تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : التفسير/ المستوى الأول/ الكهف ــ مريم
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
تم تحميل الدروس من موقع (الأكاديمية الإسلاميةالمفتوحة)على الشبكة العنكبوتية
بواسطة أبو الليث العدني(الشريف الرفاعي)
اليمن ـ عدن
لاتنسونا من خالص دعائكم
للتنبيه حول ترتيب الدروس أو النواقص والأخطاء في التحميل أرجو التواصل شاكراًعلى بريدي الإلكتروني وهو :
Ghassanshareef123alsharef@yahoo
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
البدء في شرح سورة الكهف
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
(1/1)
---(1/1)
أيها المشاهدون الكرام، إن القرآن الكريم هو حبل الله المتين، والصراط المستقيم، عصمة لكل من تمسك به، ونجاة لمن اتبعه ?كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ?[هود:1] ?وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ?[فصلت:42،41] فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، مَن تركه مِن جبار؛ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره؛ أضله الله، وقد تكفل الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، فقال تعالى ? فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ?[ طه:123-127] .
(1/2)
---(1/2)
وقراءة القرآن -أيها الأخوة- قربة من أعظم القرب، وعبادة من أجلِّ العبادات، يعطي الله - تبارك وتعالى - عليها من الأجر والثواب ما لا يعطي على غيرها، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - كثرة هذا الأجر بقوله ( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ) وحتى تتصور -أيها المسلم- كثرة هذا الأجر الذي يتفضل الله به عليك على قراءتك القرآن، أقول لك: سورة الفاتحة ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين? فيها مائة وثلاثة عشر حرفا، فإذا قرأت الفاتحة مرة أعطاك الله - تبارك وتعالى - ألفاً ومائة وثلاثين حسنة، ألف ومائة وثلاثين حسنة يتفضل الله عليك بها على قراءتك الفاتحة مرة واحدة.
فتأمل -أيها المسلم- عظيم فضل الله عليك، وسل نفسك كم مرة تقرأ الفاتحة في الصلوات المفروضة؟ وكم مرة تقرأها لو أنك صليت السنن الرواتب القبلية والبعدية؟ فكم مليون حسنة تحصلها على قراءة الفاتحة وحدها، فكيف لو أنك جعلت لنفسك ورداً من القرآن تقرأه كل يوم، كم من الأجر تحصل! ولذلك كانت قراءة القرآن من التجارات الرابحة، كما قال الله - تبارك وتعالى - ? إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ? [فاطر:29-30] .
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث على الاجتماع على قراءة القرآن ومدارسته فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول ( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله تعالى، ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
(1/3)
---(1/3)
فلابد من قراءة القرآن، ومدارسته، ولابد من الاجتماع على ذلك؛ لأن المطلوب من القرآن الكريم هو العمل به: أن نحل حلاله، ونحرم حرامه، ونقف عند حدوده، المقصود من تنزيل القرآن الكريم أن يكون هذا القرآن دستوراً لنا، نطبقه في حياتنا كلها، ولا يمكن ذلك إلا بتفسير القرآن الكريم، وتحليل ألفاظه، ومعرفة أسباب نزوله، والناسخ والمنسوخ منه، وقد قامت قناة المجد الفضائية مشكورة على سعيها هذا بتخصيص حلقة من حلقاتها العلمية لمادة التفسير، وقد رأينا أن نبدأ هذه الحلقات من أول سورة الكهف، وسورة الكهف سورة مكية جاءت لتصحح العقائد الفاسدة، والمفاهيم الخاطئة، واعتمدت في أسلوبها على القصص وضرب الأمثال، فذكر الله - سبحانه وتعالى - في سورة الكهف ثلاث قصص :
قصة أصحاب الكهف .
وقصة موسى والخضر - عليهما السلام -
وقصة ذو القرنين .
وضرب الله - تبارك وتعالى - فيها المثل للغني المستكبر وكيف كانت نهاية كبره، وضرب فيها المثل للحياة الدنيا حتى لا يغتر الناس بها، وهذه السورة -سورة الكهف- سورة عظيمة الفضل، فقد جاء في فضلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( من حفظ عشر آيات من آخر سورة الكهف؛ عُصم من الدجال ) وفى رواية ( من قرأ عشر آيات من أول سورة الكهف؛ عُصم من الدجال ) .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث على قراءة سورة الكهف كل يوم جمعة، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة؛ أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعة الآخرى ) وفى رواية ( أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق ) .
وسورة الكهف في ترتيبها في سور القرآن الكريم جاء بعد سورة الإسراء، وهناك مناسبة لوجود سورة الكهف بعد سورة الإسراء، من هذه المناسبة أن سورة الإسراء، افتتحت بقول ربنا ? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ?[الاسراء: 1] وافتتحت سورة الكهف بقول ربنا ? الْحَمْدُ لِلَّهِ ?[الكهف: 1] .
(1/4)
---(1/4)
وهناك علاقة وطيدة بين التسبيح والتحميد؛ ولذلك يقرن الله - تبارك وتعالى - بينهما في الأمر بهما فيقول ? وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ?[طه: 130] ونحن نقول في ذلك سبحان الله، والحمد لله، كما نقول سبحان الله وبحمده.
ومن المناسبة أيضاً أن سورة الإسراء اختتمت بالحمد لله ? وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ? [الاسراء:111] .
وافتتحت سورة الكهف بـ ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ? [الكهف:1] .
اختتمت سورة الإسراء بتنزيه الله - تبارك وتعالى - عن اتخاذ الولد ? وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ? وافتتحت سورة الكهف بإنذار الذين قالوا اتخذ الله ولدا .
ونبدأ أولاً بالاستماع إلى الآيات المباركات، التي سنعيش معها في حلقتنا هذه -إن شاء الله تعالى- قبل الخوض في تفاصيلها، سائلين الله - عزّ وجلّ - أن ينجز لنا ما وعدنا، حيث قال ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?[الأعراف:204] .
(1/5)
---(1/5)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا * فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ?[الكهف : 1-8].
? كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ?[ص:29].
? لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الحشر:21].
? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر:23].
(1/6)
---(1/6)
? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ? الحمد هو الثناء على الله بعظيم صفاته، وكثرة آلائه ونعمه التي أسبغها على عباده، فالله - سبحانه وتعالى - محمود على عظيم صفاته، وجلال كبريائه - سبحانه وتعالى - وهو -أيضاً- محمود على ما أنعم به على العباد من نعمه الظاهرة والباطنة، والدينية والدنيوية، ونعم الله - سبحانه وتعالى - كثيرة كما قال - عزّ وجلّ - ? وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ?[ابراهيم: 34] ولكن أعظم هذه النعم هي نعمه تنزيل الكتاب، أجلّ النعم على الإطلاق، وأعظم النعم على الإطلاق نعمة تنزيل الكتاب؛ ولذلك حمد الله نفسه عليها قبل أن يحمده من أنزل عليهم هذا الكتاب، فقال ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ? .
فنعم الله - سبحانه وتعالى - عظيمة، وأعظمها على الإطلاق نعمة تنزيل الكتاب؛ لأنه بهذا الكتاب أخرج الله - تبارك وتعالى - الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الحيرة والقلق إلى الطمأنينة واليقين، وكيف لا تكون هذه النعمة أعظم النعم وهذا الكتاب ? يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ?[المائدة:16].
(1/7)
---(1/7)
فتنزيل الكتاب نعمة عظيمة جداً، يجب علينا أن نكثر من حمد الله - تبارك وتعالى - علينا، ولذلك حين ترى الله - سبحانه وتعالى - يمنُّ على عباده بنعمه، ويذكرهم بها، تراه يستفتح بذكر نعمة تنزيل الكتاب، في سورة الرحمن وهي سورة النعم، ذكّر الله - تبارك وتعالى - فيها الثقلين بآلائه وإنعامه، استفتح الله - تبارك وتعالى - بذكر نعمة التنزيل نعمة القرآن فقال - عزّ وجلّ - ? الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ? فقدم ذكر نعمة القرآن قبل نعمة الخلق؛ لأن الإنسان بلا قرآن لا قيمة له ولا وزن له، وإنما بالقرآن يرتفع قدر الإنسان، ويرتفع ذكره، ويكون له الذكر الحسن في الدنيا، والجزاء الحسن في الآخرة، ولذلك قال الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ? وَإِنَّهُ ? أي القرآن ? لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ?[الزخرف:44] .
وقال لمن أنزل عليهم ? لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ?[الانبياء:10] .
فالحمد لله على نعمة تنزيل هذا القرآن الكريم ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ? المراد بالعبد محمد - صلى الله عليه وسلم - وإضافة الاسم عبد إلى ضمير الله - عزّ وجلّ - ?عَلَى عَبْدِهِ? فيها من التكريم والتشريف للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما فيها، والعبودية لقب عظيم جداً لقب الله - سبحانه وتعالى - به نبيه - صلى الله عليه وسلم - في المقامات العظيمة الشريفة، لقبه به في مقام التنزيل فقال ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ? ولقبه به في مقام الدعوة فقال ? وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ? [الجن:19] .
ولقبه به في مقام الإسراء فقال ? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ? .
(1/8)
---(1/8)
ولقبه به في مقام التحدي فقال: ? وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ?[البقرة:23] فالعبودية لله شرف عظيم جداًَ للعبد؛ ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب هذا اللقب، ويحب أن ينادى به، وكان يقول: ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله )وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول ( أيها الناس،ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله - تبارك وتعالى - إن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبيا).
? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ? والله - سبحانه وتعالى - حين أنزل على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - الكتاب إنما أنعم على البشرية كلها بهذا الكتاب، فلماذا خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر في الحمد ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ? ولم يقل: الحمد لله الذي أنزل الكتاب، وإن كان نزول الكتاب نعمة على الإنسانية كلها؟
إنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر؛ لأن نعمة الله عليه في اصطفائه واجتبائه لتنزيل الكتاب عليه أعظم من نعمة التنزيل على غيره، الكتاب نُزِّل على الناس كلهم، ولكنه هو الذي تلقاه، وأوحاه الله - تبارك وتعالى - إليه، فكانت نعمة الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في التنزيل أعظم من نعمة من نُزل عليهم الكتاب؛ ولذلك حسدته قريش على هذه النعمة ? وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ?[الزخرف:31] فقال الله تعالى ? أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ?[الزخرف:32] فيجب علينا أن نكثر من حمد الله - سبحانه وتعالى - على هذه النعمة نعمة تنزيل الكتاب، وأن نعنى بهذا الكتاب تلاوة، وتدبراً، وفهماً، وعملاًَ، وتعليماً، ودعوة، ومدارسة.
(1/9)
---(1/9)
? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ? الكتاب هكذا معرف، وكأن هذا القرآن من العربية بمكان بحيث إذا قيل الكتاب انصرف الذهن إلى هذا القرآن الذي أنزله الله - تبارك وتعالى - على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ? فهو كتاب معلوم، وكتاب معهود، وكتاب معروف، بحيث إذا قيل الكتاب علم السامع أن المراد به القرآن المجيد.
ثم وصف الله - تبارك وتعالى - هذا الكتاب بوصفين، قال ? وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا* قَيِّماً ? وصف الله تعالى الكتاب الذي أنزله على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - بوصفين: لم يجعل له عوجا، والوصف الثاني: قيما، فنفى الله - تبارك وتعالى - العوج عن القرآن الكريم، نفى الله تعالى العوج عن الكتاب المبين، فهو كتاب بيّن واضح لا عوج فيه، لا عوج في ألفاظه، ولا عوج في تراكيبه، ولا عوج في معانيه، القرآن الكريم على طوله -مائة وأربع عشرة سورة- الاستقامة هي عنوانه، الاستقامة هي سابغته من أول ? الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?[الفاتحة:2] إلى ? قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ? [الناس:1] .
والاستقامة ظاهرة في كل حرف، وفى كل لفظ، وفى كل خبر من أخبار هذا القرآن الكريم، لم يجعل الله - تبارك وتعالى - في هذا الكتاب عوجا، فهو كتاب قيّم ومستقيم من أوله إلى آخره، وهذه الاستقامة في الكتب لا تكون إلا في كتاب الله - عزّ وجلّ - هذه الاستقامة في الكتاب من أوله إلى آخره لا توجد إلا في كتاب الله - عزّ وجلّ - .
(1/10)
---(1/10)
ترى كتاباً مؤلفاً، ألفه إنسان ما، فتعجب به؛ فتقرأه، فترى فيه مواضيع في قمة القوة، مواضيع حيوية أعجبتك، وملكتك، ورضيت عنها، فتقرأ فيه مواضيع أخرى، فترى أن بها من الضعف ما يجعلها تنزل إلى مرتبة أدنى عن مرتبة المواضيع السابقة، مواضيع في منتهى القوة، ومواضيع في منتهى الضعف؛ لأن هذا صنع البشر، ترى كتاباً تقرأ فيه موضوعاً سيملك، ويستولي عليك، ويسيطر عليك؛ فتعجب بهذا الكتاب، وتظن أنه هكذا على هذه الوتيرة دائماً، فتريد أن ترجع إليه في موضوع آخر، وأنت على أمل أن يشفي غليلك، ويروي غليلك، وإذا بهذا الكتاب لم تخرج منه بأي فائدة في هذا الموضع الذي قصدته في المرة الثانية بعدما سيطر عليك الموضوع الأول، لماذا ؟ لأن هذا هو شأن الكتب المؤلفة التي يؤلفها البشر .
ولذلك رُوي عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - أنه لما فرغ من كتابة كتابه العظيم الأم، قال لأحد تلاميذه: اقرأ علي، فقرأ عليه، فأخذ يصحح ما كتب حتى فرغ من القراءة، ثم قال: أعد علي القراءة، اقرأ مرة ثانية، فقرأ فجعل يصحح حتى فرغ منه، ثم قال: أعد القراءة للمرة الثالثة: فأعادها التلميذ، والإمام يصحح، فبعدما فرغ من التصحيح للمرة الثالثة، قال: حسبك -يا بني- أبى الله أن يكون كتاباً كاملاً إلا كتابه .
فكتاب الله - عزّ وجلّ - نفى الله تعالى عنه العوج ? وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ? فهو كتاب مستقيم من أوله إلى آخره، القوة في أقصر سورة، كما هي في أطول سورة، والقوة في أقصر آية، كما هي القوة في أطول آية؛ لأنه كتاب الله رب العالمين.
(1/11)
---(1/11)
? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا ? قال بعض العلماء: هذا الوصف الثاني قيم مستفاد من الوصف الأول وهو نفي العوج، لما نفى عنه العوج أفاد أنه قيم، لكن الله - سبحانه وتعالى - صرح بالوصف الثاني، قيما ? وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا ? لماذا جمع بين الوصف بالقيم ومع نفي العوج ؟
قال العلماء: الشيء تراه فتظنه مستقيماً، فإذا دققت فيه النظر وقفت فيه على بعض العوج، قد ترى الشيء فتظنه مستقيماً، فإذا دققت فيه النظر اطلعت فيه على عوج؛ فأراد الله - سبحانه وتعالى - حين نفى العوج عن كتابه أن يقول: إنكم مهما دققتم النظر، وأعدتم النظر وكررتم النظر في هذا الكتاب، فستجدوه على هذه الاستقامة، ولن تجدوا فيه عوجاً أبداً؛ لأنه كلام الله رب العالمين، وليس كلام البشر المخلوقين؛ ولذلك الله - سبحانه وتعالى - لفت أنظارنا إلى إحكام خلقه في السماوات والأرض فقال ? الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ ?[الملك:3-4] فلعله فاتك في المرة الأولى ما تجده في المرة الثانية، النتيجة مع تكرار النظر إلى السماوات للحصول فيها على أي خلل ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير، وكذلك مهما قرأ أهل اللغة وأهل البلاغة القرآن الكريم لن يجدوا فيه عوجاً أبداً، لأن الله قال ? وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا ?.
(1/12)
---(1/12)
ولذلك قال الله - تبارك وتعالى - في سورة طه ? طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ? فأراد الله - سبحانه وتعالى - أن يستدلوا على إحكام التنزيل بإحكام الخلق، قال: هذه السماوات أمامكم مرفوعة، وهذه الأرض تحتكم موضوعة، انظروا هل تجدوا فيها من خلل ؟ لن تجدوا في السماوات والأرض أي خلل، فهو خَلْقُ الله المحكم، وكذلك القرآن تنزيل الله المحكم؛ ولذلك قال تعالى ? كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ?[هود:1] .
ثم ذكر الله - سبحانه وتعالى - وظيفة القرآن وحكمة تنزيله، فقال - سبحانه وتعالى - ? لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ?.
فوظيفة القرآن أنه نذير وبشير، هكذا وصفه الله -تعالى- هنا في سورة الكهف، ووصفه أيضاً في سورة الإسراء في قوله تعالى، ? إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ?[الإسراء:9-10] .
وقال هنا في سورة الكهف ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا ? لماذا أنزل الله على عبده الكتاب؟ ? لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ ? فوظيفة القرآن الإنذار والتبشير، فهو نذير وبشير.
(1/13)
---(1/13)
? لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ? البأس هو العذاب، ووصفه الله تعالى بالشدة، وأكد على شدة العذاب بقوله ? مِنْ لَدُنْهُ ? ? لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ? من عند الله - سبحانه وتعالى - وإنما قيد العذاب والبأس الشديد بأنه من عند الله؛ ليفيد قوته وشدته؛ لأن الله -تعالى- قال ? فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ?[الفجر:25-26] .
وقال ? إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ?[البروج:12] .
وقال ? وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ?[هود:102] .
وقد أنكر الله - سبحانه وتعالى - على الكفار الذين استعجلوا العذاب في الدنيا قبل الآخرة فقال تعالى ? سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ?[المعارج:1-3] .
وأقسم - سبحانه وتعالى - على وقوع هذا العذاب بمستحقيه فقال - سبحانه وتعالى - ? وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ?[الطور : 1-8].
? لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ ? ومن هم المؤمنون الذين يستحقون هذه البشارة؟ ? وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ? والعمل لا يكون صالحاً حتى تتوفر فيه ثلاثة شروط :
الشرط الأول : الإخلاص لله - سبحانه وتعالى - .
فبالإخلاص أمر الأولين والآخرين، فقال عن الأولين ? وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ?[البينة:5] .
وقال لنا نحن الآخرين آخر الأمم ? فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ?[غافر:14] .(1/14)
(1/14)
---
وقال ? هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?[غافر:65] .
وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ? إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ? [الزمر:2-3] .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) فلابد لكل عامل إذا أراد أن يعمل عملاً يتقرب به إلى الله أن يخلص النية لله - سبحانه وتعالى - وأن يجردها من شوائب الشرك، والنفاق والرياء .
الشرط الثاني لكون العمل صالحا: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وموافقة هديه في هذا العمل، فإن الله - تبارك وتعالى - أمر باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ? وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ?[الأعراف: 158] .
(1/15)
---(1/15)
وقال ? قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ?[آل عمران:31] فلابد أن يكون العمل الذي تعمله لله على هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدعنا إلى صالح العمل نظرياً، وإنما دعانا إليه نظرياً، وعلمنا إياه عملياً، دعا بوضوء؛ فتوضأ أمام أصحابه، ثم قال ( من توضأ نحو وضوئي هذا ) وصلى، وقال ( صلوا كما رأيتموني أصلى ) ولما أراد الحج أذن في الناس أنه حاج؛ فجاؤه من كل فج عميق، فقال ( خذوا عني مناسككم ) فلابد من موافقة السنة في عملك الذي تتقرب به إلى الله بعد إخلاصك فيه لله - عزّ وجلّ - وفى ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد ) وفى رواية ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد ) .
فلابد من الإخلاص لله، ولابد من المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهما توحيدان لا نجاة للعبد إلا بهما: توحيد المرسِل بالعبادة والطاعة، وتوحيد المرسَل - صلى الله عليه وسلم - بالاتباع.
ثم هناك شرط ثالث؛ ليكون العمل صالحاً: وهو أن يكون العامل مؤمنا قال الله تعالى ? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ?[النحل:97] وقال ? وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ?[غافر: 40] فلابد بعد الإخلاص والمتابعة من أن يكون العامل مؤمناً بالله - عزّ وجلّ - ومؤمنا بكل ما أمر الله بالإيمان به .
(1/16)
---(1/16)
فالكافر بالله - عزّ وجلّ - لا يكون عمله مقبولا، كما قال الله تعالى ? مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ?[إبراهيم:18] .
? وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ? ما الأجر الحسن ؟ الجنة، قال الله تعالى ? لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ?[يونس:26] والحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الله - عزّ وجلّ - ? وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ? يعني الجنة، كما قال -تعالى- ? وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ?[البقرة: 25] ولذلك سماها الله الحسنى ? لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ? ? مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ? يعني إذا دخلوا الجنة ماكثين فيها أبداً ?لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلً?[الكهف:108] ?وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ?[الحجر:48] وهذا الخلود في الجنة، وهذه الدوام هو الذي يسعد أهل الجنة بنعيمها الذي يسعد أهل الجنة هو البقاء، والخلود، وطول المكث، وعدم الخروج؛ لأن الإنسان في الدنيا إذا وسع الله -تعالى- عليه في الرزق، وبسط له فيه، إذا كان من المنعمين المترفين، لا يلتذ بهذا النعيم، ولا يطمئن، ولا يفرح به الفرح الشديد، لماذا ؟ لأنه يعلم أن هذا النعيم ربما يزول، وإن بقي هذا النعيم سيفنى ويموت، فصاحب النعيم في الدنيا قلق على ما هو فيه من النعيم، مضطرب خائف من الموت الذي سيخرجه من هذا النعيم، وخائف منه إذا طال عمره أن يسلب هذا النعيم قبل الموت؛ فلذلك المنعمون في الدنيا المترفون فيها غير مطمئنين، بل هم في قلق دائم، أما أهل(1/17)
(1/17)
---
الجنة، فإنهم إذا دخلوها نودوا مبشرين بالخلود، (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يؤتى بالموت على صورة كبش أملح، فيوضع على سور بين الجنة والنار، ونودي يا أهل الجنة، فيشرأبون ينظرون، ويا أهل النار، فيشرأبون ينظرون، قال: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، إنه الموت فيذبح هذا الكبش الذي يمثل الموت، وينادى يا أهل الجنة، خلود بلا موت، ويا أهل النار، خلود بلا موت.)
وفى الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة، ناداهم مناد يا أهل الجنة، إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وأن تشبوا في تهرموا أبدا ) .
فإيمان أهل الجنة ببقاء النعيم ودوامه، وعدم موتهم الذي يحرمهم من النعيم، هو الذي يجعلهم يجدون اللذة والمتعة في نعيم الجنة؛ ولذلك حكى الله - تبارك وتعالى - في سورة الصافات بعد أن ذكر نعيم أهل الجنة: أن رجلا من أهل الجنة، قال لإخوانه في الجنة: إني كان لي قرين، كان لي في الدنيا صديق ملحد كافر، يحثني على الكفر، ويصدني عن الإيمان ? يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ? [ الصافات : 52-53] ثم أقبل على إخوانه أهل الجنة قائلا ? قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ?[الصافات:54] ألا تطلعون معي على النار لننظر أين ذهب صاحبي هذا الملحد؟ الذي كان يشككني في ديني وفى الإيمان في الدنيا ? فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ?[الصافات:55] قال: وقد رأى صاحبه معذبا ? تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ?[الصافات:57،56].
(1/18)
---(1/18)
فلما رأى العذاب بعدما رأى النعيم الذي هو فيه، أراد أن يطمئن على دوام نعيمه، وبقائه، وخلده؛ فأقبل على إخوانه أهل الجنة ? أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ?[الصافات:59،58] قالوا: نعم ، قال ? إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ?[الصافات:60] .
فالقرآن أنزل ? لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * ?
وأنزل القرآن لينذر ? وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ? .
الفرق بين الإنذار الأول، والإنذار الثاني، أن الإنذار الأول عام لينذر جميع الكافرين بأساً شديداً من عند الله - عزّ وجلّ - عذاباً شديداً ينتظرهم إن هم أصروا على الكفر، ولم يقلعوا عنه .
وأما الإنذار الثاني: ? وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ?فهذا خاص بالذين زعموا لله الولد -وتعالى الله عن اتخاذ الولد- ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ?.
الله - سبحانه وتعالى - لا والد له، ولا ولد له ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ?[الشورى: 11].
فقول لله ولد هذا قول عظيم جداً، انظر إلى توبيخ الله - تبارك وتعالى - لقائليه ? وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ? .
(1/19)
---(1/19)
كبرت كلمة تخرج من أفواههم، ما لهم به من علم ولا لأبائهم، على ما استندوا في ادعاء الولد لله - عزّ وجلّ - أي دليل، أي حجة، أي برهان؛ ولذلك قال الله تعالى ? قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا ? والسلطان هو البرهان والحجة ? إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ?[ يونس:6].
إن الكلام الذي لا ينبني على علم كلام مردود على صاحبه كما قال القائل :
والدعاوى إذا لم تقم عليها بينات أبناؤها أدعياء
الذين قالوا اتخذ الله ولدا، ما حجتهم، ما دليلهم، ما برهانهم ؟ ? مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ ? عظمت ? كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ? إنها كلمة عظيمة: كلمة لله ولد كلمة عظيمة، قال الله فيها ? تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ? [مريم : 90-95].
? كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ? .
(1/20)
---(1/20)
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصاً كل الحرص على إيمان الناس؛ ليخلِّصوا أنفسهم بهذا الإيمان من عذاب الله - عزّ وجلّ - الذي خوفهم منه، وأنذرهم إياه، فطر الله -تعالى- نبيه - صلى الله عليه وسلم - على رحمة عظيمة جداً، فكان من شدة رحمته يحزن على كفر الكافرين، وتكذيب المكذبين، وإعراض المعرضين، كان يحزن جداًَ حتى كاد يقتله الحزن؛ فنهاه الله - سبحانه وتعالى - عن ذلك فقال: ? فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ? فلعلك يا نبينا باخع نفسك: أي قاتل نفسك، ومهلكها على آثارهم؛ بسبب أنهم لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً عليهم ? فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ?[فاطر: 8] .
لا تحزن عليهم إن عليك إلا البلاغ، وقد بلغت فلا يحزنك كفرهم، ولا يحزنك إعراضهم قد حملت رسالة، وقمت ببلاغها أو بتبليغها على أكمل وجه، فمن اتبعك فقد أنجى نفسه، ومن كذبك وعصاك فقد أوبق نفسه، فلا يحزنك كفرهم يا نبينا ? فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ? عليهم، يقول - صلى الله عليه وسلم - ( مثلى ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنت تفلتون من يدي ) - صلى الله عليه وسلم - .
نسأل الله - سبحانه وتعالى - كما رزقنا الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أن يرزقنا اتباعه، واقتفاء أثره، والالتزام بمنهجه، والعمل بسنته، إنه ولى ذلك والقادر عليه .
- فاصل -
الأخ كان يسأل عن بدايتكم في طلب العلم ؟
(1/21)
---(1/21)
درست في الأزهر منذ الصغر، ابتداءً بالكتاب ثم المرحلة الإعدادية، ثم المرحلة الثانوية، ثم المرحلة الجامعية، إلى أن حصلت على الدكتوراه في الدعوة والثقافة الإسلامية من كلية أصول الدين من جامعة الأزهر بالقاهرة، فتعلمت في الأزهر على أيدي علماء أجلاء -جزاهم الله خيراً- وهاجرت إلى الأردن فتعلمت من شيخنا الألباني رحمة الله عليه، وشيخنا محمد إبراهيم شقرا بمالك، وشيخنا محمد نسيب الرفاعي رحمة الله عليه .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شيخنا الفاضل، ما أفضل طريقة لحفظ كتاب الله مع ضبط معانيه ؟
ننصح من أراد حفظ كتاب الله - عزّ وجلّ - بالإخلاص لله - عزّ وجلّ - في نيته أولاً وأن يقبل على هذا القرآن للحفظ طمعاً في رفعة الدرجة في الآخرة، كما جاء في الحديث ( يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارقَ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأه) يخلص النية لله - سبحانه وتعالى - ثم يقوي العزم، ويشحذ الهمم، ويقرر لنفسه ورداً من القرآن كل يوم يحفظه، يكون هذا الورد بمنزلة وجبة الطعام التي لا يستغني عنها الإنسان، بحيث أنه لو دخل فراشه ليلا ولم يحفظ ورده، يترك الفراش وينزل يتوضأ ويحفظ ورده، فبهذا الإلزام يستمر، ومشكلتنا هي في عدم الاستمرار، فلو وجد الاستمرار بلغ النهاية بإذن الله وإن طالت المدة .
(1/22)
---(1/22)
وننصح من أراد الحفظ بالحفظ من حزب المفصل، من "ق" إلى "الناس"، هذه الأربعة أجزاء حفظها سهل وميسور، ثم بعدها يأتي من "يس" إلى "ق" ثم من "الكهف" إلى "يس" ثم النصف الأعلى بإذن الله - عزّ وجلّ - لأن النصف الأول من القرآن الكريم السبع الطوال فيه، كلها سور مدنية، ومليئة بالأحكام الشرعية، وهي لا تقرأ كثيراً ولا تسمع كثيرا؛ فيصعب حفظها، والعزيمة ليست بتلك العزيمة التى تقوي الإنسان على المضي قدماً فيفتر فيترك الحفظ ويتوقف، لكنه إذا بدأ -إن شاء الله- بحزب المفصل، ثم ارتقى هذا الترتيب الذي رتبته بإذن الله يوفق ويستمر.
تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بارك الله فيكم، هل هناك حكمة معروفة من قراءة سورة الكهف بالذات يوم الجمعة دون أي سورة أخرى وجزاكم الله كل خير ؟
لا ليس عندي علم، لماذا وصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة سورة الكهف يوم الجمعة؟
يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أشهد الله على حبكم -يا شيخ- أرجو أن توضح لنا على عجل معنى قيمًا؛ لأني لم أستمع إليها جيداً وشكراً لكم وأثابكم الله
قلنا: الله - سبحانه وتعالى - نفى العوج عن الكتاب، ولم يجعل له عوجا ليس في القرآن عوج، لا، في تراكيبه، ولا في ألفاظه، ولا في معانيه، ولا في أخباره، على طوله مائة وأربع عشرة سورة كلها في القوة وفى البلاغة والفصاحة على وتيرة واحدة، أقصر سورة كأطول سورة، وأقصر آية كأطول آية، ونفي العوج يستلزم الاستقامة، ولكن الله - سبحانه وتعالى - لم يكتفِ بنفي العوج، حتى قال ? قَيِّماً ? لماذا أتى بالوصف الثاني مع أن الوصف الأول تضمنه ؟
قلنا: لأنك قد ترى الشيء مستقيماً يخيل إليك أنه مستقيم، فإذا دققت فيه النظر اكتسشفت فيه عوجا، لكن كتاب الله - سبحانه وتعالى - مهما دققت فيه النظر، ومهما كررت قراءته وتلاوته؛ لترى فيه عوجاً، لن ترى فيه عوجاً أبدا؛ لأنه كلام الله القيم .
(1/23)
---(1/23)
لقد ذكرت يا شيخنا من شروط العمل الصالح الاتباع للرسول - صلى الله عليه وسلم - فهل المحبة توجب الاتباع؟
حقيقة المحبة هي الاتباع، كيف نعرف المحب من غير المحب، يتميز المحب باتباعه لمحبوبه؛ ولهذا قال الحسن البصري - رضي الله عنه - ادعى قوم محبة الله - عزّ وجلّ - فابتلاهم الله بهذه الآية ? قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ?[آل عمران:31] فالاتباع هو عنوان المحبة، ليست المحبة شعارات ترفع، ولا رايات ترفع، ولا كلمات تقال، وإنما المحبة اتباع للمحبوب، فإذا كنت تحب الله؛ فأحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتباعك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عنوان حبك لله - عزّ وجلّ - .
تقول بسم الله الرحمن الرحيم، جزاكم الله خيرا وبارك الله في جهودكم، ورد فضل حفظ أو قراءة العشر الآيات الأولى من سورة الكهف، والبعض يقول أنها الأخيرة من السورة فأيهما آكد ؟
الروايتان صحيحتان ( من حفظ عشر آيات من أول الكهف ) و ( من آخر الكهف ) الروايتان صحيحتان، والمسلم إن واظب إن شاء الله تعالى على قراءة سورة الكهف كل جمعة حفظها كلها، إن شاء الله .
يقول ذكرتم شروط قبول العمل: الإخلاص، والاتباع، فهل تفضلتم بذكر شروط الاتباع ؟
الاتباع حقيقته اقتفاء أثر المتبع - صلى الله عليه وسلم - أن تتعلم السنة، وأن تعمل بها، أن تتعلم سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه وأنصحك في ذلك بكتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، تتعلم هديه - صلى الله عليه وسلم - في حياته اليومية، وفى عبادته، وتلتزم بالعمل بما تعلمته من هديه - صلى الله عليه وسلم - حينئذ تكون متبعاً .
(1/24)
---(1/24)
عندي سؤالين يا شيخ: السؤال الأول: بالنسبة لإضافة الله - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم، ذكرت هذه المسألة فلعلك يا شيخ تعيد هذه المسألة، المسألة الثانية: أنك قلت أن المراد بأجراً حسنا أن المراد بالأجر هو الجنة، والحسن هو الزيادة، فهل هذا هو المراد الصحيح يا شيخ أحسن الله لكم ؟
قال الله تعالى ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ ? عبد مضاف، والضمير مضاف إليه، فأضاف الله - سبحانه وتعالى - عبودية نبيه - صلى الله عليه وسلم - إليه وفى هذه الإضافة تكريم وتشريف للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه عبد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
السؤال الثاني: كان يتعلق بأجراً حسنا
الأجر الحسن: هو الجنة قال الله تعالى ? وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ?[البقرة: 25] وسمى الله الجنة الحسنى فقال ? لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ?[يونس: 26] فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسنى بالجنة والزيادة بالنظر إلى وجه - عزّ وجلّ - .
يقول هل ثبت في السنة مواضع أخرى من غير صلاة الجمعة، يستحب فيها قراءة سورة الكهف، وهل حفظها يكفي للوقاية من فتنة المسيح الدجال أم أنه يشترط الفهم ؟
لا، لم أعلم في السنة إرشاد إلى قراءة سورة الكهف في غير يوم الجمعة، والحمد لله أن الأجر على قراءة القرآن ليس متوقفا على الفهم، كما روي عن الإمام أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: بفهم وبغير فهم، من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، قال الإمام أحمد: بفهم وبغير فهم، وإن كان المقصود الأعظم من القراءة هو الفهم، لكن إذا قرأت وكان قلبك مشغولاً، وأجريت الألفاظ على لسانك بلا عوج ولا تغيير ولا تبديل، فأنت مأجور على القراءة إن شاء الله تعالى .
يقول شيخنا الفاضل، ما سبب نزول هذه السورة ؟(1/25)
(1/25)
---
ذكر المفسرون في سبب نزولها سبباً، ولكن لم يصح عند المحدثين؛ فلذلك أضربنا صفحاً عن ذكره .
يقول فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما أفضل كتاب يتحدث عن صلة السورة، بالسورة وصلة الآية بالآية ؟
البحر المحيط في ذلك جيد إن شاء الله تعالى .
تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ، سورة الكهف ليلة الجمعة وقراءتها في يوم الجمعة نهاراً، هل هناك اختلاف؛ لأنه ورد فيها حديثان صحيحان في كليهما، وإن كان فضل القراءة ليلاً و نهاراً مختلفان، فهل نقرأها مرتان جزاكم الله خيرا ؟
القراءة المقصود بها يوم الجمعة، واليوم يكون بعد طلوع الفجر وليست في ليلة الجمعة نعم.
تقول: ما المقصود بالنور الذي يكون في يوم الجمعة ؟
أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعة الأخرى، يعني أن الله - سبحانه وتعالى - يجعل له نوراً في قلبه، وفى سمعه، وفى بصره، فيكون موفقاً في حياته مجتهداً في طاعة ربه، في هذا الأسبوع .
يقول أن هناك الكثير من الناس يعتقدون أن الرجل الذي رافق موسى -عليه السلام وعلى رسولنا أفضل الصلاة وأتم التسليم- هو الخضر، أرجو توضيح هذه المسألة وجزاكم الله خيرا
باختصار: نعم، هو الخضر، وسيأتي الحديث عنه في موضعه من السورة إن شاء الله تعالى.
السلام عليكم، ما السر في عدم ذكر خلود المشركين في النار، مع ذكر هذه النسبة للمؤمنين، وجزاكم الله خيرا ؟
قد جاء ذكر الخلود للفريقين فريق في الجنة، وفريق في السعير، جاء ذكر خلود الفريقين في مواضع أخر من كتاب ربنا - سبحانه وتعالى - .
تقول أحسن الله إليكم، شيخنا قال الله تعالى ? لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ? هل جميع أهل الجنة سيرون وجه الله تعالى أم البعض فقط، وإن لم يكن الكل فمن سيرى وجه الله تعالى؟
بإذن الله - عزّ وجلّ - كل المؤمنين إذا دخلوا الجنة يرون ربهم - سبحانه وتعالى - نسأل الله أن يجعلنا منهم .
(1/26)
---(1/26)
يقول: ما الأفضل السرعة بكثرة أو بتأني مع القلة ؟
لا، القراءة بتؤدة وطمأنينة وتدبر وفهم أفضل من القراءة بسرعة، فقد قيل لابن عباس - رضي الله عنهما - أيهما أفضل رجلان صليا ركعتين في وقت واحد، قرأ أحدهما بالبقرة وآل عمران، وقرأ الثاني بالبقرة وحدها، وكان ركوعهما وسجودهما سواء، فأيهما أعظم أجرا؟ قال الذي قرأ البقرة وحدها .
لماذا الذي قرأ البقرة وحدها أعظم أجرا؟ لأنه قرأها بتؤدة، وطمأنينة، وتدبر، وفهم، وهذا هو المقصود الأعظم من القراءة، وكان ابن مسعود - رضي الله عنه - ينكر على الذين يسرعون في القراءة، وحدثه رجل أنه قام بكذا وكذا سورة في الليلة، فقال هزاً كهز الشعر؛ فننصح المسلمين إذا قرأوا القرآن أن يستجيبوا لقول الله تعالى ? وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ?[المزمل:4]
بسم الله الرحمن الرحيم، جزاكم الله خير الجزاء فضيلة الشيخ، قلتم في تفسير كلمة الكتاب: أن الكتاب إذا قيل يعني يطلق أو يعرف ويلتفت النظر إلى كتاب الله - سبحانه وتعالى - ولكن هناك البعض من العلماء سموا كتاباً ألفوه بالكتاب بالتعريف كيف نرى هذا ؟
ليس هناك في المؤلفات كلها كتاب مشهور باسم الكتاب، فقط، ما فيه مؤلفات حسبما اطلعت على مؤلف اسمه الكتاب، تأليف فلان الفلاني، أبداً لكن كل مؤلف له مسمى، أما الكتاب في القرآن الكريم، فالمراد به كتاب الله - عزّ وجلّ - القرآن المجيد .
تقول: لماذا بدأتم بتفسير سورة الكهف دوناً عن السور الأخرى، وهل صحيح أنه لابد من ختم سورة الكهف قبل آذان المغرب يوم الجمعة؛ لكي يحصل العبد على أجرها المترتب على قراءتها يوم الجمعة بأن تكون له نوراً ما بين الجمعتين ؟
أما لماذا بدأنا بسورة الكهف؟ فقد ذكرنا أنه هكذا شرح الله الصدور، ووقع الاختيار ليست هناك أي علة ونسأل الله - سبحانه وتعالى - كما بدأنا أن يرزقنا النهاية الحسنة، وننتهي من القرآن كله إن شاء الله تعالى من الفاتحة إلى الناس .
(1/27)
---(1/27)
أما قراءة الكهف يوم الجمعة ينبغي أن تكون قبل المغرب؛ لأن يوم الجمعة ينتهي بغروب الشمس، فإذا غربت الشمس، انتهي يوم الجمعة، فإذا قرأت بعد غروب الشمس يوم الجمعة قرأت ليلة السبت، ولم تقرأ يوم الجمعة.
يقول ? مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ? من المقصود في هذه الآية ؟
الذين قالوا اتخذ الله ولدا، ما لهم بهذا القول من علم، ولا عندهم به برهان ولا حجة ولا سلطان .
تقول هل يمكن الاستعانة بشرح السور من كتب أخرى إلى جانب تفسير ابن كثير ؟
من أراد أن يستزيد بعد ابن كثير، فعليه بتفسير السعدي رحمة الله، وتفسير الجزائري حفظه الله، ومحاسن التأويل للقاسمي .
السلام عليكم، السؤال يا شيخ متى تبدأ الساعة الأولى من يوم الجمعة، والسؤال الثاني: سورة الكهف هل إذا قرأتها بعد صلاة الفجر تجزء أم بعد الآذان الأول ؟
الساعة الأولى فيها اختلاف بين العلماء، ولعل الراجح هو ما جرى عليه عمل المسلمين في ذلك اليوم، متى يذهب أوائل الناس السابقون متى يسبقون إلى المسجد يوم الجمعة، يعني ما شاهدنا أحد يذهب إلى يوم الجمعة الساعة السابعة صباحاً، ولا الثامنة صباحاً، لكن في العادة انظر إلى المسجد اذهب مبكراً، وانظر كم سبقك ثلاثة أربعة، إذاً تأتي في الجمعة القادمة قبل ذلك فتكون قد أتيت في الساعة الأولى بإذن الله - عزّ وجلّ - .
