، ولا يخضعون مهما وقعوا في مصائب وبلايا، ولذلك أنادي عموم الناس اليوم: تقعون كثيرًا في المصائب والبلايا، ألا يدفعكم ذلك إلى أن تقفوا مع أنفسكم وتسألوها: لماذا نحن في ضيق وكرب وبلايا ومصائب؟ إلا يدفعكم ذلك إلى أن ترجعوا إلى الله -تبارك وتعالى-، وألا يشارك أحد من المؤمنين أو المسلمين أو الكفار أو يشابههم فيما هم عليه؟ فإذا وقع به شيء من الضر أو البلاء أو المصائب استكان إلى الله خضع وخشع وذل وابتهل بالدعاء إلى الله سبحانه، وهذا معنى قوله: ? وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ? فالمراد بالتضرع هنا هو الدعاء والذي لا يسأل الله -عز وجل- يغضب الله -سبحانه وتعالى- عليه، والدعاء عبادة عظيمة يتقرب بها العبد إلى الله -عز وجل-، فيا عبد الله إذا وقعت بك مصيبة أو ألمت بك محنة ليس أمامك إلا أن تقف بين يدي ربك ومولاك، إلا أن تطرق باب الله -عز وجل- وأن تتضرع وأن تخشع وأن تذل لله -عز وجل- ولا تقع فيما وقع فيه أعداء الدين الذين قال الله فيهم: ? وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ?76?? والآية تبين قسوة هؤلاء الكافرين وغلظة قلوب هؤلاء الكافرين، ولكن مع هذا كله الله -عز وجل- يبين في الآية التالية أنهم ييأسون من الرحمة ويصيبهم القنوط فيقول سبحانه: ? حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ?77?? وقد فتح الله عليهم من أبواب العذاب ما فتح، وقد أشرت سابقًا إلى شيء من الجوع وإلى القتل الذي أصابهم في بدر وغيرها وإلى فتح مكة وهذا أيضاً من عذاب الله -سبحانه وتعالى-(4/73)
عليهم،
(15/25)
---
فزالت بذلك دولة الكفر ودولة الشرك، ولما فتح الله عليهم أبواب العذاب الشديد الذي أشار إليها, قال: ? إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ? يعني أيسوا من كل راحة وانقطعت آمالهم ورجاؤهم في أن يعود لهم شيء من النفع، وهذا يبين مصير الكافرين أيضاً في الدنيا، وهو أنهم ييأسون من رحمة الله -تبارك وتعالى- وكذلك هم في الدار الآخرة، وقد أشرت إلى ذلك في اللقاء السابق.
المحور الرابع: نعم الله على عباده توجب الشكر له سبحانه:
(15/26)
---(4/74)
وفي ذلك يقول رب العزة والجلال: ? وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ?78?? الله -عز وجل- يذكر بعض نعمه على عباده، ومن ذلك السمع والبصر والأفئدة كي يدرك الناس حقائق الأشياء على ما هي عليه, ويؤمنوا بالله -عز وجل- الذي من عليهم بهذه الأشياء, ويعتبروا في الوقت ذاته بآيات الله -سبحانه وتعالى- في كونه الدالة على وحدانية الله -عز وجل- وعلى صدق الرسل الذين بعثهم رب العزة والجلال, والله -عز وجل- أشار إلى السمع والبصر والفؤاد لأن هذه وسائل الإدراك في الإنسان، وسائل الإدراك في الإنسان سمع وبصر وفؤاد، والأفئدة المراد بها القلوب، فأنت تسمع فتأخذ معلومات, تتعلم تفيدك في النظر والتأمل, تبصر ستستفيد من البصر، السمع والبصر يجعلانك تعطي للعقل والقلب إشارات فتتأمل وتتدبر وهذه نعمة من نعم الله -سبحانه وتعالى- على عباده، ? وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا ? [النحل: 78] بعدها ماذا؟ ? وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ ? [النحل: 78] فهي نعمة من الله -سبحانه وتعالى- على عباده، الهدف منها التأمل والتدبر والتفكر، فحقائق الأمور يدركها الإنسان بالسمع والبصر والفؤاد، ولكن وللأسف الشديد بعض الناس أيضاً لا يستفيدون من ذلك، هذه نعم منَّ الله بها على الإنسان، والإنسان يرفض هذه النعمة، ولا يسخرها فيما جعلت له، تأملوا ماذا يقول الله -عز وجل- عن قوم لا يستفيدون من هذه النعم: ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ? [الأعراف: 179] يعني هم عندهم قلوب ولكنهم لا يستفيدون فيها، لا يعقلون، لهم أعين ولكنهم لا يبصرون بها، لهم آذان ولكنهم لا يسمعون بها، ولذلك يقول الله جل ذكره: ? فَمَا أَغْنَى(4/75)
(15/27)
---
عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم ? [الأحقاف: 26] ما أغنت عنهم هذه الأشياء رغم أنها فيهم؛ لأنهم لم يسخروها أو لم يوظفوها فيما أعطاهم الله -سبحانه وتعالى- ولذلك يقول سبحانه: ? هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ?78?? يعني: يا أيها المخاطبون أنتم لا تشكرون نعمة الله -سبحانه وتعالى- عليها، طب شكر نعمة السمع والبصر والفؤاد في ماذا؟ في أن يوظفها الإنسان فيما خلقت به، فيستمع إلى الحق ويبصر الحلال ويعي بقلبه ما جاءه من عند الله -تبارك وتعالى- ويعلم أنه خلق لعبادة الله -عز وجل- فيسخر هذا كله لما يعود عليه بالنفع ولكن كما أخبر الله -عز وجل-: ? قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ? فالذين يشكرون هم قليل والله -عز وجل- ذكر ذلك في كتابه، لما قال: ? وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ? [سبأ: 13] وفي الحقيقة الشكر عمل يقوم به الإنسان ويؤديه والله -عز وجل- يقول: ? وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ? [غافر: 61] ? وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ?103?? [يوسف: 103] ولذلك يجب على المؤمن أن يوظف هذه الوسائل التي من الله -سبحانه وتعالى- عليه فيما خلقت له وتوظيفها هي شكر لله -عز وجل- على نعمته عليك يا أيها الإنسان بهذه النعم, فأنت ما يمكن لأحد أن يعطيك شيئًا من هذه النعم، ولا أن يتفضل عليك بشيء من السمع إن أخذه الله منك، ولا بشيء من البصر إن لم يرد الله -عز وجل- لك شيئًا من ذلك, فلابد يا عبد الله أن تستفيد مما أعطاك الله -سبحانه وتعالى- وأن تشكر نعمة الله -عز وجل- على هذه الوسائل العظيمة التي من الله -سبحانه وتعالى- بها عليك، وأن تستفيد منها ولا تكن ممن ذكر الله -عز وجل- عنهم بأن : ? لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ(4/76)
لاَّ
(15/28)
---
يَسْمَعُونَ بِهَا ? [الأعراف: 179].
ثم يستمر السياق القرآني في تعداد نعم الله -سبحانه وتعالى- عليكم يا أيها الناس ? وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ?79?? يخبر ربنا -تبارك وتعالى- عن قدرته العظيمة في هذا الكون، وهو أنه أخرج هؤلاء الناس جميعاً وأوجدهم من العدم إلى حيز الوجود ? ذَرَأَكُمْ ? يعني بثكم في هذه الأرض, أوجدكم على ظهر هذه الأرض، ولم يفعل بكم ذلك إلا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي ذرأ البرية وهو الذي أوجدها وهو الذي أخرجها وهو أيضاً الذي يعيدها إليه مرة أخرى ولو تتأملون أيها الإخوان ستجدون أن الله -عز وجل- حينما يذكر الخلق الأول يذكر أيضاً الإعادة بعد ذلك من جديد، وفي أول سورة المؤمنون التي نحن بصدد الحديث فيها الآن، قول الله -تبارك وتعالى- ? وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ?12?? [المؤمنون: 12] إلى آخر الآيات، ثم بعد ذلك قال ماذا؟ ? ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ?15? ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ?16?? [المؤمنون: 15، 16] فالله -عز وجل- أخرجكم من بطون أمهاتكم وأوجدكم في ظهر هذه الأرض وبثكم فيها يا أيها الناس وهو الذي يعيدكم بعد ذلك مرة أخرى وهذا دليل على تمام القدرة.
طيب، ما النعمة هنا؟ أن الله أوجدك وخلقك وكلفك يا عبد الله كي يتفضل عليك حينما تؤمن بالله -سبحانه وتعالى- ويحنما تصدق بالنبي الذي أرسله الله -تبارك وتعالى- ألا وهو خاتم الأنبياء والمرسلين فتدخل بذلك جنة النعيم، وتستفيد مما أعده الله -سبحانه وتعالى- للمتقين.
(15/29)
---(4/77)
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ? وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ?80?? في هذه الآية يخبر الحق -تبارك وتعالى- أنه سبحانه هو الذي يحيي ويميت، وذكر الإحياء والإماتة بسبب أن الإحياء والإماتة من أكبر الدواعي للإيمان؛ لأنها تدل على تفرد رب العزة والجلال بالملك والملكوت, تدل على تفرد الله -عز وجل- بالملك, طالما أنه متفرد بالملك فارجع إلى هذا الإله الواحد المتفرد؛ ولذلك خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- لما سأله النمروذ عن ربه قال: ? رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ? [البقرة: 258] فالإحياء والإماتة من أخص خصائص الألوهية وشئون الربوبية بمعنى أنه لا يفعل ذلك إلا رب، ولا شك أن من يفعل ذلك يكون قادراً ولذلك قال: ? وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ? يعني حركة الليل والنهار من يفعلها ويقوم بها؟ رب العزة والجلال هو الذي سخر لكم يا أيها الناس هو الذي سخر لكم الليل والنهار بهذا النظام الدقيق, ونعمة الله -عز وجل- في اختلاف الليل والنهار ظاهرة وواضحة على العباد, فالإنسان يستطيع أن يراوح بين نومه ويقطته وبين عمله وبين راحته، وجد النهار للمعاش والليل للراحة والهدوء والسكينة، وبعدما ذكر رب العزة والجلال شيئًا من هذه النعم دعا إلى التدبر وإلى التعقل وإلى التفكر فقال: ?أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ? يعني ألا تعرفون أن الذي وهبكم هذه النعم هو رب الأرض والسماء -سبحانه وتعالى-؟ وبالتالي عليكم يا معشر المخاطبين أن تخلصوا العبادة لله -عز وجل-، وأن تعرفوا قدر وجلال رب العزة والجلال وأنه على كل شيء قدير وأن نعمه عليكم لا تعد ولا تحصى فأقبلوا على كتاب الله وتمسكوا بهدي رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
وأكتفي بما قلت وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إجابة أسئلة الحلقة الماضية
(15/30)
---(4/78)
كان السؤال الأول: عرف الخشية؟ وما الفرق بينها وبين الخوف؟ وبأي شيء وعد الله من يخشاه؟
كانت الإجابة:
الخشية هي خوف مقرون بمعرفة وعلم وتعظيم لله -جل وعلا- والفرق بينها وبين الخوف أن الخشية هي خوف مصحوب أو مقرون بعلم أو إشفاق مصحوب بخوف فهي أخص من الخوف والخوف أعم، قال الله -تبارك وتعالى-: ? إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ? [فاطر: 28] فالعلماء هم أكثر الناس خشيةً وخوفاً من الله -تبارك وتعالى- وذلك لزيادة علمهم به تعالى وبأسمائه وصفاته وكلما زاد العلم زادت الخشية وهي الخوف المقرون بتعظيم الله لذا فهي أخص من الخوف ولا تكمن الخشية إلا لأهل العلم والإيمان.
وعد الله من يخشاه بالفوز والنعيم المقيم في الآخرة قال الله -تبارك وتعالى-: ? وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ?52?? [النور: 52] وقال تعالى: ? جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ?8?? [البينة: 8] وقال -صلى الله عليه وسلم- من حديث ابن عباس: (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله) فإن قال قائل: أليس النعيم المقيم في الجنة هو الفوز والدليل قوله تعالى: ? فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ? [آل عمران: 185]؟ قلنا: بلى هو الفوز العظيم والكبير, ولكن الحق -جل وعلا- في آية سورة النور السابقة أوضح أن من يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون في الدنيا جزاءً لعملهم ومآلهم إلى الجنة والخلود فيها فالفوز في الدنيا على سبيل البشارة والفوز في الآخرة أيضاً لزيادة اليقين بالله -تبارك وتعالى-.
ما شاء الله الجواب محكم وسديد، ما ترك شيئًا جزاه الله خيراً.
(15/31)
---(4/79)
السؤال الثاني: اشرح قول الله تعالى: ? وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? ؟
وكانت الإجابة:
المراد بالكتاب هو كتاب الأعمال, فالحق -جل في علاه- عنده الكتاب الذي يحصي فيه الأعمال والأقوال قال الله تعالى: ? وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ?49?? [الكهف: 49] فهذا الكتاب كل ما فيه حق لذا قال -جل وعلا-: ?يَنطِقُ بِالْحَقِّ ? [المؤمنون: 62] وقوله -تبارك وتعالى-: ? وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? أي أن الحق -تبارك وتعالى- يكتب لهم كل أعمالهم الحسنة ويضاعفها لهم ويعفو عن كثير من السيئات وهذا من تمام رحمته ورأفته بالعباد ولا يعاقب إلا من استحق العقاب وهذا من تمام عدله -تبارك وتعالى- فهو الحكم العدل.
في الحقيقة الجواب صحيح, ولكن السؤال اشرح، كنت أود أيضاً أن يكون هناك شيء من الإضافة أو الزيادة على ما ذكر من جواب والزيادة في ذلك هو أشار المجيب إلى أن ? وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ ? إلى ما كتبه رب العزة والجلال في الأذل، وأيضاً نود أن نشير إلى أن الملائكة الكرام أيضاً يكتبون على الإنسان ثم لو أن أحسن المجيب لو ذكر لنا شيئًا مما جاء في القرآن الكريم عن هذا الكتاب وعن صفاته وأن بعض الناس يأخذ كتابه بيمينه فأهل الإيمان وقلنا نسأل الله أن نكون منهم، وبعض الناس يأخذ كتابه بشماله، وما إلى ذلك.
السؤال الثالث يقول: ذكر الله في كتابه أن الكفار إذا تليت عليهم آيات الله أتوا بثلاثة أمور، اذكرها بالتفصيل؟
وكانت الإجابة:
(15/32)
---(4/80)
أولاً: النكوص على الأعقاب وهو الارتداد والرجوع إلى الخلف أي إذا دعيتم أبيتم وإذا طلبتم امتنعتم، والدليل قوله تعالى: ? فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ? [المؤمنون: 66].
ثانيًا: الاستكبار وفيه قولان: الأول: حالهم حين نكوصهم عن الحق ورفضهم إياه استكباراً عليه وتقليلاً واستحقاراً لأهله، والثاني: مستكبرين بالبيت يقولون نحن أهله، فهم يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه والدليل قوله تعالى: ? مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ?.
ثالثًا: السمر والهجر، والسمر هو الحديث بالليل فقد كانوا يأتون بالكلام القبيح الفاحش ويصفون الله -عز وجل- به ويصفون النبي -صلى الله عليه وسلم- به وقد كانوا يتكبرون ويسمرون بالبيت ويهجرونه ولا يعمرونه كما ذكر ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره هذا والله أعلى وأعلم وأعز وأحكم.
صحيح والله أعلى وأعلم والجواب صحيح.
الأخ الكريم من الجزائر يقول: أرجو من شيخنا الإجابة على هذا السؤال وهو كالآتي: ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه الآيات الكريمات كل سبب موجب للإيمان، وذكر كذلك الموانع وبين فسادها واحداً بعد واحد، ومن هذه الموانع عدم تدبر القرآن والاقتداء بالآباء, فماذا ترون بارك الله فيكم فيمن ينتسبون إلى الإسلام وهم معرضون عن ذكر الله ولا يتدبرونه ويخالفون ما أمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتبعون ما يمليه عليهم الغرب من أقوال وأفعال وعادات وتقاليد ألا يدخلون في قول الله -جل وعلا- ? فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ ? [القصص: 50]؟؟.
(15/33)
---(4/81)
لا شك أن الانتساب للإسلام لا تكون بأن ينتسب الإنسان فقط إلى والديه المسلمين ليس إلا, وإنما يجب عليه أن يحقق هو الإيمان وأن يتمسك بما جاء من عند الله -تبارك وتعالى-، فلا يكفي الإنسان أنه فقط يولد في بيئة إسلامية ثم بعد ذلك لا يعرف شيئًا عن الدين ولا يقوم بأركان الإسلام ويدعي بعد ذلك أنه داخل في دائرة أهل الإيمان، في الحقيقة كل إنسان مطالب بأن يقف ويتعلم ويعرف ما جاء في كتاب الله وفي سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، مما تدعو الحاجة إليه، مما يصح به اعتقاده وتقبل به عبادته، يعني لا نريد أن يكون كل الناس متخصصين في الفقه وعلومه أو التوحيد وعلومه أو ما إلى ذلك، ولكن كل إنسان ملزم بأن يعرف من كتاب ربه وسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما تكون به عقيدته عقيدة صحيحة، وأن يتعلم من أمور العبادات وما يعرف بفقه العبادات ما تقبل به عبادته بين الله أو بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-, أما أن يكون الإنسان مقلداً وغير متبع وسائر في غيه أو في ضلاله ويقول: إن أبي مسلم وكفاني هذا الأمر ولا يتأمل ولا يتدبر فيما عند الله -عز وجل- أو فيما جاء من عنده، فهذا لا شك أنه شابه الكفار والمنافقين فيما هم عليه، ونحن الآن نجد وللأسف الشديد أن بعض المسلمين قد يخرجون من الإسلام، لماذا؟ لأنه لم يتعلم شيئًا عن الدين لم ينشرح قلبه للحق الذي جاء من عند الله -عز وجل-, رغم أنه ولد من أبوين مسلمين, الدافع إلى ذلك أنه لم يتعلم الهدى ولم ينشرح قلبه للإيمان فأنا أنصح كل مسلم وأولياء أمور المسلمين بصورة عامة أن يعلموا أولادهم ما جاء من عند الله -تبارك وتعالى- وأن يجعلوهم متمسكين بالحق الذي نزل من عند الله -عز وجل-، وأن يحرص الآباء والأمهات على تعليم الناس الخير والهدى والدعوة إلى الله.
(15/34)
---(4/82)
سؤاله الثاني فضيلة الشيخ يقول: قال المفسرون: إن المراد بقول الله -عز وجل-: ? وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ ? أي أن الله ابتلاهم بالجوع ليرجعوا إليه، فما الحكمة في نظركم في تخصيص الله -عز وجل- في ابتلاءهم بالجوع عن سائر الابتلاءات الأخرى الكثيرة والتي منها ما ذكر في قول الله -تبارك وتعالى-: ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ?155?? [البقرة: 155]؟؟.
في الحقيقة في قوله تعالى: ? وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ ? كلمة عذاب كلمة عامة يدخل فيها العذاب بالجوع يعني الفقر بالضيق بالقتل بسائر البلايا والمصائب التي تنزل بهم، وسواء كانت هذه يعني داخلة في قرارة النفس يعني أحيانًا الإنسان يصاب بشيء من الابتلاء النفسي هذا أيضاً عذاب, يأتيه أرق وغم وهم وما إلى ذلك، أو شيء عضوي كالجوع وما إلى ذلك، والجوع لا شك من أوائل ما ينغص حياة الإنسان, يعني ضيق الحال, أو عدم وجود الإنسان لما يقتاته هذا من أكبر المصائب التي تحل به, وإشارة المفسرين إلى الجوع لأهمية قيام الإنسان وجسد الإنسان بالطعام الذي يرزقه الله -سبحانه وتعالى- للعبد، فحينما يأخذهم رب العزة والجلال بالعذاب وأقول بأنه كلمة عامة ومن ذلك الجوع يكون هذا فيه شدة ولفت قوي في أن يرجعوا إلى الله -تبارك وتعالى- لأن الإنسان بحاجة شديدة إلى أن يأكل، والعامة يقولون عن الجوع بأنه قرين الكفر؛ لأن الإنسان إذا جاع يمكن يعني أنه يعني يتلفظ ويخرج ويضيق نفساً بشيء كثير نتيجة الجوع ولكن كلمة العذاب تشمل الجوع وتشمل غيره، وإن كان الجوع مما يدخل فيها وهو من أشد الأشياء التي تنغص على الإنسان حياته، وإذا نغصت عليه حياته تجعله يفكر لعله يرجع أو يؤوب أو ما إلى ذلك.
الأخ الكريم يقول: أود أن أسأل شيخنا في أمرين:
(15/35)
---(4/83)
أولاً: ذكرتم فضيلتكم أبا طالب من الذين كانوا يقفون بجوار النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانوا يدافعون عن الحق فهل ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لأبي طالب أو صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لأبي طالب عند موته: (يا عمِّ قل لا إله إلا الله أشفع لك بها عند الله -عز وجل-)، وإن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك فهل من قال لا إله إلا الله ولكنه لم يأتِ بأعمال هل يحكم عليه بالإسلام أو الإيمان؟
الأمر الثاني: أنه ورد في كتاب الله -عز وجل- وفي سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ذم الدنيا، فهل جائز أن أسأل الله -عز وجل- الدنيا للآخرة؟ يعني: أسأل الله -عز وجل- مال مثلاً لأنفقه في سبيل الله؟.
السؤال الأول: أبو طالب كان يقف مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فهل جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه دعاه إلى لا إله إلا الله؟ نعم، النبي -صلى الله عليه وسلم- دعاه كما دعا غيره من أهله وأقاربه وسائر المشركين, بل إنه كان أقرب الناس إليه هم أولى الناس بدعوته, والله -عز وجل- أنزل عليه في كتابه ? وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ?214?? [الشعراء: 214] وعند وفاة أبي طالب أتى إليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ودعاه إلى أن يقول: لا إله إلا الله ولكنه أبى أن يقول هذه الكلمة.
(15/36)
---(4/84)
أما سؤالك عمن قال: لا إله إلا الله ولم يعمل شيئًا هل تنفعه؟ في الحقيقة قائل لا إله إلا الله هؤلاء يتفاوتون إن قالها الإنسان مستيقناً بها بقلبه معتقداً إياها ونطق بها بلسانه وقام هذا الإيمان في قلبه، لابد أن يأتي بشيء من العمل خاصة الصلاة، فمن أتى بركن الإسلام الأول بعد الشهادتين الذي هو الصلاة فيكاد يكون إجماعاً من العلماء على أنه مؤمن وإن قصر في بعض المسائل بعد ذلك أو ترك بعض الأركان بعد هذا سيعاقب عليها أو سيحاسب وهو بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والعلماء كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره مختلفون في تارك مباني الإسلام هل يكفر أو لا يكفر؟ في حين مع اعتقادهم جميعاً أعنى أهل السنة والجماعة أن المسلم لا يكفر بذنب ارتكبه إن كان مؤمناً ما لم يستحل هذا الذنب, أما لا إله إلا الله بمفردها هل تنفعه؟ أقول: نعم، تنفعه في حالة لو أنه آمن ولم تكن هناك فترة زمنية بعد الإيمان, أعنى من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم بعد ذلك مات أو قتل أو ما إلى ذلك تنفعه أو لا تنفعه؟ تنفعه، ولم يعمل خيراً قط، ولا أدري هل لأحد منكم يعرف حادثة تبين هذا ؟ تبين أن من قال لا إله إلا الله ولم يسعفه الوقت لأن يلقى يعني مات؟
في معركة اليرموك لما دعا خالد بن الوليد قائد جيش الروم ودخل في الإسلام ومات، فهذا الرجل قال لا إله إلا الله ولم يعمل.
الأخ الكريم يبعد كثيرًا.
النبي -عليه الصلاة والسلام- كان هناك يهودي مرض وزاره -عليه الصلاة والسلام- وعرض عليهم الإسلام وكان أبو هذا اليهودي موجوداً فنظر الفتى, هذا الشاب إلى أبيه فقال: أطع أبا القاسم، فشهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة ثم مات فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده أو قام من عنده وقال: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).
(15/37)
---(4/85)
أما السؤال الثاني: الإنسان يسأل الدنيا للآخرة؟ لا شك أن هذه الدنيا نحن مطالبون بأن نعيش فيها وأن نسعى فيها والله -عز وجل- أمرنا بأن نضرب في الأرض كي نستعين بذلك على إعمار هذه الأرض وعبادة الله -سبحانه وتعالى- فيها، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة وفي قول الله تعالى في الدعاء: ? رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?201? أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ?202??[البقرة: 201, 202] ما يشير إلى ذلك، المهم ألا يجعل وما يعطاه في قلبه، وإنما يجعل ما يعطاه في يده، ثم بعد ذلك يقبل على الله -تبارك وتعالى-، وقد ورد في الدعاء: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا) فإن كان لا تجعل الدنيا أكبر همنا, يعني إذن نحتاج منها إلى شيء ولكن لا تكون الدنيا هي هم الإنسان ومقصده وغايته, أما أن يسأل الله -عز وجل- أن يعطى ليستعين به على عبادة الله -عز وجل- وعلى إعمار هذه الأرض وإلى أن يسعى فيها وأن يترك ذرية يقومون بالحياة فيما بعده ويخلفونه في السعي في الأرض فهذا -إن شاء الله تعالى- لا شيء فيه.
(15/38)
---(4/86)
الأخ الكريم من الجزائر يقول: في تفسير للشيخ أن صفات المؤمنين بدأ ? قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1?[المؤمنون:1] ? ثم قال: ? الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ?2?[المؤمنون:2]? صفة, وعدد عدة صفات، وجعل صفة الإيمان صفة أولى والصفات التي بعدها أيضاً في التعداد، رغم أن عدم وجود الواو العاطفة على الصفات، لم يقل الله -عز وجل-: «قد أفلح المؤمنون والذين هم»، وإنما قال كأن هذه الصفات التابعة هي كلها صفات للإيمان فيكون في هذا التفسير نوع من الرد على الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان, يقول: قد أفلح المؤمنون الذين هذه صفاتهم، الله تعالى أعلم، ويكون كقوله -عز وجل- في: ? لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ? [الأنعام: 158] كأن يكون الإيمان النافع هو الذي تكسب فيه النفس الخير الذي هو هذه الصفات التابعة للإيمان ? قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1? الَّذِينَ ?2? ? [المؤمنون: 1، 2].
الأخ الكريم من مصر يقول: ما الواجب علي كمسلم تجاه الإساءة التي توجه إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- في الدانمارك؟
فضيلة الشيخ: هل لكم أي تعليق على كلام الأخ الكريم من الجزائر؟.
(15/39)
---(4/87)
في الحقيقة كلام الأخ جزاه الله خيراً جميل وهو يتفق مع ما نقوله ولكن المسألة تحتاج إلى شيء من الإيضاح أنا قلت بأن لا إله إلا الله أو أن الإيمان يقوم بالقلب وينطق به اللسان ولابد من العمل خاصة بأركان الإسلام وعلى رأسها الركن الأول بعد الشهادتين، وقلت بأن العلماء قد اختلفوا فيمن قصر في بعض هذه الأركان كما أن أهل السنة والجماعة متفقون على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج بارتكابه إياها من الإيمان، هذه قواعد ضرورية أما أن يكون الإيمان فقط في القلب دون عمل فهذا لم يرد عن أحد من السلف بحال من الأحوال ولكن أيضاً يمكن أن نوضح هذا أكثر فأكثر فنقول بأن الأعمال تتفاوت والناس يتفاوتون في هذه الأعمال وكما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بأن الإيمان كشجرة, هناك شجرة كاملة يعني لها جذور ولها جذع ولها فروع ولها أوراق وهذه شجرة كاملة و هناك شجرة ناقصة تكون جزعاً فقط قائم وتقول عنه: شجرة، شجرة مثمرة وشجرة غير مثمرة، وكلاهما يطلق عليه كلمة أو اسم شجرة، فالإيمان كذلك إما أن يكون إيماناً كاملاً أو أن يكون إيماناً ناقصاً، والأعمال كما سبق أن قرناها تدخل في مسمى الإيمان، وكون الإنسان فقط ينطق بلا إله إلا الله ثم لا يؤدي بعد ذلك شيئًا مما افترض الله -سبحانه وتعالى- عليه وهو مقيم صحيح سليم، هذا يدل على أن الإيمان ما قام في قلبه أصلاً وقد ذكر هذا أيضاً السلف لا يتخيل أبداً من رجل مثلاً يقول أنا مؤمن ثم بعد ذلك لا يعمل شيئًا من أركان الإسلام ولا من أركان الدين، فكونه لا يعمل هذا يدل على أنه لم يؤمن أصلاً لله -تبارك وتعالى-.
الأخت الكريمة من المنصورة يقول: السؤال الأول: ? وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ?78?? لماذا خص الله -سبحانه وتعالى- السمع والأبصار والأفئدة عن باقي الأعضاء؟
(15/40)
---(4/88)
السؤال الثاني: أريد أن يجيب عليه فضيلة الدكتور عبد الله شاكر فقط: ما الحكم في تقصير اللحية؟
فضيلة الشيخ الأخ الكريم كان سؤاله الأول عن قول الله تعالى: ? وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ …? إلى آخر الآية، لماذا خص الله -عز وجل- السمع والبصر دون بقية الحواس؟.
هو في الحقيقة لأن السمع والبصر والفؤاد هي وسائل الإدارك في الإنسان يعني الإنسان يدرك الأشياء وحقائق الأمور من خلال أنه يسمع ومن خلال أنه يبصر ويعي بفؤاده وقلبه الأمور والمعاني وما يوقع عليه، يعني سماع الأخ الكريم للمحاضرة جعلته يتأمل ويسأل ما سأل وما إلى ذلك فخصت هذه الأشياء بالذكر لأنها هي وسائل الإدراك في الإنسان.
أما الحكم في تقصير اللحية يعني من باب المجاملة يا شيخ عبد الرحمن فجاء في السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوامر متعددة بإطلاق اللحية، كقوله: (وفروا اللحى) و(أرخوا اللحى)، وكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- لحية يعني تملأ جانبيه -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهي من هدي الرسول -عليه الصلاة والسلام-، والله أعلم.
طيب فضيلة الشيخ: كما جاوبنا على الكريم في جوابه حتى لا نكون مجاملين لأحد نجاوب على الأخ الكريم في سؤاله عن الواجب تجاه المسلمين لما يحدث للنبي -صلى الله عليه وسلم- من سب في دولة الدانمارك؟
(15/41)
---(4/89)
جزاكم الله خيراً والله كلام جميل, والله في الحقيقة إشارته طيبة هو ليس سؤال ولكنه توجيه، لعله يريد أن نسمعه للناس جميعاً وأنا أعتقد بأن الأمة الإسلامية عندها من الحماس ومن الرغبة, ولكن نود أن يعني يترجم هذا الحماس والرغبة في طاعة والتزام, والله إن الإساءة للنبي -صلى الله عليه وسلم- جريمة كبرى, أمر ليس بالأمر السهل ولا بالهين، يعني تهون كل الجرائم إلى جوار أن يتحدث أو يتكلم أو أن يمس جانب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، كل عرض دون عرض النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل إنسان دون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رمز هذه الأمة، الهداية الربانية التي جاءت من عند الله -تبارك وتعالى- هو نبي رحمة الرحمة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وفي الحقيقة هؤلاء الأفاكون الذين يطعنون عليه أو يغمزون فيه أو يطعنون فيه أو يسبون أو ما إلى ذلك هم أحقر ما يكون وأن الأمة كلها تلفظهم وهم في الحقيقة حينما يفعلون ذلك لا يقصدون بذلك فقط النبي -صلى الله عليه وسلم- بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمز للأنبياء والمرسلين فهم حينما يسبوا النبي -عليه الصلاة والسلام- يكونون قد سبوا كل نبي، جاء من عند الله -تبارك وتعالى- وليس هذا فحسب بل أقول بأن من سب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقد سب رب العزة والجلال سبحانه وكفى بهذا ظلماً وزوراً وبهتاناً، فليأتي العبد الضعيف الحقير يتطاول على مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وبالتالي يكون قد تطاول على مقام ربه الذي أرسل وبعث النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وتكفي هذه الإشارة.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة.
السؤال الأول: اشرح بالتفصيل قول الله تعالى: ? أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ?69??.
(15/42)
---(4/90)
السؤال الثاني: ما المراد بالخَرْجِ في قوله تعالى: ? أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا ?؟ وهل هو خاص بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أم يشمل جميع الأنبياء والمرسلين, وضح ذلك مع الدليل لما تذكر؟
السؤال الثالث: ما معنى: ? فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ? ؟ وهل وقع شيء من العذاب الدنيوي على كفار مكة , أيد ما تقول بدليل من السنة النبوية؟
(15/43)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس السادس عشر
الدرس السادس عشر: تفسير سورة المؤمنون
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين والمشاهدين والمشاهدات الكرام ويسرنا دائماً أن نلتقي في هذا اليوم وفي اليوم الآخَر الذي نلتقي فيه على بركة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لنتحدث عن بعض آيات من كتاب الله الكريم, ومحاور هذا اللقاء - كما عودناكم أن نذكرها في أوله- هي كالتالي:
المحور الأول بعنوان: المشركون كذبوا بالبعث والنشور.
المحور الثاني: الله –تعالى- إله واحد وهو الذي يستقل بالخلق والملك.
المحور الثالث: تنزيه الله –تعالى- عن الولد والشريك.
المحور الرابع: أحسن إلى من أساء إليك تكن من الصابرين.
ولنستمع إلى آيات هذا اللقاء من الأخ الكريم فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(16/1)
---(4/91)
? بَلْ قَالُوا مِثْلَمَا قَالَ الأوَّلُونَ ?81? قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ?82? لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ?83? قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?84? سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ?85? قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ?86? سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ?87? قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?88? سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ?89? بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ?90? مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ?91? عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ?92? قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ?93? رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?94? وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ?95? ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ?96? وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ ?97? وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ?98??.
جزاك الله خيراً.
(16/2)
---(4/92)
إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا وإمامنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين وبعد.
المحور الأول: الذي معنا في هذا اللقاء هو بعنوان كما أسلفت: المشركون كذبوا بالبعث والنشور وأول آية تحت هذا المحور تبدء بقول الحق -تبارك وتعالى-: ? بَلْ قَالُوا مِثْلَمَا قَالَ الأوَّلُونَ ?81?? والله -عز وجل- بعد أن ذكر شيئًا من نعمه على عباده ومما يدل على توحيده –سبحانه- وعلى أنه فعل بالعباد وأعطاهم ما يحتاجون إليه، ذكر هنا -سبحانه وتعالى- أن المشركين المخاطبين بهذه الآيات والذين ذُكرت لهم هذه النعم وعُددت عليهم لم يقابلوها بالتسليم بل قابلوا كل ذلك بعدم الاستفادة منه وبتكذيب المرسلين وعلى رأسهم نبي الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه- وقالوا في النبي -عليه الصلاة والسلام- كما قال السابقون من قبلهم ممن كذبوا بأنبيائهم ورسلهم لأن الله يقول: ? بَلْ قَالُوا مِثْلَمَا قَالَ الأوَّلُونَ ?81?? وسيأتي الآن بيان ماذا قال الأولون, وعلى رأس كل ذلك تكذيب النبي المرسل إليهم, وهذه الآية تفيد فساد التقليد خاصة إذا كان التقليد لقوم مشركين ذاهبين إلى الباطل لأن هؤلاء قلدوا وحاكوا السابقين عليهم، وشابهوههم ورددوا أقوالهم وماذا كان قول السابقين؟ تأتي الآية التالية لتبين ماذا قال المكذبون من قبل, قالوا: ? قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ?82? لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ?83?? ذكر الله -عز وجل- هنا في هذه الآيات أن هؤلاء المكذبين للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-(4/93)
(16/3)
---
شأنهم شأن السابقين في إنكارهم للبعث والنشور وتكذيب الرسل ولا شك, وهؤلاء بنوا شبهتهم على أمرين وقد ذكرا في هاتين الآيتين:
الأمر الأول: استبعادهم للإعادة بعد أن أصبحوا تراباً وعظاماً نخرة، قالوا: ? قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ?82??، فهؤلاء استبعدوا البعث والنشور بعد أن وصلوا إلى مرحلة ظنوا من خلالها أنه لا يستطيع أحد أن يعيدهم إلى الدنيا من جديد، وقد ذكر الله -عز وجل- استبعادهم في آيات كثيرة وذلك كما جاء في سورة النازعات: ? أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً ?11?? [النازعات: 11] يعني بالية، ? قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ?12?? [النازعات: 12] وأنكروا ذلك فهؤلاء الأمر الأول الذي دفعهم إلى تكذيب البعث والنشور هو استبعادهم لأن يحييهم الله -عز وجل- بعد أن أصبحوا عظاماً بالية نخرة، أو أصبحوا تراباً.
الأمر الثاني: الذي دفعهم إلى استبعاد ما يكون ما جاء في قوله الله -تبارك وتعالى-: ? لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ ? يعني أن الآباء السابقين وُعدوا من الأنبياء السابقين أيضاً بأنهم سيتم لهم الإعادة ولم يحدث ذلك ? لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ ? فلما وُعد السابقون عليهم بهذا الأمر وكأنهم ظنوا أن هذه الإعادة ستكون في الحياة الدنيا، قالوا: لما وُعد آبائنا من قبل ولم يحدث شيء من هذا الوعد فدل ذلك على أنه أمر غير كائن ? لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ ? ولهذا عقبوا على هذا بقوله: ? إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ? يعني ما هذا إلا أمور كانت عند السابقين من كتاباتهم وأقوالهم وخرافاتهم وتراهاتهم، هذه أساطير جمع أسطورة يعني مما يذكر ويحكى ولا حقيقة له في واقع الأمر.
(16/4)
---(4/94)
فهذان الأمران ألا وهو استبعادهم بأن يعيدهم الله -تبارك وتعالى- بعد أن صاروا تراباً وعظاماً، وقولهم وظنهم بأن آباءهم قد وعدوا بالعود ولم يعودوا فهذا دفعهم أيضاً وهو الأمر الثاني إلى إنكار البعث والنشور.
ولو تأمل هؤلاء كما سبق ذكر ذلك والحديث عنه لو تأملوا البراهين- وقد رأوا شيئًا من ذلك- الدالة على البعث والنشور ما وصل استبعادهم إلى هذا الأمر ولكنهم في الحقيقة قوم لا يتدبرون ولا يعقلون ولا يفقهون, فالله -عز وجل- يريهم من آياته آناء الليل وأطراف النهار ما يدفعهم إلى الإيمان بالله -عز وجل- وتصديق النبي المرسل إليهم, وأن وعد الله -سبحانه وتعالى- حق وصدق وأنه -عز وجل- يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد هذه السماوات وهذه الأرض على عظمة ما فيها وعلى كبرهما وولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل وإحياء بعض الناس في الدار الدنيا، وقد سمعوا هم بذلك عن السابقين وإحياء الأرض بعد موتها ألا يدل كل ذلك على أن الله -سبحانه وتعالى- يفعل ما يشاء وعلى أنه يعيدهم بعد ذلك للبعث والجزاء والحساب والوقوف بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-؟!!!
وخلاصة هذه الآيات الثلاثة أن هؤلاء المكذبين كانوا مقلديين للسابقين، واستندوا في تقليدهم وفي شبههم إلى أمور هي أوهى من بيوت العنكبوت، ولو فكروا في واقعهم وفيما بثه الله -عز وجل- بين أعينهم ما صدر منهم ما صدر، ولكن أعود فأقول بأن هذه قلوب قد ختم الله -سبحانه وتعالى- عليها فلا يجد الحق طريقاً إليها.
المحور الثاني: في هذا اللقاء بعنوان: الله –تعالى- إله واحد وهو الذي يستقل بالخلق والملك:
(16/5)
---(4/95)
وفي هذا الأمر, وفي بيانه آيات منها قول الله -تبارك وتعالى-: ? قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?84? سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ?85?? هذه الآية الأولى معنا تحت هذا المحور يقرر رب العزة والجلال فيها وحدانيته واستقلاله -عز وجل- بالخلق والتصرف والملك والملكوت ليرشد عباده وليرشد المخاطبين بأنه هو الله الذي لا إله إلا هو كما تقرر هذه الآية والآيات التي تليها قدرة الله -عز وجل- على البعث والنشور لأن الذي يملك الأرض ومن فيها ويملك السماء ومن فيها ويملك كل شيء ويفعل ما يشاء لا شك أنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ومن ذلك بعث الناس من جديد.
(16/6)
---(4/96)
والله -عز وجل- في هذه الآية يخاطب المشركين أولاً في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والآيات تخاطب بعد ذلك كل من أشرك بالله -تبارك وتعالى- وتسأل هذا السؤال الواضح: ? قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?84?? هذه الأرض وما فيها وما عليها من الذي خلقها؟ ومن الذي أوجدها؟ ومن الذي مهدها لهؤلاء الناس كي يسيروا عليها وينتفعوا بما فيها؟ من الذي شق فيها البحار والأنهار؟ وجعل فيها الجبال أوتاداً حتى لا تميد ولا تضطرب؟ جواب هؤلاء المشركين أنهم سيقولون: ? سَيَقُولُونَ للهِ ? اعتراف وليس عندهم إلا ذلك, ليس أمامهم لأنه لا يستطيع أحد أن يدعي لنفسه أن له ملك شيء في الأرض لأنهم مخلوقون من عدم، والمخلوق الذي سبق بعدم لا يمكن أن يدعي أنه يملك شيئًا وجد قبله لأنه لم يوجده ولم يخلقه وليس له في أمره شيء، وهنا هذه الآيات تقرر هؤلاء الناس بذلك وتخاطبهم بهذا الأمر وكان المشركون في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا سُئلوا عن هذا الأمر أجابوا بهذا الجواب: ? وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ?87?? [الدخان: 87] طالما أن الله هو الذي خلقكم وهنا تعترفون بأن الله -عز وجل- هو الذي خلق الأرض فلما لا تعبدون رب العزة والجلال؟ لماذا لا تفردونه بالوحدانية؟ لماذا لا تتوجهون إليه إذن بجميع ألوان العبادة؟ ولذلك عقب على هذا بقوله لما ذكر اعترافهم بهذا وذكر قولهم: ? سَيَقُولُونَ للهِ ? قال: ? قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ? يعني أفلا يدعوكم هذا الإقرار إلى التدبر والتأمل وتذكر أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي خلقكم وأوجدكم وبالتالي هو الذي يستحق أن يعبد وحده دون سواه؟!!
وهذه الآية وغيرها من الآيات القرآنية فيها فائدة مهمة جداً أود أن أقف عندها وهي:
(16/7)
---(4/97)
أن القرآن الكريم كثيرًا ما يتخذ من الدلائل أو من دلائل ربوبية الله -عز وجل- على خلقه مدخلاً إلى الحديث عن وحدانية الله -تبارك وتعالى-، يعني القرآن الكريم يتخذ من اعتراف المشركين بأن الله رب كل شيء ومليكه وما إلى ذلك مدخلاً ودليلا على وجوب عبودية الله وحده دون سواه، ولذلك علماء الاعتقاد يقولون عبارة: «توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية»، يعني اعتراف بالعبد بأن الله ربه وخالقه ومالكه ورازقه وما إلى ذلك هذا يدفعه ويلزمه بناءً على هذا الاعتراف أن يعبد هذا الإله الواحد؛ لأنه بالعقل قبل أن يكون هناك وحي وشرع، الذي خلق هو الذي يجب أن يُعبد, الذي رزق وسوى وملك هو الذي يجب أن يتوجه إليه العبد، هذا لو نظر الإنسان إلى ذلك نظرة اعتبار وتأمل، والقرآن كما ذكرت كثيرًا ما يشير إلى هذا المعنى، والآيات كثيرة للغاية ويكفي أن نتأمل في هذا آية واحدة، وهي أول نداء وجهه الله -عز وجل- للناس جميعاً في سورة البقرة قال فيه: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ? [البقرة: 21] أمر بعبادة الله -عز وجل- ثم ذكر ربوبيته –سبحانه-، ثم ذكر الأدلة المدعمة لهذا الأمر الدافعة للعبد إلى أن يفرد الله -عز وجل- وحده بالعبادة، ? الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ? [البقرة: 21] لماذا؟ ? لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? [البقرة: 21] ? الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ? [البقرة: 22] بعدها: ? فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ? [البقرة: 22] هذه كلها وسائل تدل على أن الله واحد وعلى أنه -سبحانه وتعالى- يعبد وحده دون سواه، لأنه هو الذي خلق وخلق من قبلنا، هو الذي سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض؛ ولذلك حسن أن يعقب رب العزة والجلال على ذلك بقوله: ? فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ
(16/8)(4/98)
---
أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ? [البقرة: 22] ويأمر في أول الآيات بعبادته: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ? [البقرة: 21] إذن كثيرًا ما يلفت القرآن الكريم نظر المخاطبين إلى دلائل وحدانية الله -عز وجل- من خلال قدرة الله -سبحانه وتعالى- في هذا الكون، وخلقه لجميع العوالم، والآية الأولى التي معنا تدل على ذلك وتشير إليه: ? قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?84? سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ?85?? بعدها: ? قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ?86? سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ?87?? ينتقل رب العزة والجلال بعد إقرارهم بأن الله -سبحانه وتعالى- هو رب هذه الأرض, ينتقل بعد ذلك ليقررهم بأن السماوات السبع وما فيهن من الكواكب النيرات وما فيهن من الملائكة الذين يخضعون لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- إلى جانب العرش العظيم، من رب كل ذلك؟ أقر المشركون بأن رب السماوات السبع ومن فيهن، وأن رب العرش العظيم هو رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، والله -عز وجل- ينتقل من الأرض إلى السماء كما أشرت ، والسماوات فيها من صنع الله ما فيها، إلى جانب ما فيها من الملائكة الكرام الذين يخلصون ويفردون رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بالعبادة إلى جانب العرش ألا وهو عرش الرحمن الذي هو أعلى وهو سقف المخلوقات، والله -عز وجل- قد أخبر في كتابه في آيات متعددة أنه استوى على عرشه، ومعتقد أهل السنة والجماعة في ذلك أنهم يسلمون لله -عز وجل- بهذا الأمر لأنه خبر أخبر به -سبحانه وتعالى- عن نفسه والله -عز وجل- يتصف بصفات أخبر بها عن نفسه نؤمن بها ونعتقد لله -عز وجل- بما جاء فيها، ولكن على ما يليق بجلال الله وكمال الله -سبحانه وتعالى-.
(16/9)
---(4/99)
ثم تختم هذه الآية بقول الحق -تبارك وتعالى- مقرراً اعترافهم: ? سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ?85?? يعني إذا آمنتم أن السماوات السبع ربها الله, وأن العرش العظيم ربه الله -سبحانه وتعالى- ألا يدعوكم ذلك يا أيها المخاطبون إلى أن تتقوا إذن عذاب رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، فتفردوه بالوحدانية والعبادة؟!! يعني إذا كنتم تعلمون ذلك ألا تتقون الله؟!! ألا تخافون عذاب الله -سبحانه وتعالى-؟!! ألا تقرون لله -سبحانه وتعالى- بالوحدانية لأنه رب الأرض ورب السماء ورب العرش العظيم -سبحانه وتعالى-؟!!
(16/10)
---(4/100)
ثم يقول بعد ذلك في الآية الثالثة مقرراً أيضاً اعترافهم بأمر آخر: ? قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?88? سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ?89?? بعد أن قرر الله -عز وجل- وذكر اعترافهم بأنه هو رب الأرض والسماء والعرش العظيم ذكر بعد ذلك ما هو أعم من ذلك من الأرض ومن السماء ألا وهو الملكوت كله، ? قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ ? ملكوت على وزن فعلوت، ومعنى ? مَلَكُوتُ ? يعني ملك كل شيء ومالك كل شيء، وهذا لا يليق ولا يكون إلا لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، والأمر في هذا أو تفسير هذه الآية يوضحه ما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- فيما ذكره هود -عليه السلام-: ? إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ? [هود: 56] فالله -عز وجل- يدبر الأمور كلها في كل هذا الكون كله سماواته وأرضه وهو بيده ملكوت كل شيء والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان كثيرًا ما يقسم ويقول: (والذي نفسي بيده) (والذي نفس محمد بيده)، والله -عز وجل- عظيم، والسماوات والأرض في يد الله -عز وجل- ويضعها رب العزة والجلال في قبضته وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تبين ذلك، كقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (يطوي الله السماوات والأرض بيمينه ثم يقول: أين الملوك؟ ثم ينادي فلا يجيب أحد فيقول سبحانه لله الواحد القهار) بعد أن يقول: (لمن الملك اليوم) فدل ذلك على أن السماوات والأرض بيد الله -عز وجل- والكون كله بيد الله رب العالمين -سبحانه وتعالى- وهذا يدل على عظمة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فهو حقاً بيده ملكوت كل شيء، فهو يملكه ويدبر أمره ويتصرف فيه كما يشاء لأنه القوي الكبير المتعال, وهو -سبحانه وتعالى- القاهر فوق عباده يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد, لا معقب لحكمه(4/101)
(16/11)
---
ولا راد لقضائه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ لأن بيده ملكوت كل شيء -سبحانه وتعالى-.
ويوضح ذلك أكثر أنه يملك كل شيء وأنه يتصرف في كل أمر فيقول: ? وَهُوَ يُجِيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ ? يعني أن الله -سبحانه وتعالى- يمنع من شاء ممن شاء –سبحانه- ولا يستطيع أحد أن يمنع رب العزة والجلال عن أحد أراد الله -سبحانه وتعالى- به شيئًا؛ لأنه يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ويملك هذا الكون كله فلا يغالبه أحد ولا يتقدم بين يديه أحد، فهو وحده الذي يجير ولا يجار عليه -سبحانه وتعالى- ومن كان كذلك فهو حقاً الملك, وصدق الله في قوله: ? قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ? [آل عمران: 26] فهو السيد -سبحانه وتعالى- الذي لا أعظم منه -جل في علاه- وأخبر هنا أن بيده ملكوت كل شيء وأنه يجير ولا يجار عليه, وهذا أيضاً سؤال موجه إلى هؤلاء المشركين: من الذين يفعل هذه الأمور كلها؟ ما كان جوابهم إلا أن يقولوا كما قال الله: ? سَيَقُولُونَ للهِ ? فيقول الله لهم: ? قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ? كيف تخدعون ويذهب بعقولكم إلى حد تعبدون من خلاله الشمس والقمر والأصنام والأوثان والأشجار والأحجار التي لا تملك ولا تعقل ولا تدبر ولا تجير بل يفعل بها ما يفعل ويستهين بها الإنسان ما يستطيع أن يستهين ولا تملك من أمر نفسها شيئًا؟!! فكيف إذن تذهبون عن رب العزة والجلال سبحانه وتعبدون غير الحق -تبارك وتعالى-؟!! ? فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ? كيف خدعتكم الشبه الباطلة فصرفتكم عن عبودية الله -سبحانه وتعالى- وحده دون سواه؟!!