إذا قرأ الكهف بعد الآذان الأول يوم الجمعة الآذان الأول هو من الليل، أما الآذان الثاني هو طلوع الفجر، واليوم يبدأ بطلوع الفجر فمن قرأها بعد الآذان الأول يكون قد قرأها ليلاً، لكن إذا قرأها بعد طلوع الفجر وهو الآذان الثاني يكون قد قرأها يوم الجمعة .
يقول: قال الله تعالى ? وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ?[ الكهف :4] من المخاطب في هذه الآيات؟
الذين قالوا اتخذ الله ولدا، ثلاثة أصناف:
المشركون، مشركو العرب جعلوا الملائكة بنات الله .
(1/28)
---(1/28)
?وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ?[التوبة:30].
تقول كيف أُثبت العلم؛ لأنني درست كثيرا، وأشعر أنني ما زلت جاهلة، وأنسى كثيراً، أرجو الرد، وجزاكم الله خيراً ؟
لابد لطالب العلم أن يتعاهد دروسه دائماً بالمراجعة، لا يدرس ثم يترك ويهمل، بل لابد لكل مادة درسها أن يتعاهدها بين الحين والحين، ومما يعين على التثبيت تزاور طلاب العلم ومذاكرتهم بعضهم مع بعض، فقد قال بعض السلف: تزاوروا وتذاكروا العلم، فإنكم إن لم تفعلوا يدرس، فلابد لطالب العلم أن يتعاهد علمه دائما بالمراجعة؛ ليحيه بتلك المراجعة إن شاء الله .
تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يؤجر من يتلو القرآن مع التكرار من أجل الحفظ، لكل حرف يكرره عشر حسنات مثل أجر من يتلو دون تكرار بختم القرآن وجزاكم الله خيراً ؟
هو كذلك إن شاء الله، الطالب الذي يحفظ يأخذ السورة، ويكرر خمس آيات منها كلما كرر له أجر -إن شاء الله تعالى- حتى ولو كرر الآية الواحدة عشر مرات، له بكل حرف منها عشر حسنات بإذن الله - عزّ وجلّ - .
تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سجلت في دورة لحفظ القرآن، وطلبوا منا حفظ كتاب كلمات القرآن تفسير وبيان للشيخ محمد حسنين مخلوف، ما رأيكم في هذا التفسير وهل تنصحون بالاستمرار في حفظه، بارك الله فيكم ؟
لا بأس بهذا الكتاب في المفردات إن شاء الله تعالى .
يقول: هل قصة يأجوج ومأجوج مع سورة الكهف صحيحة، أنهم يهدمون سوراً أو شيئاً وإذا قرأ المسلم سورة الكهف أعاد الله بناء ما هدموه، ما قولكم يا شيخنا ؟
(1/29)
---(1/29)
لا، حفرهم للسد صحيح ثابت في حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يحفرون كل يوم حتى إذا غربت الشمس، أو كادت قالوا: اتركوه وتعودون غداً فتحفروه فيأتون غداً، فيجدونه قد ردم فيحفرون وهكذا إلى غروب الشمس، ويتركونه فيأتون يوم الثالث فيجدونه قد ردم وهكذا، فإذا أراد الله خروجهم ألهم القائم عليهم أن يقول ترجعون غدا فتفتحونه إن شاء الله، فإذا قال إن شاء الله، رجعوا فوجدوه كما تركوه، فاتموا ما بقي وخرجوا على الناس، لكن ما علمنا من حديث صحيح أن قراءة سورة الكهف يوم الجمعة تمنعهم من حفر السد .
يقول فضيلة الشيخ: هناك بعض الروايات تقول: أن سبب التنزيل هو أن قريش سألت اليهود عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: اسألوه عن فتية ذهبوا في الدهر والرجل الذي ملكه الله الأرض وعن الروح ؟
هكذا كما أشرت سابقاً جاء هذا السبب في بعض كتب التفاسير، ولكننا إن شاء الله تعالى نعتمد في تفسيرنا على الصحيح الثابت، ونترك غير الصحيح الثابت، نترك الضعيف، فهذه الرواية ضعيفة؛ ولذلك لم نتحدث فيها عن سبب النزول .
تقول هل يحرم رسم لكل ما له روح كالإنسان أو الحيوان، وهل يحرم استخدامنا لهذه الصور بغرض التعليم وجزاكم الله خير ؟
الذي نتعلمه أن التصوير لكل ذي روح حرام، كما نص على ذلك الإمام النووي رحمه في شرح صحيح مسلم في كتاب اللباس، أن التصوير بعمومه لكل ذي روح حرام، إنسان كان أو طيراً أو حيواناً، وإن كان لابد فاعلا فلما لا روح له .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هل الآية تكون في منتصف المصحف ? هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً ?[الكهف:44] ؟
لا، قالوا إن منتصف المصحف عند قوله تعالى في قصة أصحاب الكهف وليتلطف، قالوا هذا هو نصف المصحف وليس فيما سأل عنه .
(1/30)
---(1/30)
يقول: هل قوله تعالى ? أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ ? فيه دليل على إثبات العلو لله - عزّ وجلّ - لأن العلو لا يكون إلا من فوق إلى تحت ؟
لا شك في ذلك -وجزاه الله خيراً على سلامة عقيدته وصحة معتقده، أن الله - سبحانه وتعالى - في السماء فوق العرش استوى، بائن من خلقه، فهكذا النزول لا يكون إلا من أعلى لأسفل .
تقول: هل صحيح أن تفسير ابن كثير مليء بالإسرائليات، وكيف يميز طالب العلم تلك الإسرائليات ؟
أنصح السائلة وغيرها من المسلمين والمسلمات بقراءة مختصر ابن كثير لشيخنا الشيخ محمد نسيب الرفاعي رحمة الله عليه، فقد حذف من الأصل الضعيف والموضوع وأثبت فيه الصحيح الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
يقول هل ذو القرنين هو نبي أم رجل صالح حفظكم الله ؟
نرجو من الإخوة الكرام ألا يتعجلوا بالفوائد فنحن في بداية أول حلقة في التفسير والسورة طويلة، لكن تعجيلاً بالفائدة ليس ذو القرنين نبياً إنما كان ملكاً صالحاً .
تقول: هل من نصيحة شيخنا الفاضل للتفريق بين الآيات التي تتشابه حفظاً فقد بدأت حفظ سورة البقرة وشارفت على الانتهاء من حفظها وأصبحت الآيات تختلط علي أفادكم الله وجزاكم الله خيراً ؟
يخرج الطالب ورقة ويكتب فيها الآيات المتشابهات في السورة، ويكتب رقم هذه، ورقم هذه، وينظر في هذه الورقة كثيراً يثبت ذلك في قلبه بإذن الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في البداية أحب أن أركز على سؤال، هل قراءة سورة الكهف تسلم بعد الفجر، أو من بعد الآذان الأول، ولعل يقصد بالآذان الأول من يوم صلاة الجمعة؛ لأن عندنا في السعودية بعض المدن يكون هناك فارق بين الآذان الأول في صلاة الجمعة الفارق يقرب من ساعة، أما سؤالي إذا كان يا شيخ تنتهي قراءة سورة الكهف بغروب الشمس يوم الجمعة، هل ستكون البداية من غروب شمس الخميس يعني من ليلة الجمعة تكون بداية قراءتها وحفظ الله ؟
(1/31)
---(1/31)
الحديث يقول ( من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة ) فاليوم يطلق على النهار لا يدخل فيه الليل كما في الغسل ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ) الغسل لا يكون إلا في اليوم بعد طلوع الفجر، لا يكون ليلة الجمعة، فكذلك القراءة وما جاء من صالح الأعمال وفضلها في يوم الجمعة. اليوم يكون المراد به النهار وليس الليل .
(1/32)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
قصة أصحاب الكهف
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
ثم مرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد مع تفسير سورة الكهف، والآيات المباركات التي معنا اليوم تضمنت من المعاني ما يلي:
أولاً: بيان حقيقة الحياة الدنيا .
ثاني: ذكر شئ من عجائب خلق الله - سبحانه وتعالى - .
ثالث: حث الشباب على اغتنام شبابهم وأوقاتهم وصحتهم .
رابعاً: الإيمان يزيد وينقص .
خامساً: كيف حفظ الله - تبارك وتعالى - أصحاب الكهف وهم في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا .
وهذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات التى سنعيش في رحابها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالى.(1/32)
فلنستمع إلى هذه الآيات المباركات أولاً قبل الخوض في تفاصيلها سائلين الله - عزّ وجلّ - أن ينجز لنا ما وعدنا، حيث قال ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?[الأعراف:204] .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(2/1)
---
? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا * أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ(1/33)
الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ
(2/2)
---
مِنْهُمْ رُعْبًا ?[الكهف: 7-18].
? كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ?[ص:29].
? لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? [الحشر:21].
? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر:23].
إخوة الإسلام يقول الله تعالى ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلً?.
ما، في قوله تعالى ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ ? للعموم فكل ما على الأرض من إنسان وحيوان وقصور وأنهار وبحار وجبال وأشجار، كل ذلك جعله الله - تبارك وتعالى - زينة للأرض يقول الله تعالى ? الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ?[الكهف:46] ويقول تعالى ? وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ?[النحل:8] .(1/34)
ويقول تعالى ? زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ?[آل عمران:14] .
لماذا زين الله - تبارك وتعالى - الأرض، ولماذا خلقها وما عليها ؟
قال تعالى في بيان حكمة الخلق، حكمة الإيجاد ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلً? .
(2/3)
---
والابتلاء معناه الاختبار والامتحان، لنبلوهم أيهم أحسن عملا، وقد تكرر ذكر هذه الحكمة من الخلق والإيجاد، في موضوعين آخرين غير هذا الموضع .
في سورة الملك قال الله - تبارك وتعالى - ? تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ?[الملك:1-2] .
وفى سورة هود قال تعالى ? وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ?[هود:7] .
وهنا في سورة الكهف قال تعالى ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلً? .
فنص الله - تبارك وتعالى - في المواضع الثلاث على أن حكمة الخلق والإيجاد، ? لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ? .
ولم يقل ربنا - سبحانه وتعالى - لنبلوهم أيهم أكثر عملا ، وإنما قال ? لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ? لأن الإسلام لا يهتم بالكم، وإنما يهتم الإسلام بالكيف.
(2/4)
---(1/35)
فركعتان تصليهما تسبغ وضوءهما وتحسن قراءتهما، وتطمئن في ركوهما وسجودهما، وتقبل بقلبك على الله - عزّ وجلّ - فيهما خير من مائة ركعة لا تكون على هذا النحو ولا على هذه الكيفية، ولذلك قيل لابن عباس رضي الله عنهما، رجلان صليا ركعتان جميعاً، فكان قيامهما وركوعهما وسجودهما سواء، صلى رجلين ركعتين أخذا وقتاً واحداً كبرا للإحرام معاً وانصرفا بالسلام معاً، إلا أن أحدهما قرأ في قيامه البقرة وحدها، والآخر قرأ البقرة وآل عمران فأيهما أحب إليك ؟ أيهما أفضل، وأيهما أعظم أجراً وأكثر ثواباً ؟ قال ابن عباس الذي قرأ بالبقرة وحدها، لماذا؟ لأن الذي قرأ بالبقرة في وقت قرأ فيه الآخر بالبقرة وآل عمران، كان الثاني مسرعاً في قراءته يهز القراءة هزا، وأما الذي قرأ البقرة وحدها في وقت قرأ صاحبه سورتين، كان يقرأ بتؤدة وترتيل وتجويد وتدبر وهذا هو المراد ? كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ?[صّ:29] .
فالله - سبحانه وتعالى - قال في حكمة الخلق والإيجاد ليبلوهم أيهم أحسن عملا، ولم يقل أكثر عملاً، حتى نهتم دائماً بالكيف لا بالكم، ولعلنا نستطرد من هذا فنقول ، في رمضان في القيام، في التراويح تجد كثيراًَ من المساجد إحدى عشر ركعة بسورة والضحى والليل إذا سجى، وربما صلوا ثلاثاً وعشرين ركعة بسورة الملك كل ركعة بآية، وربما جعلوا الركعة على آيتين .
نقول: لا، لو أنهم صلوا ركعتين أو أربعاً كان ذلك أحسن وأعظم أجراً من العشرين والثلاث والعشرين، انظر ماذا قالت عائشة - رضي الله عنها - في صفة قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت - رضي الله عنها - ( ما زاد رسول الله في رمضان ولا في غير رمضان عن إحدى عشرة ركعة ) ثم وصفت الصلاة فقالت ( يصلي أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن) .
(2/5)
---(1/36)
فعلينا أن ننتبه الإسلام يهتم بالكيف لا بالكم، ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلً? .
قال الفضيل بن عياض لنبولهم أيهم أحسن عملاً قال يعني أخلصه وأصوبه، فلا يكون العمل مقبولاً حتى يكون خالصاً وصواباً، فإن كان خالصاً وليس بصواب لم يقبل، وإن كان صواباً وليس بخالص لم يقبل حتى يكون خالصاً وصوابا، قالوا يا أبا علي، ما الخالص؟ وما الصواب؟ قال: الخالص: ما ابتغي به وجه الله، والصواب: ما وافق هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعليك أن تكون حريصاً في عملك، أن تكون خالص النية، لله - سبحانه وتعالى - وأن تكون متبعاً في عملك هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه كما يقول ابن القيم رحمه الله ينبغي على كل من عزم على عمل أن يسأل نفسه قبل العمل سؤالين: لم وكيف، لم تعمل؟ وكيف تعمل؟ الجواب الصحيح، على السؤال الأول لم؟ لله، والجواب الصحيح على السؤال الثاني كيف؟ على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا سألت نفسك لم تريدين العمل ؟ قالت: لله وهي صادقة .
وكيف تعملين؟ على طريقة رسول الله .
نقول لك فإذا عزمت فتوكل على الله، بادر بهذا العمل الصالح، الذي أخلصت فيه النية، ووافقت فيه السنة، وأما إذا كان الجواب عن السؤال الأول- لم؟- للناس، رأيت فلانا فعل كذا فمدحه الناس وأحبوه وأنزلوه منزلة عالية، فأنا أريد أن أعمل هذا العمل؛ لأكسب المحبة في قلوب الناس، كما كسبها فلان، نقول لك: لا إنهم أي الناس، لن يغنوا عنك من الله شيئا .
فيقول الله تعالى في الحديث القدسي ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه .
(2/6)
---(1/37)
فإذا قلت لم ؟ قلت لله، سألناك كيف تعمل، قلت كما يفعل الناس، نفعل كما يفعل الناس نصلي كما يصلي الناس، ونحج كما يحج الناس، نقول لك وفر جهدك ووقتك فإن العمل الذي لا يكون على طريقة رسول الله مردود على صاحبه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) .
? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلً? .
لما زين الله - تبارك وتعالى - الأرض بما عليها من زينة لا شك أن النفوس تعلقت بها وأن الأنظار انصرفت إليها فأراد الله - سبحانه وتعالى - أن يحذر عباده من التعلق بالدنيا، والركون إليها والحرص على زينتها، فأخبرهم أن زينة الحياة الدنيا تفنى وأن الأرض كلها تزول بما عليها فقال - عزّ وجلّ - ? وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ? .
والجرز: الأرض السوداء الجرداء التي لا زرع فيها ولا ماء ? أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ ?[السجدة:27] فالأرض تكون جرداء سوداء، لا زرع فيها فإذا نزل المطر بإذن الله أنبت الله النبات وأحيا الأرض الميتة بعدما كانت ميتة أحياها بالماء الذي أنزله من السماء ? وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ?[فصلت:39].
فالله - سبحانه وتعالى - لما أخبر عن زينة الحياة الدنيا أخبر أنها زينة فانية سريعة الفناء سريعة الزوال حتى لا تتعلق النفوس بها فقال ? وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ?.
(2/7)
---(1/38)
اسمع ما يقول الله - تبارك وتعالى - في ذلك ? إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ? [يونس:24] .
ويقول تعالى ? فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ?[ الحاقة: 13-16].
ويقول تعالى ? إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ?[ الواقعة: 1-5].
? كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ ?[الرحمن:26-27].
فلما أخبر الله - تبارك وتعالى - عن الأرض وزينتها أخبر أهلها أنها لن تدوم هكذا مزينة بل ستفنى وتزول، وينتقلون إلى عالم آخر فيه نار حامية ، أو نعيم مقيم .
وأمرهم أن يتسابقوا إلى فعل الخيرات، التي تجعلهم ينجون من النار ويفوزون بالجنة فقال تعالى ? اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً ? هذه حقيقة الدنيا ? وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ? [الحديد:20].
(2/8)
---(1/39)
فإذا علمتم هذا ? سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ? [الحديد:21] .
ومع ذلك أبى كثير من الناس إلا أن يتعلقوا بالدنيا، وأن يحرصوا عليها، فجعلوها أكبر همهم، ولم تكن لهم همة في الآخرة ولا رغبة فيها، ولا تطلع إليها، حتى إن الله تعالى وصفهم بأنهم إذا أتوا البيت الحرام في موسم الحج حيث تستجاب الدعوات، لم يكن لهم هم في الدعاء إلا الإلحاح على الله - عزّ وجلّ - بسؤال الدنيا، قال تعالى ? فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ?[البقرة:200] .
يقول تعالى ? مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?[هود:15-16].
ويقول تعالى ? مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ? [الاسراء:18-19] .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ( من جعل الآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن جعل الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ) .
(2/9)
---(1/40)
فعلينا أن نحذر من الركون إلى الدنيا، والإغترار بها والحرص عليها، نأخذ منها ما قسم الله - تبارك وتعالى - لنا ونحن نتطلع إلى نعيم دائم عظيم أعظم من نعيم الدنيا وهو نعيم الجنة، الذي وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله ( فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ) .
مع العلم بأن الحرص على الآخرة لا يمنع الإنسان من التمتع بطيبات الحياة الدنيا فإنه - سبحانه وتعالى - قال ? قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? [لأعراف:32] .
وقال ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ?[المائدة:87-88] .
لكن المهم اجعل الآخرة أكبر همك، بحيث إذا ضاق الوقت عن عمل الدنيا وعمل الآخرة، قدمت عمل الآخرة على عمل الدنيا؛ لأن الوقت إذا مضى مضى معه عمل الآخرة، وأما إذا مضى الوقت ومضى معه عمل الدنيا، فتستطيع أن تدّارك ما فاتك من الدنيا، لكن ما فاتك من عمل الآخرة لن تستطيع أن تدّاركه .
? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ? .
(2/10)
---(1/41)
ثم أخذ الله - تبارك وتعالى - في الحديث عن أصحاب الكهف وبدأ بمجمل، ثم أتي على المجمل بعد ذلك بالتفصيل، وهذه سنة الله - تبارك وتعالى - في القرآن الكريم، يذكر المجمل ثم يأتي بعد ذلك بالتفصيل، كذلك فعل الله - تبارك وتعالى - في القرآن كله، فاستفتحه بسورة الفاتحة وجعلها مجملة لما تضمنه القرآن الكريم كله، ثم جاء القرآن الكريم كله يفصل ما أجمله الله - تبارك وتعالى - في سورة الفاتحة، كذلك لما أراد الله - تبارك وتعالى - أن يقص علينا نبأ أصحاب الكهف، بدأ بمجمل فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولكل من يصلح للخطاب ? أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ?[ الكهف:9-12] هذا هو المجمل ثم أخذ في التفصيل فقال ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ? ثم قص الله - تبارك وتعالى - علينا من نبأهم ما قص في هذه السورة الكريمة المباركة، وقد ذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه القصة -قصة أصحاب الكهف- روايات طويلة وأخباراً كثيرة، لا تصح أبدا، ضربنا عن ذكرها صفحا؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - أغنانا عن هذه الروايات الباطلة، والقصص الواهية بقوله ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ? فماذا تبتغي بعد هذا الحق الذي قصه الله - تبارك وتعالى - عليك، والله - سبحانه وتعالى - لا يتتبع الاحداث فيسردها حدثاً، ولا يتتبع الوقائع فيسردها واقعة واقعة، وإنما الله - تبارك وتعالى - سنته في القصص القرآني أن يقص علينا ما فيه العبرة، والعظة والدرس، ولذلك سيأتي معنا في السورة الكريمة في(1/42)
(2/11)
---
قصة ذو القرنين ? وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ? [الكهف:83] سأتلوا عليكم من نبأ ذي القرنين ما فيه ذكرى وعبرة وعظة ودرس، وما ليس فيه عبرة ولا فائدة ولا منفعة لن أقصه عليكم ولن أذكره لكم، إذاً من هم أصحاب الكهف؟ كم كان عددهم؟ وكيف كان لون كلبهم؟ وما كان اسم كلبهم؟ وأين كانوا يعيشون؟ وفى أي زمان كانوا يعيشون؟ وهل كانوا قبل موسى عليه السلام أم بعده ؟ كل هذا سكت الله - تبارك وتعالى - عنه؛ لأنه لا فائدة في تعيينه، ولا في ذكره، فلنسكت عما سكت الله - تبارك وتعالى - عنه، لكن الله يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولكل من يصلح للخطاب أم حسبت يا نبينا أم حسبت يا أيها المخاطب ? أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ? [الكهف:9] ما الكهف وما الرقيم ؟
الكهف: هو النقب الواسع في الجبل، النقب الواسع في الجبل يسمى كهفاً، فإذا كان ضيقاً سمي غارا .
وأما الرقيم: فالرقم معناه الكتابة، والرقيم فعيل بمعنى مفعول أي مكتوب، الرقيم يعني المكتوب كما قال تعالى ? كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ? [ المطففين:18]? كِتَابٌ مَرْقُومٌ ?[المطففين:20] .
وأصح ما جاء في تفسير الرقيم، أنها لوحة معدنية، أو حجر من الرخام كتب عليه أسماء أصحاب الكهف .
(2/12)
---(1/43)
الأصح في تفسير الرقيم، أنه لوحة معدنية أو حجرية كتب عليها أسماء الفتية الذين دخلوا هذا الكهف، ? أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ? حين تسمع الأن فتية دخلوا الكهف فناموا فيه ثلاثة مائة سنين وازدادوا تسعاً، ثم بعثهم الله تتعجب، تقول: سبحان الله، ينامون ثلاثة مائة سنين ثم يبعثهم الله تتعجب من هذا، لم تتغير أجسامهم، ولم تبلَ، ولم يصبهم مرض ولا عاهة، ينامون ثلاثة مائة سنين ثم يبعثهم الله كما كانوا، تتعجب من هذا، الله يقول لك إذا رأيت أن بعث أصحاب الكهف بعد هذه السنين عجباً، فليس بعجب فلله من الخلق عجائب كثيرة ? أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ?[الغاشية:17] .
أليست هذه الإبل في خلقتها التي هي عليها آية عجيبة من عجائب قدرة الله سبحانه وتعالى ? أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ?[ الغاشية: 17-20].
فإذًا عجيب كيف يحيي الله - تبارك وتعالى - فتية لبثوا نائمين ثلاثة مائة سنين، فلا تعجب فقدرة الله فوق كل ذلك وتأمل في خلق الله ? لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ?[غافر:57] .
? أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ? .
(2/13)
---(1/44)
الفتية جمع فتى، فتىً تثنيته فَتَيان، وجمع فِتْيان، ولكن جمع فتيان يسمى في اللغة جمع كثرة كصبي وصبيان جمع كثرة، وصبية في جمع القلة فالله - سبحانه وتعالى - قال ? إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ? أشار لنا بهذا اللفظ إلى قلة عدد أصحاب الكهف أنهم كانوا دون العشرة جمع قلة فتية دون العشرة ? إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ? وفى ذكرهم بالفتوة والشباب والقوة والصحة، ما يفيد الشباب إلى أنه يجب عليهم أن يعتبروا بقصة هؤلاء الفتية، وأن يعتبروا بها وأن يحرصوا على اغتنام شبابهم، وأن يقدموا لدينهم ما يستطعيون في وقت شبابهم، فإن الشباب هو أجمل سن العمر، الشباب هو زمن العطاء، وزمن البذل، والجهد والتضحية في وقت الشباب، تستطيع أن تقوم الليل، وتصوم النهار، وتغدو وتروح في الأوقات الخمس إلى الجماعة في المسجد، فيجب عليك أن تغتنم هذا كما وصاك النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال ( اغتنم شبابك قبل هرمك ) يجب عليك أن تغتنم شبابك، وأن تأخذ منه زاداً عظيماً من التقوى ومن الأعمال الصالحة التي إذا طال بك العمر، ستعجز عنها في زمن الشيخوخة، فتقول مردداً مع الشيوخ:
ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
فأنت أيها الشاب ما زلت في شبابك، ما زلت في صحتك ما زلت في مقتبل عمرك، فاغتنم شبابك قبل هرمك، وتزود .
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغار يرتجي طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
وكم من صحيح مات من غير علة وكم من عليل عاش حيناً من الدهر
فاغتنم شبابك قبل هرمك، ولا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، وإذا اصبحت فقل يا نفس اجتهدى في طاعة الله فلعل اليوم، آخر الأيام .
(2/14)
---(1/45)
وإذا أمسيت فقل يا نفس اجتهدي في طاعة الله، فلعل الليل آخر الليالي وهكذا؛ حتى تسلم نفسك إلى خالقها وباريها راضية مرضية، فتسمع هذا النداء الحلو العذب ? يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ?[ الفجر: 27-30] .
? إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ? أي لجأوا إلى الكهف فراراً بدينهم من الفتن؛ لأنهم نظروا في قومهم فرأوهم يعبدون الأصنام من دون الله - عزّ وجلّ - وجدوا الشرك متفشياً في قومهم وكانوا فتية دون العشرة لا يستطيعون تغيير هذا المنكر بأيديهم، والإنسان إذا عجز عن تغيير المنكر بيده، حسبه أن يغيره بقلبه، وأن يعتزل هذا المنكر .
فالله - تبارك وتعالى - قد وسع علينا في تغيير المنكر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ) وذلك التغير باليد لا يسكون إلا في محل الولاية، ومحل السلطة، لا يكون في الشارع العام ولا مع عامة الناس، إنما يكون في محل الولاية والسلطة ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) .
فلما رأى هؤلاء الفتية قومهم وماهم فيه من الشرك، ولم يستطيعوا أن يغيروا الواقع، اعتزلوهم ولجأوا فراراً بدينهم إلى كهف في جبل .
أين كان هذا الكهف ؟ في أي بلد ؟ وأين يقع ؟ سكت الله عن ذلك؛ لأن تعيين المكان ليس فيه كثير فائدة .
? إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ ? من عندك أنت يا رب ? رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ? واهدنا سبيل الرشاد، قال تعالى ? فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ? [الكهف:11] .
(2/15)
---(1/46)
كم كانت هذه السنون ؟ سنعرف إن شاء الله تعالى بعد ذلك، ولكن قوله تعالى ? فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ ? لماذا ضرب الله تعالى على آذانهم، إن الله - تبارك وتعالى - أراد أن يناموا في هذا الكهف سنين عدداً، أراد أن يناموا ولا يستيقظوا سنين عددا، والأصوات المزعجة توقظ النائم، فضرب الله على آذانهم حتى لا تزعجهم، الأصوات فيستيقظون من نومهم إلا في الوقت الذي أراده الله - تبارك وتعالى - بعد السنين التي عدها لهم عدا ?فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ? ثم بعثناهم من نومهم بعد ثلاثة مائة سنين، ? بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ? .
ما المراد بالحزبين؟ ?لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ?ما المراد بالحزبين؟ قال بعض المفسرين: انقسم أهل البلد في هؤلاء الفتية على قسمين، وكم لبثوا في كهفهم؟ وقال بعض المفسرين -وهو الأرجح والله تعالى أعلم:- أن الفتية أنفسهم لما بعثهم الله تعالى من نومهم انقسموا على أنفسهم حزبين كم لبثوا في كهفهم؟ فلما بعثهم الله تساءلوا كم لبثتم؟ ثم لما علموا أنه لا فائدة من معرفة كم لبثوا فوضوا الأمر لله - عزّ وجلّ - ? قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ?[الكهف: 19] .
? لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ? وهكذا أجمل الله تعالى قصة أصحاب الكهف في هاتين الآيتين .
ما هي قصة أصحاب الكهف ؟ ? إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ? ناموا وبعثوا هذا مجمل القصة، ثم إليك البيان والتفصيل ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ? [الكهف:13]
(2/16)
---(1/47)
والمتكلم الله - سبحانه وتعالى - ولكنه يتكلم بأسلوب العظمة؛ لأنه العلي العظيم، إذا كان من دأب الملوك وعاداتهم في الخطاب أن يقول الملك: نحن ملك الدولة الفلانية، إذا هذا جاز لبشر من خلق الله - عزّ وجلّ - فما بالك بملك الملوك - سبحانه وتعالى - فالله واحد أحد صمد، لكنه يتكلم عن نفسه بأسلوب العظمة، بأسلوب الجمع تعظيما، نحن نقص عليك يا نبينا كما نقص على من يبلغهم الخبر والقصص نقص عليك نبأهم بالحق، فإذا أردت الحق المتعلق بأصحاب الكهف فلا تأخذه إلا من القرآن الكريم؛ لأن الله هو الذي يقص عليك، يقصه بالحق، ودائما يقص الله علينا بالحق، ويخبرنا بالحق؛ ولذلك قال في قصة موسى وفرعون ? طسم * تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ?[ القصص:1-3] .
ولما قص علينا قصة عيسى مع أمه عليهما السلام قال ? إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ?[آل عمران:62] .
فإذا أردت أن تعرف الحق المتعلق بأصحاب الكهف فخذه من الله الحق، فالله هو الحق وقوله الحق، وقد قال في القرآن الكريم ?وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ?[الإسراء:105].
إنهم أصحاب الكهف ? إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ? نظروا في الواقع فوجدوه مراً وجدوا قومهم يعبدون الأصنام من دون الله - عزّ وجلّ - أو يعبدونها مع الله، يعبدون الله ويعبدون معه غيره من الأصنام، فتبرأوا منهم ومما يعبدون من دون الله، إنهم فتية آمنوا بالله - عزّ وجلّ - الواحد الأحد، فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، فلما آمنوا زادهم الله هدى، فالإيمان سبب من أسباب الزيادة في الإيمان، والهدى سبب من أسباب الزيادة في الهدى .
(2/17)
---(1/48)
قال تعالى ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ?[يونس:9] الباء الداخلة على إيمانهم باء السببية ? يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ? فلما تقبل دعوة الرسل وتؤمن بالله - عزّ وجلّ - يزيدك الله إيماناً، ولما تتبع الهدى الذي جاء به الرسل يزيدك الله هدى ? إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ? ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ? ? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً ?[محمد:17] .
فمن قبل دعوة الرسل وآمن بهم زاده الله إيمانا، ومن اتبع الهدى الذي جاءت به الرسل زاده الله هدى، ومن رفض دعوة الرسل وكفر بهم زاده الله ضلالا كما قال تعالى ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ?[الصف: 5] .
وقال تعالى ? وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ?[الأنعام:110].
? إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ? لما بلغ خبرهم الملك استدعاهم؛ ليتعرف على هؤلاء النفر الذين خرجوا عن دينه إلى دين لا يعرفه، فلما استدعاهم الملك، تعلمون أن الملك له هيبة وله مخافة وخشية، فالله - سبحانه وتعالى - يقول ? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ? يعني إذ قاموا بين يدي الملك حتى لا يخافوه ولا يهابوه .
(2/18)
---(1/49)
والربط: المقصود به تثبيت الشيء، حين تربط متاعك تقصد بربطه أن تثبته، فالربط على القلوب معناه تثبيتها؛ ليذهب عنها الخوف والقلق ويحلها الأمن والطمأنينة والأمان، الله - سبحانه وتعالى - يقول في غزو الأحزاب ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ?[الأحزاب:9-10] من شدة الخوف، بلغت القلوب الحناجر، ويقول تعالى في الخوف الذي يصيب الناس يوم القيامة ? وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ ?[غافر:18] فالخوف يقلق، إذا دخل الخوف القلب وجدت ضربات قلبك قد زادت، وجدت جسمك يرتعد ويرتعش دخل الخوف قلبك، وهؤلاء فتية الملك استدعاهم، والحاشية عن يمينه وعن شماله والشرطة عن يمينه وشماله، فالله تعالى ثبتهم فقال ? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا ? أي ثبتهم الله - تبارك وتعالى - حين قاموا بين يدي الملك، فلم يخافوه ولم يهابوه؛ ولذلك أعلنوا دينهم وعقديتهم صريحة بين يدي الملك، بلا خشية ولا هيبة .
? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ? .
فذكر هؤلاء الفتية في قولهم هذا توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية .
إذا آمنت بأن الله رب السماوات والأرض الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك، إذا آمنت بأن الله هو الذي خلقك وهو الذي يرزقك، وهو الذي يحيك ويميتك، وهو الذي يشفيك إذا مرضت، وجب عليك أن تعبد هذا الرب - سبحانه وتعالى -
(2/19)
---(1/50)
فإقرارك بتوحيد الربوبية يلزمك بالإقرار بتوحيد الألوهية؛ لذلك كثيراً ما يلزم الله - تبارك وتعالى - على مشركي العرب بتوحيد الألوهية بإقرارهم بتوحيد الربوبية .
لقد كان مشركو العرب مقرين بتوحيد الربوبية، مَن الخالق ؟ الله، مَن الرازق ؟ الله، مَن المحيي ؟ الله ، مَن المميت ؟ الله ، مَن المعطي ؟ الله ، مَن المانع ؟ الله .
فإذا قيل لهم لا إله إلا الله، أي اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قالو: أنجعل الآلهة إلهاً واحداً، فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وكان مشركو العرب مقرين بتوحيد الربوبية منكرين للألوهية، فقال الله - تبارك وتعالى - ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?[البقرة:21-22] .
أنه لا ند له في الربوبية فيجب أن تعلموا أنه لا ند له في الألوهية، فرب العالمين يجب أن يكون إله العالمين فلا إله إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله .
? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ?.
نسأل الله - تبارك وتعالى - أن يربط على قلوبنا كما ربط على قلوب هؤلاء الفتية، وأن يثبتنا على الإيمان ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمه إنك أنت الوهاب.
- فاصل -
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته سؤالي هو إعراب كلمة ? كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ? أريد أن أعرف موقع كَلِمَةً من الإعراب .
لا شك أن لكم دروس إعراب ودروس نحو، فنحيل السؤال في الإعراب على مادته المتخصصة .
(2/20)
---(1/51)
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما الوصايا التي تنصحون بها الشباب والفتيات في هذا الوقت لاستغلال أوقاتهم بما يعود عليهم بالنفع بارك الله فيكم ؟
الله - تبارك وتعالى - حل للشباب والفتيات مشكلة الفراغ بآية واحدة من كتابه وهي قوله تعالى ? فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ?[الشرح:7] فقال العلماء إذا فرغت من العبادة فانصب في عمل الدنيا وإذا فرغت من عمل الدنيا فانصب في العبادة، ولا تكن سبهلله لا عمل لك في الدنيا، ولا عمل لك في الآخرة .
فعلى الشباب والفتيات أن ينظموا أوقاتهم، فتنظيم الوقت مما يعين على الانتفاع به، وضع جدول منهجي للدراسة اليومية ولعمل اليوم، المطلوب اليوم علمه كذا وكذا وكذا، يشترط الإنسان على نفسه إذا أصبح المطلوب عمله اليوم، ثم يكتبه في ورقة، وإذا أمسى حاسب نفسه على ما اشترط عليها في أول النهار، ماذا أنجز من أعماله؟ وماذا لم ينجز منها، وبهذه المشارطة والمحاسبة يستطيع الشاب والفتاة أن يستغلوا أوقاتهم ويحققوا مرادهم بإذن الله - عزّ وجلّ - .
السلام عليكم، فضيلة الشيخ ذكرتم بارك الله فيكم أن العمل لا يكون صالحاً مقبولاً إلا إذا توافر فيه شرط الإخلاص والمتابعة، وقد قرأت في أحد كتب الشيخ ابن العثيمين أن الاتباع لا يسمى اتباعاً إلا إذا وافق السنة من ستة وجوه أو ستة أشياء وهي:
السبب ، والجنس، والعدد، والزمان، والكيفية، والمكان فهل ممكن أن تشرحوا لنا هذه الأمور الستة ؟
نأخذها واحدة واحدة، الأول السبب
(2/21)
---(1/52)
العبادة توقيفية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز لإنسان أن يتعبد الله بغير ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعبادة إما أن تكون محددة الكم أو مطلقة، والكيف طبعاً لابد أنه ثابت، فلابد أن تكون في كمك وكيفك ووقتك، إذا كانت العبادة مؤقتة ملتزماً في هذا هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالصلوات الخمس قال تعالى ? إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ?[النساء: 103] .
فلا تصح الصلاة قبل وقتها ولا بعد وقتها إلا من عذر، والصبح ركعتان، لا يصح ثلاثاً ولا واحدة، والظهر أربعاً لا يصح ثلاثاً ولا اثنتين إلا في السفر، فإن المسافر يصلي الرباعية اثنتين، فملخص كلام الشيخ رحمة الله عليه أن الاتباع لابد أن تقيد نفسك بكل ما بلغك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنس العبادة وكيفها وكمها ووقتها.
فمثلاً سنة الصبح، حتى السنة الراتبة، وليست الفريضة فقط السنة الراتبة ركعتان لا يجوز لك أن تصلي أربعاً بنية سنة الصبح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتها وحددها بأنها ركعتان وهكذا، هذا هو مجمل ما ذكره عن الشيخ رحمة الله عليه .
قد ذكرتم فضيلتكم حفظكم الله - عزّ وجلّ - أن الله - عزّ وجلّ - سكت عن كثير من تفاصيل قصة أصحاب الكهف، والسؤال هنا هل الله يسكت ؟ أي هل يثبت لله - عزّ وجلّ - صفة السكوت ؟ وجزاكم الله خيرا
وإياكم الله إن شاء الله تعالى، يقول العلماء هناك فرق بين إثبات الصفة وبين الأخبار، فحين نصف الله - سبحانه وتعالى - فلا نصفه إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - أما في باب الإخبار عن الله - عزّ وجلّ - فالأمر في ذلك واسع .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أريد أسماء كتب تفسير لك في السوق أو أشرطة تسجيلية حتى نتمكن من الاستفادة منها أكثر
(2/22)
---(1/53)
جزاك الله خيراً وزادك الله حرصاً بالنسبة للتفسير الحمد لله أنا انتهيت من تفسير القرآن كله في مسجدنا في قريتنا، فالقرآن عندنا كله مسجل على أشرطة، لكن لم يطبع منه في كتب إلا تفسير الفاتحة، فسورة الفاتحة مطبوعة وسورة البقرة وسورة النساء وسورة الحجرات .
هذه سور كتبتها وهي مطبوعة وموجودة في الأسواق، سورة البقرة عنوانها دين الفطرة كما بينته سورة البقرة عقيدة وعبادة ومعاملة .
وسورة النساء عنوان كتابها قواعد الإصلاح والبناء كما بينتها سورة النساء، وسورة الحجرات اسمه كتاب معالم المجتمع المسلم كما بينته سورة الحجرات .
هذه كتب طبعت والحمد لله، وهناك كتاب آخر سميته من جوامع الكلم في القرآن الكريم فسرت فيه أربعين آية من جوامع الكلم في القرآن الكريم .
ونسأل الله - تبارك وتعالى - أن يعننا على الانتهاء من كتابة التفسير كله إن شاء الله .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ما تعني كلمة ? صَعِيدًا ? ؟
? صَعِيدًا ? وجه الأرض، الله - سبحانه وتعالى - قال ? فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ?[النساء: 43] الصعيد وجه الأرض قال تعالى ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ? ثم قال ? وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ? [الكهف:8] يعني أرض خلاء مستوية ليس شيء عليها مما كان عليها قبل ذلك .
السلام عليكم، ما الحكمة من إيراد قصة أهل الكهف مجملة في البداية ثم فصلها؟
هذا من باب التشويق والترغيب بدلاً من أن تعطي المستمع الشيء دفعة واحدة تشوقه وترغبه وتعطيه مجملاً فيشتاق بسماع هذا المجمل إلى تفصيله، فإذا جاء التفصيل أقبل عليه وحرص على الانتفاع به .
أنا مشكلتي إن الحفظ أنساه بكثرة، فهل أجر التلاوة -إن شاء الله- أناله رغم أنني أخطئ في التجويد
(2/23)
---(1/54)
اقرئي إن شاء الله تعالى ولا حرج عليك إذا أخطأتي، لكن لا تتمادي في ذلك حاولى أن تتعلمي، واجتهدي أن تتعملي النطق الصحيح، والحمد لله عندكم في البلاد المقدسة المباركة جمعيات خيرية كثيرة لتحفيظ القرآن الكريم، فحاولي أن تلتحقي بأي جمعية خيرية إن شاء الله وتتعلمي فيها، لكن حتى تتعلمي إن شاء الله لا حرج عليك إذا أخطأتي ففى الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وعليه شاق له أجران ) .
يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ما صحة قول أن أصحاب الرقيم هم أصحاب الغار المذكورين في السنة، الذين دعوا الله بخالص أعمالهم ففرج عنهم تلك الصخرة ؟
لا، الحديث ( انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار ... ) الحديث بطوله أصحاب هذا الغار ليسوا هم أصحاب الكهف المذكورين في هذه القصة في القرآن الكريم .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، شيخنا الفاضل أين يستقر الإيمان لكي يزيد أو ينقص ؟
الإيمان محله القلب، والزيادة تكون بالاجتهاد في الطاعة والابتعاد عن المعاصي، فكلما اجتهد الإنسان في الطاعة صلاة وصيام وقراءة وبر والدين وصلة أرحام وفعل الخيرات وترك المنكرات زاد إيمانه إن شاء الله تعالى، مع الإلحاح على الله تعالى بالسؤال فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عظيم المهتدين كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، وكان يقول ( اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ) فالهدى يزيد بالاجتهاد في الطاعة والابتعاد عن المعصية، مع الإلحاح على الله - جلّ جلاله - بالسؤال سؤال الهداية .
فضيلة الشيخ جزاكم الله خيراً ذكرت أن الفتية عندما عجزوا عن إنكار المنكر هجروا المكان، فهل يقتدى بهم في ذلك أم أن الأفضل أن يبقى في مكانه وينكر المنكر بقلبه، وجزاكم الله خيراً ؟
(2/24)
---(1/55)
تهجر المكان الذي يكون فيه المنكر، لا تجلس معهم لا تجالسهم ولا تخالطهم ولا تعاشرهم إذا ابتليت بقوم على منكر فواجبك الديني يحتم عليك أن تنهاهم، فإن انتهوا كان خيراً، وإذا لم يتنهوا تركتهم أي هجرت مكانهم، وإلا فقل لي بالله عليك في هذا الزمان الذي كثر فيه الخبث إلى أين نهاجر ؟ الله - سبحانه وتعالى - يقول ? وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ?[النساء:140] .
نسأل الله السلامة والعافية .
فضيلة الشيخ، ما حكم الإكثار من القصص في المحاضرات والمواعظ من غير القصص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة، وهل ثبت أنه ذات مرة كان الصحابة في معركة فلما شاهدهم الكفار يستاكون بالسواك فروا وظنوا أنهم يحدون أسنانهم لأكلهم، حيث أن هذه القصة يذكرها الكثير من الناس للحث على التمسسك بالسنة خاصة سنة الاستياك ؟
نحن ذكرنا في درس اليوم، أنه يجب علينا أن نكتفي بالقرآن الكريم في القصص والحديث، ففي أسباب نزول سورة يوسف ورد أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملو ملة فقالوا ( يا رسول الله لو حدثتنا فأنزل الله تعالى ? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ ?[الزمر:23] .
ثم ملوا ملة فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا، فقال الله تعالى ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ?[يوسف:3] .
إذاً أردنا الحديث فعلينا بالقرآن الكريم، وإذا أردنا القصص فعلينا بالقرآن الكريم والحمد لله كتاب ربنا مليء بقصص كثيرة جداً جداً .
وفى السنة أحاديث صحيحة ثابتة في القصص، ولعل هناك بعض من ألف في القصص النبوي في الأحايث الصحيحة الثابتة .
(2/25)
---(1/56)
فإذا وجدنا الصحيح الثابت فليس بنا حاجة إلى الضعيف الواهي الذي لا يصح، ثم علينا أن نذكر القائل بأن الله قال ? وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ?[الاسراء:36] .
فيجب أن تقدر الكلمة حق قدرها، ولا تقول قال الله قال رسول الله إلا وأنت متثبت من هذا القول وإلا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ( إن كذب عليّ ليس ككذب على أحد من كذب عليّ متعمداًَ فليتبوأ مقعده من النار )
وهذه الرواية رواية السواك فهذه نسمعها كثيراًَ ولا نعلم لها أصلا .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمي الحفظ يتفلت منها فهل أجر التلاوة عندها مثل أجر الحفظ ؟
هو يسأل هل أجر التلاوة مثل أجر الحفظ؛ لأن أمه ضعيفة الذاكرة، ويتفلت منها الحفظ وتنسى كثيراً، نقول لا يكلف الله نفساً إلا وسعها والله تعالى يقول ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ?[التغابن:16] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إنما الأعمال بالنيات ) فما دامت هذه المرأة التي هي ضعيفة الذاكرة تجاهد نفسها على الحفظ فتحفظ وتنسى فقد وقع أجرها على الله - عزّ وجلّ - لكن لا شك أن هناك فرقاً بين من يحفظ وبين من يتلو .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إذا كنت في مكان فيه منكر وتركت هذا المكان ولم أنكر هذا المنكر فهل أكون آثمة في هذا التصرف؟
(2/26)
---(1/57)
الحمد لله كما ذكرت وسع الله علينا في تغيير المنكر فجعله على ثلاث مراتب وليس على مرتبة واحدة، ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) وفى رواية ( وليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان، فالأخت تقول أنها كانت في مكان فيه منكر فتركته ولم تنكره، وواضح منها أنها أنكرته بقلبها؛ لأنها لم تجالسهم ولم تخالطهم، فلما رأت المنكر هجرتهم وتركتهم فهذا هو الإنكار بالقلب، لكنها لم تستطع أن تواجهم بالإنكار باللسان، فلا حرج عليها إن شاء الله .
تقول كيف أتعامل مع تفسير ابن كثير رحمه الله عند قراءته لما قيل أنه يحتوي على إسرائليات وأحاديث ضعيفة؟
قلنا ننصح المبتدئين بعدم القراءة في ابن كثير الأصل، وإنما ننصحهم بالقراءة في مختصر ابن كثير لشيخنا محمد نسيب الرفاعي عليه رحمة الله، هو طبعة دار المعارف في الرياض ومتوفر بفضل الله - عزّ وجلّ - فهذا مختصر، مختصر نافع جداً حذف فيه الشيخ رحمة الله عليه، كل الضعيف والمردود .
يقول كثرة الأسئلة عن موقع مكان الكهف، اختصاراً يقولون يا شيخ هل صحيح أن الكهف موجود في الأردن ؟ هل الصحيح أنهم كانوا في الأدرن ؟
وفقنا الله وإياهم، كما نبهت، الله - سبحانه وتعالى - لم يعين المكان ولم يعين الزمان فسواء كان هو الذي في الأردن أم كان هو في غيرها، هذا لا يهمنا إن شاء الله؛ لأن الموعظة حاصلة والفائدة وقعت بما قصه الله علينا .
يقول قال الله تعالى ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ? إلى نهاية الآية هل يمكن حصر فهم الآية على ما هو فوق الأرض فحسب ؟
يعني يريد أن يسأل هل في باطنها زينة أيضاً أو لا ؟ والله إذا قلنا في باطنها زينة إذا يكون هناك زينة ظاهرة وزينة باطنة .
نحن وقفنا مع ظاهر الآية ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ? ما عليها ولم يتكلم ربنا عما تحتها .
(2/27)
---(1/58)
يقول سؤال أهل الكهف بينهم لا يدل على تغير أشكالهم ، حيث كان السؤال كم لبثنا ولم تتغير أشكالهم، أوضح لنا؟
نحن أشرنا إلى أن الله - سبحانه وتعالى - حفظهم فلم يتغيروا بأي شيء ولذلك قال ? أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ?[الكهف:9] .
قلنا أنك حين تسمع نفراً ناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، ثم قاموا ولم يتغير شكلهم تتعجب تقول سبحان الله، كيف ينامون هذا الزمن الطويل ويقومون ولم تبلى ثيابهم ولم تتعفن أجسادهم وكذا وكذا .
نقول هذا شيء عجيب نعم، لكن في خلق الله ما هو أعجب من ذلك ? أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ?[الغاشية:17] إلى آخر ما ذكرنا .
قول الله - عزّ وجلّ - ? ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ?[الكهف:12] لفظة لِنَعْلَمَ تفسيرها من ناحية العقيدة
نعم نحن نؤمن بالقدر ولا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كما صح الحديث بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن الإيمان بالقدر الإيمان بعلم الله السابق على الموجودات كلها فالله علم الأشياء وقدرها، ثم في الزمن الذي قدر الله وجودها فيه وجدت كما أرادها وكما قدرها - سبحانه وتعالى - فقوله تعالى لِنَعْلَمَ أي في الظاهر وفى الواقع بعد أن علمنا في السابق علم الباطن أردنا أن نعلم ويعلم الناس ما قدره الله - سبحانه وتعالى - .
تقول دعاء فتية الكهف ? رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَد? [الكهف:10] هل هذ الدعاء مجمل أم هل له معنى محدود قصده الفتية بالرحمة والرشاد ؟
الدعاء واضح ربنا هب لنا وأعطنا من عندك رب رحمة ترحمنا بها في الدنيا وفى الآخرة، وتنجنا فيها من قومنا الظالمين الذين عبدوا غيرك، وتهيء لنا من أمرنا رشداً فلا نضل ولا نزيغ .
(2/28)
---(1/59)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سمعت بمقالة يا شيخ أنه ما يدخل الجنة من الحيوانات إلا كلب أصحاب الكهف فما صحة هذا الكلام يا شيخ ؟ والسؤال الثاني ما معنى كلمة رقيم ؟
الله - سبحانه وتعالى - بين أن كل المخلوقات تحشر يوم القيامة ? وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ?[الأنعام:38] .
وقال تعالى ? وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ?[التكوير:5] .
فكل المخلوقات تحشر حتى البهائم والحيوانات والطيور والسباع تحشر يوم القيامة ولكن الله - سبحانه وتعالى - يقضي بينها قبل أن يقضي بين الخلائق يقضى بينها في المظالم التي كانت بينها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لتؤدن الحقوق لأهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) فالله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة إذا حشر الجميع قضى بين الخلائق ومنها البهائم والدواب فقضى بينها ورد المظالم، ثم قال لها كوني ترابا، فتكون كلها ترابا، وهذا معني قول الكافر يوم القيامة ? يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً ?[النبأ: 40] .
لما عاين الكافر مصير البهيمة ومصيره، البهيمة مصيرها إلى الفناء انتهي أمرها، وهو مصيره إلى النار والعياذ بالله فتمنى لو كان الأبعد من ذوي الأربع حتى يصير مصيرها ولا يصير إلى النار .
وأما استثناء ما سأل عنه السائل أن هذا الكلب يستثنى فيدخل الجنة، هذا لا يجوز أن يقال إلا بدليل قوي ثابت في القوة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم في هذا دليلا .
(2/29)
---(1/60)
وأما معنى الرقيم فقد شرحناه وقلنا أن الرقيم فعيل بمعنى مفعول، يعني مكتوب فالرقم هو الكتابة، والرقيم فعيل بمعني مفعول أي مكتوب، قلنا أن الراجح من أقوال العلماء الرقيم لوحة معدنية أو من الرخام كتب عليها أسماء أصحاب الكهف، كما يكتبون الآن في اللوحات التذكارية يسمونها النصب ويكتبون على الرخام أسماء الزائرين أو أسماء من فتح هذا العمل وهكذا فهذا معنى الرقيم والله أعلم .
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، متى يعمل بقول الله - عزّ وجلّ - ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ?[المائدة:105] خاصة وقد انتشر المنكر في كل مكان،حتى أننا نركب السيارة الآن ونجد كثير من الناس يفعل أفعال كثيرة تخالف شرع الله - عزّ وجلّ - ونسير في الشوارع أيضاً ونرى كثيرًا كذلك، فأحياناً لا نقدر على الإنكار، ونترك المكان وأحياناً أخرى يمكن أن نضرب ويفعل بنا الأفاعيل، فماذا يفعل بقول الله - عزّ وجلّ - و يطبق هذا القول ؟
قوله تعالى ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? فهم منها بعض الناس أنه ما دام مهتدياً في نفسه فيكفيه هذا ولا يلزمه أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر وهذا مفهوم خاطئ، صححه وصوبه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضى الله عن خليفة رسوله أبو بكر الصديق، قال: أيها الناس تقرأون هذه الآية ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده) ومصداق هذا القول النبوي قول ربنا في كتابه ? وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ?[الأنفال:25] .
(2/30)
---(1/61)
فالأمر بالمعروف واجب وإنكار المنكر واجب كل ذلك في ضوء الأصول والقواعد الشرعية ? ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?[النحل:125] وقد ذكرنا أكثر من مرة في هذا اللقاء أن الله وسع علينا ولم يضيق ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يتسطع فبقلبه ) فأنت تسير بالسيارة كما يقول السائل فترى منكر يجب أن يرتعد قلبك وينتفض، قلبك بغضاً لهذا المنكر وأهله وحمية لله - عزّ وجلّ - فقد جاء في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أنه كان لا يغضب لنفسه، ولكن كان يغضب إذا انتهكت محارم الله ) فهذا الغضب في قلبه هذا نوع من أنواع إنكار المنكر. والحمد لله وسع الله عليك ما دام قلبك يرفض هذا المنكر ويغضب لله عليه فأنت بريء ولست مؤاخذاً بإذن الله - عزّ وجلّ - .
(2/31)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
الشرح من قوله "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها"
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
ثم مرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد مع تفسير سورة الكهف، والآيات المباركات التي معنا هذه الساعة إن شاء الله تعالى تضمنت من المعاني ما يلي:
أولاً : ثبوت التوحيد وبطلان الشرك.(1/62)
ثانياً : الفرار من الفتن واعتزال أهل الشر.
ثالثاً : كيف حفظ الله - تبارك وتعالى - أهل الكهف في كهفهم.
رابعاً : من يهدي الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
خامساً : شرف صحبة أهل الذكر ومجالستهم .
سادساً : بعث الله - تبارك وتعالى - لأهل الكهف كيف كان ؟
سابعاً : حرص أصحاب الكهف على الحلال الطيب من الطعام .
ثامناً : تواصي أصحاب الكهف بالثبوت على الإيمان .
وأخيراً : حكمة بعثهم والنهي عن اتخاذ القبور مساجد .
و هذا بإيجاز أهم ما تضمنته الآيات المباركات التى معنا الآن من سورة الكهف من المعاني .
فلنستمع إليها أولاً قبل الخوض في تفاصيلها سائلين الله - عزّ وجلّ - أن ينجز لنا ما وعدنا، حيث قال ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?[الأعراف:204].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(3/1)
---(1/63)
? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ?7? وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ?8? أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ?9? إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ?10? فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ?11? ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ?12? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ?13? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ?14? هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ?15? وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ?16? وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ?17? وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ(1/64)
(3/2)
---
مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ?18? وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ?19? إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ?20? وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ?21? ?[الكهف:7-21].
? كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ?[ص:29].
? لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الحشر:21].
? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر:23].
(3/3)
---(1/65)
انتهينا في الدرس السابق إلى قول الله - تبارك وتعالى - ? وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ?14??.
وقلنا أن هؤلاء الفتية لما قاموا بين يدي الملك بعدما علم بمخالفتهم دينه استدعاهم فقاموا بين يديه فربط الله على قلوبهم وثبتهم، فلم يدخل قلوبهم أي شيء من الخوف والمهابة من الملك والسلطان، وأعلنوا دعوتهم صريحة وصرحوا بمعتقدهم قائلين ? رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ? فجمعوا بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، فمن أقر بأن الله ربه الذي خلقه فسواه، وصوره فأحسن صورته، ورزقه من الطيبات، يجب أن يقر ويعتقد ويعمل بعبادة الله - سبحانه وتعالى - وحده لا شريك له، ولذلك كثيراً ما يقيم الله تعالى الحجة على المشركين، باستخراج، الإقرار منهم بالألوهية بناء على إقرارهم بالربوبية فقد كان المشركون مقرين بأن الله رب العالمين لكنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون، فقال الله - تبارك وتعالى - لهم ? قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ? فقال الله تعالى ? فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ?31? فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ? [يونس:31-32] الذي يستحق العبادة هو ربكم الحق الذي خلقكم وخلق الأولين والآخرين من بعدكم هو الذي يستحق العبادة ولذلك قال تعالى:? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ?21? الَّذِي جَعَلَ(1/66)
(3/4)
---
لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً ? [البقرة : 21-22] في العبادة ? وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ? أنه لا ند له في الربوبية؛ لأنهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، فنهاهم عن الشرك به في الألوهية ما دام الله خلق وحده، يجب أن يعبد وحده ? أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ?[النحل:17] .
? رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ?[الكهف:14] لو قلنا أن هناك إلهاً غير الله أو أن هناك إلهاً مع الله لقد قلنا قولاً شططاً أي بعيداً في الكذب، والضلال والظلم، والجور، الشطط في القول هو البعد فيه، القول الشطط هو البعيد عن الحق والبعيد عن الصواب وكذلك، لما استمع نفر من الجن إلى القرآن الكريم فآمنوا به قالوا منزهين الله تعالى عن الصاحبة والولد ? وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً ?3? وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً ?4? وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً ? [الجن:3-5] .
فالشطط في القول البعد فيه وهو البعيد عن الحق والصواب الموغر في الضلال والكذب والزور والظلم .
(3/5)
---(1/67)
ثم قال الفتية ? هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ ? أي من دون الله ? آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ? نحن ربنا رب السماوات والأرض، وهؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله آلهة عبدوها مع الله - سبحانه وتعالى - لولا يأتون على قولهم هذا وصحة معتقدهم بسلطان أي ببرهان بين، وحجة ثابتة قاطعة؛ لأن الاعتقاد لا يجوز أن يبني على غير دليل، لا يجوز أن يبنى الاعتقاد إلا على دليل صحيح ثابت وحجة قوية قاطعة، فنحن حين نقول لا إله إلا الله معنا الدليل على ذلك، بل معنا أدلة نقلية وعقلية كثيرة على صحة قولنا أنه لا إله إلا الله .
ومنها ما ذكره ربنا - سبحانه وتعالى - في قوله ? وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ?163? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ? في كل ذلك ? لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ?[البقرة:163-164] .
ومن هنا قال القائل :
فواعجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفى كل شيء له آية تدل على أنه واحد
? أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ?17? وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ?18? وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ?19? وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ?20??[الغاشية : 17-20].
(3/6)
---(1/68)
? قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ?17? مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ?18? مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ?19? ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ?20? ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ?21? ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ?22? كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ?23? فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ?24? أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ?25? ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ?26? فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ?27? وَعِنَبًا وَقَضْبًا ?28? وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ?29? وَحَدَائِقَ غُلْبًا ?30? وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ?31? مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ?32? ?[عبس:17-32].
فهذا دليل التوحيد الذي ندين به لله رب العالمين رب السماوات والأرض، فما دليل قومنا على اتخاذهم آلهة مع الله - سبحانه وتعالى - ? هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ? ولا يمكن أبداً أن ترى أي دليل يفيد صحة الشرك بالله - سبحانه وتعالى - لأن من المعلوم أن الله - سبحانه وتعالى - هو الخالق وحده، وكل ما سواه مخلوق والمخلوق لا يمكن أن يكون رباً ولا يمكن أن يكون إلها، لولا يأتون عليهم بسلطان بين، ? فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ?، أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا فزعم أن له صاحبة وولداً أو زعم أن له شريكاً في الملك .
لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، فزعم أن له صاحبة وولداً أو زعم أن له شريكاً في الملك.
ثم قالوا ? وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ?.
(3/7)
---(1/69)
? وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ? ? وَمَا يَعْبُدُونَ ? معطوف على الضمير المفعول في قولهم ? وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ? ? وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ? اعتزلتم معبوداتهم التي يعبدونها إلا الله - سبحانه وتعالى - مما يدل على أن قومهم كانوا يعبدون الله ولكن كانوا به مشركين، يعبدون معه غيره، وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله - تبارك وتعالى - ? إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ?[النساء:48] فلما تبرأ الفتية الذين آمنوا بربهم من قومهم ومما يعبدون أثبتوا ولاءهم لله - سبحانه وتعالى - وحده ? وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ? أي إلا الله أي اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فهو وليكم وإلهكم الحق الذي تعبدونه، وقد كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقرأها وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله ، وهذه القراءة كالتفسير للآية ، ? وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ? كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقرأها وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله، وهذه ليست من القراءات الثابتة التي وجه من وجوه القراءات الصحيحة، ولكن هذه القراءة كتفسير ابن مسعود لقولهم " إلا الله " وهذا اللفظ وهو من دون الله، قد صرح به الخليل إبراهيم - عليه السلام - لأبيه حين قال له، ? وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً ?48? فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً ?[مريم:48-49].
(3/8)
---(1/70)
? وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ?.
يقولون ما دمتم اعتزلتم قومكم بأرواحكم وقلوبكم وتبرأتم منهم ومن معتقاداتهم الباطلة فاعتزلوهم أيضاً بأبدانكم، ما دمتم اعتزلتم قومكم بقلوبكم وأرواحكم، فاعتزلوهم أيضاً بأبدانكم ? فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ? .
(3/9)
---(1/71)
فأووا إلى الكهف وتوجهوا إلى الله تعالى بالدعاء ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، قال تعالى ? فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ? فحبس الله - تبارك وتعالى - عنهم الأصوات فناموا نوماً ثقيلا حتى لا يستيقظوا إلا في الأجل الذي سماه الله وفي الوقت الذي حدده الله - تبارك وتعالى - لبعثهم من نومهم هذا، دخلوا الكهف وناموا فيه نوماً عميقاً نوماً ثقيلا، كيف حفظهم الله تعالى في الكهف وهم نيام قال تعالى ? وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ? لما دخل هؤلاء الفتية الكهف لم يأووا إلى ركن من أركانه، ولا إلى زاوية من زواياه، وإنما ناموا في وسطه في مدخله في مدخل الكهف، لم يميلوا جهة اليمين ولا جهة الشمال وإنما ناموا في المدخل لأن الكهف كما عرفناه نقب في الجبل فليس فيه شبابيك ولا أبواب وليس له إلا هذا المدخل الواحد، فناموا في مدخله ليكونوا قريبين من الهواء ناموا في المدخل، فكان الله - سبحانه وتعالى - إذا طلعت الشمس أمرها أن تحيد عنهم ذات اليمين وإذا غربت أمرهم أن تحيد عنهم ذات الشمال لماذا؟ لأن الحر يوقظ النائم، كما أن الصوت القوي المزعج يوقظ النائم، فالله - تبارك وتعالى - ضرب على آذانهم حتى لا تزعجهم الأصوات، ثم أمر الشمس فكانت إذا طلعت تزاور عن عمد وقصد استجابة لأمر ربها، ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال هذا التزاور من الشمس، وهذا الميل عن عمد منها واستجابة لأمر ربها آية من آيات الله - سبحانه وتعالى - أمر الله الشمس فكانت إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين حتى لا تؤذيهم بحرها وإذا غربت كذلك تزاور عن كهفهم ذات الشمال حتى لا تؤذيهم بحرها ذلك من آيات الله، ذلك التحول من الشمس عن قصد واستجابة لأمر الله - سبحانه وتعالى - ? ذَلِكَ مِنْ(1/72)
(3/10)
---
آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً ?.
فالهدى والضلال من الله - سبحانه وتعالى - ولكن الله سبحانه يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي عدلا، فمن آمن بالله - عز وجل - وقبل الهدى الذي بعث الله به الرسل، زاده الله تعالى هدى ومن حاد وزاغ وضل ورفض الهدى الذي أرسل به الرسل زاده الله ضلالا وخذلاناً والعياذ بالله كما قال تعالى عن أصحاب الكهف ? إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ? وقال تعالى عن قوم آخرين ضالين ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ? [الصف: 5] .
? مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً ?17? وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ? هم نائمون لكنك إذا اطعلت عليهم حسبتهم أيقاظا لماذا؟ لأنهم ناموا وكانت أعينهم مفتحة، ونحن نعلم أن الغالب على الناس أنهم إذا ناموا أغمضوا أعينهم، فتغميض العين وإطباق الجفنين دليل على النوم .
ولذلك أنت إذا دخلت على أخيك مثلاً، لتوقظه فنظرت في وجهه فرأيته مفتح العينين تركته وانصرفت ولم تكلمه ظناً منك أنه مستيقظ وفى الحقيقة أنه نائم ولكن هذه حالات نادرة أن ينام الإنسان وعيناه مفتوحتان .
فأصحاب الكهف ناموا نوماً عميقاً ثقيلاً جداً لكن كانت أعينهم مفتحة، ولذلك قال ? وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ? .
(3/11)
---(1/73)
أنت حين تنام ست ساعات أو سبع ساعات، لا تستطيع أن تنام على جنب واحد، والمريض عافك الله إذا نام على فراشه حتى ولو كان عاجزاً عن الحركة، لابد أن يقلبه أهله ذات اليمين وذات الشمال، لأن الأرض تأكل الجثة، تأكل الجسد الذي لامسها والتصق بها سنين عددا فالله - سبحانه وتعالى - من رحمته بأصحاب الكهف حتى يحفظ عليهم جثثهم وأجسادهم من البلى والأذى، قال ? وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ? فكان الله - سبحانه وتعالى - يقلبهم وهم نيام، ذات اليمين وذات الشمال على هذا الجنب تارة وعلى هذا الجنب تارة ? وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ? صحبهم الكلب فنام بالوصيد أي بفناء الكهف، الوصيد هو فناء الكهف ، مدخل الكهف ، بسط ذراعية على الأرض ونام أمام مدخل الغار .
قال العلماء ، ما قيمة الكلب؟ لا قيمة له ، أخسأ المخلوقات وأحطها، لكن الكلب لما حرص على صحبة أهل الذكر كان له ذكر، لما حرص الكلب على صحبة أهل الذكر صار له ذكر مما يدلنا على شرف صحبة الصالحين وشرف مجالستهم مما يدلنا على أننا لابد أن نحرص من نخالط ومن نصاحب ومن نعاشر ومن نجالس ، فإذا صحبت الصالحين شرفت بشرفهم وإذا صاحبت العلماء رفع ذكرك بذكرهم، فالكلب مع أنه أحط الحيوانات وأخسأها إلا أنه ذكره الله تعالى بسبب صحبته لأهل الكهف ? وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ? ذكر الكلب وهو لا قيمة له إكراماً له؛ لأنه رافق الطيبين، الصالحين .
(3/12)
---(1/74)
والنبى - صلى الله عليه وسلم - يقول ( مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يعطيك، وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً كريهة ) ? وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ? حارس لا يدخل أحد عليهم، لأن الكلب في مدخل الكهف ثم إن الله - سبحانه وتعالى - ألقى عليهم المهابة وجعل على وجوههم الرعب ? لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ? فالكلب في مدخل الكهف حارس لهم، لا يستطيع سارق أن يدخل لأنه يرى الكلب في مدخل الكهف، ولو قدر وتسلل لص أو سارق أو غيره ودخل عليهم وجد عليهم من المهابة، ما يجعله يركض ويخرج سريعاً من عندهم ? لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ? .
? وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ? بعدما المدة التي قضوها في النوم بإذن الله بعثهم الله - تبارك وتعالى - ? وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ? لما استيقظوا تساءلوا كم لبثتم ؟ فنظروا إلى الشمس وإذا هي تتضيف للغروب فتذكروا أنهم قد دخلوا الكهف في أول النهار عند طلوع الشمس فقالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم، فقال قائل منهم هذا الكلام لا ينفعكم والواجب أن تنشغلوا بما ينفع عما لا ينفع، كم لبثتم هذا لا يفيدكم كثيراً، فوضوا الأمر إلى الله - تبارك وتعالى - واسكتوا عنه، ربكم أعلم بما لبثتم، وهذا يدلك على أنك إما أن تتكلم بدليل وبرهان وإما أن تسكت عن الكلام؛ لأن الله تعالى نهانا عن تكلف ما لا نعلم قال ? وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ?[الاسراء:36] .
(3/13)
---(1/75)
قال بعض السلف لا تقل سمعت وأنت لم تسمع ولا تقل رأيت وأنت لم ترَ ولا تقل علمت وأنت لم تعلم، فإذا أردت أن تتكلم ومعك الدليل والبرهان والحجة، فتكلم ومرحباً بك وأهلا وأما إذا لم يكن معك دليل فاسكت عن الكلام وفوض العلم إلى الله - سبحانه وتعالى - .
? قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ? .
(3/14)
---(1/76)
أحياناً تستيقظ من نومك شاعراً بالجوع، تستعجل أهل البيت بالفطور، عجلوا بالفطور إني جائع، إني أشتكي من الجوع، تحس أحياناً إذا نمت ست سبع ساعات، تستيقظ تشعر بالجوع، أصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً فقاموا وبهم جوع فقالوا ابعثوا أحدكم واحد منكم بورقكم هذه، الورق هي الفضة وهي العملة القديمة كان الناس قديما يتعاملون بالدينار والدرهم بالذهب وبالفضة، قالوا فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، إذاً هم الآن خارج المدينة، الكهف خارج المدينة؛ لأنهم اعتزلوا قومهم لما اعتزلوا شركهم وكفرهم اعتزلوهم بأبدانهم وأووا إلى الكهف قالوا ? فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً ? قال العلماء أزكى أي أطيب وأطهر فلابد أن يحرص الإنسان في طعامة على أن يكون حلالا طيباً؛ لأن الله قال ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ?[البقرة:168] والحيوانات منها الطيب في نفسه ومنها الخبيث، فالخنزير خبيث في ذاته حتى ولو ذبح على الطريقة الإسلامية لا يزكى فهو في نفسه رجس خبيث في ذاته، والأنعام والطيور التي أباحها الله - تبارك وتعالى - لنا طيبة في ذاتها ولكن لا تحل إلا بالتزكية أو بالذبح على الطريقة الإسلامية فقال ? فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً ? يأتينا بطعام طيب ومذبوح على الطريقة الإسلامية غير مخنوق لأن المنخنقة حرام فليأتكم برزق منه ثم ليحرص على أن يتخفى من الناس وليتطلف في سيره وليتطلف في دخوله وخروجه ولا يشعرن بكم أحد، لا يشعر بأحد من الناس لماذا؟ إنهم أي قومكم إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم، ولن تفلحوا إذاً أبداً إن قومكم إذا علموا بكم واطلعوا عليكم فإما أن يقتلوكم شر قتلة رمياً بالحجارة أي يرجموكم بالحجارة حتى الموت، أو يعيدوكم في ملتهم يعني لن يقبلوا منكم إلا واحداً(1/77)
(3/15)
---
من اثنين إما الردة وإما القتل فذلك وصف من تبعثون، بألا يشعر بكم أحدا .
وهكذا تواصوا أهل الكهف بالثبات على الدين والثبات على الإيمان الذي هداهم الله - تبارك وتعالى - إليه .
والله - سبحانه وتعالى - قد وصانا نحن المؤمنين بالثبات على الإيمان والدين وحذرنا من الردة والخروج عن الإسلام قال تعالى ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ?[آل عمران:102] .
وقال محذراً من الردة ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ?[المائدة:54] .
وقال عن الكافرين ? وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?[البقرة: 217] .
فالله تعالى وصانا بالثبات على الدين، وحذرنا من الردة ومن التخلى عن الإيمان والرجوع عنه .
وكذلك وصانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالثبات على الدين مهما تعرض الإنسان للبلاء ومهما تعرض للفتن ومهما تعرض للتعذيب قال - صلى الله عليه وسلم - ( لا تشرك بالله شيئا وإن قُطعت أو حُرقت ) .
(3/16)
---(1/78)
قالوا ? فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً ? أطيب وأطهر ? فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ?19? إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً ? لو تراجعتم إلى ملتهم وتركتم الإيمان الذي من الله عليكم به ? وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ? لأن الله تعالى قال إنه لا يفلح الكافرون، قال تعالى ? وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ? يقال عثر على الشئ إذا اطلع عليه وأعثر على الشيء إذا أطلع غيره عليه عثر هو على الشيء هو عثر عليه اطلع عليه ، وأعثر عليه أي أطلع عليه غيره فالله تعالى يقول ? وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ? فالله - سبحانه وتعالى - هو الذي أراد وقدر أن يطلع أهل المدينة على أخبار الفتية، وكان في ذلك حكمة ما هي لماذا بعث الله تعالى أهل الكهف وأطلع عليهم قومهم بعدما اعتزلوهم ثلاث مائة وازدادوا تسعا ؟ ? وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ? الله - تبارك وتعالى - إذا وعد فلا يخلف وعده أبدا ? وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا ? كيف يعلمون أن الساعة لا ريب فيها ؟ ما وجه الاستدلال على بعث الفتية من نومهم على بعث الناس من قبورهم ؟
(3/17)
---(1/79)
مما يستدل به على البعث بعد الموت النوم واليقظة بعده، أنت تنام فتموت وتستيقظ فتبعث فهذا من أدلة إمكان بعث الموتى من قبورهم يوم القيامة، أنت تنام فتموت، النوم أخو الموت هكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - والله تعالى يقول ? وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ?[الأنعام:60] فسمى الله تعالى النوم وفاة واليقظة بعده بعثاً وقال تعالى ? اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ ? النوم واليقظة بعده ? لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ? [الزمر:42] .
(3/18)
---(1/80)
فلماذا تنكر أن تبعث بعد الموت ؟ وأنت تموت وتبعث في اليوم مرتين أو أكثر كلنا ينام بالليل، وأكثرنا ينام بالنهار، تنام فتموت وتستيقظ فتبعث فهذا من أدلة وبراهين إمكان البعث بعد الموت، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه يقول ( باسمك اللهم أموت وأحيا ) يريد بالموت النوم وبالحياة اليقظة بعد النوم وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا استيقظ من نومه يقول ( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره ) فمن حكمة بعث أصحاب الكهف من نومهم أن يستدل الناس على أن الله يحيي الموتى ويبعث من في القبور، والله - سبحانه وتعالى - قد قص علينا في كتابه المجيد قصص أناس ماتوا حقيقة وأحياهم الله تعالى في الدنيا لحكمة أرادها وهي أن يستدل مشاهدوهم على أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها اقرأ في سورة البقرة قصة البقرة وقول الله تعالى ? وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ?72? فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ?[ البقرة :72-73] فضربوه فقام حياً فسألوه من قتلك ؟ قال فلان ابن أخي قتلني ليرثني ثم عاد ميتاً ? وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ?72? فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ ? أي كما أحيا الله هذا القتيل ? كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ? .
واقرأ أيضاً قول الله تعالى ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ?[البقرة:243] .
(3/19)
---(1/81)
واقرأ أيضا قول الله - تبارك وتعالى - ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ?258? أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [البقرة:258-259] .
فكل هذه الآيات مع آيات سورة الكهف التي أخبرنا الله فيها أنه بعث أهل الكهف من نومهم بعد ثلاث مائة سنين كان من حكمة ذلك ? وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا ? قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن البعث حق وأن الجنة حق وأن النار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل ) ونحن نشهد بذلك كله ونرجو الله - تبارك وتعالى - به أن يدخلنا الجنة على ما كان منا من عمل .
هذا و الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
(3/20)
---(1/82)
يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، السؤال هو هل أسماء السور وترتيبها توقيفي أم اجتهادي ؟
أما ترتيب السور فهو توقيفي ، ترتيب السور على ما هي عليه في المصحف الآن هو توقيفي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك لا تجوز مخالفة هذا الرسم ولا إبدال السور بسورة في مكانها لكن في القراءة، لا بأس إن قدم القارئ سورة على سورة في القراءة فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام ذات ليلة فقرأ البقرة والنساء وآل عمران، فترتيب المصحف في الرسم والكتابة توقيفي لا تجوز مخالفته ولا يجوز تغييره، لكن في القراءة إذا قدم سورة على سورة وأما أسماء السور فهل هي توقيفيه أو هذا ما عليه الصحابة ، فالله تعالى أعلم في ذلك .
تقول هل إذا قرأنا القرآن بيننا وبين أنفسنا أي بصوت لا نسمعه هل نؤجر عليه كما أخبر المصطفي - صلى الله عليه وسلم - بكل حرف عشر حسنات أم يجب علينا أن نسمع أنفسنا عند القراءة؟
القراءة هي حركة اللسان والشفتين، أما بعض الناس يأخذ المصحف وينظر فيه دون أن يحرك شفيته ولا لسانه فلا يكون قارئا إنما هو ناظر فالقراءة لابد أن تتحرك الشفتان مع اللسان، الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ، أما أن يكون الصوت مرتفعاً أو أن يغض من صوته ، فليس هناك إشكال الأجر يترتب على حركة اللسان والشفتين، رفع صوته أم غض من صوته .
يقول ما الفرق بين اللفظان تزاور وتقرضهم ؟
اللفظان بمعنى واحد تزاور أي تميل وتقرضهم بمعني أي تميل عنهم أيضاً .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نريد نصيحة منك في حفظ كتاب الله وما العوامل التي تساعدنا على ذلك ؟
(3/21)
---(1/83)
زادك الله حرصا ووفق وأكرمك بحفظ كتابه إن ربي على كل شيء قدير ، دائماً ننصح إخواننا الذين تدخل قلوبهم الرغبة في حفظ كتاب الله - عزّ وجلّ - بأن يخصلوا النية لله - سبحانه وتعالى - وأن يشحذوا الهمم ويقووا العزائم، وأن يلزموا أنفسهم بمقرر يومي في الحفظ يعني اليوم سأحفظ خمسة أسطر عشرة أسطر، سأحفظ وجهاً أو صفحة هذا المقرر اعتبره وجبة غذائية، لا يمضى اليوم إلا وقد تناولت هذه الوجبة فإذا أويت إلى فراشك فتذكرت أنك لم تتناول وجبة الحفظ هب من فراشك وانزل إلى الأرض وتوضأ واجلس وخذ وجبتك من الحفظ .
فإذا أردت الحفظ فلا تبدأ بالبقرة فإن البقرة جزءان ونصف طويلة وهي فيها أطول آية، آية المداينة وكلها أحكام، والأحكام لا تقرأ كثيراً ولا تسمع كثيراً فيصعب حفظها .
أما حفظ المفصل وهو من ق إلى الناس ، فهذا الحزب سمع كثيرا وحفظ في الصغر وآياته قصيرة وسوره قصيرة وهو في الترغيب والترهيب والجنة والنار والعقائد فهذا حفظه سهل بإذن الله ميسور، فابدأ بمراجعة جزء عم ثم جزء تبارك ثم قد سمع ثم ق ثم انتقل واحفظ من يس إلى ق وهكذا حتى تتم حفظك بإذن الله .
ودائماً ألح على الله تعالى أن يجعلك من أهل القرآن، اللهم أكرمني بالقرآن اللهم حفظني القرآن، اللهم ذكرني منه ما نسيت اللهم علمني منه ما جهلت، فالله يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات .
السلام عليكم بالنسبة لأهل الكهف لما أرسلوا واحداً منهم إلى المدينة، هل وجدوهم قد آمنوا بالله أم بقوا على كفرهم ؟
(3/22)
---(1/84)
لما ذهب أحدهم إلى المدينة ليشتري الطعام ذهب بالورق بالعملة التي دخلوا بها الكهف قبل ثلاث مائة سنة ، فتصور واحد جاء إليك بعملة لها أكثر من ثلاثمائة سنة، فمجرد أن أعطاها لصاحب الطعام عرف أن هذا الرجل ليس من هذا الجيل ولا الذي قبله من قرون قد خلت فتحدث الناس به فأقبلوا عليه فلما أخذوه أقر وأخبر بإخوانه الذين في الكهف فجاءوا معه إلى الكهف ليأخذوه وإخوانه فسبقهم إلى الكهف فأخبر إخوانه فأماتهم الله - سبحانه وتعالى - وإلى هنا وقفنا ولم نتم ماذا حدث وسنأتي عليه في الحلقة القادمة إن شاء الله .
السلام عليكم، عندي سؤالين السؤال الأول ما معنى يتلطف؟ الذي أرسل إلى المدينة ، السؤال الثاني ممكن أن نعرف موقعهم ولو تقريبي؟
وليتطلف في سيره، وليتطلف في معاملة الناس، إنسان غريب وليتلطف يكن لطيف المعاملة حسن الخلق معهم حتى لا يلفت النظر إليهم فيشعروا أنه غريب عنهم فيقبضون عليه.
وكان سؤاله الثاني عن موقعهم
أما موقعهم فقد ذكرنا أن هناك بعض الكتب ذكرت أن الرقيم موجود في الأردن، وبعضهم قال موجود في تركيا وبعضهم قال موجود في كذا، وقلنا أن الله - سبحانه وتعالى - لم يعين هذا المكان ، ولذلك كل قول يعين هذا المكان سيكون رجماً بالغيب ولا دليل عليه ولذلك ضربنا صفحاً عنه .
قد علمنا يا شيخ أن الدعاء هو العبادة، والنذر والاستغاثة والذبح من العبادة فما حكم هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام، الذين يطوفون بقبور آل البيت من الموتى ويدعونهم ويتقربون إليهم بالذبح ، وهل يعد كلام أهل العلم من خلال هذه الحلقات أو شرائط الكاسيت أو الاسطوانات، تعد إقامة حجة عليهم ، أما ماذا يا شيخ نرجو التوضيح ؟
بارك الله فيك وهل تظن أن أمثال هؤلاء يستمعون إلينا ويشاهدوننا الآن حتى نقول إن كلامنا حجة عليهم ، هذه الأعمال أعمال شرك، الطواف بالقبور والاستغاثة بها دعاؤها من دون الله الذبح لها هذه أعمال شركية .
(3/23)
---(1/85)
لكننا إذا أطلقنا أن قول كذا شرك وقول كذا كفر وفعل كذا شرك وفعل كذا كفر ، نقول هذا حكم عام ولا ننزل الأحكام العامة على الأشخاص المعينين إلا بعد إقامة الحجة عليهم ممن هم أهل الحجة وهم العلماء المعتبرون الذين لهم كلمة .