(16/12)
---(4/102)
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ? بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ?90?? بعد أن قررهم رب العزة والجلال في هذه الآيات بما قررهم به وأنهم اعترفوا بأن الأرض والسماوات والعرش العظيم وأن الكون كله بيد الحق -تبارك وتعالى- يفعل فيه ما يشاء ويحكم فيه بما يريد, يقرر -عز وجل- أن ما أتاهم به وما أخبرهم به وذلك من أمر الوحدانية وبعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وما يكون بعد ذلك من البعث والنشور كله حق جاء من عند رب العزة والجلال سبحانه: ? بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ ? وصدق الله في قوله ? وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ? [الإسراء: 105] ولكن الأمر الصحيح والصواب في ذلك أن هؤلاء القوم هم الكاذبون وهم المكذبون لله ولرسل الله -تبارك وتعالى-، ? بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ?90??.
المحور الثالث: في هذا اللقاء: تنزيه الله -تبارك وتعالى- عن الولد والشريك:
وأول آية تدخل معنا تحت هذا المحور آية جليلة القدر عظيمة الشأن وهي قول الحق -تبارك وتعالى-: ? مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ?91?? يبين رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في هذه الآية ثلاث مسائل:
(16/13)
---(4/103)
المسألة الأولى: أنه -سبحانه وتعالى- لم يتخذ ولداً، شأن الله أيها المخاطبون أعلى وأعظم وأعز وأكرم من أن تكون له صاحبة أو ولد, إن الجريمة النكراء التي دان بها بعض الناس في نسبتهم الولد إلى رب العزة والجلال أمرٌ يجعل الإنسان تصيبه دهشة وحيرة كبيرة, عندما يتطاول العبد على ربه بهذا القول الذي استعظمه رب العزة والجلال –سبحانه-، وذكر عنه ما ذكره في أواخر سورة مريم: ? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ?88? لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ?89?? عظيماً كبيراً ? تَكَادُ السَّمَاوَاتُ ? مع عظم حجمها وكبرها بما لا يعلمه إلا الله ? تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ?90? أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ?91? وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ?92?? [مريم: 88- 92] لماذا؟ لأن الكل عبيد الله -عز وجل- لأن الكل مربوب مخلوق ? إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ?93?? [مريم: 93] والله إنها جريمة نكراء في حق البشرية فيمن نسب إلى الله -عز وجل- الولد، والله -عز وجل- قد نزه نفسه عن الصاحبة والولد، ? قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ?1? اللهُ الصَّمَدُ ?2? لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ?3? وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ?4?? [الإخلاص] فهو الإله الواحد الأحد جل في علاه، معاذ الله يا أيها المخاطبون بكتاب الله أن تتخذوا لله ولداً، أو تنسبوا الولد إلى الله -عز وجل- وما ينبغي ذلك بحال، والذين نسبوا الولد إلى الله -عز وجل-، كما جاء في القرآن الكريم ثلاثة طوائف: اليهود والنصارى، وكذلك الذين كانوا في عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من المشركين، الذين ذكروا بأن الله -عز وجل- اتخذ البنات ويعنون بذلك الملائكة، بناتاً له، اليهود والنصار قال الله فيهم: ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ(4/104)
(16/14)
---
النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ? [التوبة: 30] هذا في الحقيقة كلام باطل من كلا الطائفتين وتطاول على مقام رب العزة والجلال –سبحانه-، وكفى هذا الناس، ألم يكفهم أن سبوا عباد الله -عز وجل-؟!! ألم يكفهم أن سبوا الأنبياء والمرسلين وطعنوا في خيار عباد الله الصالحين؟!! حتى تطاولوا على مقام رب العزة والجلال –سبحانه- فنسبوا إليه ما لا يليق به، نسبة الولد إلى الله -عز وجل- أمور كما ذكر الله عنها ? تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ?90?? أمر عظيم, أمر لا يليق من عبد أن يصف به رب العباد -سبحانه وتعالى-.
(16/15)
---(4/105)
أما مشركوا العرب فقد جعلوا لله -عز وجل- أمراً وراء ذلك هم لا يرضونه لأنفسهم, حينما جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً والله -عز وجل- قد كذبهم في قولهم هذا ? وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ?19?? [الزخرف: 19] وهم في هذا ظالمون آفاكون، يعني هم لا يرضون لأنفسهم البنات، كما ذكر الله عنهم: ? وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ?58?? [النحل: 58] الواحد منهم تكون حالته على الهيئة التي ذكرها القرآن الكريم إذا بشر بالأنثى ثم بعد ذلك يجعل البنات لرب العزة والجلال؛ ولذلك ربنا يخاطبهم باستفهامي توبيخي: ?أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ ? [الإسراء: 40] يعني الله -عز وجل- أصفاكم أنتم وجعل لكم البنين هدية واتخذ هو من الملائكة إناثاً ? أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ?40?? [الإسراء: 40] وصدق الله -عز وجل- حينما ذكر أن قول هؤلاء الناس في حقه -سبحانه وتعالى- قول عظيم ما كان ينبغي لهم أن يقولوه.
(16/16)
---(4/106)
المسألة الثانية: التي ذكرتها هذه الآية وهي: ? مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ ? أن الله -سبحانه وتعالى- نفى التعدد في الآية، ? وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ? الله -عز وجل- ليس معه إله آخر، فهو -سبحانه وتعالى- مالك الملك وهو الإله الحق الواحد المبين، ? لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ? [الأنبياء: 22] والفساد الناشئ هنا في الكون، ناشئ عن عبادة غير الله -تبارك وتعالى-، شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقرر هذه المسألة بكلام عجيب يقول: «إن بعض المتكلمين يستدلون بهذه الآية: ? لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ? [الأنبياء: 22] على إثبات وجود الله -عز وجل- وربوبيته. ويقول: لا.. هذه الآية في توحيد العبادة أو في توحيد الألوهية ومعناها أن الكون كله يفسد إذا وجد من يعبد مع الله -تبارك وتعالى-»، يكون الفساد ناشئاً عن عبادة غير الله -عز وجل-، ولذلك كما أنه –سبحانه- لم يتخذ ولداً كذلك أيضاً ليس معه إله غيره.
المسألة الثالثة: التي قررتها هذه الآية: أن الله -عز وجل- أقام فيها البرهان والدليل على أنه إله واحد، فبعدما قال: ? وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ? ذكر برهاناً واضحاً على ذلك حينما قال: ? إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ? ولو نظرنا لوجدنا أنه لم يذهب كل إله بما خلق ولم يعلُ أحد في هذا الكون كله سوى رب العزة والجلال –سبحانه-، فليس إذن إلا هو -سبحانه وتعالى- الإله الواحد.
(16/17)
---(4/107)
وأرجع بعد ذلك فأقول في هذا المقطع من الآية ? وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ? ومعلوم أنه لم يذهب أحد واستأثر من المخلوقين بشيء خلقه هو، ولو كان كذلك لوُجد التفاوت في هذا الكون، والكون منتظم ومتسق بإحكام عجيب ودقيق مما يدل على أن الذي يدبر أمره وينظم شؤونه إله واحد هو الله -تبارك وتعالى-، كذلك أيضاً لم نجد أن أحداً نازع رب العزة والجلال في ملكه، أو علا مع الله -تبارك وتعالى- فالعلو المطلق لمن؟ لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وهنا ساق المتكلمون برهاناً ودليلاً على أن الله -سبحانه وتعالى- ليس له شريك يمكن أن يُوجد شيئًا في هذا الكون، وسموه دليل التمانع وقد أشار إليه الإمام الحافظ ابن كثير وذكره الإمام ابن تيمية -رحمه الله- وابن القيم وقالوا بأنه دليل عقلي مستفاد من هذه الآية وإن كان المتكلمون قد توسعوا في مثل هذه المسائل والشاهد من هذا البرهان أو دليل التمانع ما ملخصه أو كيف ساقه من ساقه في إثبات ربوبية الله -تبارك وتعالى-، قالوا: لو فُرض أن في الكون أكثر من إله، وجئنا إلى مسألة واحدة من المسائل وصوروها وذكروها كأن يريد إله من هؤلاء الألهة تحريك جسم ويريد الآخر تسكينه، أو إحياء جسم ويريد الآخر إماتته، نمسك مثلاً تحريك وتسكين الجسم، لو أن الكون فيه أكثر من إله أو فيه إلهين أراد أحدهما تحريك جسم وأراد الآخر تسكينه، هذه القضية لا تخلو من ثلاثة أمور: إما أن يتم مرادهما معاً، أو لا يتم مرادهما معاً، أو يتم مراد واحد منهما ، نأتي إلى هذه الأقسام الثلاثة نختبرها.
- إما أن يتم مرادهما معاً، هذا مستحيل، لماذا؟ لحصول التضاد في ذلك؛ لأن الحركة تضاد السكون، فلا يمكن أن يتم مرادهما معاً.
(16/18)
---(4/108)
- وإما ألا يتم مرادهما معاً، وهذا أيضاً مستحيل، لماذا؟ لأن فيه رفع للنقيضين والجسم إما أن يكون متحركاً وإما أن يكون ساكناً فرفع التحرك والسكون عن الجسم لا يمكن أن يكون.
- وإذا تم مراد واحد منهما، فسيكون هو الإله القادر، وغيره عاجز, وقد تم مراد رب العزة والجلال –سبحانه- فهو الإله الحق المبين القادر وما عداه مخلوق ضعيف لا يعبد بحال من الأحوال.
? مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ? ولما كان الأمر كذلك نزه ربنا -سبحانه وتعالى- نفسه عما فعله المشركون، من نسبة الولد إليه ومن اتخاذ الأنداد والشركاء، والوسطاء لرب العزة والجلال فقال: ? سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ?، وكلمة ? سُبْحَانَ ? يعني تنزيهاً لله -عز وجل- عما يصفه به الواصفون من المكذبين الظالمين، والله -عز وجل- قد نزه نفسه عن وصف الظالمين له فقال: ? سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ?180?? [الصافات: 180] ثم سلم على المرسلين لسلامة ما وصفوا به رب العزة والجلال سبحانه فقال: ? وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ?181? وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?182?? [الصافات: 181، 182].
(16/19)
---(4/109)
ثم قال رب العزة والجلال سبحانه معقباً على هذه الآية السابقة: ? عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ?92?? ، بعدما نفى -سبحانه وتعالى- عن نفسه الولد ونفى أن يكون معه إله في هذا الكون ذكر نموذجاً واحداً من النماذج التي تدل على ربوبيته وعلى ألوهيته وعلى علمه المطلق الواسع وذلك في إثبات علم الغيب والشهادة لله –تعالى- وحده، فإذا كان المشركون الذين عبدهم الناس من دون الله -تبارك وتعالى- يعلمون شيئًا من الشهادة بما أعطاهم الله -عز وجل- من وسائل الإدارك وتفضل به عليهم من السمع والبصر، يعلمون شيئًا، وإلا فهم لا يعلمون كل شيء، فنحن الآن ونحن جالسون في هذا المكان، ما خلف هذا المكان ونحن نسمع ونبصر لا نعرف عنه شيئًا ولكننا نعلم فقط ما نشاهده بين أعيننا يعني إذن علمنا بالشهادة علم جزئي، فما بالك بعلام الغيب والشهادة -سبحانه وتعالى-، هذا نموذج واحد على أن غير الله لا يُعبد، وعلى أن كل الآلهة التي عبدت من دون الله -عز وجل- عاجزة، وليس عندها من صفات الجلال والكمال ما يمكن أن يصرف لها العبد شيئًا من دون الله -عز وجل- ومن أخص خصائص الألوهية اتصاف رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بعلم الغيب, والله -عز وجل- في كتابه يقرر ذلك في أكثر من موطن فيقول: ? قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ?65?? [النمل: 65] ويأمر الله النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يذكر ما أنزله عليهم في كتابه فيقول: ? قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ? [الأعراف: 188] إذن علم الغيب والشهادة كاملين لله -تبارك وتعالى- وحده، وكلاهما يدل على علم الله -عز وجل- المحيط الواسع وأن غيره عاجز عن مثل ما وصف به،(4/110)
(16/20)
---
وبالتالي لا يليق بكم يا أيها المخاطبون أن تسووا الله –عز وجل- بأحد من خلقه؛ لأنهم لا يصلون إلى قدر الله -عز وجل-، ولا يعلمون ما يعلمه رب العزة والجلال –سبحانه-، فكيف إذن تجعلونهم مع الله -سبحانه وتعالى- شركاء وأنداداً.
ثم يقول -سبحانه وتعالى- بعد ذلك موجهاً الخطاب للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ? قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ?93? رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?94?? الله -عز وجل- في هذه الآية يأمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يدعوه بهذا الدعاء عند حلول النقم، ومعناه: ? قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ?93? ? يعني: إن تعذب هؤلاء الناس وأنا شاهد حاضر موجود بين ظهرانيهم فلا تأخذني بفعلهم يا رب العالمين ? فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ? وقد يسأل إنسان أو يتبادر إلى ذهن إنسان هذا السؤال كيف يسأل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ربه ألا يجعله مع القوم الظالمين, وأن يأخذه بما يأخذ به المكذبين وهو -صلى الله عليه وآله وسلم- بعيد عن هؤلاء الناس مؤمن بالله -عز وجل- مصدق به؟ فلم يأخذه ربه وقد آمن وصدق بل هو سيد الأنبياء وسيد المؤمنين وسيد المسلمين؟ هنا نقول: بأن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه بهذا الدعاء وهو لن يكون, يعني لن يفعل به رب العزة والجلال ولن يأخذه ربنا -سبحانه وتعالى- مع القوم الظالمين إذا نزل عليهم العذاب فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعاؤه ربه بذلك فيه إظهار لعبودية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لربه، وتواضع لرب العزة والجلال –سبحانه-، والله -عز وجل- قد وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره أنه لن يعذب هؤلاء المشركين وهو موجود بين ظهرانيهم -صلى الله عليه وآله وسلم-: ? وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ? [الأنفال: 33] ولكن حتى لا يظن هؤلاء المجرمين أن الله -سبحانه(4/111)
وتعالى- لن
(16/21)
---
يأخذهم وجه الله -عز وجل- خطاباً آخر للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذا الخطاب جاء في الآية التالية: ? وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ?95?? هذا حتى لا يأخذهم الغرور, فالله -عز وجل- بعدما أخبر أنه لن يأخذهم والنبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم، وأنه لن يقع بهم عذاب الاستئصال بين رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أنه قادر على أن يفعل بهم ما يشاء، وقد بين الله -عز وجل- في سورة الزخرف وخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثل ذلك من باب التسلية له -عليه الصلاة والسلام-، وأخبره أنه إن أخذهم رب العزة والجلال بعد أن يذهب بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يعني بعد أن يموت، فلابد وأن يقع انتقام الله -عز وجل- عليهم، وإن فعله الله وهو بين ظهرانيهم، فهو عليهم حفيظ، وفي ذلك يقول رب العزة والجلال سبحانه: ? فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ?41? ? [الزخرف: 41] إذا ذهبنا بك -صلى الله عليه وسلم- فإنا سننتقم منهم بعد ذلك، ? أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ?42?? [الزخرف: 42] يعني إن ذهب الله -عز وجل- بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يآخذهم بالعذاب فسبحانه وتعالى سينتقم منهم، وإن وقع منهم ما وقع والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- شاهد فالله قادر على ذلك وهو -سبحانه وتعالى- يفعل ما يشاء.
المحور الرابع: بعد ذلك بعنوان: أحسن إلى من أساء إليك تكن من الصابرين:
(16/22)
---(4/112)
وفي هذا يقول رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-: ? ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ?96?? يأمر الله نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذه الآيات بأن يقابل الإساءة بالإحسان والعفو والصفح وهذا في الحقيقة خلق كريم, وجه الله -عز وجل- إليه أهل الإيمان، وذلك لأنهم يتعاملون ويختلطون بالناس، والذي يتعاملوا مع الناس ويختلط بهم لا شك أنه سيصيبه شيء من أذاهم، ما موقف المسلم إذن حينما يصاب بأذى من الناس؟
(16/23)
---(4/113)
عليه كما قررت هذه الآية أن يقابل إساءة الناس بالإحسان إليهم، وأن يتحمل الأذى وأن يعفو وأن يصفح والله -عز وجل- قد حثَّ على ذلك، وحضَّ عليه، ووجه إليه في آيات كثيرة من القرآن الكريم كقول الله -تبارك وتعالى- مثلاً: ? فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ? [الشورى: 40] وكقوله -سبحانه وتعالى-: ? وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ?34? ? [فصلت: 34] انظروا وتأملوا أيها المخاطبون كيف أن الإساءة إذا قوبلت بشيء من الإحسان تقلب في الغالب العدو إلى صديق ? وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ?34? ? [فصلت: 34] ولكن كون الإنسان يقابل السيئة بالإحسان أمر صعب, يحتاج إلى أن يكون الإنسان متمرساً على ذلك, موطناً نفسه على هذا الأمر, متذرعاً بالصبر الذي يعطيه الله -عز وجل- لأويائه وأصفياءه ولذلك قال سبحانه: ? وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ?35?? [فصلت: 35] وهذا في الحقيقة أدب عالٍ رفيعٌ وجه إليه الإسلام, أن على أهل الإسلام أن يخاطبوا وأن يواجهوا الإساءة بالإحسان وفي قوله -سبحانه وتعالى-: ? ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ? أولى من قوله: ادفع السيئة بالحسنة لماذا؟ لأن هنا «أحسن» أفعل تفضيل, فهي دعوة إلى أن الإنسان يقابل السيئة مهما كانت بشيء من أفضل درجات الحسن، ادفع السيئة بأحسن ما يمكن أن تدفعها بها أيها المؤمن.
(16/24)
---(4/114)
والله -عز وجل- دعا الناس جميعاً إلى أن يقولوا الكلام الطيب الجميل: ? وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ? [البقرة: 83] والله -سبحانه وتعالى- حثَّ في القرآن الكريم على الأخلاق الفاضلة النبيلة ووصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأفضل الصفات والخلال الحميدة ولنا فيه أسوة حسنة، فإذا كان نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- صاحب الخلق الكريم قال الله عنه: ? وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ?4?? [القلم: 4] وقد أمرنا بالاقتداء به والتأسي به -صلى الله عليه وآله وسلم- فيجب علينا أن نكون كما كان -صلوات الله وسلامه عليه-.
(16/25)
---(4/115)
ويكفينا أن نتأمل وصية النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو في أصحابه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- وصى أصحابه بوصايا جليلة عظيمة، ومن ذلك مثلاً قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (اتقِ الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها) -بعدها- (وخالق الناس بخلق حسن)، ومن الأخلاق الفاضلة التي قررها القرآن الكريم، وأشار إليها ودعا إليها ومن الأمور التي يدفع الإنسان بها السيئة الحسنة الإعراض عن الجاهلين, وهذه مسألة مهمة جداً؛ لأن أهل الإيمان يواجهون وهم في طريق دعوتهم إلى الله -عز وجل- يواجهون كثيرًا من المجرمين الأفاكين الذين يطعنون عليهم، ويتكلمون فيهم، موقف المسلم من هؤلاء ماذا؟ ألا يخوض مع هؤلاء المكذبين, وألا يسترسل معهم ؛ لأن إفكهم ظاهر وضلالهم وبهتانهم واضح، وفي هذا يقول رب العزة والجلال مثلاً: ? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ?199?? [الأعراف: 199] ويقول -سبحانه وتعالى- في وصف عباد الرحمن: ? وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ?63?? [الفرقان: 199] ولا يعني ذلك أن يذل المسلم نفسه لمشرك أو كافر, بل يجب على المسلم أن يُريَ أعداء الإسلام قوته وشجاعته وأن يعلو على المجرمين حينما يحاولون أن يستأسدوا على أهل الإيمان، الله -عز وجل- وصف أهل الإيمان بأنهم أعزة على الكافرين أذلة على المؤمنين، ووصف النبي وصحبه -صلوات الله وسلامه عليه- بأمر يجب أن نكون نحن عليه، يا معشر أهل الإيمان في كل زمان وفي كل مكان، ? مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ? [الفتح: 29] فليس معنى القول أن نقابل الإساءة بالإحسان أن يكون المؤمن ضعيفاً أو أن يذل لأعداء الإسلام, ولكنه خلق يتربى عليه المؤمن يجعل نفسه تأبى أن ينزل إلى إسفاف الذين يسفون أو إلى(4/116)
(16/26)
---
إجرام المجرمين بل إنه يتعالى عليهم ويتمسك بالأخلاق الفاضلة وهو في نفس الوقت قوي الشكيمة, يستيطع أن يواجه أعداء الإسلام والذين يسعون في الأرض بالفساد, يستطيع أن يواجههم بكل قوة وتمكن؛ لأنه عزيز بعزة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وهذه دعوة لأهل الإيمان أن يكونوا أقوياء في هذه الأرض والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) المؤمن القوي، نحن بحاجة إلى أقوياء، وأن نُري أعداء الإسلام منا قوة ومنا شدة، ومنا غلظة ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ? [التحريم: 9] فيجب أن نفهم في إطار هذه الآية أننا لا نذل ولا نستكين لأعداء الإسلام على أننا نتخلق بأخلاق حسنة وندفع الإساءة بالإحسان، نحن ندفع الإساءة بالإحسان لأننا لا نُسيءُ كإساءتهم ولا نفعل كأفعالهم لأنهم مجرمون، ولكننا أيضاً نتمسك بالقوة وبالشجاعة ونستطيع أن نواجه أعداء الإسلام.(4/117)
ثم بعد ذلك يقول رب العزة والجلال مخاطباً النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بخطاب، لو نظرنا فيه سنجد أنه يترتب على الأمر الأول: ? وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ ?97? وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ?98?? بعد أن أمر الله -سبحانه وتعالى- رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- في الآية السابقة بأن يدفع الإساءة بالإحسان, أتبع ذلك بما يقوى أو يتقوى به المؤمن وعلى رأس أهل الإيمان النبي -صلى الله عليه وسلم- كي يواجه هذا الأمر ألا وهو أن يستعيذ بالله -عز وجل- من همزات الشياطين، وهذا توجيه لطيف بعد هذا الأمر، كي تواجه الإساءة بالإحسان تحتاج إلى قوة تحتاج إلى صبر تحتاج إلى نفس أبية، تتعالى على هذا الظلم وعلى هذا المنكر، ولو تمكنت وتملكت أيضاً لا تظلم ولا تؤذي فهذا يحتاج إلى إعداد، ولا شك أن الإعداد يحتاج من المؤمن أن يبتعد عن الشيطان وطرقه ووسائله.
(16/27)
---(4/118)
? وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ ?97? ? لماذا؟ لأن الهمز همزات جمع همز، والهمز هو فعل مرَّ من الهمز، والهمز يكون من من؟ يكون من الشيطان، وهو في اللغة بمعنى النخس والدفع، والشيطان يدفع الناس إلى أن يظلموا, وإلى أن يفعلوا الفساد في الأرض, ويحثهم على معصية رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يستعيذ بالله -عز وجل- من الشيطان فكثيراً ما كان يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه) هذا من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فما بالنا إذن والشيطان ? يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ?6? [فاطر:6]? فواجب علينا إذن أن نستعيذ بالله -عز وجل- من الشيطان الرجيم، والاستعاذة بمعنى الالتجاء والاعتصام ولا تكون إلا لرب العزة والجلال -سبحانه-، ولا يفعلها إلا أهل الإيمان؛ لأن المشركين كانوا يستعيذون بالشياطين وبمن اتخذوهم أولياء من دون الله -تبارك وتعالى-، في سورة الجن يقول سبحانه: ? وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقًا ?6?? [الجن: 6] ذكر الإمام الحافظ المحدث المفسر الفقيه ابن جرير -رحمه الله تعالى- أن المشركين كانوا إذا نزلوا وادياً استعاذوا بعزيز هذا الوادي ألا وهو كبير الجن ولا يستعيذون بالله -تبارك وتعالى- فزادهم الجن رهقاً أو طغيانا أو كفراً أو خوفاً فوق خوفهم, والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بين أن الله -عز وجل- أبدلنا مكان استعاذة هؤلاء المشركين بالشيطان، الاستعاذة برب الأرض والسماوات سبحانه، ولذلك يقول -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- : (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرجع أو حتى يخرج من منزله الذي نزل فيه) وهذا تعليم من الإسلام لأولياء الله -عز وجل- ولعباد الله الموحدين أن يلجؤوا(4/119)
(16/28)
---
إلى الله -سبحانه وتعالى- وحده وأن يستعيذوا بالله -تبارك وتعالى- ممن؟ من الشيطان الرجيم لأنه هو الذي يضل وهو الذي يصد وهو الذي يؤذي وهو الذي يحمل من يحمل من أهل الإيمان على الفجور أو الطغيان أو ما يحدث في الأرض من الآثام والمعاصي وما إلى ذلك.هذا أولاً .
أما ثانيًا من الأمر الذي أمر الله -عز وجل- به نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يستعيذ من الشيطان به ما جاء في قوله: ? وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ?98?? الشيطان يحاول أن يوسوس للإنسان وأن يدخل إليه من مداخل متعددة إذا أراد أن يقرأ القرآن دخل عليه إذا أراد أن يصلي دخل عنده، إذا أراد أن يذكر الله -تبارك وتعالى- أتى إليه، عند الموت أيضاً يحضر الشيطان؛ ولذلك النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان كثيرًا ما يستعيذ بالله -عز وجل- من حضور الشياطين فقد جاء في السنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون) فكان -صلى الله عليه وآله وسلم- يستعيذ من أن يحضر الشيطان كي لا يلبس على أهل الإيمان وكي لا يفسد أفعالهم التي يتقربون بها إلى الرحمن، والشيطان يا أهل الإيمان ضرره خطير.
وما هو كائن على ظهر الأرض اليوم من كفر وشرك وضلال وانحراف موجود عند بعض أهل الإيمان إنما هو من الشيطان، وإذا كان الله -عز وجل- يأمر نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يستعيذ بربه من الشيطان فماذا نفعل؟
(16/29)
---(4/120)
نحن يا أهل الإيمان من واجبنا إذن أن نستعيذ بالله -عز وجل- من شياطين الإنس ومن شياطين الجن ونستعيذ بالله -عز وجل- أن يحضروا معنا في أي أمر من الأمور ويحسن بنا هنا ونحن في ختام هذا اللقاء أن نستعيذ حقاً بالله -عز وجل- من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، ونسأل الله -عز وجل- أن يجنبنا وإخواننا المسلمين فتن وهمزات وغمزات الشياطين وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إجابة أسئلة الحلقة الماضية
كان السؤال الأول: اشرح بالتفصيل قول الله تعالى: ? أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ?69??؟
(16/30)
---(4/121)
وكانت الإجابة: بعدما أوضح الله -تبارك وتعالى- في الآيات السابقة مصير المشركين وما حل عليهم من العذاب والبأس والنقمة فإنهم يصرخون ويستغيثون وإن الله -تبارك وتعالى- يخبرهم أن ما حل بهم كان بسبب أنهم لم يتدبروا القرآن العظيم ولم يفهموه وأعرضوا عنه وإنما جاء به النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- لم يكن شيئًا محدثاً, بل سبقه رسل كثيرون، وأن دعوته ليست محدثة قال تعالى: ? قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ ? [الأحقاف: 9] يوضح ويخبر -تبارك وتعالى- عن السبب الثالث لحلول العذاب على المشركين فيقول منكراً على الكافرين: ? أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ?69?? [المؤمنون: 69] أي أنهم لا يعرفون محمداً -صلى الله عليه وسلم- ونسبه ولا يعرفون صدقه وأمانته؟ فقد نشأ بين أيديكم وأنتم من لقبتموه بالصادق الأمين، وأنتم من كنتم ترضون به وبشهادته فينكر عليهم الحق -جل وعلا- ويقولها ليستطيعون إنكار ذلك ولهذا قال أبو سفيان -رضي الله عنه- لهرقل ملك الروم، وذلك قبل أن يسلم لما سأله: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول؟ فقال: لا، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ليكذب على الله -تبارك وتعالى-، وكذلك قال جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك إن الله بعث إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وهكذا قال المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- لنائب كسرى، هذا وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستغل صفاته الحميدة في الدعوة إلى الله وإبلاغ الرسالة، فقد جمع قومه يوماً ثم قال: (يا بني فلان يا بني فلان حتى جمعهم ثم قال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً خلف هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ فقالوا: ما جربنا عليك كذباً قط، فقال: فإني منذركم بني يدي عذاب أليم).
في الحقيقة الجواب سديد وهو شرح بالتفصيل في الحقيقة، جزاه الله خيراً.
(16/31)
---(4/122)
السؤال الثاني: ما المراد بالخرج في قوله تعالى: ? أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا ?؟ وهل هو خاص بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أم يشمل جميع الأنبياء والمرسلين؟ وضح ذلك بدليل.
وكانت الإجابة:
قال الحسن: أجراً. وهذا القول ليس خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما يشمل جميع الأنبياء والمرسلين قال الله تعالى مخبراً عن مؤمن آل ياسين: ? وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ?20? اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ ?21?? [يس: 20، 21] وقال تعالى في سورة الشعراء عن نوح وهود ولوط وشعيب وصالح عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام وهم يدعون أقوامهم: ? وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ?109?? [الشعراء: 109] فهذا كان نهج الأنبياء والمرسلين جميعاً وبهذا يتضح أن معنى الخرج هو الأجر أو الجزاء. والله أعلم.
صحيح الجواب طيب ما شاء الله
السؤال الثالث: ما معنى: ? فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ? ؟ وهل وقع شيء من العذاب الدنيوي على مجتمع مكة ؟ أيد ما تقول بدليل من السنة النبوية.
وكانت الإجابة:
(16/32)
---(4/123)
معنى ? فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ? أي ما خشعوا لربهم وما دعوه فلقد أخذ الله المشركين والكافرين بالعذاب كالمصائب والجوع والقتل فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والجحود, بل استمروا في ضلالهم وجحودهم وما خشعوا لربهم ولا دعوه كي يرفع عنهم العذاب أو يخففه عنهم بل جحدوا واستكبروا وقست قلوبهم قال تعالى: ? فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?43?? [الأنعام: 43] وقد وقع شيء من العذاب الدنيوي على مجتمع مكة، فقد روى الإمام البخاري -عليه رحمة الله- في كتاب التفسير من حديث ابن مسعود: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا على قريش فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف) وفي سنن النسائي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: (جاء أبو سفيان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز فأنزل الله الآية) والعلهز: أي الدم والوبر، هذا والله أعلم.
جواب سليم جزاكم الله خيراً.
(16/33)
---(4/124)
الأخ الكريم من الجزائر يقول: إننا نرى -حفظكم الله- أن الآيات الكريمة من الرابعة والثمانين إلى التاسعة والثمانين تبين أن هؤلاء المكذبين بالبعث يقرون بتوحيد الربوبية وأن الله وحده هو الخالق المالك المدبر ولكن لم ينفعهم ذلك ؛ لأنهم أنكروا توحيد الألوهية والعبادة ومن هذا يتضح أن الإيمان هو تصديق وإقرار بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح وأن العمل داخل في الإيمان عكس ما قالت به بعض الفرق الضالة، فنرجو من فضيلتكم أن توضحوا هذا الأمر وخاصة أنه انتشر بين المسلمين فنجد منهم من لا يصلي ونجد منهم من لا يصوم ومنهم من لا يزكي ومنهم من لا يحج مع استطاعته على ذلك، والأكبر من ذلك أن منهم من يدعو ويصرف العبادة لغير الله كدعاء الأولياء والصالحين والتبرك بهم والذبح لهم والحلف بهم وغير ذلك فنرجو التوضيح بارك الله فيكم..
(16/34)
---(4/125)
أقول للأخ الكريم جزاك الله خيراً . وفي الحقيقة الآيات كما ذكرت التي قرر الله -عز وجل- فيها توحيد الربوبية للدلالة ولإلزام المشركين بعبادة الله وحده دون سواه، وهي في الحقيقة تدعو أولاً المشركين إلى أن يدخلوا في الإيمان فإذا دخلوا في الإيمان وجب عليهم أن يقوموا بما أوجب الله -سبحانه وتعالى- عليهم، من اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح والأركان وقد ذكرت ذلك كثيرًا ورددته فيما مضى لأهمية الإشارة إليه، خاصة كما أشرنا في هذا الزمان على أساس أن الإيمان ليس مجرد أن يعتقد الإنسان بقلبه شيئًا يدل على توحيد الله -عز وجل- ثم بعد ذلك لا يستقيم على هذا الإيمان الذي زعم أنه قام في قلبه، ولكن الحقيقة الآيات التي معنا والتي شرحتها قبل قليل هي تؤكد أمراً مهماً جداً وهو إثبات أن الله -سبحانه وتعالى- إله واحد، فآيات الربوبية تدل وتشير وتلزم من عبد غير الله -تبارك وتعالى- أن يعبد الله وحده دون سواه، أما إذا دخل هذا المشرك في الإيمان أو دخل العبد في الإيمان فنقول له الإيمان كما هو معتقد أهل السنة والجماعة: اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان، وإن شاء أزيد رابعًا وخامساً، يفيدنا جميعاً في الإيمان وهي أيضاً تختم بنون، يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان، فالإيمان كما يذكر كان يذكر لنا أحد مشايخنا -رحمة الله تعالى عليه- كلمات تختم بخمس نونات اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان، وهذه –حقيقة- كلمات تجمع مباحث الإيمان وقواعده عند أهل السنة والجماعة، والله أعلم.
(16/35)
---(4/126)
الأخ الكريم من السعودية يقول: كنت أريد أن أسأل الشيخ عن تفسير الآية: ? إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ? [الأحزاب: 72] فهل المقصود بآخر الآية الذي هو: ? إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ? [الأحزاب: 72] قبل حمل الأمانة أم ظلمه وجهله بعد تصرفه في الأمانة؟
الأخ الكريم من السعودية يقول: بالنسبة لمعاملة الكفار التي هي أحسن, هل فيها تفصيل فتكون على حسب الشخص إذا كان مثلاً ليس منه أذى فتقابله بعدم الأذى ، وإذا كان يعاديك بالقتال مثلاً فتواجهه بحسب عمله ضد المسلمين؟
الأخ الكريم كان يسأل عن قول الله -عز وجل-: ? عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? إلى نهاية الآية في قوله تعالى: ? إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ? [الأحزاب: 72] هل هذا الظلم قبل أم بعد؟
في الحقيقة أولاً الأمانة المراد بها في هذه الآية هي التكاليف الشرعية، أو ما يعبر عنه بجملة الأوامر والنواهي، والله -عز وجل- قد أخبر فيها أن الإنسان تحملها لأنه ظلوم جهول، كونه تحملها لأنه ظلوم جهول كان قبل أو بعد على كلٍّ نقول: الله -عز وجل- يعلم سلفا أن هذا واقع من الإنسان، وقد ظهر قبل أن يتحمل الإنسان سائر التكاليف الشرعية شيئًا من ظلمه وجهله منذ أن خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم وأسكنه هذه الأرض, عندما قتل ابني آدم أحدهما الآخر, بدا منه ظلم الإنسان وجهله على أخيه الذي قتله ظلماً وعدواناً وجاءت التكاليف الشرعية بعد ذلك فبقي بعض الناس على ظلمهم وعلى جهلهم, والشاهد على هذا أن الله -سبحانه وتعالى- سبق في علمه ما سيكون عليه الإنسان وظلم الإنسان وجهله وقع أيضاً منه بعد ما كان منه من المعاصي ومن السيئات التي قام بها على ظهر هذه الأرض. والله أعلم.
(16/36)
---(4/127)
الأخ الكريم من مصر يقول: ? وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ ?97? وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ?98?? هل الشياطين تسكن أجسام بعض الناس؟ وهل قراءة آخر سورة البقرة وآية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين تطرد الشياطين من الجسم المسكون به الشياطين؟
الأخ الكريم من السعودية كان يسأل عن معاملة الكفار هل هم على أقسام أم أنهم أمر واحد؟
لاشك أن الكفار على أقسام فالذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا والذين يحملون على أهل الإيمان كي يدخلوهم في الكفر ويحملوهم على الطغيان وما إلى ذلك ليسوا كمن سالم أهل الإيمان ولم ينالوا منهم شيئًا من الأذى, والله -عز وجل- قد فرق بين هؤلاء وهؤلاء وذلك في سورة الممتحنة: ? لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ? [الممتحنة: 8] ?إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ? بعدها: ?إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ? [الممتحنة: 9] ولابد كما ذكرت وأشرت ألا يشعر الإنسان أهل الكفر والطغيان أنهم في ضعف وذلة بل عليه أن يواجههم بقوة وشدة كما ذكرت الآيات في سورة التحريم وفي سورة التوبة، ودعت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقالت هؤلاء الكفار، وأن يشدد من وطئته عليهم، من قاتل أهل الإيمان يجب أن يقاتل وأن يظهر له من القوة ما يجب أن يكون عليه المسلمون ، والله أعلم.
الأخ الكريم من مصر كان يسأل عن قول الله -عز وجل-: ? وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ ?97? وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ?98?? كان سؤاله: هل تسكن الشياطين أجسام الإنسان وهل المعوذات تطردها؟
(16/37)
---(4/128)
ورد في السنة أن الشيطان يمكن أن يتلبس بالإنسان وأن يدخل فيه، وهذا وردت فيه بعض الروايات عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو أمر مشاهد واقع بين الناس ولكن الشيطان يطرد من البيت ويبتعد من الإنسان بأمور كثيرة ذكرها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فمثلاً أذكر في بعض السنن في هذا أو ما ورد في السنة من هذا: أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخل الشيطان، وأن الإنسان إذا دخل بيته فذكر اسم الله -عز وجل- علم الشيطان أنه لن يبيت في هذا البيت فإذا قدم له طعام وجلس عيله فذكر اسم الله -تبارك وتعالى- علم الشيطان أنه لم يدرك الطعام أيضاً وهذا يدل على أن الشياطين تطرد من البيوت بمثل ذلك، وكذلك أيضاً النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بأن : (العبد لا يزال عليه من الله حافظا ولا يقربه شيطان إذا قرأ آية الكرسي إذا أوى إلى فراشه) كما أن أيضاً أواخر سورة البقرة أيضاً النبي -صلى الله عليه وسلم- حث على قراءتها عند النوم لأنها أيضاً تطرد الشياطين كذلك القراءة بالمعوذتين والمتتبع لسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فيجد الكثير في ذلك ولكن أود أن أقول ملاحظة بعض الناس إذا أصيب بأي مرض أو ما إلى ذلك قال عندي مس من الجن عندي كذا عندي كذا، هذه مسائل أنت لا تستطيع أن تحكم عليها بمجرد أن ترى عرضاً من أعراض المرض عندك ولكن إذا وجدت شيئًا من ذلك اذهب وابحث عن الأسباب التي قد يمكن أن تكون أسباب مادية لهذا الأمر، ولا بأس أن تقرأ أو أن يقرأ عليك أحد بعض آيات القرآن الكريم مما يمكن أن يتبين الأمر إن كان عندك شيء في ذلك وعلى المسلم أن يعيش مع الذكر في كل وقت وفي كل حين، فإذا عاش المؤمن مع ذكر الله -تبارك وتعالى-، واستعاذ دائماً بالله -عز وجل- من الشيطان الرجيم جنبه رب العزة والجلال الشيطان وسوسةً وهمزا ونفسا ونفخا وما إلى ذلك، من كل مجالات أو من كل المجالات التي يمكن أن(4/129)
(16/38)
---
يدخل فيها الشيطان أو منها الشيطان إلى الإنسان والله أعلم.
الأخ الكريم من السعودية يقول: لي الحقيقة استنصار لرسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى والذي كرمه ربه بقوله: ? وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ?4?? [القلم: 4] وقوله: ? وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ?107?? [الأنبياء: 107] ضد هذه الهجمة الشرسة في سب ومس عرض رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأسأل شيخنا الكريم أن يوجه المسلمين أن يعتزوا برسولهم ودينهم تصديقا لقول ربهم: ? وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ? [المنافقون: 8] وأن توجهوا سماحتكم المسلمين في كل بقاع الأرض أن يذبوا عن عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن يأخذوا بكل أسباب العزة والدفاع عنه وعن دينه وعن أمته, أسأل الله أن يجعله في ميزانكم وميزان المسلمين وأن يعز دينه ورسوله وينصره ويمكنه في الأرض. وجزاكم الله خير.
(16/39)
---(4/130)
في الحقيقة أشكر الأخ الكريم على دعائه لنا وعلى غيرته أيضاً على مكانة ومنزلة وعرض رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهكذا هو شأن المؤمن في أن يغار على النبي -عليه الصلاة والسلام- لأنه ليس شخصا عاديا في حياتنا -صلى الله عليه وآله وسلم-، وفي الحقيقة المسألة التي حصلت قد تكلم عنها المتكلمون واتخذت إجراءات متعددت من ديار مختلفة الحقيقة ووقفت بعض الدول وقفات شجاعة وجريئة في مواجهة هذا الأمر ومن هذا المنطلق ومن هذا المكان أشكر كل من ساهم دولاً وأفراداً وشعوباً في الدفاع والانتصار للهجمة الشرسة على نبي الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه-، وكما أشرت في بداية الكلام الآن إلى أن الكثير قد تكلموا في هذه المسألة وإن كان لي من قول هنا يخص هذا المقام فإنني أدعو عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يعتزوا بدينهم الذي بعث به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فمن وجهة نظري أنه لن ترتفع للإسلام راية ولن يعلو النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على كل من على هذه الأرض بشخصه وبهديه وبسنته وبكلامه -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا إذا قام المسلمون لهذا الدين، وارتفعوا به ورفعوا سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وتمسكوا بهديه إن الأمة والبشرية من حولنا يا معشر أهل الإيمان إن وجدونا نحب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- محبة عملية تتمثل في اتباع سنته لأدركوا أننا حقاً نحب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأننا لا نسمح بحال من الأحوال ولخافوا هم أن يتكلموا بكلمة واحدة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان بعض المشركين يحضر النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في صلح الحديبية يرجع الواحد منهم ويقول: يا قومي ادخلوا في دين محمد فإنني وجدت قوماً يحبون محمداً -صلى الله عليه وسلم- أكثر من محبتهم لأنفسهم، شهد ذلك لماذا؟ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان إذا تنخم نخامة ابتدروها كان إذا توضأ وضوءاً تبادروا(4/131)
(16/40)
---
وضوءه -صلى الله عليه وسلم- وجدوا اتباعا التزاما بمنهج كان -عليه الصلاة والسلام- ظهر هذا في حبهم للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فإذا أردنا نحن حقاً يا معشر أهل الإيمان ونحن مطالبون ويجب علينا وجوباً عينياً أن يدافع كل واحد منا في مكانه عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن يذب عن عرضه بالقول, بالكلمة, بمقاطعة بضاعة يفعلها بأي أمر يمكن أن يفعله لكي ينصر دين الإسلام ويعز رسول الإسلام -صلى الله عليه وآله وسلم- أرجع فأقول: يظهر ذلك تمام الظهور ويتأيد أو يبرز حبك للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من خلال اتباعك لهديه ولسنته، فإذا وجد العالم من حولنا أننا حقاً نتأسى به -صلى الله عليه وسلم- في كل أمر إذا وقفنا للصلاة إذا أدينا الزكاة إذا تحركنا في حركة إذا أمرنا بمعروف إذا تعامل بعضنا مع بعض إذا تعاملنا مع غيرنا مع الكفار تعاملنا على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- أدرك هؤلاء الناس أن للنبي -صلى الله عليه وسلم- منزلة في قلوبنا، وأننا نحبه أكثر من حبنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا وهذا واجب على كل مسلم، ولن يصل العبد إلى حقيقة الإيمان إلا إذا كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين، وتكفي هذه الإشارة وإن كانت قليلة وقد استفاض الناس كثيرًا في هذا الكلام ونسأل الله -عز وجل- أن نكون من الذابين عن عرض النبي -عليه الصلاة والسلام- وأن يستخدمنا ربنا في ذلك.
الأخت الكريمة من مصر تقول: كنت أريد أن أسأل: من هم الذين حبطت أعمالهم؟ أو ما هي أسباب حبوط الأعمال؟
(16/41)
---(4/132)
أسباب حبوط الأعمال في الحقيقة كثيرة على رأسها الشرك بالله -تبارك وتعالى- لقول الله -عز وجل- لنبيه ? وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ? [الزمر: 65] كذلك أيضاً من أسباب حبوط الأعمال الرياء والتصنع للإنسان فيما يفعله الإنسان، يعني لا تقصد بعملك وجه الله -تبارك وتعالى-، وأعتقد أني ذكرت فيما مضى قصة الرجل المجاهد والمتصدق والمنفق وأنهم جميعاً دخلوا النار؛ لأنهم لاحظوا المخلوق في أعمالهم، كذلك أيضاً وهذا أمر مهم جداً من أسباب حبوط الأعمال، أن يكره العبد ما أنزله الله -تبارك وتعالى- ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ?9? ? [محمد: 9] فالذي يكره ما أنزله الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- يكون ذلك سبباً في أن يحبط الله -سبحانه وتعالى- عمله، هذه أمور عامة هناك بعد ذلك أمور خاصة بها تحبط الأعمال أيضاً فالإنسان إذا تصدق مثلاً صدقة ثم بعد ذلك أراد أن يشاهدها الناس وأن يتحدثوا عنها حبط عمله بذلك، إنسان أعطى إنساناً صدقة ثم بعد ذلك أتبع هذه الصدقة بالمن والأذى حبط عمله بذلك، يعني إذن هناك أمور متعددة مختلفة يحبط بها عمل الإنسان ألخصها في أمرين:
الأمر الأول: أن يكون العبد في أفعاله كلها يقصد رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، يعني لا يرائي بعمله الناس فيما يفعل، فيخلص بذلك من الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره.
الأمر الثاني: أن يتبع فيما يفعل هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لأنه -عليه الصلاة والسلام- يقول: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) ، فإذا فعلت عملاً تقصد به وجه الله, ولكنه ليس على هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فلن يكون أيضاً مقبولاً، هذا باختصار حول هذه المسألة.
الأخ الكريم من السعودية يقول: نرجو من فضيلتكم إيضاح معنى الأثر: (العفو عند المقدرة)؟
(16/42)
---(4/133)
هذا في الحقيقة أيضاً من الأخلاق الكريمة التي وجه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الأمة, أن يعفو الإنسان عمن ظلمه ولاشك العفو يكون أو يقع في حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون الإنسان قادراً .
الحالة الثانية : أن يكون الإنسان غير قادر أو أن يكون عاجزاً، كلا الأمرين يحدث منه عفو من المؤمن ولكن الأول هو المهم وهو الذي دعا إليه القرآن الكريم وهذا في قول الله -تبارك وتعالى-: ? وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ?43? ? [الشورى: 43] قال بعض أهل العلم: اللام هنا يقول بعض البلاغيين أو بعض اللغويين عن أنها زائدة، ولكن هي تفيد معنى، زائدة من حيث الصناعة اللغوية ، ولكنها دخلت هنا لتدعو إلى تأكيد العفو والصفح للإنسان القادر على أن يأخذ حقه بنفسه من الذي ظلمه، فهذا يحتاج إلى شحز الهمة لكي يعفو ولكي يصفح وأفادت اللام هذا المعنى، فالعفو عند المقدرة، باختصار والشاهد منه خلق كريم حث عليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا يكون حقاً إلا من آمن صدقاً بالله -تبارك وتعالى-:
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة
السؤال الأول: ما حكم من أقر بربوبية الله تعالى: ولكنه اتخذ الوسائط والأنداد لله؟ أيد ما تقول بالدليل؟
السؤال الثاني: قال الله تعالى: ? مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ? هذه الآية اشتملت على ثلاث مسائل اذكرها بالتفصيل؟
السؤال الثالث: أدب الله تعالى المؤمنين بآداب عظيمة ومن ذلك الإحسان إلى المسيء، تحدث عن هذا الموضوع من خلال بعض آيات القرآن الكريم؟
(16/43)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس السابع عشر
الدرس السابع عشر: تفسير سورة المؤمنون
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم(4/134)
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين والمشاهدين والمشاهدات, ويسرنا أن نلتقي في هذا اللقاء الكريم المبارك وفي الحلقة الأخيرة مع هذه السورة العظيمة ألا وهي سورة المؤمنون، والحديث في هذا اللقاء -إن شاء الله تبارك وتعالى- سيدور حول المحاور التالية:
المحور الأول: حال الكافرين والمفرطين عند الاحتضار.
المحور الثاني: لا تنفع الأنساب يوم العرض والحساب.
المحور الثالث: تقريع أهل النار لكفرهم بالكبير المتعال.
المحور الرابع: الله –تعالى- منزه عن العبث في خلقه.
المحور الخامس: توعد الله من أشرك به وعبد معه سواه.
والآن نستمع إلى هذه الآيات الكريمة المباركة من الأخ الكريم فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(17/1)
---(4/135)
?حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ?99? لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ?100? فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ ?101? فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?102? وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ?103? تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ?104? أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ?105? قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ?106? رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ?107? قَالَ اخْسَؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ?108? إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?109? فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ?110? إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ?111? قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ?112? قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ?113? قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?114? أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ?115? فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ?116? وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ(4/136)
(17/2)
---
رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ?117? وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?118??.
جزاك الله خيراً.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد.
فبعد أن استمعنا إلى هذه الآيات من كتاب رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أبتدأ الآن في الحديث عن أول آية مما سمعنا وهي تدخل تحت المحور الأول:
(17/3)
---(4/137)
المحور الأول: حال الكافرين والمفرطين عند الاحتضار: وفي ذلك يقول رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-: ?حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ?99? لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ?100?? يخبر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- عن حال المحتضر من الكافرين أو المفرطين في حق الله -جل ذكره-، وأنهم يتمنون عند نزول الموت به، ويسألون أن يعودوا مرة أخرى إلى دار الدنيا ?حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ?99?? لماذا؟ قال: ?لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ? وكما بينتْ هذه الآية أن هؤلاء الكافرين والمفرطين يطلبون ذلك عند الموت, أشارت آيات أخر في كتاب الله -تبارك وتعالى- أنهم أيضاً يتمنون الموت عندما يعاينون ويشاهدون ما يكون في يوم القيامة وكذلك يتمنونه حينما يعرضون على النار، ويتمنون الرجوع أيضاً وهو في غمرات الجحيم -أعاذنا الله وإياكم من ذلك-، أما تمنيهم الموت، مرة أخرى كما ذكر رب العزة والجلال عند الموت، فقد جاء ذكره في قول الله -سبحانه وتعالى-: ?وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ?10?? [المنافقون: 10] والجواب عليه: ?وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ?11?? [المنافقون: 11] أما طلبهم الرجوع للعمل الصالح عند مشاهدة ما سيكون في يوم القيامة ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ(4/138)
(17/4)
---
فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ? [الأعراف: 53] قول الله تعالى هنا: ?يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ? يعني يوم يأتي تأويل ما أخبر به الأنبياء والمرسلون، لأن التأويل معناه هنا: الحقيقة التي يرجع إليها الأمر، فالأنبياء والمرسلون أخبروا عما سيقع في يوم الدين, وما أخبروا به أمر غيبي عن المخاطبين في الوقت الذي خوطبوا به، وعندما يعاينون ذلك يأتي تأويل ما أُخبروا به، يعني يصبح واقعاً مشاهداً عياناً أمامهم، في هذه الحالة سيتمنون أن يرجعوا بعد ذلك إلى الدنيا ليعملوا فيما فرضت أيديهم من قبل.
أما ما ذكره القرآن الكريم عن تمنيهم الموت وهم يعرضون على النار ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: عن هؤلاء الناس عندما يقفون على النار وقولهم: ?وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?27? بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ?28?? [الأنعام: 27، 28] أيضاً يتمنون أن يردوا إلى الدنيا مرة أخرى ذكرها القرآن الكريم وهم يتعذبون في نار جهنم -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وفي ذلك يقول رب العزة والجلال: ?وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ?37?? [فاطر: 37] إذن هؤلاء الكافرين والمفرطين يتمنون الرجعة إلى الدنيا مرة أخرى في مواطن متعددة يتمنون ذلك عند الموت، ويتمنون ذلك عند معاينة ومشاهدة يوم القيامة ويتمنون ذلك عندما يعرضون على النار، ويتمنون ذلك أيضاً وهم يتعذبون في نار الجحيم -أعاذنا الله وإياكم منها-.
(17/5)
---(4/139)
يتمنون الرجعة لماذا؟ ?حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ?99? لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ?100?? لعل هنا قيل: للتعليل, وقيل: للرجاء ؛ لأنهم يتوقعون أن يعملوا عملاً صالحاً ولكن قد لا يقع منهم ذلك، وهم حينما يتمنون الرجعة يتمنونها ليستدركوا ما فات من الأعمال لأنهم قدموا أعمالا سيئة وسلفت منهم أمور وقع فيهم أو وقع منهم من الشرك بالله -تبارك وتعالى- ووقع منهم بعد ذلك أيضاً من الإفساد في الأرض بألوان متعددة من ألوان الفساد فيتمنون أن يعودوا بعد ذلك ليعلموا أعمالاً صالحة، والأعمال الصالحة يدخل فيها توحيد الله -تبارك وتعالى- وسائر ما يقوم به الإنسان من الصلاة والزكاة والحج وسائر الأعمال الصالحة.
?قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ?99? لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا ?100?? في أي شيء؟ قال: ?فِيمَا تَرَكْتُ? يأتي رد الله -سبحانه وتعالى- بكلمة ?كَل? وهي تفيد الردع والزجر يعني هذا الطلب لن يكون، ولن يتحقق لكم بعد ذلك العود إلى دار الدنيا وإنما هي كلمة سيقولها هؤلاء الناس حينما ينزل بهم ما ينزل: ?كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَ?.
آتي بعد ذلك إلى قول هؤلاء ?رَبِّ ارْجِعُونِ? ما وجه الجمع في قول الله -تبارك وتعالى-: ?رَبِّ ارْجِعُونِ? ولم يقل: رب ارجعني؟ لأن الحديث والكلام عن المفرد ?حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ?99?? ذكر بعض العلماء أجوبة على ذلك تنحصر في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: وهو أظهرها والله أعلم: أنه جمع تفخيماً وتعظيماً للمخاطب ألا وهو رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، لأنه يخاطب من؟ يخاطب رب العزة والجلال سبحانه، فخاطبه بلفظ يفيد التفخيم والتعظيم.
وقيل: وجه الجمع هنا للتكرار، جاء ضمير الجمع لإرادة التكرار، وكأنه قال: رب ارجعني ارجعني ارجعني، هذا معنى ?رَبِّ ارْجِعُونِ?.
(17/6)
---(4/140)
وقيل: الجمع هنا جاء لأنه يخاطب أو يطلب ذلك من الملائكة وأن قوله ?رَبِّ? توسل إلى الله -عز وجل- وطلب منه، وأما قوله: ?ارْجِعُونِ? فهو بهذا يخاطب الملائكة؛ لأنه قد عاين شيئًا من ذلك وعلم أن ملك الموت هو الذي يتولى قبض روحه وأما أعوان ملك الموت هم الذين يأخذون روحه بعد ذلك فوجه إليهم الخطاب بعدما توسل بربه: ?رَبِّ? ثم قال بعد ذلك: ?ارْجِعُونِ?.
أما قول الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: ?وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ? البرزخ: هو الحاجز والمانع، كقول الله تعالى: ?مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ?19? بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ?20?? [الرحمن: 19، 20] ويقال عن القبر برزخ؛ لأنه حاجز بين الدنيا والآخرة فهم يبقون في القبور لا يعيشون يتنعمون فيأكلون ويشربون كحال أهل الدنيا ولا هم وقفوا بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، في الدار الآخرة، وفي هذا القول تهديد لهم بعذاب القبر، وبيان أنهم لن يعودوا بعد ذلك إلى الدنيا من جديد، يعني تيئيس لهم أيضاً فيما طلبوا منه وأنهم سيلقون في القبور إلى يوم البعث والنشور.
المحور الثاني في هذا اللقاء بعنوان: لا تنفع الأنساب يوم العرض والحساب.
(17/7)
---(4/141)
وفي ذلك يقول رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-: ?فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ ?101?? لما قال الله -تبارك وتعالى- في الآية السابقة: ?وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ? ذكر مآل هذا اليوم، وما سيكون فيه وما حال الناس في هذا اليوم الذي يبعثون فيه، وهو أنه إذا نفخ في الصور، والصور قرن ينفخ فيه، والظاهر -والله أعلم- أن المراد بالنفخ في الصور في هذه الآية هو النفخة الثانية، وهي التي يقوم الناس بها من القبور ?فإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ? يعني ليست هناك أنساب أي تنقطع الأنساب بين العباد، ?وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ?10?? [المعارج: 10] يعني لا يسأل قريب عن قريبه، وهو يبصره وكما قال الله -جل ذكره-: ?يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ?34? وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ?35? وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ?36? لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ?37?? [عبس: 34- 37] وقد يقول قائل: كيف تنقطع الأنساب بينهم وهي ثابتة لهم بنص القرآن؟ فالله -عز وجل- في الآية التي ذكرتها آنفاً قال: ?يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ?34?? فأثبت أخوة واقعة بينهم، فكيف نقول: بأن الأنساب كما ذكرت الآية تنقطع, والأنساب ثابتة بينهم؟ خاصة أن المعاد هو الوالد وولده، ولا شك أن هناك نسب حقيقي بين الوالد وبين ولده؟
(17/8)
---(4/142)
الجواب عن ذلك: أن المراد بقطع الأنساب قطع العلائق التي تترتب على الأنساب من التفاخر بالآباء أو طلب النفع من ورائهم أو أن يشفعوا لهم أو ما إلى ذلك، هذه كلها تنقطع إلا إذا أذن رب العزة والجلال في شيء من الشفاعة لأحد، أما سائر الأنساب من حيث ما يمكن أن يوصل أحد إلى أحد نفعاً فكل هذا سينقطع بين العباد في يوم الدين، وقوله -سبحانه وتعالى-: ?وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ? يعني لا يقع بينهم تعارف ولا تساؤل، وهذا أيضاً للنظرة الأولى، قد يتعارض مع قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ?27?? [الصافات: 27] فكيف نوفق بين قوله هنا: ?وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ? وبين ما جاءت الآية الأخرى: ?وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ?27?? [الصافات: 27]؟
والجواب عن ذلك: أن مقدار يوم القيامة كما ذكر في القرآن الكريم خمسون ألف سنة، ولا شك أنه يوم طويل وطويل وطويل، وسيحدث أو ستحدث فيه مواقف وأمور متعددة مختلفة، وأحوال متباينة وبالتالي قد يقع منهم سؤال في بعض المواطن فيتساءلون ويتعارفون وقد ينقطع عنهم السؤال في مواطن أخر، وقد ذكر العلماء أن من مواطن انقطع السؤال فيما بينهم موطن الحساب والسؤال والمرور على الصراط وما إلى ذلك، وقيل: المراد بنفي السؤال هنا في قوله: ?وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ? نفي السؤال الخاص، وهو طلب النفع من بعضهم لبعض يعني لا يسأل أي واحد منهم أخاه شيئًا من النفع لماذا؟ لأن الأمر كما قال الله: ?لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ?37?? [عبس: 37].
(17/9)
---(4/143)
ثم بين رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- شيئًا آخر يدخل تحت هذا المحور وهو ما جاء في قوله: ?فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?102? وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ?103?? يبين رب العزة والجلال في هذه الآيات أن الناس ولا شك في يوم القيامة سيفترقون إلى فريقين فريق يثقل ميزانه وفريق يخف ميزانه، من ثقلت موازينه في يوم الدين كان من المفلحين بشهادة رب العالمين، ومن خفت موازنيه ذكرت هذه الآية والآية التالية أنه سيقع عليه أربعة أمور كل أمر منها كاف في وقوع الهلاك به، والميزان الوارد في هذه الآية: ?فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ? هو ميزان حقيقي كما يعتقد ويؤمن بذلك أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة يعتقدون بما أخبر الله -تبارك وتعالى- عنه، وبما أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من أن الميزان سيقع في يوم الدين وأن أعمال العباد ستوزن على وجه الحقيقة، وقد جاءت في السنة النبوية ما يؤيد ذلك في حديث صاحب البطاقة الذي ستوضع له سجلات تصل إلى تسعة وتسعين سجلاً في كفة وتوضع لا إله إلا الله في الكفة الأخرى، فدل ذلك على أن الميزان بكفتين، وأنه ميزان حقيقي وأذكر هذا لأن بعض الفرق ألا وهي فرقة المعتزلة تقول: بأنه ليس هناك ميزان على الحقيقة وإنما الميزان الوارد في هذه الآية وفي غيرها من الآيات كناية عن عدل الله -تبارك وتعالى-، وهذا باطل وخروج عن ظاهر القرآن الكريم الذي خاطبنا به رب العزة والجلال سبحانه فالميزان حقيقي وهو كائن لا محالة وأذكر هنا بأن ميزان الله حق معلوم، كما قال الله جل ذكره، ?وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ? [الأعراف: 8] وكما قال سبحانه: ?وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئً? [الأنبياء: 47] فمن ثقلت موازينه إذن بشهادة التنزيل كان من(4/144)
(17/10)
---
الفائزين المفلحين أما من خفت موازينه فستقع عليه أمور أربع كما ذكرت هذه الآيات:
الأمر الأول: أنهم خسروا أنفسهم.
والأمر الثاني: أنهم في جهنم خالدون، يعني ناكثون مقيمون.
الأمر الثالث: ما جاء في قوله تعالى: ?تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ?.
والأمر الرابع: ?وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ?.
ومعنى: ?تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ? يعني أن النار تحرقهم حرقا شديداً، وقد جاء بيان ذلك في بعض آيات القرآن الكريم كقول الحق -تبارك وتعالى-: ?سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ?50?? [إبراهيم: 50] وكقول الحق سبحانه: ?لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ?39?? [الأنبياء: 39] أما قول الله -تبارك وتعالى- في وصفهم: ?وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ? فالكالح كما جاء عن عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه-: هو العابس ولذلك قال ابن منظور في لسان العرب: الكلوح تكشير في عبوس، إذا كشر الإنسان وعبس وجهه هذا هو الكلوح، والكالح هو الذي تقلصت شفتاه حتى بدت أسنانه، وهذا من شدة النار التي تقع على هؤلاء -أعاذنا الله وإياكم منها-.
(17/11)
---(4/145)
وإذا كان العبد أيها الأحباب, إذا ثقل ميزانه كان من المفلحين وإذا خف ميزانه وقع عليه ما ذكرته هذه الآيات ألا يدعو هذا الإنسان إلى أن يتفكر في أمر هو مهم له غاية الأهمية ألا وهو أن يعمل من الصالحات ما يثقل به ميزانه عندما يقف بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وموازين العباد لا تثقل إلا بالأعمال الصالحة وها نحن في هذه الحياة الدنيا دار العمل, دار السعي، دار الاجتهاد لأن الإنسان إذا أتى وحضره الموت سيطلب الرجعة ولكن لن يجاب إلى ما طلب، ولن يكون هناك عمل في يوم الدين وإنما العمل في دار الدنيا، فاسعى يا عبد الله لعمل صالح يقربك إلى ربك ومولاك وبه يثقل ميزانك عندما توزن أعمالك في يوم الدين.
المحور الثالث: تقريع أهل النار لكفرهم بالكبير المتعال:
(17/12)
---(4/146)
وفي هذا يقول رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-: ?أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ?105?? هذا كما ذكرت وأشرت تقريع وتبكيت لهؤلاء المخاطبين وتوبيخ لهم لأنهم كفروا بالله -تبارك وتعالى- وما كان ينبغي أن يقع منهم ذلك, لماذا؟ لأن الله -عز وجل- أنزل عليهم الكتب، وكانت آيات الله -تبارك وتعالى- تتلى عليهم، من خلال دعوة الأنبياء والمرسلين، ?أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ? ولكن هؤلاء الكافرين قابلوا آيات الله -تبارك وتعالى- بالتكذيب والإنكار وردوا دعوة الأنبياء والمرسلين, والله -عز وجل- قد أرسل في كل أمة رسولاً كي يقيم الحجة على العباد وكان كل نبي يأتي إلى قومه يدعوهم إلى رب العزة والجلال ويتلو عليهم الآيات التي أتته من عند الله -تبارك وتعالى-، يقول رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-: ?رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ? [النساء: 165] لماذا؟ ?لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ? [النساء: 165] ويقول سبحانه: ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُول? [الإسراء: 15] ويؤكد ذلك ما جاء في هذه الآية: ?أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ?.
(17/13)
---(4/147)
وهنا أود أن أبين أمرا هاما للغاية وهو مستنبط من هذه الآية والآية تدل عليه: وهو أن الحجة تقوم على العباد بالشرع لا بالعقل، وهذه مسألة مهمة؛ لأن المعتزلة ومن ذهب مذهبهم ذهبوا إلى أن الحجة تقوم على العباد بالعقل، ولكن الصواب في ذلك، أن الحجة تقوم على العباد ببعثة الأنبياء والمرسلين وإنزال الكتب من عند الله رب العالمين وأن العقل لا يترتب على ما يأتي منه ثواب أو عقاب وإنما الثواب والعقاب إنما يكون بالشرع الذي جاء به النبي المرسل من قِبَل الله -تبارك وتعالى- والحجة إذن أقيمت على العباد بالشرع ولا نعني بذلك أننا نلغي العقل بالكلية بل نقول بأن العقل نعمة من الله على عباده، وهو مناط التكليف إلا أن الله -سبحانه وتعالى- لا يحاسب الناس إلا بعد بلوغ حجة الأنبياء والمرسلين بنص التنزيل ?رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ? [النساء: 165] ولذلك هؤلاء الكافرين وهم يعذبون في نار جهنم يعترفون أنهم قصروا وكذبوا بالآيات التي جاءت من عند الله -تبارك وتعالى- الآية التي معنا يقول الله فيها: ?أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ?105?? قالوا أيضاً في سورة الملك وقال الله عنهم: ?كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ?8? قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ ?9? وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ?10? فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ?11?? [الملك: 8- 11] ولذلك عقب الله -عز وجل- بالآية التي تأتي الآن بعد قوله: ?أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ?105?? عقب على ذلك(4/148)
(17/14)
---
بقولهم: ?قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ?106?? يعني حقاً جاءتنا الآيات وتُليتْ علينا الآيات ولكن غلبت علينا الشقاوة ولم نستفد من الحجة حتى أقيمت علينا الحجة وصاروا من أهل الجحيم وصاروا من أهل النار وحقت عليهم كلمة العذاب لما كفروا بالأنبياء والمرسلين وهم هنا معترفون بأن الحجة أقيمت عليهم وأن الرسل بلغتهم ولكن الشقاوة بلغت عليهم فصُدُّوا عن الإيمان بالأنبياء والمرسلين ?قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا? واعترفوا بالضلال ?وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ? ثم بعد ذلك يطلبون من رب العزة والجلال أن يعودوا بعد ذلك إلى الدنيا مرة أخرى، وأن يخرجوا من النار حتى يعملوا الأعمال الصالحة فماذا يكون جواب الله عليهم؟
قال الله -عز وجل- في طلبهم: ?رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ?107? قَالَ اخْسَؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ?108?? بعد أن أقر هؤلاء بضلالهم وأن الشقاوة غلبت عليهم، عندئذ سيدخلون النار وبئس القرار، وبالتالي سيطلبون الرجعة والخروج من النار حتى يستدكوا ما فات ويذكرون: أخرجنا منها يا رب فإن عدنا إلى ما وقع منا من كفر وشرك وظلم وبغي وعدوان وما إلى ذلك ?فَإِنَّا ظَالِمُونَ? ولكن ماذا سيكون جواب الله على هؤلاء؟
(17/15)
---(4/149)
جواب في غاية من الشدة ?اخْسَؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ? ?اخْسَؤوا فِيهَ? يعني ابقوا فيها أذلاء صاغرين؛ لأن هذه الكلمة وهي ?اخْسَؤوا? لا تقال إلا للحقير الذليل ?اخْسَؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ? يعني لا تطلبوا هذا الطلب، وقد جاء في القرآن الكريم أن هؤلاء يطلبون الخروج من النار في مواطن متعددة ومرات مختلفة وقد ذكر القرآن الكريم ذلك عنهم وهذا كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى-: ?يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ?37?? [المائدة: 37] يعني عذاب دائم، وكقول الله تعالى: ?كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ? [البقرة: 167] بعدها: ?وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ? [البقرة: 167] وقد جاءت أجوبة متعددة على هؤلاء عندما يطلبون الخروج من النار, فالآية التي معنا لما قالوا: ?رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ?107?? كان جواب الله عليهم: ?اخْسَؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ? وفي سورة الزخرف لما يطلبون من مالك الخروج من النار فيكون جواب الله عليهم: ?إِنَّكُم مَّاكِثُونَ? [الزخرف: 77] يعني أنتم موجودون ومقيمون وهذا يكون لمن كفر وأشرك برب العزة والجلال فلا يخرجون من النار أبداً، ويبقى في النار أبد الآباد، أما عصاة أهل القبلة الذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى- وحققوا التوحيد له -سبحانه وتعالى- وآمنوا بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فهم وإن دخلوا النار بذنوبهم وبمعاصيهم فإنهم لا يخلدون فيها أبد الآباد وإنما يخرجون منها بشفاعة رب العالمين وبشفاعة الشافعين كما جاءت النصوص الكثيرة المتواترة في هذا المعنى، ثم بعد ذلك يذكر لنا الإمام حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- أن بين طلب هؤلاء الناس والجواب عليهم، بين طلبهم الخروج والجواب عليهم من الله -تبارك وتعالى- ألف(4/150)
(17/16)
---
سنة وقد ذكر ذلك هذا ابن عباس والعلم عند الله -تبارك وتعالى-, ثم يقول رب العزة والجلال سبحانه: ?إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?109? فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ?110?? هذه الآية يبين فيها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- سبباً من أسباب بقاء هؤلاء في النار، والعلة المؤدية إلى ذلك، وافتتاح الآية بقوله تعالى: ?إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي? وإن هنا المكسورة المشددة ذكر علماء الأصول أنها تأتي للتعليل فكأن الله -عز وجل- يقول العلة في عدم طلب جواب هؤلاء وعدم التخفيف عنهم ما وقع منهم بالنسبة لأهل الإيمان, ثم وصف الله -عز وجل- قبل أن يذكر ما وقع من الكافرين وصف هؤلاء المؤمنين بصفات جميلة كريمة ?إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي? قول الحق -تبارك وتعالى- هنا ?عِبَادِي? تكريم وتشريف لأهل الإيمان أيما تشريف وأيما تكريم, يكفي يا أيها المؤمن يا من سجدت وخضعت لرب العزة والجلال أن تضاف إلى الله -عز وجل- إضافة تكريم وتشريف لا تعني الإضافة هنا إضافة حلولية أن ذات الخالق حلت في المخلوق أو اتحد المخلوق بالخالق حاشا وكلا، وإنما الإضافة هنا للتكريم والتشريف كقوله تعالى: ?وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ? [الفرقان: 63] أضافهم إلى نفسه وقد أذكر أنني قد أشرت إلى ذلك فيما مضى ولكن الإضافة هنا التي أود أن أشير إليها أن فيها تكريماً وتشريفاً لأهل الإيمان حينما يضيفهم الله -عز وجل- من فوق عرشه إلى نفسه فيقول: ?إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي? ثم بعد ذلك يذكر أنهم كانوا يذلون لله، ويخضعون لله ويطلبون غفران الله، بعد إيمانهم. وإيمانهم اقتضى منهم أن يعملوا الصالحات ?إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا(4/151)
فَاغْفِرْ لَنَا
(17/17)
---
وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?109?? ولكن بأي شيء واجه أهل الكفر أهل الإيمان الذين خضعوا للرحمن فرحمهم رب العزة والجلال؟
واجهوهم بالتكذيب والسخرية والضحك حينما قال الله عنهم: ?فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ?110?? يعني أن هؤلاء الكافرين كانوا يسخرون من أهل الإيمان لدرجة أن هذه السخرية شغلتهم عن الذكر الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، تأملوا: ?فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي? يعني سفاهة عقول هؤلاء بلغت بهم إلى هذه الدرجة إلى أنهم كانوا يسخرون ويستهزئون بأهل الإيمان وشغلوا أنفسهم بهذا الأمر حتى شغلوا عن الذكر الذي جاءهم من عند الله -تبارك وتعالى-.
وقال الله بعد ذلك عنهم: ?وَكُنْتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ? وقد ذكر الله -عز وجل- عن أهل الكفر في آيات آخر كقوله سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ?29? وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ?30?? [المطففين: 29، 30] يعني يلمزونهم ويغمزون فيهم ويؤذونهم ويتحدثون عنهم ويحاولون أن يُضحكوا الناسَ عليهم، وهذا إن وقع في الدنيا فالأمر في الآخرة على عكس ما يفعله أهل الكفر في الدنيا؛ ولذلك قال رب العزة والجلال سبحانه بعد هذه الآية السابقة قال: ?إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ?111?? ذكر الله -عز وجل- في هذه الآية حسن مآل أهل الإيمان الذين آمنوا بالله ويقولون: ?رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ?.
(17/18)
---(4/152)
يذكر حسن مآل هؤلاء وأنهم فائزون وأنهم في الجنة؛ لأن من يدخل الجنة فقد فاز، يذكر مآل هؤلاء الناس المؤمنين الذين سخر منهم الكافرون، ولكن ما مآل الكافرين إذن؟ إذا كان هذا هو مآل وحسن مآل أهل الإيمان هو الفوز بالجنان، ?إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا? لأنهم صبروا على سخرية وأذى هؤلاء الكافرين وصبروا لامتثال أوامر الله -تبارك وتعالى-، وصبروا بالانتهاء وترك المنهيات التي نهى عنها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، جزاهم الله -عز وجل- بناءً على ذلك الجنة وفازوا بوعد الله -عز وجل- وقد بين ربنا سحجح ذلك وذكره في آيات أخر وذكر أنهم فائزون وأنهم سيضحكون على الكافرين في يوم الدين, أهل الإيمان الذين سخر منهم الكافرون في الدنيا فيضحكون هم من الكافرين في يوم الدين وفي ذلك يقول الله -عز وجل-: ?فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ?34?? [المطففين: 34] ثم يبين شيئًا من النعيم الذي يلحق بهم، وشيئا من الفوز الذي نالوه لأن الآية قالت: ?إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ?111?? ذكر ربنا -عز وجل- في هذه الآية شيئًا من هذا الفوز: ?فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ?34? عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ?35? هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ?36?? [المطففين: 34- 36].
(17/19)
---(4/153)
ثم يقول رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-: ?قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ?112? قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ?113?? «كم» هنا استفهامية والغرض من هذا السؤال أو الاستفهام هو تبكيت وتقريع هؤلاء الناس، وبيان أنهم سفهاء العقول، لماذا؟ لأنهم قضوا ومضوا في هذه الحياة الدنيا مدة قصيرة جداً، ولكنهم ما صبروا فيها على عبادة الله -تبارك وتعالى-، فالآية تدخل عليهم الحسرة والندامة، مدة الدنيا قصيرة وأنتم تعلمون بها ولكنكم ستنالون العذاب الشديد بعدم إيمانكم بالله -عز وجل- وصبركم على طاعة الله -تبارك وتعالى- في مدة يسيرة قصيرة والله -عز وجل- يستقي منهم ليبكتهم كما ذكرت وليقرعهم على هذا: ?كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ?112?? جوابهم: ?قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ? يعني مدة قليلة، مدة محدودة للغاية، ولكن هنا مسألة:
هل تتعارض هذه الآية بهذا النص ?قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ? مع قول الله -تبارك وتعالى- في آية أخرى: ?يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا ?103?? [طه: 103] أو بين قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ? [الروم: 55]؟
(17/20)
---(4/154)
الجواب -والله أعلم-: أن بعضهم سيقول: لبثنا يوماً أو بعض يوم، والبعض الآخر منهم سيقول: لبثنا عشراً, وبعض آخر منهم سيقول: لبثنا ساعة، ومما يدل على أن هذا الجواب هو الصحيح وهو مستنبط من كتاب الله -تبارك وتعالى-، أن الله -عز وجل- بيَّن أن أقواهم إدراكاً وأن أكثرهم حجة وأن أمثلهم طريقة سيقولون كما قال الله عنهم: ?نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا ?104?? [طه: 104] فدل ذلك على أن الجواب الواقع من هؤلاء مختلف, وأن الآيات في هذه الحالة لا يتعارض شيء منها مع بعضها البعض, ?قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ?112? قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ?113??، يعني اسأل الحاسبين الذين يمكن أن يعوا وأن يعرفوا الحساب، وقيل: المراد ?فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ? يعني: اسأل الملائكة؛ لأن الملائكة يعرفون وعندهم سجلات وكانوا يكتبون عليهم ما يفعلون، والله -سبحانه وتعالى- أيد قولهم هنا بأن المدة التي مكثوا فيها في الدنيا مدة قصيرة للغاية، مدة قصيرة جداً، ولذلك بعد سؤال الله لهم سؤال تبكيت وتقريع: ?كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ?112? قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ?113? قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ?114?? يعني المدة التي لبثتموها حقاً مدة قليلة جداً قصيرة للغاية إذا قيست بما سيقع بعد ذلك وبما سيكون وفي الدار الآخرة لأنها نعيم مقيم لا ينتهي. ويقرعهم رب العزة والجلال أكثر فأكثر فيقول: ?إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ? ولكن هؤلاء مع إنزال الكتب وإرسال الرسل لا يعلمون، وهم اعترفوا بذلك على أنفسهم وقالوا: ?لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ?.
(17/21)
---(4/155)
المحور الرابع: الله تعالى منزه عن العبث في خلقه:
-سبحانه وتعالى- ويندرج تحت هذا العنصر قول الحق -تبارك وتعالى-: ?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ?115??، الاستفهام أولاً في قوله تعالى: ?أَفَحَسِبْتُمْ? للإنكار والحسبان معناه الظن يعني أن الله -سبحانه وتعالى- يقول لهؤلاء منكراً عليهم ما ذهبوا إليه: أفظننتم أننا خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون. يعني أن الله -سبحانه وتعالى- خلق خلقه هكذا سدىً وهملاً دون تكليف؟ ألا يعلم هؤلاء أن الله -عز وجل- ما خلق خلقه إلا ليعبدوه وليؤدوا الحق الواجب عليهم تجاه رب العزة والجلال الخالق البارئ المصور -سبحانه وتعالى جل في علاه- ?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ?115? فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ?116?? فتعالى: يعني تعاظم، وتقدس -سبحانه وتعالى- الملك الحق الذي لا إله إلا هو يتعاظم رب العزة والجلال سبحانه، لما هو عليه من صفات الجلال والكمال أن يخلق خلقه عبثاً، وأني يتركهم سدى وأن لا يقع منه التكليف على هؤلاء الناس والله -عز وجل- قد نفى في كتابه, نفى عن نفسه أن يكون قد خلق الخلق من باب اللعب والباطل: ?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ?38? مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ?39?? [الدخان: 38، 39] أفحسبتم أيها المخاطبون أن الله -عز وجل- خلقكم هملاً دون تكليف, خلقكم للعب والهزل والفوضى وإتيان ما تحبون وما تريدون؟!! كلا ثم كلا، لأنكم سترجعون وستعودون إلى الله -عز وجل- وستكلفون, والله -عز وجل- يؤكد أنه لم يخلق خلقه عبثاً ببيان شيء من صفات الجلال والكمال الذي نصت عليها هذه الآية في قوله: ?فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ(4/156)
(17/22)
---
الْحَقُّ? وصف نفسه أولاً بالملك، والملك يدل على أنه يملك كل شيء، وبالتالي الملك يفعل ما يشاء -سبحانه وتعالى- وما خلق خلقه إلا للتكليف إذن، وأنه يعلم ما هم عليه، فلم لا يكلفهم؟ ولم لا يعبدونه؟ وهو الملك وهم عبيده، ثم بعد ذلك يفرد نفسه بالوحدانية: ?لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ? ثم بعد ذلك ينص على أمر عظيم ألا وهو أنه ?رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ? ووصف العرش بالكرم هنا لبيان عظمته وكبر شأنه، عرش الله -تبارك وتعالى- الذي هو سقف المخلوقات عرش كبير عظيم؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- استوى عليه استواءً يليق بجلاله وكماله، ومن كان كذلك لا يمكن أن يترك خلقه عبساً بحال من الأحوال، بل لابد أن يقع التكليف لهم.
بقي هنا أن أشير حول هذه الآية إلى أمر ذكر فيه الحافظ ابن كثير -رحمه الله تبارك وتعالى- بعض الروايات التي ذكرها عن ابن أبي حاتم وهي رواية منها: (أن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- مر على مريض فقرأ في أذنه هذه الآية فبرء) وهذه في الحقيقة رواية ضعيفة، ورواها عبد الله بن حنش عن عبد الله بن مسعود وهو لم يلقَ عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- فالرواية منقطعة، وأيضاً ذكر حديثاً آخر نص جمع من أهل العلم على أنه حديث موضوع رواه الضحاك عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، ولم يصح مما ورد في مثل ذلك شيء يمكن أن يعتمد عليه في ذلك.
إذن: ?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ?115? فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ?116??.
المحور الخامس: توعد الله من أشرك به، وعبد معه سواه:
(17/23)
---(4/157)
الله -سبحانه وتعالى- توعد من أشرك به وعبد غير الله -تبارك وتعالى- وفي ذلك يقول رب العزة والجلال سبحانه: ?وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ?117??، لما بين الله -تبارك وتعالى- أنه هو الملك وأنه لا إله إلا هو، وأنه رب العرش الكريم، أتبع ذلك بذكر أمر عظيم وخطير واقع على من أشرك بالله -تبارك وتعالى-، وعلى من عبد مع الله سواه وعلى من أدخل على الحق الواحد المبين عبودية غيره، ?وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ? توعده بقوله: ?فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ? كلمة ?فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ? هذه كلمة تهديد شديد، ووعيد كبير، لماذا؟ لأنها تبين أنه أتى بجرم عظيم، لا يستطيع أحد أن يحاسبه عليه إلا رب العزة والجلال سبحانه، فحسابه عند ربه لماذا؟ لأنه اتخذ لله الأنداد، واتخذ لله الوسائط والشفعاء، والله -عز وجل- قد حذر من ذلك فقال: ?وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ?51?? [الذاريات: 51] وقال سبحانه: ?لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ?22?? [الإسراء: 22] والشرك في عبودية الله -تبارك وتعالى- أو اتخاذ الوسائط والأنداد لله -عز وجل- من العباد أمر أخطر ما وقع من العباد على ظهر هذه الأرض، فالأمر الخطير أو الجريمة الكبرى أو المعصية العظمى التي وقع فيها كثير من الناس: هو الشرك بالله -تبارك وتعالى-، لماذا؟ لأن المشرك أخذ حق الله -عز وجل- وأعطاه لمن لا يستحق من المخلوقين من العبيد الذين خلقهم ربهم -سبحانه وتعالى- وكيف يليق بعبد يتوجه إلى غير الله أو يدعو غير الله أو يطلب من غير الله -تبارك وتعالى-؟ ولذلك قطع الله الفلاح عن هؤلاء المشركين، فقال: ?إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?(4/158)
(17/24)
---
الذين دعوا غير الله -عز وجل- واتخذوا لله -سبحانه وتعالى- الوسائط والأنداد.
وهنا لفته في هذه الآية أود أن أشير إليها: ?وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ? قال بعض أهل العلم: هذه الجملة معترضة، ومفهوم المخالفة هنا غير مراد، يعني لا يأتي إنسان فيقول: لو أن إنساناً عبد مع الله غيره ببرهان قام عنده، فلا لوم عليه.
نقول له: لا.. لأنه يستحيل أن يكون هناك برهان يؤدي بالعبد إلى أن يعبد غير الله -تبارك وتعالى-، لأن الأدلة القطعية المتواترة تبين إفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبودية وتنفي عن أن يكون مع المشرك حجة أو برهان على ما يقوم به من عبادة غير الله -تبارك وتعالى- والله -عز وجل- يقول: ?وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانً? [الحج: 71] يعني ما لم ينزل به حجة، ولم يأتي لهم دليل على ما يقومون به، فهذه الآية ?مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانً? [الحج: 71] هي كقوله -تبارك وتعالى-: ?لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ? يعني أنه لا حجة معه، ولا دليل ولا برهان، والشاهد من ذلك أن مفهوم المخالفة غير مراد في هذه الآية حتى لا يأتي إنسان ويقول: قد يقوم عند إنسان برهان على أن يشرك بالله -تبارك وتعالى-.
(17/25)
---(4/159)
طيب قد يقول قائل: لماذا قال هنا: ?لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ?؟ نقول: ذكر هذا لبيان الحال أو الوصف الذي عليه هؤلاء الناس، فحالهم ووصفهم أنه ليس معهم حجة وليس معهم دليل بل عبدوا غير الله -تبارك وتعالى- بلا حجة وبلا برهان وبلا دليل، بل بمخالفة الأنبياء والمرسلين والكتب التي نزلت من عند الله رب العالمين، والله -عز وجل- قد حذرنا في كثير من آيات القرآن الكريم أن نشرك به -سبحانه وتعالى- وبيَّن أن المشرك مخلد في النار ولن يدخل الجنة بحال من الأحوال، ?قَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ? [المائدة: 73] ثم يبين رب العزة والجلال أيضاً: ?إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ?72?? [المائدة: 72] فاحذروا يا أيها المخاطبون بآيات الله -تبارك وتعالى- أن تشركوا بالله -عز وجل- لأن الفلاح والفوز والنجاح منقطع عن المشركين ?وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ?117??.
(17/26)
---(4/160)
ثم تختم هذه السورة الكريمة العظيمة بقول جميل وحسن وكريم وهو: ?وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?118??، هذا إرشاد من الله -تبارك وتعالى- إلى هذا الدعاء لأن ?وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ? أمر الله به النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والأمة يعني أمة النبي -عليه الصلاة والسلام- تقتدي به، فتقول ما يقول -عليه الصلاة والسلام- ?وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?118?? ولعل هذا الختام لهذه الآية جاء هكذا ليبين ولكي يثني على أهل الإيمان الذين سخر منهم أهل الكفر والطغيان، لماذا؟ لأن القرآن أشار إلى الدعاء الذي دعا به أهل الإيمان، الذين آمنوا يقولون ماذا: ?رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَ? فجاء القرآن الكريم يرشد الأمة كلها إلى أن يقولوا هذا الدعاء الذي ذكره أولاً عن قوم آمنوا بالله -تبارك وتعالى- وسخر منهم أهل الكفر والطغيان ?وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?118?? والغفر إذا أطلق معناه ماذا؟ معناه المحو، والستر على الذنوب والمعاصي, ستر المعاصي والذنوب حتى لا يتضرر المسلم الذي ارتكب شيئًا منها، فلا يطلع عليه أحد من الناس، وهذا من الستر الذي يكون من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بمغفرته على عباده المؤمنين، وفي الحديث (بأن الله -تبارك وتعالى- يدني عبده منه يوم القيامة ويقرره بذنوبه حتى يضع عليه ستره وكنفه -سبحانه وتعالى-) وهذا لن يكون أيها المؤمنون إلا لمن؟ إلا لأهل الإيمان، ?وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ? الله -عز وجل- يتصف بصفة الرحمة، وهي صفة جليلة عظيمة نثبتها لله -عز وجل- كما تليق بجلال الله وكماله، قد جاء في البخاري ومسلم وغيرهما بأن الله -عز وجل-: (جعل الرحمة مائة جزء) جعل الرحمة رحمته -سبحانه وتعالى- مائة جزء (أنزل في الأرض جزءًا واحداً وادخر عنده تسعة وتسعين من هذا الجزء الذي نزل إلى(4/161)
(17/27)
---
الأرض يتراحم الخلق جميعاً حتى إن الدابة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) والإنسان لو نظر إلى هذا المنظر سيجد حقاً عجباً وسيجد أيضاً صدق رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وسيظهر له أثر كبير من آثار رحمة الله -تبارك وتعالى- رب العالمين، الرحمة صفة يتصف بها ربنا -سبحانه وتعالى- على ما يليق بجلاله وكماله، وقد اشتق له منها اسمان كريمان، ألا وهما: الرحمن والرحيم، الرحمن الرحيم، اسمان من أسماء الله -تبارك وتعالى- والله -عز وجل- ذكرهما في كثير من الآيات ويحسن بالعبد بناءً على هذا الإرشاد والتوجيه أن يتوسل إلى الله -عز وجل- برحمته ومغفرته وأن يدعو الله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا, ومن ذلك الرحمن الرحيم، لأن الله -تبارك وتعالى- يقول: ?وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?118?? وقوله هنا: ?وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ? يشير إلى أن بعض المخلوقين قد يرحم بعضهم بعضاً، وهذا فيما يمكن أن يقدر عليه الإنسان، يعني يصل شيء من الخير إلى إنسان ما، أو تقع رحمة تقوم بقلب إنسان على إنسان من باب الشفقة عليه وما إلى ذلك، هذا قد يقع ولكن الرحمة الكاملة التي تكون والرحمة الخاصة ستكون لأهل الإيمان وذلك في يوم الدين، الكافرون قد يرحمهم رب العزة والجلال في الدنيا فيسوق إليهم شيئًا من المال ويتمتعون بالهواء ويشربون الماء والله -عز وجل- لا يأخذهم ولا يعجل لهم بالذنوب والسيئات وما إلى ذلك، وهذه تعد رحمة أما في الآخرة فرحمة الله -تبارك وتعالى- خالصة لمن؟ خالصة لأهل الإيمان، وهو -سبحانه وتعالى- أرحم الراحمين.
ولذلك ختام هذه الآية جميل وجميل وجميل، ولذلك يحسن بنا يا أهل الإيمان أن ندعو الله -تبارك وتعالى- بهذا التوجيه الذي جاءنا في ختام هذه الآية: ?وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?118??.
(17/28)
---(4/162)
بقيت مسألة هنا في نهاية هذه السورة أود أن أشير إليها كي أُسعد أهل الإيمان، وأن أقول لهم بأن الله -عز وجل- بشركم بالفلاح والفوز في أول هذه السورة وختمها بالرحمة والمغفرة والرضوان: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1?? [المؤمنون: 1] وختمها بقوله: ?وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?118?? في الوقت الذي أشار إلى عدم فلاح الكافرين، في الآية السابقة على هذه الآية: ?وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ? قال تعالى: ?وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ?117?? وشتان بين قوله: ?إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ? وبين قوله في أول السورة: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ?1?? [المؤمنون: 1] وبين توجيهه لأهل الإيمان وعلى رأسهم رسول الرحمن -صلوات الله وسلامه عليه- أن يقولوا: ?وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?118??، وهذا ختام هذه السورة الكريمة الجميلة، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب ونسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا من الذين يقولون ويرددون وأن ينالون الغفران من رب العالمين: ?وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?118?? وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إجابة الحلقة الماضية:
وكان السؤال الأول: ما حكم من أقر بربوبية الله تعالى, ولكنه اتخذ الوسائط والأنداد لله, أيد ما تقول بالدليل؟
وكانت الإجابة:
(17/29)
---(4/163)
أقر سبحانه وتعالى بوحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، ولا يستتم بأن يقر العبد بتوحيد الربوبية فقط، فكل العبيد مقرون بذلك حتى المشركين العابدين مع الله غيره، بل لابد من الإقرار بتوحيد الألوهية بأن يعبد الله -عز وجل- وحده لا شريك له، وإن اتخذ مع الله وسائط وأنداداً فقد أشرك مع الله وعبد من لا يخلق ولا يملك له شيئًا، ولا يستبد له بشيء -لا أدري ما معنى ولا يستبد له بشيء- واعتقد أنها تقربه، والدليل قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ?21? الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?22? وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ?23?? [البقرة: 21، 23].
هو في الحقيقة فحوى الجواب صحيح ولو ذكر المجيب أن القرآن الكريم يتخذ من الحديث عن ربوبية الله -تبارك وتعالى- على خلقه مدخلاً ودليلاً إلى تثبيت توحيد الألوهية ويجب أن نركز على هذا المعنى؛ لأنه كما ذكر وأشار وقلت ذلك فيما مضى: المشركون والكفار يقرون بربوبية الله -تبارك وتعالى- ولكن مع إقرارهم هذا لم يدخلوا في الإسلام وقاتلهم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقطع رقابهم في بدر وغيرها من الغزوات، مع أنهم يقولون رب السماوات والأرض هو الله، ولكن لما لم يعبدوا هذا الإله وصرفوا عباداتهم لغير الله -تبارك وتعالى- أشركوا بالله -عز وجل- فحاق بهم ما حاق من عذاب الله -تبارك وتعالى-.
(17/30)
---(4/164)
السؤال الثاني: قال الله تعالى: ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ? هذه الآية اشتملت على ثلاث مسائل اذكرها بالتفصيل.
وكانت الإجابة:
اشتملت الآية على ثلاث مسائل:
الأولى: لم يتخذ ولداً فالله نزه نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة، وقد قالت اليهود بأن عزير ابن الله وكذلك النصارى قالت: إن المسيح ابن الله، -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-.
الثانية: الله -سبحانه وتعالى- نفى عن نفسه التعدد فقال: ?وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ? فلو تعددت الآلهة لانفرد كل بما خلق.
الثالثة: أن الله تعالى أقام فيه الدليل والبرهان والدليل على أنه واحد ولو فرض أن هناك أكثر من إله لحصلت الفوضى.
هذا صحيح ولكن لو أن المجيب يعني تكلم عن المسألة الأخيرة وأشار إلى الدليل الوارد فيها وهو أنه -سبحانه وتعالى- أقام البرهان والدليل على أنه ليس معه إله آخر؛ لأنه لم يعلُ بعضهم على بعض وأن الخلق في اتساع وإحكام وما إلى ذلك، والله أعلم.
السؤال الثالث: أدب الله تعالى المؤمنين بآداب عظيمة ومن ذلك الإحسان إلى المسيء، تحدث عن هذا الموضوع من خلال بعض آيات القرآن الكريم.
وكانت الإجابة:
أن الله -سبحانه وتعالى- أمر بمقابلة الإساءة بالإحسان والصبر على الأذى وأن يكون العبد متمرساً على ذلك، فقال: ?ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ? [المؤمنون: 96] وقد مدح الله عباده حينما أعرضوا عن الجاهلين فقال: ?وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا? [الفرقان: 63] فهي صفة لأهل الإيمان.
نعم هذا الجواب سديد, وذكر هذه الآية والاستدلال بها جميل.
فضيلة الشيخ أستأذنكم أن أوجه إلى الإخوة والأخوات الذين يكتبون الإجابات أو يكتبون الأسئلة أن يهتموا كثيرًا بالإملاء فتأتي أخطاء إملائية قد لا أستطيع أن أقرأ السؤال بسبب كثرة الأخطاء الإملائية.
(17/31)
---(4/165)
الأخت الكريمة من السعودية تقول: هل صحيح أن آخر سورة المؤمنون فيها رقية من قوله تعالى: ?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا? إلى آخر السورة؟.
أنا أشرت إلى هذا وقلت: إنه لم يصح في هذا شيء، يعني لا يصح في هذا شيء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن ما ورد في ذلك إما ضعيف أو موضوع.
الأخت الكريمة من مصر تقول: لو سمحت يا فضيلة الشيخ في سورة البقرة: ?لَيْسَ الْبِرَّ? [البقرة: 177] الأولى، ?الْبِرَّ? هنا منصوبة ويقول: ?وَلَيْسَ الْبِرُّ? [البقرة: 198]فما الفرق بينهما؟
ويقول -تعالى-: ?إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ? [البقرة: 266] أيهما هنا احترق, الذرية أم الحديقة؟
الأخت الكريمة من مصر تقول: يا شيخ ?إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ?29?? [المطففين: 29] هل المفروض إن تنطبق هذه الآية على الكفار فقط، لأن هناك أناساً يصلون ويصومون ويحجون ولكنهم دائماً يسخرون منا, ودائماً يسخرون من الملتزمين, فهل تنطبق عليهم هذه الآية, أم هي خاصة بالكافرين فقط؟
فضيلة الشيخ الأخت الكريمة كانت تسأل عن قول الله -عز وجل-: ?لَيْسَ الْبِرَّ? في سورة البقرة؟.
يعني «ليس» كما هو معروف ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، وهذا يعني لغوياً معلوم لدى علماء اللغة، ولكن ما فيه رفع للبر هنا، وإنما هي منصوبة، ?وَلَكِنَّ الْبِرَّ? أيضاً التي بعدها أيضاً منصوبة مثلها.
أما قولها: ?فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ? ما فهمت ماذا تريد يعني؟
هي تقول: ?فَاحْتَرَقَتْ? التاء هنا تاء الضمير تعود على الإعصار أم على الحديقة؟
لا، هو طبعاً الضمير يعود إلى أقرب مذكور هذا في الغالب ولكن يمكن أن يعود إلى معنى الكلام، أو الذي يفهم من سياق الكلام، ولا حرج في هذا أبداً.
(17/32)
---(4/166)
الأخت الكريمة من مصر كانت تسأل عن قول الله -عز وجل-: ?إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ?29??، هل يدخل هذا في نهاية سورة المؤمنون؟
هذا في الحقيقية سؤال جميل وجيد للغاية، وأود أن أوجه الخطاب في هذه المسألة بالذات لمن يسخر وهو ينتسب إلى الإسلام، بشيء أو بعلم يقوم به أهل الإيمان، قد يقع هذا وفي هذه الحالة يكون قد تشبه من فعل بأفعال المشركين أو الكافرين وهو مؤمن؛ لأن الإنسان المؤمن يقع في المعاصي والسيئات ويفعل أفعال المنافقين العملية في بعض الأوقات، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً في حديثه وقال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان) وأن هذه الخصال التي يقع فيها المنافقون، ليست هي خصال أهل الإسلام ولكن بعض المسلمين يقعون في هذه الخلال، فهم تشبهوا بأفعال هؤلاء المنافقين وأتوا بشيء من أفعال المنافقين، وهم بهذا على خطر عظيم، ومعرضون لعذاب الله -تبارك وتعالى-، وإن كانوا مؤمنين، وعلى العبد إذن المؤمن ألا يقع منه شيء من ذلك بحال، على المؤمن إن كان مؤمناً حقاً، ألا يسخر بعمل أو يستهزئ أو يضحك على أحد من أهل الإيمان، وقد يؤدي هذا به إلى الكفر -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، وذلك إذا وقع منه السخرية على شيء من كتاب الله أو سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، أو استهزأ بشيء من القرآن أو استهزأ بشيء من سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فبهذه الحالة يكفر الإنسان، ولكننا نقول بأنه يجب أن تقوم عليه الحجة أولاً، وأن يدعى وأن يفهم وأن يبين له أن ما يفعله ليس من الإسلام وأنه يخرجه من دين الله -تبارك وتعالى- وأعود بعد هذه الإشارة التي ذكرتها أخيراً إلى مخاطبة أهل الإيمان مرة أخرى، ألا يضحكوا من عمل شرعي يقوم به أهل الإيمان، لا يضحكوا منه ولا يستعجبوا منه، وعليهم أن يتعلموا ما أتى في كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وآله(4/167)
(17/33)
---
وسلم- لأن البعض قد يشاهد إنساناً يفعل فعلاً لا يعرفه، ولا يعرف له حكماً في القرآن أو السنة، فيستغربه نتيجة البعد عن السنة وعدم معرفتها، وعدم الإلمام بها وما إلى ذلك، فإذا رأى شيئًا استنكره هو، فعليه أن يسأل أهل العلم قبل أن يضحك على الفاعلين المتمسكين بكتاب الله وهدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأشكر الحقيقة السائلة على هذا التوجيه.
الأخت الكريمة من مصر تقول: لو سمحت كنت أريد أن أسأل سؤال: زيادة توضيح معنى الآية: ?رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا? [المؤمنين: 106] فهل هذا كما يحتج المشركون أن الله قد سبق عليهم القول بأنهم من الأشقياء, أم لها معنى آخر؟.