فإذا أقيمت عليهم الحجة أن هذا شرك وكفر بالله - عزّ وجلّ - فلا أظن أن مسلماً يقول لا إله إلا الله يقال هذا الفعل شرك ويصر عليه وما أظن أن مسلماً يقول لا إله إلا الله هذا كفر ويصر عليه .
فإذا أقيمت له الحجة وبين له الأمر إن شاء الله ينتهون .
أما إذا لم ينتهوا فهؤلاء مردهم إلى أهل الحل والعقد وأولو الأمر الذين بأيديهم السلطة الذين يقولون فيهم قولهم وينفذون فيهم حكمهم .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، قراءة سورة الكهف يوم الجمعة هل الحديث أنه يكون له نور من الجمعة إلى الجمعة صحيح ؟
أي نعم صحيح إن شاء الله صححه شيخنا الألباني رحمة الله عليه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لدي استفسار بالنسبة ? أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ? هل الرقيم اسم للكلب ؟ .
لا ليس الرقيم اسماً للكلب وإنما قلنا أصح أقوال العلماء في تفسير الرقيم أنها لوحة من المعدن أو الرخام كتبت عليها أسماء أصحاب الكهف وعلقت في مدخل الكهف، كما يفعل بما يسمونه النصب التذكارية .
الرقيم اللوحة التي كتبت عليها أسماء أهل الكهف وليس فيه اسماً لكلبهم .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحن نعلم أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلباً أو صورة كما ثبت في الصحيح ونعلم كذلك أن الملائكة خلقها الله تعالى لتنفيذ أوامره، فكيف نفسر هذا خاصة وأنه لا شك في أن الملائكة هي التي حفظت أصحاب أهل الكهف بأمر ربها ؟
تنفيذ الملائكة لأمر الله - عزّ وجلّ - لا يتوقف على حلولهم في المكان نفسه فلهم من القدرة التي بها ينفذون أمر الله ولو عن بعد فلا يشترط أن يكونوا قد دخلوا الكهف أو كانوا قريبين من الكلب أنه لا يشترط .(1/86)
(3/24)
---
ثم إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو الذي قال لنا ( لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة ) فهذا قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - فلعل هذا يكون خاصاً بنا والله تعالى أعلى وأعلم .
السلام عليكم ، عندي سؤالين ، السؤال الأول: في قول الله - سبحانه وتعالى - ? وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ? هل يمكن أن يكون المعني هم لا يعبدون إلا الله جملة اعتراضية ، السؤال الثاني: في مسألة نوم أصحاب الكهف وهم مفتوحي الأعين ما الحكمة منها ؟
لا هذه ليست جملة اعتراضية ولكنها من ضمن كلام أهل الكهف، لأنهم كما قلت كان قومهم مشركين يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فتبرأوا من قومهم ومما يعبدون من دون الله ، يعني أثبتوا الولاية لله - تبارك وتعالى - وحده كما قال الخليل إبراهيم - عليه السلام - لقومه ? قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ?75? أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ?76? فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ?77??[ الشعراء :75-77].
فهو وليي فأنا عدو لكم ولمن عبدتموهم من دون الله إلا الله فهو وليي ، وأنا وليه فليست هذه جملة اعتراضية ولكنه من تمام كلام أهل الكهف .
أي نعم قلنا من باب الهيبة والرعب لمن يطلع عليهم لأنه كما قلت إذا رأيت إنساناً نائماً فنظرت في وجهه فوجدته مفتوح العين ظننته يقظاناً، فالله - تبارك وتعالى - ترك أعينهم مفتوحه حتى يلقي الرعب على من يراهم ويطلع عليهم كما قال ? لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ?[الكهف: 18].
وعليكم السلام ورحمة الله ، ذكرت فضل مصاحبة أهل الذكر فما رأيكم في الجرأة على أهل الذكر بدون علم؟
(3/25)
---(1/87)
لا حول ولا قوة إلا بالله الحقيقة أن هذا مما ابتيلنا به في هذا الزمان وتتطاول الصغار على الكبار ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ولا أجد ما أذكر به هؤلاء إلا كلام الحافظ ابن عساكر رحمه الله حيث قال في ذلك : فاعلم أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في الانتقام من منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالسلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .
فنقول لهؤلاء الذين أطلقوا ألسنتهم في كبار العلماء اتقوا الله وأمسكوا ألسنتكم فإن الله تعالى قال في مثل ? وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ?[النور: 15] فإذا الله تعالى قال في غيبة المؤمنين ? وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْت?[الحجرات: 12]، فكيف بلحوم العلماء وقد قال ابن عساكر أنها مسمومة ، نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق .
يقول قوله تعالى ? إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ? ظاهر الآية أن المكره غير معذور هل كان هذا الحكم شرع من قبلنا ؟
لا شك أن هذا شرع من قبلنا ولكن ليس هناك توضيح، كأنهم إن أُكرهوا هل يؤاخذوا أو لا يؤاخذوا لكنهم يريدوا أن يقولوا أن قومكم لن يتركوكم على دينكم الذي دخلتم فيه واعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله، فإما أن ترتدوا عن دينكم وتكونوا بظاهركم معهم وتقيموا على عبادة غير الله وإما قتلوكم .
أما المكره سابقاً معفي عنه أم غير معفي فهذا الله تعالى أعلم به .
تقول ما حكمة نومهم كل هذه المدة وهل ذهابهم إلى الكهف هل هو أمر من الله أم هم اختاروا الذهاب إلى الكهف ؟
(3/26)
---(1/88)
كل شيء يجري في الكون فإنما يجري بتقدير الله تعالى ومشيئته ثم الله - سبحانه وتعالى - يهدي الخلق لما قدره لهم وشاءه منهم فكان توجههم إلى الكهف باختيارهم وإرادتهم لكن قبل ذلك بتقدير الله تعالى وتدبيره لهم ذلك .
يقول كيف يمكن الجمع بين حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي في معناه لا تشرك بالله لو حرقت أو قطعت ، والآية الكريمة ? إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ ?[النحل:106] ؟
المراد بوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت أو حرقت ) أن تقبل الشرك وترضى به وتترك الدين من أجل ما ابتليت به من عذاب، أن ترفض الدين وترضى به بالكلية أما من أكره وقال كلمة الشرك لكن قلبه مطمئن بالإيمان فهذا ليس كافرا.
يقول هل يمكن فتح الأعين من باب الإعجاز العلمي حتى لا تفسد أعينهم ؟
هذه تحتاج إلى الأطباء المتخصصين .
يقول ما أفضل كتاب في التفسير للمبتدئين ؟
أفضل كتاب تفسير للمبتدئين تفسير الجزائري حفظه الله ، ثم تفسير السعدي رحمة الله عليه ، ثم مختصر ابن كثير لشيخنا محمد نسيب الرفاعي رحمة الله عليه .
وبهذه المناسبة نذكر الإخوة الكرام بأنهم بعد سماع هذه المحاضرة يستطيعون أن يراجعوا مختصر ابن كثير لشيخنا الرفاعي فيجدون فيه مجمل ما ذكرناه إن شاء الله تعالى .
يقول ما معني تزاور وما معنى تقرض، ولمَ قال تزاور وقال تقرض؟ والسؤال الثاني أن الله تعالى ذكر أمراًَ خارقاً وهو تزاور الشمس، فما الحكمة من ذكر تقرير أفعال أصحاب الكهف ذات اليمين وذات الشمال، مع قدرة الله تعالى على تغيير طبيعة مخلوقاته، وتغيير قانون الأرض بألا تأكل أجسادهم ؟
الله - سبحانه وتعالى - له أن يفعل ما يشاء كيف يشاء بأسباب ومن غير أسباب، فالله تعالى قادر على حفظهم دون أن يقلبهم لكنه كان يقلبهم والله تعالى أعلم بمراده - عزّ وجلّ -.
(3/27)
---(1/89)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ما معنى قوله ? فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً ?؟
المراء هو الجدال فلا تجادل فيهم بعدما بين لك الله - سبحانه وتعالى - نبأهم وسيأتي التفصيل في الدرس القادم إن شاء الله تعالى .
تقول كيف يكون أخذ العبرة من قصة أصحاب الكهف ؟
نحن بفضل الله - عزّ وجلّ - الآن شرحنا ثلاث دروس في كل درس نشرح الآية ونقول ما يستفاد منها والعبرة المأخوذة منها، فعلى الأخت السائلة أن تتابعنا وتتابع ما نقوله ، فتجد الدروس والعبر والعظات المأخوذة من هذه السورة إن شاء الله .
السلام عليكم ، بالنسبة لمذاكرة مادة التفسير الطريقة الجيدة المساعدة للحفظ ؟
كما نشرح تقرأ الآيات التي تريد أن تذاكرها تقرأها ثم تأتي عليها آية آية ثم تكتب ما فهمت من الآيات كأنها تحضر الدرس لتلقيه على غيرها ، فبذلك تستفيد إن شاء الله تعالى .
تقول هل يكون أجر من يقرأ من التفسير كمن يقرأ من المصحف علماً بأن القراءة من التفسير لعذر شرعي ؟
القرآن هو القرآن سواء كان مكتوباً في المصحف أم في كتب التفسير، فلو أن إنساناً أخذ كتاب التفسير وقرأ منه القرآن الكريم فهو قارئ القرآن الكريم ، فهو ومن يقرأ من المصحف سواء بإذن الله تعالى فأجر واحد ووقع الأجر على الله تعالى .
يقول ما رأي الشيخ في تفسير الكشاف وهل تنصح المبتدئ بقراءته ؟
لا ، لا ينصح المبتدأ بالقراءة في الكشاف ولا في التفسير الكبير للرازي لأن فيهما من العقائد الفاسدة الكثير الكثير ، والطالب المبتدئ ربما وقع على هذه العقائد الفاسدة وهو لا يعرفها ولا يحيط بها علماً فتفسد عقيدته من حيث أراد تصحيحها .
فلا ينصح المبتدئ بقراءة الكشاف ولا التفسير الكبير .
ذكرت أن مشركي العرب كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية ونعلم أن من مقتضى الإيمان بتوحيد الربوبية الإيمان بأن الله - عزّ وجلّ - هو الآمر والناهي والمشرع ، فكيف يكونوا قد آمنوا بذلك ؟
(3/28)
---(1/90)
هذا من توحيد الألوهية ولذلك هم استكبروا عن لا إله إلا الله لماذا؟ لأنهم يعلمون أنه إذا آمنوا بلا إله إلا الله يجب أن يسمعوا و يطيعوا ، فكانوا مقرين بتوحيد الربوبية أن الله خلقهم ورزقهم ويعطيهم ويجيب دعائهم ويكشف ضرهم ، فإذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، لأنهم يعلمون أن مقتضى إقرارهم بها أن يدينوا لله بالوحدة بالسمع والطاعة في كل ما يأمر به وينهى عنه .
السلام عليكم ، الآية هي ? خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ?[التوبة:103] ؟
تريد تفسيرها، هذه الآية من سورة التوبة يأمر الله - تبارك وتعالى - فيها نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ الصدقة والمراد بها الزكاة الواجبة من الأغنياء وأمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ الصدقة من أهلها أن يدعو لهم وأن يصلي عليهم ولذلك قال ( اللهم صلي على آل أبي أوفي ) لما جاءه بصدقته قبلها منه وقال ( اللهم صلى على آل أبي أوفى ) فقوله تعالى ? خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ? فإخراج الصدقة يزكي النفس ويطهرها من الدنس دنس البخل والشح ، ويقوي فيها حب الله تعالى والدار الآخر ، والإيمان والاحتساب ? وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ ? ورحمة لهم ، هذا معنى الآية والله أعلم .
تقول هل صحيح أن الفاتحة مجملة وتفصيلها في باقي سور القرآن ؟
أي نعم هذا ما قلناه في أول درس أو في تفسير قوله تعالى ? أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ ? قلنا أن هذا مجمل يفصله ما بعده وهذه سنة الله تعالى في القرآن الكريم، جعل الفاتحة مجملاً للقرآن الكريم ثم فصل ما تضمنته الفاتحة في باقي السور كلها .
(3/29)
---(1/91)
تقول هل نفهم من اعتزال أصحاب الكهف لقومهم أن نعتزل أهل الفسق ومن في دينهم ضعف أم هناك حدوداً وثوابت في هذه المسألة ؟
نعتزلهم في وقت فعل المنكر والشر والمعاصي ونخالطهم من أجل الدعوة إذا أمنا على أنفسنا إذا وجدنا في أنفسنا قوة وعلمنا أننا الذين نرجو الله أن نؤثر فيهم وأمنا أنهم لن يؤثروا علينا فحينئذ نخالطهم من أجل الدعوة .
أما الإنسان المبتدأ الضعيف الذي يخشى على نفسه إذا خالط أهل المعاصي والفسوق ليدعوهم أن يصحبوه معهم ويردوه إلى طريقتهم فهذا لا يجب عليه أمرهم ولا نهيهم بل يجب عليه أن يعتزلهم والبعد عنهم حفظاً على سلامة نفسه .
تقول لدي نسخة من ابن كثير للصابوني، هل يمكنني الاعتماد عليها كمبتدئة ؟
لا ننصح بهذا الكتاب وإنما أنصح بما قلنا بمختصر ابن كثير لشيخنا محمد نسيب الرفاعي رحمة الله عليه .
هناك مسلمون مقيمون في بلاد لا يذبح فيها على الطريقة الشرعية، فهل يجوز لهؤلاء أن يأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ولم يتم ذبحها على الطريقة الشرعية ؟
إذا ثبت للمسلم سواء كان مقيماً في بلاد الإسلام أو في غير بلاد الإسلام أن هذه الذبيحة لم يذكر اسم الله عليها أو ذبحت على غير الطريقة الإسلامية فهي حرام عليه لا يجوز أن يأكل منها ? وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ?[الأنعام:121] لكن الأصل عندنا أن طعام أهل الكتاب حل لنا والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى فالله - تبارك وتعالى - أحل لنا ذبائح اليهود وذبائح النصارى وهو يعلم ماذا يقولون فالأصل في طعامهم الحل ، إلا إذا ثبت ما يفيد المخالفة فحينئذ ننتهي .
(3/30)
---(1/92)
نريد أن نربط مع ما لقيه أصحاب الكهف من تكالب المشركين عليهم بما يلقاه اليوم إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله وأقصد بالمجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله ويسعون لإعلاء كلمة الله فلعلكم توجهون كلمة لهم ومما يتعرضون اليوم من تكالب المشركين والكافرين عليهم ووصفهم بالإرهاب وأخص بالمجاهدين وأكرر الذين يجاهدون في سبيل الله ويسعون لإعلاء كلمة الله في كل مكان
ونحن جميعاً لا نملك إلا ندعو للمجاهدين في سبيل الله حقاً كما أكدت أنت في كلامك، ندعو للمجاهدين في سبيل الله حقاً أن ينصرهم الله - سبحانه وتعالى - وأن يمكن لهم في الأرض وننصحهم بالثبات على دين الله ، مهما لقوا في سبيل الله - عزّ وجلّ - .
تقول هل اتضح على أجساد أهل الكهف أثر السنين من تجاعيد وشيب وغيرها ؟
لا طبعاً من ظاهر الآيات أن الله حفظهم فلم يتغير منهم شيء بعثوا كما ناموا، ولذلك ? قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ? .
تقول هل على الإنسان شيء إن حاول أن يفسر لشخص ما معنى آية ما على حسب ما فهمه من معنى بدون رجوع للتفسير ؟
عندما نقول في سورة الفاتحة الحمد لله رب العالمين ، نقول الله - سبحانه وتعالى - حمد نفسه وأمرنا أن نحمده ، وهو الرحمن الرحيم رحمة الله واسعة ، وصف نفسه باسمين ، الرحمن الرحيم ، وهو - سبحانه وتعالى - مالك يوم الدين، الذي له الأمر يوم القيامة، وأمثال هذا الكلام وهذه الآيات الظاهرة المعاني ، التى لا تحتاج إلى بحث وروية ولا فكر ما في مشكلة أن أتكلم فيها .
أما المشكل الذي لا نعرف معناه لا يجوز لنا أن نخوض إلا أن نرجع إلى أقوال المفسرين.
تقول هل من الممكن أن تبينوا لنا معنى قوله تعالى ? لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ?[الكهف: 18] هل الرعب هو لهيبتهم من الإيمان أم في هيئتهم ؟
(3/31)
---(1/93)
في هيئتهم الله - سبحانه وتعالى - يقول عن موسى عليه السلام ? وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ?[طه: 39] .
الله - تبارك وتعالى - ألقى على موسى وهو في المهد صبياً حين لقته
ألقته أمه في الصندوق في اليم ألقى الله عليه المحبة ، فكل من يراه يحبه ، وكذلك ألقى الله على أهل الكهف وهم نيام المهابة، فلو قدروا واطلع عليهم أحد لولوا منهم فرارا، ولملئ منهم رعباً .
هل يؤجر على الذكر بالقلب دون تحريك اللسان ؟
في الحديث - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى قال ( أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ) فالذكر يكون بالقلب ويكون باللسان ، أما القراءة فلا تكون إلا باللسان .
(3/32)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
الشرح من قوله "وكذلك أعثرنا عليهم ..."
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم مرحبا بكم جميعا في هذا اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة الكهف والآيات المباركات التي معنا، منها هذه الساعة المباركة إن شاء الله تعالى تضمنت من المعاني ما يلي:
أولا: لماذا بعث الله تعالى أصحاب الكهف من نومهم.
ثانيا: النهي عن اتخاذ القبور مساجد.
ثالثا: عدة أصحاب الكهف.
رابعا: النهي عن استفتاء الجاهل.(1/94)
خامسا: بركة قول إن شاء الله تعالى.
سادسا: فضل تلاوة القرآن الكريم.
سابعا: الحرص على صحبة الصالحين ومجالستهم ولو كانوا فقراء.
وأخيرا: جزاء الظالمين والمؤمنين في الآخرة يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وهذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات التي معنا من سورة الكهف من المعاني والتي نعيش في رحابها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالى، فلنستمع إلى هذه الآيات المباركات أولا قبل الخوض في تفاصيلها، سائلين الله عز وجل أن ينجز لنا ما وعدنا حيث قال ?وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? [الأعراف:204 ]
(4/1)
---(1/95)
? وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ?21? سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ?22? وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ?23?إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ?24? وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ?25? قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ?26? وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا?27? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ?28? وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ
(4/2)(1/96)
---
سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ?29? إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ?30? أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ?31??[الكهف: 21-31].
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ? [ص: 29].
? لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الحشر: 21]،
? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر: 23].
إخوة الإسلام: ذكرنا في اللقاء السابق أن الله سبحانه وتعالى لما بعث أهل الكهف من نومهم أمروا أن يذهب أحدهم إلى المدينة؛ ليأتهم برزق منه، ووصوه أن يتلطف في سعيه ومدخله ومخرجه ولا يشعرن بهم أحدا؛ مخافة أنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا، فذهب أحدهم إلى المدينة ليأتي منها برزق يأكلونه، فاطلعوا على أمرهم وجاءوا مع هذا الشاب إلى الكهف؛ ليحصلوا على إخوانه المتخلفين هناك، فلما اقتربوا من الكهف سبقهم ذلك الشاب فدخل على إخوانه في الغار فأماتهم الله جميعا.(1/97)
(4/3)
---
الله سبحانه وتعالى يقول ?وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ?، أي أطلعنا الناس عليهم ?لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا ?، فهذا دليل حسي ملموس على أن الله تعالى يحي الموتى ويبعث من في القبور، فهؤلاء فتية ناموا في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ومع ذلك حفظهم الله تبارك وتعالى فلم تبلى أجسادهم، ولم تأكل الأرض أجسامهم ولم يتغير منهم شيء ثم بعثهم الله تبارك وتعالى كما كانوا؛ ليعلم الناس أن الله سبحانه وتعالى يحي الموتى ويبعث من في القبور وأن البعث للإنسان كإنسان من حيث البدن والروح، وليس البعث للأرواح وحدها وإنما كما بعث الله تبارك وتعالى أصحاب الكهف من نومهم بعد ثلاثمائة سنين، كذلك يبعث الله تبارك وتعالى الموتى من قبورهم بأجسادهم وأرواحهم،?لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا ?.
فلما انتهوا إلى الكهف ودخل ذلك الذي كان قد أتى المدينة أماتهم الله الموتة التي كتبها على بني آدم، فوقفوا يتنازعون بينهم أمرهم، قالوا هؤلاء قوم صالحون من أولياء الله الصالحين كيف ينامون ثلاثمائة سنين ثم يحييهم الله تبارك وتعالى، هؤلاء قوم صالحون هؤلاء من أولياء الله هؤلاء طيبون هؤلاء قدسيون يجب أن نصنع لهم شيئا نحفظ به ذكراهم وسيرتهم ? إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ? بنيانا يكون أثرا من الآثار ومزارا من المزارات التي يزورها الناس بعد ذلك.
(4/4)
---(1/98)
?قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ? والغلبة دائما تكون للسلطان ولذوي السلطة والأمر والنهي للملك وحاشيته وأتباعه?قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ?، وذلك على طريقة اليهود والنصارى أنهم كانوا يبنون على قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ترى في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها بأرض الحبشة وما فيها من تصاوير فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنو على قبره مسجدا واتخذوا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) أولئك الذين يتخذون المساجد على القبور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة، فاتخاذ القبور، فاتخاذ المساجد على القبور والبناء فوق القبور محرم، ولا يجوز أبدا، لا يجوز أن يبنى القبر نفسه ولا يبنى عليه فضلا عن أن يبنى عليه مسجد يركع فيه ويسجد لله سبحانه وتعالى، ولقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد حتى وهو في سكرات الموت لم تشغله سكرات الموت من تحذير أمته عن اتخاذ القبور مساجد؛ ولذلك جاء في الصحيح أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه(لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، قالت ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا.
(4/5)
---(1/99)
( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، قالت ولولا ذلك النهي لاتخذ قبره مسجدا ولبني عليه لكنه نهى عن ذلك صلى الله عليه وسلم وعنها رضي الله عنها وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه اتخذ قطعة من القطيفة فوضعها على وجهه فإذا اغتم كشفها فقال وهو كذلك ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر من ذلك، يعني يلعن اليهود والنصارى على اتخاذهم القبور مساجد يريد بهذا اللعن أن يحذر أمته من اتخاذ القبور مساجد وعن جندب ابن عبد الله رضي الله عنه قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا لقبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك) فلا يجوز للمسلمين أن يبنوا فوق القبور، لا يبنوا القبور نفسها فبناء القبور محرم في الشريعة ولا يبنون فوقها أي بنيان كان فضلا عن بناء المساجد التي يسبح فيها بحمد الله سبحانه؛ وذلك لأن اتخاذ القبور مساجد دائما يفضي إلى الوقوع في الشرك وعبادة أهلها من دون لله تعالى فمن باب سد الذرائع نهى الإسلام عن البناء فوق القبور وعن اتخاذها مساجد ?وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ? وهم قائمون على باب الغار بعد أن وجدوهم قد ماتوا أجمعين ? إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ?.
(4/6)
---(1/100)
فلما ماتوا وقفوا يتكلموا على عدتهم؛ لأنه لم يطلعوا إلا على واحد فأخذوا يتكلمون وهم على باب الغار، كم كان هؤلاء الفتية، فالله تبارك وتعالى ذكر أقوالهم، وأشار في الذكر إلى الباطل والصواب من هذه الأقوال قال تعالى ? سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ?، هذا رأي،? وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ? هذا رأي، ? وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ?، فاختلفت الآراء في عدة أصحاب الكهف كم كانوا؟ فهناك رأي يقول ? ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ?، ورأي ثان يقول:? وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ? ورأي وثالث يقول: ? وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ?، الله تعالى أشار في هذه الآية إلى بطلان قولين ورأيين وصواب الرأي الثالث فقال? سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ?، ولم يقل في هذا الرأي الثالث رجما بالغيب، فلما وصف الرأيين الأولين بقوله رجما بالغيب أشار بذلك إلى بطلان هذين الرأيين، ولما لم يصف بذلك الوصف الرأي الثالث أشار إلى صحته ورجحانه.
(4/7)
---(1/101)
ومعنى الرجم بالغيب أن الذي يرجم بالحجر من مكان بعيد لا يصيب هدفا، وكذلك الذي يتكلم بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير لا يصيب الحق أبدا، فالحق هو ما قام على الدليل، فمن تكلم بالدليل فقوله الحق، ومن تكلم بغير دليل ولا حجة ولا برهان فقوله باطل مردود عليه، فالله سبحانه حكى الثلاثة أقوال وأشار إلى الباطل منها والراجح، فوصف رأيين بقوله رجما بالغيب يعني لم يصب الذين قالوا هذين القولين لم يصيبوا الحقيقة، وسبعة ثامنهم كلبهم ولم يقل في ذلك رجما بالغيب، فكان ذلك إشارة إلى صحة هذا القول، وأن عدة أصحاب الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ومع ذلك يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ? قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ? مع أن الله تعالى أشار إلى القول الراجح في عدتهم إلا أنه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يفوض الأمر في علم عدتهم إلى الله تبارك وتعالى? قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ? فيستفيد من هذا أنك إذا رجحت بين الآراء بلا حجة ولا برهان وإنما بالاجتهاد والاستنباط فيجب عليك أن تقول في قولك الله أعلم لأنك رجحت بناء على الظن لا على اليقين، فإذا رجحت بغير دليل تقول هذا هو الراجح والله أعلم ? قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ? ?مَا يَعْلَمُهُمْ ? يعني من الناس إلا قليل، فالله تعالى يعلم عدة أصحاب الكهف وهناك قلة قليلة من الناس يعلمون عدتهم أيضا، وقد كان ابن عباس - رضي الله عنه – يقول: أنا من القليل الذين يعلمون عدتهم، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.
(4/8)
---(1/102)
?مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدً? فلا تمار المراء هو الجدال فلا تمار يا رسولنا أهل الكتاب في أصحاب الكهف بعد ما أوحى الله إليك من شأنهم ما أوحى، فلست محتاجا إلى الجدال إلا جدالا بالتي هي أحسن، تخبرهم بما أوحاه الله تعالى إليك من نبأ أصحاب الكهف فبلغ ما أوحاه الله إليك واعرضه عليهم وجادلهم به بالتي هي أحسن ولا تكثر المراء ولا تكثر الجدال ?وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ? أي لا تستفت في أهل الكهف من أهل الكتاب أحدا؛ لأنهم لا يعلمون ما علمته أنت عن طريق الوحي وعن طريق القرآن، فلما نهى الله تبارك وتعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن استفتاء أهل الكتاب في نبأ أصحاب الكهف علمنا أنه لا يجوز للمستفتي أن يستفتي الجاهل، إذا نزلت بك نازلة أو وقعت بك واقعة وأردت أن تعرف حكمها من الشرع فلا بد أن تتحرى العلماء، الربانيين المتخصصين الذين تعلموا الكتاب والسنة لتسألهم عما وقع بك من الوقائع ونزل بك من النوازل فالله تبارك وتعالى قال: ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ? [الأنبياء]، وهنا ننبه على خطأ يقع فيه كثير من العامة حين يريدون أن يعرفوا أحكام الشريعة أنهم يتوجهون إلى المساجد فيسألون من وجدوا دون أن يعلموا هل المسؤول هو الإمام العالم إمام مسجد أم أنه عامل في المسجد ليس عنده علم؟ فلا بد أن تتحرى بسؤالك العلماء المتخصصين،? فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ?، بعد ما أوحاه الله تبارك وتعالى إليك.
(4/9)
---(1/103)
?وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ?23? إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ?، إذا قال لك أخوك: ستأتيني غدا، فقل سآتيك غدا إن شاء الله، ولا تقل سآتيك غدا وتسكت لماذا؟ لأن كل شيء يجري بتقدير الله تعالى ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن، والله تبارك وتعالى يقول? وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ? [لقمان[:34]، أنت ما تدري ما يكون لك في الغد، لا تدري ماذا خبأه لك الغيب فإذا قلت سأفعل كذا غدا، فلا بد أن تقرن ذلك بقولك - إن شاء الله – تعالى؛ لأنك لا تدري هل ستحيى إلى الغد أم لا تحيى؟ وهل ستتمكن من فعل ما وعدت به أم لا تتمكن عليه؟ وقديما قيل لرجل أعرابي: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الهمم.
كثيرا ما تعزم على الشيء عزما أكيدا ثم تصرف عنه ولا تفعله، وأحيانا تصرف عن الشيء بعدما هممت به وقبل أن تعزم عليه، من الذي صرفك؟ الله سبحانه وتعالى الذي بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، فلذلك من الأدب أن تقول إذا تحدثت عن المستقبل - إن شاء الله تعالى - وبهذه المناسبة نذكر إخواننا الإعلاميين في المرئيات والمسموعات حينما يخبروننا بدرجات الحرارة المتوقعة غدا على البلاد نذكرهم بضرورة قول - إن شاء الله تعالى- لأن هذا ظن يظنونه، قد يقولون درجة الحرارة غدا كذا فترتفع أو تنقص؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو مصرف الكون.
(4/10)
---(1/104)
?وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ?، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قال سليمان بن داوود - عليهما السلام – : لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل منهن مجاهدا أو فارسا يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله فلم تلد منهن إلا واحدة وضعت شق إنسان وليس إنسانا كاملا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه لو قال إن شاء الله، لم يحنث وكان دركا لحاجته ) لو قال لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل منهن فارسا يقاتل في سبيل الله - إن شاء الله - لكان دركا لحاجته أي لأعطاه الله تبارك وتعالى ما تمناه ولكنه نسي أن يقول - إن شاء الله -، وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم – أن يأجوج ومأجوج كما سيأتي ذكرهم في آخر السورة الكريمة إن شاء الله يحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا أن يخرجوا غربت عليهم الشمس، فقالوا: لقد غربت الشمس فارجعوا وتأتون غدا فتتمون عملكم وتفتحون السد، فيرجعون فيجدون السد قد عاد كما كان قبل الحفر فيحفرون حتى إذا كادوا أن يخرجوا غربت الشمس فيقولون: ترجعون غدا فتتمونه فيرجعون فيأتونه كما كان مردوما، فإذا أراد الله خروجهم،عملوا في الحفر حتى نقبوا نقبا كبيرا في هذا السد فإذا غربت الشمس قال قائلهم ترجعون غدا فتفتحونه- إن شاء الله – فيتركون العمل ويبيتون، فإذا أصبحوا وجدوا السد كما تركوه في العمل فأتموا ما بقي من الحفر وخرجوا على الناس كما سيأتي كيفية خروجهم في آخر السورة - إن شاء الله تعالى – والشاهد أن من الأدب إذا تحدثت عن الغد أن تقول - إن شاء الله - سآتيك غدا - إن شاء الله – سأفعل كذا غدا - إن شاء الله – فإن لهذه الكلمة بركة عظيمة والله سبحانه وتعالى قد قال لنبيه وأصحابه ?لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ? [الفتح: 27]، اللام لام القسم من الله سبحانه وتعالى فهذا وعد من الله لرسوله وأصحابه لا بد أن يتحقق ولا يخلف، ومع شدة التأكيد على هذا الوعد(1/105)
(4/11)
---
يقول تعالى ?لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ?، ?وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ? إلا مقرونا بقولك إن شاء الله ?وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ?، في زحمة المواصلات وزحمة العمل قال لك أخوك: تذكر موعدنا غدا؟ قلت: أذكره، قال: ستأتي؟ قلت: سآتي ولم تقل إن شاء الله ثم، ثم تذكرت أنك لم تقل - إن شاء الله - فقل - إن شاء الله - حتى في اليمين لو أنك حلفت أن تفعل الشيء وقلت إن شاء الله فإذا لم تفعله لم تحنث ولم يكن عليك كفارة يمين، ? وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ?، إن قلت سآتيك غدا ونسيت أن تقول إن شاء الله ثم تذكرت أنك لم تقل إن شاء الله فألحقها بقولك إن شاء الله، ?وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدً?.
(4/12)
---(1/106)
ثم قال تعالى: ?وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ?، لبثوا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، هذه الزيادة التسع سنين تتعلق بماذا؟ قال المفسرون: لبثوا ثلاثمائة سنين من السنين الشمسية، وازدادوا على الثلاثمائة تسعا من السنين القمرية؛ لأن السنة الشمسية تزيد على السنة القمرية كل عام أحد عشر يوما، أحد عشر يوما فرقا بين السنة الشمسية والسنة القمرية فقال الله تعالى ?وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ?، مع ذلك أيضا مع أن الله أخبرنا أنهم لبثوا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد علم ما لبثوا إلى الله ?قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُو? وهو الذي أخبرنا وقوله الحق كما قال في أول السورة ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ? ? قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ?، الله سبحانه وحده هو الذي يعلم الغيب ? قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ?[النمل:65 ]، إن الله يعلم غيب السماوات والأرض إن الله عالم غيب السماوات والأرض? عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ?26? إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ?، فلا يعلم ما في غد إلا الله سبحانه وتعالى.
(4/13)
---(1/107)
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا كل الحرص على استقرار هذه العقيدة في نفوس أصحابه، عقيدة أنه لا يعلم الغيب إلا الله، دخل على عروس صبيحة بنائها وعندها جوار يغنين، فقالت إحداهن: وفينا رسول يعلم ما في غد، فقال لها: (دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين، لا تقولي وفينا رسول يعلم ما في غد؛ لأنني لا أعلم الغيب لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى) ? قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ?، هذا تعجب من إحاطة الله تعالى بالمرئيات بصرا، وبالمسموعات سمعا والمعنى ما أبصره وما أسمعه.
فالله سبحانه وتعالى أحاط بالمرئيات بصرا وأحاط بالمسموعات سمعا وأحاط بكل شيء علما فلا يخفي على ربنا سبحانه وتعالى شيء في الأرض ولا في السماء كما قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ?، و قال الخليل إبراهيم عليه السلام: ? رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ? ? أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ?، ما للظالمين من دون الله نصير ينصرهم من عذاب الله، ويدفع عنهم بأس الله تعالى، ?ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً?، الله سبحانه وتعالى له الحكم ? إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ?[يوسف: 40]،? وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً?.
والحكم نوعان:
(4/14)
---(1/108)
1-حكم شرعي ديني 2-حكم كوني قدري، قال الله تعالى في سورة الممتحنة بعد ما ذكر حكمه عز وجل في المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية قال ? ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ?[الممتحنة:10]، فهذا حكم شرعي ديني والحكم الكوني القدري منه قول واحد من إخوة يوسف ? فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ?[يوسف: 80]، فهذا حكم كوني قدري، فالحكم نوعان:
حكم شرعي ديني، وحكم كوني قدري، والله سبحان وتعالى ليس له شريك في الحكم الشرعي، وليس له شريك في الحكم الكوني القدري؛ ولذلك قال ? أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ?[الأعراف: 54]، فكما أنه الخالق وحده لا شريك معه في الخلق، فالأمر له وحده لا يجوز أن يكون له شريك في الأمر?ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً?.
(4/15)
---(1/109)
ثم قال تعالى ? وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ?، انتبه هذه الجملة معطوفة على ما قبلها وهو قوله تعالى ?فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدً?، ? وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ?، لا تستفت يا نبينا أهل الكتاب في أصحاب الكهف، لا تستفتهم، فإن عندك من العلم ما لم يأتهم، قد جاءك من الله علم لم يعلمه أهل الكتاب في كتبهم السابقة، فاستغن يانبينا بما أوحيناه إليك من نبأ أصحاب الكهف عن سؤال أهل الكتاب، ? وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ?، والأمر بالتلاوة يأتي بمعنى الأمر بالقراءة ويأتي بمعنى الأمر بالاتباع، فالتلاوة ليس معناها القراءة، فقط ولكن التلاوة تشمل القراءة والاتباع، أما الأمر بالقراءة التلاوة التي هي قراءة فمنه قوله ربنا عز وجل آمرا رسوله أن يقول ? إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ ? [النمل:91،92]، فالتلاوة هنا معناها القراءة، ? وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ? [النمل: 92]، وتأتي التلاوة بمعنى الاتباع، قال الله تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ? [فاطر: 29]، فالتلاوة هنا معناها الاتباع والعمل بما في هذا الكتاب، ولذلك لما ذكر التلاوة ذكر أهم الأعمال الصالحة وهي الصلاة وإيتاء الزكاة، فالتلاوة تأتي بمعنى القراءة وتأتي بمعني الاتباع، أما القراءة: فتلاوة القرآن قربة من أعظم القرب، وعبادة من أجل العبادات، يعطي الله تبارك وتعالى عليها من الأجر والثواب ما(1/110)
(4/16)
---
لا يعطي على غيرها.
وقد بين النبي صلى الله عليه و سلم كثرة هذا الأجر بقوله: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف). ولكن مجرد التلاوة وترديد الألفاظ بلا عمل ولا اتباع لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يكون حجة على القارئ، إذا قرأ القارئ القرآن بلفظه ولم يتبع أحكامه، لم يحل حلاله، ولم يحرم حرامه، ولم يعظم شعائره ولم يقف عند حدوده كان القرآن حجة عليه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك)، حجة لك إذا أنت تلوته لفظا وتلوته عملا، يعني قرأته باللفظ واتبعت ما جاء فيه من الأحكام، من تحليل الحلال وتحريم الحرام، وتعظيم الحدود والعمل بكل ما في القرآن يكون حجة لك وإذا أنت قرأت القرآن بلفظه ولم تتبعه فيما أمر به ونهى، يكون القرآن حينئذ حجة عليك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة ثلاث، رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها: قال قاتلت في سبيلك حتى قتلت. قال: كذبت إنما قاتلت ليقال جريء، وقد قيل فأمر به فسحب على وجهه فألقي في نار جهنم، ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه الله نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها قال تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، إنما تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، وقد قيل، فأمر به فسحب على وجهه فألقي في نار جهنم، ورجل آتاه الله تعالى من جميع أصناف المال فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها: قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق لك فيها إلا أنفقت لك فيها، قال: كذبت، إنما أنفقت ليقال جواد ليقال كريم وقد قيل فأمر به فسحب على وجهه فألقي في نار جهنم).
(4/17)
---(1/111)
إذا المقصود الأعظم من القرآن الكريم أن نتلو ألفاظه وأن نتبع أحكامه فيا أيها المسلم اقرأ وتدبر وافهم واعمل واتبع، وحينئذ تدخل في عموم هذه الشهادة العظيمة من الله لك بالإيمان ?الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ? [البقرة: 121]، ? وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ?، يمكن أن يراد بالكلمات الوعد والوعيد، اتل يانبينا ما أوحي إليك من كلام ربك واعمل به واتبعه، فإن الله وعد من تلاه وعمل به واتبعه بالجنة وبالهدى ولا تشغل بالك بالذين أعرضوا عن القرآن الكريم ولم يعملوا به، فإن الله توعدهم بالخزي في الدنيا، و العذاب في الآخرة، كما قال تعالى: ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ?116? فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ?117? إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى?118? وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ?119? فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ?126? وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ?، فالله سبحانه وتعالى وعد من قرأ واتبع بالجنة، وتوعد من أعرض وأدبر بالنار ?لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ?، أي لا مبدل لوعده ووعيده و? وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ? [الأنعام: 151]، وإذا أريد بالكلمات القرآن الكريم نفسه فلا مبدل ولا مغير في كتاب الله عز وجل؛ لأن الله تعالى تولى بنفسه حفظ هذا الكتاب فقال: ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? [الحجر:(1/112)
(4/18)
---
9]، فالقرآن محفوظ بفضل الله من التغيير والتبديل، ولذلك بين الحين والحين نسمع عن طبعة للمصحف عثر فيها على أخطاء ولو كان خطأ واحدا في المصحف كله بفضل الله يكشف ويطلع عليه الصغار قبل الكبار؛ لأن الله تعالى قيض لهذا الكتاب حفظة حفظوه في صدورهم فحفظ الله بذلك كتابه من التغيير والتبديل، ولقد كان المشركون إذا تلي عليهم الكتاب يقولون للنبي
- صلى الله عليه وسلم -: ? ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ? [يونس:15]، فأمره الله أن يقول: ?قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ? [يونس: 15]، فالنبي - صلى الله عليه وسلم – كان أمينا جدا على وحي الله تبارك وتعالى بلغه كما أوحي إليه بلا زيادة ولا نقصان والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: ? وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ?44? لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ?45? ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ?46? فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ? [الحاقة: 44-47]، فلما لم يفعل الله بنبيه شيئا من هذا الوعيد دل على أنه لم يتقول على الله شيئا ولم يغير ولم يبدل فيما أوحاه الله تبارك وتعالى إليه، ? وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ?، الملتحد: الموئل والملجأ والمكان الذي يأوي إليه الإنسان ويهرب فيه، يعني يانبينا: لو تقولت على ربك أو غيرت أو بدلت فيما أوحاه الله إليك لعذبك الله لن تجد من دونه ملتحدا أي ملجأ تلجأ إليه وتنجو فيه من عذاب الله، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يتقول ولم يغير ولم يبدل كيف وهو الأمين كما قال: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)، ائتمنه الله تعالى على وحيه والله هو القائل ? اللَّهُ(1/113)
أَعْلَمُ حَيْثُ
(4/19)
---
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ? [الأنعام: 124]، فما اختاره إلا وهو يعلم أنه أمين على وحيه.