(17/34)
---(4/168)
في الحقيقة هنا اعتراف، هذه الآية فيها اعتراف من المشركين بأن الشقوة وحقت عليهم كلمة العذاب، وهذا يفيد اعترافهم بهذا وأن الله -سبحانه- يفيد أيضاً أن الله -عز وجل- سبق في علمه ما كان، ولكن هم لم يحتجوا بهذا، بمثل هذه الآية لم يحتجوا على قدر الله -تبارك وتعالى- السابق، ولكنهم يقرون بما وقعوا فيه، وما كان منهم، وما حدث لهم بقولهم: ?رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ?106?? [المؤمنين: 106] وهم كانوا على شقاء وأتوا به والله -عز وجل- بين لهم الطريق ببعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهداهم من الزيغ إلى طريق الخير ويعني بين لهم طريق الخير وطريق الشر، ولكنهم آثروا الطريق وسلكوا الطريق الذي يغضب رب العزة والجلال, وعلم الله السابق لم يدفعهم غلى أن يسلكوا هذا الطريق أو أن يقعوا في هذا الأمر، وهنا كلمة أود أن أقولها للمستمعين والمشاهدين، وهي أن: القدر حق كما أخبر بذلك القرآن، وكما جاء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأيضاً يجب أن نعلم أن القدر كما قال عبد الله بن عباس: «سر الله في خلقه»، وهذا يدعونا إلى ألا نخوض فيه وإلى أن نسلم بكل ما جاء فيه، وأن نوقن ونعلم أن علم الله السابق وأن قدر الله -تبارك وتعالى- وكتابته الأعمال قبل خلقها وإيجادها ليس فيها حجة للعباد على الله -سبحانه وتعالى- بل الله -عز وجل- له الحجة البالغة على العباد، لأن الإنسان من أين له ومن أين علم أن الله كتب عليه هذا أو كتب عليه هذا؟ بل كما ذكرت آنفا علم الله السابق يدل ويشير إلى عظمة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، فلأنه كبير ولأنه عظيم يعلم ما سيفعله الخلق قبل أن يكونوا.
(17/35)
---(4/169)
في الحقيقة إن كان عندي وقت أشير إلى، ولله المثل الأعلى إلى مسألة تحدث فيما بين الناس لأقربها إليهم ليس إلا وقد ذكرها لنا بعض مشايخنا -رحمة الله تعالى عليهم- من باب تقريب مسألة القدر، وهي أن علم الله -عز وجل- الذي سبق لم يُلجئ العبد إلى أن يفعل ما يفعل، قالوا: لو أنك جالس في البيت بمفردك وجاءك ضيف وأردت أن تكرمه وليس عندك شيء تقدمه له وعندك خادم يخدمك، فأعطيت هذا الخادم شيئًا من المال وطلبت منه أن يشتري لك مثلاً طعاماً تضيف به الضيف الذي أتاك، أخذ منك المال وغاب عنك وذهب وتأخر كثيرًا، وأنت جالس مع الضيف لم تُقدِّم له شيئًا شعرت بالحرج، فقلت له: للضيف: أنا أرسلت الخادم الذي عندي كي يحضر لنا طعاماً ولكنه تأخر وأنا أرى وأعتقد أنه ذهب ولعب مع أقرانه في السن وضاع من المال الذي أعطيته إياه وهو الآن يخشى بناءً على ذلك أن يأتي وبعد انتهاء حديثك أتى هذا الخادم ولم يأتِ بشيء، سألته أين كنت؟ فاعترف بما فعل وأن المال قد ضاع منه وفقد ولم يأتِ بشيء، فهل قول صاحب البيت للضيف بأن هذا الخادم فعل وفعل وفعل، هو الذي دفع الخادم إلى أن يفعل ويفعل؟ أم قال صاحب البيت هذا لعلمه بالخادم، ولما هو عليه؟ فالله -تبارك وتعالى- وله المثل الأعلى يعلم أذلاً ما سيكون عليه العبد وهذا كما ذكرت يبين شيئًا من عظمة الله -سبحانه وتعالى- وأنه الكبير المتعال، وأنه يعلم ما تخفي النفوس وما هو كائن في الصدور، فهو علم أذلاً -سبحانه وتعالى- ما سيفعله العباد ولما خلقهم ظهر معلوم الله -سبحانه وتعالى- فيهم، فهم عملوا وفق ما علم الله -عز وجل-، وطابق عملهم ما سبق في علم الله ولم يلجئهم علم الله -عز وجل- السابق، وإن لم يخرجوا عن أن يفعلوا وما فعلوا، وأيضاً أخيرا أقول: يجب علينا ألا نتنازع في القدر وألا نخوض فيه، بل نسلم له ونشرح صدورنا له؛ لأنه سر الله في خلقه كما ذكر حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-.
(17/36)
---(4/170)
الأخ الكريم من السعودية يقول: في الحقيقة ليس سؤال وإن كنت أستحيي أن أتكلم فيه ولكنه الحق وهو الغيرة على الدين ورغبة في إنقاذ إخواننا المسلمين في قول الله -تبارك وتعالى-: ?إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ?29?? [المطففين: 29] كان العقاب شديداً وأن النتيجة أنهم يمكن أن يخرجوا من ملة الإسلام وأن يدخلوا النار، وأن يخلدوا فيها، فما بال من يسب الدين، ويتكلم فيه بسهولة فأرجو توجيه تحذير جديد إلى إخواننا من كانوا على ملة الإسلام ويقولون بهذا القول وهم لا يدرون أنه يمكن أن يخرجوا من دين الله، ويخلدوا في النار، حتى ينجيهم الله -تبارك وتعالى- من النار ويكون لكم شيخنا الكريم الأجر وأن يدخلهم الجنة بفضل علمكم وتوجيهكم وجزاكم الله خيراً؟
الأخ الكريم من مصر يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ?ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ?96?? [المؤمنون: 96] هل هذه الآية تنطبق على أساءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل خلق الله؟ وما هو دور العلماء وأولوا الأمر في ذلك؟ وهل مقاطعة منتجاتهم تكفي؟ وجزاكم الله خير.
فضيلة الشيخ الأخ الكريم كان يسأل أو يريد بمعنى أصح توجيهاً من فضيلتكم لمن يتطاول على دين الإسلام؟
(17/37)
---(4/171)
في الحقيقة أنا أشكر الأخ الكريم جزاه الله خيراً على مداخلاته الطيبة وإثرائه دائماً لهذا اللقاء ومتابعته له، وفي الحقيقة توجيهه توجيهٌ سديد ونافع ومفيد وأنا أردد ما قاله هو من أن من يسخر بالدين أو أن يسب دين الله -تبارك وتعالى- في الحقيقة يكون قد أتى بأمر عظيم، ولا يليق هذا بمسلم بحال من الأحوال، يعني أنا لا أتصور أن مؤمناً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يسب بالدين، إلا إذا كان هو خارجاً من هذا الدين، كيف يطعن على الدين الذي جاءه من عند الله ويزعم أنه قد سلم أمره فيه لله -تبارك وتعالى-؟! إذا كان الإنسان يمكن أن يقول كلمة واحدة يكفر بها، المنافقون الذين قالوا عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما قالوه، ويستحيي الإنسان أن يردده، وهم في غزوة تبوك، كفروا بذلك، ولما قالوا كلمات نخفف به عن أنفسنا عناء الطريق وصعوبة السفر، نزل قول الله -تبارك وتعالى- مبكتاً لهم: ?قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ? [التوبة: 65] فإذا كانوا هؤلاء الناس قالوا كلمات أقل من هذا فكيف بمن يسب دين الله -تبارك وتعالى-.
يا أهل الإيمان احذروا هذا الأمر غاية الحذر وإلا من فعل يكون بهذا قد وقع في كما ذكرت في جرم عظيم، فاحذر السخرية من أهل الإيمان أو الضحك مما يفعله أهل الإيمان أو أن يأتي الإنسان بمنكر أشد من ذلك وأعظم، وهو ما أشار إليه الأخ الكريم الآن من سب دين الله -تبارك وتعالى-.
الأخ الكريم كان يسأل عن قول الله -عز وجل-: ?ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ? [المؤمنون: 96] ويقول: ما هو دور العلماء في نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
(17/38)
---(4/172)
في الحقيقة ?ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ? [المؤمنون: 96] هذا خطاب نتعامل به مع من يتعامل معنا بالإحسان من أهل الكفار، فندفعهم بإحسان ونتعامل به مع أهل الإيمان الذين يخطئون في مسائل أو يظلمك في أمر أو يجهل عليك في مسألة أو ما إلى ذلك، وقد أشرت في اللقاء السابق إلى أن هذا لا يعني أن يكون المؤمن ضعيفاً أو ذليلاً أو يسكت عن إجرام هؤلاء المجرمين، بل عليه أن يقابلهم بشدة، وأن يقسوا عليهم فيما يتقدمون به من إيذاء لدين الله -عز وجل- أو سب لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، والله -تبارك وتعالى- قد وصف أهل الإيمان وعلى رأسهم النبي -عليه الصلاة والسلام- وأمره في قوله: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ? [التحريم: 9] فأهل الكفر والشقاق والنفاق الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا علينا أن نواجههم بشدة وألا نكف عنهم بحال من الأحوال أو ألا نسكت عليهم أو على ضلالهم أو على فسادهم، فما بالنا إذن إذا كان هذا التطاول على رسول الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه- وهو في الحقيقة وإن كان أمرا يؤذي كل مسلم إلا أن ملامحه في عزة الإسلام قادمة، وأن الدائرة على هؤلاء المجرمين، وأن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وإن أمهلهم إلا أنه -سبحانه وتعالى- لا يهملهم، وأنه -عز وجل- سينتصر لدينه، ولكتابه ولنبيه ومصطفاه -صلوات الله وسلامه عليه-.
الأخ الكريم من الكويت يقول: ذكرتم -حفظكم الله- أن الحجة تقام بالشرع لا بالعقل، فماذا عن أهل الفترة الذين لم يأتهم رسول ومن أشرك منهم هل يحاسب على شرع من سبقه من الأمم أم ماذا؟
(17/39)
---(4/173)
هذا في الحقيقة أيضاً سؤال مفيد جداً، أولاً: الله -عز وجل- أخبرنا بأنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، ?وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ? [فاطر: 24] وأهل الفطرة يأتون كيف؟ إذا انقطعت معالم هذه الرسالة ولم يبقَ أحد يردد الله الله أو يدعو إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-، ففي هذه الحالة الرسالة كانت موجودة ولكن طمست آثارها فمن لم تبلغه دعوة الرسول المرسل إليه في زمنه ووقته لأي أمر من الأمور, هذا كما أخرج الإمام البيهقي وذكر حديثاً فيه وأيضاً رواه غيره من أهل السنن، وذكره البيهقي في الاعتقاد وهو في مسند الإمام أحمد (أن الله -عز وجل- يرسل رسولاً إلى من لم تبلغه رسالة النبي في عرصات يوم القيامة)، ولذلك علماء الاعتقاد يقولون: بأن التكليف ينقطع في دار الدنيا إلا التكليف لبعض الفئات الذين ذكرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه: (وهو أربعة يدلون على الله بحجة يوم القيامة منهم رجل يقول: يا رب ما جاءني منك نذير أو رسول، ففي هذه الحالة يرسل إليه رسول يأمره بأن يدخل النار إن أطاعه ودخلها تكون عليه برداً وبهذا يكون من المؤمنين، وإن عصاه فهو من الكافرين) والله أعلم.
فضيلة الشيخ أستأذنكم قبل أن تقوموا بإلقاء أسئلة هذه المحاضرة أن أوجه الإخوة والأخوات الذين فهموا من كلام الشيخ أن اليوم آخر حلقة فأقول: اليوم كانت آخر حلقة بالنسبة لتفسير سورة المؤمنون، وبإذن الله تعالى في الحلقة القادمة نشرع ونستأنف في بداية تفسير سورة النور -إن شاء الله تبارك وتعالى-، فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة.
(17/40)
---(4/174)
أنا في الحقيقة بالنسبة لختام سورة المؤمنون ؛ لأنه كان ختاماً موفقاً فأحببت فقط يعني وجاءت هكذا في النفس دون ترتيب مسبق أن يكون هذا الكلام وسألت هذا السؤال وطلبت من الله -عز وجل- وسررت بهذا الختام، أعني بختام هذه السورة و-إن شاء الله تعالى كما أشار الأخ عبد الرحمن جزاه الله خيراً- ستكون لنا لقاءات مع سورة النور بفضل الله -تبارك وتعالى-.
السؤال الأول: اذكر ما يدل من القرآن الكريم على أن الكافر يتمنى الرجعة وهو في النار؟ وما وجه الجمع في قوله تعالى: ?رَبِّ ارْجِعُونِ?؟
السؤال الثاني: هل الحجة قامت على العباد بالشرع أم بالعقل؟ وضح ذلك مبيناً الصواب بالدليل.
السؤال الثالث: ما المراد بالسؤال الوارد في قوله تعالى: ?كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ?؟ وكيف توفق بين قوله -تعالى- عنهم: ?لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ? وبين قوله: ?يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا ?103?? وقوله: ?مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ?؟
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(17/41)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الثامن عشر
الدرس الثامن عشر: تفسير سورة النور
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين والمشاهدين والمشاهدات ونسأل الله -عز وجل- للجميع التوفيق والسداد وسنبدأ -إن شاء الله تعالى- في هذا اللقاء بمفتتح سورة النور ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أيضاً التوفيق والهداية في البداية والنهاية وسيدور الحديث -إن شاء الله تعالى- حول المحاور التالية:
المحور الأول: آيات القرآن مفسرات واضحات.
المحور الثاني: عقوبة مرتكب فاحشة الزنا في الإسلام.
المحور الثالث: تحريم قذف المحصنات.(4/175)
المحور الرابع: اللعان كما جاء في القرآن.
ولنستمع الآن إلى آيات هذا اللقاء من الأستاذ الكريم فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(18/1)
---
?سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ?1? الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ?2? الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ?3? وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ?4? إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?5? وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ?6? وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ?7? وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ?8? وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ?9? وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ?10??.
أحسنت، جزاك الله خيراً.
(18/2)
---(4/176)
إن الحمد لله لله نحمده ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا وإمامنا وحبيبنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلَّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد،
فهذه هي الحلقة الأولى من حلقات اللقاء مع سورة النور، وهي سورة مدنية ومطلعها يندرج تحت المحور الأول وهو :
المحور الأول: آيات القرآن مفسرات واضحات:
(18/3)
---(4/177)
وتبتدئ السورة بقول الله تعالى: ?سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ?1?? ?سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا? سورة خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه سورة، والتنكير في سورة للتفخيم والتعظيم، يعني هذه سورة عظيمة كريمة؛ ذلك أن هذه السورة أتت حسب ترتيب المصحف بعد سورة المؤمنون, والله -عز وجل- قد ختم هذه السورة السابقة ببيان أنه لم يخلق خلقه عبثاً ولم يدعهم هملاً أو سدًى، وجاءت هذه السورة بعد ذلك لتبين شيئًا من التكاليف الشرعية وهي بهذا تثبت ما سبق أن ذكرته السورة السابقة في ختامها وهي أن الله -عز وجل- خلق خلقه بحق، وأنه -سبحانه وتعالى- كلفهم بالتكاليف التي تصلحهم وتعود عليهم بالنفع وترجع عليهم بالخير وعلى رأس ذلك ما جاء في السورة حيث أنها اشتملت على بعض الأحكام الشرعية إلى جانب ما وصفت به رب البرية من شيء من صفات الجلال والكمال والأمر بطاعة الله وطاعة رسوله -صلوات الله وسلامه عليه- ولذلك قول الله فيها ?سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا? كلمة ?أَنْزَلْنَاهَا? أيضاً تفيد تفخيم هذه السورة وتنوه بشأن العناية بها وأهميتها ولا ينفي ذلك بلا شك ما عداها من سور القرآن الكريم، ولكنها سورة جاءت مفصلة ومبينة لكثير من الأحكام ?سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا? يعني ذكرنا فيها أحكاماً تتعلق بالحلال والحرام وفيها ذكر قذف المحصنات وفيها حكم عقوبة الزاني وما إلى ذلك، وذكر في أضعافها قصة الإفك وغير ذلك مما سيمر بنا -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
(18/4)
---(4/178)
والله -سبحانه وتعالى- يبن أنه أنزل هذه السورة وذكر فيها هذه الآيات وهي آيات بينات واضحات والسبب في ذلك أو العلة في هذا الأمر أن يتذكر الناس ويرجعون إلى الله -تبارك وتعالى-؛ لأن الناس في غمرة هذه الحياة الدنيا كثيراً ما ينسون وكثيراً ما تقع منهم الغفلة وبالتالي يحتاجون إلى هذه الآيات الواضحات البينات التي ترشدهم وتدلهم بين الحين والآخر إلى الطريق إلى الله -تبارك وتعالى-، والتذكر والذكرى والرجوع إلى الله -عز وجل- صفة جليلة من صفات أهل الإيمان والله -عز وجل- يقول في كتابه: ?وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ?55?? [الذاريات: 55].
أدخل بعد ذلك في المحور الثاني مباشرة ألا وهو:
المحور الثاني: عقوبة مرتكب فاحشة الزنا:
(18/5)
---(4/179)
وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ? هذه الآية تبين عقوبة مرتكب فاحشة الزنا، وقبل أن أتحدث عما ورد فيها من أحكام أود أن أشير حتى يعرف ويعلم من في قلبهم حقد على الإسلام والمسلمين أن هذه الأحكام التي شرعها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- إنما هي أحكام ترتفع بالبشرية إلى مصاف الكرم، والنبل، والسماحة والخلق الكريم، والفضيلة، والعيش في أمان؛ لأن أهل الكفر والشقاق دائماً يدندنون حول العقوبات في الإسلام وأن فيها وحشية وأنها لا تليق في العصر الحاضر، ولو نظروا إلى هذه العقوبات التي نزلت لتعالج الجرائم الاجتماعية الخطيرة لعلموا أن ما واجهت به هذه العقوبات هذه الجرائم لا يعد شيئًا إذا تأملنا أنها ترفع أموراً كثيرة وفساداً عظيمًا عن المجتمع الذي يكون فيه، وأقول هذا لأن الزنا فاحشة كبيرة، وقد جعله الله -عز وجل- وقرنه بالشرك به، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وكفى بهذا تنفيراً منه، وبياناً لجرمه يقول سبحانه: ?وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ? [الفرقان: 68] ويقول -سبحانه وتعالى- أيضاً في كتابه مبيناً جريمة أو عقوبة هذه الفاحشة وشدة هذه الفاحشة: ?وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ?32?? [الإسراء: 32] إلى جانب أن هذه الجريمة المنكرة فيها إزاء خطير جدًا للمجتمع ففيها هتك للأعراض وفساد للأنساب وإدخال على البيوت ما ليس منها، ويترتب على ذلك أن يرث ولد الزنا ممن ليس بأبيه ويترتب على ذلك أو ترتب وشاهد العالم كله ما نراه اليوم من أمراض فتاكة خطيرة نتيجة هذه الجريمة المنكرة، التي يجب على البشرية لو أنصفت ورجعت وتذكرت كما نبه رب العزة والجلال في أول آية في هذه السورة ?لَّعَلَّكُمْ
(18/6)(4/180)
---
تَذَكَّرُونَ? لو تنبهوا لرجعوا ولوقعوا ولوضعوا من القوانين ومن الشرائع ما يجعلهم ينتهون ويكفون عن هذه الجريمة النكراء وما يؤدي إليها، فتغلق كل باب يؤدي إلى هذه الفاحشة ولا يجب بحال من الأحوال أن ييسر لها في مجتمعات المسلمين؛ لأنها جريمة منكرة، وها هو الإسلام يواجهها مواجهة قوية عنيفة كي يرتدع المرتدعون، وكي يسلم المجتمع وكي تسلم الأمة كلها، وكي يتكون جيل قائم على الطهر والعفاف، كل له أب وأم يعيش في ظلهما، وتراعه رعاية كريمة شريفة أصيلة لأنها حملته من رجل أو من نكاح صحيح.
فالشاهد من كل ذلك أن جريمة الزنا جريمة منكرة وأن العقوبة التي شرعها الإسلام هي لمواجهة هذه الفعلة الشنيعة، ثم إنهم لما يتحدثون عن الوحشية في الرجم كما سيأتي مثلاً ذكره وما إلى ذلك كتشريع, ينسون ما يهلك من أمم وأفراد وأشخاص ومجتمعات (كلمة غير مفهومة) لا تعد بجوار هذا شيئًا بحال من الأحوال فكم من أناس يقتلون وهم أبرياء، وكم من دماء سالت لقوم قالوا: ربنا الله، ثم بعد ذلك يبكي هؤلاء الناس على رجل أو رجلين أو ثلاثة أو عشرة قد قتلوا بسبب هذه الجريمة النكراء إن هذا لإصلاح المجتمع، إن هذا لردع المجرمين، وقد شرع الإسلام ما يدفع هذه الجريمة ويؤدي إلى الوقوع فيها، فالإسلام مثلاً حرم الاختلاط، وما نشاهده اليوم من اختلاط مشين سببه أو سبب واضح في ارتكاب الناس هذه الفاحشة, والإسلام لما حرم الزنا أيضاً حرم الوسائل المؤدية إليه، كالاختلاط والغناء الفاحش والخروج عرايا في الشوارع للنساء وما إلى ذلك، كل هذا سده الإسلام كي يقطع هذه الفاحشة، فلا ينبغي بحال من الأحوال ولا يجوز بحال من الأحوال أن يأتي أعداء الإسلام بعد ذلك ويطعنوا على شريعة الرب -تبارك وتعالى- في هذه الشرائع.
(18/7)
---(4/181)
يقول -سبحانه وتعالى- مبيناً عقوبة هذه الجريمة: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ? ولعلكم تلاحظون وهذا من فوائد التأمل والتدبر والنظر في القرآن الكريم أن الله -تبارك وتعالى- ابتدأ هذه الآية بقوله: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي? ابتدأ بالزانية، قيل: في هذا علة؛ لأنه لولا وجود امرأة وافقت للرجل على ارتكاب هذه الفاحشة ما وجدت هذه الجريمة، فالأصل إذن في ارتكاب هذه الفاحشة وجود امرأة تعرضت لرجل أو مالت له أو وافقت على ذلك إذا طلب منها فجاء ذكر النساء أولاً في هذه الآية؛ لأنهن مقدمات ومسهلات لهذا الأمر، بعكس آية السرقة، افتتحها رب العزة والجلال وابتدأها بقوله: ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ? [المائدة: 38]؛ لأن الرجل على السرقة أقوى، ولها أجلد ولها أطلب بخلاف الزنا كما أشارت هذه الآية.
?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ? هذا حكم الرب -تبارك وتعالى- ذكره -سبحانه وتعالى- في هذه الآية, وهذه الآية وحكم مرتكب هذه الفاحشة فيه تفصيل من كتاب ربنا وسنة نبينا -صلوات الله وسلامه عليه- بيانه كالتالي:
(18/8)
---(4/182)
?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي? إما أن يكون الواحد منهما بكراً أو أن يكون محصناً ولكل حكم، ولكل دليل من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أعني الحكم الوارد في ذلك، فإن كان بكراً فحده كما جاء في هذه الآية، أن الواحد منهما يجلد مائة جلدة، بنص القرآن الكريم، ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ? إذن الجلد هنا واقع على من؟ واقع على الزاني البكر، وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يغرب مع الجلد أيضاً لمدة عام، فيجلد مائة جلدة، ويغرب لمدة عام، واتفق جمهور الفقهاء على ذلك بما فيهم الأئمة الثلاثة عدا الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تبارك وتعالى- فقال بأن التغريب يرجع إلى الإمام، إن شاء الإمام غرب، فله ذلك، وإن شاء لم يغرب وله ذلك أيضاً، والدليل على ذلك أعني دليل الجمهور على الجلد مائة، وعلى التغريب ما جاء في الصحيحين في قصة الأعرابيين الذين أتيا إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقال أحدهما للنبي -عليه الصلاة والسلام-: (إن ابني هذا كان عكيفاً على هذا) عكيفاً يعني: أجيراً (عند هذا فزنى بامرأته، فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني الجلد وعلى أن على زوجة هذا الرجم، فقال له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ثم قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: الغنم والوليدة رد عليك) يعني المائة شاة والوليدة (رد عليك) يعني رد على الرجل، وهو والد الزاني، (وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام)، وهذا هو دليل الفقهاء أيضاً على التغريب والجلد منصوص عليه في هذه الآية، ثم قال -صلى الله عليه وآله وسلم- لرجل كان عنده: (واغدُ يا أُنيس) تتمة الحديث وفيه دليل على ما على ما سيأتي في عقوبة الزاني المحصن، (واغد يا أنيس لرجل من سليم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. فذهب إليها أنيس فاعترفت فرجمها)،(4/183)
(18/9)
---
ودل ذلك أيضاً على أن الرجم من شريعة الإسلام.
الشاهد من هذا الحديث أنه مقرر لما جاء في الآية من حيث الجلد وفيه زيادة ألا وهو التغريب لمدة عام، وهناك تفصيل في مسألة التغريب بالنسبة للرجل وهل هو واجب أو غير واجب، وبالنسبة للمرأة وهل يسقط عنها إذا لم تجد محرماً أو ستتكلف محرماً أو لا يسقط، والراجح -والله أعلم- أن الرجل يغرب وأن المرأة تغرب إن وجد محرماً لها دون أن يكلف شيئًا، فإن كلف فلا داعي لهذا التغريب -والعلم عند الله تبارك وتعالى-.
(18/10)
---(4/184)
?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ? ثم يقول رب العزة والجلال: ?وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ? هذا في الحقيقة فيه بيان لأهل الإيمان وأيضًا لمن يقومون بإجراء هذه الحدود بين الناس، وهو أنهم لا تأخذ أحد بحال من الأحوال رأفة على قوم ارتكبوا هذه الفاحشة وهذه الجريمة المنكرة؛ لأن هذا دين ولأن هذا شرف، ولذلك النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيما ثبت عنه أنه قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) فإذا بلغ الحد إلى الإمام وجب تنفيذه، وهنا لا يجب الرجوع ولا أن تأخذ الواحد رأفة في تطبيق حدود الله -سبحانه وتعالى- وشرع الله -جل ذكره- وزياة في التنكيل قال رب العزة والجلال: ?وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ? يشهد عذاب هؤلاء الناس أعني الجلد أو الرجم كما سأبين الآن، يشهد هذا العذاب طائفة من الناس، قيل: طائفة تشمل الواحد فما أكثر، والغرض من هذا أن يتم ذلك أو أن يتم هذا الأمر بمرئى ومسمع من الناس، يعني أن يتم هذا الحكم أني الجلد أو الرجم كما سأتحدث عنه الآن، أن يتم بمحضر وبمجمع وبمشاهدة علنية من الناس ؛ لأن هذا فيه توبيخ وتبكيت وردع لمن تسول له نفسه أن يأتي هذه الفاحشة، وبالتالي أيضاً نرد نحن على المجرمين الذين يطعنون على الشرائع وعلى الأحكام في الإسلام وأن فيها عنفاً وما إلى ذلك, نقول بأن الإسلام حينما حد وذكر هذه الحدود وذكر هذه الشرائع وضع لها من الضوابط ما يكفل أن يرتدع المجرم عن جريمته فالناس حينما يرون الزاني البكر وهو يجلد أو المحصن وهو يرجم أمامهم وأمام أعينهم هذا فيه دافع في أن يحجبه عن محارم الله -تبارك وتعالى- ؛ لأن إقامة الحدود كما أنها على أرجح أقوال أهل العلم: جوابر هي أيضاً زواجر بمعنى أنها تزجر من يشاهد ومن يقام عليه(4/185)
(18/11)
---
الحد وتعلم الناس أجمعين أن من سيرتكب هذه الفاحشة التي ارتكبها هذا الذي يقام عليه الحد سيكون مصيره مصير هذا الذي أقيم عليه الحد.
أرجع بعد ذلك إلى هذه الآية مرة أخرى، لورود العموم فيها ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ? أقول هذا لأن الخوارج وبعض المعتزلة أنكروا الرجم في الإسلام واستدلوا إلى العموم الوارد في هذه الآية لأن قوله سبحانه وتعالى: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا? هذا عام يشمل البكر، أعني من لم يتزوج، والمحصن وهو الذي قد تزوج في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل، ولذلك أقول بأن هذه الآية كما ذكر أهل العلم وعند التحقيق يظهر ذلك قد خصصت مرتين، عموم هذه الآية قد خصص مرتين:
المرة الأولى: خصص بالعبد والأمة، فالله -عز وجل- ذكر هنا في أن من ارتكب هذه الفاحشة وهو بكر لم يتزوج, يجلد كم جلدة؟ يجلد مائة، أما بالنسبة للعبد والحر، فيجلد خمسين جلدة فقط، ليس إلا، بدليل القرآن الكريم في قوله تعالى: ?فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ? [النساء: 25] والآية وإن كانت تتحدث عن الأمة إلا أنها تشمل العبد أيضاً؛ لأن التشطير في الحد أعني التنصيف فيه سببه الرق، ليس سببه الذكورة والأنوثة؛ لأن الذكورة والأنوثة في الحر والعبد، في الحر واحدة، فكذلك ستكون في العبد، إذن دل على أن تنصيف الحد على الأمة يكون أيضاً على العبد ويشتركان في ذلك، إذن عموم هذه الآية خصصته آية أخرى، وهو أن تنصيف الحد على الحر والعبد، فليست الآية باقية على عمومها بكل حال.
(18/12)
---(4/186)
المرة الثانية: التي خصصت فيها هذه الآية: في الزاني المحصين، والزاني المحصن تعريفه: هو من تزوج في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل, قد يقول قائل: ولماذا هو حر؟ لأن الرجم هو القتل، والقتل لا يتنصص، فإذا وقعت هذه الجريمة من عبد أو أمة، لا يقام عليهما حد القتل وإنما يقام عليهما حد الزاني البكر أيضاً.
الشاهد أن القرينة أو الأمر الثاني الذي خصص من هذه الآية ألا وهو رجم الزاني، ورجم الزاني جاءت به شريعة الإسلام وكانت آية في كتاب الله -تبارك وتعالى- وعليه أحاديث متواترة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من الصحابة، وعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قام ذات يوم وخطب الناس والحديث في الصحيحين وغيرهما، وقال: (أيها الناس إن الله -تبارك وتعالى- أنزل الكتاب وبعث محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- بالحق وكان فيما نزل علينا آية الرجم فرجم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ورجمنا بعده) قال ذلك -رضي الله تعالى عنه- ثم قال: سبب قولته هذه قد تحقق بعد, قال, لماذا قال ذلك؟ قال: (فإني أخشى أن يطول العهد بالناس أو الزمان بالناس فيقولون: لا نجد الرجم في كتاب الله، وقد رجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا) وقد جاء في أحاديث كثيرة، أن هذه الآية وهي في البخاري ومسلم وغيرها، هي ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم? وهذه الآية نسخت تلاوة وبقيت حكماً، كما نص على ذلك جمهور الفقهاء، وقد جاءت أحاديث كثيرة كما ذكرت في أصح الكتب بعد كتاب الله -تبارك وتعالى-، تؤكد ذلك وتبينه، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد رجم، في أي أمر رجم؟ وقد قلته قبل قليل؟ في قصة الأعرابيين، الذي زنى الأجير على امرأة الرجل الذي كان يعمل عنده، لما قال: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فذهب إليها فاعترفت فرجمها) فدل ذلك على أن هذا من سنة النبي -صلى(4/187)
(18/13)
---
الله عليه وآله وسلم-.
كذلك أيضاً النبي -عليه الصلاة والسلام- أقام الحد على من؟ كما ذكر الآن؟ على ماعز الغامدية وكان حد ذلك الرجم، إذن ثبت الرجم إذن بكتاب الله -تبارك وتعالى- وبالسنة القولية والعملية للنبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- وعلى هذا جمهور الإسلام ولم يخالف في هذا كما ذكرت إلا الخوارج، وبعض المعتزلة، الخوارج لأنه لما وقع منهم شيء من التكفير اكتفوا بالقرآن الكريم، تكفير بعض الصحابة اكتفوا بالقرآن الكريم؛ لأن الإنسان إذا كفر إنساناً لم يأخذ منه حديثاً، فلم يأخذوا إذن أحاديث ممن أطلقوا عليهم اسم التكفير.
أما المعتزلة فحكموا عقولهم في مثل ذلك، وردوا كثيراً من أحاديث الآحاد الواردة عن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- وتمسكوا بظاهر بعض النصوص وأنكر بعضهم الرجم في سنة الإسلام وهو شريعة بعث بها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وبالتالي استدلال من استدل على عدم الرجم بعموم هذه الآية: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ? استدلال غير صحيح لأن العموم قد خصص كما ذكرت وها نحن نحد العبد والأمة بنصف ما نحد به الرجل الحر البكر، بنص من؟ بنص كتاب الله -تبارك وتعالى-، ونرجم أيضاً بنص كتاب الله -عز وجل- فيما نسخ تلاوة وبقي حكماً، وهذا إجماع من العلماء على ذلك، وبسنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
بقيت مسألة هنا وهي هل يجمع الجلد مع الرجم لمن ثبت عليه؟ يعني هل يجلد الزاني المحصن يجلد أولاً للآية ثم يرجم بعد ذلك؟
(18/14)
---(4/188)
جمهور الفقهاء على أنه يرجم؛ لأن الرجم هو أعلى عقوبة فيتم رجم أعلى عقوبة ولم يؤثر عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه جلد من أمر برجمه، فدل ذلك على أن الرجم يتم دون أن يكون هناك جلد قبله، وفي رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله تبارك وتعالى- أنه يجمع بين الجلد والرجم للجمع بين ظاهر هذه الآية وبين سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وقد ورد هذا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- أنه جلد أولاً، ثم رجم، فلما سئل في ذلك قال: (جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-).
(18/15)
---(4/189)
ثم يقول -سبحانه وتعالى- مبيناً حكماً آخر، بعد أن ذكرت هذه الآية الحد الذي يجب أن يقع على الزاني وهو إن كان بكراً أو كان محصناً، وقد بينت من خلال القرآن الكريم وهدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، الحد في كلا الحالتين، إن كان بكراً له حد وإن كان محصناً له حد، بعد ذلك يقول سبحانه مقررا أمرا ومخبرا عن شيء: ?الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ?3?? هذا الخبر من الله -تبارك وتعالى-، يفيد أن الزاني لا ينكح إلا زانية عاصية مثله، يعني تطاوعه على الزنى، وكذلك المرأة لا يزني بها إلا رجل فاجر صاحب معصية قائم على هذا الأمر، ثم يقول سبحانه: ?وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ? قوله: ?وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ? جعل بعض العلماء يذهبون في تفسير هذه الآية مذاهب شتى، ما المراد بقوله إذن: ?وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ? هل حرم الزنا على المؤمنين؟ هذا حق، وهل حرم ذلك على المؤمنين، يعني أن يتزوج الرجل العفيف من المرأة الزانية، وعليه أقول: ما المراد بالنكاح الوارد في قوله: ?الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً?؟ هل هو الوطأ أو هو عقد الزواج؟ اختلف العلماء في ذلك بعضهم قال: بأن المراد الوطأ يعني نكاح الزاني للزاني، وقوله: ?وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ? إذن يعني حرم الزنى على المؤمنين، وبعضهم قال: وقد ذهب إلى هذا الإمام أحمد -رحمه الله تبارك وتعالى- بأن المراد بالنكاح الوارد في هذه الآية عقد النكاح، ويصبح قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ? يعني وحرم على الرجل العفيف أن يتزوج بالمرأة الزانية كما يحرم أيضاً للمرأة العفيفة أن تتزوج بالرجل الفاجر الفاسق، أخذاً من أن المراد بالنكاح الوارد في هذه الآية هو عقد(4/190)
(18/16)
---
النكاح، والجمهور على أن المراد بالنكاح الوارد في هذه الآية هو الوطأ ولكني أقول: مع هذا يجب على الإنسان أن يتخير المرأة الصالحة، يجب على الرجل أن يتخير المرأة الصالحة، كما يجب أيضاً على المرأة أن توافق على الرجل الصالح لماذا؟ لأن الرجل والمرأة كلاهما سيقومان ببناء بيت نظيف، فإذا كان الرجل صالحاً، وكانت المرأة كذلك كان هذا سبباً بعون الله -تبارك وتعالى-، في أن يكون منهما أطفال أو ذرية أو يشاركان في إمداد المجتمع بذرية تعبد الله -تبارك وتعالى- وتوحده، وتنفذ شرعه وتستجيب لأوامره، ولذلك رغب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في أن يتزوج الرجل المرأة ذات الدين لما قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ولهذا فإنني أدعو عموم المسلمين إلى تربية أولادهم أولاً، وبناتهم تربية صحيحة، سليمة، قائمة على الطهر وعلى العفاف، وعلى ألا ينظر أو ألا يشاهد الشاب أو الشابة ما حرم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، كي تكون قلوبهما سليمة ونفوسهما طيبة، ثم بعد ذلك يكون ذلك لهما عوناً على طاعة الله -تبارك وتعالى-، وإن انفلات بعض البيوت اليوم مأساة وللأسف الشديد، انفلات بعض البيوت اليوم وعدم تطبيق شريعة الله -تبارك وتعالى- فيها، وعدم الالتزام بحدود الحق -تبارك وتعالى-، يؤدي إلى منكرات فظيعة يحمل أبناؤها تبعاتها إلى اليوم، ولذلك على المجتمع الإسلامي إن أراد الفوز والفلاح والنجاح والحياة الطيبة الكريمة الهادئة العفيفة عليه أن يلاحظ هذه التشريعات الربانية وأن يطبق حدود الله -عز وجل- وأن يمنع هذه الجرائم أو مثل هذه الجرائم في مهدها حتى لا تفتك الجتمع.
آتي بعد ذلك إلى المحور الثالث وهو
المحور الثالث: تحريم قذف المحصنات:
(18/17)
---(4/191)
وفي ذلك يقول رب العزة والجلال سبحانه: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ?4??، هذه الآية فيها بيان حكم القاذف للمحصنة، والمراد بالرمي هنا، ورمي المحصنة هو الرمي بالزنا، أو القذف بالزنا، والآية وإن لم تصرح به إلا أن هناك قرائن تدل عليه، ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ? هذه أول قرينة، لأن معنى المحصنات يعني العفيفات، فمن رمى العفيفة إذن لن ينصرف رميه لها إلا بالزنا، كذلك أيضاً هناك قرينة على أن المراد هنا هو المراد بالزنا في قوله تعالى: ?ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ? لماذا؟ لأن الشهادة على الزنا تكون كم؟ تكون أربعة، فدل ذلك على أن هذا الحكم قائم على جريمة الزنا، فمن رمى إذن أعني قذف رجلاً كان أو امرأة لأن الآية تقول: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ? فذكرت المحصنات ولم تذكر الرجال، فالذي يرمي امرأة أو يرمي رجلاً أيضاً يدخل تحت هذه الآية، هذه الآية ذكرت أن قاذف المحصنة وإذا قلت أيضاً بأن الرجل يدخل في هذا، أعني قاذف المحصن، إن من فعل ذلك يجب عليه أن يأتي بأبعة شهداء، من رمى امرأة بالزنا، أو رمى رجلاً بالزنى عليه أن يأتي بأربعة شهداء، قد يقول قائل: لماذا هذا التشديد؟ نقول: هذا تأديب من القرآن الكريم وتربية للأمة على أن يعف الإنسان لسانه ولا يخوض في المحارم ولا ينزل في أعراض الناس، ولا يتكلم إلا بحق وصدق، فلو جاء ثلاثة، وشهدوا مع رجل قذف امرأة بالزنا أو قذف رجلاً بالزنا، يجلدون جميعاً حد الجلد، وقد ذكرت الآية ثلاثة أمور مترتبة على من يرمي غيره بالزنا ولم يأتِ بأربعة شهداء، ذكرت ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ?فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً?.
الأمر الثاني: ?وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدً?.(4/192)
(18/18)
---
الأمر الثالث: رميهم بالفسق: ?وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ?.
إذن ثلاثة أمور خطيرة للغاية شرعها الإسلام كي يسد الباب أو المنفذ المؤدي إلى الخوض في الأعراض ذلك أن الأعراض يجب أن تصان، والحديث فيها مهلكة للمجتمع، والناس يخوضون بالحق والباطل فيجب عليهم ألا يتكلموا إلا بالحق، إذا تكلموا أو نطقوا أو تحركوا أو ذكروا كان كل ذلك بالحق، أما بالباطل أو بالظن أو أخذ الناس على أهوائهم, كل ذلك لا يجوز في دين الإسلام خاصة فيما يتعلق بالأعراض؛ لأنها أمور تنتهك, ويخشى عليها من الضياع, وفيها إشاعة للفاحشة بين الناس وفي داخل المجتمعات, والقرآن الكريم يقف أمام كل ذلك بالمرصاد.
?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ? والمراد بالمحصنات العفيفات، فلو رمى إنسان امرأة وأقام عليها الشهود فلا شيء عليه، أما إذا رماها ولم يأتِ بشهود، فإنه يقام عليه الحد المذكور أو يترتب عليه هذه الأمور المذكورة في هذه الآية، قد يقول قائل: كل هذا في الدنيا، يعني ما ذكرته هذه الآية في رمي المحصنة العفيفة كلها أحكام تتعلق بالدنيا ?فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ? فما حكم هؤلاء في الدار الآخرة؟ حكم هؤلاء في الدار الآخرة نصت عليه هذه السورة أيضاً، يعني جاء ذكره في هذه السورة وسأتكلم عنه فيما بعد -إن شاء الله- وهو في قول الله -تبارك وتعالى-: ?إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?23?? [النور: 23] وسيأتي ذكر ذلك -إن شاء الله- ولكني أحببت أن أضمه هنا إلى العذاب الدنيوي المذكور في هذه الآية.
(18/19)
---(4/193)
ثم قال رب العزة والجلال بعد ذلك: ?إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?5?? وهنا اختلف العلماء في الاستثناء هنا على أي شيء يرجع؟ هذا الاستثناء على أي شيء يرجع؟ هل يرجع إلى الأمر الثالث والأخير فقط ألا وهو الفسق؟ فإن تاب وصلح حال القاذف بعد ذلك ارتفع عنه الفسق, أو يرجع إلى الثاني والثالث معاً، فتقبل شهادة ويرتفع عنه الفسق، أما الحد فقد أقيم ولا شك فيما مضى، اختلف العلماء في ذلك، والراجح -إن شاء الله تبارك وتعالى- أنه يرجع إلى الأمرين معاً، إلى الثاني وإلى الثالث، فتقبل شهادته ويرتفع عنه اسم الفسق، كلاهما مترتب على الآخر، فلو ارتفع عنه اسم الفسق، أصبح صالحاً صادقًا، فتقبل عندئذ شهادته، وطالما أنه تاب، ورجع إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- عن هذه الفاحشة أو عن هذه المعصية، فيتوب الله -سبحانه وتعالى- عليه؛ لأن الله وعد من تاب توبة صالحة صادقة صحيحة أن يتوب رب العزة والجلال عليه، والباب في هذا واسع ومفتوح وفضل الله -سبحانه وتعالى- عليه.
بقيت أيضاً قبل أن أنتقل من هذه الآية ومن هذا المحور بقيت مسألة وهي لو قذف الحر عبده بالزنا، هل نطبق عليه هذه الأحكام، أو ننزلها عليه, السيد قذف عبده بالزنا.
إذا قذف السيد عبده بالزنا لا يقام عليه الحد في الدنيا بدليل حديث البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (إذا قذف الرجل عبده بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إن لم يكن كما قال)، يعني هو بين حالين إن قذف الحر أو السيد عبده بالزنا، فإن كان عبده زانياً فلا شيء عليه, طبعًا في الدنيا لا يقام عليه حد، وفي الآخرة لا شيء عليه، أما إذا قذفه في الدنيا وليس كذلك يعني أن العبد بريء من هذه التهمة يقام عليه الحد في الدار الآخرة.
(18/20)
---(4/194)
وهنا لفتة جميلة ذكرها الإمام القرطبي -رحمه الله تبارك وتعالى- قال: يقام عليه الحد في الآخرة لأنه لو حُدَّ من السيد للعبد في الدنيا، لضاعت هيبة السيد لدى العبد ولانفرط هذا الأمر ولما استطاع السيد الذي يملك عبده أن يسيره، أما في الآخرة فهناك لا يكون الملك إلا لمن؟ إلا لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فيرتفع في الدار الآخرة عن هذا السيد لفظ أو صفة الملك، ويصبح الوضيع هناك والشريف في الدنيا كلهم على حد سواء ولا يتفاضلون بعد ذلك إلا بالأعمال وصدق رب العزة والجلال: ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13].
المحور الرابع: اللعان كما جاء في القرآن:
(18/21)
---(4/195)
وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ?6? وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ?7? وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ?8? وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ?9?? أنا ذكرت هذه الآيات مجتمعة لأنها كلها تتحدث تحت قضية واحدة، وهذه الآية كما ذكر الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- فيها تفريج للأزواج، يعني الزوج يرى على زوجته شيئًا أو أمراً أو يريبه منها شيئًا فماذا يفعل؟ فهذه الآية فيها تفريج للأزواج ومخرج لهم عندما يرون شيئًا مخالفاً ولا يتمكنون من الصبر عليه، وهذه الآية قررت حكم اللعان في الإسلام وذلك إذا جاء رجل وقد حدث هذا والأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والقصص النبوي الذي حصل مع الرسول -عليه الصلاة والسلام-، يفسر هذه الآيات وذلك: (أن هلال بن أمية -رضي الله تعالى عنه- قذق امرأته بشريك بن سحنان، وجاء للنبي -عليه الصلاة والسلام- وأخبره بأنه شاهد هذا الرجل على زوجته، فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام- البينة أو حد في ظهرك، فتعجب هذا الصحابي وقال يا رسول الله: -صلى الله عليه وسلم-: أيجد أحدنا الرجل على امرأته ثم يخرج يلتمس البينة فما يزيد النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا أن يقول له: البينة أو حد في ظهرك) يعني إن لم تأتِ بينة سيقام عليك الحد، حد ماذا؟ حد قذف المحصنات، إذن الآية الأولى يدخل فيها قذف الأزواج بالباطل والزوجات بالباطل (البينة أو حد في ظهرك، فقال الرجل: والله إني لصادق، وسينزل الله في أمري شيئًا) ؛ لأنه صادق فنزل قول الله -تبارك وتعالى- بهذه الآيات الكريمات(4/196)
(18/22)
---
التي فيها - كما ذكر الإمام الحافظ ابن كثير- مخرج للأزواج عندما يشاهدون أمراً أو يلحظون شيئًا وليست لديهم بينه لأنه فعلاً أمر بعيد، أن يجد الرجل شيئًا على زوجته ثم يخرج يلتمس البينة لإقامة شهود على هذا الأمر.
جعل الله -عز وجل- لذلك مخرجاً (فلما نزلت هذه الآيات دعا بهما النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأمر هلال بن أمية -رضي الله تعالى عنه- أن يبدأ هو بملاعنة زوجته، فبدأ وشهد أربع شهادات بالله بما شاهد وبما رأى) وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء عند الخامسة يذكره بأنها هذه الموجبة، الخامسة بأنه في الأولى: ?وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ?7?? بعدما يشهد أربع شهادات بالله إنه صادق فيما رمى به زوجته، هنا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يحاول أن يثير الإيمان الكامن في النفوس ويقول هذه توجب النار بعد ذلك، يذكرهما برب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ويقول بأنها هي الموجبة، وفي ذلك وقد ورد أيضاً: أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يقول أثناء اللعان: (والله يعلم إن أحدكما لكاذب) يعني فيه واحد منكم صادق والآخر كاذب، ثم بعدما يقوم الرجل ويبدأ باللعان كما ذكرت هذه الآيات، قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ? بعدما يلاعن الرجل زوجته يجب في هذه الحالة، يترتب على هذا اللعان أحكام:
الأمر الأول: فسخ الزواج، فسخ العقد، فتصبح بائن منه، ولها مهرها بما أخذ منها، وليس لها نفقة ولا سكنى ولا تعود إليه أبداً، المرأة إذا فارقها الرجل باللعان هذا شيء.
(18/23)
---(4/197)
الأمر الثاني: أنه يجب عليها الحد أن يقام عليها الحد، وهو الرجم، لأنها متزوجة في نكاح صحيح، ولا ينتفي الرجم إلا بما قاله رب العزة والجلال: ?وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ? ?وَيَدْرَأ? يعني يدفع عنها العذاب، ألا وهو حد الرجم، أن تقوم هي أيضاً وتلاعن ?أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ? فيما رماها به, أن القاذف الذي قذفها أو رماها وحكى عنها ما حكى هو كاذب فيما قال: ثم تأتي إلى الموجبة، ولما جاءت الموجبة التي هي الخامسة ذكرها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى كادت أن ترجع، في نص الحديث: (تلكأت ونكصت ثم قالت: كما ذكر ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- قال: ظننا أنها سترجع، إلا أنها قالت: سأفضح أهلي طول اليوم، ثم أقسمت الخامسة وقالت: ?وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ?9??) وهذه هي الموجبة وجاء هنا الغضب عليها ؛ لأن الغضب يطلق على من يعلم الشيء وينكره مثل اليهود، نقول عليهم: مغضوب عليهم لماذا؟ لأنهم يعلمون الحق ولكنهم أنكروه.
فلما قالت ذلك: تفرقا ولم يحدث بينهما لقاء بعد ذلك، وهذه هي سورة اللعان كما جاءت في كتاب الله -عز وجل- وكما حدثت بين يدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(18/24)
---(4/198)
هنا مسألة أو أن تنتبهوا إليها قبل أن أنتهي, ما المراد: ?فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ? ما المراد بالشهادة هنا؟ قال: اختلف العلماء إلى أقوال: قالوا: المراد بالشهادة: لفظ الشهادة كما جاء في القرآن، وقال بعضهم: لا، المراد بالشهادة اليمين، وقال بعضهم: وهو الراجح -إن شاء الله تعالى- ورجحه الإمام ابن القيم الراجح أنها يمين مؤكدة بالشهادة، وعلى ذلك أدلة أو قرائن تؤيد ذلك منها: أن الله -تبارك وتعالى- ذكر في هذه الآية لفظ اليمين، فقال: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ? وأيضاً القرآن الكريم أطلق لفظ الشهادة وأراد اليمين، القرآن الكريم جاء فيه إطلاق ولفظ الشهادة وإرادة اليمين، وذلك في قول الله تعالى في سورة المائدة: ?فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا? [المائدة: 107] بعدها بعد هذه الآية ماذا قال رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-: ?أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ? [المائدة: 108] فسمى هذه الشهادة أيمان، والإمام ابن العربي المالكي -رحمه الله تعالى- وصاحب عارضة الأحوذي، وأنا أعرفه خشية من الوقوف في ابن عربي النكرة، هذا ابن العربي صاحب عارضة الأحوذي -رحمه الله تعالى- يقول: بأن المراد بالشهادة اليمين لماذا؟ قال: لأنه لا يمكن أن يشهد الإنسان لنفسه، لأنه لو قلنا شهادة لا تقبل الشهادة من الإنسان على نفسه، فلابد أن تكون يمين ولكنها مؤكدة بلفظ الشهادة.