ولقد كان المشركون يطالبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بطرد الفقراء والضعفاء والمساكين من حوله؛ لأن أول من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم – وآمن به هم الفقراء والضعفاء والمساكين وهذه سنة الله في أتباع الرسل، أتباع الرسل دائما هم الضعفاء والفقراء والمساكين، ولذلك لما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، قال ائتوني بمن في البلاد من العرب، فكان أبو سفيان في قافلة تجارية في بلاد الروم، فجيء به إلى هرقل وسأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – عدة أسئلة كان منها: أفقراء الناس يتبعونه أم أغنيائهم؟ قال: بل فقراءهم، قال هرقل: سألتك أفقراء الناس يبتعونه أم أغنياءهم؟ فقلت فقراءهم وهم أتباع الرسل.
فالأكابر من أهل مكة الأغنياء أصحاب الجاه والمال والثراء عرضوا على رسول الله عرض، قالوا له يا محمد: إننا نريد أن نجلس إليك وندنوا منك ونستمع إليك، لكنك يجلس عندك الفقراء والضعفاء والمساكين ولا يليق بنا أن نجلس بينهم ونخالطهم، هم ما خالطونا قبل أن تجيء، فكيف يخالطوننا الآن، فنهى الله تبارك وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم – عن طاعة هؤلاء فقال: ?وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطً?، نعوذ بالله من الخذلان ونسأله الهداية والتوفيق هذا والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نستقبل أسئلة المستمعين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السؤال:
(4/20)
---(1/114)
الحديث الذي ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهم( أن عليا رضي الله عنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم – وأخبره أن القرآن تفلت من صدره فعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات تثبت ما تعلم في صدره) فما مدى صحته والعمل به وجزاك الله خيرا؟
روي حديث ضعيف لا يصح في الاستعانة على حفظ القرآن الكريم، تصلى ركعتين وتقرأ فيهما بالأولى كذا وفي الثانية كذا هذا الحديث ضعيف لا يصح، والعمل به لا يجوز لكننا ننصح إخواننا الذين منَّ الله عليهم بالقرآن الكريم بوصية الرسول نفسه - صلى الله عليه وسلم – (تعاهدوا هذا القرآن) فالنبي - صلى الله عليه وسلم – أخبرنا أن القرآن يتفلت من الصدور، فإذا أراد صاحب القرآن أن يثبت القرآن في صدره فعليه أن يتعاهده بالمراجعة الدائمة، وأنا أنصح دائما الذين منَّ الله عليهم بالقرآن الكريم أن يكون لهم ورد كل يوم لا يقل عن ثلاثة أجزاء في اليوم الواحد، الحافظ ينبغي أن يكون له ورد من القرآن يقرأه كل يوم، لا يقل عن ثلاثة أجزاء في اليوم الواحد، بحيث يختم كل عشرة أيام خاتمة، فيختم في الشهر ثلاث خاتمات فبذلك يثبت القرآن في صدره - إن شاء الله -.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،نرجو منكم إعطائنا طريقة جيدة سهلة لحفظ كتاب الله ومعرفة أحكامه وتدبره، وبماذا توصي به من كتب التفسير للقرآن الكريم وأحكامه؟
(4/21)
---(1/115)
نحن نحمد الله سبحانه وتعالى حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، ونرجوه سبحانه وتعالى أن ينفع بهذه الحلقات وبهذه الدروس، السؤال الحمد لله تقريبا بدأنا الآن أربع حلقات تقريبا سئل هذا السؤال لثلاث مرات الحمد لله من إخوة متفرقين من الرجال والنساء، فهذا شيء طيب أن يقع حب حفظ القرآن في قلوب إخواننا وأخواتنا من المسلمين المسلمات، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يستخدمهم وأن يجعلهم من أهل كتابه إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونقول دائما ما قلناه: ننصح من أراد حفظ القرآن الكريم بإخلاص النية لله عز وجل، أولا أن يرغب في الحفظ طمعا في الأجر والثواب إيمانا واحتسابا، يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: (اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند أخر آية تقرأه).
(4/22)
---(1/116)
فهذا فضل عظيم، فحين يشعر المؤمن بذلك أن درجته في الجنة تتحدد يوم القيامة على قدر ما في صدره من القرآن يتنافس في حفظ الكتاب، فإذا رزق النية الصالحة المجردة لله سبحانه وتعالى عليه أن يشحذ الهمة ويقوي العزيمة ويأخذ الكتاب بقوة، يغتنم الأوقات ويستبق الخيرات، ما دام الله قذف في قلبك حب الحفظ فبادر واغتنم الفرص، فإن الله تبارك وتعالى يعاقب الإنسان إذا عرضت له فرصة من الخير ولم يغتنمها يعاقبه بعدم تمكينه منها بعد ذلك، كما قال تعالى ? وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ? [الأنفال:24]، فما دام الله ألقى في قلبك حب حفظ الكتاب؛ فبادر من اليوم، اجعل لنفسك مقررا تحفظه كل يوم خمس آيات، نصف صفحة، صفحة، عشر آيات والزم نفسك بهذا المقرر يوميا واعتبره كالوجبة الغذائية التي لا تستغني عنها أبدا، بحيث إنك لو دخلت فراشك ليلا لتنام وتذكرت أنك لم تحفظ تترك الفراش وتنزل فتتوضأ وتأخذ في حفظ ذلك المقرر الذي ألزمت به نفسك يوميا؛ فبذلك بهذه الاستمرارية وهذا الدوام تصل إلى النهاية - إن شاء الله – وننصح أن يكون الحفظ أولا من حزب المفصل، يعني من آخر القرآن الكريم حسب ترتيب المصحف، لا تبدأ بحفظ البقرة؛ لأن البقرة طويلة جزءان ونصف وكلها أحكام وهذه السورة غير مسموعة كثيرا ولا مقروءة كثيرا ولم تحفظ من قبل فيصعب عليك حفظها وتتعثر فيها لكن حزب المفصل أكثرت حفظه وأنت صغير في المدرسة أو في الكُتَّاب وتقرأه كثيرا وتسمعه كثيرا في المساجد في الصلوات فيسهل عليك إذا بدأت بحزب المفصل أن تحفظ - إن شاء الله –.
وأخيرا أقول لو أننا التزمنا بأن نحفظ الآيات التي نشرحها في كل درس - إن شاء الله- لكان ذلك كافيا وليس بعسير ليس بعسير الآيات التي نفسرها كل يوم نفسر خمس آيات ست آيات عشر آيات نلزم أنفسنا بحفظها والله يعيننا وإياكم ويجعلنا وإياكم من أهل القرآن الكريم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(4/23)(1/117)
---
نصلى وراء إمام يقرأ في سورة الفاتحة يقف عند مالك يوم الدين يقرأ مالك يوم الدين يسكن الكاف ما الحكم؟
أنا ليس عندي علم في القراءات لا أدري هل ?مَالِكْ? قراءة ثابتة، تصح القراءة بها أم لا فإذا كانت هذه القراءة ثابتة فلا مانع وأما إذا لم تكن هناك قراءة صحيحة بهذا اللفظ يجب أن يعلم هذا الإنسان القراءة الصحيحة الثابتة.
سؤال: هناك شخص يحاول أن يحفظ كتاب الله ولكن يخاف من حديث (أول من تسعر بهم النار ثلاثة...إلى آخر الحديث)
عافانا الله وإياه والمسلمين، هذه يا إخوان شبهة يلقيها إبليس على الناس ليصدهم عن كتاب الله، يقع في قلبك حب الحفظ وتأخذ في البداية فيأتيك الشيطان فيقول: لا ألا تعلم أن القرآن سيكون حجة عليك، أنت لا تستطيع أن تعمل بالقرآن كله، لا تستطيع أن تحفظ القرآن، فإذا حفظت كان حجة عليك لكن لن تستطيع العمل به كله فلا تحفظ حتى لا يكون حجة عليك.
يا أخا الإسلام الحجة ليست متوقفة على الحفظ، فالقرآن كله حجة علينا لأنه بلغنا، فوجب علينا جميعا أن نعمل به نحل حلاله ونحرم حرامه ونقف عند حدوده، لا فرق في ذلك بين الحافظ وغير الحافظ، فلا يخدعنك الشيطان ولا يصدنك عن آيات الله وتوكل على الله وابدأ والله يهديك سواء السبيل.
سؤال: بالنسبة للأكاديمية هل هناك اختبارات وهل تمنح الأكاديمية شهادة؟
نعم هناك اختبارات ونهاية الفصل الدراسي تمنح شهادة.
(4/24)
---(1/118)
سؤال: يا شيخ جزاكم الله خيرا في الدرس الماضي عندما سئلت عن ترتيب السور هل هو توقيفي؟ فأجبت أنه توقيفي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز مخالفة الرسم في ترتيب السور، وهذا واضح، ولكن تساؤلي عن الترتيب في القراءة وقلت أنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام ذات ليلة فقرأ بالبقرة والنساء وآل عمران فقدم النساء على آل عمران، وأنا سمعت شيخا يقول: أن تقديم سورة على سورة في الصلاة مكروه كما هي كراهية تقديم آيات على آيات في سورة واحدة فتقديم الآيات واضحة كراهيته؛ لأنه يخل بالمعنى لكن في السور قال أنه كذلك مكروها، وأعطى مثالا كأن تقرأ في الركعة الأولى سورة الناس وفي الركعة الثانية سورة الإخلاص، وقال: أن في ذلك عكس لترتيب المصحف، وأنت قلت: يا شيخنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قام ذات ليلة أي كان يصلى، فما الصحيح؟ هل أنه مكروه أو لا بأس به نفعنا الله بعلمكم.
آمين، جزاها الله خيرا وزادها الله حرصا.
الصحيح هو الذي قلناه، أنه لا بأس في القراءة بتقديم سورة على أخرى، في الحديث الصحيح الثابت هذا حديث في الصحيحين (أنه قام ذات ليلة فقرأ فافتتح البقرة ثم النساء ثم عاد إلى آل عمران، فهذا يدل على جواز تقديم سورة على أخرى في القراءة إن شاء الله، فلا حرج أن تقرأ في الركعة الأولى بالضحى ثم تقرأ في الثانية بالشمس، ومثل هذا لا حرج فيه - إن شاء الله - تعالى.
هل هناك أحد من الشباب له أي سؤال أو استفسار؟
جزاكم الله خيرا فضيلة الشيخ، هناك بعض الناس يؤمنون بجواز التوسل بالأموات الصالحين، ويستدلون في ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة أو بأفعال الأئمة الكبار، مثل قولهم بأن الشافعي صلى في المسجد الذي فيه قبر أبي حنيفة وتوسل به، أو مثل هذه الأشياء القصص التي لا نعلم لها دليل، فما حكم ذلك وإذا كان هذا خطأ، فما الخطأ في المنهج الاستدلالي في التفسير مثل هذه الأدلة لكي نتجنب ذلك.
(4/25)
---(1/119)
التوسل لا يجوز إلا بعملك، لا يجوز أن تتوسل إلى الله إلا بعمل تعمله أنت أو بطلب الدعاء من أخيك المسلم فيدعو لك، أما التوسل بالذوات وبالأشخاص في غيبتهم أوفي حضورهم فهذا ليس صحيحا، وهو توسل بدعي، مروي عن عمر رضي الله عنه أنهم لما حبست عنهم السماء فخرجوا يستسقون، قال عمر (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا يا عباس ادع لنا، فقام العباس ودعا الله سبحانه تعالى فسقاهم الله سبحانه وتعالى، فلو كان التوسل بذات النبي فضلا عن غيره لو كان التوسل بذوات الأشخاص جائزا لما ترك عمر - رضي الله عنه - التوسل برسول الله - صلى الله عليه وسلم – وتوسل بدعاء العباس، لكن عمر قال كنا نتوسل إليك بنبينا، يعني وهو بين أظهرنا حي، كنا نقول: يا رسول الله أجدبت البلاد ادع الله لنا، فكان الرسول يستسقى فيسقَو، والآن قد مات الرسول ولا نستطيع أن نتوسل به؛ لأنه مات، فنحن الآن نتوسل بعمه لا بذاته، أيهم أفضل عند الله النبي أم العباس؟ النبي - صلى الله عليه وسلم – أعظم جاها أفضل جاها في حياته وبعد مماته، فليس وإنا نتوسل إليك بعم نبينا نتوسل بذاته وإنما بدعائه: يا عباس ادع لنا فدعا العباس فسقَو بفضل الله عز وجل، فمن التوسل المشروع أن تتوسل إلى الله بصالح عملك، وتتوسل إلى الله بدعاء الصالحين لك، أقول لك يا أخي ادع الله لي لا حرج في ذلك، لكن لا تقول:اللهم إني أتوسل إليك بنبيك - صلى الله عليه وسلم – ولا تقول: اللهم إني أتوسل إليك بالإمام أحمد، ولا بالإمام الشافعي، ولا عبد القادر الجيلاني، ولا بالبدوي؛ لأن هذا توسل بدعي لا يجوز، والله تعالى يقول: ? أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ?36? وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ?37? أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ?38? وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ? [النجم:36-39]، فمن سعيك تقول مثلا في التوسل: اللهم إني أتوسل إليك بحبي(1/120)
(4/26)
---
لنبيك - صلى الله عليه وسلم- اللهم إني أتوسل إليك باتباعي لنبيك - صلى الله عليه وسلم – اللهم إني أتوسل إليك بإحيائي لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم – ومن التوسل المشروع أن تتوسل إلى الله بصالح عمل، تصوم يوما ثم تقول اللهم إني أتوسل إليك بصيام هذا اليوم إن كان خالصا لوجهك وابتغاء مرضاتك أن تقضي حاجتي، تتصدق بصدقة وتقول اللهم إني أتوسل إليك بهذه الصدقة إن كانت خالصة لوجهك وابتغاء مرضاتك أن تقضي حاجتي، كما في حديث الغار المشهور (انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار حتى دخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذا الصخر إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم، فقال: أحدهم اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق) أي لا أسقي لبن المساء (قبلهما أهلا ولا مالا فنأى بي طلب الشجر يوم) خرجت مع الغنم فابتعدت (فلم أرح عليهما حتى ناما، فرجعت فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهم) يعني ليشربا وأن أسقي قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون تحت قدمي) يعني العيال يبكون من الجوع لم يتعشى الصبية الصغار،وهو لا يريد أن يأكلوا قبل أبيه وأمه (فاستيقظا عند طلوع الفجر فقال: تفضلا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج معه، وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء فراودتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة) أي حاجة (من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينارًا على أن تخلي بيني وبين نفسه) فتحت إلحاح الحاجة رضخت واستسلمت، (فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وهي أحب النساء إلى وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن(1/121)
فيه،
(4/27)
---
فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج، فقال الثالث: اللهم إني كنت استأجرت أجراء فأعطيت كل أجير أجره غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فنميت له أجره حتى كان منه واد من الإبل وواد من البقر وواد من العبيد، فجاءني فقال يا فلان أعطني أجري، فقلت كل ما ترى من أجرك، قال يا فلان لا تستهزئ بي) أنا عملت عندك يوما لي عندك عشرة ريالات عشرين ريالا أعطنيها ولا تتهكم بي (فقلت إني لا أستهزئ بك كل ما ترى من أجرك فاستاقه كله فذهب به ولم يترك منه شيئا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون) وهكذا يكون التوسل الشرعي، أما التوسل بالذوات وبالأشخاص وبجاه فلان ولو كان نبيا من الأنبياء فهذا توسل بدعي لم يعرفه إلا المتأخرون والله تعالى أعلم.
السلام عليكم ورحمة الله ، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. سؤال: أقول حديث وأقول التحريف في الحديث بما أني لا أحفظه فأخاف في هذه الحالة أن أكون حرفت الحديث مع أني أعرف الحديث إلا أني لا أحفظه؟
قال الحافظ بن حجر - رحمه الله - في نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر (ولا تجوز الرواية بالمعنى إلا لعالم بما يحيل المعاني) يعني إنسان فصيح بليغ عنده لغة، يعرف أنه إذا استبدل لفظة بلفظة سيؤدي الغرض ويحقق المعنى فمن لم يكن كذلك لا تجوز له رواية المعنى مخافة أن يغير لفظة بلفظة فيغير المعنى كله؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم- يدعو لمن حفظ ما سمع وبلغه كما سمعه يقول: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فبلغها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع).
حتى فضيلة الشيخ لو لم تكن له قدرة على حفظ الأحاديث؟
ولو لم تكن له قدرة على حفظ الأحاديث،
(4/28)
---(1/122)
الحمد لله الله تعالى يسر لنا حفظ القرآن وحفظ السنة؛ لأن السنة هي المبينة للقرآن الكريم، والله تعالى قال: ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ? [القمر:17]، تكررت هذه الآية في سورة القمر مرات، ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ?، قال بعض السلف (فهل من طالب علم فيعان عليه)، فالعلم الحمد له ميسر حفظ القرآن ميسور وحفظ الأحاديث كذلك ميسور بإذن الله عز وجل.
سؤال: ذكرت فضيلة الشيخ مسألة النهي عن اتخاذ القبور مساجد فبماذا نرد على الذين يقولون: إن زيارة قبور الصالحين لمجرد التبرك بهم بدون إخراجهم بنسك أو توسل محبب أمر جائز؟
قال النبي - صلى الله عليه وسلم – ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ) فهذه هي الحكمة المشروعة من زياة القبور والمراد من القبور هنا القبور العامة مدفن المسلمين، مقابر المسلمين العامة مقبرة البلد كلها، وليس هناك خصوص في مقابر الصالحين ولكن زوروا القبور فإنها تذكر الآخرة ومن الخطأ أن يفرد من يظن في صلاح بقبر بعيد عن مقابر المسلمين، فهذه المقابر البعيدة غالبا ما يبنى عليها ويقام لها الموالد وتوقد عليها السرج، ويفعل عندها ما يشرك بالله عز وجل، فهذه المقابر التي تكون على هذه الحالة لا يجوز للمسلم أن يقصدها حتى للزيارة؛ لأنه سيكون مكثرا لسواد أهل البدع والضلالة والعياذ بالله.
سؤال: السلام عليكم ورحمة الله. إذا قرأنا كتاب الله ومررنا على أحد الآيات وفيها أمر يجب اتباعه، ولكني لم أطبقه لنسياني هذه الآية ولكن لو ذكرت بها سوف أتراجع عن الذنب، فهل هذا يكون حجة علي؟
الحمد لله جزاها الله خيرا وزادها حرصا، لا يمنع المسلم العمل بالحق إلا الجهل به، فإذا علم المسلم أن هذا حق وهو خير يحبه الله عمل به فلا شيء عليها إن شاء الله تعالى.
(4/29)
---(1/123)
سؤال: السلام عليكم ورحمة الله ، هل نقوم بالحفظ من كتاب مختصر تفسير ابن كثير أم نحفظ من شرحكم؛ لأن المحاضرات الأخيرة ليست مفرغة كتابة، فهل نحفظ من مختصر ابن كثير؟
من أراد أن يقتصر فليقتصر على مختصر بن كثير لشيخنا الرفاعي ومن أراد أن يزداد فليحاول أن يسجل هذا المحاضرات ويفرغها بيده كتابة عنده ينفعه الله بما فيها من الزيادة على ابن كثير إن شاء الله تعالى.
سؤال: ذكرت لإخواني أن قوله تعالى: ? ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعً?، تعني ثلاثمائة سنة شمسية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية والإخوة طلبوا مني إسناد وليس لي إسناد جزاكم الله خيرا.
جزاه الله خيرا، راجع كتب التفاسير ستجد هذا المعنى إن شاء الله، أما العلماء قالوا: أن الثلاثمائة هي مراد بها السنين الشمسية، وازدادوا تسعا هي زيادة السنيين الشمسية عن القمرية؛ لأن السنة الشمسية تزيد عن السنين القمرية أحد عشر يوما.
سؤال: ما العبرة في موت الكلب مع أصحاب الكهف جزاكم الله خيرا؟
الله تعالى أعلم.
سؤال: ما الحكم فيما لو جرى على اللسان قول - الله يعين إن شاء الله - وأن ننكر على من سمعناه يقول هذا، وكانت هذه عادته؟
لا والحمد لله أحيانا المسلم حين يتعود كلمة - إن شاء الله - فتجري على لسانه أحيانا في موضع ليس مناسبا أن يعلق على المشيئة، لكن لا حرج في ذلك إن شاء الله.
سؤال: كيف نميز بين العلماء الربانيين وغيرهم؟
(4/30)
---(1/124)
الله تبارك وتعالى بفضله وكرمه رفع لأهل السنة ذكرهم فلا يخفون على الناس، (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي وهم كذلك)، الحمد لله، الله تعالى رفع لأهل السنة ذكرهم في كل مكان وإن قلوا لكنهم معروفون فلا يلتبس أهل السنة بأهل البدعة، فالناس الحمد لله تميز السنية من المبتدع، فليس في ذلك خفاء إن شاء الله تعالى، وإذا كان الإنسان لا يعرف عالما يسأله يسأل إخوانه، يقول: يا أخي فلان عندي مسألة أريد أن أسأل فيها من أسأل جزاك الله خير، إخوانه يدلونه على العلماء الربانيين، أهل السنة ومرجع الفتيا بإذن الله عز وجل.
سؤال: في قول الله عز وجل ? وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ?23? إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ?، ما سبب نزول هذه الآية الكريمة على الرسول - صلى الله عليه وسلم- وهل لها علاقة بأهل الكهف؟
كل ما تقرءون في كتب التفاسير من أسباب نزول سورة أو آية أسكت عنه أنا فغالبا سكوتي لا يكون إلا لضعف ذلك الذي نزل في سبب النزول، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أنهم لما سئلوا النبي - صلى الله عليه وسلم – سؤال عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، النبي قال لهم: سآتيكم بالجواب غدا، ولم يقل إن شاء الله وكان يطمع أن ينزل عليه الوحي، فتأخر عليه الوحي ولم يجبهم كما وعدهم، فلما نزلت السورة بالجواب قال الله تعالى لرسوله - عليه الصلاة والسلام – و? وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ?، ولكن هذا لا يصح.
سؤال: ذكرت فضيلة الشيخ مسألة النهي عن اتخاذ القبور مساجد فبماذا نرد على الذين يقولون إن زيارة قبور الصالحين لمجرد التبرك بهم بدون إخراجهم بنسك أو توسل محبب أمر جائز؟
(4/31)
---(1/125)
العلوم تحيا بالمدارسة والمذاكرة، العلم يحيا في القلب ويحيا فيه بالمدارسة والمذاكرة، سمعت هذه المحاضرة اليوم، حاول أن تسمعها غدا وبعد غد، وفرغها واكتبها وعاود النظر فيها بين الحين والحين، فبذلك يثبت العلم من التفسير وغيره، في صدرك إن شاء الله تعالى.
سؤال: هل التنازع الذي حدث في عدد أصحاب الكهف كان بين من عاصروا الحدث أم بعد ذلك؟ لأنني فهمت منكم أنه حدث فيمن تبع الفتى المؤمن، فكيف لم يستطيعوا معرفة العدد وهم يستطيعون الدخول إلى الكهف عليهم؟
حفظ الله تعالى أهل الكهف في نومهم فلم يدخل عليهم أحد وهم نيام وحفظهم بعد موتهم فلم يدخل عليهم أحد بعد موتهم، فلذلك لم يستطيعوا أن يعرفوا عددهم.
سؤال: أود أن أعرف أيهم أصح في الكتابة؟ إنشاء الله أو إن شاء الله.
أصحهما ما هو في المصحف فانظري المصحف وكيف كتبت هذه اللفظة، فيكون هذا هو أصح أوضاع الكتابة إن شاء الله تعالى.
(4/32)
---(1/126)
السؤال الثاني: أن يخبرنا الشيخ عن صحة هذه الرواية، من فوائد سورة الكهف يحكى أن أحد العلماء كان يحث ابنه ويوصيه على قراءة القرآن منذ أن كان صغيرا وكان يعلمه حفظ القرآن وطريقة تجويده، وفي يوم من الأيام دعا العالم ابنه وقال له سأخبرك بسر من أسرار سورة الكهف، إنها آيات إذا قرأتها قبل نومك فإنها توقظك عند أذان الفجر، شرط أن تغمض عينيك وتقرأ هذه الآيات وبعد ذلك تنام، استغرب الابن قول أبيه مع أنه لا غريب في القرآن، قرر الولد تجربة وصية أبيه، وعندما حل الظلام وحان وقت النوم قرأ الولد تلك الآيات وبالفعل استيقظ عند أذان الفجر، فما كان من الابن إلا أن شكر والده وشكر ربه على هذه النعمة وهذه الآيات هي: ? إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ?107? خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ?108? قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ?109? قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ?110??.
هكذا سمعنا هذه الرواية، ولم نقرأها في كتب ولكن سمعناها، وهي لا أصل لها ولا تصح والتعبد بالقرآن الكريم لا يكون إلا بتوقيف من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأدعية والأذكار والسور والآيات التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأها ورغب في قرأتها عند النوم صحيحة ثابتة معلومة، ولم نقرأ في صحيح السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم – رغب في قراءة خواتيم سورة الكهف عند النوم.
سؤال: هل يفيد أن أقول إن شاء الله بعد فترة من الحلف؟
(4/33)
---(1/127)
بعد فترة قصيرة لو قلت والله لأفعلن كذا، وسكت برهة من الزمان ثم تداركت فقلت - إن شاء الله - فهنا الكلام متصل، أما بعد ربع ساعة ونصف ساعة لا يكون هناك اتصال ففيه انقطاع فلا يلحق الاستثناء اليمين أو الكلام.
سؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل قول عسى في اللفظ القرآني يفيد التحقيق؟
هي - إن شاء الله تعالى- من الله موجبة كما يقول المفسرون، ? إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ?[التوبة:18].
عسى في اللغة للترجي، لكن المفسرين قالوا: هي من الله إن شاء الله موجبة ولكن الله أتى بها حتى يقطع الإنسان نظره عن عمله ولا يتكأ عليه يعني مع عملك الصالح عسى أن تكون من المفلحين وعسى أن تكون من المهتدين، حتى يكون الطمع في رحمة الله لا اتكالا على العلم؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم – قال (لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).
سؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،هل العملة الورقية التي معهم هي التي بينت وقت مكثهم أم هناك رواية من الحديث الشريف؟
لا ليست هناك رواية ما السبب في أنهم اطلعوا عليه وأمسكوه، لكن اختلاف العملة جعل الرجل يشك، لأن الرجل كل يوم يتعامل مع الناس، فوجد عملة تختلف عن عملة كل الناس، ولو كانت العملة هي العملة لا اختلاف فيها ما اطلع عليهم، ولكن الله قدر ذلك؛ ليطلعهم عليهم كما قال عز وجل ? وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ? أي أطلعنا الناس عليهم، للحكمة التي بيناها، ? لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَ?.
سؤال: هل ذكر المشيئة دائما يعتبر من عدم التوكل أم من التوكل التام؟
(4/34)
---(1/128)
لا نحن نتوكل على الله ونقول -إن شاء الله- ونحن على يقين أن كل شيء يجري بتقدير الله ومشيئته لا بمشيئتنا نحن فقد قال بعضهم:
فما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن
فكل شيء يجري بتقيد الله تعالى ومشيئته ومشيئة الإنسان مرتبطة بمشيئة الله، ليس كل ما تشاءه يكون، لا يكون ذلك إلا لله عز وجل كل ما شاءه الله كان.
سؤال: بالنسبة لكلمة بإذن الله وإذا أراد الله، هل تنطبق عليه البركة التي ذكرتها في كلمة إن شاء الله؟
هي بمعنى إن شاء الله بإذن الله إن أراد الله هي بمعنى إن شاء الله.
(4/35)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
قصة صاحب الجنتين
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
ثم مرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة الكهف، والآيات المباركات التي معنا اليوم تضمنت من المعاني ما يلي:
أولاً: الأمر بصحبة الصالحين ولو كانوا فقراء.
ثانياً: ما على الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا البلاغ .
ثالثاً: جزاء الكافرين والمؤمنين في الآخرة.
رابعاً: مثل الغني الكافر والفقير الشاكر.
خامساً: كثرة الأموال والأولاد لا تدل على رضا الله - عزّ وجلّ - .
سادساً: إبطال اعتقاد الكافرين أن لهم في الآخرة مثل ما لهم في الدنيا .(1/129)
سابعاً: استحباب قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله عند رؤية النعمة .
وأخيراً: جواز الدعاء على الظالم نفسه بزوال نعمة الله تعالى عنه .
و هذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات الآن من سورة الكهف من المعاني، والتي نعيش في رحابها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالى .
فلنستمع إلى هذه الآيات المباركات أولاً قبل الخوض في تفاصيلها سائلين الله - عزّ وجلّ - أن ينجز لنا ما وعدنا، حيث قال ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?[الأعراف:204].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(5/1)
---(1/130)
? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ?28? وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ?29? إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ?30? أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ?31? وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ?32? كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ?33? وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ?34? وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ?35? وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ?36? قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
(5/2)(1/131)
---
سَوَّاكَ رَجُلًا ?37? لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ?38? وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ?39? فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ?40? أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ?41? وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ?42? وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ?43? هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ?44??[الكهف : 28-44].
? كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ?[ص:29].
? لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الحشر:21].
? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر:23].
(5/3)
---(1/132)
إخوة الإسلام للناس قيم وموازين يقيمون بها بعضهم بعضا ويزنون بها بعضهم بعضا، مرد هذه القيم والموازين إلى كثرة المال والولد وعظمة الجاه والسلطان، فمن كان كثير المال كثير الولد، عزيز الجانب، عظيم الجاه والسلطان كان عند الناس ذا مكانة ومنزلة عالية، ومن قل ماله وولده، ولم يكن له نصيب من الجاه والسلطان كان عند الناس وضيعاً لا يأبه له ولا يسمع لقوله .
وهذه القيم والموازين خاطئة و باطلة ومردودة جاء الإسلام ليصحهها، ويضع مكانها القيم والموازين الصحيحة الثابتة المعتبرة .
قال الله تعالى ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ?[الحجرات:13].
وظل - النبي صلى الله عليه وسلم - يعمل جاهداً لإبطال هذه القيم والموازين الباطلة الخاطئة وترسيخ القيم والموازين الصحيحة الثابتة.
بينما - صلى الله عليه وسلم - جالس وعنده رجل إذ مر بهما رجل، فقال - النبي صلى الله عليه وسلم - لجليسه ( ما تقول في هذا ؟ قال يا رسول : هذا رجل من أغنياء الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، فسكت - النبي صلى الله عليه وسلم - حتى مر بهما رجل آخر فقال لجليسه ما تقول في هذا ؟ قال يا رسول الله : هذا رجل من فقراء الناس هذا والله إن خطب حري ألا ينكح وإن شفع ألا يشفع وإن قال ألا يسمع لقوله، فأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى الرجل الثاني الفقير، وقال: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ).
هذا الفقير خير عند الله - عز وجل - من ملء الأرض من مثل هذا الغني، لماذا؟ لأن الله تعالى لا يزن الناس بميزان الأموال والجاه والسلطان، وإنما يزنهم بميزان التقوى ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? .
(5/4)
---(1/133)
ومن عادة ذوي الجاه والسلطان والثراء والغنى أنهم يأنفون من مجالسة الفقراء ويأنفون من مخالطتهم ومصاحبتهم، ولذلك جاء الملأ من قريش إلى - النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا محمد اطرد عنك هؤلاء الفقراء ونحن نجلس إليك فنحن أغنى وأكثر أموالاً وأولاداً منهم، هم لا ينفعونك إذا جالسوك، ولكننا ننفعك إذا جالسناك، فاطرد عنك هؤلاء الفقراء ونحن خير لك منهم نجالسك ونستمع إليك، فنهاه الله - تبارك وتعالى - عن ذلك فقال ? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُط?28??[الكهف:28].
فأمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر نفسه مع الفقراء .
والصبر في اللغة الحبس، ترى رجلاً مبتلى، يتكلم بكلام السخط، والفزع والشكاية فتنهاه عن ذلك فتقول اصبر، اصبر أي احبس هذه الشكاية، واحبس هذا الضجر والفزع ولا تتعرض، ولا تعترض على قضاء الله - تبارك وتعالى - فالصبر في اللغة معناه الحبس .
(5/5)
---(1/134)
فأمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يحبس نفسه مع هؤلاء الفقراء والمساكين? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ? إن هؤلاء الفقراء المساكين يدعون الله - تبارك وتعالى - ويذكرونه ويسبحون بحمده بكرة وأصيلا، بالغداة والعشي، وهم مخلصون لله - تبارك وتعالى - في ذلك وفى مخالطتك ومعاشرتك ومجالستك لا يقصدون بمخالطتك ومعاشرتك أي غرض دنيوي وإنما يريدون فقط وجه الله - تبارك وتعالى - فاصبر نفسك معهم ? وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? لا تلتفت بعينك إلى ما فيه الأغنياء من الجاه والسلطان وكثرة المال والولد فهذا كله من زينة الحياة الدنيا .
وقد أخبرناك فيما سبق في أول السورة ما نحن صانعون بزينة الحياة ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ?7? وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ?8? ?[الكهف:7-8].
فما هم فيه من المال والولد والجاه والسلطان إلى فناء وإلى زوال فلا تعدو عيناك عن هؤلاء الفقراء والمساكين إلى الأغنياء تريد زينة الحياة الدنيا .
وقال تعالى ? وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً ?129? فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ?130? وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ?131? وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ?[طه:129-132].
(5/6)
---(1/135)
? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ?.
لا تطع هؤلاء الأغنياء الذين دعوك إلى طرد الفقراء والمساكين من مجلسك لتستبدل بهم أي بالفقراء هؤلاء الأغنياء والأثرياء لا تطعهم فيما دعوك إليه فهل الله - تبارك وتعالى - هو الذي أغفل قلوب الأغنياء الكفار عن ذكره؟ نعم.
فلماذا يعاقبهم وهو الذي أغفل قلوبهم عن ذكره ؟ ? وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ? إن الله - تبارك وتعالى - أمرهم بذكره وأمرهم بالتسبيح بحمده آناء الليل وأطراف النهار ولكنهم كما وصفهم الله - تبارك وتعالى - ? نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ?[الحشر:19] ? نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ?[التوبة: 67] ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ?[الصف: 5].
فالله - تبارك وتعالى - أمر بذكره وأمر بالتسبيح بحمده، ولكن هؤلاء الأغنياء الأثرياء أعرضوا عن ذكر الله وعطلوا حواسهم عن استخدامها فيما خلقت له من طاعة الله - تبارك وتعالى - فعاقبهم الله تعالى فأغفل قلوبهم عن ذكره فلا يستطيعون ذكره ولا يتمكنون منه أبداً.
? وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ? واتباع الهوى يفضي بالإنسان إلى الهلاك والخسران والضياع، ولذلك قال ? وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ? أي ضياعاً وهلاكاً وخساراً والهوى عدو من أعدى أعداء الإنسان كما قال الشاعر الحكيم :
إني بليت بأربع ما سلطوا إلا لشدة شقوتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي؟
(5/7)
---(1/136)
فهوى النفس من أعدى أعداء الإنسان، ولن ينجح الإنسان، ولن يفوز، ولن يسعد في الدنيا والآخرة إلا بمخالفة هواه كما قال تعالى ? فَأَمَّا مَنْ طَغَى ?37? وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ?38? فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ?39? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ?40? فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ?41??[النازعات:37-41].
فليحذر الإنسان أن يكون متبعاً لهواه من حيث لا يشعر ولا يدري، وعليه أن يزن نفسه بين الحين والحين بميزان الكتاب والسنة، فإن رأى نفسه متبعاً للكتاب والسنة فهو على الهدى، وإن رأى منه مخالفة للكتاب والسنة فهو متبع هواه ولابد؛ لأنه إما أن يكون متبعاً للهدى، وإما أن يكون متبعاً للهوى كما قال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ? فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ?[القصص:50] .
? وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ?28? وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ?[الكهف:28-29].
يا رسولنا ما عليك إلا البلاغ فلا تهتم بمن أعرض عنك، ولا تعرض عمن أقبل عليك، ولكن من أقبل عليك فأقبل عليه، ومن اهتم بك فاهتم به، ومن أعرض عنك فاعرض عنه، وما عليك إلا أن تصدع بالحق الذي أوحاه الله إليك، وأن تقول: الحق من ربكم.
(5/8)
---(1/137)
والحق إما أن يكون فاعلاً لفعل محذوف تقديره: قد جاءكم الحق من ربكم، وإما أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: هذا الذي أتلوه عليكم هو الحق من ربكم ? وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ? هذا الذي أتلوه عليكم وهذا الذي جئتكم به هو الحق من عند الله - سبحانه وتعالى - فمن شاء فليؤمن بعد سماع الحق، وبعد سماع القرآن، وبعد بلوغ الحجة، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، فلا إكراه في الدين لماذا ؟ لأنه قد تبين الرشد من الغي، لا إكراه في الدين ? أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ?[يونس: 99] فلا إكراه في الدين ولكن حرية واختيار مطلق، من أراد أن يختار الإيمان لنفسه فليختاره، ومن أراد أن يختار الكفر فليختاره، ولكن هذا القول وهذا الأمر خرج مخرج الترغيب والترهيب، خرج مخرج الترغيب والتخويف والتهديد، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، يعني فإنا مجازون المؤمن بإيمانه خيرا، ومجازون الكافر بكفره شرا، كما قال تعالى ? اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ?[فصلت: 40] .
من شاء أن يفعل الخير فليفعله ومن شاء أن يفعل الشر فليفعله، فمرد الجميع إلى الله - تبارك وتعالى - يوم القيامة لتجزى كل نفس كسبت، وتوفى كل نفس ما عملت .
? وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ? ثم مرد الجميع إلى الله يوم القيامة؛ ليجزي الكافرين بكفرهم، ويجزي المؤمنين بإيمانهم .
فبدأ - سبحانه وتعالى - بذكر جزاء الكافرين فقال ? إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً ?[الكهف: 29].
(5/9)
---(1/138)
? إِنَّا أَعْتَدْنَا ? أعتدنا فعل ماضٍ، فالنار أعدت وخلقت ووجدت فهي الآن موجودة، كما أن الجنة الآن موجودة، ولذلك قال الإمام الطحاوي -رحمه الله:- في شرح عقيدته عقيدة أهل السنة والجماعة، التي نسبت إليه العقيدة الطحاوية قال : والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان .
فالجنة خلقت وهي موجودة الآن، والنار خلقت وهي موجودة الآن، تنتظر كل منهما أهلها يوم القيامة، يوم الآزفة يوم يخرجون من الأجداث سراعاً فداخل الجنة وداخل النار .
? إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً ? المراد بالظالمين هنا الكافرون، المشركون، فإن الله - تبارك وتعالى - قال ? وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ?[البقرة: 254] وقال تعالى ? إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ?[ لقمان: 13].
فقوله تعالى ? إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ ? المراد بالظالمين هنا الكافرون، المشركون .
? إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ? أحاطت النار بأهلها من جميع الجهات: من فوقهم، ومن تحتهم، ومن بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، نسأل الله العافية .
كما قال تعالى ? لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ?[الزمر:16] وقال تعالى ? لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ?[الأعراف:41] .
وقال تعالى ? لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ ?[الانبياء:39] فالنار تحيط بأهلها من الجهات الست، من فوقهم، ومن تحتهم، ومن بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، وهذا معنى قوله تعالى ? اصْلَوْهَا ? يعني ادخلوها دخولاً فتحيط بكم من الجهات كلها، وتغمركم من جميع جهاتكم.
(5/10)
---(1/139)
? إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا ? يطلبوا الغوث والإغاثة مما هم فيه من هذا العذاب، وإن يستغيثوا ويستصرخوا ويطلبوا من يخلصهم من العذاب أو يصرفهم عنهم ? وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا ? ولكن بما يغاثون ؟
? يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ? نسأل السلامة والعافية، بماء كالمهل، والمهل: هو الزيت في وقت غليانه، الزيت في القدر يغلي فيرتفع أسفله إلى أعلاه وينزل أعلاه أسفله دواليك، كالمهل يغلي في البطون ? وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ? إذا أدناه من وجهه أسقط لحم وجهه ببخاره والعياذ بالله ? وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ? فإذا دنا هذا الماء من وجه الكافر الظالم وهو في النار أسقط لحم وجهه فماذا يفعل إذاًَ إذا شربه؟! إذا كان إذا أدناه من وجهه أسقط لحم وجهه، فماذا يصنع إذا دخل بطنه؟! قال تعالى ? وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ?[محمد: 15] ? يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ?19? يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ?[لحج:19-20] عافانا الله والمسلمين .
? وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا ? ولكن بم يغاثوا ؟ ? يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ? شراب القوم في جهنم ? وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً ? قال ابن عباس ساءت منزلا .
فهذا المنزل منزل الكافرين في النار بئس المنزل، شر المنازل على الإطلاق النار وساءت مرتفقا.
(5/11)
---(1/140)
ثم ذكر الله - تبارك وتعالى - جزاء المؤمنين فقال ? إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ?30?? وجملة أحسن عملا، قد مضت معنا في أول السورة ? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ?[الكهف:7] فالآن الله - تبارك وتعالى - يبين لنا جزاء من أحسن عملا فيقول ? إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ? إذاً إحسان العمل لا يكون إلا بالإيمان التام في القلوب، والعمل الصالح على الجوارح، إن الذين آمنوا يعني بقلوبهم الإيمان التام المستلزم لصالح العمل بجوارحهم.
فإن الإيمان إذا كمل في القلب وتم؛ استلزم صالح العمل كما قال تعالى ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ?24? تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ?[ابراهيم:24-25] فهذا مثل الكلمة الطيبة كلمة التقوى كلمة التوحيد، حين تستقر في القلب وتضرب جذورها في أرضه، ترتفع أغصانها بثمارها إلى سماء القلب، وتمتد الثمار على الجوارح الظاهرة أعمالاً صالحة تصعد إلى السماء كل صباح ومساء.
(5/12)
---(1/141)
? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ? روي أن المسيح عيسى بن مريم - عليه السلام - قال لبني إسرائيل: من عمل منكم عملاً صالحاً فليلهو عنه فإن الله لا يضيعه، ومن عمل منكم عملاً سيئا فليعده، وهذا الكلام روي مثله عن عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - وقد بلغه أن رجالاً اجتمعوا في المسجد حلقة وبين يدي أحدهم مجموعة من الحصى، فهو يقول للحاضرين معه سبحوا مائة، فيقولون: سبحان الله، سبحانه الله، وهو يعد بالحصى فإذا أتموا مائة تسبيحة قال كبروا مائة، فيقولون: الله أكبر، الله أكبر، وهو يعد بالحصى وهكذا، فلما بلغ ذلك ابن مسعود - رضي الله عنه - قال لمن بلغه إذا رأيتهم فأعلمني إذا رأيتهم اجتمعوا مرة ثانية على هذه الطريقة المبتدعة من الذكر فأعلمني، فلما اجتمعوا ناداه فقام عليهم وقال: أنتم أهدى من محمد وصحبه، أو مفتتحوا باب ضلالة، أنتم تعملون عملاً لم يعمله محمد وأصحابه، فإما أن تكونوا أهدى من محمد وصحبه، وهذا لا تزعمونه، وإلا كنتم مفتتحي باب ضلالة، فقالوا يا أبا عبد الرحمن والله ما أردنا إلا الخير قال: كم من مريد للخير لم يبلغه، ثم قال: القول الموافق لقول المسيح - عليه السلام - يا معشر الناس عدوا سيئاتكم وأنا ضامن ألا يضيع الله من حسناتكم شيئا .
لماذا؟ لأن الله تعالى قال ? إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ?[النساء:40] وقال ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ?[الانبياء:47] .
(5/13)
---(1/142)
وهنا يقول تعالى ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ? إذاً إذا عملت عملاً صالحاً فالهو عنه، يعني لا تلفت إليه ولا تعده ولا تهتم به لماذا؟ لأنك لو عددت حسناتك لو أحصيت صالح عملك سيحملك ذلك على أن تستكثر ما قدمت لله - تبارك وتعالى - والله تعالى قد نهى عن ذلك فقال ? وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ?[المدثر:6] .
إذاً اجتهد في صالح العمل ولا تعده؛ لأن الله تعالى أحصاه وعده وحفظه ولم يضيعه أبداً، أما إذا عملت عملاً سيئاً فعده واحفظه ودائماً ذكر نفسك به لا تنسَ سيئاتك أبداً، انسَ حسناتك، فإن الله تعالى لن ينساها ولن يضيعها، لكن سيئاتك اذكرها وتذكرها دائماً وذكر نفسك بها حتى تراها كالجبل تخاف أن يقع عليك فيحملك ذلك على ترك السيئات، والابتعاد عن الخطايا والذنوب .
(5/14)
---(1/143)
? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ? وما هو أجرهم يا رب الذي وعدتهم به ؟ ? أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ? يعني جنات إقامة وخلود وبقاء لا يبغون عنها حولا وما هم منها بمخرجين ? جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ? أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى ? تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ? يحلون يعني أهل الجنة، والجنة يدخلها الرجال والنساء، فهل الرجال في الجنة داخلون في هذا الوعد يحلون فيها من أساور من ذهب ؟ نعم، ? وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ? إن الله - تبارك وتعالى - حرم علينا نحن الرجال في الدنيا حرم علينا التحلي بالذهب والحرير، فلبس الحرير الخالص الطبيعي حرام على الرجال، ولبس الذهب حرام على الرجال، فمن استجاب وترك لبس الحرير والذهب في الدنيا لبسهما في الآخرة؛ لأن من ترك شيئا لله عوضه الله خيراً منه، ومن لبس الذهب والحرير في الدنيا لم يلبسهما في الآخرة وإن دخل الجنة.
كما أن من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة وإن دخل الجنة.
فأهل الجنة جميعاً يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق .
والنبى - صلى الله عليه وسلم - يقول ( تبلغ الحلية من المؤمن مبلغ الوضوء ) ? فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ?[المائدة: 6] فهذا مبلغ الوضوء، فمبلغ الوضوء هذا تلبس فيه الحلي من الذهب في الجنة إن شاء الله تعالى، وتلبس الثياب من سندس وإستبرق متكئين فيها على الآرائك، والاتكاء جلسة خلو البال وصفاء المزاج، إنسان صفا مزاجه وخلا باله وذهبت همومه وغمومه فجلس على الأريكة متكئا، فالاتكاء على الأرائك جلسة خلو البال وصفاء المزاج .(1/144)
(5/15)
---
وأهل الجنة ليس عندهم في الجنة ما يعكر صفوهم ولا يشغل بالهم .
ولذلك حكى الله - تبارك وتعالى - عنهم أنهم لما دخلوا الجنة قالوا ? وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ?34? الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ?[فاطر:34-35] .
? نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ? في مقابل النار ? وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً ? وهذه الجنة ونعيمها وحسنت مرتفقا .
نعم المنزل الجنة، وبئس المنزل النار، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار .
ثم قال الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ? وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ? اضرب لهؤلاء الأغنياء الذين دعوك إلى طرد الفقراء من مجلسك ليجلسوا هم إليك، اضرب لهم مثلا ليعرفوا أن القيم والموازين التي يقيمون بها ويزنون لا وزن لها عند الله - تبارك وتعالى - واضرب لهم مثلاً رجلين أحدهما: غني كافر، والثاني: فقير شاكر، ? وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ ? اسمع وتصور وتخيل جمال الجنة ? جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ?32? كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ?33? وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ? .
إذاً أنت الآن أمام جنة والجنة هي البستان العظيم، أمام بستان عظيم، بستان مليء بشجر عنب داخله العنب وسوره الذي يحيط به من نخيل، وبين العنب زرع مختلف الأشكال والألوان .
(5/16)
---(1/145)
إذاً أنت الآن أمام بستان عظيم محاط بسور كبير من النخل وداخل البستان العنب وبين العنب زرع مختلف الأشكال والألوان، والله - سبحانه وتعالى - فجر لذلك الرجل في جنته نهرا، فجره الله تعالى له في الجنة، فهذا النهر شق الجنة إلى جنتين عن اليمين وعن الشمال فهي جنة واحدة ولكن في وسطها نهر شقها جنتين، ولذلك قال ? جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ? ثم قال بعد ذلك ? وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ? فهي جنة واحدة ولكن النهر في وسطها شقها نصفين فكانتا كالجنتين ? وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ?32? كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ?33??
كل من الجنتين آتت وأعطت ثمارها كاملة غير منقوصة؛ لأن الله أذن لها في ذلك، الله تعالى أذن لهذه الأرض أرض الجنتين أن تؤتي ثمارها ولا تمسك شيئا، فآتت أكلها وأطاعت ربها ولم تظلم منه شيئا.
فسبحان الله انظر كيف أطاعت الجنة الجماد التي لا عقل لها كيف أطاعت أمر ربها وكيف عصى الإنسان العاقل ربه وجحد فضله، ودخل جنته وهو ظالم لنفسه .
? كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ?33? وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ? من النخل والعنب والزرع على اختلاف أشكاله وألوانه .
هذا الغنى وهذا الثراء وهذه السعة حملت هذا الإنسان على الكفر والأشر والبطر، والله تعالى يقول ? كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى ? متى ؟ ? أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ?[العلق:6-7] ? كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى ?6? أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ?[العلق:6-7].
(5/17)
---(1/146)
فالرجل نظر إلى ماله وكثرته وكثرة ثماره؛ فطغى وتكبر وتعالى على صاحبه المؤمن الفقير، ? فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ? 34?? مالي أكثر من مالك، وأولادي أكثر من أولادك، فأنا أعلى منك جاهاً وسلطاناً، وأرفع منك قدراً وأعلى منك شأناً ومنزلة ? فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ? 34?? ودخل جنته حالة كونه ظالماً لنفسه ? وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ? فنظر فيها وما فيها من الثمار والزروع المختلفة الأشكال والألوان فنظر فيها نظرة الطويل الأمل الذي لا يخطر الموت على باله أبداً.
قال: وهو ينظر في جنتيه عن اليمين والشمال ? مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ? هل يعقل أن تزول هذه الجنة ؟ هل يعقل أن تبيد هذه الجنة؟ هل يعق أن يأتي يوم علي أفقد فيه هذه الجنة وهذا البستان ما أظن، ? مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ?35? وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ? الساعة القيامة التي يحدثني عنها صاحبي ويزعم أن بعد هذه الحياة حياة أخرى نحيا فيها بعد مماتنا ونجزى فيها بأعمالنا، أنا ما أظن أن كلام صاحبي حقاً وما أظن الساعة قائمة، ولئن رددت لو سلمت فرضا وجدلا أن كلام صاحبي هذا حق وأن بعد الموت بعث وأن بعد الموت حياة وأن هناك نعيم مرة ثانية بعد هذا النعيم ولئن رددت إلى ربي لأجدن بخيراً منها منقلبا .
(5/18)
---(1/147)
مساكين أهل الدنيا يظنون أن كثرة الأموال والأولاد عنوان رضا الله - تبارك وتعالى - عنهم ، أبداً ليست كثرة الأموال والأولاد عنوان رضا الله - تبارك وتعالى - وإنما الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولذلك لما قالوا ? وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ?[سبأ:35] أمر الله - تبارك وتعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ? قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ?36? وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ?[سبأ:36-37].
ولذلك قال تعالى ? أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ?55? نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ ?[المؤمنون:55-56] .
وقال تعالى ? وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ?[آل عمران:178] .
وقال تعالى ? فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ?15? وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ?[ الفجر:15-16] قال تعالى ? كَلا ? ليس الأمر كما تظنون ليس الأول الذي وسعت عليه بمكرم، وليس الثاني الذي قدرت عليه رزقه بمهان، كلا وإنما الأول مبتلى بالغنى، والثاني مبتلى بالفقر .
(5/19)
---(1/148)
الله تعالى ابتلى الغني بالغنى؛ ليرى أيشكر أم يكفر، وابتلى الفقير بالفقر؛ ليرى أيصبر أم يجزع، والمهم أن تنجح وليس المهم مادة الامتحان، مادة الامتحان ليست من الأهمية بمكان المهم هو النتيجة، فالغني مبتلى، والفقير مبتلى، والمهم أن تنجح إن كنت غنياً فتشكر الله - سبحانه وتعالى - أو تنجح إن كنت فقيراً فترضى بما قسم الله - تبارك وتعالى - لك وتعلم أن المال والأولاد لا يغنوا عن أصحابهما شيئاً يوم القيامة ? وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ?[سبأ:37] .
? وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً ?[الكهف:35] وما أظن الساعة قائمة كما يزعم صاحبي، ولو سلمت فرضاً وجدلاً ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً قال تعالى ? أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا ?77?? يعني يوم القيامة ? أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ? فعلم أن له عند الله يوم القيامة مالاً وولداًَ ? أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ?78?? أن يعطيه في الآخرة كما أعطاه في الدنيا؟ كلا، لا هذا ولا هذا ? كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ?79? وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ?80??[ مريم:77-80].
يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهل وماله ويبقى عمله، ولذلك قال تعالى ? وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ? [الأنعام:94] .
(5/20)
---(1/149)
لن تخرج من هذه الدنيا بمال، ولن تخرج منها بسلطان ولا بجاه، وإنما لن تخرج منها إلا بالعمل الصالح، فإن وفقت لذلك فزت بنعيم الجنة أبداً، ومن لم يوفق للعمل الصالح خاب وخسر في الدنيا والآخرة .
? وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً ?35? وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ?36? قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ ? المؤمن الفقير ?أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ ? إن هذا لشيء عجاب ? أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ?37?? إن هذا لشيء عجاب، ? كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ?[البقرة:28].
? يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ?6? الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ?7? فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ?8??[ الانفطار:6-8].
? لماذا قال خلقك من تراب، وهو مخلوق من نطفة ؟ لأن هذا الإنسان ابن أبيه آدم وأبوه آدم خلقه الله تعالى من تراب، فهو وإن كان خلق من نطفة إلا أن له نصيباً في خلق أبيه ? أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ?37?? إن هذا لشيء عجاب كما قال القائل :
فواعجبا! كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد ؟
وفى كل شيء له آية تدل على أنه واحد
رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولاً، هذا والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تقول السلام عليكم، أسأل عن صاحب الجنة هل كان كافراً مشركاً، أم كافراً للنعمة وهل كان بعدما نزل الاستدراج؟
(5/21)
---(1/150)
كان كافراً بالله مشركاً به فلم يكن كافراً للنعمة أبداً، لأنه قال ? وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ? فكان كافراً بالله وباليوم الآخر وكفى بذاك كفراً والعياذ بالله .
السلام عليكم، أسأل كيف الله - سبحانه وتعالى - أمر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عن أن يجالس الفقراء ولا يسمع الأغنياء ؟ وكيف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعاذى من الفقر ؟
الكفار عرضوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد الفقراء من مجسله ولا يقبلهم وأن يستبدل بهم الأغنياء فنهى الله - تبارك وتعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لكن النبى - صلى الله عليه وسلم - ما ترك مجالستهم للدعوة إلى الله تعالى وإقامة الحجة، فالآية فيها أمر بالصبر على مجالسة الصالحين، ولو كانوا فقراء وفيها نهي عن مجالسة الأغنياء، إذا كانوا ضعاف الإيمان فضلاً عن أن يكونوا كفار، ولذلك ذكر العلماء في شروط من يختار للصحبة، قالوا أن يكون عاقلاً حسن الخلق غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا هكذا اشترط العلماء لمن تختار صحبته .
أن يكون عاقلاً غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا؛ لأنك إذا جالست الحريص على الدنيا كلما جالسته لا تسمع منه: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا تسمع منه إلا بعنا اشترينا، ارتفع الرصيد نقص الرصيد، ومثل هذا الكلام يقسي القلب والعياذ بالله .
فالنبى - صلى الله عليه وسلم - نُهي أن يستبدل الفقراء الأغنياء أما أن يجيئوه ويسمعون منه ويقبلون إليه، ويعلمون أن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا يأنفون من مخالطة الفقراء، فمرحباً وحيهلا .
(5/22)
---(1/151)
السلام عليكم، لدي تعليق على سورة الكهف، ربنا - سبحانه وتعالى - في سورة الكهف أجمل لنا حال أهل الكهف في آيتين ? فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ?11? ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ?[الكهف:11-12] ثم فصل الله - سبحانه وتعالى - ذلك في آيات بعد ذلك من قوله - سبحانه وتعالى - ? وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ ?[الكهف:17] ? وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ?[الكهف: 18] ? وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ?[الكهف: 19] ? سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ ? ? وَلَبِثُو? .
والتعليق الثاني: أن في سورة البقرة لما ذكر الله قصة العزير قال ? فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ?[البقرة: 259] وجاء عن أهل الكهف فلم يذكر الله - سبحانه وتعالى - في سورة الكهف قول الموت أبداً ? فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ?11? ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ? هذه أول ملحوظة .
والملحوظة الثانية: أن أصحاب الكهف حينما دخلوا الكهف كانت فتحة الكهف جهة الشمال، ولما رقدوا كان عن يمينهم الشرق، وعن يسارهم الغرب، فلما تشرق الشمس كانوا في منجاة من حرها، وهذا قول الله - سبحانه وتعالى - ? وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ? .
أما قول الله - سبحانه وتعالى - ? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ?[الكهف:28] فهو أمر بمصاحبة الصالحين أن نصبر نفوسنا معهم حتى يهدينا الله وإياهم .
إنما إن كانوا من أهل الغفلة ? وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ?[الكهف:28] .(1/152)
(5/23)
---
أما القول الثالث: وهو الأهم عندي ? وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً ?23? إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ?[الكهف:23-24].
قول الله - سبحانه وتعالى - ? إِنِّي فَاعِلٌ ? هذا الفعل هو حدث في زمن والحدث في الزمن له فاعل ومفعول به ويحدث في زمن، فأنا لا أملك الفاعل، ولا أملك المفعول، ولا أملك الزمن، فإذا قلت لفلان إني سوف ألقاك غداً الساعة كذا فأنا لا أملك هذا كله، ولذلك وجب علينا أن نقول إن شاء الله
السلام عليكم ورحمة الله، عندي إشكال، الجمع بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ) والحديث الذي ذكرتموه ( أن الميت يتبعه ثلاث يرجع اثنان ويبقى معه واحد وهو عمله ) وقول الله - عزّ وجلّ - ? وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ?[النجم:39] ؟
يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله، عمله الذي قدمه في حياته، ومما أخره بعد مماته ولد صالح يدعو له أو علم ينتفع به أو أثر خير تركه في الناس يقتدون به، فكل هذا يلحقه بعد مماته وقول الله تعالى ? وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ? ليس هناك تعارض في الظاهر بين الآية وبين الحديث، فالعلم النافع الذي يخلفه الإنسان من سعيه والولد الصالح الذي يخلفه الإنسان من سعيه، ولذلك كان أثرهما ونفعهما في صحيفته بعد موته .
يقول لماذا قال الله تعالى ? مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ ?[الكهف: 28] وقال ? وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ?[الكهف: 28] ؟
هو اتبع هواه فعصى مولاه فختم الله على قلبه، وأغفل قلبه عن ذكره، فكان اتباع للهوى هو السبب في أن الله أغفل قلبه عن ذكره؛ لأن تعالى أمره بذكره فلم يطع وخالف وعصى واتبع هواه فعاقبه الله - تبارك وتعالى - بالختم على قلبه وبالغفلة .
(5/24)
---(1/153)
قوله تعالى ? فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ?[الكهف: 29] فيه إثبات لمشيئة العبد هل هذه الآية صريحة في الرد على من يزعم أن العبد مجبور على جميع ما يفعله ؟
هذه الآية ليس فيها دليل على الجبر، والآية تقول ? فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ? فتركت له المشيئة، ولكننا نؤكد على أن مشيئة العبد مرتبطة بمشيئة الله - تبارك وتعالى - كما قال - سبحانه وتعالى - ? لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ?28? وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ?[التكوير:28-29].
وقال تعالى ? إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ?29? وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ?[الانسان:29-30] ولكن اسمع لمسك الختام ? إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ?[الانسان: 30] .
فمن علم فيه خيرا وعلم منه سلامة القلب وصلاحية لقبول الإيمان منّ عليه بالإيمان ومن لم يعلم الله - تبارك وتعالى - في قلبه خيراً حجبه الإيمان، ولذلك قال تعالى ? إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ?22? وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ?[الأنفال:23] .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما الفرق بين اتباع الشيطان واتباع الهوى واتباع النفس فعندي التباس خاصة بين النفس والهوى ؟
(5/25)
---(1/154)
الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، والنفس أمارة بالسوء، والهوى يوافق ما دعا إليه الشيطان وما دعت إليه النفس الأمارة بالسوء، لأن النفس تحب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتحب الملذات والشهوات، والدين عليها ثقيل وشاق، فإذا استجاب للشيطان فهو متبع لهواه، لماذا استجاب للشيطان؛ لأن في اتباع الشيطان تحقيقاً لهواه والنفس الأمارة بالسوء تأمره مثلاً بشرب الخمر وبالزنا وبالفواحش، وكل هذه شهوات النفس تحبها وتهواها فهو حين يستجيب للشيطان وهي النفس الأمارة بالسوء، إنما يستجيب لاتباع هواه والعياذ بالله.
هل استخدام المسباح يعتبر من العمل الغير حسن ؟
أي نعم نحن نعده من العمل الغير حسن، ونقول ما ذكرناه أن عبد الله بن مسعود أنكر على الناس الذين اجتمعوا وأخذوا يعدون التسبيح والتكبير بالحصى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتسبيح بالأنامل وقال ( إنهن مسئولات مستنطقات ) وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ما نُقل عنه أنه كان يسبح بالمسبحة أبداً .
فاتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، هكذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه - .
يقول سمعت مدرس للغة العربية وهو يقول أن في القرآن كلمات أعجمية، وضرب لذلك مثلا، سندس وإستبرق، فقلت له قوله تعالى ? قُرْآناً عَرَبِيّا ? و ? بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ? فقال هذا محمل الغالب فهل قوله صحيح ؟
لا أدري، ومن قال لا أدري فقد أفتى .
يقول كيف نوفق بين عدم ذكر الحسنات وبين قوله تعالى ? وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ?[الضحى:11] ؟
التحدث بنعمة الله - سبحانه وتعالى - شكر هكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - والتوفيق للطاعات من أجل النعم، فأنا أتحدث بالنعمة شكراً لله تعالى على وجه الإجمال لكن لا أحصي أعمالي، ولا أعدها .
هناك بعض الناس يقول أنا اليوم سبحت مائة، كبرت مائة، هللت مائة، صليت عشر ركعات تصدقت بعشرة جنيهات، يحصى أعمالاً صالحة.
(5/26)
---(1/155)
نقول له يا أخى لا تشغل بالك بإحصاء أعمالك الصالحة؛ لأن الله أحصاها وعدها عداً ولن يضيعها، كما قال ولكن عد سيئاتك؛ لأن هذا هو المطلوب أن تتذكر سيئاتك دائماً حتى يحملك تذكرك إياها على الإقلاع منها وعدم العودة إليها.
قد ذكرتم فضيلتكم حفظكم الله حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم الذهب والحرير على الرجال، وقلتم بارك الله فيكم أن لبس الحرير الخالص الطبيعي حرام على الرجال فهل هذا الكلام المفهوم: أي أن الثياب المختلطة بمختلف الأقمشة ومنها الحرير يجوز استخدامها ؟
أردت أن أؤكد على ما يحرم على الرجال وهو الحرير الطبيعي، لأن هناك ملابس في السوق اسمها حرير، وليست هي بحرير يقصدون بالحرير أي الناعمة ناعمة مثل الحرير فهي ليست حريراً هذه الملابس التي نستعملها ليست حريرا، الحرير المحرم هو الخالص الصافي الطبيعي حرير دودة القز، هذا هو الحرير الخالص الذي يحرم على الرجال، أما الملابس الناعمة الخفيفة فليست بحرير فلا تحرم .
يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل هذه القصة تنطبق على من يغترون بذكائهم وثروتهم ؟
هو كذلك ويجب دائماً كما انتهينا في التفسير عند قوله تعالى ? وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ? فيجب على الإنسان إذا رأى على نفسه خيراً ونعمة أو على غيره أو ولده أن يعرف أن الفضل كله لله - سبحانه وتعالى - فينسب النعمة والفضل لله - سبحانه وتعالى - ولا يكون كقارون الذي قال ? قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ?[القصص: 78]
(5/27)
---(1/156)
فالذكاء والمهارة وقوة الجسم وقوة الذاكرة ونحو ذلك، كل هذا من نعم الله، فالإنسان يحمد الله - تبارك وتعالى - ويشكره ولا يرد الفضل إلى نفسه؛ لأنه ليس له من نفسه إلا الخذلان ? إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ?[آل عمران:160] .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل صاحب الجنة تأول بأن له عند الله يوم القيامة جنة خير منها يعني أنه ادعى علم الغيب أم ماذا؟ وضح لنا وجزاكم الله خيرا
هو قال ? وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ? أنا اعتقادي أن هناك قيامة هذا ما أظن، ليس فيه قيامة ولا بعث بعد الموت، ولكن لو سلمت فرضاً وجدلاً أن فيه قيامة وبعث فسيكون لي في الآخرة مثل ما كان لي في الدنيا، فقاس نعيم الآخرة على نعيم الدنيا، واعتقد أنه كما أكرم في الدنيا بالتوسعة عليه لابد إن كان آخرة أن يكرم بها ونسي قول الله - تبارك وتعالى - ? إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ?1? لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ?2? خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ?3??[ الواقعة:1-3] أي تخفض أقواماً كانوا في الدنيا فوق وترفع أقواماً كانوا في الدنيا تحت .
فموازين الآخرة غير موازين الدنيا تماماً والله تعالى يعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب ولا يعطي الآخرة إلا لمن يحب .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أريد أن أسأل في مسألة الذهب المحلق بالنسبة للنساء؟
جمهور الفقهاء على إباحة الذهب المحلق للنساء.
سأل عن ماهية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -
حين نقول اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، فالصلاة من الله تعالى الثناء عليه في الملأ الأعلى، الصلاة من الله تعالى على نبيه أو على عباده الصالحين معناه الثناء عليهم في الملأ الأعلى .
يقول: ما معنى الكلمات التالية: سرادقها، وسندس، وإستبرق، وحففناهما ؟
(5/28)
---(1/157)
حففناهما، جعلناها على الحافة، النخل على حافة البستان، على الحد عليه فهو كالسور له الواقي لما بداخله .
والسندس والإستبرق من ثياب أهل الجنة من الحرير .
والسرادق الإحاطة، سرادقها يعني حدودها، أحاطت به من جميع الجهات، كالسرادق الذي يقام في البدع فيحيط بالناس.
يقول: ما معنى جنات عدن ؟
جنات عدن أي جنات إقامة، فمن دخل الجنة لا يخرج منها أبدا، وإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، أتي بالموت على صورة كبش أملح فوضع على سور بين الجنة والنار ثم نودي: يا أهل الجنة فيشرأبون ينظرون، ويا أهل النار فيشرأبون ينظرون فيقال: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، إنه الموت، وكلنا يعرفه فيذبح هذا الكبش الذي يمثل الموت، وينادى: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت .
قال الحق جل شأنه ? فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ? [الكهف: 29] فلما قدم جزاء الكافرين بعد ذلك وقال ? إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ? على جزاء المؤمنين؟
الله تعالى أعلم بأسرار كلامه، لماذا قدم جزاء الكافرين على جزاء المؤمنين، وفى موضع آخر قدم جزاء المؤمنين على جزاء الكافرين، فالله تعالى أعلم بالسر في التقديم .
لكن العبرة والخلاصة والدرس المستفاد هو الترغيب والترهيب.
الترهيب: بذكر جزاء الظالمين .
والترغيب: بذكر جزاء المؤمنين .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ قلت في حديثك: إن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ولو دخل الجنة، وكذلك شرب الخمر، هل يدخل في هذا سماع الغناء؟ وهل معنى هذا أن من فعل ذلك يدخل الجنة مع معصيته، أم معنى ذلك بعد التوبة أرجو التوضيح، حتى لا يحدث تساهل في المعصية ؟
(5/29)
---(1/158)
هكذا صحت الأحاديث كلها في هذا الذي ذكرت في لبس الذهب والحرير وشرب الخمر وكذلك سماع الأغاني صحت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أن من متع نفسه بالحرام الذي حرمه الله عليه في الدنيا عوقب بحرمانه منه في الجنة؛ لأن الله تعالى قال في الكافرين ? وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ? [الاحقاف:20] ولا يجوز للمؤمن أن يتشبه بالكافرين أن يتمتع بطيبات الحياة وتكون هي أكبر همه ولو كانت محرمة هذا خطأ؛ لذا نأخذ ما حل وندع ما حرم، فمن أخذ الحرام في الدنيا الذي حرم عليه ومتع نفسه به في الدنيا عوقب بحرمانه منه في الآخرة .
كذلك صحت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
هل الصبر على الطاعة يعادل الصبر على المعصية ؟ في الجزاء ؟
أي نعم إن شاء الله تعالى أن تصبر على الطاعة حتى تؤديها، وتصبر عن المعصية حتى لا تقع فيها كله صبر وكله له جزاؤه والله تعالى قال ? إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ?[الزمر: 10] .
في قول الحق - سبحانه وتعالى - كما تفضلت حضرتكم هو لفظ الظالمين هل معنى ذلك أننا نحمل جميع ألفاظ القرآن الكريم التي حصل فيها تكرار على القول الغالب بمعنى مثلا لفظ الزينة كرر أكثر من مرة في القرآن، هل معنى ذلك أننا نحمله على غالب معناه في القرآن، أم على حسب موضعه في الآية ؟
الظلم كما بوب البخاري رحمه الله في صحيحية باب كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، فهناك كفر أكبر وكفر أصغر وظلم أكبر وظلم أصغر .
سيدنا يونس عليه السلام لما دخل بطن الحوت ? فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ?[الانبياء: 87] .
والأبوان آدم وحواء لما أكلا من الشجرة ? قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ?[الأعراف:23] .
(5/30)
---(1/159)
وموسى - عليه السلام - لما قتل القبطي ? قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ?[القصص:16] .
فهذا ظلم أصغر المعاصي ظلم أصغر .
وأما الكفر فهو ظلم أكبر، وتستطيع أن تعرف ما المراد بالظلم هو الأكبر أم الأصغر من خلال السياق .
سؤال عن قول الله ? مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ?[الكهف: 39] هل هو المقصود في الدعاء بمن يرى شيء يعجبه ؟
هو كذلك من رأى شيئاً فأعجبه من نفسه أو ماله أو ولده أو أهله أو الناس فليبادر بقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله حتى يدفع بذلك أثر عين السيء .
يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ذكرتم في معرض تفسيركم فقلتم ? نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ?[التوبة: 67] فقولكم نسيهم فهل يجوز قول هذا في حق الله - عزّ وجلّ - ولو في معرض التفسير ؟
هذه بارك الله فيك لفظ آية في القرآن الكريم، وليست من كلامنا نحن ? نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ?[التوبة: 67] هذه في سورة التوبة هذه آية وليست من كلامنا إنما هي آية .
ولكن النسيان في حق الله - عزّ وجلّ - معناه الترك، نسيهم أي تركهم من رحمته ولم يجعل منها نصيبا، وليس المراد بالنسيان الذي هو ضد الذكر، فنحن نؤمن بقول الله تعالى ? وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ? [مريم: 64] ونؤمن بقول موسى - عليه السلام - لفرعون ? عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ?[طه:52] .
فهنا النسيان المنفي هو الذي ضد الذكر، وأما النسيان المثبت فهو معناه الترك أن الله تعالى تركهم من رحمته ولم يجعل لهم فيها نصيب .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أتمنى إعادة معنى ? بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ? ? مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ? ؟
(5/31)
---(1/160)
قلنا: في قوله تعالى في حق أهل النار ? وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ? قلنا والعياذ بالله المهل هو الزيت في وقت غليانه، الزيت وهو على النار يغلي يرتفع أسفله وينزل أعلاه وهكذا، هذا هو الماء قال الله فيه ? بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ? والعياذ بالله .
الذي يسمع الأغاني في الدنيا ويشرب الخمر أو يلبس الحرير لا يلسبه في الجنة حتى وإن تاب يا شيخ فإن التوبة تجب ما قبلها ؟
هذه الأحاديث أيها الأحبة حتى لا تشق عليكم هذه الأحاديث موجودة في صحيح الترغيب والترهيب، الترغيب والترهيب للمنذري، وأنا أقول صحيح الترغيب والترهيب لشيخنا الألباني رحمه الله، من أراد أن يراجع هذه الأحاديث فليراجعها في صحيح الترغيب والترهيب، ولكننا نحملها على الذين لم يتوبوا.
أما من تاب تاب الله عليه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له .
يقول هل الفقير الشاكر أحب إلى الله من الغني الشاكر ؟
هذه مسألة طال فيها بحث العلماء، أيهما أفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر، طال البحث فيها جداً، ولكني كما قلت في أثناء الكلام المهم ليس بمادة الامتحان ولكن المهم بالنتيجة.
هذا ابتلي بالغنى وهذا ابتلي بالفقر، المهم أن ينجح الغني في غناه وأن ينجح الفقير في فقره ويكون مثوى الجميع الجنة إن شاء الله - تبارك وتعالى .
(5/32)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
مثل الحياة الدنيا
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:(1/161)
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم مرحبا بكم في هذا اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة الكهف، و الآيات المباركات التي معنا منها هذه الساعة المباركة - إن شاء الله تعالى- تضمنت من المعاني ما يلي:
أولاً: استحباب قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله عند رؤية النعمة.
ثانياً: جواز الدعاء على الظالم نفسه بزوال النعمة.
ثالثاً: مثل الحياة الدنيا.
رابعاً: لماذا شبهت الدنيا بالماء؟
خامساً: السعادة تكون بالأعمال لا بالأموال.
سادساً: أهوال يوم القيامة.
سابعاً: صفة العرض على الله عز وجل.
ثامناً: التحذير من موالاة الشيطان.
وهذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات التي معنا من سورة الكهف، من المعاني فلنستمع إليها أولا قبل الخوض في تفاصيلها، سائلين الله عز وجل أن ينجز لنا ما وعدنا حيث قال: ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[الأعراف: 204]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(6/1)
---(1/162)
? وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ?35? وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ?36? قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ?37? لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ?38? وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ?39? فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ?40?أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبً?41? وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ?42? وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ?43? هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ?44? مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ?45? الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ?46? وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ?47? وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا
(6/2)(1/163)
---
خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ?48? وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ?49? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ?[الكهف:35-50].
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ?[ص: 29]، ?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? [الحشر:21 ]، ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر: 23].
(6/3)
---(1/164)
قلنا أن كثرة الأموال والأولاد ليست عنوان رضا الله -تبارك وتعالى- عن ذلك الإنسان، إنما هو ابتلاء من الله -سبحانه وتعالى-، يبتلى من يشاء بالغنى؛ ليرى أيشكر أم يكفر؟ ويبتلي من يشاء بالفقر؛ ليرى أيصبر أم يجزع؟ لكن أكثر الناس إذا رأو الله -سبحانه وتعالى- قد وسع عليهم وأعطاهم، استدلوا بهذا العطاء في الدنيا على العطاء في الآخرة، وأنهم كما كانوا في الدنيا أكثر مالا وولدا فسيكونون كذلك في الآخرة، وهذا ما حكاه الله -سبحانه وتعالى- عن هذا الرجل الذي ضربه الله مثلا للغني الكافر ?وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ?35? وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبً? فرد عليه صاحبه الفقير المؤمن قال له: ? قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ ? إن الكفر بالله الخالق لشيء عجاب ? أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلً? وذكر خلقه من تراب وإن لم يكن هو من تراب؛ لأنه ابن آدم، وآدم من تراب؛ فأبناء آدم لهم نصيب من التراب الذي هو أصل خلق أبيهم ? أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ? ? يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ? [الانفطار:6-8]، ? كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ? [البقرة:28]، إن هذا الكفر لشيء عجاب، تعجب من ذلك المؤمن، وتعجب من ذلك الشاعر حين قال:
واعجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
(6/4)
---(1/165)
? أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ?، ثم استدرك فقال: ? لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ?، إذا أنت كفرت بالله الذي خلقك فسواك، فأنا لن أكفر بالله -سبحانه وتعالى-، إنما أنا مؤمن بالله ربي الذي خلقني فسواني ورباني بنعمه وآلائه، وتفضل علي بنعم لا تعد ولا تحصى ? وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ?، فلم يقتصر على إثبات الربوبية حتى أتبعها بإثبات الألوهية، فإنه لا ينفع ولا يكفي أن يقر الإنسان بربوبية الله -سبحانه وتعالى- وحده ثم يذهب ويعبد معه غيره، أو يعبد غيره استقلالا، إنما يجب على من أقر واعترف أن الله ربه الذي خلقه فسواه وعدله وصوره فأحسن صورته، ورباه بنعمته وآلائه، يجب على من أقر بالربوبية أن يقر كذلك لله بالألوهية، وأن يعلم أنه لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله -سبحانه وتعالى- فيعبد الله -عز وجل- ولا يشرك به أحدا، وهذا ما قال المؤمن الفقير لصاحبه الغني الكافر: ? لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدً?.
(6/5)
---(1/166)
?وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ?، لولا أي هلا، وهو أسلوب حض من المؤمن الفقير لصاحبه الكافر الغني يحضه على الاعتراف بفضل الله -سبحانه وتعالى- والإقرار بأن ما به من نعمة من الله وحده لا شريك له، ? وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ?، تبرأت من حولك وقوتك وعلمت: أن الحول والقوة لله -عز وجل- وحده، فقلت: ? مَا شَاءَ اللَّهُ ?، أي ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فما في هذه الجنة وما في هذه البستان من نخيل وأعناب وثمار وأنهار إنما كان بإرادة الله ومشيئته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ? مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ?، لا قوة لأحد على أي عمل، ولا قدرة لأحد على أي عمل -ديني كان أو دنيوي- لا قوة إلا بالله؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى الأشعري (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قال: بلى يا رسول الله، قال لا حول ولا قوة إلا بالله )، فلا تحول لأحد ولا حركة لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قدرة لأحد ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله إلا بتوفيق الله -سبحانه وتعالى-،والإنسان لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، إنما ? وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ?[الصافات: 96]، ? وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ? ورأيت ما أعجبك فيها من الزروع والثمار والنخيل والأعناب والأنهار، فتبرأت من حولك وقوتك، واستعنت بحول الله -تعالى- وقوته، وعلمت أن هذه النعم إنما هي فضل الله -تبارك وتعالى- عليك؛ فخررت لله -تعالى- ساجدا عليها شكرا لله على ما أنعم عليك ? وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ?؛ لأن هذه الثمار وهذه الزروع التي تنبت في أرضنا في حقولنا ومزارعنا وبساتيننا لا ينبتها إلا الله -سبحانه وتعالى- ولذلك قال عز وجل: ? أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ(1/167)
(6/6)
---
?63? أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ?64? لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ?65? إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ?66? بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ?67? أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ?68? أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ?69? لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ?[الواقعة:63-70]، وقال تعالى: ? فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ?24? أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ?25? ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ?26? فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ?27? وَعِنَبًا وَقَضْبًا ?28? وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ?29? وَحَدَائِقَ غُلْبًا ?30? وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ?31? مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ?[عبس: 24-32]،كل هذا كان بحول الله وقوته لا بحول الإنسان وقوته؛ ولذلك قال تعالى: ? وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ?33? وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ?34? لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ? [يس: 33-35]،وما نافية، فالواجب على الإنسان أن يتبرأ من حوله وقوته وأن يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا رأى نعمة الله -تبارك وتعالى- عليه في مال أو ولد أو نحوهما، فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ اعترافا بفضل الله واستعانة بحول الله -تعالى- وقوته وتبرأ من حوله وقوته، وهذه الكلمة المباركة ذكر العلماء أنها إذا قيلت عند رؤية النعمة على النفس أو الولد أو المال أو على الغير فإنها تدفع العين بإذن الله -عز وجل؛
(6/7)
---(1/168)
فيستحب لمن رأى نعمة على نفسه أو على غيره أن يبادر بقول: ماشاء الله لاقوة إلى بالله، ثم قال المؤمن الفقير لصاحبه الغني الكافر: ? إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ?، إن ترن يا صاحبي أنا أقل منك مالا وولدا، إن كنت تراني فقيرا مسكينا قليل المال قليل الولد؛ فلذلك تقول: أنا أعز منك أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا؛ فأنا يا صاحبي إنما أعتز بعقيدتي وأطلب الغنى بافتقاري إلى الله ربي، فأنا عزيز بطاعتي لله، وغني بافتقاري لله -تعالى- ? إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ? وأنا أرجو أن يعطيني الله -تبارك وتعالى- جنة خير من جنتك ? فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ ? فإن ربي على كل شيء قدير، ودوام الحال من المحال، فإن غني اليوم قد يكون غدا فقيرا، وفقير اليوم قد يكون غدا غنيا، فإن كنت ياصاحبي غنيا فلا تتكبر علي بغناك، وتواضع حتى تدوم عليك النعمة، فإن دوام الحال من المحال ? فَعَسَى رَبِّي ? أرجو ربي -سبحانه وتعالى- ?أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ ? ويرسل على جنتك حسبانا من السماء أي عذابا من السماء فتصبح صعيدا زلقا، فتصبح أرضا ملساء ناعمة سوداء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، أو يأتيها العذاب من أسفل منه? أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبً?، هكذا قال المؤمن الفقير لصاحبه الغني الكافر:? فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا ?أي على جنتك ? حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ?، أي عذابا من السماء،? فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ?40?أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ?، قال تعالى: ? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا ? [الملك:30]، أي إذا غار الماء في أسفل الأرض وذهب فيها بعيدا فكيف تستطيعون إخراجه وكيف تطلبونه ? فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ?،(1/169)
(6/8)
---
واستجاب الله تعالى لعبده المؤمن الصالح الفقير ونزل العذاب بجنة الغني ? وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ?.
ومن هنا نعلم أنه يجوز الدعاء على الظالم نفسه بزوال النعمة، إذا كانت النعمة أطغته، وجعلته يتكبر على خلق الله، ويتعالى عليهم، ولا يحترمهم، ولا يوقرهم، يرى نفسه فوق الثريا وهم دونه تحب الثرى؛ يجوز حينئذ الدعاء أن يذهب الله تعالى بهذه النعمة من عند هذا الإنسان، هكذا فعل المؤمن الفقير دعا الله -سبحانه وتعالى- أن يذهب بالنعمة من عند صاحبه الغني الكافر، ومن قبل ذلك دعا موسى - عليه السلام - على فرعون وملأه بزوال نعمة الله -تبارك وتعالى- منهم ? وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ?[يونس: 88]، قال الله تعالى: ? قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَ?، ? وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ? أي نزل العذاب من السماء فأحاط بهذا البستان من جميع جهاته؛ فأباده كله، ولم يترك منه شيئا، كما يحيط العدو بعدوه وحاصره من جميع الجهات، فقد تمكن منه فإذا تسلط عليه مع القدرة فلن يترك منه أحدا، ولن يبقي منه شيئا، وكذلك فعل العذاب بجنة ذلك الكافر الغني الذي حمله الغنى على الأشر والبطر والاستكبار في الأرض بغير الحق.