(18/25)
---(4/199)
أيضاً بعد ذلك قبل أن انتقل إلى الآية الآخيرة، أذكر مسألة في نصف دقيقة، وهي: لو أن المرأة أتت بابن غريب في الشكل واللون، هل يتم اللعان بينهما، أو يترتب على ذلك لعان؟ لا، في قصة الرجل الأعرابي لما جاء يومئ إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن زوجته ولدت عبداً أسود، وهو أبيض وزوجته كذلك، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- سأله: (هل عندك من إبل؟ فأخبره وأجاب: نعم، قال: ما لونها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ -يعني أسود- فالرجل أجاب بأن فيها ما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من أين أتاها؟ قال: لعله نزعه عرق، فقال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: لعل ابنك هذا أيضاً نزعه عرق).
ثم ختم رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- هذه الآيات وهذه الأحكام بقوله جل ذكره: ?وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ?10??، ما أجمل التشريعات الربانية, والله لو عقلت البشرية لعلمت أن في هذه التشريعات الرحمة الربانية, هذه التشريعات تنظف المجتمع ومع هذا تفتح السبيل وتفرج الأمور بين الناس, هذا فيه فضل ورحمة من الله -عز وجل-، هذه التشريعات فضل ورحمة وهداية وتوفيق من رب العزة والجلال كما ذكرت أولاً فيها تفريج عن الأزواج، وعدم وقوع شحناء وبغضاء بين الرجل وبين المرأة، فلو وقع مثل ذلك ما قامت البيوت وما استقامت بين الرجل والمرأة يمكن أن يطعن أحدهما على الآخر فكانت هذه التشريعات لدفع كل ذلك.
(18/26)
---(4/200)
ثم قول الحق -تبارك وتعالى- وإشارته إلى الرحمة وختمه إلى الآية بقوله: ?وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ? دعوة لكل من يقع في مثل هذه الفضائح والشنائع والعظائم أن يتوب إلى الله -تبارك وتعالى-، وأن يرجع إلى الله -عز وجل- يتوب، ويرجع إلى الله -سبحانه وتعالى- فلا يفتضح أمره وإن وقع شيء من ذلك فمن تاب توبة صادقة تاب الله -سبحانه وتعالى- عليه، ودلائل القرآن الكريم وظواهر الآيات القرآنية وما جاء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يؤكد ذلك والله -سبحانه وتعالى- غفور رحيم، وأكتفي في هذا اللقاء بما ذكرت من آيات وكلمات, وأسأل الله -عز وجل- التوفيق والسداد وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إجابات الحلقة الماضية:
وكان السؤال الأول:
اذكر ما يدل من القرآن الكريم على أن الكافر يتمنى الرجعة وهو في النار؟ وما هو وجه الجمع في قوله تعالى: ?رَبِّ ارْجِعُونِ?؟
وكانت الإجابة:
(18/27)
---(4/201)
إن الكافر يتمنى الرجعة وهو في النار وذلك قد ذكره الله لنا في آيات ومنها: قال تعالى: ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ?36? وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ?37?? [فاطر: 36، 37] وقال الله -جل وعلا-: ?أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ?105? قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ?106? رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ?107? قَالَ اخْسَؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ?108?? [المؤمنون: 105- 108] وللجمع في قوله تعالى: ?رَبِّ ارْجِعُونِ? عدة وجوه:
الأول: أن هذا الجمع تفخيماً وتعظيماً للمخاطب أي لله -جل وعلا- وهذا القول أظهرهم والله أعلم.
الثاني: قيل للتكرار وكأنه يقول: رب ارجعني، رب ارجعني، رب ارجعني.
والثالث: وقيل هذا الجمع للملائكة؛ لأنه رآهم وهم يقبضون روحه فهو يسأل ربه ويتوسل إليه ويكلم الملائكة والله أعلم.
القول الثالث يحتاج إلى إضافة يسيرة؛ لأنه قال يتوجه إلى الملائكة ولكن القول: ?رَبِّ ارْجِعُونِ? فكيف يفسر ذلك، أو يوضحه، إذن ?رَبِّ? نداء لرب العزة والجلال، كأنه يدعو رب العزة والجلال ثم يخاطب الملائكة بعد ذلك قائلا: ?ارْجِعُونِ?، وأنا قلت يعني هنا يخاطب الملائكة لأنه عاين ملك الموت عند خروج روحه في الدار الدنيا وعاين أيضاً أعوان ملك الموت الذين يقومون بذلك، والله أعلم.
السؤال الثاني:
هل الحجة قامت على العباد بالشرع أم بالعقل؟ وضح ذلك مبينا الصواب مع الدليل.
(18/28)
---(4/202)
وكانت الإجابة:
إن الحجة قد قامت على العباد بالشرع وهذا هو الصواب وإن الله أرسل الرسل ليوضحوا للناس الطريق الذي به يصلون إلى ربهم، ويعلموا أن الله وحده المستحق أن يعبد ويفرد بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، قال الله تعالى: ?رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ?165?? [النساء: 165] ولكن عقول الناس إلى أين ساقتهم؟ ساقتهم إلى الشرك بالله وأكثر, فمنهم من يعبد صنماً ومنهم من يعبد بقراً ومنهم من يعبد الكواكب ومنهم من يعبد النار، والله أعلم.
نعم الجواب صحيح والحجة قامت بالشرع لا بالعقل، عكس ما ذهب إليه بعض الفرق المبتدعة في ذلك.
السؤال الثالث:
ما المراد بالسؤال الوارد في قوله تعالى: ?كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ?؟ وكيف توفق بين قوله تعالى عنهم: ?لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ? وبين قوله: ?يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا ?103?? وقوله: ?يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ?؟
وكانت الإجابة:
المراد في السؤال: كم لبثتم في الأرض عدد السنين: هو تبكيت لهؤلاء القوم وبيان أنهم سفهاء العقول وأنهم ما استطاعوا أن يخالفوا هواهم وأن يتركوا شهواتهم وأن يصبروا على طاعة ربهم فهذا السؤال يزيدهم حسرة على حسرتهم، والله أعلم.
ونوفق بين أقوال الله المتعددة في ردودهم على هذا السؤال أنه قد يقول بعضهم يوماً أو بعض يوم، والبعض يقول عشراً والبعض يقول ساعة، فلا تعارض ونحن نصدق ما أخبر الله به تعالى.
الجواب صحيح والحمد لله.
الأخ الكريم من المغرب يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته التمس من سيادتكم إرشادي إلى منهجية لتطبيقها في تحصيل دروس التفسير والبحث فيه ولكم جزيل الشكر.
(18/29)
---(4/203)
الحقيقة التفسير بابه واسع خاصة أنه يتكلم أو يفسر كلام الله -تبارك وتعالى-، ولذلك علماء التفسير لما جاءوا يعرفون التفسير قالوا: هو محاولة لفهم مراد الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية ولذلك أنصح من يود أن يقرأ أو يتعلم شيئًا في التفسير أن يقف أولاً على شيء من علوم القرآن الكريم, ثم بعد ذلك يبتدئ بقراءة الكتب التي هي سهلة في العبارة، والمنهجية على منهج أهل السنة والجماعة, فمثلاً يبدأ بكتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله تعالى-، يقرأ في تفسير الإمام الحافظ ابن كثير، إن وجد أن تفسير الإمام الحافظ ابن كثير فيه شيء من الطول عليه، يقرأ معالم التنزيل للإمام البغوي، إن أراد أن يقف على بعض آيات في كتاب الله تعالى وليس تفسير جملياً للقرآن يقرأ في كتاب أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن وهكذا، إذن من يريد أن يطلب العلم، في التفسير عليه أن يقف على شيء من علوم القرآن الكريم ثم بعد ذلك يبتدئ بالكتب السهلة الميسرة التي هي مبنية على أصول وقواعد أهل السنة والجماعة ككتابي كما ذكرت أو الكتب التي أشرت إليها حتى لا نطيل والله أعلم.
الأخ الكريم من السعودية يقول: بالنسبة يا شيخ للزانية المطلقة والزاني المطلق إلى أي الفريقين في العقوبة؟
السؤال الثاني: ملاحظة نرسل عن طريق الإنترنت أسئلة للأخ عبد الرحمن ما أدري تصل أو ما تصل؟.
إن هناك وقت نجيب عليها لأن الأسئلة كثيرة جداً
الحكم في الزانية المطلقة والزاني المطلق هو الحكم في من هو صاحب زوج أو صاحب زوجة، فكل من تزوجت ولو يوماً واحداً ثم طلق بعد ذلك وارتكب هذه الفاحشة فيكون قد أحصن بهذا الزواج، كل من تزوج يكون قد أحصن بهذا الزواج، حتى لو طلق بعد ذلك وبقي سنين، وهذا اتفاق بين العلماء لم يخالف في هذا أحد أبداً.
(18/30)
---(4/204)
الأخت الكريمة من مصر تقول: سمعت أنه ورد حديث شريف في سورة النور مفاده: أن علموها لبناتكم لما فيها من أحكام الزنا وعقوبته إلى آخره، فما صحة ذلك وما هو الحديث إن كان صحيحاً؟.
لم يصح هذا عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يأتِ في هذا شيء أبداً وكل ما ورد فهو دائر بين الضعيف والموضوع، وأغلبه موضوع.
الأخت الكريمة من السعودية تقول:
السؤال الأول: من سورة التوبة عن قول الله -سبحانه وتعالى-: ?وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ? [التوبة: 103] ما هي الصلاة التي يصليها علهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ؟
السؤال الثاني: عن قول الله -سبحانه وتعالى-: ?وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ? [التوبة: 102] وفي الآية 106: ?وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ? [التوبة: 106] ما الفرق بين الفئتين؟
السؤال الثالث: في قول الله -سبحانه وتعالى- في سورة سبأ آية 13: ?يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ? ما هي التماثيل؟ وهل آمنت ملكت سبأ؟
سؤالها الأول فضيلة الشيخ: سورة التوبة: ?إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ? [التوبة: 103]؟
الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، أما في الشرع فهي المراد بها الصلاة المعروفة التي هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، وإذن بناءً على هذا فالآية أو قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ? [التوبة: 103] يعني دعاؤك يا أيها النبي -صلى الله عليه وسلم- سكن لمن تدعو له.
سؤالها الثاني عن قول الله -عز وجل-: ?وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ? [التوبة: 102] ?وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللهِ? [التوبة: 106] ما الفرق بينهما؟.
(18/31)
---(4/205)
الآيات في سورة التوبة تتحدث ولا شك أو كما يعلم القارئ لها من الوهلة الأولى عن كثير من أعمال المنافقين وما أتوا به في غزوة تبوك، والآية الأولى يقول رب العزة والجلال فيها: ?وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ? فهي تبين أن بعض الناس قد اعترفوا بجرائمهم في هذه الغزوة أو بما وقع منهم في هذه الغزوة, وأمرهم بعد ذلك إلى رب العزة والجلال لأنهم فيهم من الأعمال الخيرية أو من الأمور التي كانوا يقومون بها من أعمال صالحة، وفيها مخالفات مما وقع منهم في غزوة تبوك هؤلاء الذين اعرفوا بذنوبهم قد خلصوا عملاً صالحاً بآخر سيئاً، ويرجى العفو عنهم؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- ذكر العفو ورغب فيه، وأشار إليه في هذه الآية لما قال: ?عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ?، وهناك طائفة أخرى لم يقع منهم اعتراف فهؤلاء مرجون لأمر الله، الأولون الذين وقع منهم الاعتراف أشارت الآية إلى وقوع التوبة لهم، أو أن الله -سبحانه وتعالى- سيشملهم بعفوه ومغفرته ورحمته، أما من لم يرجع ومن لم يعترف فهذا أمره إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، فهو أشد من الأول، إما أن يعذب وإما أن يتوب الله -سبحانه وتعالى- عليه، الشاهد أنه في الأول ذكر التوبة فقط، أما في الآخر أو في الآية الأخرى: ?وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللهِ? [التوبة: 106] أشار إلى العذاب وإلى التوبة، يعني قد يقع هذا وقد يقع هذا, وهذا فيه تهديد لمن وقع منه ما وقع من معصية ولكنه لم يقر ولم يعترف بها.
سؤالها الثالث: كان في سورة سبأ في قوله تعالى: ?يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ? ما معنى تماثيل؟ وهل أسلمت ملكة سبأ؟
قيل: التماثيل تطلق على الأصنام، و قيل: التماثيل ما صُورَ على هيئة الإنسان، يعني ليس كل كل أصنام وحجارة هي تكون كذلك.
(18/32)
---(4/206)
أما بالنسبة لأسلمت ملكة سبأ هذا ورد في القرآن الكريم ونص عليه، لما قالت: ?وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? [النمل: 44] القرآن دقيق، ?وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ? ما قال: أسلمت لسليمان؛ لأن الإسلام لله، فيه أسلمت مع سليمان لمن؟ كلهم جميعاً لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فهذا نص قرآني واضح في أنها أسلمت ودخلت في دين سليمان -عليه السلام- وهو نبي من قِبَلِ الله -تبارك وتعالى-.
الأخت الكريمة من السعودية لها سؤالان:
سؤالها الأول: ?مُسَافِحَاتٍ? [النساء: 25]؟
السفاح، أو الخدان بمعنى واحد، ألا وهو: التعرض للفاحشة -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، أو الوقوع فيها، يعني فعل الفاحشة أو الوقوع فيها أو التعرض لها أو حتى اتخاذ أسبابها وما إلى ذلك.
سؤالها الثاني: ما معنى الاحتلام؟ وهل يجب علي شرحه لابنتي البالغة؟
هو الاحتلام كما هو معروف لدى الرجل ولدى المرأة وهذه أصبحت من الأمور الواضحة وتعرف حتى فطرياً أو بالتعليم، ويعني معروفة -والحمد لله- حتى خاصة في المدارس للأولاد البنين والبنات، يدرسون أحكام الحيض وغير ذلك وأسباب البلوغ وعلامات البلوغ ويعرفها البنين والبنات بصورة سهلة وميسورة وواضحة، والمتحدث عنها يجب أن يتكلم عنها بما لا يخمش الحياء، فهي تعرف بطريق الفطرة وطريق التعليم أيضاً، يعني صار معلوماً ومعروفاً لدى البنين والبنات مثل هذه الأمور.
الأخ الكريم من فلسطين يقول: هل الزاني التائب والزانية التائبة مندرجان تحت هذه الآية وكيف نجمع بين هذه الآية وبين أن التوبة تجبُّ ما قبلها؟
تحت الآية التي هي: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَ?؟
نعم
(18/33)
---(4/207)
نحن قلنا والآية -الحمد لله- واضحة أن فيه فرق بين إقامة الحد حينما يبلغ الإمام، وبين الرجوع والتوبة إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- مرتكب الفاحشة وقع في أمر عظيم يقام عليه إذا رفع أمره إلى الحاكم أو إلى السلطان ما نصت عليه هذه الآيات ثم بعد ذلك لا يقطع الرجاء في رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والله -عز وجل- يقول في كتابه: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا? [الزمر: 53] والحقيقة ضيق وقت الحلقة دعاني إلى أن لا أتوسع في مثل ذلك، فمن تاب من أي أمر تاب الله -سبحانه وتعالى- عليه, وإن كان الشرك وهو أكبر معصية على الإطلاق إذا تاب عنه العبد ورجع إلى الله -سبحانه وتعالى- تاب الله -سبحانه وتعالى- عيله، وقد قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (الإسلام يجبُّ ما قبله والتوبة تجب ما قبله).
الأخ الكريم يقول: لي ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: هل الزواج العرفي أو ما يسمى بالعرفي: صحيح أم لا؟ وإن كان غير صحيح فهل من قام بالزنا بعد هذا الزواج يطبق فيه الحد أم لا؟
السؤال الثاني: هل ما يجري على لسان الناس من سب -أعاذنا الله وإياكم وعافانا وإياكم- يعد قذفاً للمحصنات أم لا؟
السؤال الثالث: ما الحكم لو رأت الزوجة زوجها وهو يزني؟
(18/34)
---(4/208)
السؤال الأول: عن الزواج العرفي؟ الزواج في الحقيقة إن اكتملت شروطه وأركانه وأعلن بين الناس، فهو زواج صحيح، سواءً سجل أو لم يسجل، وإن كنت أعلن من هذا المكان أنه يجب أن يسجل حفاظاً على الحقوق، والتزاماً بطاعة ولي الأمر في مثل هذا؛ لأن هذه الأمور تنظم حياة المجتمع، فنسبة الأولاد إلى والديهم واستخراج شهادات الميلاد وإثبات الشخصية وما يعرف بالهويات أو البطائق أو ما إلى ذلك كل هذا يحتاج إلى تسجيل، فإذن الزواج العرفي إذا اكتمل شروطه -أو هكذا يسمونه الناس- وأركانه فهو زواج صحيح، ولكني أقول: يجب أن يسجل وما ينتج عنه إذن يكون صحيحاً، يعني الأولاد ينسبون إلى أبيهم ويترتب عليه ما يترتب على الزواج المسجل، هذا الزواج العرفي.
ولكني أتكلم يا شيخ عن الذي لا تكتمل فيه الشروط، ما يسمى بالزواج العرفي الآن؟
لا. الذي لا تكتمل فيه الشروط فهذا زنا -والعياذ بالله تعالى- هذا ويطبق عليه الحد إذا طبق؛ لأن هذه الآن صارت يعني إن صح التعبير مهزلة بين الناس وفوضى، يعني أنا من خلال الدعوة يعني سيري في الدعوة، أواجه مشاكل في هذا كثيرة، أواجه مشاكل كثيرة في هذا، يعني آخرها في أيام العيد الماضي، جاءني شاب وذكر، بنت متزوجة دون أن يعرف أبوها ولا أمها، هكذا يسمي ما أدري من تزوجها؟ ومتى تزوجها؟ وأين أعلن عن زواجها؟ وتعيش مع أبيها وأمها، لها سنتان متزوجة وسيعقد ويدخل بها يوم الخميس القادم، ونحن يوم الثلاثاء، فهذه فضائح في الحقيقة، يعني هذه أمور يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار لحماية الشباب في هذه المجتمعات من مثل ذلك، هي في الحقيقة جرائم جرائم جرائم، من وجهة نظري، لأن يعني بنت تكون في بيت أبيها وأمها ومتزوجة ولا يعلم عنها شيء، ومن الذي زوجها وتولى أمرها ومتى أعلنت زواجها؟ وهي مقيمة في داخل بيت أبيها، هل هذا هو الزواج؟ هل هذا هو مقصود الزواج في الإسلام؟ لا. تفضل.
(18/35)
---(4/209)
هل ما يجري على لسان الناس من سب -أعاذنا الله وإياكم- يعد قذف للمحصنات؟
ما المراد بالسب؟
ما يجري على لسان العامة.
من قذف يعني، ولا كلمات أخرى كأن يقول: يا فاسق أو يا مجرم؟
فاسق مجرم ابن كذا.
لا، هذا يعزر فيه، وقد وافق على هذا العلماء، هذا نص عليه العلماء.
يسب أمه فيسب أباه
أيضاً إن كان ساباً بعيداً عن القذف ففيه التعزير، يعزر من ولي الأمر أو من الوالدين أو من المجتمع الذي هو فيه، ويملك أمره، أما إن كان قذفاً فيجري فيه الحد.
ما الحكم لو رأت الزوجة زوجها وهو يزني؟
المرأة لها ما للرجل في مثل هذا يعني هي أيضاً تخبر وتلاعنه في مثل هذا، إن كانت زوجته، وأنا أشرت إلى هذا وأنا أتحدث عند قولي المحصنات.
الأخ الكريم من سوريا يقول: نرجو من شيخنا التوجيه في ذلك، وهو دعوة أولياء أمور الفتيات إلى عدم المغالاة في المهور لما له من تيسير الزواج والتخفيف من هذه الجريمة وجزاكم الله خيراً؟
(18/36)
---(4/210)
والله هذا يعني سيعجب كل من أمامي الآن يا أخي، وهو توجيه منك لطيف، وهو في الحقيقة هذا من الأمور التي تقلل وقوع هذه الفاحشة، إن -والله يا إخواني- إن التضييق والمغالاة في المهور وإلزام الإنسان نفسه بما تعارف عليه الناس بأمور ليسوا هم أهلاً لها ولا يتمكنون من تبعاتها، ولا الاستعداد لها، فالإنسان يكلف نفسه أشياء فوق طاقتها؛ لأن بعض المجتمع يفعل ذلك أو ينظر بعض الناس إلى بعض وما إلى ذلك، هذه في الحقيقة يعني ضياع لهذا المجتمع، يجب وهذه من أسباب وقوع ما يعرف بالزواج العرفي الآن وما إلى ذلك، هذه من الأسباب التي تؤدي إلى مثل هذه الانحرافات الخطيرة ونحن وأعلنها صراحة في زمن الفتنة، نحن الآن في زمن الفتنة، وما يعرض أمام الناس وما يشاهده الناس في الشوارع والطرقات وعلى الشاشات أمر يثير غرائز يمكن كالحيوانات، فما بالنا بهؤلاء الناس فيجب وجوباً على أولياء الأمور أن يتبسطوا في هذه المسائل وأن ينفذوا الشرع الكريم فيها, في التوصيات الواردة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) لا تطلب منه أكثر من ذلك، صاحب دين، يعني يتمسك به، وكما يذكر هذا عن معاوية وأيضاً نسب إلى علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-: (أنه جاء رجل يسأله عن رجل تقدم لابنته هل يزوجها أو لا يزوجها أو يختار لها من؟ قال زوجها على تقي إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها) فإن كان تقياً سيعطيها حقها وإن كرهها لم يظلمها، فنراعي مثل ذلك وإذا أتى رجل إلى البيت وهو صالح، فزوجوه، وإذا كانت امرأة في بيت أبيها وهي صالحة سارع في تزويجها ولا يعضلها ولا يمنعها ولا يطلب ما يطلبه غيره في هذا؛ لأن في هذا مصلحة له ولذريته ولأولاده، وجزاه الله خيراً.
الأخ الكريم من مصر يقول: من يتولى جلد الزانية هل المرأة أم الرجل؟
(18/37)
---(4/211)
المستحب في هذا أن يتولى المرأة جلد الزانية, أن تتولاها المرأة والمرأة تجلد وعليها ثيابها حتى لو جلدها الرجل، لو جلدها رجل تجلد وعليها ثيابها , وهناك تفصيل حتى في مسألة الرجم، قيل بأن الرجل يعني لا يحفر له ويحفر للمرأة حتى تستر أيضاً عن أعين الناس وشريعة الإسلام في هذا في غاية من الجمال والوضوح، ليتنا نطبق وسنفصل -إن شاء الله-.
الأخ الكريم من المغرب يقول: هل يجلد من زنى بعينه؟ وهل يعتبر زناه بنظره بنفس درجة زنا الفرج؟ أرجو التفصيل وجزاكم الله خيراً؟
لا، ليس طبعاً هذا هو المراد وإنما يعني والإنسان طبعاً أحيانًا فيه بعض الكلمات ونحن كما تعلمون على الهواء ويشاهدنا هذا وذاك، يعني لا يليق أن الإنسان يفصل, وإن كان الكلام صحيحاً, وقوع الزنا لابد أن يشهد فيه بإيلاج الفرج في الفرج وما إلى ذلك، هذا هو الزنا، أما نظر العين أو حتى اللمس باليد أو القول بالكلام، هذا وإن أطلق عليه زنا في اللغة؛ لأنه بريد الزنا أو مقدمات إلى الزنا إلا أنه لا يأخذ هذا الحكم، ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لما نهى عن النظرة وما إلى ذلك وقال في نهاية الحديث قال: (والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) فدل ذلك على أن الزنا أمر مخصوص يختلف عما ذكره السائل.
الأخ الكريم من مصر يقول: قلتم: إن العبد إذا زنا وهو محصن لا يقوم عليه حد الرجم، فهل يكون حده مائة جلدة أم خمسين؟.
لا، خمسون أيضاً، يكون حده خمسين لنص القرآن الكريم على ذلك، ولم يأتِ ما يخالف هذا الأمر ?فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ? [النساء: 25] هذا في حد الجلد، وهو كذلك أيضاً في الرجم، يعني إن زنا وهو محصن يجلد أيضاً خمسين، ولا يرجم.
الأخ الكريم من الكويت يقول: أشكل علي أمر العبد متى يجلد خمسين جلدة، ومتى لا يجلد؟ وإذا كان العبد محصناً يجلد خمسين أم مثل الحر البكر؟ وهل ابتداء الملاعنة خاص بالأزواج دون الزوجات؟(4/212)
(18/38)
---
بالنسبة للجلد نعود إليه بالنسبة للعبد، العبد في تطبيق الأحكام عليه، كما هو عند الأحرار، فيطبق كما يطبق على هذا الإمام والحاكم وولي الأمر هو الذي يقوم على هذا ويعلنه وينفذه على الفرد وعلى العبد والعبد كما ذكرت من آيات القرآن الكريم على النصف من حد الحر، أما بالنسبة للرجم.
يقول: وإذا كان العبد محصناً يجلد خمسين أم مثل الحر؟
كما ذكرنا أيضاً إذا كان العبد محصناً يجلد أيضاً خمسين جلدة، وما وقفت على أحد قال بأنه يجلد أكثر من هذا؛ لأنه حد العبد هنا حد واحد في كل الأحوال؛ لأن الذي انتفى عنه فقط الرجم، فيبقى الأمر على ما هو عليه بالنسبة للجلد.
وهل ابتداء الملاعنة خاص بالأزواج دون الزوجات؟
نعم هذا نص عليه العلماء قالوا: بأن الرجل هو الذي يبدأ باللعان، لماذا؟ قالوا: لأن الغالب في أن الرجال هم الذين يقذفون أو يتكلمون، الغالب في هذا للرجال, فالرجل هو الذي يبدأ باللعان وهكذا هو ترتيب القرآن الكريم، وهذا ما فعله النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، حيث ابتدأ هلال بن أمية -رضي الله تعالى عنه- باللعنة.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه الحاضرة.
السؤال الأول: ما حد الزاني البكر والمحصن في شريعة الإسلام؟ أيد ما تقوله بالدليل.
السؤال الثاني: على أي شيء يرجع الاستثناء في قوله تعالى: ?إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا?؟
السؤال الثالث: هل الشهادات المذكورة في قوله تعالى: ?فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ? شهادات أم أيمان؟ فصل القول في ذلك مع ذكر الراجح بالدليل.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(18/39)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس التاسع عشر
الدرس التاسع عشر: تفسير سورة النور(4/213)
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
يا مرحباً أهلاً بكم وبالمشاهدين والحاضرين الكرام، ويسرنا -إن شاء الله تعالى- في هذا اللقاء أن نتناول أيضاً بعضا من آيات سورة النور، وسيكون الحديث حول المحاور التالية:
المحور الأول: رمي أهل الإفك والضلال لعائشة -رضي الله تعالى عنها-.
المحور الثاني: موقف أهل الإيمان مما قيل في عائشة من البهتان.
المحور الثالث: نهي المؤمنين عن العود إلى مثل هذا المنكر العظيم.
ولنستمع الآن إلى آيات هذا اللقاء مع الأخ الأستاذ الكريم فليتفضل مشكوراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(19/1)
---
?إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?11? لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ?12? لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ?13? وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?14? إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ ?15? وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ?16? يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ?17? وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ?18??.
أحسنت، جزاك الله خيراً.
(19/2)
---(4/214)
إن الحمد لله لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد ورسوله ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ?102?? [آل عمران: 102] ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ?1?? [النساء: 1] ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ?70? يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ?71?? [الأحزاب: 71] أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله -تبارك وتعالى- وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ثم أما بعد.
أيها المشاهدون والمشاهدات الكرام: هذا اللقاء يدور حول حادثة تتعلق بشخص النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقد تناولها القرآن الكريم وتحدث عنها؛ لأن الله -عز وجل- غار على عرض النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهي ما تعرف بحادثة الإفك أو بقصة الإفك، وقد جاء فيها وقد جاءت فيها آيات من كتاب الله -تبارك وتعالى- سأتحدث عن بعضها في هذا اللقاء واللقاء القادم -إن شاء الله تعالى- بعضه يرتبط بلقاء اليوم.
والمحور الأول الذي سيدور الحديث عنه في هذا اللقاء بعنوان:
المحور الأول: رمي أهل الإفك والضلال لعائشة -رضي الله تعالى عنها-:
(19/3)
---(4/215)
وأول آية فيه هي قول الحق -تبارك وتعالى-: ?إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?11?? هذه الآية كما ذكرت والآيات التي تليها في هذا اللقاء نزلت في شأن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- وذلك حين رماها أهل الإفك والضلال والبهتان بما رموها به، ولنرجع إلى قول أم المؤمنين عائشة وهي تتحدث عن هذه القصة وهي صاحبتها -رضي الله عنها-، وسأذكرها باختصار ولن أعلق كثيراً على بعض ما ذكرته -رضي الله تعالى عنها- لأن الحديث يطول حول ذلك، وقد أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم من أئمة أهل السنة ممن كتبوا وجمعوا الصحيح في كتب الصحاح أو السنن أو المسانيد، تذكر أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- حادثة الإفك وما دار فيها وما حصل لها -رضي الله تعالى عنها- وما كان من تبرئة الله -عز وجل- لها تقول: (كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه, فأيتهن خرجت عليها القرعة سافر بها -صلى الله عليه وآله وسلم- فلما أراد هذا السفر أقرع بين نسائه فخرج سهم عائشة -رضي الله تعالى عنها-، قالت: وكان ذلك بعد أن فرض علينا الحجاب، فصنع لها -رضي الله تعالى عنها- هودجاً وكانت تنزل فيه) والهودج عبارة عن خيمة صغيرة تشبه البيت توضع فوق البعير وبعد ذلك تكون هي عليه -رضي الله تعالى عنها-، قالت: (فكنت أنزل في هودجي هذا، ولما انتهى نبي الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من غزوته، وقفل راجعاً آذن ليلةً بالرحيل) -يعني أعلم الناس -صلوات الله وسلامه عليه- بأنه سيقوم مرتحلاً ليرجع وكان قد قارب المدينة المنورة (فلما علمت عائشة بذلك ذهبت لتقضي حاجة من حوائجها -رضي الله تعالى عنها- وتأخرت هناك، ورجعت, ولما رجعت إلى(4/216)
(19/4)
---
مكانها وضعت يدها على صدرها تلتمس عقداً على صدرها فلم تجده، وكان من جزع ظفار)- كما ذكرت- يعني من حبات الخرز وظفار مدينة باليمن ينسب إليها هذا العقد (فلما التمسته فلم تجده، رجعت إلى مكانها الذي كانت فيه كي تبحث عنه، وجاء القوم الذين كانوا يتولون أمر أم المؤمنين عائشة في حمل هودجها ووضعه على البعير، فحملوا هودجها وهم يظنون أنها فيه، ولم يشعروا بثقل فيه أو خفة) يعني أو شيء يخالف ما كانوا عليه حينما كانوا يحملون أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- وهنا فائدة عظيمة، هذه الفائدة تبين شدة ورع صحابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، قوم من أول سفرهم من المدينة إلى أن وصلوا إلى مكان الغزوة وهم راجعون وأصبحوا قريبين من المدينة النبوية، ينزلون الهودج ويرفعونه على البعير ولا يعرفون ثقله من عدم ثقله، أم المؤمنين فيه أو ليست فيه، وهذا يدل على أنهم كانوا لا يفكرون ولا يبحثون ولا يتطلعون إلى معرفة شيء من ذلك، وهذا من شدة الورع الذي كان عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأنا أذكر هذا سلفاً لأبين أن ما رميت به أم المؤمنين عائشة كان باطلاً أشد البطلان.
(19/5)
---(4/217)
(رفعوا الهودج وهم يظنون أنها فيه، وليس كذلك وانطلقوا. وجدت أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- عقدها ورجعت إلى المكان الذي كانت فيه، فلم تجد فيه أحداً، موجوداً وكلهم قد ارتحلوا وغادروا المكان الذي كانوا فيه، قالت أم المؤمنين عن نفسها: فيممت مكاني أو تيممت الذي كنت فيه، يعني رجعت إلى مكاني الذي كنت فيه، يعني رجعت إلى مكاني الذي كنت أجلس فيه، وعلمت أن القوم إذا افتقدوني سيرجعون إلي، ثم رجعت إليه قالت: فغلبي النوم) وهذه رحمة من الله بها لاشك أنها كانت في غم وكرب عظيم، والغم إذا جاء للإنسان يكون فيه مجلبة للنوم، بخلاف الهم، فالغم يقع للإنسان عند حدوث ما يكرهه، وقد كرهت ذلك فوقع فغلبها النوم، بخلاف الهم، الهم هو الخوف مما يتوقع، وهذا يطرد النوم، (فغلبها هي النوم -رضي الله تعالى عنها- فنامت، وكان صفوان بن المعطل -رضي الله تعالى عنه- قد عرَّس آخر الجيش)، يعني التعريس هو النزول آخر الليل للاستراحة أو النوم أو ما إلى ذلك، (فادلج يعني سار في آخر الليل ذاهباً إلى صحابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فرأى سواد إنسان فذهب عنده، فرأى أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- وهي نائمة قالت عائشة: وكان يعرفني قبل أن يضرب علي الحجاب، فلما رآها وعرفها أخذه شيء عظيم من هول ما شاهد، لماذا؟ أم المؤمنين وحيدة في الليل في هذا المكان، فلم يملك إلا أن قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قالت أم المؤمنين عائشة تبين ذلك قالت: فاستيقظت على استرجاعه، يعني على قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولم يزد على ذلك -رضي الله تعالى عنه-، وقالت: ولم يكلمني ولم أكلمه، لما رآها كذلك أناخ بعيره فركبت هي عليه، ثم أخذ بخطام ناقته -رضي الله تعالى عنه- وهو أمامها وانطلق بها متتبعاً أثر الجيش ليصل إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقدما على الجيش وهم قد نزلوا في وقت الظهيرة، فرآها الناس ومنهم المنافقون) فتولى كبر ذلك عبد(4/218)
(19/6)
---
الله بن أبي بن سلول -لعنة الله تبارك وتعالى-، وذكر وأشاع بين الناس واتهم أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- بهذا الاتهام الخطير الذي ما كان يمكن أن يدور في عقل أو قلب إنسان يؤمن بالله -تبارك وتعالى- ويعرف مكانة وعظمة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن الله -سبحانه وتعالى- اختار أحب الناس ليكونوا أصفياء لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
وشاع الخبر في الناس وأذاع هذا الرجل هذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، فلما قدموا المدينة وانتشر الخبر بين الناس، تقول أم المؤمنين: (لما قدمت المدينة مرضت شهراً بعد هذا السفر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد سمع ما قاله الناس، ولم تعلم عائشة -رضي الله تعالى عنها- بشيء من ذلك إلا أنها تقول: كان يريبني أنني لا أجد اللطف الذي كنت أجده من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حين أشتكي، كان إذا دخل عليها: (كيف تيكم)، يعني كيف أنتم أو كيف حالكم، ولا يزيد على ذلك، حتى بدأت بشيء من النقاهة، من المرض الذي كانت فيه، وجاءتها أم مسطح -رضي الله تعالى عنها- تزورها، وخرجا معاً ليقضيا حاجتهما وكان العرب يخرجون لقضاء الحاجة خارج بيوتهم وكانوا في الليل ولما انتهيا وهم راجعون في الطريق عثرت أم مسطح -رضي الله تعالى عنها- في مرطها، يعني في كسائها، فلما عثرت فيه قالت: تعس مسطح، تدعو على ابنها بالتعاسة والشقاء، فهال ذلك أم المؤمنين عائشة وهي لا تعلم شيئًا فقالت لها: أتسبين رجلاً شهد بدر) انظر كيف أم المؤمنين عائشة تدافع عن هذا الرجل وهذا فيه فضيلة ومزية لمن شهد بدراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، (فقالت له أم مسطح: أي هنتاه) يعني يا أيتها المرأة، وقيل هذه الكلمة تقال للمرأة التي لا تدرك خطورة الموقف الذي حولها، قيل تقال للمرأة البلهاء يعني لا تدرك ما يدور حولها أو لا تسمع به، (يا هنتاه، أما سمعتي ما يقول؟ قالت: وماذا(4/219)
يقول: فذكرت
(19/7)
---
لها قصة الإفك، فقالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-: فازددت مرضاً إلى مرضي، ورجعت إلى بيتها فلما دخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال كما كان يقول سائلاً عنها: (كيف تيكم) استأذنته -رضي الله تعالى عنها- أن تأتي إلى بيت أبيها، قالت: وأنا أريد أن أستيقن الخبر، فأذن لها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فلما ذهبت إلى بيت أبيها قالت لأمها: يا أمتاه، ماذا يقول الناس؟ فقالت لها أمها -رضي الله تعالى عنها-: يا بنية هوني على نفسكِ إنه قل ما كانت امرأة وضيئة) يعني جميلة (عند زوجها وكان لها ضرائر إلا كثرن عليها من الكلام) فأيقنت أم المؤمنين بذلك أن الخبر قد ذاع وشاع وأن الكلام الذي وصلها قد صدر من الناس، (فقالت: أو قد قال الناس بهذا؟ قالت -رضي الله تعالى عنها-: فمضيت ليلتي هذه أبكي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم) يعني لا يرتفع دمع ولا أنام في ليلتي هذه -رضي الله تعالى عنها-.
(19/8)
---(4/220)
(ثم ذكرت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمراً قالت: بأنه ذهب النبي -عليه الصلاة والسلام- يستشير علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- وأسامة بن زيد في فراق أهله، قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: فأما أسامة بن زيد فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يكن لأهله من الود، وبما يعلمه عنه الخير، وقال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: هم أهلك يا رسول الله ولا نعلم عنهم إلا خيراً، وأما علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- فقال للنبي -عليه الصلاة والسلام-: يا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: هون على نفسك، والنساء غيرها كثير) ولعل يكون في اللقاء وقفة، أو في اللقاء القادم أقف عند بعض هذه العبارات، لأنني أود أن أتي بسياق كلام أم المؤمنين عائشة فيما يتعلق بهذا اللقاء، (قال له علي بن أبي طالب ذلك ثم قال له: وإن تسأل الجارية تصدق، يعني بريرة، فجاء النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى بريرة) وهي جارية كانت تخدم أم المؤمنين عائشة، ولاشك أن هذه تعلم لأنها تعيش في بيت عائشة -رضي الله تعالى عنها- وتخدمها وتشاهده من حالها ما لا يشاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة أنه يخرج مع قومه ومع أصحابه وما إلى ذلك، (فسألها النبي -عليه الصلاة والسلام-: هل رأيتِ شيئًا يريبك من عائشة؟ فقالت له -رضي الله تعالى عنها-: والله ما رأيت شيئًا أغمسها عليه) -يعني أعيبها به- (إلا أنها كانت جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله)، يعني كانت جارية حديثة السن، وهي بهذا تمهد لهذا الأمر الذي كان يقع منها إلى أنها تنام يعني تذكر أنها ليس عندها ما عند غيرها من النساء من الفطنة وما إلى ذلك من حياة الناس، ثم تذكر بأن الداجن يعني الداجن هي الشاة التي تألف البيوت يعني تدخل البيوت لتأكل من طعامها.
(19/9)
---(4/221)
(بعد ذلك قام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد هذا الاستفسار, قام في مسجده على المنبر -صلى الله عليه وآله وسلم-) في الحقيقة الإنسان يذكر هذه الكلمات، وكأني يعني أشاهد بعيني وأشعر بقلبي هذا الموقف، أشعر بقوم قذفوا أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وقذفوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في فراشه وعرضه، وهو من هو -صلى الله عليه وآله وسلم-، يعني الحديث عن مثل هذا يطول، ولأستمر في هذا الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة.
(19/10)
---(4/222)
(قام النبي -صلى الله عليه وسلم- على منبره في مسجده وقال: أيها الناس من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي) من يعذرني؟ يعني من يلتمس لي عذراً إن أقمت عليه حداً أو فعلت به ما فعلت، وأخذته بجريمته؟ (بلغني أذاه في أهلي؟ والله لا أعلم عن أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً لا أعلم عنه إلا خيراً -ويعني بذلك صفوان- وما كان يدخل بيتي إلا معي، فقام سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه- وقال له يا رسول الله: أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس قتلناه)، وفي رواية: (ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، فمرنا بأمرك أو فمرنا بما تأمرنا به وسنتبعك فيه يا رسول الله، -صلى الله عليه وآله وسلم-) ودار خلاف بين الصحابة -رضوان الله تعالى عنهم- في مثل ذلك وخاضوا بالكلام عند النبي -عليه الصلاة والسلام- وبقية الحديث يعني: (قام سعد بن عبادة وقال لسعد بن معاذ رداً عليه: لا تقتله ولا تستطيع أن تقتله. وقام أسيد بن حضير -رضي الله تعالى عنه- فاتهم سعداً ونفس أم المؤمنين عائشة اتهم سعد بن عبادة) وأم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- لما ذكرت كلام سعد قدمت له مقدمة قالت: (كان رجلاً صالحاً إلا أن الحمية استجهلته) يعني حملته على أن يقع في مثل هذا الأمر ولكنه رجل صالح، يعني أخذته الحمية على قومه، فقط ليس إلا، المهم صار حديث، وكلام، (وارتفعت الأصوات بين الأوس والخزرج في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- والنبي -عليه الصلاة والسلام- على منبره يسكتهم حتى سكتوا, ثم نزل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-)
(19/11)
---(4/223)
ثم تقول أم المؤمنين بعد ذلك وهي في بيت أبيها: (مضيت الليلة التالية أيضاً لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم جاءت امرأة من الأنصار استأذنت على أم المؤمنين عائشة لتزورها فأذنت لها، فدخلت عليها فوجدتها تبكي فجلست إلى جوارها تبكي، وبينما هم كذلك إذ دخل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عليهم، فسلم ثم جلس وتقول أم المؤمنين عائشة: لم يجلس عندي منذ أن قيل ما قال إلا في هذا الوقت -صلوات الله وسلامه عليه-) وهذا يفسر الحالة التي كانت في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وما وصل إليه رسول الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه- من أمر عظيم، وهمٍّ كبير لما قاله أهل الإفك والضلال والبهتان في زوج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ما جلس عند زوجه وهي من أحب النساء إليه، مدة ربما تزيد على شهر، إلا في هذا الأمر، (فلما دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- وجلس, كان أبو بكر موجوداً وزوجه موجودةً وعائشة -رضي الله تعالى عنها- والمرأة التي جاءت لتزور عائشة، فتشهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-)، يعني شهد لله بالوحدانية وللنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بالرسالة، ثم وجه الكلام إلى أم المؤمنين عائشة، والله إنه كلام حينما يسمعه الإنسان أو يقرؤه أو يلقى عليه وهو يخرج من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يبين شدة هذا الموقف، وما ابتليت به أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وهي كما قالت عن نفسها: (جارية حديثة السن) قال لها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- موجهاً الكلام إليها: (يا عائشة إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن ألممت بذنب فاستغفري الله فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب منه, تاب الله –تعالى- عليه)، قالت أم المؤمنين عائشة حينما سمعت هذا الكلام، كأني بها أصابتها صاعقة، لدرجة أنها قالت: (قلص دمعي) يعني توقف، كانت تبكي توقف الدمع، توقف البكاء، ونظرت إلى أبيها وقالت له: (أجب عني رسول الله -صلى الله عليه(4/224)
(19/12)
---
وآله وسلم-)، فقال أبو كر -رضي الله تعالى عنه- وهو الصديق الكبير في ذاك الوقت في السن، أيضاً حبيب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وصاحبه ورفيقه في الغار، وكان معه ودفن إلى جواره، وسيحشر معه -صلوات الله وسلامه عليه- فتوجه ابنته الكلام لأبيها: (أجب عني رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-) ماذا قال هذا الشيخ؟ قال: (والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فنظرت إلى أمها وقالت: أجيبي عني رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقالت أمها أيضاً: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-)، وهذا يبين صلاح هذا البيت، ونظافته وأيضًا قمة ورع هؤلاء الناس وتأدبهم مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، لو أن هذه حادثة حصلت بين أفراد الناس ماذا كان يقول الأب وماذا كانت تقول الأم، والله في كتب السنن، ما أثر أن أبا بكر -رضي الله تعالى عنه- قال كلمة حول هذا المعنى إلا كلمة واحدة، قال: (والله ما رمينا هذا في الجاهلية فكيف بعد أن أعزنا الله بالإسلام)، هذا كل ما روته كتب السنة من كلمة قالها أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-: (والله ما رمينا هذا في الجاهلية، فكيف بعد أن أعزنا الله بالإسلام).
(19/13)
---(4/225)
المهم أن أبا بكر -رضي الله عنه- وأم رومان -رضي الله تعالى عنها- أجابا بإجابة واحدة ولم يتمكنا من أن يواجها النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء، فلما قالا ذلك، قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-: (والله إني لأعلم أن ما سمعتموه قد استقر في نفوسكم وإني والله إن قلت لكم: إني لبريئة والله يعلم أنني بريئة لم تصدقونني، وإن قلت لكم غير ذلك فالأمر سيكون على خلاف الواقع وسيصدقوها، ثم قالت -رضي الله تعالى عنها-: والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف -وتعني يعقوب عليه السلام-: ?فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ? [يوسف: 18] ثم قالت: فتوجهت واضجعت على فراشها لكي تستريح) وكأنها تود أن تعرض لقوة ما لديها من يقين في نفسها، وأنها بريئة تعرض عن هذا كله، فكأنها فعلت هذه الفعلة أو هذا التصرف، يعني كأنها تركتهم وحاولت أن تستريح لتظهر أمامهم أن مثل ما يقال عنها بريئة وهي قد أقسمت بالله إنها بريئة منه، وهي حقاً بريئة منه، وشريفة منه وطاهرة عفيفة -رضي الله تعالى عنها-، قالت: (اضجعت في مكانها ثم قالت -رضي الله تعالى عنها-: فما رام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مكانه -يعني ما فارق النبي -صلى الله عليه وسلم- مكانه- حتى أخذه ما كان يأخذه من البرحاء يعني من الشدة حينما كان ينزل عليه الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان في اليوم الشاتي) انظروا وتأملوا أم المؤمنين عائشة وهي في هذا الموقف الصعب الشديد على النفس ولو تذكرتم قبل قليل كيف واجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال لها: (إن كنت بريئة سيبرئك الله وإن ألممتِ بذنب فاستغفري الله) قبل لحظات يقول لها هذا الكلام، وهي بعد لحظات بأي شيء تصف النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصفت وشبهت قطرات العرق التي كانت تنزل منه -صلى الله عليه وسلم- بالدر، قالت: (يتحدر منه مثل الجمان) والجمان هو الدر، فشبهت قطرات عرق النبي -صلى(4/226)
(19/14)
---
الله عليه وسلم- بالدر في الصفاء والبهاء والجمال، (أخذه ما كان يأخذه) فعرفت أنه في هذه الحالة ينزل عليه الوحي، (حتى سري عنه -صلى الله عليه وآله وسلم-، وانتهى من الوحي وهو يضحك فكان أول كلمة قالها -صلى الله عليه وسلم-: أبشري يا عائشة، أما أنت فقد برأك الله -تبارك وتعالى- فقال لها أمها -رضي الله تعالى عنها-: قومي إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قالت: والله لا أقوم إليه، وإنما أقوم لله ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي -رضي الله تعالى عنها-)، وهذا من فرحتها ومن دلالها على رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
وللحديث بقية تأتي -إن شاء الله تعالى- في الآيات التي ستتعلق بشيء من اللقاء القادم، وهذا ما أحتاج إليه لتوضيح الآيات التي نزلت على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، تعالج هذه القضية العظيمة التي اتهم فيها أشرف خلق الله -صلوات الله وسلامه عليه- اتهم في عرضه، اتهم في زوجه، اتهم في فراشه، ومن هو؟ إنه النبي الكريم، محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
(19/15)
---(4/227)
تتنزل الآيات على النبي -عليه الصلاة والسلام- تعالج هذا الموقف وتفضح هؤلاء المجرمين الذين قالوا على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ما لا يليق به ولا بزوجه ولا بمكانته وأول آية في ذلك: ?إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ? الذين جاءوا بالإفك، الإفك هو أسوأ الكذب وأقبحه وأشده والإفك هو الكلام المقلوب، وكأن الآية تشير بالإفك بكلمة الإفك بالذات، ما قال ربنا الكذب فقط، وإنما قال: ?إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ? لأن الإفك كما ذكرت هو الكلام المقلوب كأن الأمر ما كان ينبغي أن يقال في الصديقة بنت الصديق -رضي الله تعالى عنها- ذلك، وما ينبغي أن يقال في حقها هو الثناء والتبجيل والمدح والصفات الجليلة التي هي عليها ولكن أهل الإفك قلبوا ذلك عن وجهه، فرموها بعكس ما ينبغي أن تكون أو أن يقال في حقها -رضي الله تعالى عنها-، ولعل هذا هو سبب ذكر هذه الكلمة: ?إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ? ?عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ? يعني جماعة منكم أيها المؤمنون، والعصبة أولاً، قيل من الثلاثة إلى العشرة، وقيل من العشرة إلى الأربعين، وعلى كل فهم جماعة قالوا بذلك، كان فيهم من المنافقين الذين أظهروا الإسلام والإيمان وأبطنوا الكفر كعبد الله بن أبي وكان فيهم بعض أهل الإيمان ولكنهم زلوا في هذا الأمر زلة كبيرة وقد تاب الله -سبحانه وتعالى- عليهم، كما سيأتي بيان ذلك من خلال هذه الآيات فهم عصبة قيل: ?مِّنْكُمْ? وفيهم بعض المنافقين نفاقاً اعتقادياً ?مِّنْكُمْ? وفيهم بعض المنافقين نفاقاً اعتقادياً لأن المنافق الاعتقادي في الظاهر كان مع من؟ مع أهل الإيمان فعبد الله كان في الغزوة وهو راجع مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(19/16)
---(4/228)
ثم قال الله: ? لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ? يعني كلام أهل الإفك لا تحسبوه شراً لكم محضاً وإنما فيه خير, فيه خير ورفعة لعائشة -رضي الله تعالى عنها- ولآل أبي بكر -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- فيه رفعة وثناء حسن جميل في الدنيا على أم المؤمنين عائشة وتبرئة لها من هذا الأمر ورفعة لمكانها وإظهار مكانتها لأن الله -عز وجل- هو الذي تولى الدفاع عنها -سبحانه وتعالى-، في هذا رفعة لأم المؤمنين عائشة وفيه من الخير ما فيه من الدنيا أيضاً فيه خير لها في الآخرة فالله -عز وجل- حينما يبتلي المؤمن بشيء من الابتلاء يعوضه في الآخرة أحسن الجزاء على ما يبتليه به في الدار الدنيا، ? لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ?.