(6/9)
---(1/170)
? وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ? نادما كما يفعل النادم، النادم أحيانا يضرب كفا على كف، وأحيانا يعض أصابع الندم ? فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَ? على ما أنفق في هذه الجنة في هذا البستان من مال وجهد ووقت، ثم ذهب كل هذا مع الرياح سدى، ولم يبق منه شيئا ? فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا ? والجنة ? خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ? ويقول مع هذا الندم: يا ليتني، ولكن ما تنفع يوما ليت ? وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدً? قال تعالى: ? وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ? لم تكن له فئة: أي جماعة من الجنود والحاشية ولا من الأولاد، لم تكن له فئة تدفع عنه عذاب الله، وتنصره من بأس الله إذا جاءه، وما كان هو من نفسه منتصرا على ما جاءه من عذاب الله -عز وجل- فلم تكن له هو قوة ذاتية تدفع عنه عذاب الله، ولم يكن له قوة خارجية تمنعه من بأس الله -عز وجل- كما قال الله عن قارون: ?فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ? [القصص:81].
(6/10)
---(1/171)
? وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ?42?وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ?43? هُنَالِكَ ? في مثل هذه الساعة ساعة نزول العذاب بالكافرين المستكبرين المفسدين في الأرض، هنالك تكون الولاية لله الحق، الكافرون تبرءوا من الله -عز وجل- وتولوا غيره، فإذا نزل بهم عذاب الله؛ تبرءوا من كل الذين تولونهم، وأثبتوا ولايتهم لله وحده، ولكن لا ينفعهم هذا بعد أن نزل بهم العذاب، كما قال تعالى: ?فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ?84? فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ?[غافر:84-85 ]، وقال تعالى عن فرعون: ?حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ? فقيل له: ?آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ?[يونس: 90:92].
فقوله تعالى: ? هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ? أي في مثل هذه الساعة التي ينزل فيه عذاب الله بالكافرين المفسدين في الأرض هنالك يتبرءون من كل الذين تولونهم من دون الله، ويثبتون الولاية لله -سبحانه وتعالى- وحده، ولكن لا يقبل منهم هذا، ولا ينفعهم إيمانهم بعد أن آتاهم عذاب ربهم.
(6/11)
---(1/172)
? هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ ? -سبحانه وتعالى- ? خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ? ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا، ثواب الله لمن آمن وعمل صالحا خير من ثواب غيره، وعاقبة الطاعة خير العاقبة ? فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ? [هود: 49]، ? جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ?24? ?[الرعد:24:23]، وهكذا رأينا أن الكفر بالله -عز وجل- وكفر نعمته، يتسبب هذا الكفر في زوال النعمة فلا يبقى منها شيئا عند صاحبها، إذ كفر بالله وكفر نعمة الله -تبارك وتعالى- والله -سبحانه وتعالى- قد أخبرنا مثل هذا كثيرا في كتابه قال تعالى: ? لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ?15? فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ?16? ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور?17? ? [سبأ: 15]، وقال تعالى: ? وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ?112? وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ?113? ? [النحل: 113:112]، فإذا علمتم ذلك وتبينت لكم هذه الحقيقة أن المعاصي تزيل النعم ? فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ(1/173)
(6/12)
---
اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ?114? ?[النحل: 114]؛ ولذلك قال القائل:
إذا كنت في نعمة فارعه فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم
قال الله تعالى: ?وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ?[إبراهيم:8:7]، فعلى الذين أنعم الله تبارك و تعالى عليهم ووسع عليهم وآتاهم من جميع أصناف المال أن يتواضعوا لعباد الله الفقراء المساكين، وأن يأتوهم من مال الله الذي آتاهم، وأن ينفقوا في سبيل الله هكذا وهكذا وهكذا، حتى يزيدهم الله -تعالى- من فضله، وحتى يكافئهم في الآخرة بجنة فيها من النعيم مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر.
(6/13)
---(1/174)
ثم قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ?وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ? واضرب لهم يانبينا، اضرب لهؤلاء الأغنياء المستكبرين في الأرض بغير الحق، اضرب لهؤلاء الأغنياء الذين غرتهم الحياة الدنيا، ودخلت قلوبهم، واستحوذت عليهم، فأنستهم ذكر الله -تعالى-، اضرب لهم مثل الحياة الدنيا في زوالها وفنائها وعدم بقائها، ? وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ? وهكذا في ثلاث كلمات لخص الله -تبارك وتعالى- لنا بداية الدنيا ونهايتها وما بين البداية والنهاية ? كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ? وتأمل كيف جاء الله -تبارك وتعالى- بحرف الفاء الذي يفيد الترتيب مع التعقيب الذي يخالف ثم، فإن ثم تفيد الترتيب مع التراخي، أما الفاء تفيد الترتيب مع التعقيب.
? كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ? أتى الله -تبارك وتعالى- بحرف الفاء؛ ليفيد سرعة الفناء وسرعة الزوال، حتى لا تتعلق قلوب الناس بهذه الدنيا الفانية السريعة الزوال.
(6/14)
---(1/175)
ولماذا شبه الله -تبارك وتعالى- الدنيا بالماء؟ ? وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ? لماذا شبه الله تعالى الحياة الدنيا بالماء؟ قال العلماء: شبه الله -تعالى- الحياة الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في مكان، وكذلك الدنيا لا تدوم عند إنسان، وشبه الله -تعالى- الدنيا بالماء ؛لأن الماء لا يثبت على حال، الماء لا يثبت على حال، وكذلك الدنيا لا تدوم على حال، فقد قيل: دوام الحال من المحال، وشبه الله تعالى الدنيا بالماء؛ لأن من دخل الماء ابتل، ولا بد وكذلك من دخل الدنيا أصابته الفتن ولا بد، فلا ينجو من الفتن أحد في الدنيا أبدا، وشبه الله -تعالى- الدنيا بالماء؛ لأن الماء إذا كان بقدر نفع بإذن الله -عز وجل-، فإذا زاد وطغى وخرج عن قدره أضر وأحدث المصائب والبلاء، وكذلك الدنيا إذا كانت على قدر وكان الرزق كفافا وقوتا كان ذلك خيرا للإنسان، فإذا وسع الله -تبارك وتعالى- عليه وآتاه من جميع أصناف المال خشي عليه الفتنة كما قال -تعالى:- ? إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ? [التغابن: 15]، ولما كان هذا المثل من أروع الأمثلة وأحسنها لا جرم كرره الله -تبارك وتعالى- في القرآن في مواضع، هذا المثل الذي ضربه الله -تعالى-للحياة الدنيا من أحسن الأمثال وأروعها على الإطلاق لذلك كرره الله -تبارك وتعالى- في مواضع من كتابه في سورة يونس قال الله -تبارك وتعالى- ? إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ(1/176)
(6/15)
---
يَتَفَكَّرُونَ ?[يونس: 24]، وفي سورة الزمر قال الله -تعالى:- ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ? [الزمر: 21]، وفي سورة الحديد قال الله -تعالى:- ? اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ?20? ? فإذا علمتم ذلك ? سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ?21?? [الحديد: 21:20]، ? وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ? اليوم يحرث الفلاح، ويبذر، ثم ينزل الماء من السماء أو من مجراه الذي يجري فيه من الأنهار، ينزل على البذرة، فتنبت بإذن الله، وبعد أيام ترى العود الأخضر خرج فوق الأرض بعدما كانت البذرة ميتة تحت الأرض أحياها الله -تعالى- فخرج العود فوق الأرض، ثم استوى على سوقه فحان حصاده، فما هي إلا شهور حتى ترى الزرعة حصدت، وذهب بها من الحقل إلى الدار، وكأن الحقل لم يكن فيه زرع بالأمس، كذلك حقيقة الحياة الدنيا بدأت وستنتهي في الأجل(1/177)
الذي سماه الله
(6/16)
---
-تبارك وتعالى- لها، فعلينا أن نكون على حذر من الدنيا، لا نركن إليها، ولا نطمئن لها، ولا نأثرها على الآخرة، فإن الله -تعالى قال:- ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ?5??[فاطر: 5]، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، ومن والاه، وعالما أو متعلم).
? وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ? وتفرقه الرياح هاهنا، وهاهنا أرأيت الفلاح وهو يدرس القمح كيف يتطاير التبن من الماكينة هكذا وهكذا ? تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ? لا يعجز ربنا عن شيء، ولا يعجزه شيء ? وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ?44? ?[فاطر: 44].
ثم قال تعالى: ? الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَ? الحياة الدنيا التي ضربنا لكم مثلها في الزوال والفناء والانتهاء، المال والنون زينة هذه الحياة الدنيا الفانية، فإذا فنت الدنيا كلها، وزالت الدنيا كلها، فهل تبقى زينتها؟ ? الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? والدنيا فانية منتهية، فهل إذا انتهت الدنيا تبقى الزينة؟ لا يمكن أبدا.
(6/17)
---(1/178)
? إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ?7? وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ?8?? [الكهف: 8:7]، ? إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ?6? ?[الصافات: 6]، ويوم القيامة إذا زالت السماء نفسها فأين تذهب زينتها؟ ? إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) ?[الانفطار: 2:1]، ? الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلً? ما الباقيات الصالحات؟ يجب إبقائها على إطلاقها وعمومها، كما أطلقها ربنا -سبحانه وتعالى-، لا يجوز تخصيص الباقيات الصالحات بأنها نوع من العبادة ولا الذكر؛ لأن الله -تبارك وتعالى- أطلق وعم ولم يخصص ولم يقيد ? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ? إذًا لا تقل الباقيات الصالحات: هي الصلوات، ولا تقل الباقيات الصالحات: هي الزكاة ولا تقل الباقيات الصالحات هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، كل هذا إنما كالمثال للباقيات الصالحات، فالصلاة من الباقيات الصالحات، والزكاة من الباقيات الصالحات، والحج من الباقيات الصالحات، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا اله والله أكبر من الباقيات الصالحات، وبر الوالدين من الباقيات الصالحات، وصلة الأرحام من الباقيات الصالحات، وطلب العلم وتعليمه من الباقيات الصالحات.
(6/18)
---(1/179)
? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلً? إن الذين أعطاهم الله -تعالى- المال والولد علقوا آمالا كبيرة على المال والولد، والمؤمنون المتقون الصالحون علقوا آمالهم على الباقيات الصالحات، فأي الأملين يتحقق؟ هل يتحقق أمل الأغنياء الذين بنوا أملهم على كثرة المال والولد؟ أم يتحقق أمل المؤمنين الصالحين الذين لم يتعلقوا بالدنيا كلها وما فيها من مال وبنين، وإنما تعلقوا بما يرضي الله -تبارك وتعالى- من صالح العمل ? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ? لقد ظن ذوو الأموال والأولاد أن أموالهم وأولادهم تنفعهم عند الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة فنفى الله -تعالى- ذلك عنهم فقال: ? وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ?[سبأ: 37]، ? تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ?1? مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ?2? ?[المسد: 2:1 ]، وما كسب يعني ولده، ما أغنى عنه ماله، وما أغنى عنه ولده، قال تعالى: ? وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ?11? ?[الليل: 11]، فالأموال والأولاد لا تحقق الآمال في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تحقق سعادة الدنيا ولا سعادة الآخرة، إنما السعادة في الدنيا تحقق بالاجتهاد في العمل الصالح بعد الإيمان بالله -عز وجل- يقول -تعالى:- ? مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ?[النحل:97]، فهذه سعادة الدنيا تتحقق بالإيمان بالله -عز وجل- والعمل الصالح، وكذلك سعادة الآخرة تتحقق بالإيمان بالله -عز وجل- والعمل الصالح ? مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ(1/180)
(6/19)
---
?40?? [غافر: 40]، فالسعادة لا تتحقق بالأموال ولا بالأولاد مهما كثرت، وإنما السعادة تتحقق بالإيمان بالله -عز وجل- وبالعمل الصالح الذي يرضاه الله -تعالى- ولذلك قال بعضهم:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد زخر وعند الله للأتقى مزيد
فإذا أردت سعادة الدنيا فعليك بالإيمان والعمل الصالح، وإذا أردت سعادة الآخرة فعليك بالإيمان والعمل الصالح، ? الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَ? والدنيا فانية فالمال والبنون منتهون مع الدنيا منتهون بنهايتها ? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلً?.
(6/20)
---(1/181)
ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- أهوال يوم القيامة لما ذكر الدنيا وزوالها وسرعة فنائها حدثنا عن الآخرة وبدأ بذكر أهوالها فقال: ? وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ?47?? هذه الجبال الرواسي الشامخات الثوابت يوم القيامة تسير من أماكنها ? يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ?9? وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ?10??[الطور: 10:9]، ? وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ?[النمل: 88]، ? فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ?13? وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ?14? فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ?15??[الحاقة: 13-15]، ماذا يحدث قال تعالى ? إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ?1? لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ?2? خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ?3?إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ?4? وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ?5? فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ?6??[الواقعة: 1-6]، ?يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ?4? وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ?5??[القارعة: 5:4]، ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ?105? فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ?106? لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ?107??[طه: 105-107].
(6/21)
---(1/182)
?وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ? بارزة ليس فيها عوج ولا أمت، ولا عليها ربوة ولا تل ولا جبل، إنما الأرض بارزة وظاهرة ليس عليها ما يكن، وليس عليها ما يستر شيئا، أنت حين تكون في سفر وتنزل في الوادي فتكون الجبال عن يمينك وعن شمالك تحجب الجبال الرؤية عنك؛ فلا ترى ما ورائها عن يمينك ولا عن شمالك، وأما إذا خرجت من الوادي إلى الأرض البارزة المسطحة زالت الجبال ورأيت كل شيء كان مخبأ عليك وأنت في الوادي بين الجبال، يوم القيامة ينسف ربي الجبال نسفا ? فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ?106?لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ?107?? فلا يكون شيء مخبوء ولا يكون شيء مخفي وإنما ? وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ?8??إبراهيم: 48]، ? وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ?47?? ?هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ?38?? [المرسلات: 38]، كما قال تعالى: ?قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ ?49? لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ?50?? [الواقعة: 50:49].
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يسترنا يوم تبلى السرائر، يوم نحشر إلى ربنا حفاة عراة غرلا ?كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ? [الأنبياء:104]، ?رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ?80?? [آل عمران: 8]، هذا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله، ألم يحدد النبي - صلى الله عليه وسلم - الباقيات الصالحات في حديث؟
الأخ يسأل عن الباقيات الصالحات ما هي؟
(6/22)
---(1/183)
لم يحددها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث: يعني ليس هناك حديث مرفوع صحيح يحدد الباقيات الصالحات، وإنما رويت آثار لا تصح أن الباقيات الصالحات: هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وهذا كما قلت يجب إبقاء الآية على عمومها لا نخصصها الله قال:- ? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ? فكل ما ضربناه مثلا من الصلاة والزكاة وبر الوالدين والحج والجهاد كل ذلك -إن شاء الله- من الباقيات عند الله، لكن جاء في فضل هذه الكلمات حديث فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لئن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلى مما طلعت عليه الشمس)
سؤالي ياشيخ هل يجوز الجزم بأن كل ما حدث للبلدان من الكوارث هو بسبب المعاصي والظلم.
(6/23)
---(1/184)
يقول الله -تبارك وتعالى-: ? وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ?30?? [الشورى: 03]، ويقول تعالى: ? مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ? [النساء:79]، فما يبتلى به الناس في أموالهم وأهليهم وبلدانهم إنما هو بسبب كثرة الذنوب والمعاصي، وإن أصاب البلاء بعض الصالحين المؤمنين الطيبين فإنما هذا ابتلاء لهم من الله -سبحانه وتعالى- والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانو ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، قالت عائشة يا رسول الله: كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم، قال: يخسف بأولهم وأخرهم ثم يبعثون على نياتهم) والله تعالى يقول: ? وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ? [الأنفال: 25]، فما يصيب البلدان من كوارث من زلازل من خسف من نحو هذا البلاء إنما هو آيات من آيات الله يخوف الله بها عباده كما قال: ? وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ?59?? [الإسراء: 59]، وذلك من رحمة الله بالعباد وإن كان الظاهر العذاب، إلا أن هذا العذاب من رحمة الله بالعباد؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- يريد أن يذكِّر من نجا من هذا العذاب أن يتوب إلى الله ويرجع إليه، وهذا ما ذكره ربنا -سبحانه- في قوله: ? وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ?21?? [السجدة: 21]، والعذاب الأكبر هو عذاب يوم القيامة، فمن رحمة الله -تعالى- بالناس أنه يعذبهم في الدنيا بأنواع من البلاء والمصائب ? لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ?113?? [طه: 113]، فيقلعون عن المعاصي ويندمون عليها ويستغفرون الله -تبارك وتعالى- فيغفر لهم ويرحمهم وينجيهم من عذاب الآخرة، ولعذاب الآخرة أكبر ولعذاب الآخرة(1/185)
(6/24)
---
أشق؛ ولذلك قال الله -تعالى:- ?وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ?168?? [الأعراف: 168].
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أريد أن أسأل عن أشياء أولها: الأولى في جواز الدعاء على الظالم، هل ? إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ?39? فَعَسَى رَبِّي? هل هذا جواب شرط وفيه صيغة دعاء لفظ ? فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ? بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الدعاء على الكافرين ? لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ?128? ? [آل عمران:128]، .
(6/25)
---(1/186)
نعم، قلنا يجوز الدعاء على الظالم الطاغي الذي طغى بنعمة الله -عز وجل- وأساء بها إلى خلقه الله -سبحانه وتعالى- يجوز الدعاء عليه بزوال نعمته لعله يرجع إلى الله -تعالى- كما حدث مع ذلك الغني الكافر لما زالت النعمة ندم واستعتب وتمنى أن لم يكن أشرك بربه أحدا، وقد قلنا أن الله -سبحانه وتعالى- حكى عن موسى - عليه السلام - وهارون أنهما دعوا على فرعون وملأه بزوال النعمة، وأما قول الله -تعالى- للنبي - صلى الله عليه وسلم - ? لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ?، ونهي الله تعالى عن الدعاء عن الكافرين فهذه واقعة عين، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل خير أصحابه، كانوا يسمون بالقراء إلى جماعة من العرب يدعونهم إلى الإيمان فغاروا عليهم وقتلوهم فلم يتركوا منهم شيئا، فقنت النبي - صلى الله عليه وسلم -عليهم شهرا يدعو عليهم، وبعد شهر قال له الله -تعالى:- ? لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ?128? ? والقول بالجواز لا يستلزم الاستحباب فضلا عن الفرضية إنما هذا جواز، جواز الدعاء على الظالم نفسه بنعمة ما أن تزول لعله أن يتوب إلى الله؛ لأن الغنى أطغاه فلعله إذا زالت النعمة أن يرجع إلى الله - -سبحانه وتعالى- -.
الاستفسار الآخر هل تشبيه الحياة الدنيا بالماء، أم التشبيه كاملا بالماء الذي ? أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ? المثل كامل، أم المثل على الماء فقط؟
الله -سبحانه وتعالى- شبه الحياة الدنيا بالماء، وليس بالماء وحده ولكن بما يتبع نزول الماء، ? فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمً? أن ينزل الماء، فتنبت البذرة فيخرج العود فوق الأرض فيستوى فيحصد وتزول البذرة من الأرض، فهذا مثل الزرع هذا كله هو مثل الحياة الدنيا في عدم بقائها ودوامها.
(6/26)
---(1/187)
السؤال الثالث: كان عن حديث الباقيات الصالحات، الأثر الوارد فيه أخرجه الشيخ أحمد شاكر في المسند بإسناد صحيح عن معنى الباقيات الصالحات
إذا صح حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الباقيات الصالحات: هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فليس هذا الحديث وإن صح يفيد الحصر كما قلت وإنما اللفظ عام، كل الأعمال الصالحة هي الباقيات الصالحات.
السلام عليكم ورحمة الله، كنت أريد أن أقول للشيخ عبد العظيم أنه في أول حلقة ذكر أحد الحاضرين أن هناك مؤلف اسمه الكتاب ودكتور عبد العظيم قال: أنه لا يوجد كتاب اسمه بعنوان الكتاب لكن هناك كتاب لسيبويه كتاب في علم النحو والصرف اسمه الكتاب، وألفه قبل وفاته فأطلق عليه لفظ الكتاب.
جزاكم الله خيرا للتوضيح.
وإياك وهو الآن يدرس في الدراسات العليا في جامعة الأزهر في قسم اللغة العربية.
جزاكم الله خير
هناك استفسار لفضيلة الشيخ أريد أن أعرف أي طبعة للدكتور محمد نسيب الرفاعي.
مختصر ابن كثير لشيخنا محمد نسيب الرفاعي طبعة دار المعارف بالرياض بالمملكة.
الأخ يسأل: هل لا بد تسجيل كل شيء من المحاضرة أم نسجل ما فهمناه من المحاضرة.
أنا أنصح أنه يسجل كل شيء يسجل المحاضرة ويفرغها كتابة ويدرسها إن شاء الله تعالى.
الأخ يسأل: هل أسلم واتعظ صاحب الجنة بعد هلاك جنته؟ وبعد أي نبي حدثت هذه القصة؟
أما بعد أي نبي حدثت، فالله تعالى أعلم في أي زمان كانت هذه القصة، وأما هل أسلم بعد زوال النعمة فهو ندم ? يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدً? هو ندم على شركه لكن هل دخل في التوحيد الله تعالى أعلم.
الأخت تقول: إذا رأيت ما يعجبني في نفسي ومالي وذريتي أقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فإذا رأيت ما يعجبني لدى غيري فماذا أقول.
(6/27)
---(1/188)
هو نفس القول قلنا إذا رأيت ما يعجبك من مالك أو ولدك أو أهلك أو على غيره فقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله فإن هذه الكلمة تدفع العين بإذن الله.
الأخ يسأل: هل الدعاء على الظالم يكون عند رؤية الظلم أم بعد نصيحة الظالم؟ وهل مهما كان الظالم مسلما أو كافرا يجوز لنا أن ندعو عليه؟
ندعو عليه كما قلت رجاء أن يتوب الله عليه بعد نصحه وتذكيره ووعظه ودعوته إلى الله -عز وجل-، وإلى الإيمان بالله -عز وجل- وإلى الإقلاع عما هو عليه من كبر وطغيان وإفساد في الأرض كما فعل الرجل المؤمن، هو ناظر صاحبه وناظره ودعاه فلما يئس منه دعا عليه بزوال النعمة وكان بهذا الدعاء رجاء أنه يتواضع بعد زوال النعمة؛ لأن من شأن المصائب أنها تهز الإنسان ومن شأن البلاء أنه يوقظ الفطرة الراكدة في قلب الإنسان، ولذلك الإنسان لا يعرف ربه إلا في وقت الشدة كما قال الله -تعالى- عن الكافرين: ? فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? [العنكبوت: 56]، فمن شأن الشدائد أنها توقظ القلب الغافل وتجعل الإنسان يرجع إلى الله تعالى -سبحانه وتعالى-، فالدعاء على الظالم بعد وعظه ودعوته يدعى عليه بزوال النعمة رجاء أن يتواضع ويتوب إلى الله -تعالى- بعد أن يصير فقيرا.
هل يجوز أن يدعو عليه بشر
الدعاء قلنا يدعو عليه بزوال نعمته؛ لأن النعمة هي التي أفسدته، كما قال الله -تعالى:- ?كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ?6? أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ?7??[العلق: 6:7]،فيدعو عليه بزوال النعمة التي أفسدته رجاء أن يصلحه الله -تعالى- بزوالها.
الأخ يقول هل مثل الرجلين مثل واقعي بالفعل، أعتقد في القصة .
(6/28)
---(1/189)
الله تعالى قال:- ? وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا ? قال العلماء: هل هذا المثل وقع وكان هناك رجلين هذا فقير هذا حاله وكان بينهما ما وقع في الصورة أم كان هذا مثلا ضربه الله -تعالى- لا حقيقة له في الواقع؟ اختلف المفسرون في ذلك والله -تعالى- أعلم بالحقيقة، لكننا يهمنا العبرة والعظة والدروس المستفادة من هذا المثل الذي ضربه الله -تعالى- لنا.
ما نوع العقاب الذي وقع على الرجل الكافر في البستان.
نزلت نارمن السماء فأحرقت البستان.
الأخ يسأل: يقال على المظلوم أن يستعين على الظالم بسهام الليل، فما سهام الليل؟
يعني الدعاء عليه في السحر، النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب).
الأخ يسأل: قلت جواز الدعاء على الظالم لنفسه بزوال النعمة، فهل نجد ذلك في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم-
لا يحضرني الآن مثال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثال، لكن تذكرت الآن، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استعصت عليه قريش ورفضت الدعوة في أول ميلادها قال: اللهم أعني عليه بسبع كسبع يوسف، ما سبع يوسف؟ السبع سنين الجدب والقحط، فالنبي - صلى الله عليه وسلم -د عا على قريش أن يصيبهم بسبع كسبع يوسف، يصيبهم الجدب والقحط والبلاء لماذا؟ للحكمة التي ذكرناها جواز الدعاء على الظالم بزوال النعمة؛ لعله يتوب إلى الله تعالى، فلما أجدبوا جاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألونه هو أن يدعو الله -تبارك وتعالى- لهم ودعا الله -تبارك وتعالى- لهم.
سؤال يقول: كيف يكون شكر النعمة وما جزاء من يبخل بماله؟
(6/29)
---(1/190)
شكر النعمة يكون باستخدامها في طاعة الله -تعالى- أن تستخدم نعمة الله فيما يقربك من الله -سبحانه وتعالى-، أما البخيل فحسبه قول الله -تعالى:- ? وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ?180?? قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (من آتاه الله مالا لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له ذبيبتان يأخذ بلهزمتيه -أي شدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية.)
أيهما أولى الدعاء بالهداية أو الدعاء عليه، ولو كان الظالم مسلما كيف يكون الدعاء عليه وهناك ملك يقول ولك مثل ذلك.
يجب أن نقول إن الدعاء على الظالم جائزا لكن يجب أن نتعلم من هدي السلف أن نكون منصفين في دعائنا، سعد بن أبي وقاص لما شكاه أهل الكوفة أنه يفعل ويفعل ولا يحسن أن يصلى، بعث عمر - رضي الله عنه - إلى الكوفة من يتحرى عن هذه الأخبار ومدى صحتها، فدخل الرجل المساجد كلها في الكوفة فأثنو على سعد خيرا، فدخل مسجد وسئل، فقال رجل أما وقد نشدتنا بالله فإن سعدا يفعل ويفعل وسعد بريء، انتبه إلى ما أقول من الإنصاف في الدعاء على الظالم، لم يدع سعد على هذا الإنسان الذي اتهمه مجرد الدعاء أو مطلق الدعاء وإنما قام فقال:"اللهم إن كنت تعلم أن عبد ك هذا قام مقام رياء وسمعة وقد ظلمني بما قال فافعل به وافعل" فاستجاب الله دعوة سعد - رضي الله عنه - فهذا من أدب الإنصاف إذا أردت أن تدعو على من ظلمك، فربما تظن أنه ظلمك ولم يظلمك، فكن منصفا وقل: اللهم إن كان فلان ظلمني فافعل به وافعل، فإذا لم تصادف الدعوة محلا لا ترجع إليك؛ لأن الدعوة إذا خرجت فلم توافق محلا رجعت على الداعي فتعلم الإنصاف في دعائك حتى تسلم بإذن الله -تعالى:-
(6/30)(1/191)
---
إن الغني إذا رزقه ربه يجب عليه أن يعرف كيف ينفق ماله، والفقير إذا لم يعطه فيصبر على هذه لكي يحصل على الأخرة إن شاء الله، وهل للدعاء على المسلم ما للدعاء على الظالم.
الدعاء على الكافر جائز كما شرحنا والدعاء على الظالم المسلم أيضا جائز بما قيدناه.
كيف نحسن التوفيق بين قوله تعالى: ? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ?46? ? وبين قوله تعالى: ?وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ? [القصص: 77]،.
(6/31)
---(1/192)
لو أذن لنا أن نقول: بقول بعض السلف أن ?وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ? أن نصيبك من الدنيا هو ما ينفعك في الآخرة، وليس على ظاهره أنه حظوظك من الدنيا وشهواتك، لكن لو نزلنا نقول: احرص على ما ينفعك ولا تنس نصيبك من الدنيا، فالدعوة إلى الزهد والدعوة إلى إيثار الآخرة، ليست معناها دعوة إلى ترك الدنيا بالكلية والإعراض عنها، ولكنها دعوة إلى أن نعيش كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعيش، كان إذا وجد أكل شبع وكان إذا فقد صبر واحتسب ولم يكن يتكلف غير الموجود، - صلى الله عليه وسلم - فإذًا ?وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ? يعنى خذ من الدنيا ما أباح الله لك ?قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ?[الأعراف: 32]، ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ?87? وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ?[المائدة:88:87]، ومع ذلك اعلم أنه ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت ?وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ?76?? [مريم: 7].
في قول الله تعالى ? الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَ? فما زينة من لا يملك مالا ولا بنون في هذه الحياة؟
(6/32)
---(1/193)
قال الله تعالى ? زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ?14? قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ ?[آل عمران: 15:14]، وتكفيهم هذه العندية للذين اتقوا عند ربهم الذين لم يعطوا من زينة الدنيا شيئا ? لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ?15? الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?16? الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ?17? ?[آل عمران: 15-17]، نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا منهم.
سؤال يقول: نرجو التكرم بإعادة أمثلة تشبه الدنيا بالماء وكثرت الأسئلة في هذه الجزئية.
قلنا ذكر العلماء والمفسرون ومنهم القرطبي -رحمه الله- في تفسيره، لماذا شبهت الدنيا بالماء قالوا: هناك وجوه شبه كثيرة.
أولاً: لأن الماء لا يستقر في مكان، وكذلك الدنيا لا تستقر عند إنسان.
ثانياً: الماء لا يثبت على حال، وكذلك الدنيا، دوام الحال من المحال.
ثالثاً: من دخل الماء ابتل، وكذلك من دخل الدنيا لم يخرج منها سالما.
(6/33)
---(1/194)
وأخيراً: الماء إذا كان بقدر نفع، وإذا زاد عن قدره ضر، الطوفان أغرق الله -تعالى- به أمة كاملة، وأنجى نوحا ومن آمن به، فالماء إذا كان بقدر نفع وإذا زاد عن قدره ضر، وكذلك الدنيا كلما كان رزق الإنسان فيها كفافا وقوتا، كلما كان ذلك أقرب إلى سلامته ونجاته، وكلما فتحت الدنيا على الإنسان، كلما كان قريبا من الهلاك والضياع، لأنه لا ينجو مع كثرة المال إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم، لأن الله حكم على عامة الناس ? كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ?6?أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ?7??[العلق: 7:6].
هل يجوز أن يدعوا الإنسان على من ظلمه أمام الناس أم بينه وبين نفسه وهل يجوز التشهير به؛ لأنه يظن أنه ظلمه،وقد لا يكون ظلمه.
وقالت: إنه يظن أنه ظلمه وهو لم يظلمه، وأعود فأقوله في حق سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه قال: "اللهم إن كان عبدك هذا ظلمني، وقام مقام رياء وسمعة فافعل به وافعل" فحتى يكون الإنسان منصفا ويسلم من عودة الدعوة عليه أن يقول: اللهم إن كان فلان قد ظلمني وهذا جائز وإن كان الأولى والأفضل والمستحب الصبر ? وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ?134? ?[آل عمران: 143]، وعن مسألة التشهير.
أما التشهير فلا يجوز التشهير بالناس ولا يجوز تجريحهم ولا يجوز أن يغتابوا بما يسيئهم إلا للمصلحة والضرورة، هند بنت عتبة قالت: " يارسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، أفيجوز أن آخذ من ماله ما يكفيني وولدي" فوصفته بالبخل والشح فهذا جهرت به من أجل المصلحة، فغيبة الناس لا تجوز إلى لمصالح ومنها هو هذا السؤال الذي ذكرناه كمثال عن هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان.
السؤال الثاني: عندما تقول: أحد المسلمات أن الله ابتلاني بكذا وكذا أقول لها: هذا الابتلاء للمؤمنين والصالحين فلا بد أن نعتبر أن هذا عقابنا على ذنوبنا فهل أنا مخطئة بكلامي هذا أم غير مخطئة.
(6/34)(1/195)
---
نحن لا نقول أن الابتلاء جزاء مكافأة أو لا يكون البلاء جزاء ومكافأة، الله يكافؤنا بالعافية ويكافؤنا بالنعيم في الدنيا والآخرة إن شاء الله ، أما الابتلاء يكون بذنوبنا حتى نرجع إلى ربنا ? وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ?168? ?[الأعراف: 168]، ? وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ?[الأنبياء: 35]،
هل يمكن أن نقول: أن الباقيات الصالحات هي العبادة بالرجوع إلى تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- للعبادة بقوله أن العبادة قول جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال الظاهرة والباطنة .
هي عممت ما عممناه فهي تشاركنا الرأي في أن الباقيات الصالحات عامة في كل عبادة يحبها الله تعالى في الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
ما معنى هشيما؟
العود الأخضر إذا يبس صار ضعيفا هشا لا وزن له قال تعالى ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ?1? الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ?2?وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ?3? وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ?4? فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ?5? ?[الأعلى: 1-5].
هل عندما يرزق الإنسان بالمال والأولاد مع الشكر الدائم يكون هذا من نعم الله في الدني؟
لا شك أن الله -سبحانه وتعالى- إذا أنعم على الإنسان بالمال والبنين، ثم وفقه للشكر لا شك أن هذه من أجل النعم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا بأس بالغنى لمن اتقى، والعافية خير من الغنى) ويقول: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) فإذا رزق الإنسان المال والبنين ووفق لشكر الله تعالى فالله تعالى أنعم عليه من النعم الدينية والدنيوية معا.
هل إذا رأى الإنسان من النعم الحسنة يقول اللهم - صلى الله عليه وسلم - يجزيء عن قول ما شاء الله أو لا يجزيء
(6/35)
---(1/196)
الأذكار توقيفية ابن عمر سمع رجلا يقول في موضع أتى بذكر غير الذكر المشروع في هذا المكان فنهاه عن ذلك، فالأذكار توقيفية كل ذلك يقال في مناسبة، فكلمة الصلاة على النبي محمد عند رؤية الشيء لم نقرأها في حديث مرفوع ولا أثر موقوف، فينبغى الوقوف على ما ذكرناه ما شاء الله ولا قوة إلا بالله.
كيف تكون الأرض بارزة؟
لما زالت جبالها صارت بارزة لا تخفي شيئا ولا يخفى منها شيء.
هل المقصود بالبنين الأولاد والبنات؟
لا، البنين المعلوم أن البنين هم الذكور وإنما خص الله -سبحانه وتعالى- اللفظ بالبنين؛ لأنه معلوم طبيعة الناس في حب الذكور من الجنسين، فالمال والبنون المراد بالبنين الذكور من الأولاد.
الدعوة على الكافر باللعنة وإذا كان يجوز هل يكون بالفرد أو العموم؟
نحن ننصح المسلم ألا يكون لعانا وأن يكون مهذبا ولا يخرج منه إلا الطيب، فإذا لعن فلا يعين وإنما يقول: لعنة الله على الكافرين، لعنة الله على الظالمين، كما قال الله في كتابه: ? فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ?89??[البقرة: 89]، ? لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ?44? ?[الأعراف: 44]، لأن المعين لا يدرى بما يختم له لعله يرزق التوبة قبل الممات.
بماذا تنصح من كان معلما لمادة التفسير لطلاب المرحلة الثانوية سواء في التحضير أو الشرح أو التدريس؟
الأخ أيمن من المملكة جزاهم الله خيرا ونحن على يقين أن مادة التفسير عندهم وضعها علماء أجلاء معتبرون، فننصحه أن يعتمد على ما كتب له في المقرر، وأن يلتزم به وإن شاء الزيادة إذا أراد أن يضيف معلومات زائدة عن المقرر فليرجع إلى مختصر ابن كثير الذي نبهن عليه مرارا وإلى محاسن التأويل للقاسمي، وإلى تفسير العلامة السعدي رحمة الله عليه.
هل يمكن القول بأن الله أراد بهذا الظالم خيرا لأنه عجل له العقوبة في الدنيا
إن كان قد أسلم وآمن بالله -عز وجل- ودخل في التوحيد فلا شك أن البلاء كان خيرا له .
(6/36)
---(1/197)
هل تحتوى بعض التفاسير على أحاديث غير صحيحة؟
لا شك في ذلك أكثر كتب الأحاديث فيها أحاديث غير صحيحة؛ ولذلك ننصح من يقرأ في كتب التفاسير أن لا يعتمد على مجرد وجود الحديث في الكتاب وإنما يرجع إلى المحدثين المعتبرين ويرى حكمهم على هذا الحديث.
هل عندما نرى ما يعجبنا هل نقول: الآية ما شاء الله لا قوة إلا بال،له أم نقول ما ورد في السنة اللهم بارك لهم .
أنا لا أعلم الحديث الذي ذكره اللهم بارك لهم، فإن كان هو قد اطلع عليه وصح عنده؛ فنقول: ما جاء في الكتاب وفي السنة.
كيف استنتج الرجل الصالح كفر صاحب الجنة
الرجل صرح بكفره قال: ? قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ?35? وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ?هذا إنكار لليوم الآخر والكفر باليوم الآخر كفر بالله -عز وجل-، ? وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?5??[الرعد: 5].
هل يمكن شرح آية ? هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ?فما الولاية؟.
الولاء ضد البراء، الكافرون تبرأوا من الله -عز وجل-، وتولوا ما كانوا يعبدون من دون الله، فحين ينزل بهم عذاب الله في الدنيا ويرون من تولهم لا ينفعوهم، حينئذ يتبرءون من الذين تولهم، ويثبتون الولاية لله -تعالى- كما قال -تعالى:- ? فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ?84?? [غافر: 84].
إذا كان قوم فاسقون ولا تملك أن تغير ما بهم أو وقع منك تقصير وأتاهم عذاب من الله وأنت معهم فكيف تكون عاقبتك في الآخرة.
(6/37)
---(1/198)
كما شرحنا في حديث عائشة (ثم يبعثون على نياتهم) إذا نزل البلاء فعم المذنبين وغير المذنبين عم الصالحين وعم الطالحين، عم المصلحين والمفسدين، فإنهم يموتون جميعا ثم يوم القيامة يتميزون يبعثون على نياتهم.
(6/38)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
من قوله تعالى "ويوم نسير الجبال"
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم مرحبا بكم في هذا اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة الكهف، و الآيات التي معنا منها هذه الساعة المباركة - إن شاء الله تعالى- تضمنت من المعاني ما يلي:
أولاً: أهوال يوم القيامة .
ثانياً: التحذير من التهاون بصغائر الذنوب.
ثالثاً: التحذير من موالاة الشيطان.
رابعاً: ثبوت التوحيد وبطلان الشرك .
خامساً: ما يجوز من الجدال وما لا يجوز .
سادساً: التحذير من الإعراض عن القرآن الكريم .
سابعاً: وربك الغفور ذو الرحمة .
وأخيراً: وجوب الاعتبار بهلاك الظالمين .
وهذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات التي معنا من سورة الكهف من المعاني والتي سنعيش معها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالى، فلنستمع إلى هذه الآيات المباركات أولا قبل الخوض في تفاصيلها، سائلين الله عز وجل أن ينجز لنا ما وعدنا حيث قال: ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?[الأعراف: 204](1/199)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(7/1)
---
? وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ?47? وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ?48? وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ?49? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ?50? مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ?51? وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ?52? وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ?53? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ?54? وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ?55? وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ(1/200)
وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا
(7/2)
---
?56? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ?57? وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ?58? وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ?59??[الكهف:47-59].
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ?[ص: 29].
?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? [الحشر:21 ].
?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر: 23].
(7/3)
---(1/201)
إخوة الإسلام لما ذكر الله - تبارك وتعالى - فناء الدنيا وزوالها، ورغب في الباقيات الصالحات التي تنفع في الآخرة، أتبع ذلك بذكر أهوال يوم القيامة التي لا ينفع فيها مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فقال تعالى: ? وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ? وتسيير الجبال من أماكنها بعد ثبوتها واستقرارها يكون يوم القيامة بعد النفخ في الصور، كما قال تعالى: ? وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ?87? وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ? [ النمل:87-88].
قال تعالى ? يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً ?9? وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ?10??[الطور:10] .
وقال تعالى ? فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ?14? وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ?14? فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ?15?? [الحاقة:13-15].
فإذا وقعت الواقعة ماذا يحدث للجبال وللأرض وما عليها ؟
قال تعالى: ? إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ?1? لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ?2? خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ?3? إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ?4? وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ?5? فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ?6? ?[ الواقعة:1-6].
وقال تعالى: ? وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ?1054? فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ?106? لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ?107??[ طه:105-107].