ثم يقول سبحانه: ? لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ ?، لكل واحد منهم عقاب عند رب العزة والجلال بقدر ما اقترف من الإثم وبقدر ما خاض في هذه الحادثة، ثم يقول: ? وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?، والذي تولى كبره منهم على الصحيح هو عبد الله بن أبي وقد ذكرت ذلك أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- وعلى هذا جمهور المفسرين أن الذي تولى كبره منهم هو هذا الرجل المنافق, هو الذي بدأ يذيع ويشيع ويتكلم في هذه الحادثة، وكان معه بعض الصحابة ممن تابوا ورجعوا -رضي الله تعالى عنهم- وفي قول ضعيف استغربه الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- بعدما ذكره وهو أن المراد بالذي تولى كبره منهم هو: حسان بن ثابت، وليس هذا بصحيح ولذلك الإمام الحافظ ابن كثير لما ذكره قال: وهو غريب؛ لأن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- ليسوا كذلك ولا يتولون كبراً مثل هذا وإن وقعوا في شيء من هذا فهم لا ينافحون ويدافعون في مثل هذا أو يلوجون في مثل هذا الباطل بمثل ما خاض فيه هذا الرجل المنافق، ألا وهو عبد الله بن أبي بن سلول.
(19/17)(4/229)
---
ولذلك كما قال عروة -رضي الله تعالى عنه- كان يقول: بأن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- كانت تكره أن ينال أحد من حسان بن ثابت -رضي الله تعالى عنه-، ويتكلم عن حسان بن ثابت -رضي الله تعالى عنه-، وقالت: بأنه كان يقول: فإن أبي ووالده -يعني جده- وعرضي لعرض محمد منكم وقاء كان يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاءُ
يعني يقول: بأني وأسرتي وعائلتي وكلي وعرضي وقاء لعرض رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهو الذي كان يدافع بشعره عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وفي صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (اهجهم وروح القدس معك) فكانت أم المؤمنين تنهى أن ينال أحد من حسان بن ثابت -رضي الله تعالى عنه-، وتنكر ذلك، وهذا يؤيد أن الذي تولى كبره هو من ؟ هو عبد الله بن أبي.
وكانت هذه الآية قبل أن أنتهي منها فيها رفعة - كماأشرت وذكرت- لأم المؤمنين في الدنيا والآخرة، ولذلك عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- لما دخل على أم المؤمنين عائشة وهي في الموت قال لها: (أبشري يا أم المؤمنين فإنك زوج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وحبيبته ولم يتزوج بكراً غيرك وأنزل الله براءتك من السماء) فهذه شهادة لأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-.
المحور الثاني: موقف أهل الإيمان مما قيل في عائشة من البهتان:
وتحته قول الله -تبارك وتعالى-: ? لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ?12??.
(19/18)
---(4/230)
هذا تأديب من الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين في قصة عائشة -رضي الله تعالى عنها- حين أفاض بعضهم في هذا الكلام السيء القبيح ولولا هنا بمعنى هلا، وهي لولا التحضيضية وهي تقرع وتبكت وتعاتب من خاض من أهل الإيمان في هذا الموقف أو في عرض أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وتقول لهم الآية وتعاتبهم في ذلك: لولا إذا سمعتموه كان ينبغي أن يظن بعضكم ببعض خيراً وكأن الآية تقول: قيسوا أنفسكم على أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، فكما أنكم لا ترضون ذلك ولا يليق بكم ذلك، فكذلك لا يليق هذا بأم المؤمنين زوج رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، نزلوا أنفسكم يا معشر أهل الإيمان منزلة أم المؤمنين عائشة إذا كان هذا لا يليق بكم فكيف يليق بأمهات المؤمنين -رضي الله تعالى عن الجميع-؟!!
? لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ? والتعبير بكلمة ? بِأَنْفُسِهِمْ ? هنا يفيد : أن المؤمنين جسد واحد وأن الإساءة إلى واحد منهم إساءة إلى الجميع لأنهم نفس واحدة وهذا كقول الله تعالى: ? وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ? [النساء: 29] والإنسان لا يقتل نفسه، وإنما يقتل غيره، وهذا يفيد أنه لو قتل غيره بالباطل كأنه قتل نفسه، كذلك من سب أمهات المؤمنين أو أصاب شيئًا من عرض رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أو من مكانته فكأنه سب نفسه ورجع هذا الأمر إليه.
(19/19)
---(4/231)
والمفسرون يذكرون في تفسير هذه الآية أنها نزلت في قول أبي أيوب وأم أيوب -رضي الله تعالى عنهما- وذلك أن أم أيوب -رضي الله تعالى عنها- قالت لأبي أيوب: (أما سمعت ما يقول الناس في عائشة؟ فقال: قد سمعت، ولكنه الكذب المحض) من الذي يقول ذلك؟ أبو أيوب -رضي الله تعالى عنه- ثم قال لها أبو أيوب: (يا أم أيوب لو كنت أنت أكنت فاعلة ذلك؟ قال: والله ما كنت لأفعله بالتأكيد، فقال لها أيوب -رضي الله تعالى عنه-: والله إن عائشة لخير منك)، يعني إن كنت أنت لا تقعي في مثل ذلك فعائشة -رضي الله تعالى عنها-مكانة لقربها من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ألا تقع في ذلك، وهذا يبرز موقفاً من مواقف صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكيف أنهم كانوا يضحون حقاً بأنفسهم وأعراضهم حماية لجناب وعرض رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومرة أخرى أقول: بأن الآية تعاتب أهل الإيمان وترشدهم إلى أن يظنوا في أنفسهم خيراً، وإن كانوا يظنون في عموم المسلمين خيراً وفي عموم المؤمنين خيراً فما بالهم إذن بنبي الهدى والرحمة -صلى الله عليه وآله وسلم- ولذلك الواجب حينما يسمعون ذلك أن يقولوا: ? هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ? يعني هذا ضلال واضح ظاهر ضلال مكشوف مبين واضح مكشوف أمام العيان لا يحتاج الإنسان إلى كبير شيء لينكره، فإنكاره ظاهر ومكشوف وواضح.
(19/20)
---(4/232)
ثم يقول أهل الإيمان بعد ذلك على أرجح أقوال أهل العلم هم الذين يقولون ما ذكره ربنا عنهم في كتابه: ? لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ?13?? يعني أهل الإيمان الذين يستنكرون هذا ويقولون بأن هذا إفك مبين هلا جاءوا على هذا الأمر بأربعة شهداء يشهدون بما تكلموا فيه وفي بداية السورة جاءت الآيات لتبين تحريم قذف المحصنات وعلى رأس المحصنات من؟ أمهات المؤمنين وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، والآيات بينت أن حدهم أن يجلدوا ثمانين جلدة، فهؤلاء إن لم يأتوا بأربعة شهداء هذا هو الواجب الحق عليهم، وما كان ينبغي عليهم أن يقولوا ذلك، دون أن يكون عندهم ما يوجب لهم هذا القول، ألا وهو: أربعة يشهدون على هذا الإفك وعلى هذا الضلال, وطالما أنه ليس معهم من يشهد بهذا فما كان ينبغي مرة أخرى أن يقولوا هذا الأمر لأنهم بهذا سيكونون مجرمين كذابين، ?لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ?13??.
(19/21)
---(4/233)
ثم يقول سبحانه: ?وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?14?? هذا خطاب للسامعين وفيه زجر عظيم، ?وَلَوْلا? هنا هي لامتناع الشيء لوجود غيره، يعني أن الله -سبحانه وتعالى- يخبر السامعين أنه لم ينزل عليهم غضبه وعذابه، لماذا؟ لأنهم تابوا وسبق في علم الله -تبارك وتعالى- وقضائه أن من تاب توبة صحيحة ورجع إلى رب العزة والجلال –سبحانه- أن الله -عز وجل- يتوب عليه، ويعفو عنه، فلولا ذلك، لولا فضل الله –سبحانه-، ولولا أن تداركت رحمة الله -عز وجل- هؤلاء الخائضين لمسهم ربنا -سبحانه وتعالى- بأليم العذاب، والعقاب الذي أراده -سبحانه وتعالى- في هذه الحادثة العظيمة ولكن الله -عز وجل- لم يوقع عليهم عذاباً يأخذهم به، وإن ثبت أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما سأقول في النهاية- أقام الحد على من خاض في حادثة الإفك من أهل الإيمان وهم ثلاثة، وهم بهذا تابوا إلى الله -عز وجل- وتبرؤوا من هذا الجرم العظيم، لما أقيم عليهم الحد الشرعي في هذه المسألة وفي هذا الخوض الذي خاضوا فيه.
?وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?14? إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ ?15?? ?إِذْ تَلَقَّوْنَهُ? وهذه قراءة الجمهور يعني ترددونه وتتناقلونه فيما بينكم، ويرويه بعضكم عن بعض، وقرأ ابن عباس وعائشة: ?إذ تَلِقُونَهُ بألسنتِكُم? والولق: هو الكذب الذي يستمر فيه صاحبه، ولكن القراءة الأولى هي الأشهر وعليها الجمهور، وهذه الآية بينت ثلاثة أمور وقع فيها هؤلاء الخائضون وهذه الأمور الثلاثة تستوجب عذاب الله -تبارك وتعالى-.
(19/22)
---(4/234)
الأمر الأول: قالت الآية: ?إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ? يعني تروون هذا الكلام وتتكلمون فيه بألسنتكم فكان أحدهم يقابل الآخر ويقول له: ماذا يقول الناس؟ أو أما سمعت فيما يقول الناس؟ ويتناقل بعضهم هذا الكلام، هذا هو الأمر الأول.
الأمر الثاني: الذي أشارت إليه هذه الآية: ما جاء في قوله: ?وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم? وكلمة ?بِأَفْوَاهِكُم? تأكيد للقول، والقول لا يكون إلا بالأفواه، وهذا كقوله تعالى: ?يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ? [الأنعام: 38] والطيران لا يكون إلا بالجناح، وهذا معنى: ?وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم? ولكن ?مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ? هذا هو الأمر الثاني: أنهم يقولون بأفواههم ما ليس لهم به علم، وهذا يفيد أنهم لم يتيقنوا منه في الباطن، وإنما هو مجرد كلام جرى على اللسان.
الأمر الثالث: الذي أتوا به ويستحقون عليه العذاب العظيم: أنهم كانوا يستصغرون هذا الأمر وهو أمر عظيم، ?وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ? وهو عظيم وكبيرة من الكبائر.
(19/23)
---(4/235)
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ?وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ?16?? هذا تأديب آخر بعد التأديب الأول من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- يوجهه إلى المؤمنين هلا إذا سمعتهم هذا الكلام قلتم: ?مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا? ما كان ينبغي علينا أن نخوض في هذا الأمر بل يجب علينا والحالة هذه أن نظن الخير، أن نظن الخير خاصة في من؟ في أم المؤمنين وزوج رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه- ولامتنع كلامكم بالإطلاق، بإطلاق وامتنع الخوف في هذه الحادث العظيم، وفي هذا الكلام المشين ?وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا? والواجب عندئذ حينما تسمعون كلمة واحدة من هذه الكلمات أن تقولوا: ?سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ? يعني تنزهوا الله -عز وجل- من أن يختار لخليله ولنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- امرأة تتهم بهذا الأمر أو تقع فيه، ما ينبغي بحال من الأحوال، هذا فيه إساءة أدب حتى مع رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، لأنه لا يليق بنبي من أنبياء الله تعالى أن يكون كذلك فما بالكم إذن يا معشر أهل الإيمان بسيد الأنبياء وإمام المرسلين -صلوات الله وسلامه عليه-، ولذلك ربنا -عز وجل- هنا ينزه نفسه، ويأمر المؤمنين أن ينزهوا ربهم من وقوع هذا الأمر الذي فيه أذى للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه إيذاء أيضاً لأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-،
(19/24)
---(4/236)
والله -عز وجل- يتنزه أن يختار لنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- من تخونه في فراشه وتخونه في عرضه، وهذا يفهم منه أنه ما ينبغي أن يتناقل الناس مثل هذا الكلام، ولا أن يخوضوا فيه بل إذا سمع الواحد منهم كلمة واحدة من هذا الكلام الباطل استعظمه في نفسه، ونزه ربه، وقام في قلبه براءة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وبراءة زوجه من أن يلوث فراش رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
المحور الثالث: نهي المؤمنين عن العود لمثل هذا المنكر العظيم:
(19/25)
---(4/237)
وفي ذلك يقول رب العزة والجلال سبحانه: ?يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ?17?? هذا في الحقيقة توجيه من رب العزة والجلال بعدما ذكر هذا القول وهذه الحادثة وهذا البهتان الذي صدر وخرج ممن لم يراعوا حرمة رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-، ولم يقدروا ربهم حق قدره، فخاضوا في هذا الأمر ولم ينزهوا ربهم -تبارك وتعالى-، يأتي بعد ذلك وعظ من رب العزة والجلال سبحانه, وتوجيه للمؤمنين, فيه نهي لهم مستقبلاً عن أن يعودوا إلى مثل هذا الكلام، أو أن يقعوا فيه مرة أخرى، والله بهذا يأمرهم أن يعظموا شرع الله ودينه، ولا يقعوا في مثل هذا الإفك لأن قذف المحصنات بلا دليل أمر باطل لا يجوز بحال من الأحوال، وكيف وقد شنع عليه الإسلام في أول هذه السورة، وبعد آيات أيضاً ستأتي بعد قليل، الله -تبارك وتعالى- شنع على من يرمي ويقذف المحصنات من المؤمنات فما بالنا إذن من يقذف ويرمي أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، ومن هنا يأتي التأكيد على عدم العود إلى مثل ذلك، ?يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا? ويذكر ذلك على وجه التأديب, لا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في بعد عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولي وقفة في نهاية لعلي في اللقاء القادم أيضاً أبين معنى من المعاني التي يجب أن يكون عليها أهل الإيمان فيما يتعلق بعرض زوجات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعلى الأخص بأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-.
(19/26)
---(4/238)
?يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ?17?? معنى هنا: ?إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ? يعني: إن كنتم تعظمون شرع الله وقدره؛ لأن المخاطبين بهذه الآيات فيهم من المؤمنين ما قد وقعوا في هذا، وفيهم من المنافقين والمؤمنون الذين خاضوا في هذا الأمر، وهم مصدقون بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، لا شك أنهم وقعوا في إثم عظيم، ولكنهم لم يخرجوا من الإيمان بذلك، كما ذهب إلى هذا فريق من المعتزلة، محتجين بقول الله تعالى: ?إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ? فقالوا بأن الله -عز وجل- نفى الإيمان عمن يقول مثل هذا الكلام، ونحن نقول لهم: بأن قول الله -تبارك وتعالى- هنا: ?إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ? دافع إلى الاستجابة لأمر الله -تبارك وتعالى-، ودافع إلى عدم العود إلى مثل ذلك، كأن الله -عز وجل- يقول: يا أهل الإيمان لا تقعوا في مثل ذلك، وأن أهل الإيمان يستجيبون لله -تبارك وتعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ويؤكد أن هؤلاء القوم الذين خاضوا من الصحابة في مثل هذا الأمر لم يخرجوا من الإيمان ولكنهم وقعوا في معصية أن الله قال في أول آية: ?إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ? فذكر الله -عز وجل- أنهم عصبة من أهل الإيمان، عدا من كان منافقاً نفاقاً اعتقادياً فهو ليس منهم، ليس لأنه خاض في هذه المسألة فقط، وإنما لأنه يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ?يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ?17??
(19/27)
---(4/239)
وأود أن أقول أيضاً في هذه الآية بأنه لا يطلق على الله -عز وجل- ولا يسمى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بأنه واعظ ؛ لأن أسماء الله الحسنى أسماء توقيفية ولا يشتق لله -عز وجل- أسماء من أفعاله, هذه قاعدة عقدية أذكرها هنا تتعلق بمعتقد أهل السنة والجماعة، وبما كان عليه السلف الصالح، أسماء الله -عز وجل- وصفاته كلها توقيفية، نقف فيها عند حدود النص، فما أثبته الله -عز وجل- أثبتناه وما لم يثبته لا نقوله ولا نضيفه ولا نصف رب العزة والجلال به، وأسماء الله -عز وجل- أحسن الأسماء، فلا يجوز لنا مثلاً أن نسمي الله بالزارع، أخذ من قوله تعالى: ?أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ?64?? [الواقعة: 64] لأن هذا لا يليق بذات الله -عز وجل-، ولا يليق أن يكون اسماً من أسماء الله الحسنى لأن أسماء الله -عز وجل- أحسن الأسماء وأعلاها وأشرفها والقاعدة المشهورة عند أهل السنة والجماعة أنه لا يشتق من أفعال الله -تبارك وتعالى- أسماء يسمي العبد بها ربه، دون أن يكون الأمر منصوصاً عليه في القرآن الكريم، أو صحيح سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-.
(19/28)
---(4/240)
وتُختم آيات هذا اللقاء بقول الله -تبارك وتعالى-: ?وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ?18?? المراد من الآيات: الآيات التي تتلى عليكم، والتشريعات الربانية، التي تتنزل عليكم يا أهل الإيمان، ربكم يوضحها لكم، ويبين من خلالها الحلال من الحرام، والصواب ويبين الحق من الباطل، فحادثة الإفك، حاثة باطلة، وقد بين القرآن الكريم بطلانها وقد تولى رب العزة والجلال الدفاع عن أم المؤمنين عائشة، -رضي الله تعالى عنها- هذا من تبيين الله -عز وجل- لهذه الآيات، ثم يختم رب العزة والجلال هذا بقوله: ?وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? يتصف بالعلم ويتصف بالحكمة -جل في علاه- فهو «العليم» بما يصلح عباده «الحكيم» في شرعه وأمره وقدره جل في علاه، وللحديث بقية -إن شاء الله - تأتي في اللقاء القادم، وختاماً أصلي وأسلم على هدي الأنام صلى الله عليه وآله وسلم.
إجابات الحلقة الماضية:
وكان السؤال الأول: ما حد الزاني البكر والمحصن في شريعة الإسلام؟ أيد ما تقوله بالدليل.
وكانت الإجابة؟
(19/29)
---(4/241)
الزاني البكر سواء أكان ذكراً أم أنثى إن كان حراً فحده مائة جلدة، قال تعالى: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ? ويزاد على ذلك أن يغرب عاماً عن بلده عند جمهور العلماء خلافا لأبي حنيفة -رحمه الله-، فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام، إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب، حجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني (في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أحدهما: يا رسول الله: إن ابني كان عكيفاً -يعني أجيراً- على هذا فزنى بامرأته فافتديه منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام)، والراجح أن الرجل يغرب والمرأة تغرب إن وجد محرم لها دون أن يكلف شيئًا، أما إن كان عبداً أو أمةً سواءً كان بكراً أو محصناً فحده خمسون جلدة، لقوله تعالى: ?فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ? ويقاس العبد على الأمة في ذلك.
(19/30)
---(4/242)
أما المحصن وهو كل حر بالغ عاقل تزوج في نكاح صحيح فحده الرجم حتى الموت، كما جاء في الصحيحين عن ابن عباس: (أن عمر -رضي الله عنهما- قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، أيها الناس فإن الله بعث محمدًا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرآناها ووعيناها، ورجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله)، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو الاعتراف وكما جاء في الحديث الأول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (واغدوا يا أنيس لرجل من أسلم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدى عليها فاعترفت فرجمه).
في الحقيقة الجواب كما سمعتم جواب شافٍ مستفيض، ولكن فقط إشارة يعني يسيرة لو أشير إليها لكان فيها فائدة عظيمة؛ لأنه أو المجيب ذكر بأن حد العبد أو حد الأمة خمسون، واستدل عليه بالآية، ثم قال: العبد كالأمة كنت أود أن يذكر بأن سبب ذلك هو الرق، سبب ذلك حتى نفهم العلة في إلحاق العبد بالأمة هنا هو الرق؛ لأن الذكر والحر يستويان في هذه الحدود الشرعية، والعبد لم ينص عليه في الآية، ولا في القرآن الكريم، وألحق بالأمة للعلة التي جمعت بينهما، ألا وهي الرق، والله أعلم.
السؤال الثاني: على أي شيء يرجع الاستثناء في قوله تعالى: ?إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا?؟
وكانت الإجابة:
اختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال يرجع على الفسق فإن تاب ارتفع عنه وصف الفسق، ومنهم من قال: وهو الراجح يرجع على الفسق وقبول الشهادة فإن تاب ارتفع عنه الفسق وقبلت شهادته ؛ لأنه إذا ارتفع عنه وصف الفسق صار صالحاً فتقبل شهادته.
صحيح، نعم.
(19/31)
---(4/243)
السؤال الثالث: هل الشهادات المذكورة في قوله تعالى: ?فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ? شهادات أم أيمان؟ أم أيمان فسق؟ أم أيمان؟ فسر ما تقول: مع ذكر الراجح بالدليل؟
وكانت الإجابة:
فيها قولان:
الأول: المراد به الشهادة، الثاني: المراد به اليمين, والراجح أن المراد به اليمين وهو مؤكد بالشهادة بدليل قوله تعالى: ?فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ?107? ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ?108?? [المائدة: 107، 108] فسمى الشهادة أيمان.
هو في الحقيقة الأقوال ثلاثة وليست قولان: الأول: أنها شهادات خالصة، القول الثاني: أنها أيمان خالصة، القول الثالث: هو الصحيح هو الذي دلل عليه المجيب أنها أيمان متضمنة للشهادة، لأن الأيمان فيها معنى الشهادة في هذا والشهادة جاءت في القرآن الكريم أطلقت على اليمين للآية التي ذكرها المجيب هنا.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: الرجاء عدم التجاهل بعض الروافض يسبون عائشة -رضي الله تعالى عنها- ويكرهونها ويقولون: الخلاف الذي بيننا وبينهم خلاف سياسي، ما معنى ذلك؟ وما السبب في ذلك؟
(19/32)
---(4/244)
في الحقيقة هي أحسنت جزاها الله خيراً، وقلت في أثناء الحديث بأن -إن شاء الله- لنا لقاء قادم مازال الحديث متصلاً حول هذا الأمر و-إن شاء الله- سأتحدث عنه أيضاً بشيء من الإيجاز لضيق المقام في مثل ذلك، وما زال الروافض كما ذكرت يطعنون على أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وكيف يطعنون عليها وقد برأها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-؟ فالذي يطعن عليها بعد ذلك يرد أمر الله -عز وجل- ويرد كلام الله -تبارك وتعالى-، هو لم يسئ إلى عائشة -رضي الله تعالى عنها-، ولم يصبها هي بمكروه فقط، وإنما أيضاً يعني يتطاول الأمر منه إلى أن ينال مقام رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وما ينبغي ذلك.
الأخ الكريم من الجزائر يقول: من خلال قول الله تعالى: ?لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ?13?? يتبين لنا أن الرجل عند إقامة البينة في قذفه لابد له من شهود أربعة، فهل يشترط وجود مواصفات معينة للشهود أم لا؟ وإذا عُلِمَ على شاهد من الشهداء الكذب فهل يصدق قذف الرجل وجزاكم الله خيراً؟.
في الحقيقة طبعاً بالنسبة للشهود على الزنا لابد أن يكونوا أربعة وأن يكونوا من الرجال، فالشهادة على زنا لا تصلح فيها المرأة، قد نص أهل العلم على ذلك، وطبعاً لا يشهد إلا صالح، فشهادة الفاسق مرفوضة، لا تقبل، نعم.
الأخت الكريمة من القاهرة تقول: فيه عندي سؤالان: أول سؤال: فيه قناة فضائية تقول: الناسخ والمنسوخ في القرآن مثل: (الشيخ والشيخة إذا زنيا) الآية نسخت ووضعت آية غيرها، ويشككوا في الإسلام ونزول القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نزوله منجماً، يشككون الناس في القرآن، فكيف نرد عليهم؟
السؤال الثاني: كلمة العبد كالأمة، ما معنى العبد كالأمة؟.
(19/33)
---(4/245)
بالنسبة للأمر الأول: وهو التشكيك في القرآن الكريم بحجة الناسخ والمنسوخ هذا في الحقيقة كلام باطل، النسخ يأتي وله معاني والله -عز وجل- قد نسخ ديانات بأكملها، يعني رفع التوراة ورفع الإنجيل، وأنزل القرآن الكريم، فالقرآن الكريم ناسخ للكتب السابقة، وهي كلام الله -تبارك وتعالى- تكلم الله -عز وجل- به، فما أنزله الله قد نسخه والقرآن الكريم قد نص على ذلك: ?مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا? [البقرة: 106] وهذا واقع في الشرائع السابقة وواقع في شريعة الإسلام، حتى إن بعض الأحكام الفقهية كانت تغير وتبدل وتنسخ، وكثيراً ما نسمع في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- التي يرويها عنه الصحابة يقولون: كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا، وفي الحقيقة هؤلاء الذين يتكلمون بمثل ذلك ليست لهم حجج صحيحة في مثل هذا الأمر، وكلامهم قائم على العقل، ويردونه في الحقيقة بهذه النصوص الواردة عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وحد الرجم فيه إشارة في القرآن الكريم إليه حتى في غير هذه الآية، وقد ذكر ذلك الشيخ محمد أمين الشنقيطي في أضواء البيان -رحمه الله تبارك وتعالى- والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما طبق حكم الرجم, ومما يدل على أن القرآن الكريم أشار إلى ذلك قول النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديث الأعرابيين لما اختصما إليه قال: (لأقضين بينكما بكتاب الله)، ثم قضى بالجلد على البكر وبالرجم على المحصن، وقال في أول كلمه: (لأقضين بينكما بكتاب الله)، فدل ذلك على أن الحكم منه من كتاب الله -تبارك وتعالى-، وهذا في غاية الوضوح.
(19/34)
---(4/246)
أما قولها: ما معنى العبد كالأمة؟ أقول: معنى العبد كالأمة في تشطير الحكم، يعني تنصيف الحد، فالحر يجلد إن كان بكراً، يجلد كم جلدة؟ مائة جلدة، والأمة جاء القرآن الكريم ونص على أنها تجلد خمسين جلدة، فالعبد يلحق بالأمة في ذلك في أنه أيضاً يجلد خمسين جلدة، هذا معنى إلحاق الأمة في ذلك.
الأخ الكريم من السعودية يقول: ما حكم إنكار حادثة الإفك؟ وكيف نرد على من أنكرها, والتعامل مع مثل هؤلاء؟
فضيلة الشيخ هذا السؤال تكرر عندي كثيرًا، ما حكم إنكار حادثة الإفك؟.
كيف تنكر وهي في كتاب الله -تبارك وتعالى-، أخشى أن يكون السائل يود أن يقول شيئًا آخر، يعني نحن ننكر على أهل الإفك قولهم، أما الحادثة وقعت، وذكرها القرآن الكريم فيه، جاءت في القرآن الكريم، أما هي فهي لا شك أنها منكر، ويجب على كل مسلم أن ينكرها ولا يقول بها، ومن يقول بها اليوم وخاصة من الروافض ومن يبغضون أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ويبغضون كثيرًا من صحابته ويتهمونهم ويكرهونهم وما إلى ذلك، فهؤلاء في الحقيقة يعرضون أنفسهم بهذا لأن يكونوا في كفة وأهل الإيمان في كفة أخرى، لأن الطعن على أم المؤمنين بعد ذلك وبعد ما برأها الله -عز وجل- كما ذكرت، هو في الحقيقة طعن على مقام رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(19/35)
---(4/247)
أهل الضلال والبهتان ومن يبغضون صحابة النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-، ما زالوا يدندنون حول ذلك، ويتهمون أم المؤمنين عائشة ومن عجيب ما قرأت في بعض كتبهم أنهم يذكرون بأن المثل الوارد في قوله الله تعالى: ?ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ? [التحريم: 10] أن هذا مثل لعائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر، -رضي الله تعالى عنهما أجمعين-، كيف يكون ذلك، والله -عز وجل- يبرئ أم المؤمنين من فوق سبع سماوات والنبي -صلى الله عليه وسلم- إن كانوا يؤمنوا به ويصدقون بكلامه يقول لأم المؤمنين عائشة: (أما أنت فقد برأك الله تعالى).
الأخ الكريم من كردستان يقول: نحن في كردستان العراق نحلف بالله بغير أسمائه التي وردت في الكتاب والسنة، ولكن معناه هو الرب، هل يصح ذلك؟.
(19/36)
---(4/248)
في الحقيقة أسماء الله -تبارك وتعالى- توقيفية, لا نزيد عليها ولا ننقص منها، وقد نص أئمة السلف على ذلك، ومنهم الإمام أبو نصر (كلمة غير مفهومة) -رحمه الله تبارك وتعالى-، يعني ذكر ونص على أن أسماء الله -عز وجل- توقيفية وغيره من أئمة أهل العلم، ومعنى أنها توقيفية كما ذكرت، أنها موقوفة على الوحي الإلهي فما جاءنا فيها عن الله أو عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلنا به، وتعبدنا الله -سبحانه وتعالى- به، ودعونا رب العزة والجلال به، والله -عز وجل- يقول: ?وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا? [الأعراف: 180] فنحن ندعو الله -سبحانه وتعالى- بأسمائه الحسنى الثابتة، أما إذا لم يكن الاسم ثابتاً في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية المطهرة، فلا يجوز أن نتعبد الله -سبحانه وتعالى- به، حتى ولو كان معناه صحيحاً، لأنه يذكر بأن المعنى قد يكون صحيحاً، لا .. حتى لو كان المعنى صحيحاً, لا نتعبد رب العزة والجلال به، وقد إن كان صحيحاً، ليس فيه أي ما يوهم الخطأ بحال من الأحوال نذكره من باب الخبر، عن الله -تبارك وتعالى-، أما أن نعتقد أنه اسم من أسماء الله -عز وجل- أو ندعو الله -سبحانه وتعالى- به أو أن يسمي الإنسان ابنه به، كأن يقول مثلاً يسمي الإنسان ابنه بعبد القديم، والقديم ليس من أسماء الله الحسنى، وهكذا لا يجوز ذلك بحال من الأحوال.
(19/37)
---(4/249)
وخلاصة هذا الأمر أنك يا أيها العبد لا تسأل ربك إلا بما ثبت به النص في كتاب الله أو في سنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومسألة العقيدة ليست بسهلة وأسماء الله كلها حسنى كما ذكرت، ومن أعلمك ومن أدراك أنك إذا أتيت باسم من عندك أنه يكون أحسن الأسماء لأن الحسنى كما ذكر أئمة أهل العلم جمع الأحسن وليس جمع الحسن، ?وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى? [الأعراف: 180] الحسنى هنا جمع الأحسن، أفعل تفضيل لأن هنا حسن وأحسن، أسماء الله أحسن الأسماء، فإن إذا جئت باسم وكان حسناً ولم يكن أحسن، فلا يجوز أن تطلقه على رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
الأخ الكريم يقول: لقد ذكرت أنه لا ينبغي لزوجة نبي أن تخونه، وقد ذكر الله -سبحانه وتعالى- أن هناك زوجتين لنبيين وقد خانتاهما، فما وجه الجمع؟.
(19/38)
---(4/250)
هذا في الحقيقة سؤال طيب، حتى لا يسبب إشكالاً عند أحد وهو ما جاء في قول الله تعالى وقرأت الآية قبل قليل: ?ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا? [التحريم: 10] جمهور أهل العلم على أن الخيانة هنا ليست في الشرف أو العرض أو في الفراش أو ما إلى ذلك، وإنما خيانة قوم نوح كما ذكر وهذا وارد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: خيانة قوم نوح أنها كانت تخبر عنه قومه بأنه مجنون، كانت تقول لقومه بأنه مجنون، هذا خيانة، وخيانة قوم لوط، كانت تخبر قومه بأضيافه، وهم كانوا يفعلون الفاحشة، فإذا جاء أضياف عند لوط -عليه السلام- أخبرت قومه حتى يأتون إليه فيطلبوا الفاحشة من أضياف لوط -عليه السلام-، ولم تكن خيانة في شرف أو عرض، ومعاذ الله -عز وجل- أن تكون إحدى زوجات الأنبياء والمرسلين على مثل هذه الشاكلة ويتنزه ربنا -عز وجل- أن يختار ويقدر لنبيه أو لأحد أنبيائه شيئًا من ذلك، ولم يقل بهذا أحد أبداً من أئمة أهل العلم فمعنى ?فَخَانَتَاهُمَا? [التحريم: 10] كما ذكرت خاتناهما في غير الشرف والعرض، أما كونهم يعني يكذبون عليهما لا يصدقون بهما، يخبران عنهما بشيء من الزور والبهتان وما إلى ذلك، هذه خيانة ولكنها ليست في خيانة الفراش.
الأخ الكريم يقول: ذكرتم أن الحجاب قد فرض في تلك الوقت، فهل هذا دليل على فرضية النقاب؟.
هذه مسألة طويلة الذيل كما يقال، وسيأتي حديث عنها -إن شاء الله تعالى- يعني لعله في اللقاء بعد القادم وفيها خلاف بين أهل العلم وسأذكره في حينه ولكنه لا شك أنه فُرض أولاً على زوجات وأمهات المؤمنين وعائشة -رضي الله تعالى عنها- ذكرت ذلك وأنها خمرت يعني غطت وجهها لما رأت صفوان -رضي الله تعالى عنها- وذكرت أنه كان يعرفها من قبل قبل أن يفرض عليها الحجاب.
(19/39)
---(4/251)
فضيلة الشيخ هناك سؤال من الأخ الكريم من الولايات المتحدة الأمريكية يقول: ما رأي فضيلتكم في كتاب صفوة التفاسير؟ وهل هو من الكتب التي تلتزم بمنهج أهل السنة والجماعة؟
في الحقيقة صفوة التفاسير معروف يعني مؤلفه -جزاه الله خيراً-، من الكتب التي جمعت أقوال المفسرين وقربتها ولكنه في بعض مسائل الاعتقاد خاصة في الأسماء والصفات قد جانب الصواب -حفظه الله تعالى- في منهج أهل السنة والجماعة فالقارئ فيه عليه أن يحذر السقطات التي وقع فيها المؤلف مما يتعلق بمعتقد أهل السنة والجماعة وقد نبه عليها بعض أهل العلم يعني تكلموا عنها وذكروا الأخطاء التي وقع فيها المؤلف ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- وأذكر أيضاً الشيخ بكر أبو زيد -عافاه الله تبارك وتعالى- تكلموا عن بعض الأخطاء التي في هذا الكتاب.
الأخ الكريم يقول: قال الله -جل وعلا-: ?إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ? [النور: 15] وأصل التلقي يكون بالأذن؟ فلم عدل الحق -جل وعلا- وجعله باللسان؟.
جزاك الله خيراً، في الحقيقة أيضاً سؤال وجيه، لماذا؟ أنا أشرت إشارة إليه ولم أقف عنده، قلت: هم تلقونه بألسنتهم لماذا؟ هذه الإشارة تفيد أنه لم يقم بالقلب شيء يستيقن به القلب في هذه الحادث وإنما هي كلمات جرت على اللسان، فذكراللسان هنا ليفيد أن الكلام الذي دار مجرد كلام لا حقيقة له في الواقع ولا في قلوب الذين تحدثوا عنه بصدق, يعني أنهم ما تيقنوا وما قام في قلوبهم من اليقين ما يحملهم على هذا الكلام، ولكنه مجرد كلام خرج من اللسان ليس له في أرض الواقع مكان، والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: بحكم قول ?يَعِظُكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا? [النور: 17] العود هنا المقصود على قذف زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- أم على القذف المطلق؟.
(19/40)
---(4/252)
في الحقيقة هذه الكلمة يدخل فيها أولاً أن يعودوا إلى قذف أم المؤمنين وهذا فيه رد على من يتكلم عنها إلى اليوم، وفيه أيضاً نهي عن أن يعود المسلم إلى قذف المحصنات دون أن يكون عنده بينة في مثل ذلك، لقول الله في الآية السابقة: ?لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ? [النور: 13] فهذا لا يجوز العود إليه في مثل هذه الحالات, وفي الآية التي ستأتي فيما بعد -إن شاء الله تعالى- نهى الرب -عز وجل- في اللقاء القادم أن يقذف أو أن يرمى المؤمنات المحصنات الغافلات بشيء من هذا البهتان، وفي هذا يعني تربية للمجتمع المسلم على الفضيلة وعلى الذكر الحسن وألا يتلقفوا هذه الأقوال المشينة فيما بينهم بل يظنوا في أنفسهم خيراً، ولا يعودا إلى مثل هذا البهتان لا إلى أم المؤمنين ولا إلى زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا إلى أنفسهم إن وقع شيء من ذلك دون بينة، والله أعلم.
الأخ الكريم يقول: بالنسبة لقول الحق -جل وعلا-: ?إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ? [النور: 15] نجد بعض العلماء قد يخطئ في نقطة أو نقطتين في قضايا الكفر والإيمان، مثلاً فيكفر من لا يستحق الكفر مثلاً، فنجد بعض الإخوة يرددون هذا الشيخ مثلاً تكفير أو خوارج أو كذا فهل يجوز إخراج أحد من أهل السنة والجماعة بهذا القول، وهل يجوز للإخوة الذين هم يسمعون فيقولون دون أن يعقلوا؟.
(19/41)
---(4/253)
في الحقيقة هذه مسألة عقدية مهمة، ويجب على الإنسان أن يتحرى أقوال أهل العلم وألا يطلق لسانه في الكلام على من عرفوا بمنهج أهل السنة والجماعة حتى لا يشوش على الناس في معتقداتهم، إن الطعن على أهل العلم ومن يوجهون الناس إلى الحق وإلى الخير، وهم من أهل السنة وينتسبون إليها ويقومون عليها، دون بينة من ذلك فيه -في الحقيقة- خطر عظيم على الدعوة الإسلامية لأنه صد عن العامة عن التلقي من أهل العلم، وهذه المسائل مسائل في الحقيقة دقيقة، ولا يجب أن يتعرض لها كل إنسان، مسائل أو قضايا الحكم بالتفكير على هذا أو رمي هذا بالفسق أو بالخروج أو ما إلى ذلك، هذه مسائل يعني تترك لأهل العلم، هم الذين يمكن أن يعالجوها من منظور ومن واقع إسلامي، ويلاحظ وواقع المسلمين اليوم وضعف المسلمين اليوم حاجة الأمة إلى أن تلم شعثها وأن تقف وراء أئمتها وعلمائها الذين ينهجون نهج أهل السنة والجماعة، ونحن نرى المبتدعة يطعنون على أهل العلم ويتكلمون فيهم بما ليس فيهم، كل ذلك كي يصرفوا الناس عن أن يتلقوا منه، فالمسألة في الحقيقة في منتهى الخطورة، الكلام عن أئمة أهل السنة والطعن عليهم، ومن يقدمون العلم إلى الناس ومعروف عنهم التأسي بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، كل ذلك لا أراه جائزاً لمصلحة الدين ومصلحة العقيدة ولمصلحة الدعوة الإسلامية ولمصلحة الإسلام والمسلمين بصورة عامة.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
السؤال الأول: حادثة الإفك رفعت من شأن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-, بين كيف كان ذلك. وما هي الآية التي دلت على وجود منفعة في حادثة الإفك؟
السؤال الثاني: من الذي تولى كبر الحديث في مسألة الإفك؟
السؤال الثالث: اشرح قوله تعالى: ?لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ?12??.
(19/42)
---(4/254)
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس العشرون
الدرس العشرون: تفسير سورة النور
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين والمشاهدين والمشاهدات الكرام، ونبدأ برنامجنا لهذا اللقاء -إن شاء الله تبارك وتعالى- بذكر محاوره كما هي العادة في مثل ذلك:
ومحاور هذا اللقاء تنحصر في أربعة:
المحور الأول: الذين يشيعون الفاحشة بين المؤمنين لهم عند الله عذاب عظيم.
المحور الثاني: التنفير والتحذير من اتباع الشيطان الرجيم.
المحور الثالث: العفو والصفح من صفات أهل الفضل والخير.
المحور الرابع: وعيد من يرمي المحصنات الغافلات.
ولنستمع الآن إلى الآيات التي سيتم من خلالها ذكر هذه المحاور، مع الأستاذ الكريم, فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(20/1)
---(4/255)
?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ?19? وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ?20? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ?21? وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?22? إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?23? يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?24? يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ?25? الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ?26??.
أحسنت، جزاك الله خيراً.
(20/2)
---(4/256)
إن الحمد لله لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد،
بعد أن استمعنا إلى الآيات الكريمات لهذا اللقاء, أبدأ بالحديث حول المحور الأول وهو بعنوان:
المحور الأول: الذين يشيعون الفاحشة بين المؤمنين لهم عند الله عذاب عظيم:
والآية التي تدخل تحت هذا اللقاء قبل غيرها هي ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى- ?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ?19?? ما زال - كما تلاحظون أيها الكرام- السياق مستمراً لمواجهة حادثة الإفك وخطورتها, وهذه الآية تبين أن من سمع شيئًا من ذلك عليه أن ينكره ولا يحب أن يكون له وجود؛ لأن عدم إنكاره فيه جرم آخر إلى جوار جرم ارتكاب أو القول بالفاحشة؛ لأن الآية تبين أن على من قذف المحصنات من المؤمنات بما ليس فيهم عليه إثم كبير وعقاب عظيم، في الدنيا وفي الآخرة، وكما أن عليه العقاب الشديد فيما أظهره، عليه أيضاً عقاب شديد فيما أسره، والسر المذكور هنا أعني ما أسره هو محبة إشاعة الفاحشة؛ لأن المحبة عمل قلبي والإسلام بهذا ينهى عن أن يحب المرء المسلم إشاعة الفاحشة بين أهل الإيمان.
وإشاعة الفاحشة كلمة يشيعون الفاحشة، مأخوذة من شاع الشيء إذا ظهر وانتشر فمعنى يحبون إشاعة الفاحشة يعني يحبون انتشارها وإظهارها وإعلام الناس بها.
(20/3)
---(4/257)
إعلام الناس بها وإظهارها على الملأ هذا عليه إثم وجرم يعاقب الإسلام عليه بالحد في الدنيا والتوعد بالنار في الدار الآخرة، كذلك أيضاً حبه وهي مسألة قلبية له عند الله عقاب وعذاب أليم، والآية قد أشارت إلى ذلك، وهي في الحقيقة -وانتبهوا لهذا- تأصل منهجاً تربوياً تربي عليه أهل الإيمان؛ لأن إشاعة الفاحشة في المجتمع الإسلامي يهونها عند الناس، ويجرئ الناس عليها، بل ربما تدفع ضعاف النفوس إلى أن يقوموا بمن قام بهذه الفاحشة، أو يتلبس بمثل ما تلبس به صاحب هذه الفاحشة، ومن هنا يأتي الإسلام ويضع إجراءً وقائياً في عدم الإعلام بالفاحشة وعدم ظهورها؛ ولذلك نجد بأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يفرق بين من يرتكب الفاحشة ولا يظهرها وبين من يرتكب الفاحشة جهاراً نهاراً على الملأ، ليس الذي يستتر بمعصيته كالذي يعلن بها ويجهر بها ويُعلم الناس بخبرها، شتان بين الأمرين، لماذا؟ لأن في إعلان الفاحشة دافعاً للناس ولغير المرتكب إلى أن يقع فيما ارتكب فيه ولذلك أقول بأن هذا منهج تربوي يربي الإسلام أصحابه عليه، وهو إجراء السلامة والوقاية للمجتمع المسلم، حتى لا ينخر فيه السوس بذكر الفاحشة فيه، أو إشاعتها بين الناس، ولذلك نجد أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ينهى عن تتبع عورات المسلمين، ويخبر (أن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يوشك أن يفضحه)، ومن هنا إذا سمع الإنسان ذلك كف لسانه وكف قلبه وامتنع عن أن يحب ظهور الفاحشة بين الناس أو يقول هو أو أن يسعى في أي فاحشة مهما كانت، ويكفينا أن نعلم قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده)، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- أيضاً: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).
(20/4)
---(4/258)
أما الذين يشيعون الفاحشة بين الناس ويعلنونها ويحبون أن تظهر ليسوا من هؤلاء وليس لهم ستر عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وقول الله -عز وجل- هنا: ?لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ? يدفع المؤمن إن كان عاقلاً ألا يقع في هذا الأمر بحال من الأحوال، وقد ذكرت فيما مضى وتكملت عن حادثة الإفك وأرجأت القول في الذين أقيم عليهم الحد في الدينا، لأن الآية تقول: ?لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا? العذاب الأليم في الدنيا هو: إقامة الحد عليهم، ونظر الناس إليهم، على أنهم يتكلمون بالزور، ويشيعون الفاحشة، وينشرون الانحلال في داخل المجتمع، هذه أوبئة وأمراض قامت في هؤلاء الناس تفضحهم بين خلق الله تعالى إلى جانب الحد، أما العذاب العظيم الذي توعدوا به في الدار الآخرة، فيبدأ من عذاب القبر، ويكون في الدار الآخرة عند البعث والنشور، والوقوف بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(20/5)
---(4/259)
الذين أقيم عليهم الحد في حادثة الإفك ثلاثة هم: حسان بن ثابت -رضي الله تعالى عنه- ومسطلح بن أثاثة -رضي الله تعالى عنه- وحنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والذي تولى كبره كما أشرت في الماضي هو عبد الله بن أبي، ولم يقم على هذا الرجل الحد، وقد بين بعض أهل العلم أن سبب عدم إقامة الحد على هذا الرجل هو أنه كان يشيع الفاحشة بين المؤمنين، سراً ولم يشهد عليه أحد أنه قام بهذا الأمر وإن كان معلوماً، إلا أنه لم يتقدم أحد بالشهادة كي يقام عليه الحد، وقيل: إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أراد أن يدفع شر هذا الرجل وشر من حوله من المنافقين فتركه لربه حتى يتحمل كامل العذاب في يوم الدين، لأن الحد - كما تعلمون وعلى ما هو الراجح من أقوال أهل العلم- يكفر عن الإنسان الذنب الذي وقع فيه، وهذا الرجل نفاقه اعتقادي ولا يتطهر إذن هذا النفاق بإقامة هذا الحد عليه، فكأن الله -عز وجل- وكأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أراد أن يجمع عليه العقوبتين معاً، عقوبة الدنيا تكون مع عقوبة الدار الآخرة لجرم ما ارتكب هذا الرجل.
(20/6)
---(4/260)
وهنا إشارة أود أن أشير إليها وهي: أنه بعد إقامة الحد على هؤلاء الصحابة الكرام، -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- لا ينبغي على أحد بحال أن يذكر واحداً منهم بسوء؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- تاب عليهم، ولأن الله -عز وجل- غفر لهم، ولأن الحد قد أقيم عليهم وتطهروا بذلك، وبناءً عليه فلا يذكروا بسوء، وقد أشرت أيضاً فيما مضى إلى أن أم المؤمنين عائشة كما في صحيح مسلم (كانت تكره أن يذكر عندها حسان بن ثابت -رضي الله تعالى عنه- بسوء) أو أن يقال فيه كلمة لا تليق بمقامه؛ لأنه صحابي قد وقع في أمر صحيح عظيم وارتكب منكراً عظيماً إلا أنه تاب وتاب الله -سبحانه وتعالى- عليه، فلا ينبغي ذكر هؤلاء الرجال بما يكرهون، أو بما يكرهه رب العزة والجلال ولا يرضاه أيضاً رسول الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه-.
(20/7)
---(4/261)
ثم يقول سبحانه: ?وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ?20?? هذا في الحقيقة تذكير لشيء سبقت الإشارة إليه أيضاً في الآيات السابقة وهو أن الحق -تبارك وتعالى- رؤوف بعباده رحيم، وأن له فضلاً عظيماً على عباده، ولولا هذا الفضل وجواب لولا هنا محذوف، يدل عليه ما سبق، والسياق يدل عليه، ?وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ? كما سبقت الإشارة عليه، أو لعاجلكم بالعقوبة، والله -عز وجل- يقول: لولا فضل الله -سبحانه وتعالى- علينا يا معشر أهل الإيمان لعاجل من وقع في هذه المصيبة وفي هذا الذنب العظيم بالعقوبة الشديدة، ولأخذه وما قبل توبته، ولكن الله -سبحانه وتعالى- فتح لهم باب المتاب على مصراعيه، وشرع الحد كي يتطهروا به، ولولا رحمة الله في ذلك، ما كان هذا أو ما وقع شيء بحال من ذلك، والله -عز وجل- ختم الآية بقوله: ?وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ? ليرشد إلى أن ما كان من تشريع حكيم, وإلى قبول التوبة وعدم المؤاخذة أو المعاجلة بالعقوبة بسبب رأفة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ورحمته، والله -عز وجل- قد ذكر اسمي الرؤوف الرحيم مقترناً في القرآن الكريم في مواضع متعددة، وكان بعضها مما يذبذب فيه أيضاً المنافقون، يعني لو رأيتم نحن هنا، مع حديث عن المنافقين، أيضاً لما حولت القبلة أشاع بعض المنافقين، عند المؤمنين وحاولوا أن يتعبوا قلوبهم، وأنفسهم، ويقولون لهم: قد مات لكم إخوان كانوا يصلون إلى غير قبلتكم الآن فضاعت بذلك أعمالهم، فنزل قول الحق -تبارك وتعالى- مبيناً أن ما تم وكان على شرع الله -عز وجل- السابق، لا يضيع عند الله رأفة ورحمة منه، قال -سبحانه وتعالى- معالجاً هذه المسألة، ومواجهاً أهل النفاق وراداً عليهم، ومطمئناً أهل الإيمان: ?وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ(4/262)
(20/8)
---
بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ? [البقرة: 143] فهذين الاسمين الجليلين الكريمين ختم الله -عز وجل- بهما هذه الآية ليشير أن ما كان من توبة وما كان من تشريع حكيم كل ذلك بسبب رحمة الرؤوف الرحيم -سبحانه وتعالى وجل في علاه-.
المحور الثاني: التنفير والتحذير من اتباع الشيطان اللعين:
والآية التي معنا في هذا اللقاء وتحت هذا المحور تفتتح بقول الله -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ? ?لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ? يعني: آثار الشيطان، ومسالك الشيطان، ودروب الشيطان، وقيل: خطوات الشيطان معاصي الشيطان، وكل ما يأمر به الشيطان من المعاصي فهي من خطواته وطرقه إلى الضلالة والغواية والفساد، ومن طرق الشيطان ووسائله التي يحذر منها رب العزة والجلال أهل الإيمان وهو معني بخاصة في هذه الآية هو: عدم الإصغاء إلى قول أهل الإفك، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين؛ لأن هذا من خطوات الشيطان والله -تبارك وتعالى- بين في آيات كثيرة من كتابه أن الشيطان يوسوس للإنسان، ويحرص على أن يضله عن صراط الله المستقيم، ويمنيه ويعده بأمور تخالف ما جاءه من عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، ولذلك ربنا -عز وجل- في القرآن الكريم يحذرنا كثيرًا من الشيطان الرجيم، ويبين لنا خطورته فيما يأتي به ويكيد به بني آدم، وما يعدهم به من ضلال ومنكر، كقول الحق -تبارك وتعالى-: ?الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْل? [البقرة: 268] تأملوا وعد الله -عز وجل- وما يأتي من عنده –سبحانه- وبين ما يكون من عند الشيطان الرجيم، وهذا يجعلنا نقف بعقل وتدبر وعلم ووعي واتباع أمام خطوات الشيطان، ونتبع الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر,(4/263)
والله -عز
(20/9)
---
وجل- قد أخبر عن نفسه بذلك فقال جل ذكره: ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ? [النحل: 90] إن الله -سبحانه وتعالى- يأمر بالعدل هذا في مقال ماذا؟ أمر الشيطان بالمنكر، ?الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ? [البقرة: 268] أما رب العزة والجلال: ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ?90?? [النحل: 90] وكما وصف ربنا -سبحانه وتعالى- نفسه بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, وصف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بذلك، في سورة الأعراف في سياق الحديث عن صفات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذكر ربنا سبحانه: ?يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ? [الأعراف: 157] وكما وُصِفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك وصف الله -عز وجل- أهل الإيمان بهذا، وأنا أقول ذلك كي يسلك أهل الإيمان صراط الله المستقيم ويتبعوا نبيهم -صلوات الله وسلامه عليه-، الله -سبحانه وتعالى- في سورة التوبة يذكر من صفات المؤمنين أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ? [التوبة: 71] فالتحذير من اتباع خطوات الشيطان جاءنا من عند رب العباد -سبحانه وتعالى-، والله أمرنا بالمعروف وكذلك نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- أما الشيطان فهو يأمر بالفحشاء والمنكر والفحشاء ما فحش من الفعل والقول وما اشتد قرحه، والمنكر ما أنكرته الشرائع وأنكرته الفطرة، وأنكرته النفوس المؤمنة الطيبة، فالله -عز وجل- يأمر بالمعروف، أما الشيطان على عكس ذلك،(4/264)
ومما يؤسف له أيها
(20/10)
---
المشاهدون الكرام والمشاهدات أنه مع تحذير رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أولياءه وأحبابه وأتباعه من اتباع خطوات الشيطان، إلا أننا نجد المسارعة كثيرًا في اتباع خطوات الشيطان، وأنا أخرت هذه الكلمة وكنت أود أن أقولها عند الآية الأولى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا? أود أن أشير إلى من يتبعون خطوات الشيطان فيما يعرف بالفن الخليع أو الأدب المكشوف، أو الرقص العاري، أو المنكرات التي تطفو على السطح في دنيا الناس اليوم، هذه فيها إشاعة للفاحشة وفيها اتباع لخطوات الشيطان، والله -عز وجل- يحذركم يا أهل الإيمان وتأملوا حينما قال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا? وهذا النداء مقصود؛ لأن أهل الإيمان هم الذين يستجيبون للرحمن، ويسارعون إلى الاستجابة لله ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهم أجدر الناس بالكف عن اتباع خطوات الشيطان، فعلى كل من يشهد لله بالوحدانية ولنبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- بالرسالة ألا يسلك طريقاً من طرق الغواية والشيطان، ومن ذلك شرب الخمور والمخدرات بأنواعها، والله -عز وجل- في كتابه قد أخبر بأنها من طرق الشيطان، وأنها توقع العداوة بين المؤمنين وأن الذي يأمر بها هو الشيطان اللعين، الله -سبحانه وتعالى- ذكر هذا في كتابه وفي سورة المائدة بالتحديد ليحذر أهل الإيمان من الوقوع في خطوات الشيطان، ?إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ ?91?? [المائدة: 91] فيا أهل الإيمان انتهوا عن جميع خطوات الشيطان ومسالكه الآيات وإن كانت تتحدث في إشاعة الفاحشة بين المؤمنين وقصة الإفك وحادثتها وما إلى ذلك، إلا أن هنا أمراً عاماً للمؤمنين لئلا يسلكوا طرق الشيطان بحال من(4/265)
الأحوال، ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ
(20/11)
---
يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ? [يس: 60] وللأسف الشديد وجد قبل سنوات وإلى يومنا هذا جماعة أعلنوا أنهم يعبدون الشيطان، وضاهوا بذلك المجوس الذين قالوا: نحن نعبد النار لأنها مؤذية، وحرها شديد، ونخاف منها، فنحن نلجأ إليها بالعبادة، وكأن هؤلاء أيضاً قاسوا أنفسهم على المجوس فعبدوا من لعنه الله، وطرده وأيس من رحمة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ?.
(20/12)
---(4/266)
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ?وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? لولا فضل الله عليكم يا أهل الإيمان ولولا رحمة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ما زكى منكم من أحد أبداً، ما رجع منكم أحد إلى الله -عز وجل-، وما تاب منكم أحد وأناب من معصية ارتكبها، والله -سبحانه وتعالى- هو الذي يتفضل عليكم، وهو الذي يوفق أهل الإيمان للهداية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من اتباع خطوات الشيطان، ثم هو سبحانه وتعالى أيضاً لا يزكي كثيرًا من الناس؛ لأن الآية تخاطب أهل الإيمان ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ? وهنا يقول سبحانه: ?وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ? فالضمير يعود إلى من؟ يعود إلى أهل الإيمان، فلولا فضل الله علينا معشر أهل الإيمان ما وقنا إلى الهداية والتوفيق الذي نحن بصدده الآن والهداية والتوفيق والضلال والغواية مسألة من مهمات مسائل الاعتقاد, وهي عند أهل السنة والجماعة أن الله -سبحانه وتعالى- يهدي من يشاء ويوفق من يشاء ويقذف الإيمان في قلب من يشاء، ولا يريد إيمان بعض الناس وهداية بعض الناس، فيخلق الإيمان في قلب من أراد لهم التزكية والهداية والتوفيق وسلوك الصراط المستقيم ويمنع ذلك ويحجبه عن أهل الكفر والنفاق والطغاة والمتجبرين, ونحن نؤمن بذلك بخلاف من خالف في مثل هذا، ممن ينتسبون إلى الإسلام وهم فرق اتبعت عقائد مبتدعة في دين الله -تبارك وتعالى-، أما أهل السنة والجماعة فيؤمنون بأن الله -عز وجل- حبب الإيمان وزينه في قلوب المؤمنين وكره الكفر والفسوق إليهم، ولكنه لم يفعل ذلك مع من أراد بهم الغواية والشقاوة والضلال، والله -عز وجل- له في كل ذلك الحكمة البالغة، لا يسأل -سبحانه وتعالى- عما يفعل وهنا مسألة وهي: أنه لا يجوز(4/267)
(20/13)
---
للإنسان أن يزكي نفسه، الله -عز وجل- يقول: ?وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا? أما أن يزكي الإنسان نفسه فهو ممنوع بنص التنزيل، الله -عز وجل- أخبر بأن تزكية النفوس له وحده، وأن من يزكي نفسه أمره مردود عليه، ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ? [النساء: 49] ويقول سبحانه ناهياً أن يزكي الإنسان نفسه: ?فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى? [النجم: 32] ولا يتعارض هذا وهو أن الله -عز وجل- يزكي من يشاء، لا يتعارض هذا مع قوله تعالى: ?قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ?9?? [الشمس: 9]؛ لأنه قد أفلح من زكاها بتوفيق الله وهداية الله -عز وجل-؛ لأنه لا يقع في كون الله إلا ما أراده رب العزة والجلال -سبحانه-، فلولا فضل الله -عز وجل- ورحمته ما زكى أحد أبداً، والإنسان عليه أن يسلك الأسباب فقط التي توصله إلى تزكية النفس, أما تزكية النفس وتنقيتها وطهارتها من الشرك والرجز والفسوق والعصيان إنما هو بيد رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
المحور الثالث: العفو والصفح من صفات أهل الفضل والخير:
(20/14)
---(4/268)
وتحته قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?22?? نزلت هذه الآية في أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- ومسطح بن أثاثة -رضي الله تعالى عنه-، وكان مسطح من فقراء المهاجرين، وكان قريباً للصديق -رضي الله تعالى عنه- وكان أبو بكر يعطيه ويساعده لفقره وقرابته منه، فلما خاض مع أهل الإفك، وتحدث بما قال المنافقون في أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وهي ابنة الصديق قال -رضي الله تعالى عنه- لما علم بذلك: (والله لا أنفعه بنافعة أبدا) هكذا قال أبو بكر وأقسم هذا اليمين، -رضي الله تعالى عنه- فأنزل الله -جل ذكره- هذه الآية الكريمة ?وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا? فلما نزلت وهي نزلت في أبي بكر وهذا يدل على مكانة أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-، قال: (والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، ثم قال: والله لا أنزعها عنه أبدا) وهذا في مقابلة (والله لا أنفعه بنافعة أبدا)، قال: (والله لا أنزعها عنه أبدا) -رضي الله تعالى عنه- وهذه فضيلة لأبي بكر، هذه الكلمة من أبي بكر فضيلة له وربما إشارة القرآن في قوله تعالى: ?وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ? لتأكيد هذه الفضيلة؛ لأن المراد بأولي الفضل هنا من؟ هو أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-، فهي حقاً فضيلة جليلة لأبي بكر -رضي الله تعالى عنه-، ?وَلاَ يَأْتَلِ? يعني لا يحلف، ارجع إلى مفردات الكلمات، ?وَلاَ يَأْتَلِ? يعني لا يحلف، وهي بهذا مأخوذة كما يقول العرب آل يؤلي واتلى يأتلي، يعني إذا حلف، ومنه قول الله تعالى:
(20/15)(4/269)
---
?لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ? [البقرة: 226] يعني يحلفون، وقيل بأنها مأخوذة من ألى يألو بمعنى قصر، ألى يألو في الأمر إذا قصر فيه ويكون المعنى: ?وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ? يعني ولا يقصر أولو الفضل منكم.
بعد ذلك قال تعالى: ?وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا? هذا ترقيق من رب العزة والجلال ودعاء لأهل الإيمان إلى العفو والصفح الجميل والله -عز وجل- قد خاطب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ?فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ? [الحجر: 85] وقال له -صلوات الله وسلامه عليه-: ?خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ? [الأعراف: 199].
(20/16)
---(4/270)
العفو والصفح وكظم الغيظ والإحسان إلى الآخرين حتى لو أساءوا إليك من أخص صفات أهل الإيمان والله -عز وجل- قد رغب في ذلك وأثنى على من يفعل هذا في كتابه فقال: ?وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?133? الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ?134?? [آل عمران: 133، 134] أهل الإيمان كم يعرفون ذلك ويتمسكون به ومن طريف ما قرأت قبل سنوات عدة في بعض كتب أهل الأدب هو كلام طبعاً يعني ليس موثقاً بروايات، وإنما قرأت أن بعض الخلفاء طلب من خادمه ذات يوم في يوم بادر أن يأتي إليه بماء حار، أذكر هذا لأن حتى الجواري والخدم وأهل العلم والفضل والأمراء والخلفاء كانوا يعرفون مثل ذلك ويتأسون به ويقومون به في العفو والصفح وما إلى ذلك، طلب الخليفة وقتئذ من خادم عنده أن يأتيه بماء حار يتوضأ منه ويقضي حاجته مثلاً، فأتاه بماء حار ولما جاء ليضعه بين يديه سقط شيء من الماء الحار على الخليفة فتأذى، وأسر فيه، فغضب وظهر هذا على وجهه، نظر الخادم إليه فعرف أنه تغير فقال له: يا أمير المؤمنين ?وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ? [آل عمران: 134] قال: قد كظمت، ذكره بهذا: ?وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ? قال: قد كظمت، قال: ?وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ? [آل عمران: 134] قال: اذهب فقد عفوت عنك، قال: ?وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? [آل عمران: 134] قال: أنت حر لوجه الله، الشاهد علينا أن نتعلم مثل هذا فإن كانت هذه رواية صحيحة وهي مذكورة في كتب الأدب ولا يعنينا أن نتثبت فيها لأننا لا نقيم عليها حكماً شرعيًا وإنما نذكرها من باب أن هؤلاء جميعاً الحاكم والمحكوم والخادم والمخدوم، كل كان يعرف شيئًا من كتاب الله -عز وجل- ويتأسى بهذه الأخلاق الفاضلة، فالله -عز وجل- يدعو(4/271)
(20/17)
---
إلى الصفح وإلى العفو في كتاب: ?وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ? أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- بمجرد أن سمع هذه الآية قال: (والله إني لأحب أن يغفر الله لي)، ولذلك أدعوا بهذه المناسبة أيضاً كل من كان عنده حق لأخيه المسلم أن يعفو ويصفح وهذا له عند رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
والله ختم الآية بقوله: ?وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? يعني تعافوا فيما بينكم يا أيها الناس، يا أهل الإيمان تنازلوا فيما بينكم لأن الله -سبحانه وتعالى- غفور رحيم، فتراحموا أيضاً فيما بينكم، وهذه الآية أيضاً تقرر حكماً عقدياً مهماً، وهو أن الكبيرة لا تحبط العمل الصالح، ولا يخرج بها العبد أيضاً من الإيمان وقد ذكر ذلك الإمام القرطبي -رحمه الله تبارك وتعالى- وغيره من أئمة أهل العلم واستنبطوا هذا من هذه الآية لماذا؟ لأن مسطح كان من المهاجرين ثم أتى بهذه الفاحشة المنكرة، وهي فاحشة منكرة، وهي قذف أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- وبعد قذفه نزلت الآية تنسبه إلى الهجرة، وتذكره به، وتقول للنبي المخاطب -صلى الله عليه وسلم- ولأبي بكر -رضي الله تعالى عنه- بأن مسطحاً من المهاجرين، ?وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ? فأثبتت الهجرة لمن؟ لمصطح رغم أنه وقع في هذه الفاحشة والآية وقعت بعد قذفه ورميه لأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، فدلت إذن هذه الآية على أن كبائر الذنوب لا تحبط الأعمال الصالحة، وإن كان الإنسان يتعرض لخطر عظيم، بهذه السيئات وبهذه الموبقات وبهذه المعاصي فلا يعني ذلك أننا نقول بأنها لا تحبطها أن يتجرأ المسلم على مثل ذلك، لأنه لو تجرأ وفعل كثيراً من المعاصي وغطت هذه المعاصي على حسناته التي فعلها باء بالخسران -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(20/18)
---(4/272)
وفي الآية أيضاً حكم فقهي آخر، وقد نص عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه: (من حلف على يمين فرأى غيرها خير منها, فليكفر عن يمينه وليأتِ الذي هو خير) هذا الحكم الفقهي موجود مع أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-؛ لأن أبا بكر -رضي الله تعالى عنه- لما قال مسطح ما قال، قال: (والله لا أنفعه بنافعة أبدا) فلما نزلت هذه الآية رجع عن هذا اليمين، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد أخبرنا في سنته أن الإنسان إذا حلف على يمين ورأى أن هناك منفعة تخالف اليمين الذي حلف عليه يرجع ويكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير، فيكون قد أتى بالحسنى، وهذا أيضاً فيه تحريض من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى أن يلزم العبد الخير دائماً، يعني حتى لو عزمت على أمر من الشر أو حتى من درجات في الخير ولكنها أقل من الأفضل والأخير والأولى, فمن الأولى بك والأجدر بك أن ترجع إلى ما هو أحسن وإلى ما هو أفضل.
المحور الرابع: وعيد من يرمي المحصنات الغافلات:
وتحته آيات منها قول الحق -تبارك وتعالى-: ?إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?23?? هذه الآية الحقيقة فيها وعيد شديد من الله -تبارك وتعالى- على من يقذف المحصنات المؤمنات الغافلات بصورة عامة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما ذكر ذلك ابن كثير وذكر غيره وذكر الإمام ابن كثير بأن عامة أهل العلم على هذا ورجحه الإمام ابن جرير -رحمه الله- وقال الإمام الحافظ ابن كثير بعد أن ذكر قول ابن جرير قال: «وهو الصحيح» في أن الآية عامة ووعيدها عام وشديد على من؟ على من يرمي المحصنات الغافلات من المؤمنات، وعلى رأس المحصنات من المؤمنات من؟ أمهات المؤمنين ومنهم السيدة المباركة الصديقة بنت الصديق عائشة -رضي الله تعالى عنها-.
(20/19)
---(4/273)
وقول الله -عز وجل- في هذه الآية: ?إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ? الغافلات هنا خرج مخرج الغالب، يعني أغلب من يرمى وهذه فضيلة لهم، أغلب ما يرمى من المحصنات لا تعرف هذه الأمور، ولا تتنبه لأقوال الناس، لماذا؟ لأنها تسلك طريقاً قويماً، وتعيش في مكان لا تختلط بالآخرين وتتوسع في مسائل وتتحدث في أمور، ويجري على لسانها من الدنيا ما يجري، لا، كأنهن غافلات بما يحدث على ظهر هذه الحياة ومما يدور حولهن من كلمات وما إلى ذلك، ولا يعني هذا أن من ليست بغافلة عن مثل ذلك ترمى وهي بريئة، ولذلك قيل في كلمة ?الْغَافِلاَتِ? بأنها خرجت مخرج الغالب، وهذه فيها تزكية في الحقيقة للمحصنات من المؤمنات والذين يرميهن أهل الإفك بمثل هذه الفواحش والضلال، ومن يفعل ذلك له عند الله -سبحانه وتعالى- عذاب عظيم، كما ذكرت هذه الآية وعلى رأس ذلك اللعن في الدنيا والآخرة، وإلى جانب اللعن في الدنيا إقامة الحد، وإلى جانب اللعن في الآخرة يترتب عليه الطرد من رحمة الله -عز وجل- ودخول النار، -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.
(20/20)
---(4/274)
ثم بعد ذلك ذكر الإمام الحافظ ابن كثير كلمة لابد أن أذكرها في هذا المقام، لأنها تتعلق بأم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها-، قال -رضي الله عنه-: «أجمع العلماء قاطبة على أن من سبها بعد هذا» يعني من سب أم المؤمنين عائشة «ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن» لأن القرآن بين أنه ملعون، فالذي يرمي أم المؤمنين بعد أن ظهرت براءتها، وبعد أن أنزل الله فيها قرآناً يتلى، الذي يفعل ذلك كافر لماذا؟ لأنه معاند للقرآن، وأنا أحببت أن أذكر هذا وسأذكر نقولاً عن غير الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- لبعض أئمة أهل العلم والأقوال في هذا كثيرة، ويضيق المقام أن نستطرد شيئًا من ذلك ولكني أود أن أقول لقوم ما زالوا إلى يومنا هذا, يرمون ويطعنون ويقذفون ويسبون أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- بعد أن برأها ربنا -سبحانه وتعالى-، فبعد أن برأها ربنا -عز وجل- كيف يليق بسلم أن يرد خبر الله -سبحانه وتعالى-، أو أن يطعن عليها، أو أن يسبها -رضي الله تعالى عنها-، تبرئة الله -عز وجل- لأم المؤمنين شرف عظيم، وفخر كبير ومكانة ارتقت هي بها -رضي الله تعالى عنها-، ولذلك قال هذا الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- وقال الإمام الحافظ الذهبي كلمة جميلة في سير أعلام النبلاء، أحب أن أُسمعكم إياها، يقول -رحمه الله تعالى-: «وإياك يا رافضي أن تلوح بقذف أم المؤمنين بعد نزول النصر في براءتها فتجب لك النار»، يقول: إياك أيها الرافضي أن تطعن على أم المؤمنين عائشة أو أن تلوح بقذفها بعد أن برأها الله فتجب لك النار لذلك، وقال الإمام الجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تبارك وتعالى-: «والحاصل أن قذفها -يعني أم المؤمنين عائشة- كيفما كان يوجب تكذيب الله –تعالى- في إخباره عن تبرئتها عما يقول القاذف وهذا يوجب له النار -والعياذ بالله تبارك وتعالى-» ثم يقول: «ومن كذب الله فقد كفر»، إذن(4/275)
(20/21)
---
هذه الآية تضع لنا قواعد عظيمة جدًا، وتشيد أيضاً بأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- وأنها بريئة وأن الذين رموها بهذه الفاحشة العظيمة الكبيرة لهم عند الله -سبحانه وتعالى- عذاب عظيم، وقوله -عز وجل-: ?لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ? كقوله -سبحانه وتعالى- في آية سورة الأحزاب: ?إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ?57?? [الأحزاب: 57].
فاحذر يا أيها الإنسان أن تؤذي الله، أو أن تؤذي رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، أو أن تؤذي أهل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فتُلعن في الدنيا والآخرة ويكون لك هذا العذاب العظيم، من لدن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(20/22)
---(4/276)
ومن أعظم ما يرتكبه المسلم من موبقات هو قذف المحصنات، ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: الشرك وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والزنا والسحر، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المؤمنات المحصنات) فالقذف من الكبائر التي توعد عليها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ومن الموبقات أيضاً التي جاءت في الحديث أكل الربا، كل هذه الأمور يجب أن يحذرها المسلم، ويجب بالذات هنا وأنا في هذا المقام أن أأكد أن عائشة -رضي الله تعالى عنها- بريئة، وأن من قذقها ملعون في الدنيا والآخرة، وأن من قذفها بعد تبرئة الله -سبحانه وتعالى- لها متوعد بأشد ألوان العذاب من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، ومما توعدهم ربنا -عز وجل- به ما جاء في قوله في الآية التالية: ?يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?24?? الآية السابقة ذكر الله -عز وجل- فيها أن من يرمي الغافلات المحصنات المؤمنات ملعون وله عذاب أليم في الدنيا، وأيضًا له عذاب أليم في الآخرة، متى؟ قال الله ?يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?24?? وقد بين الله -عز وجل- في مواضع من كتابه، أن بعض أجزاء الكافر تشهد عليه، جاء في القرآن الكريم أن بعض أجزاء الكافر ستشهد عليه، وهذا كما جاء في قوله: ?الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ?65?? [يس: 65] وقال سبحانه: ?حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?20?? [فصلت: 20] فدلت هذه الآيات إلى جانب هذه(4/277)
(20/23)
---
الآية أن أعضاء الكافر ستشهد عليه، ولذلك في صحيح مسلم يقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والحديث في رواية أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- يقول: (ضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وهم موجودون معه -عليه الصلاة والسلام- فقال لهم: هل تدرون مما أضحك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يوم القيامة، يقول يا رب: ألم تجرني من الظلم؟ قال: فيقول الله -عز وجل- بلى، -يعني قد أجرتك من الظلم- فيقول العبد: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً من نفسي، فيقول الله -عز وجل- له: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالملائكة الكرام شهوداً، ثم يختم على فيه، فتنطق أركانه وتشهد، ثم بعد ذلك يخلى بينه وبين أركانه، وبين النطق، بينه وبين كلامه، فيتكلم ويقول: بعداً لكُنَّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل) فبين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أيضاً في سنته ما بينه القرآن, وعلى كلٍّ ذكر هذه الآية فيها تهديد أيضاً ووعيد للذين يقذفون المحصنات: ?يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ? يعني لسانك شاهد عليك, وإذا لم ينطق ورغبت شاهداً غير لسانك الذي نطق وتكلمت به، ستشهد عليك أعضاؤك بما فعلت وبما اكتسبت وبما اقترفت فاحذر إذن من الوقوع في هذه الفاحشة؛ لأنها من خطوات الشيطان.
(20/24)
---(4/278)
ثم يتبع رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- هذه الآية بآية أخرى لها تعلق بها وهي: ?يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ?25?? ?يَوْمَئِذٍ? يعني في يوم القيامة، ?يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ? قال الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- أن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- قال: ?دِينَهُمُ? يعني: حسابهم، وقال بعدها الإمام الحافظ ابن كثير: وكل كلمة جاءت بمعنى دينهم في القرآن تعني الحساب، وهذا صحيح على معنى أيضاً أن الجزاء مترتب على الحساب، لأن المراد من الآية ذكر الجزاء بعد قوله: ?يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ? ستشهد عليك أيها الإنسان ويترتب على هذه الشهادة هذا الحساب ومسائلة يترتب على ذلك جزاء ولذلك قيل في قوله تعالى: ?يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ? يعني جزاءهم الحق، ومما يدل على ذلك أن كلمة الجزاء هو المراد هنا؛ لأنها ذكرت بعد قوله: ?يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ?؛ لأن الجزاء دائماً يأتي مع التوفية، كما في قوله تعالى: ?ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى ?41?? [النجم: 41] ?وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ? [آل عمران: 185] وهذا هو الجزاء إذن ?يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ? يعني الجزاء على ما ارتكبوا وعلى ما فعلوا وعلى ما قدمت أيديهم وقوله: ? الْحَقَّ ? هنا إشارة على أن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، حكم عدل، والحق من أسمائه - كما سبق- أن أشرت والجزاء عنده بعدل وإنصاف لا جور فيه ولا ظلم؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- لا يظلم الناس شيئًا وهو قال عن ميزانه الذي سيضعه ويحاسب به العباد في يوم الدين: ?وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا? [الأنبياء: 47] وقال سبحانه: ?إِنَّ اللهَ(4/279)
(20/25)
---
لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا? [النساء: 40] فإن كان لك أجر يا عبد الله فاعلم أنه مضاعف عن رب العزة والجلال، فلا تخشَ شيئًا يضيع وإن كان عليك وزر فاعلم أن الحكم عند الله والجزاء عند الله -سبحانه وتعالى- بالعدل لأنه هو الحق، وكلامه حق، ووعده حق وميزانه حق لأنه -سبحانه وتعالى- هو الحق، ?يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ?25??، كلمة أيضاً ?وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ? تشير إلى وجوب عبادة الله وحده دون سواه، لأنه يا عبد الله إذا كان هو الحق المبين الواضح الظاهر فكيف تترك من له الحق عليك، وهو الحق وحده وتذهب إلى غيره مما لا يمكن أن يُصرف إليه أي لون من ألوان العبادة؟!
ثم بعد ذلك يقول رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- خاتماً الكلام عن هذه الحادثة والتي خاض فيها من خاض والتي أظهرت رحمة الله -عز وجل- بعباده في قبول توبة من تاب وظهر فيها أيضاً نهي الله -عز وجل- عن اتباع خطوات الشيطان وظهر فيها وعيده لمن يرتكب هذه الفاحشة العظيمة الوقحة الكبيرة التي من يقع فيها لا شك أن قلبه ولا شك مريض.
بعد هذا كله ذكرت هذه الآيات آية في ختام هذه المسألة تشير إلى أمر مهم وإلى معاني عظيمة، وهي ما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ?26??.
(20/26)
---(4/280)
يقول الإمام الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- ناقلاً عن الإمام ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- وهذا أيضاً رجحه الإمام ابن جرير، وله وِجهةٌ سأذكرها الآن: ذكر الإمام ابن كثير عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: «الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول، وقال: نزلت هذه في أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-» وقول أهل الإفك وقد روي هذا عن ابن عباس وروي مع مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغير هؤلاء واختاره الإمام ابن جرير -رحمه الله تبارك وتعالى- ووجهه الإمام ابن جرير بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة -رضي الله تعالى عنها- هم أولى به لأنهم من الخبثاء وأم المؤمنين عائشة مطهرة طيبة بريئة فهي أولى بالكلام الطيب وبالقول الطيب.
(20/27)
---(4/281)
وقال الإمام ابن كثير أيضاً قولاً لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم -رحمه الله تبارك وتعالى- قال: «الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء»، وهذا في الحقيقة يرجع إلى ما قاله ابن عباس والضحاك وسعيد بن جبير ومجاهد ورجحه الإمام الحافظ ابن جرير -رحمه الله تعالى- يرجع إلى هذا القول باللازم؛ لأنه يلزم من الطيب أن يكون معه طيب، ويلزم من الخبيث أن يقارنه أو يرافقه خبيث, ولذلك نحن حتى العامة يقولون: الطيور على أشكالها تقع، فلا شك أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وهكذا الأمر في الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات، وهذه شهادة وتبرئة أيضاً لأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، ورمي لأهل الإفك والضلالة بأنهم هم أولى بالقبح من أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- وأنها ليست على ما قالوا، وليس فيها مما ذكروا لأنها طيبة ويكفي أنها قرينة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهل هناك أطيب من رسول الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه-.
ومن الآثار التي حفظت عن ابن عباس نفسه لما أتى عائشة -رضي الله تعالى عنها- وهي في سياق الموت وبشرها -رضي الله تعالى عنه- ومن ضمن الكلام الذي قاله لها، قال: (وكنت زوجة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- طيباً ولا يختار رب العزة والجلال لهذا الطيب إلا من يكون مثله ألا وهو الطيب)، فهذه أيضاً تبرئة لأم المؤمنين عائشة وختامها فيه هذا التوضيح قال: ?أُولَئِكَ مُبَرَّؤونَ مِمَّا يَقُولُونَ? يعني أم المؤمنين عائشة وعائلة أبو بكر -رضي الله تعالى عنها- مبرؤون جميعاً مما يقولون ولهم فضل أيضاً عند الله -عز وجل-، وهو: قال: ?لَهُم مَّغْفِرَةٌ? وقعت لهم مغفرة في الدنيا وتاب الله -سبحانه وتعالى- عليهم ووعدهم بما وعدهم به في هذه الحياة الدنيا من الفضل ومن ثناء الله -سبحانه وتعالى- عليهم، وما إلى ذلك.(4/282)
(20/28)
---
وأما الرزق الكريم فهو على أرجح أقوال أهل العلم وعلى أرجح أو أكثر أقوال أهل التفسير أن الرزق الكريم مراد به الجنة، فهذا أيضاً وعد لأم المؤمنين بأن تكون أين؟ في الجنة، ولذلك ذكر هذا الإمام الحافظ ابن كثير تعالى قال: «?وَرِزْقٌ كَرِيمٌ? يعني الجنة، وفيه وعد لأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن تكون أيضاً هي زوجة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الجنة».
بقيت مسألة قبل أن أختم هذا اللقاء وكلمات قليلة -إن شاء الله تعالى- بعد أن عشت في هذه الحلقة والحلقة الماضية مع حادثة الإفك وأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وما إلى ذلك، أود أن أقول لعموم المسلمين: إن أهل الإسلام برزوا على تقدير ومعرفة مكانة أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكان الواحد منا يا أهل الإسلام عندما يأتي ذكر لواحدة منهن يتربى عليهن, وكان الحديث يسبق عنهن بقولنا: أم المؤمنين, والله -عز وجل- ذكر ذلك في كتابه، فاحذروا معاشر المستمعين وبلغوا من وراءكم من الطعن في زوجات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ لأنهن لهن مكانة عالية.
(20/29)
---(4/283)
أيضاً هناك بعض المسائل التي أود أن أتحدث عنها وهي: لماذا لم يحكم النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في هذه المسألة؟ استلبث الوحي شهراً, تأخر الوحي شهراً والناس يفيضون في هذه الحادثة وهو لم يتكلم، ولا شك أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- يعرف أهله، وهو لما قام على المنبر خطيباً، قال: (من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا) ولكن هذا فيه تمحيص أولاً لأهل الإيمان، وفيه رفعة لآل أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-، وإشادة بهم، وفيه فضل من الله على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حينما يتولى ربنا -سبحانه وتعالى- من فوق عرشه براءة زوج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وحتى لا يقول أحد بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- شهد لنفسه؛ لأنه طرف في هذه القضية فقد ابتعد هو -صلى الله عليه وآله وسلم- وبرأه رب العزة والجلال وبرأ زوجه ربنا -سبحانه وتعالى-.
(20/30)
---(4/284)
أيضاً موقف علي بن أبي طالب؛ لأن الروافض والنواصب يتحدثون في هذه المسألة ويقولون بأن علي بن أبي طالب كان هو يطعن أيضاً في أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- وهذا ليس بصحيح علي بن أبي طالب سأله النبي -عليه الصلاة والسلام- كما سأل أسامة بن زيد ولو رجعتم معي إلى الحلقة الماضية في سؤال النبي -عليه الصلاة والسلام- عليَ بن أبي طالب وأسامة بن زيد نجد أن عائشة قالت: (فأما أسامة بن زيد فأخبر بما يعرفه عن أهل النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني عن عائشة من الخير وبما يكنه لهم من الود، وأما علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- فقال: النساء غيرهن كثير وإن تسأل الجارية تصدقك)، حقيقة قول علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- هنا ليس طعناً على أم المؤمنين عائشة ولكن علي بن أبي طالب هذا يشكل للنبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا ليس هيناً بهذا ابن عم النبي -صلوات الله وسلامه عليه- ولقد رأى من هم وحزن النبي -صلى الله عليه وسلم- الشيء الكثير، فأراد -رضي الله تعالى عنه- أن يهون الأمر على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأن يقطع ما فيه من ريبة إن أحب ذلك، ولم يأمره بفراقها ولا بطلاقها ولا بأن يذهب إلى غيرها، بدليل أنه قال: (وإن تسأل الجارية تصدقك) يعني أنه لا يطعن على أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- ولا يدور بخلده شيء من ذلك بحال من الأحوال، فعلى من يظن أو يزعم أن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- كان يرى شيئًا في أم المؤمنين عائشة لقولته هذه فلا يعتبر قوله ويجب عليه أن يكف عن مثل هذا المعتقد لأن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- يعرف قدر ومكانة أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، ولم يطعن عليها ولم يثبت عنه -رضي الله تعالى عنه- أنه قال شيئًا ولو يسيراً يتعلق بأم المؤمنين عائشة مما يؤذيها -رضي الله تعالى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم-.
(20/31)
---(4/285)
أيضاً فيه مسألة عقدية تتعلق بهذه المسألة بحادثة الإفك مأخوذة من سياق حديث حادثة الإفك ألا وهي فضيلة المهاجرين، وفضل الهجرة في سبيل رب العزة والجلال وأيضاً فضيلة من شهد بدراً من الصحابة لماذا؟ لأن أم مسطح -رضي الله تعالى عنها- لما عثرت وقالت: (تعس مسطح) ماذا قالت لها عائشة -رضي الله تعالى عنها-؟ قالت: (أتسبين رجلاً شهد بدراً)، فدل ذلك على أن لأهل بدر مزية، ومكانة، ورفعة عالية، أيضاً هذا يدل على فضل أم مسطح -رضي الله تعالى عنها-؛ لأنها لم تحابِ ابنها في الله -عز وجل- فدعت على ابنها بالتعاسة لأنه خاض في عرض من بالباطل؟ خاض في عرض أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-.
وأيضاً في الحديث فوائد متعددة أود أو أوجه أغلب ما أجد الحاجة تمس إليه في المجتمع اليوم, من فوائد هذه الحادثة:
(20/32)
---(4/286)
1- أن المرأة لا تخرج من بيتها إلا بإذن وليها، وأقول: وليها, لماذا؟ لأن المرأة إما أن تكون في بيت أبيها فهو وليها، وإن كانت في بيت زوجها فزوجها هو وليها، فلا تخرج المرأة من بيت وليها إلا بإذنه، والدليل على ذلك، أن أم المؤمنين عائشة لما سمعت بالخبر من أم مسطح لا شك أن وقعه عليها كان يسيراً أم شديداً؟ هذا مصيبة عظيمة في جارية حادثة السن, حبيبة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقع على نفسها وهي جارية كما ذكرت في الحديث, جارية حديثة في السنة، -رضي الله تعالى عنها- ولكنها مع هذا لم تخرج من بيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، حتى جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- وسلم وسأل عنها فاستأذنته في الخروج إلى بيت أبيها، وهي لا تريد الذهاب إلى بيت أبيها لأمر ما، إلا لكي تستيقن من الخبر، فهنا دافع شديد إلى أن تخرج إلى بيت أبيها، إلى أنها مع ذلك لم تخرج إلا بإذن زوجها، ألا وهو رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذه قضية يجب على نساء المسلمين أن يعرفوها، وأن يعوها حق الوعي؛ لأن هذه من التربية الأخلاقية التي ربى القرآن الكريم أتباعه عليها، وهي نراها اليوم في هدي أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، ونحن نتأسى بخيار هؤلاء القوم.
(20/33)
---(4/287)
2- وبقيت بقية يسيرة جداً وأنتهى ألا وهي لأنها تتعلق بما نسمعه من حوادث في هذا الزمان، من آذى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وجب قتله، الذي يؤذي النبي -عليه الصلاة والسلام- ليست له حرمة، وليست له كرامة ولا ينبغي أن يكون له وجود، وهذا أمر لا أقوله من عندي, وإنما آخذه من هذه الحادثة، الذي يؤذي النبي -عليه الصلاة والسلام- يقتل وقد نص على هذا جمهور أهل العلم أن من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل وبعضهم قال: لا توبة له، لأنه إذا قال على النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو من هو، فماذا بعد ذلك؟ الشاهد والدليل على أن من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل، أن سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه- لما قام النبي -عليه الصلاة والسلام- على المنبر وقال: (من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيت والله ما علمت على أهل بيتي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عنه إلا خيراً وما كان يدخل بيتي إلا معي، قام سعد بن معاذ) سعد بن معاذ ومن هو سعد بن معاذ -رضي الله تعالى عنه- الذي اهتز عرش الرحمن لموته -رضي الله تعالى عنه- (قال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الخزرج قطعنا رقبته) قال هذا أمام النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم ينكر عليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قوله، ومن المعلوم عند علماء الحديث أن إقرار النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حجة وهو من هدي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فالسنة في اصطلاح علماء المحدثين ما أثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير وهنا تقرير، وإقرار من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على قول سعد, وهذه يعني غضبة لرسول الهدى والرحمة -صلوات الله وسلامه عليه- محبة له أتقرب بها عند الله -سبحانه وتعالى- يوم ألقاه.
وأكتفي بهذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إجابات الحلقة الماضية
(20/34)
---(4/288)
كان السؤال الأول: "حادثة الإفك رفعت من شأن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-" بين كيف كان ذلك. وما هي الآية التي دلت على وجود منفعة في حادثة الإفك؟
وكانت الإجابة:
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين زوجاته وفي هذه الغزوة وقعت القرعة على عائشة -رضي الله عنها- فلما رجعوا من الغزو نزلوا في بعض المنازل فخرجت عائشة تقضي حاجتها فلما رجعت تحسست صدرها فعلمت أن عقدها وقع منها فعادت إلى مكان قضاء حاجتها تبحث عنه، فجاء المسلمون فحملوا هودجها ولم يستنكروا خفته حيث أنها كانت فتية السن، لم يتغشاها اللحم، فعندما رجعت عائشة فلم تجدهم فظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها, غلبتها عيناها فنامت فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان يعرفها قبل نزول آية الحجاب فأناخ راحلته حتى ركبت فكانت هي خلفه وهو أمامها، فلما وصلوا تُكلِّم عما لا يليق به ووجد عدو الله عبد الله بن أبي مجالاً ليشيع ويذيع في عرض زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانتشر الخبر بين الناس وعائشة منذ أن رجعت مرضت شهراً ولا تعلم عن حديث الإفك شيئًا غير أنها لم تجد اللطف من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما نقهت خرجت هي وأم مسطح لقضاء الحاجة ليلاً فعلمت منها حديث الإفك فجعلتى تبكي ولم تكن تكتحل بنوم ولا يرقأ لها دمع فلما أتى إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتشهد وقال: (أما بعد إن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممتي بذنب فاستغفري الله فقالت: إني أعلم والله أني بريئة ولم تصدقوني وإن قلت غير ذلك فستصدقوني، ولا أقول إلا كما قال أبو يوسف: ?فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ? [يوسف: 18] فنزل الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما سُري عنه قال: أما الله فقد برأك فقالت أمها: قومي إلى رسول الله -صلى الله(4/289)
(20/35)
---
عليه وسلم- فقالت: والله لا أقوم ولا أحمد إلا الله تعالى، ونزلت الآية: ?إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ? [النور: 11].
في الحقيقة هذا الجواب بهذه الطريقة وهو ما يشكو منه الأستاذ عبد الرحمن يعني الجواب فيه طول والسؤال يعني جوابه في كلمات معدودة، في أن الأمر فيه رفعة, وأن الله-عز وجل- برأ بنفسه أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، والآية التي أشارت إلى أن فيه منفعة هي الآية الأولى: ?إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ? [النور: 11] الخيرية هنا رفعة لأبي بكر ولبنت أبي بكر ولآل أبي بكر -رضي الله تعالى عنهم- وذكر لهم في الدنيا وفي الآخرة وكون الله -عز وجل- يتولى بنفسه الدفاع عنها كل هذا من الخير الذي نالته أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-.
السؤال الثاني: من الذي تولى كبر الحديث في مسألة الإفك؟ وهل أقيم حد القذف عليه؟ ولماذا؟
وكانت الإجابة:
قال بعضهم أنه حسان بن ثابت هو الذي تولى كبره، وهذا غير صحيح، فقد كانت عائشة -رضي الله عنها- تكره أن يتكلم أحد عن حسان والصحيح أن الذي تولى كبره هو المنافق وهو عدو الله عبد الله بن أبي بن سلول.
الجواب صحيح، وتتمته تتم الجواب قلتها اليوم، بأن عبد الله بن أبي لم يقم عليه الحد.
السؤال الثالث: اشرح قول الله تعالى: ?لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ?12??؟
وكانت الإجابة:
(20/36)
---(4/290)
أن هذه الآية لها سبب نزول وهو أن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت لزوجها أبو أيوب: (أما تسمع ما يقوله الناس في عائشة؟ فقال: نعم، وذلك كذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ فقالت: لا، والله ما كنت فاعلة فقال: فعائشة –والله- خير منك)، فنزلت هذه الآية، فهؤلاء ظنوا الخير في أم المؤمنين -رضي الله عنها وأرضاها-.
الجواب صحيح, ولا بأس به.
الأخت الكريمة من مصر تقول: فضيلة الدكتور قلتم في الحلقة السابقة: إن من استخدم اسم لله من أفعاله فو آثم، معنى ذلك أننا حين نقول: يا مسهل أو يا ميسر فنكون آثمين ولقد سمعت في أحد الفضائيات من يقول: إن الله موجود، كلمة خطأ لأن الله واجد وليس موجوداً، وهذه الكلمة على ألسنتنا دائماً؟
السؤال الثاني: أرجو أن تبين لنا فضيلتكم كيف نوحد الله في الأسماء والصفات توحيداً حقيقياً, ولو سمحت يا فضيلة الدكتور لقد قرأت كثيرًا واحترت وخشيت على نفسي من القراءة في التوحيد في الأسماء والصفات فأريد أن أوحد توحيداً حقيقاً في الأسماء والصفات كما يرضاه الله لنا..
(20/37)
---(4/291)
بالنسبة للسؤال الأول: وهي قالت: استخدام اسم من أفعال الله تعالى. أنا قلت اشتقاق والقاعدة في هذا: أنه لا يشتق لله -عز وجل- من أفعاله أسماء، لأن أسماء الله -عز وجل- كلها حسنى، وما يذكره رب العزة والجلال من أفعال له تكون أحيانًا في مقابلة لأفعال الكفار، وفعلها في مقابلة فعل الكافرين وإضافته إلى الله -عز وجل- في هذه الحالة حسنة، ولكنه ليس حسن على الإطلاق، وأضرب على ذلك مثال: قوله تعالى مثلاً: ?وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ? [الأنفال: 30] ?وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ? هذا من أفعال الله -عز وجل- ألا وهو مكر الله -عز وجل- بالكافرين الذين يمكرون، مكر الله بمن يمكر حسن، فعل حسن، ولكن المكر بإطلاق ليس حسناً، ولكنه في هذا الموطن من باب الجزاء والمقابلة على الفعل هو حسن من رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، ولهذا لا يليق أن نشتق لله -عز وجل- من هذا الفعل الذي ذكره لنا عن نفسه لا نشتق من اسمه فنقول بأن الله هو الماكر، أو ?يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ? [النساء: 142] نقول بأن الله مخادع, حاشا وكلا أن يقال مثل ذلك على رب العزة والجلال ولذلك نقول: بأن أسماء الله -عز وجل- توقيفيه، توقيفية يعني لابد أن سيكون الاسم منصوصاً عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية مفيداً العلمية، منصوص عليه يفيد أنه علم على ذات رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وإذا ثبت الاسم ترتب عليه الأمور التالية: أن تدعو الله -عز وجل- به، أن تسمي به من شئت كأن تقول مثلاً: عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد العزيز أو عبد المنان، أو تضيف أو تعبد لأي اسم ثابت من أسماء الله -تبارك وتعالى-.
(20/38)
---(4/292)
أما الدعاء بغير أسماء الله -عز وجل-، فهذا لا يجوز، إطلاق الأسماء التي ذكرت الأخت بعضها الآن كمسهل أو ميسر أو موجود... مثلاً، نقول هذه الكلمات لا يطلق منها إلا ما كان معناه صحيحاً ولا يوهم الخطأ، يعني يمكن أن يطلق على الله -عز وجل-، وهذه قاعدة ذكرها الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد، أن يطلق على الله -عز وجل- من الأخبار ما يكون معناه صحيحاً، ولا يوهم الخطأ فإن كان المعنى صحيحاً، ولا يوهم الخطأ فيجوز إطلاقه على الله -عز وجل- من باب الخبر، وليس على أنه اسم من أسماء الله -تبارك وتعالى-، فأنت في معرض مثلاً الرد على الملاحدة أو المنكرين الذين ينكرون وجود الله -عز وجل-، فتخبر عن الله -عز وجل- بأنه موجود يكون المعنى صحيحاً، ولكن لا تقول: يا موجود اغفر لي أو تسمي ولدك مثلاً يا عبد الموجود، لماذا؟ لأن الموجود ليس من أسماء الله -عز وجل- لأن معناه ليس حسناً بإطلاق؛ لأن كلمة موجود لا تقال للشيء إلا إذا كان مفقوداً ثم وجد فقيل عنه موجود، والموجود قد يقال من أوجده؟ لأن الموجود له موجد أوجده، وليس اسماً حسناً إذا أضيف إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، ولكن معناه من باب الخبر عن الله -عز وجل- بأنه ذات قائمة بنفسها وأنه -سبحانه وتعالى- حي قادر قائم بنفسه، فتقول عنه موجود بهذا المعنى، فهذا معنى صحيح، ولكن لا تخلط بين الأمرين.
(20/39)
---(4/293)
أما السؤال الثاني: في كيف نوحد الله في الأسماء والصفات توحيداً حقيقياً؟ والله هذه مسألة سهلة جداً، أيها الأخت السائلة ويا أمة الإسلام الحقيقة الذي ضيق على المسلمين في هذه المسائل استخدام العقل في هذا الباب أو السير وراء علماء الكلام وإلا فعقيدة الإسلام في هذه المسألة في غاية من السهولة واليسر، يعني قبل أن أقول أوضح العقيدة الصحيحة في كلمات، أوجه كلمة عامة لجميع المشاهدين والمشاهدات، الآيات القرآنية في الصفات والأحاديث النبوية لم نجد نحن في السنة النبوية استشكال من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- لها، لذلك الإمام ابن القيم -رضي الله تعالى عنه- يذكر في كتابه الصواعق المرسلة: بأن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- كانوا كثيرًا ما يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أحكام فقهية تعبدية كثيرة، ولكنه ما أثر عنهم أنهم استشكلوا شيئًا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات، لماذا؟ لأنهم أخذوها على ظاهرها وبما يفهمون من معانيها على مقتضى لغة العرب؛ لأننا خوطبنا بلغة العرب، فيجب علينا أن نفهم من كتاب الله -عز وجل- وفيما يتعلق بأسماء الله وصفاته ما يدل عليه ظاهر اللفظ، ولا نصرفه هنا أو هناك، وبالتالي أقول: القواعد التي يجب على المسلم والمسلمة أن يتعلمها كي يفهم توحيد الأسماء والصفات فهماً حقيقياً أن يعرف التالي: هي ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: إثبات ما أثبته الله -سبحانه وتعالى- لنفسه، فنحن نثبت، أو ما أثبته له نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- وذلك فيما صح به الخبر فنثبت لله -عز وجل- ما أثبته ربنا -سبحانه وتعالى- لنفسه وفيما صح به الخبر عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إثباتاً يليق بجلال الله وكماله.
(20/40)
---(4/294)
القاعدة الثانية بعد الإثبات: أن ننفي كل ما نفاه الله -سبحانه وتعالى- عن نفسه، ونعتقد مع هذا أن الله -عز وجل- لا يشبه ولا يماثل فيما ثبت له أحداً من خلقه، القاعدة الأولى أثبتنا الأسماء والصفات، القاعدة الثانية يجب أن نوقن وأن نوطن أنفسنا على أن ما ثبت لله -عز وجل- من أسماء وصفات لا يشابه ربنا فيه أحد من المخلوقات، وهذه قضية سهلة جداً، أدلل عليها بجزء من آية في القرآن الكريم، قول الله تعالى: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ? [الشورى: 11] هذا جزء آية, اشتمل على أمرين: هذا الجزء:
الأمر الأول: نفي التمثيل والتشبيه عن الله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? ثم ختم الآية بقوله: ?وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ? فدل ذلك على أن نفي المثلية والتشبيه عن الله لا يلزم منه نفي الأسماء والصفات وهنا القاعدة إذن أو القاعدتين التين ذكرتهما الآن اشتقنا من هذا الجزء من الآية: إثبات ما أثبته الله لنفسه وهو المراد بالسميع البصير، ونفي ما نفاه الله عن نفسه وعدم اعتقاد أن ما ثبت له من أسماء وصفات لا يشابه فيه ربنا أحداً من المخلوقات لأنه قال: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? [الشورى: 11].
(20/41)
---(4/295)
القاعد الثالثة: قطع الطمع عن إدراك الكيفية يعني يجب أنني أقطع طمع عقلي وذهني وقلبي ولا يكون في رأيي أو عقلي وسوسة في أنني أسأل كيف الله -عز وجل- أو كيفية صفات الله -سبحانه وتعالى-، ربنا كثيرًا في القرآن الكريم أخبرنا عن صفات الله وأسمائه, أخبرنا أنه يسمع ويبصر: ?أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا? [مريم: 38] قال: ?وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ? [الشورى: 11] ?قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا? [المجادلة: 1] الله -عز وجل- يسمع ولا يستطيع أحد فيما أرى من عقلاء المسلمين اليوم أن ينفي عن الله صفة السمع، ولكن هل تأتي وتقول: أنا أسمع والله يسمع فإذن سمع الله كسمعي؟ هذا باطل، الله يسمع كيف يسمع؟ الله أعلم، أنت تثبت حقيقة السمع لله ومن ذلك أنه يسمع على وجه الحقيقة ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ويسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخر الصماء، وما إلى ذلك يسمعه على الحقيقة أما كيفية ذلك فلا يعلمه إلا رب العزة والجلال والمسألة في هذا طويلة وقد أطلت والله أعلم.
الأخت الكريمة من الإمارات تقول: انتشر بين الناس الآن بواسطة الهواتف النقالة الرسالة التالية: ?إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ?57?? [الأحزاب: 57] سورة الأحزاب الآية السابعة والخمسين، وهو الرقم التسلسلي التجاري للمنتجات الدانماركية فهل يعد هذا من بيان وإعجاز؟ فما قولكم يا شيخ وما نصيحتكم لمن يفسر القرآن بهذه الطريقة؟.
(20/42)
---(4/296)
في الحقيقة كلام الله -عز وجل- أرفع وأعلى مكانة من أن نقول فيه هذا بحال من الأحوال ولا يوافق فيما أرى أحداً من علماء المسلمين على مثل هذا، كلام الله -عز وجل- الذي تكلم رب العزة والجلال به أعلى وأرفع من أن يوافق قول هؤلاء المجرمين حتى في مثل هذه المسألة والله -عز وجل- نزه نفسه ونزه نبيه -صلى الله عليه وسلم- وتوعد من آذى الله أو آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما لا يليق به ويكفي أن نقرأ كتاب ربنا وأن نعرض عما يقوله هؤلاء الآفاقون وليس هناك وجه ارتباط بين هذا وبين ذاك فرق بين كلام الله -عز وجل- وبين ما يقوله هؤلاء المجرمون، يعني ولو قلت أين الثرى من الثريا لكان الكلام قليلاً، ولا أقابل بين هذا وذاك بحال من الأحوال.
الأخ الكريم من الإمارات يقول: كيف نتعامل مع الذين يسبون الصحابة وعائشة -رضي الله عنهم-؟ وهل تجوز موالاتهم؟ وما حكم الإسلام فيهم؟
(20/43)
---(4/297)
في الحقيقة كيف نتعامل معهم نحن علينا أولاً أن نعلم أمتنا العقيدة الصحيحة في كل ما يتعلق بأمور الدين، ومن صلب مسائل الاعتقاد موقف أهل السنة والجماعة من صحابة النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- فموقفهم فيهم موقف وسط بين من غلا في بعضهم وفعهم إلى درجة الألوهية أو النبوة أو الولاية وأنه أعلى وأفضل من غيره، وقدمه على سائر صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن ناصب بعضهم العداء أو كفر بعضهم أو ما إلى ذلك، أهل السنة يحبون جميع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ويترضون عليهم ولا يغلون في واحد منهم، أما من يطعن على خيار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عدا علياً مثلاً وبعض الأفراد القلائل من صحابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقد باء بذنبه, واعتقاده هذا اعتقاد باطل وليس له ولاء منك يا أيها المؤمن, تواليه على أي أساس؟ هذه عقيدة فاسدة هذه عقيدة باطلة، يعني أقرب وجه شبه بهؤلاء أنهم أشبهوا اليهود, بل ما أشبهوا في مثل هذه المسألة اليهود، هم أشبوا اليهود في مسائل متعددة وفارقوهم في هذه المسألة.
الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في مقدمة كتابه: منهاج السنة النبوية، ذكر وجوه شبه كثيرة بين اليهود وبين من يطعن على صحابة النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم-، فلا يوالى هؤلاء ولكن القصد من ذلك أننا نتعلم الدين الصحيح، ونعلمه أبناءنا، فإذا عرف الحق ظهر الباطل واندثر -إن شاء الله تبارك وتعالى-.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟.
السؤال الأول: « النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين منهج تربوي قويم» تحدث عن هذا الموضوع مستدلاً بحديث للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟
السؤال الثاني: اذكر مع التعليل حكم من قذف أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-.
ولنكتفِ بهذين السؤالين من باب التخفيف.
(20/44)
---(4/298)
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الحادي والعشرون
الدرس الحادي والعشرون: تفسير سورة النور
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين والمشاهدين والمشاهدات، ويسرنا -إن شاء الله وتعالى- في هذا اللقاء أن أتحدث عن بعض آيات في سورة النور تدور هذه الآيات حول المحاور التالية:
المحور الأول: الاسئذان من الآداب التي جاء بها الإسلام.
المحور الثاني: أمر الله المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار وحفظ الفروج.
المحور الثالث: يحرم على المرأة إبداء زينتها لغير محارمها.
ولنستمع إلى آيات هذا اللقاء مع الأخ الكريم, فليتفضل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(21/1)
---(4/299)
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ?27? فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ?28? لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ?29? قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ?30? وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?31??.
جزاك الله خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين وبعد،
(21/2)
---(4/300)
فهذا اللقاء كما سمعتم من الآيات التي استمعنا إليها جميعاً لقاء يتحدث عن جملة من الآداب والأخلاق الإسلامية التي جاء بها النبي -صلوات الله وسلامه عليه-.
المحور الأول: الاسئذان من الآداب التي جاء بها الإسلام.
والآية الأولى تحت هذا المحور هي قول الحق -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ?27?? الله -تبارك وتعالى- بعد أن ذكر حُرمة الزنا وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات وحرم كل ذلك وزجر عنه ذكر أيضاً زجره عن دخول البيوت بغير استئذان؛ لما يمكن أن يؤدي ذلك من اختلاط الرجال بالنساء، وربما يقع شيء من هذا المحظور الذي زجر رب العزة والجلال عنه آنفاً وحرمه -سبحانه وتعالى-، والله -عز وجل- يخاطب أيضاً عباده أهل الإيمان بهذه التربية الخلقية العظيمة: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا? معنى: ?تَسْتَأْنِسُوا? قيل: الاسئناس ضد الاستيحاش، وقال الإمام الطحاوي -رحمه الله-: «إن الاسئناس في لغة أهل اليمن بمعنى الإذن» فمعنى ?تَسْتَأْنِسُوا? يعني: تستأذنوا، والآية هكذا في كتاب الله -عز وجل-، وما ذُكر أن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- كان يقول: (تستأذنو) فهذا لم يصح عنه -رضي الله تبارك تعالى عنه-، ولكن الآية: ?حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا? وقيل: الاستئناس هنا أيضاً يفسر بمعنى الاستعلام، يعني أن يستعلم الإنسان قبل أن يدخل إلى البيت هل في البيت أحد يأذن له أو ليس في البيت أحد، وهذا الأدب ألا وهو الإذن، قبل الدخول حتى لا يرى الإنسان ما لا يجوز أن يراه، وهذه الآية الكريمة جاءت بهذا الأمر الرباني من عند الرب -سبحانه وتعالى-، وتحتها أحكام وفوائد متعددة تتعلق بهذا الاسئذان:
(21/3)
---(4/301)
أولها: أنه لا يجوز للعبد لأن الله -عز وجل- نهى أن يدخل أحد بيت إنسان آخر دون أن يستأذن منه، والنهي هنا صريح، ولم تحفه قرينة تبين أنه للكراهة فقط، فدل ذلك على أن النهي هنا للتحريم، يعني إذن يحرم على الإنسان أن يدخل بيت غيره إلا بعد أن يستأذنه، فهنا نهي صريح ولم تأت قرينة تصرفه عن ظاهره فدل ذلك على حرمة من دخل بيت غيره دون أن يستأذن منه.
الأمر الثاني: الاستئذان كما جاء في السنة ثلاث مرات، الاستئذان يكون ثلاث مرات، وهذا بينه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بسنته، وفي صحيح مسلم وغيره: (أن أبا موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- استأذن ذات يوم على عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- وكان عمر مشغولاً فلم يأذن له ولم يتنبه ربما لأن يأذن له في هذا الوقت، فاستأذن ثلاث مرات ثم انصرف، فلما انتهى عمر من شغله -رضي الله تعالى عنه- قال: أين عبد الله بن قيس؟ ويعني أبو موسى -رضي الله عنه- أين هو؟ ألم يكن يستأذن؟ قالوا له: إنه انصرف يا أمير المؤمنين فأرسل في طلبه فلما جاء قال له: لم رجعت؟ قال: يا أمير المؤمنين استأذنت ثلاث مرات فلم يؤذن لي، وسمعت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً ولم يؤذن له فليرجع)فالشاهد بقية الحديث أن عمر -رضي الله عنه- أراد أن يستوثق من أن هذا الكلام قد صدر حقاً من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وطلب شاهداً عليه فقام أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- فشهد مع عبد الله بن قيس -رضي الله تعالى عن الجميع-.
(21/4)
---(4/302)
وفي مسند الإمام أحمد أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذهب عند سعد بن عبادة ذات يوم وقال: (السلام عليكم ثلاث مرات وفي كل مرت يسمع سعد ويرد على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بصوت خفيف يسير لا يسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما سلم النبي -عليه الصلاة والسلام- ثلاث مرات ولم يرد عليه أحد انصرف فقام سعد بن عبادة -رضي الله تعالى عنه- وقال له: يا رسول الله لقد سمعتك وكنت أرد بصوت خفيف رغبة في أن تكثر علينا السلام فتحصل لنا البركة)، الشاهد أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سَلَّمَ ثلاث مرات فقط ثم انصرف -صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا إذن يجعلنا نقول بأن الاستئذان يكون فقط ثلاث مرات، ولا يزيد الإنسان على ذلك.
(21/5)
---(4/303)
بقيت في هذه المسألة عندما أقول الاستئذان ثلاثاً أيضاً مسألة فرعية تتبعها، هل يبدأ الإنسان بالسلام أم بالاستئذان؟ الآية تقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا? فذكرت الإذن أولاً؛ لأن الاستئناء كما ذكرت وأشرت بمعنى الإذن، قدمت الإذن على السلام، ولكن الصحيح والنبي -صلى الله عليه وسلم- يفسر القرآن أن السلام يكون قبل الاستئذان وقد ورد ذلك عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأخبرنا -عليه الصلاة والسلام- بأن العبد إذا جاء يقول: السلام عليكم أأدخل؟ فيبدأ بالسلام أولاً، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يفسر القرآن، ولا يعني عطف السلام على الاستئذان أن يكون الاستئذان قبل السلام؛ لأن العطف هنا الذي جاء بالواو لمطلق التشريك فقط، وليس لشيء من الترتيب وكثيراً ما يأتي في القرآن الكريم هذه الواو العاطفة ولا تفيد ترتيباً كقول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ? [الأحزاب: 7] فنوح -عليه السلام- قبل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ولكنه ذكر بعده وعطف عليه ولا يعني ذلك أن النبي -عليه الصلاة والسلام- سابق عليه في الزمن، وإن كان -صلوات الله وسلامه عليه- مقدماً في الفضل والذكر -صلوات الله وسلامه عليه-.
أيضاً من المسائل المتعلقة بالاستئذان: أنه لا يجوز للمستأذن أن يقف تلقاء الباب بوجهه، لا يجوز له ذلك، وإنما يقف عن يمين الباب أو يقف عن يساره، لحديث عبد الله بن بشر -رضي الله تعالى عنه- قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو ركنه الأيسر ويقول: السلام عليكم السلام عليكم).
(21/6)
---(4/304)
أيضاً من المسائل المهمة في هذا: إذا قال صاحب البيت للمستأذن: من بالباب مثلاً ماذا يرد عليه؟ أو كيف يرد عليه؟ يعرفه باسمه ولقبه حتى يعرف، ولا يقول: أنا، لحديث جابر -رضي الله تعالى عنه- قال: (أتيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في دين كان على أبي كي يتحدث معه فيه فلما طرق أو استئذن على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: من؟ فقال: أنا، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- سمعها ولكنه قال: أنا أنا، يقول جابر: كأنه كرهها) وهذا صحيح، فيكره للعبد ألا يذكر اسمه أو بما يعرف به عند صاحب البيت فإذا ذهب الإنسان عند صاحب بيته يستأذنه عليه أن يعلمه بنفسه.
أيضاً الاستئذان يكون على كل أحد حتى على المحارم، يعني الإنسان يستأذن على أمه وعلى أخته وعلى ابنته وما إلى ذلك، حتى لا يرى شيئًا منهن لا يجب أن يراه، أو تقع عيناه على أمر لا ينبغي أن يراه والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، هكذا قال -صلوات الله وسلامه عليه-.
ختاماً في الاستئذان أقول: من فوائده أرجح الأقوال عند أهل العلم أن من نظر في بيت إنسان بدون إذنه وقبل أن يستأذن منه ففق عينه لا إثم عليه ولا دية له، يعني لو إنسان تطفل ونظر في بيوت الناس ففقؤوا عينه، نظر في بيوتهم دون أن يأذنوا له لا يأثمون إذا فقؤوا عينه وليست له دية إن أصابها شيء، والنبي -صلوات الله وسلامه عليه- قد نص على ذلك في حديثه: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه ليس عليهم شيء) أو: (لا يحل له شيء) يعني لا يحل له أن يأخذ منهم شيئًا.
هذه الأداب الجميلة التي علمنا إياها الإسلام إنما جعلت من البصر وحتى لا يقع الإنسان على شيء لا ينبغي له أن يراه.
مسألة:
بقيت مسألة: هل يستأذن الإنسان على زوجته وهي كلها مباحة له؟
(21/7)
---(4/305)
فحب أهل العلم أن يستأذن الإنسان على زوجته وأن يعلمها بدخوله وقد وردت عن التابعين وأهل العلم كلمات كثيرة في هذا وحتى عن الصحابة فبعضهم كان يحك قدميه في الأرض أو نعليه في الأرض وبعضهم كان يتنحنح وما إلى ذلك، والعلة في هذا وإن كان بيته والأمر كله مباح له، إلا أنه كي تستعد له زوجته في استقباله وحتى لا يرى منها شيئًا هي لا تحب أن يراها عليه في موطن ما أو في مكان ما، أو لعمل ما، وهذه في الحقيقة أخلاق جميلة أدبنا فيها الإسلام ورب العزة والجلال من خلال ما شرع، شرع لنا الخير وشرع لنا الفضل وشرعه -سبحانه وتعالى- كله حكمة يعتلي بالعبد الذي يقوم به إلى مصاف الكرامة.
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ? يعني ذلكم خير لكم يا أيها الناس، هذا الخير للمستأذن ولصاحب البيت أيضاً، ?لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ? يعني تتذكرون هذه الآداب فتعملون بها، فترتفعون عند الله -سبحانه وتعالى- مكانة.
ثم يقول سبحانه: ?فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ? يعني إن لم تجدوا أحداً في البيت يأذن لكم فلا يحق ولا يجوز لكم أن تدخلوا بيوت الناس دون إذن؛ لأن هذا فيه من التصرف من ملك الغير دون أن يأذن لك في التصرف فيه، وبالتالي يحرم على الإنسان كما ذكرت أن يدخل بيت غيره الذي يسكن صاحبه فيه دون أن يأذن له فيه.
(21/8)
---(4/306)
?فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ? يعني إن أُمرتم من أهل البيت أو ردكم أهل البيت ولم يرغبوا في دخولكم ولا أن تجلسوا عندهم أو لم يردوا عليكم وهم في داخل البيت فلا تستأذنوا أكثر من ثلاث ولا يحق لكم بعد ذلك أن تدخلوا، بل إذا قيل لكم: ارجعوا, بهذا اللفظ وجب عليكم عندئذ الاستجابة لهذا الأمر والرجوع وهذا فيه زكاة لنا كما قال رب العزة والجلال: ?وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ? أزكى لقلوبكم وأطهر لكم وعدم تضييق على من ستذهب إليه فقد يكون عنده عمل، وقد يكون عنده شغل وقد يكون عنده حاجة من حاجات الناس فإذا استأذنت ولم يرد عليك أو قيل لك: ارجع يجب أن يكون هذا برداً وسلامًا على قلبك، ولذلك قال قتادة -رحمه الله تعالى- قال: «قال بعض المهاجرين» بعض المهاجرين إذن يكون هذا من؟ يكون صحابي من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «اجتهدت عمري في أن أدرك آية فما أدركتها» يعني اجتهدت في عمري كله أن أحصل هذه الآية وتتحقق لي فما تحققت لي، وما هي؟ «قال: ?وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى?» يعني يقول: طلبت هذه الآية مراراً كأن أن أذهب إلى بيت ويقول لي أصحاب البيت ارجع فأرجع فأنال بذلك زكاة وتزكية شهد بها رب العزة والجلال ولذلك يقول: «فأرجع وأنا مغتبط» يرجع وهو مغتبط لقول الله تعالى: ?هُوَ أَزْكَى لَكُمْ? وهذه في الحقيقة لفتة يجب على عموم المسلمين أن يتعلموها وأن يتعاملوا فيما بينهم عليها، فلا يغضب الإنسان إذا ذهب إلى إنسان ما وهو يعلم أنه في البيت يعني الإنسان قد يتبع إنساناً قد دخل بيته أمامه، ثم بعد ذلك يأتي ويدق عليه ويأتي ويضرب فلا يرد عليه صاحب البيت فلا يغضب من ذلك، لأن أصحاب البيوت قد تكون عندهم علل وقد يكون ليس عندهم وقت أن يستقبلوا فيه(4/307)
(21/9)
---
الضيف، وهناك أمور كثيرة والاستئذان كما ذكرت أدب كريم وجه إليه الإسلام إذا تعامل به الناس، وأهل الإيمان فيما بينهم كسبوا فضائل جمة وفرجوا على أنفسهم ولم يضيقوا على أحد منهم، ولم يقع بينهم شيء من التضاد أو الغضب أو أخذ بعضهم على بعض شيئاً مما يمكن أن يلوم به الإنسان أخاه أو ما إلى ذلك فلو التزم الجميع بذلك لاستفاد المجتمع فائدة عظيمة، ولكن حسبنا أن نعرفها وأن نتعلمها وأن نعلم أنها آداب وجه إليها الإسلام.
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ?29?? هذه الآية في الحقيقة أخص من الآية الأولى، الآية الأولى عامة وهذه خاصة أباحت ورفعت الجناح عن الإنسان في أن يدخل البيوت غير المسكونة التي له فيها حاجة، يكون له فيها متاع، أو غير ذلك مما يمكن أن يستفاد منه، ولكن بشرط أن تكون هذه البيوت غير مسكونة، يعني ليس فيها أحد.
قيل بأن المراد بهذه البيوت غير المسكونة، أماكن التجار التي ينزلون فيها ويمكن أن نقول عنها الآن الفنادق، ويمكن أن نقول أيضاً بيوت الناس التي لا يقيمون فيها وقد أذنوا لإنسان كضيف مثلاً أو مسافر أن ينزل فيها ووضع متاعه فيها، فهؤلاء قد أعطوه الإذن العام في أن يدخل دون إذن؛ لأنهم قد خصصوا له مكاناً ينزل فيه، وهم لا يسكنون هذا المكان، ومن العبث أن نقول له في هذه الحالة استأذن؛ لأننا نستأذن ممن؟ ليس في البيت أحد حتى يستأذن منه، فإذا كان له فيه متاع أو له فيه حاجة فلا حرج إذن في أن ينزل فيه وألا يستأذن والله -عز وجل-.
(21/10)
---(4/308)
يختم هذه الآية بقوله: ?وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ? يعني يعلم -سبحانه وتعالى- ما نظهر وما نعلن كما يعلم -عز وجل- ما نخفي وما نبطن، وهذا فيه وعيد شديد أيضاً لمن لم يتأدب بهذه الآداب التي جاء بها القرآن الكريم، لأنه سبحانه إذا كان يعلم ما نظهر وما نخفي فوجب علينا ألا تنطوي نفوسنا على أمر ونتظاهر بأمر يخالفه.
المحور الثاني: أمر الله المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار وحفظ الفروج.
وفي ذلك يقول سبحانه: ?قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ?30?? لما ذكر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- حكم الاستئذان أتبعه بذكر حكم النظر على العموم، فيندرج تحته غض البصر، وعدم الدخول إلى بيوت الناس دون إذن؛ لإن الإذن بسبب ألا ينظر الإنسان إلى شيء لا ينبغي عليه أن ينظر إليه، وهذه الآية تأمر عموم المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم كما تأمرهم أيضاً بأن يحفظوا فروجهم وبدأت الآية بذكر غض البصر هنا؛ لأنه كما قال أهل العلم هو الوسيلة إلى انتهاك الحرمات وإلى انتهاك الفروج؛ لأن النظر هو الذي يؤدي إلى ذلك، ولذلك حرم الإسلام على أهل الإيمان أن ينظروا إلى المؤمنات وأن يحفظوا نظرهم وأن يحفظوا فروجهم فلا يصلوا بشيء من ذلك إلى أمر حرمه ربنا -سبحانه وتعالى- عليهم، ولذلك في صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله تعالى عنه- قال: (سألت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن نظرة الفجأة) -يعني النظرة التي تقع من الإنسان فجأة- فقال له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (اصرف بصرك) يعني أمره بألا يواصل النظر بل عليه أن يصرف بصره، وقال لعلي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- وهذا أيضاً توجيه من النبي -صلوات الله وسلامه عليه-: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وعليك الثانية).
(21/11)
---(4/309)
ولما نهى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عن الجلوس في الطرقات وقال: (إياكم والجلوس في الطرقات، فقال له بعض الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-: ما لنا بد من مجالسنا يا رسول الله) لابد أن نجلس في الطرقات -صلوات الله وسلامه عليه- كي نقضي أمورنا نتحدث في أحوالنا يرى بعضنا بعضاً دون حرج أو كلفة أو ما إلى ذلك (ما لنا بد من الجلوس في الطرقات، فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: إن أبيتم إلا الجلوس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟) أول شيء بدأ به قال: (غض البصر) ثم قال بعد ذلك: (وكف الأذى -إلى أن وصل- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -صلوات الله وسلامه عليه-) والشاهد من الحديث أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر أولاً الجالسين في الطرقات بأن يغضوا أبصارهم، ولذلك في البخاري وغيره عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال -وهذا الكلام لأمته-: (من يكفل لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) وهذا توجيه نبوي كريم من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والنبي -عليه الصلاة والسلام- يضمن فيه الجنة لمن يحفظ لسانه فيكفه عن المحارم وعن الكلام بالباطل ويحفظ ما بين رجليه يعني يحفظ فرجه وهذا كلام يجب أن نعض عليه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعد وضمن لمن فعل ذلك أن تكون له الجنة.
(21/12)
---(4/310)
تعجبني بعد ذلك في غض البصر وأنا أتحدث عنه كلمات أشوق بها أهل الإيمان كي يغضوا أبصارهم وهذه الكلمات ذكرها الإمام الورع الزاهد التقي ابن القيم -رحمه الله تبارك تعالى- ذكرها في أكثر من موطن، ذكرها في إغاثة اللهفان وذكرها في الجواب الكافي، ذكر -رحمه الله تعالى- فوائد غض البصر وهي جميلة وعلى أهل الإيمان أن يستمعوا إليها وأن يعرفوها وأن تدخل في قلوبهم حتى يتمكنوا من غض أبصارهم؛ لأن المسألة مسألة فتنة، مسألة شهوة قائمة في الإنسان يدفعها الشيطان فحينما يواجه الإنسان هذه المسائل بعلم يتعلمه وإيمان صحيح يقوم في قلبه ويعرف الإنسان الفوائد التي تعود عليه بغض بصره استطاع بفضل الله تعالى وبالتوكل عليه وبالطلب منه أن يغض بصره عما حرمه الله -تبارك وتعالى-، ابن القيم -رحمه الله- ذكر فوائد متعددة لغض البصر، أذكر منها ما يلي:
فوائد غض البصر:
أولاً: ذكر أن في غض البصر امتثال لأمر الله -تبارك وتعالى- وتسليم له، والإنسان يسعد في الدنيا والآخرة إذا امتثل أمر الله -تبارك وتعالى-، فأول فائدة في غض البصر أنك تمتثل ما قاله الله: ?قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ? [النور: 30].
الفائدة الثانية: أن غض البصر يمنع أثر السهم المسموم الذي يصل إلى قلب الإنسان فيفسده، فالنظر كما قال أهل العلم سهم مسموم من سهام إبليس، وإذا نظر الإنسان وأتبع النظرة النظرة لا شك أن هذا سيؤثر في قلبه، وإذا أثر في قلبه سيؤثر في جوارحه، وسيؤثر فيه كله، وسيدفعه في الوقوع في المنكرات بعد ذلك والفواحش وما إلى ذلك، إن لم تتداركه رحمة الرب -تبارك وتعالى-.
(21/13)
---(4/311)
الفائدة الثالثة من فوائد غض البصر: أنه يكسب القلب قوة ونوراً ولذلك كما قال أهل العلم وكما نص على ذلك الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: أن الله -عز وجل- ذكر بعد الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج ذكر بعده بآيات قليلة آية سورة النور، في قوله: ?اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? [النور: 35] فالإنسان إذا غض بصره لله -عز وجل- قذف الله -سبحانه وتعالى- في قلبه نورًا.
الفائدة الرابعة: من فوائد غض البصر وهذه مسألة جميلة واستنباط جيد للإمام ابن القيم -رحمه الله تبارك تعالى- من خلال بعض آيات القرآن الكريم، يقول -رحمه الله-: «إن غض البصر يورث الفراسة الصادقة وتجعل الإنسان يميز بين الحق والباطل وبين الصادق وبين الكاذب» الذي يغض بصره تكون عنده فراسة يعني يرى الأمور على ما يجب أن تكون عليه، وينظر في المسائل بشيء من الدقة ويصل بتوفيق الله -عز وجل- إلى الصواب فيما يأتي وفي ما يذر وهذه فيما تعرف لدى أهل الإيمان بفراسة المؤمن، لماذا؟ في الحقيقة كتبت نقلاً هنا قاله وذكره الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- لشاه بن شجاع الكرماني يقول كلمة جميلة: «من عَمَّرَ ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة» وكان شجاع هذا كما ذُكِر لا تخطئ له فراسة، لماذا؟ قيل: لأن من ترك شيئًا لله -عز وجل- عوضه الله -عز وجل- خيراً منه، فمن غض بصره عن المحارم عوضه الله بصيرة في قلبه، والجزاء من جنس العمل، وهذا معلوم في شريعتنا، والاستنباط الجيد الذي ذكرته آنفاً وأشار إليه ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مسألة الفراسة هذه أنه قال بأن الله -عز وجل- بعدما ذكر فعل قوم لوط في سورة الحجر ختم الحديث عنهم بقوله: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ?75?? [الحجر: 75] يعني أصحاب الفراسة الذين ينظرون برؤية صادقة الذين يفقهون الأمور على ما هي عليه،(4/312)
(21/14)
---
ويدركون دقائقها: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ?75?? [الحجر: 75] بعكس مثلاً ما ذكره ربنا -سبحانه وتعالى- عنهم في آية أخرى بعد ذكرهم: ?لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ?72?? [الحجر: 72] فهؤلاء المرتكبين للفواحش من اللوطية وغيرهم في سكرة وفي عمى، عمى القلب، أما أهل الإيمان لهم آيات ينظرون فيها بما ينظرون إليه مأيدين بتوفيق الله -تبارك وتعالى- وذلك لأنهم امتثلوا أمر الله -عز وجل- وغضوا أبصارهم عن ما حرم الله -سبحانه وتعالى- ففتح الله عليهم بنور البصيرة، وهذه فائدة مهمة جداً يجب على طالب العلم وعلى عموم المؤمنين أن يعرفوها وعلى شباب هذه الأمة أن يتعلموها كي يفتح الله -سبحانه وتعالى- عليهم بهذا الأمر أو بهذا العلم النافع.
الفائدة الخامسة: أيضاً من فوائد غض البصر أنه يسد على الشيطان مدخله إلى قلب الإنسان, يعني إذا وقف الإنسان أو غض بصره عن المحرمات لا يجد الشيطان سبيلاً إلى قلب الإنسان وقد أحسن الشاعر حينما قال:
كل الحوادث مبداها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كُتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة) ثم قال: (فزنا العينين النظر).
(21/15)
---(4/313)
ولذلك ختام هذه الآية ختام جميل: ?قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ? لماذا؟ ?ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ? هذه رفعة لك، هذه طهارة لك، هذا نقاء لك، وقوله: ?ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ? بصيغة الجمع يفيد أن هذه طهارة لعموم المجتمع، فتخيلوا لو أن المجتمع ولو كان حتى مجتمعاً صغيراً لأهل الإيمان، كانوا جميعاً على هذا الخلق القويم، ماذا ستكون حياتهم؟ وكيف تكون قلوبهم؟ وكيف سيكون مجتمعهم؟ لا شك أنهم سيرتفعون بذلك إلى مصافٍ عالية، إلى درجات رفيعة، فيستقرون ويطمئنون ولا يخاف الإنسان منهم على عرضه أو على ماله أو ما إلى ذلك، وكل واحد من الناس في هذا المجتمع سينظر إلى أخيه نظرة فيها رحمة وفيها تؤدة وفيها وقار وفيها تكريم؛ لأن الجميع يتعلم الآداب أو يعمل بالآداب الشرعية التي جاء بها القرآن وحث عليها نبينا -صلوات الله وسلامه عليه-.
وقوله بعد ذلك: ?إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ? أيضاً فيها تهديد ووعيد لمن يخالف هذه الأوامر، لماذا؟ لأنه إذا كان خبيراً والخبير هو العليم بدقائق الأمور، وتفاصيلها على ما تقع به، فإذا كان الأمر كذلك فيجب عليك أن تتقي الله -عز وجل- في ما تصنع؛ لأن الله مطلع عليك: ?إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ?.
(21/16)
---(4/314)
وكما أمر رب العزة والجلال المؤمنين أمر أيضاً المؤمنات فقال: ?وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ? هذا أيضاً توجيه من رب العزة والجلال للمؤمنات بغض الأبصار وحفظ الفروج كما أمر ربنا -سبحانه وتعالى- الرجال، وفي هذا تكريم للمرأة، وتمييز لها عن صفات نساء الجاهلية؛ لأن نساء الجاهلية كُنَّ يخرجن إلى الطرقات باديات الرؤوس والشعور، والنحور والصدور فيأتي الإسلام يأمر المؤمنات القانتات الصالحات الطاهرات أن يغضضن من أبصارهن وأن يحفظن فروجهن وقد استدل بعض أهل العلم بهذه الآية على أنه يحرم على المرأة أن تنظر إلى الرجال مطلقاً، وقد استدل بعضهم بحديث عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله تعالى عنه- (لما دخل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وعنده أم سلمة وميمونة -رضي الله تعالى عنهما- فلم يحتجبا عنه، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهما: احتجبا عنه، فقالوا له -صلى الله عليه وسلم-: إنه أعمى، فقال -عليه الصلاة والسلام-: أوعمياوان أنتما؟) فاستدل من ذهب إلى أنه لا يجوز للمرأة بحال أن تنظر إلى الرجال بهذا الحديث ولكن في الحقيقة بعد البحث والتحقيق والتدقيق ظهر أن هذا الحديث ضعيف.
(21/17)
---(4/315)
وبعض أهل العلم يرى أن المرأة يجوز لها أن تنظر بما تحتاج إليه دون أن تسرف في هذا النظر ودون أن يؤدي هذا النظر إلى فتنة فإن أدى إلى فتنة أو لم يكن هناك داعٍ أو مقتضى يدفع إلى النظر فلا يجوز النظر عندئذ، واستدلوا على ذلك بأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أباح لأم المؤمنين عائشة أن تنظر بعد أن سترها وكانت خلفه أن تنظر إلى الأحباش وهم يضربون أو يلعبون في مسجد النبي -صلوات الله وسلامه عليه- وهي تنظر إليهم، فقالوا: إن هذا يفيد أنه لو نظرت المرأة نظراً إلى الرجال دون ريبة أو نظراً لا يؤدي إلى تلذذ أو ما إلى ذلك فلا حرج في ذلك وألا يكون في أمر يدعو إلى شهوة أو أن يكون هذا الرجل منكشف العورة.
ولذلك الإمام البخاري -رحمه الله تبارك تعالى- من تراجمه في كتابه الصحيح قال: «باب نظر المرأة إلى الحبش وغيرهم من غير ريبة» يعني قيده بعدم الفتنة بألا يكون هناك ما يدفع إلى الوقوع في الفتنة ومع ذلك نقول بأن غض البصر أولى وأجدر وأحسن للمرأة حتى لا تقع فيما يمكن أن تفتن به.
?وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ? يحفظن فروجهن عن الفواحش، وعلى رأس الفواحش كما تعلمون الزنا، وما لا يحل استخدامه، وقد ذكر أبو العالية -رحمه الله تعالى- هذا المعنى أو هذه الآية بأنها تفيد بأنه لا يجب عليها أن يراها أحد، وهذا سنذكره الآن في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا? بعد أن أمرهن بغض الأبصار وحفظ الفروج قال -سبحانه وتعالى-: ?وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا? أي لا يُظهرن شيئًا من الزينة للرجال الأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه بدليل أنه قال: ?إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا? وقد اختلف أهل العلم في الزينة الظاهرة، ما المراد بها؟
(21/18)
---(4/316)
- فورد عن ابن مسعود وجمع من الصحابة أن المراد بقوله الله -تبارك وتعالى-: ?إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا? إلا الثياب الظاهرة التي لابد منها، فالمرأة تخرج ويجب عليها أن تتغطى كاملة، ولكنها تتغطى بثياب، ولا يمكن أن تحجب أيضاً هذه الثياب، فلا يظهر منها إلا هذه الثياب الظاهرة لحالة الضرورة أيضاً، هذا قول ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-.
- وذهب حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس ومعه جماعة كثيرة إلى أن المراد بـ ?مَا ظَهَرَ مِنْهَا?: الوجه والكفين، وقالوا بأن الوجه والكفين بذلك ليسا بعورة، ولكنهما عند الفتنة يجب على المرأة أن تغطي أيضاً الوجه والكفين.
هذه المسألة في الحقيقة أخذ فيها العلماء في السابق واللاحق مساحة طويلة من القول ومن الكتابة وما إلى ذلك، ولقد وجدت من أحسن من كتب وحقق هذه المسألة الشيخ الإمام العالم الرباني القرآني -رحمه الله تعالى- الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تبارك تعالى-، هذا الرجل ذكر في كتابه أضواء البيان وتكلم حول هذه الآية، وذكر أقوال العلماء فيها، ثم قال -رحمه الله تعالى-: إن جميع هذه الأقوال يرجع إلى ثلاثة، ثم قال:
- الأول من هذه الثلاثة: أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجاً عن أصل خلقتها، ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها، كقول ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-، قال: لأن الثياب زينة لها خارجة عن بدنها وخارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار يعني لابد أنه إذا خرجت المرأة لابد أن تظهر ثم قال -رحمه الله-: وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها وأبعدها من الريبة.
(21/19)
---(4/317)
- أما القول الثاني: قال المراد بـ ?إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا? المراد به: الزينة، ما تتزين به المرأة، وليس من أصل خلقتها أيضاً لكن النظر في تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة وذلك كالخضاب والكحل، ونحو ذلك، وقد قال بعض العلماء بأن هذا مما يجوز النظر إليه، وإذا جاز النظر إلى الخضاب والكحل أو إلى الخاتم على قول بعضهم إذن لم ينظر إليه إلا إذا أبدت المرأة المكان الذي عليه الخاتم أو المكان الذي فيه الكحل.
- القول الثالث الذي ذكره -رحمه الله-: يرجع أيضاً إلى الثاني، قال: المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو أصل خلقتها فهذا يرجع إلى الثاني، ثم رجح -رحمه الله تبارك تعالى- بعد ذكره لهذه الأقوال القول الأول وهو قول عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- لوجود قرينتين في الآية التي معنا، ألا وهي قوله تعالى: ?وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا? قال -رحمه الله تعالى- أن فيه هنا قرينتين تدلان على أن القول الأول ألا وهو قول عبد الله بن مسعود بأن المرأة لا يظهر منها شيء إلا الثياب الظاهرة فيه قرينتان في هذه الآية تؤكد وتشير وترشد إلى ذلك:
• القرينة الأولى قال: أن الزينة في لغة العرب هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها، كالحلي والحلل، فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الحمل عليه، وبه تعلم كما قال أن قول من قال الزينة الزينة الظاهرة الوجه والكفان يخالف ظاهر معنى أو لفظ الآية؛ لأن الزينة ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها.
(21/20)
---(4/318)
• القول الثاني أو القرينة الثانية التي تبين أن قول عبد الله بن مسعود هو أقوى من غيره قال: أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مراداً به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، يعني لفظ الزينة يأتي في القرآن الكريم مراداً به الشيء الذي يتزين به الإنسان مما هو خارج عن أصل خلقته، وهذا قد ورد كثيرًا في القرآن الكريم وذكر الشيخ عليه آيات متعددة كقول الله تعالى مثلاً: ?يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ? [الأعراف: 31] وكقوله: ?قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ? [الأعراب: 32] وكقوله سبحانه: ?إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا? [الكهف: 7] فلفظ الزينة في هذه الآيات وغيرها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته كما ترى، وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ القرآن الكريم أو في لفظ الزينة في القرآن الكريم يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى ألا وهو ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها.
ثم بعد ذلك قال -رحمه الله تبارك تعالى- وأحب أن أقرأ هذا القول وأسنده إلي؛ لأنه قوله هو -رحمه الله تبارك تعالى- وافتتحه بالعبارة الجميلة التي دائماً يفتتح بها كلامه عندما يكون له فيه كلام في الآية يقول: «قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين المذكورين عندي قول عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليه أو النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية، قال: وإنما قلنا: إن هذا القول هو أظهر الأقوال لأنه هو أحوط الأقوال وأبعدها عن أسباب الفتنة وأطهرها لقلوب الرجال والنساء ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها، كما هو معلوم والجاري على قواعد الشرع الكريم هو تمام المحافظة والابتعاد في الوقوع مما لا ينبغي.(4/319)
(21/21)
---
بقي أن أقول: يستدل البعض بالحديث الوارد في أبي داود عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حديث عائشة (لما دخلت أسماء على عائشة وكان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عندها، وقد بدا منها ما بدا فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لها: إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يجوز لها أن تظهر إلا هذا وهذا وأشار بوجهه وكفيه) هذا الحديث في الحقيقة لا يجوز الاستدلال به وليس معنا حجة؛ لأنه حديث ضعيف وفيه علل متعددة تمنع الأخذ به، فلا يستدل به في هذا المقام أو في هذا الباب.
?وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ? الخمر جمع خمار وهي ما تغطي به المرأة رأسها والجيوب مأخوذة من الجيب، والجيب مكان القطع في القميص الذي يسميه الناس اليوم الطوق الذي أنا أدخل رأسي فيه، أنا أقول هذا لأفسر المعنى تماماً يعني أن القرآن الكريم يأمر النساء أن ترمي خمارها من على رأسها على صدرها ووجها إذن، لأن الذي يصل إلى صدرها إلى مكان القطع في الثياب في القميص إلا إذا أسدلته من على رأسها على صدرها، وبالتالي سيمر على وجهها، لماذا؟ لأن نساء الجاهلية كن يجدلن -كما ذكر جمهور المفسرين- يجدلن خمورهن إذا وضعوا شيئًا على رؤوسهن من خلفهن، ويخرجن سافرات ظاهرات الصدور والأعناق فأمر الله -عز وجل- نساء المؤمنين أن يضربن بخمورهن على جيوبهن حتى لا يفعلن فعل النساء المشركات، والتعبير بقوله تعالى: ?وَلْيَضْرِبْنَ? فيه مبالغة في الإلقاء يعني أن المرأة مبالغة بهذا الضرب يعني بأن تلقي خمارها على صدرها ووجهها حتى لا ينكشف منها شيء، وهذا تأديب أيضاً من رب العزة والجلال لنساء المؤمنين وهو كقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ? [الأحزب: 59].
(21/22)
---(4/320)
ثم يقول -سبحانه وتعالى-: ?وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ? هذا الجزء من الآية يدخل تحت المحور الثالث الذي هو بعنوان:
المحور الثالث: يحرم على المرأة إبداء زينتها لغير محارمها:
والمحرم هو من تحرم عليه المرأة على التأبيد يعني لا يصح له أن يتزوجها، الذي لا يصح له أن يتزوج امرأة ما إما بسبب نسب أو صهر أو رضاع مثلاً يجوز له أن يظهر عليها بما ذكره العلماء والقرآن الكريم أشار إلى أن المرأة تظهر على هؤلاء المحارم بزينة تختلف عن الرجال الأجانب فهذه الآية أخص إذن أيضاً من الآية الأولى، ولأقرأها الآن لأنها في سرد لهؤلاء المحارم ثم أقول: ما الذي يظهر؛ لأن هذا يحتاج إليه النساء من المرأة أو ما الذي تبديه المرأة أمام محرمها، قال تعالى: ?وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ? المراد بالبعل هنا من؟ الزوج, وهذا مسموح له كل شيء، ثم قال بعد ذلك: ?أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ? هؤلاء من محارم المرأة ولم يذكر رب العزة والجلال العم والخال قال بعض أهل العلم: لأنه لا يجوز للمرأة أن تظهر على عمها وخالها لماذا؟ قال: لأنهما يصفان لأبنائهما، لأن ابن العم والخال يجوز أن يتزوج المرأة واضح أم لا؟ فقد يصف ولكن في الحقيقة جمهور الفقهاء على أنها تظهر على العم والخال، ولا يشترط أن تكون الآية شاملة لجميع المحارم فهي لم تذكر مثلاً التحريم بالرضاعة هنا ولكن التحريم بالرضاعة يلحق بالنسب، ولكنها لم تذكره فالآية إذن لم تستوعب، واختلف الفقهاء كما أشرت ما هو الشيء الذي تبديه المرأة لهؤلاء المحارم؟ حقيقة أيضاً الخلاف فيها بعض العلماء توسع وبعض العلماء ضيق، يعني البعض قال: تخرج عليهم بالوجه والكفين فقط، والبعض قال: لا، تبدي ما تحتاج إليه أو تدفع(4/321)
(21/23)
---
الضرورة إليه، كيف ذلك؟ قال: لأن هذا المحرم طالما أنه محرم لها، ومحرم عليها قد تحتاج هي إليه في السفر وما إلى ذلك وبالتالي قد تخدمه فما يظهر في الخدمة عادة من الرأس واليد مثلاً وشيء من المرفق أو الرجلين فهذا تبديه المرأة لهؤلاء المحارم، وبعض الفقهاء ومنهم الأحناف توسع أكثر من ذلك، ولكن أرى ألا يتوسع في غير ما تحتاج المرأة إليه في خدمتها في بيتها فلا تظهره على محارمها أيضاً ولا تتبهرج بزينة أمامهم بحال من الأحوال، يعني الإسلام حينما يسمح لها ذلك لرفع الحرج بين الأقارب بعضهم مع بعض، فلا يتوسع في شيء من ذلك.
ثم قال -سبحانه وتعالى- بعد ذلك: ?أَوْ نِسَائِهِنَّ? كلمة: ?أَوْ نِسَائِهِنَّ? جعلت كثيراً من أهل التفسير يقول: المراد بالنساء هنا: النساء المسلمات؛ لأنه أضاف النساء إليهن قال: ?أَوْ نِسَائِهِنَّ?، فتخرج بذلك من؟ النساء الكافرات، فلا تظهر المرأة أمامهن لماذا؟ قال: لأن المرأة وإن كانت لها عورة مع المرأة إلا أن ظهور المرأة المسلمة على المسلمة وعند المسلمة من الدين ومن الورع ما يمنعها أن تصف هذه المرأة التي رأتها لغيرها من الرجال، ولكن هذا لا يكون مع النساء الكافرات، أو مع النساء المشركات، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نهى المرأة أن تصف المرأة الأجنبية لزوجها كأنه يراها، وهذا أيضاً أدب جميل يؤدبنا به الإسلام.
فقوله: ?أَوْ نِسَائِهِنَّ? يعني أيضاً يجوز للمرأة أن تظهر على المرأة أيضاً بالزينة التي ذكرتها أو بما تظهر عليه لمحارمها، وبعض الفقهاء يقول: بأن عورة المرأة مع المرأة أيضاً من السرة إلى الركبتين، ولكن أرى أن هذه أيضاً يعني الظهر والصدر وما إلى ذلك عورة يجب على المرأة ألا تكشف شيئًا من ذلك حتى أمام النساء حتى لا يقع واحد منهن في شيء من المحظور، وحتى لا يغري بعضهن البعض في أمر لا يرضاه رب العزة والجلال، ولا يرضاه رسوله -صلوات الله وسلامه عليه-.
(21/24)
---(4/322)
?أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ? يعني من الإماء والعبيد والأتباع، يعني أن الرجل تكون عنده أمة فتكشف له والمرأة يكون عندها عبد فتكشف له ما تكشفه لمحارمها فقط والدليل على ذلك الحديث الموجود في سنن أبي داود أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهب لفاطمة ابنته -رضي الله تعالى عنها- غلاماً ودخل به وكان على فاطمة ثوب إذا غطت به رأسها بدت قدماها، وإذا غطت به قدميها انكشف رأسها فقال لها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا بأس عليك إنما هو أبوك وعبدكِ) فدل ذلك على أن عبد المرأة وهو الرجل يرى أيضاً ما يراه المحارم فقط، يعني من الوجه والكفين والشعر والقدمين، ولا يتجاوز في أكثر من ذلك لمنع الفتنة وهذا أسلوب من أساليب الإسلام في أنه يسد الذرائع أو الأبواب المؤدية إلى الفتنة، ولذلك الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- لما ساق الحديث في السلسلة الصحيحة قال: وفي الحديث دليل واضح على جواز كشف البنت عن رأسها ورجليها أمام أبيها بل وغلامها أيضاً.
ثم قال سبحانه: ?أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ? ?أَوِ التَّابِعِينَ? يعني الأتباع كالأجراء والخدام والأتباع الذين يتبعون الناس بشرط أن يكونوا ليست لهم حاجة إلى النساء، وهذا معنى ?غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ? يعني ليس عندهم تطلع وليست عندهم شهوة أجراء أو خدم أو ما إلى ذلك قد كبر سنهم أو البله، يعني لا يتطلعون إلى شيء من ذلك، لأن عقولهم غير سليمة.
أباح الإسلام أيضاً في أعصارهم المختلفة إلى مثل ذلك أن يظهر غير أولي الأربة على المرأة وأن تبدي له ما تبديه لمحارمها.
(21/25)
---(4/323)
ثم قال سبحانه: ?أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ? يعني لصغر الطفل ولا يفهم أحوال النساء لا بأس بأن يظهر على المرأة بما تظهر به على محارمها إلا إذا كان مراهقاً أو يفهم شيئًا من ذلك، فيجب أيضاً على المرأة أن تستتر عنه، ولا تظهر أمامه بما تظهر به أمام محارمها.
ثم يقول سبحانه: ?وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ? قال المفسرون بأن المرأة في الجاهلية وهي تلبس الخلخال كانت تمشي وتضرب برجلها الأرض حتى يظهر له صوت، فتلفت نظر الرجل إلى ذلك، فأمر الله -عز وجل- نساء أهل الإيمان ألا يفعلن ذلك، وفي الحقيقة هذا أمر واضح ولكني أود أن أشير إلى ما يشبهه ألا وهو: ألا تظهر المرأة شيئًا من مثل ذلك مما يمكن أن يفتتن به الرجل، كأن كانت حركة معينة أو أداء معين أو لفتة معينة أو ما إلى ذلك، إذا كن نهين أن يضربن عن شيء خفي لا يرى، يعمل صوتاً فما بالنا بغير ذلك، فكل ما كان مخفياً إذن إذا ظهر يمكن أن يفتتن به الرجال لا تفعله النساء، وكان الإسلام يحتاط في ذلك احتياطاً بالغاً النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما خرج ذات يوم إلى المسجد وجد النساء في قارعة الطريق قال: (عليكن بحافات الطرق) فكانت المرأة تلصق نفسها بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق أو ليعلق بالجدار نتيجة شدة لصوقها بالجدار، وهذا كله حتى لا يظهر أثر من مشي هذه المرأة أو تصرف لهذه المرأة يمكن أن يفتتن به الرجال، والشيخ عبد الرحمن بن نصر السعدي -رحمه الله تعالى- ذكر من هذه الآية قاعدة عند أهل العلم وقال بها علماء الفقه والأصول وغيرهم، ألا وهي: قاعدة سد الذرائع، قال: يؤخذ من هذه الآية قاعدة سد الذرائع في الإسلام لماذا؟ قال: لأن ضرب الأرض بالرجل مباح، ولكن إن كان هذا الضرب سيؤدي إلى فتنة أو ما إلى ذلك ففي هذه الحالة لا تفعله فهو في أصله مباح ولكن منع منه؛ لأنه يؤدي إلى محرم وهذه(4/324)