(7/4)
---(1/202)
وكذلك قال تعالى: ? وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ? ليس عليها ما يكنُّ، وليس عليها ما يوارى، وليس عليها ما يستر، لماذا؟ ? وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ?105? فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ?106? لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ?107?? فظهر كل ما عليها ولم يجد شيءٌ شيئاً يستتر وراءه ويختبئ فيه.
? وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ?47??
الحشر معناه: الجمع، وحشرناهم: أي جمعناهم بعد البعث بعد النفخ في الصور، جمعناهم أجمعين فلم نترك منهم أحداً .
كما قال تعالى: ? قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ?49? لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ?50??[ الواقعة:49-50].
وقال تعالى: ? يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ?[التغابن:9].
حتى إن الله - سبحانه وتعالى - يحشر البهائم والدواب والطيور، كما قال تعالى: ? وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ?[التكوير:5] .
وقال تعالى: ? وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ?[الأنعام:38] .
(7/5)
---(1/203)
? وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ?47? وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ? هذه المليارات من البشر منذ أن نزل آدم إلى الأرض إلى آخر نفس قامت عليها الساعة حشرت وجمعت في أرض واحدة بارزة، فكيف يسيرون؟ وكيف يمشون؟ وأنت ترى المئات من الناس يخرجون من المسجد يوم الجمعة في زحام متفرقين أوزاعاً متفرقين، هذا هكذا، وهذا هكذا، وهذا للناحية هذه، وهذا للناحية الأخرى، فيه هرج ومرج، فيه مئات من البشر يخرجون من مكان واحد مثلاً يوم الجمعة، فكيف يكون الناس يوم القيامة؟! كلهم أجمعون مليارات من البشر، كيف يخرجون من الأجداث سراعاً؟! وكيف يقفون في أرض المحشر ؟!
قال تعالى: ? وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ? فهناك ترتيب وهناك نظام ? وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ? قال تعالى: ? كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ?21? وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ?22?? [ الفجر:21-22].
وقال تعالى: ? يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً ?[النبأ:38].
? وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ?[الكهف:48]، هذا تبكيت وتوبيخ للكفرة الفجرة الذين زعموا أنه لا قيام ولا بعث ولا حساب ولا جزاء ? زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا ?[التغابن:7]، ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ?[سبأ:3].
وبالغوا في الجرأة والوقاحة؛ فأقسموا بالله على ذلك ? وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ?[النحل:38] .
(7/6)
---(1/204)
فالله - تبارك وتعالى - يقول لهم توبيخاً وتبكيتاً على رؤوس الأشهاد، وقد حشروا وجمعوا، وصار الحشر والجمع رأس العيان يقول لهم: ? لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ? هذا التشبيه ? لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ? يعني كما أنشأناكم أول مرة، فنحن قد أنشأناكم النشأة الآخرة، كما قال - تبارك وتعالى - ? وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ ?[الواقعة:62] .
فتعلمون أن الذي أنشأكم أول مرة قادر على أن ينشأكم مرة ثانية ? لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ? ? كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ? [الانبياء: 104] ? وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ?[الروم:27] .
لقد خلقناكم أي للنشأة الثانية كما خلقناكم في النشأة الأولى، ? لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ? وجئتمونا كما أخرجناكم من بطون أمهاتكم لأول مرة، خرج الإنسان من بطن أمه لا يملك شيئاً، بل ليس عليه كساء يستر عورته، وكذلك يخرج من بطن الأرض يوم القيامة كما خرج من بطن أمه إلى الدنيا، إنكم محشورون إلى الله تعالى يوم القيامة حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم - عليه السلام -.
? لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ?48?? .
(7/7)
---(1/205)
فقد كذبتم في زعمكم هذا، وتبين لكم أنكم كنتم كاذبين، فالله - سبحانه وتعالى - وعدكم أن ينشأكم النشأة الآخرة، وها هو - سبحانه وتعالى - قد أنشأكم النشأة الآخرة، وجمعكم في أرض المحشر أجمعين ? هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ?38? فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ?39? وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ?[المرسلات:38-40] .
? وَوُضِعَ الْكِتَابُ ? والمراد به كتاب الأعمال؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - وكل بكل إنسان كراماً كاتبين: ملكان عن اليمين وعن الشمال يكتبان أعمال الإنسان من خير أو شر، كما قال تعالى: ? وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ?10? كِرَاماً كَاتِبِينَ ?11? يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ?[ الانفطار:10-12]، وقال تعال ? وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ?52? وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ?[القمر:53]، وقال تعالى ? إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ?[يّس:12] .
? وَوُضِعَ الْكِتَابُ ? يعني كتاب الأعمال، يقول الحسن البصري: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل لك ملكان كريمان: أحدهما: عن يمينك يكتب حسناتك، والآخر: عن شمالك يكتب سيئاتك، فإذا مت طويت صحيفتك، وجعلت معك في عنقك تلقاها يوم القيامة كتابا منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.
(7/8)
---(1/206)
? وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ ? الظالمين الكافرين المشركين ? فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ ? خائفين ? مِمَّا فِيهِ ? أي مما رأوه في هذا الكتاب ? وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ? ? وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا ? أي ويلة تأنيث الويل، والويل هو الهلاك والموت، فلما رأوا مصيرهم وعاينوا قدر الله فيهم من العذاب المهين؛ دعوا على الهلاك أن يحضرهم، ودعوا على الموت أن يحضرهم؛ حتى يموتوا قبل أن يصيروا إلى ما ينتظرهم من العذاب المهين في الجحيم والعياذ بالله، كما قال تعالى: ? وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ?25? وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ?26? يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ?27? ?[ الحاقة:25-27] كانت الموتى التي لا بعث بعدها ولا حساب ولا جزاء .
? وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا ? احضري فهذا أوانك خلصينا مما ينتظرنا من العذاب المهين .
? وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ?.
قال بعض السلف : لم يشتكوا ظلما وإنما اشتكوا الإحصاء، لم يشتكوا ظلما؛ لأن الله لم يظلم مثقال ذرة، وإنما اشتكوا من الإحصاء: أن هذا الكتاب قد أحصى أعمالهم، وأقوالهم وعدها عداً، حتى إنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
قال الفضيل بن عياض رحمه الله : ضجوا من الصغائر قبل الكبائر، فقالوا: ? يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ?.
(7/9)
---(1/207)
والذنوب قسمان: صغائر، وكبائر. والكبائر: جمع كبيرة، والكبيرة ما ترتب عليها حد في الدنيا، أو عقوبة في الآخرة، فالزنا كبيرة، قال الله تعالى: ? الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ?[النور:2]، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات كبيرة ? وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ?[النور:4]، والسرقة كبيرة ? وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ?[المائدة:38]. فهذه الكبائر؛ لأنه ترتب عليها حد في الدنيا، والقتل كبيرة قال الله تعالى ? وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ?[النساء:93].
فالكبيرة: ما ترتب عليه حد في الدنيا أو عقوبة في الآخرة .
والصغيرة: ضد الكبيرة ما لم يترتب عليه حد في الدنيا ولا عقوبة في الآخرة.
والصغائر: أشد ضرراً على الإنسان من الكبائر، صغائر الذنوب أشد ضرراً على الإنسان من كبائر الذنوب، لماذا؟
لأن المسلم بالفطرة مهما كان به من فسوق، ومهما كان به من عصيان، إلا أنه يحذر الكبائر ويخافها، وإذا ارتكبها كانت مرات ارتكابها معدودة، فإذا زنا كان هذا الذنب منه معدوداً، وإذا سرق كان الذنب معدودا، والقتل قد لا يوجد أصلاً، وإذا حدث كان أقل من الزنا والسرقة؛ لأن النفس المسلمة بفطرتها تحذر الكبائر وتخاف كبيرة، أعوذ بالله يحجم عنها ولا يقع فيها، ولا أن يلم بها لمة .
(7/10)
---(1/208)
أما الصغائر: فالإنسان يستهين بها ولا يحذرها كما يحذر الكبائر، فيتكلم بالكلمة فتقول له: اتق الله هذا لا يجوز، يقول لك الله - سبحانه وتعالى - قال: ? إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ?[النساء:31]، ? الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ?[النجم:32] فهذا من اللمم لا حرج علينا فيه، فهو يستهين بالصغائر ولا يحذرها كما يحذر الكبائر فيسرف منها، ويكثر منها، فتجتمع عليه هذه الصغائر التي استهان بها حتى تهلكه والعياذ بالله .
ولقد ضرب - النبي صلى الله عليه وسلم - للصحابة مثلاً قال: ( إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) ثم ضرب مثلاً فقال: كقوم مسافرين أرادوا أن ينضجوا طعامهم، فذهب هذا فجاء بعود، وذهب هذا فجاء بعود، وذهب الثالث فجاء بعود، فجمعوا من العود الواحد عيدان كثيرة وحطباً كثيراً فأوقدوا ناراً وأنضجوا طعامهم .
فكذلك الصغائر ذنب بعد ذنب بعد ذنب تكثر هذه الصغائر فتجتمع على الرجل حتى تهلكه والعياذ بالله؛ ولذلك قال الشاعر الحكيم موصياً بترك المعاصي كلها صغيرها وكبيرها قال:
خل الذنوب صغيره وكبيرها ذاك التقي
خل الذنوب، اترك الذنوب صغيرها وكبيرها لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، هذا ذنب صغير، ولكن أنت بارتكابك هذا الذنب الصغير خالفت أمر من ؟
خالفت أمر العلي العظيم - سبحانه وتعالى - فكفاك بهذا .
فخل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
(7/11)
---(1/209)
هذه الجدران في العمارات، الجدار الذي يكون عشرون متراً وثلاثون وأربعون، هذا الجدار الطويل العالي أصله طوبة واحدة ارتفاعها عشرة سم وضعت طوبة فوق طوبة فوق طوبة فتكون منها هذا الجدار العالي المرتفع، وكذلك الصغائر صغيرة فوق صغيرة تكثر وتكبر؛ تسود بها الصحيفة، ويسود منها الوجه يوم القيامة والعياذ بالله، وقد ضرب العلماء للصغائر مثلاً فقالوا:
لو أنك تركت حنفية المياه لم تحكم إغلاقها سينزل الماء من هذه الحنفية قطرة قطرة، فلو أنك تركت هذه الحنفية على هذا الوضع تقطر قطرة بعد قطرة فجئت بعد أسبوعين أو ثلاثة ونظرت في البلاط الحجر الصلب، الذي تحت هذه الحنفية لوجدت هذه النقطة مع تكرارها أثرت في الحجر وخذقته وخرمته، في حين أنك لو جئت بخزان ماء مترين مكعب أو متر مكعب ثم صببته مرة واحدة على البلاط لم يؤثر فيه، وكذلك الكبائر يلم بها الإنسان لماً ثم يقلع عنها .
أما الصغائر فلأنه لا يحذرها ويستهين منها فيسرف فيها فتكثر عليه فتجتمع عليه حتى تهلكه والعياذ بالله، فيجب على كل مسلم أن يحذر من الصغائر أن يحذر من التهاون بها :
فخل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
? وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً ? [ الكهف:49].
وقال ? يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ?[آل عمران:30].
وقال - سبحانه وتعالى - في الحديث القدسي ( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )
? وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ?.
(7/12)
---(1/210)
? وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ?[فصلت: 46] .
في الحديث القدسي أن الله تعالى قال ( يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً ) .
? وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ? بلا زيادة ولا نقصان ? وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ? ? إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ?[النساء:40] .
? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ?[الانبياء:47].
ولذلك قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه ? يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ?[لقمان:16].
وفي الحديث عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( إن الله تعالى سيخلص رجلاًَ من أمتى على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل منها مثل مد البصر )، هذه سجلات الذنوب الخطايا والسيئات التي كتبتها الملائكة، هذا هو كتاب الأعمال .
(7/13)
---(1/211)
( إن الله تعالى سيخلص رجلاًَ من أمتى على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل منها مثل مد البصر فيقول أتنكر من هذا شيئا ) هل رأيت في هذا الكتاب زيادة؟ أتنكر من هذا شيئا، أظلمك كتبتي الحافظون فكتبوا عليك ما لم تقل أو تعمل زادو أو نقصوا؟ أتنكر من هذا شيئاً؟ ( أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب ) اسمع ( فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا يا رب ) والشاهد هو اللآتي ( فيقول: تعالى بلى، إن لك عندنا حسنة، فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، - صلى الله عليه وسلم - فيقال: احضر وزنك، فيقول: يا رب وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنه لا ظلم عليك، احضر وزنك ) قال - صلى الله عليه وسلم - ( فوضعت البطاقة في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء ) .
وفى هذه المعاني يقول الشاعر الحكيم :
مثل وقوفك يوم الحشر عريان مستوحشاً قلق الأحشاء حيران
واقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كان
لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفان
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشان
المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون لدار الخلد سكان
? وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً ?[ الكهف:49] بلا زيادة ولا نقص ? وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ? .
(7/14)
---(1/212)
ثم يقول تعالى ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ? ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ ? واذكر يا نبينا إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود احترام وإجلال وتحية وتقدير ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا ? لأن الملائكة وصفهم الله تعالى بقوله: ? لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ?[ التحريم: 6] اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يسجد؛ لأنه لم يكن من الملائكة، إنما كما قال تعالى ? إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ? فهو عالم غير عالم الملائكة، فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين العالمين: عالم الملائكة، وعالم الجن، فقال: ( خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم ) فإبليس لم يكن من الملائكة، إنما كما قال ربنا كان من الجن ففسق أي خرج عن أمر الله - تبارك وتعالى - ولم يطع الله - تبارك وتعالى - أبى واستكبر وكان من الكافرين كان من الجن فخانه أصله وغلب عليه طبعه، ? قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ?[الأعراف: 12] .
(7/15)
---(1/213)
? إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ? قد يقول قائل فإذا كان إبليس من الجن ولم يكن من الملائكة فلماذا عذبه الله تعالى على ترك السجود لآدم والأمر كان للملائكة، ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا ? فلماذا عذب الله تعالى إبليس على ترك السجود لآدم وهو من الجن كما قال تعالى وليس من الملائكة؟ الجواب: الله - سبحانه وتعالى - قال لإبليس ? مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ?[الأعراف:12] إذاً كان هناك أمر لأبليس، سواء كان هذا الأمر أمراً خاصاً به: يعني أمر الله الملائكة أمراً عاماً وأمر إبليس أمراً خاصاً، فالله صرح بقوله ? مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ? أو يكون لما كان إبليس من الجن كان مقيماً مع الملائكة في العالم العلوي وكان يعبد الله - تبارك وتعالى - ويسبح بحمد الله كما تعبد الملائكة وتسبح بحمد الله - عزّ وجلّ - والإنسان إذا وجد في بيئة ولو كان غريباً عليها وأجنبياً عنها إلا أنه يجب عليه أن يحترم الأوامر والقوانين والأنظمة التي تطبق على هذه البيئة التي يعيش فيها.
نحن الآن في هذا الزمان وفى هذا العصر، سافر البشر أسفاراً كثيرة واختطلت الجنسيات بعضها ببعض فى أراض مختلفة، فلو أن أجنبياً يقيم في وطن غير وطنه، هل يجوز له أن يخالف الأنظمة والقوانين والأوامر بحجة أنه غريب ؟ أم يجب عليه ما دام يقيم فوق أرض هذا الوطن أن يحترم أنظمته وقوانينه وينفذ تعليماته ؟ الثاني هو الصواب: أن من وجد فوق أرض في بيئة غير بيئته كان غريباً عليها وليس منها إلا أنه احتراماً لهذا الوطن، واحتراماً لهذا البلد؛ يجب عليه أن يحترم أنظمته وتعاليمه وقوانينه، فإبليس لم يكن من الملائكة كان من الجن، لكنه كان معهم في العالم العلوي فلو فرضنا أن الله لم يخصه بأمر كان الأمر للملائكة أمر له .
(7/16)
---(1/214)
? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ ? أي خرج عن أمر ربه وعصى الله تعالى ولم يطعه بالسجود لآدم، فمن هنا ظهرت عداوة إبليس لربنا بارينا، كما ظهرت عداوته لآدم أبينا، فهل يليق بنا أن نوالي عدو ربنا ؟! وهل يليق بنا أن نوالي عدو أبينا؟!
إن إبليس حين أبى أن يسجد لأبينا آدم أظهر بذلك عداوته لله بارينا، وأظهر عداوته لآدم أبينا، فلا يجوز أن نواليه بعد أن عادانا، ومع ذلك فإن خلقاً كثيرين من بني آدم قد تولوا الشيطان، ولم يتولوا الله الرحمن، فالله ينكر عليهم هذه الولاية فيقول: ? أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ? أتوالون الشيطان وهو عدو لكم عدو ربكم وعدو أبيكم أتوالونه؟ ? أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ? بئس البدل بدل الظالمين الكافرين الذين استبدلوه، استبدلوا ولاية الشيطان بولاية الرحمن فتولوا الشيطان وتبرأوا من الرحمن - سبحانه وتعالى - بئس للظالمين بدلا .
(7/17)
---(1/215)
ثم يقول تعالى في إنكاره على أولياء الشيطان وعبّاده لما تعبدون الشيطان من دون الله ؟ و لما تتولون الشيطان من دون الرحمن ؟ ? مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ? إن الإله الحق الذي يجب أن يفرد بالعبادة هو الذي خلق فسوى وقدر فهدى، الله يقول: ? مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ? لم يكن الشيطان موجوداً أصلاً حين خلق الله تعالى السماوات والأرض، لم يشهد خلقهما فضلاً عن أن يخلقهما هو ابتداء أو أن يشترك في خلقهما؛ لأنه حين خلق الله السماوات والأرض لم يكن إبليس أصلاً موجوداً، فكيف توالون الشيطان ؟ توالون المخلوق وتعادون الخالق ? أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ?[النحل:17] .
ولذلك قال تعالى: ? الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ?[الأنعام:1] يعني الله - سبحانه وتعالى - خلق السماوات والأرض وحده، وجعل الظلمات والنور وحده، ومع ذلك أبى الظالمون إلا كفورا؛ فسووا المخلوق بالخالق في العبادة والمحبة والتوكل والإنابة وغير ذلك، عبدوهم كما يعبدون الله كيف عبدتم من لا يخلق ؟ ? أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ?؛ ولذلك يقول تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ? ربكم من ? الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ? أي وخلق الذين من قبلكم اعبدوه؛ لعلكم تتقون؛ لأنه الذي خلقكم وهو الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً في العبادة وأنتم تعلمون أنه لا ند له في الخلق .
(7/18)
---(1/216)
? قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ?[فاطر:40].? هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ?[لقمان:11] فاعبدوا الله وحده ولا تعبدوا غيره؛ لأن كل ما سوى الله مخلوق مملوك مربوب لله - سبحانه وتعالى - ولا يمكن أن يسوى المخلوق بخالقه أبدا ? أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ? ? اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ? [ الروم:40] .
فقوله تعالى ? مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ?[الكهف:51] يعني أن الشيطان الذين توليتموه من دون الله لم يخلق السماوات والأرض، ولم يخلق نفسه فضلاً عن أن يخلق غيره؛ فهو لا يستحق العبادة أبداً، ولا يستحق العبادة غيره. لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله.
? مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ?
أصل العضد: هو المسافة ما بين المرفق إلى الكتف، هذا يسمى عضد، وهذا العضد هو القوة والبأس والشدة في عضده، فاستعير العضد وهو محل القوة إلى المعين والنصير، فمعنى قوله تعالى ? وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ?: أي أعواناً و نصراء، لم أتخذ منهم معيناً ولا نصيراً.
(7/19)
---(1/217)
? وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ?51? وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ?52?? واذكر يا نبينا يوم يقول الله تعالى للمشركين: نادوا شركائي الذين زعمتم، لقد زعمتم أن لله شركاء وكنتم تعبدونهم في الدنيا رجاء أن ينفعوكم في الآخرة، فها أنتم الآن في دار الآخرة أنتم أحوج ما تكونون إلى شركائكم الذين زعمتموهم لله - تبارك وتعالى - فالآن ادعوهم استغيثوا بهم ليغيثوكم الآن ? وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ? والله - سبحانه وتعالى - قد أخبرهم في الدنيا أنهم لن يستجيبوا لهم في الدنيا ولا في الآخرة، قال تعالى: ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ?5? وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ?[الاحقاف:5-6]. وقال تعالى ? يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ?13? إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ?[ فاطر:14].
(7/20)
---(1/218)
فيا أيها المسلم إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وإذا دعوت فادعو الله، ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، فإن فعلت فإنك إذاًَ من الظالمين أي المشركين، إذا دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، إذا سألت غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله إذا سألت المخلوقين أو الأموات أشياء لا يملكونها فقد أشركت بالله - سبحانه وتعالى - ? وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ?[يونس:106] أي من المشركين .
? وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ? ولم يغيثوهم، ولم يعطوهم ما سألوا، ولم يحققوا لهم ما كانوا يرجون من الشفاعة عند الله - سبحانه وتعالى - وتقريبهم عند الله زلفى، وجعلنا بينهم: بين الشركاء وشركائهم، بين المشركين وشركائهم ? وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ? الموبق: اسم مكان موبقا أي مهلكاً. ( اجتنبوا السبع الموبقات ) أي المهلكات.
قال بعض المفسرين: المراد بالموبق ? وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ? واد واسع من النار تسيل النار من حافتيه: يعني فرق الله - تبارك وتعالى - وباعد بين المشركين وشركائهم بعد المشرق والمغرب، فجعل بينهم موبقا: أي مهلكاً واد من النار واسع عميق مليء من النار، فلا يمكن لشركائهم أن يعبروا إليهم؛ ليخلصوهم، ولا يمكن لهم أن يعبروا إلى شركائهم؛ لينفعوهم ? وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ?52? وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ?53??
? وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ?[الشعراء:91] ? وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً ?[الكهف:100] .
(7/21)
---(1/219)
فلما رأوها ظنوا، والظن هنا ليس معناه الشك والتردد، وإنما هو بمعنى اليقين والجزم ? فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ? ينصرفون إليه ويهربون منها إليه لم يجدوا ولا موئلا ولا ملجأ يلجأون إليه فراراً من عذاب الله - عزّ وجلّ - .
فمن أراد أن يفر من عذاب الله؛ فليفر في الدنيا إلى الله - تبارك وتعالى - ولذلك قال - تبارك وتعالى - ? اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ?[الشورى:47].? فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ?50? وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ? [الذريات:50-51]. ? وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ?53? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ?54?? .
هذا والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سؤالي هو: معروف أن سيدنا محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ ربنا لما طلع إلى الله قال ( نور أنى أراه ) وسيدنا موسى لما طلب من ربنا رؤيته، قال: انظر إلى الجبل الآية، السؤال إبليس الحوار الذي بينه وبين الله هل هو حوار نفسي أم تم رؤية بينه وبين الله مواجهة ؟
لم نقرأ أن هذا كان كفاحاً يعني ليس من وراء حجاب، وعلى أي حال كان هذا في العالم العلوي قبل نزول آدم وإبليس إلى الأرض، فالله - تبارك وتعالى - أعلم .
(7/22)
---(1/220)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عندي سؤالين وعندي استفسار، السؤال الأول: هل الأنبياء يعني يخرجون من قبورهم يوم القيامة مستورين، يعني يخرجون مثل الناس أو أن الله يسترهم؟ أما الشق الثاني: ما رأيكم في تفسير سيد قطب في ظلال القرآن، وهناك بعض الناس من يخطئ هذا التفسير حتى يسمونه في ضلال القرآن وكذا، ما توجيهكم لهؤلاء الشباب الذين ينتهجون هذا المنهج؟
أي نعم ذكرنا في أثناء التفسير قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده ) ثم قال - صلى الله عليه وسلم - ( ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ).
رحم الله الأستاذ سيد قطب وجزاه خيراً على ما قدم للإسلام، والشيخ رحمة الله عليه بشر شأنه شأن البشر يخطئون ويصيبون، وكتابه في ظلال القرآن لا شك أنه كما كتب كثير من علمائنا فيه أخطاء كثيرة منها في العقيدة؛ فلذلك نحن لا ننصح الطلاب المبتدئين بالقراءة في هذا الكتاب، كما حذرنا في حلقة سابقة الطلاب من القراءة في تفسير الرازي والزمحشري؛ لأن فيها أيضاً أخطاء عقائدية، فنحن لا ننصح المبتدئين بالقراءة في هذه الكتب، وإنما بعد أن يقطع شوطاً كبيراً في التفاسير المأثورة التفاسير السلفية الصحيحة، ويعلم التفاسير الصحيحة والعقائد الصحيحة، لا حرج عليه بعد ذلك إذا قرأ فإنه بعد سعة اطلاعه سيستطيع أن يميز بين الغث والسمين، والحق والباطل فيأخذ ما ينفعه ويترك ما يضره.
وعلينا أن نكون منصفين دائماً حين نخطئ إنساناً لا يجب أن نسلط عليه السهام سهام الشتم ونحو ذلك، فالمسلم ليس بلعان ولا بصخاب، ربنا قال: ? وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ? [الحج:24].
نقول أخطأ سيد قطب في كذا، وأخطأ في كذا، والرجل قد أفضى إلى ربه، والله - تبارك وتعالى - أولى به .
(7/23)
---(1/221)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيما مضى من حياتي كنت أشاهد التلفاز والعياذ بالله باستمرار والأفلام والأغاني، ولله الحمد الآن تبت توبة نصوحة عن مشاهدتها، أسأل الله الثبات، وكنت في الفترة الماضية كنت ولله الحمد أنفق من مالي في الأعمال الصالحة لى ولأهلي لأعمال جارية، هل مشاهدتي السابقة في حياتي الماضية تجعل أعمالي التي فاتت الصالحة هباءً منثوراً، بمعني: أني كنت أشاهد التلفزيون وأعمل أيضاً أعمالاً صالحة هل تصبح أعمالي منثوراً؟ والسؤال الآخر كيف أحتسب عند مشاهدتي الآن لهذه للبرامج الطيبة بإذن الله كيف أحتسب الأجر عند الله ؟ .
نبشرها بتوبة الله عليها ونسأل الله - سبحانه وتعالى - الثبات حتى اللقاء بإذن الله - عزّ وجلّ - ونبشرها بأن التوبة بدلت السيئات حسنات لم تضع حسناتها السابقة بسيئاتها هباء منثوراً بالعكس، الله - سبحانه وتعالى - لما تابت إليه بدل سيئاتها حسنات، وحسناتها القديمة كما هي محفوظة عند الله - عزّ وجلّ - لأن الله تعالى قال ?إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ?[الفرقان:70]
وفى الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها، يؤتى برجل فيقول الله - تبارك وتعالى - للملائكة نحو عنه كبار ذنوبه، واسألوه عن صغارها فيفعلون، فيقول: هذه سيئاتك وقد بدلها الله حسنات ) وكان هو وهم يسألونه عن صغار ذنوبه يتمنى ألا يسألوه عن الكبار، فلما سألوه صغار ذنوبه ( وقالوا هذه سيئاتك قد بدلت حسنات، قال: يا رب إن لي ذنوبا كباراً لا أراها هاهنا ) يعني اعترف بذنوبه الكبار حتى تبدل حسنات.
(7/24)
---(1/222)
فنبشر الأخت الكريمة الطيبة بتوبة الله تعالى عليها وأن الله حافظ لها أعمالها السابقة وأن سيئاته قد بدلت حسنات بإذن الله - عزّ وجلّ - ، جزاها الله خيراً، وزادها الله حرصاً، الآن ماذا نصنع نحن نفسر كلام الله - عزّ وجلّ - وسائر الحلقات حلقات في العقيدة، حلقات في الفقه، حلقات في مصطلح الحديث، وهذا هو العلم الشرعي الذي فرض الله تعالى علينا طلبه ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) فهذه الأخت، وسائر المشاهدين حين يجلسون معنا أمام التلفاز؛ لرؤية هذه الحلقات العلمية يطلبون العلم، والنبى - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة ) .
الحافظ ابن رجب يقول: إن سلوك طلب العلم نوعان : إما أن تخرج وتسعى إلى المحاضرات بقدميك، وإما أن تجلس على الكتاب تطلب العلم.
فإخواننا المشاهدون الآن معنا سواء فتحوا الكتب، أو استمعوا إلينا فهم يطلبون العلم، فبذلك إذا خلصت نواياهم وطلبوا هذا العلم لله - عزّ وجلّ - لا شك أنهم في عبادة نسأل الله أن يتقبل منا ومنهم .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عندي سؤالين: الأول: كيفية الإلمام بكل ما تقولونه في التفسير؟
أنا أنصحك إذا أرادت أن تلم بكل ما تسمع مني -وزادك الله حرصاً- أن تسجل هذه الحلقة ثم تفرغها بنفسك، أو تكلف أحد إخوانك بتفريغها لك كتابة، وبذلك تحتفظ بهذا التفسير مكتوباً إن شاء الله .
عندي مختصر ابن كثير للشيخ محمد نسيب الرفاعي، والمصباح المنير للشيخ هاني الحاج، أيهم أركز عليه ؟
نركز على الأول، لشيخنا الشيخ محمد نسيب الرفاعي رحمة الله عليه .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل استطاع المفسرون أن يحددوا وجهة الغار من الآية الكريمة ?وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ?[الكهف:17] ؟
(7/25)
---(1/223)
كما قلنا: نحن لا نهتم في تفسيرنا بتعيين الأماكن والجهات؛ لأنه ليس فيها كثير فائدة .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السؤال الأول: نعلم أن الله تعالى لا يحاسب المؤمن على ما نوى من سيئات ولم يقوم بها، وذلك من رحمة الله، ولا يحاسب العبد على وسوسة الشيطان في نفسه ما لم يحدث بها، إذًا كيف يا شيخ نربط بين هذا وبين هذه الآية ? وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ?[البقرة:284]
ذكر العلماء في الآية التي سألت عنها أن المحاسبة لا تستلزم الجزاء، فإذا حاسبنا عليها لا يلزم أن يعاقبنا ويؤاخذنا بها.
وتقول نعلم أن لكل حرف نقرأه من القرآن حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، فهل يجب قراءة الآيات علانية، وهل نؤجر لو قرأنا القرآن في صدورنا دون التلفظ به، وهل نؤجر عندما نقرأ بعضاً من آيات في كتاب أو جريدة أو أي شيء آخر، أم الأجر فقط من تلاوته من المصحف ؟
التلاوة من المصحف وغيره بشرط العبادة، والقراءة لا تكون بالقلب فقط: أن يجري الإنسان المعاني على قلبه دون أن يحرك بها لسانه، هذه لا تسمى قراءة، القراءة لابد فيها من تحريك اللسان والشفتين .
لها سؤالين السؤال الأول، كم هي المدة التي إن لم نقرأ فيها القرآن نعتبر ممن هجر القرآن؟
أقل ينبغي للمسلم أن يختم القرآن كل شهر مرة، يقرأ كل يوم جزءاً فيختم القرآن في الشهر مرة هذا أقل شيء، لا ينبغي أن يزيد على ثلاثين يوماً في الختمة .
إذا أردنا القيام بعمل دروس تفسير ونحن كما تعلم مبتدئين بطلب العلم، فبما تنصحنا ونحن نريد أجر الدعوة والكثير من العامة لا يعرف تفسير سورة الفاتحة التي يرددها في صلاته ؟
ننصح بالتدريس من كتاب أيسر التفاسير لشيخنا الجزائري حفظه الله، فهو كتاب سهل التناول كثير الفائدة والنفع إن شاء الله تعالى .
(7/26)
---(1/224)
تقول نعلم أن الله يغفر الذنوب لمن استغفره، فهل تغفر الذنوب بمجرد الاستغفار، فنحن في أحيان كثيرة نستغفر بدون حضور القلب، فهل علينا شيء، وقد سمعت أن العبد لو هم بسيئة، فإن الملك عن شماله لا يكتبها فينزله وقتاً لعله يستغفر فهل هذا صحيح ؟
أي نعم الحديث صحيح والاستغفار المقصود هو الذي يعزم فيه الإنسان على ألا يعود للذنب، يقول: أستغفر الله، بعد أن أقلع عن الذنب، وندم عليه، وعزم ألا يعود إليه فهذا هو استغفار التوبة النصوح التي أمر الله - تبارك وتعالى - بها .
أما إذا كنت أنا أتعبد بقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، كما أتعبد بقول: سبحان الله، سبحان الله، فأنا مأجور على هذا الذكر حتى لو غفل القلب أحياناً.
هناك بعض الكلمات الدارجة في المجتمعات: وهي في أصلها سب وقذف للآباء والأمهات بالزنا عياذاً بالله، فهل يندرج هذا تحت كبيرة قذف المحصنات؟
نسأل الله أن يتوب على الجميع هذا الذي أستطيع أن أقوله؛ لأن القذف حكم شرعي يترتب عليه عقوبة شرعية، فنسأل الله أن يتوب على الجميع، وأن يهذب أخلاقنا وأخلاق الجميع.
هل الإصرار على الصغيرة تعد كبيرة ؟
هكذا قال بعض العلماء: الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، إن لم يجعلها كبيرة في ذاتها، فالإسراف منها كما قلنا سيجعلها كبيرة بعد ذلك، تكثر حتى تكبر .
هل في يوم القيامة هناك فرق بين أعمال الكفار المذكورة في كتاب الله، يشبه القرآن هذه الأعمال بالظلمات، وشبهها في بعض المواضع بالسواد، وشبهها في موضع بالرياح الشديدة الباردة، وشبهها في موضع ثالث بالرماد الذي جاءته ريح عاصف فذرته في كل مكان؟
(7/27)
---(1/225)
على أية حال كل هذه الأمثلة التي ضربها الله - تبارك وتعالى - لأعمال الكفار المراد منها: أن أعمال الكافرين الصالحة لا تنفعهم في الآخرة إذا ماتوا كافرين، يعني قد يطعم الكافر مسكينا، قد يكسو عريانا، وأحياناً يبني مسجداً فهذه أعمال صالحة، إن مات على كفره لا تنفعه في الآخرة، وليس لها ثوابا، لكن لو من الله تعالى عليه بالإسلام وأسلم، كتب الله صالح عمله الذي عمله في الكفر.
تقول نرجو مثال عن الصغائر ؟
النظرة نسأل الله أن يعننا على غض أبصارنا ? قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ?[النور:30] ? وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ?[النور: 31].
فنظرة الشهوة محرمة، لكن لم يرد في الكتاب والسنة عقوبة من النظر، من زنا اجلدوه إن كان أعزب، وارجموه إن كان محصنا.لكن من نظر ليس هناك عقوبة عليها .
هل تقصد بالكبيرة بقولك التي يترتب عليها حد في الدنيا وعقوبة في الآخرة، أي عقوبة منصوص عليها في الكتاب والسنة، وكذلك بالنسبة للصغيرة التي لا يترتب عليها حد أو عقوبة هل تعني أي عقوبة لم ينص عليها؛ لأن المعروف أن الصغيرة يستحق العقاب فاعلها، ويستحق الثواب تاركها، امتثالاً لأمر الله أرجو البيان؟
ضربنا مثلاً للصغيرة الآن، وضربنا مثلاً للكبيرة أثناء الشرح، ما ترتب عليه حد في الدنيا وذكرنا السرقة والزنا، وما ترتب عليه عقوبة في الآخرة القتل، فهذه أمثلة للصغائر وهذه أمثلة للكبائر .
تقول إذا كانت الصغائر ليس لها حد في الدنيا ولا عقاب في الآخرة فكيف يكون جزاؤها يوم القيامة ؟
نقصد بالعقاب في الآخرة أنه لم يأتِ نص بتعيين عقوبة معينة، وهذا مقصدنا بأنه: لم يأتِ نص بتعيين عقوبة معينة لفاعل هذا الذنب، لكن يعقاب وإذا أراد الله أن يعفو عنه .
(7/28)
---(1/226)
أحد الشيوخ استدل بهذه الآية وفسروها لقوله تعالى ? مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ?[الكهف:49] فأتى بمثل أن الذي يأكل لحم أخيه، ولم يتب سيأكل لحم أخيه ميتاً يوم القيامة وهو يرى، فهل هذا صحيح المثل بالاستدلال ؟
لم أقرأه فيما قرأت من التفاسير .
تقول أيهما أفضل عند الله: مرتكب الكبائر ثم تاب، أم المؤمن الذي لم يرتكب الكبائر؟
قال بعض الصالحين في هذه المسألة، في الفرق بين التائب من ذنبه، والذي لم يتب، قال: هب أن المسيء قد عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين ؟ فكيف يلحق هذا بالثاني ؟ هب أن المسيء الذي ارتكب الكبائر تاب الله عليه أليس قد فاته في وقت ذنبه وارتكاب ذنبه وقت لو كان أنفقه في الطاعة أخذ حسنات كما قضاها الآخر في الطاعة ؟
فالله تعالى أعلم لا يستويان .
يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هل يغني كتاب مختصر تفسير ابن كثير للشيخ أحمد شاكر رحمه الله عن مختصر الشيخ نسيب الرفاعي ؟
شيخنا أحمد شاكر محدث، إمام علم فإذا وجدت له مختصراً كاملاً يغنيك إن شاء الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، معنى كلمة المهل يشوي الوجوه؟
نسأل الله العافية كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، يقول يرد كثيراً تفسير ابن كثير يعني كالزيت المغلي أرأيت الإناء يوضع فيه الزيت ويوضع الإناء على النار فيغلي الزيت، كيف يغلي الزيت وأنت تراه على النار، فهذا والعياذ بالله مثال لأهل جهنم وهم يشربون من هذا الماء نسأل الله العافية ? كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ?45? كَغَلْيِ الْحَمِيمِ? [الدخان:46].
والأخت التي سألت أول سؤال قالت: كلام الله مع إبليس هل هو حوار نفسي؟ نريد من الشيخ أن ينبه: أن هذا قول بعض الأشاعرة الظاهر، والكلام عند أهل السنة باللفظ والصوت؟
(7/29)
---(1/227)
جزاه الله خيراً الأخ الكريم على حرصه على سلامة المعتقد وصحة الاعتقاد في القرآن، فكلام الله تعالى كلام، تكلم الله - تبارك وتعالى - به، الله تكلم بهذا الكلام، لكننا لم نسمعه يقول الكلام نفسه، وكانت تسأل هل كان من وراء حجاب أو كان مواجهة، فقلنا: الله - تبارك وتعالى - أعلم، أما القرآن أن تقول كلام نفسي يعني أن الله - تبارك وتعالى - ما تكلم بهذا الكلام فهذه عقيدة باطلة، القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسله وحياً، وصدقه المؤمنون بعد ذلك حقا، وأيقنوا بأنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس لمخلوق ككلام البرية، هكذا قال الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف نفهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة ( من نوقش الحساب عذب ) ؟
الحديث ورد أن السيدة عائشة - رضي الله عنها - كانت لا تسمع شيئاً لا تفهمه إلا سألت عنه، فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ( من نوقش الحساب عذب ) وسمعت ربها - سبحانه وتعالى - يقول ? فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ?7? فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِير? [الانشقاق:8] قالت: فكيف هذا يا رسول الله؟ من نوقش الحساب عذب، والله يقول: ? فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ? قال: الحساب اليسير ذاك العرض، أن يعرض على الله فيتجاوز الله عنه، ويغفر له، أما من نوقش الحساب ودقق معه في الحساب كانت نهايته العذاب والعياذ بالله، فهذا معنى الحديث.
يقول: ما رأي الشيخ في صفوة التفاسير للدكتور الصابوني نفعنا الله بعلمكم ؟
صفوة التفاسير شأنه شأن الكتب التي حذرنا منها فيها أخطاء نبه عليها مشايخنا وعلماؤنا الأجلاء، فلا يقرأ في هذا الكتاب إلا كان معه التنبيهات على ما فيها من أخطاء والاستغناء عنه خير له .
(7/30)
---(1/228)
يقول: هل هناك تعارض بين ما ذكرتم من شريف علمكم من أن إبليس جن، وبين قول الله - عزّ وجلّ - في سورة البقرة ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ?[البقرة:34]
ليس هناك تعارض إنما هنا زيادة في الكهف فصل في القضية ? إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ?[الكهف: 50] .
يعني ولم يكن من الملائكة لاختلاف الأصلين كما ذكرنا حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار ) فهو عالم آخر غير عالم الملائكة، وغير عالم الإنس .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، علمت أن الكلام على المرأة المحصنة عند الله كهدم الكعبة أعاذنا الله، فهل المقولة صحيحة، وهل تكرار الصغائر متعمداً يعتبر من الكبائر وجزاكم الله خيرا؟
أما المقولة الأولى فلم أسمعها ولم أقرأها، وإن كان قذف المحصنات الغافلات، الله - سبحانه وتعالى - شدد فيه كما هو معلوم في سورة النور.
وأما الشق الثاني : الإصرار على الصغيرة قلنا قال العلماء: الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة.
ذكرتم فضيلتكم حديث البطاقة التي تنفع الموحد بطاقة لا إله إلا الله، فهل إن قال قائل أنا أوحد الله وأقول لا إله إلا الله ولكن أعلم أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلم أن عيسى رسول، وأن موسى رسول، فهل تنفعني هذه أم لا تنفعني فماذا نقول ؟
هذه كلمة الكفر إذا قال أنا أعلم أنهم رسل الله ولن أتبعهم، هذه كلمة الكفر والعياذ بالله، ما فائدة الإيمان بأن محمداً رسول الله أن يؤمن به ويصدقه ويتبعه على ما جاء به من عند الله - عزّ وجلّ - .
السلام عليكم، أسأل عن إخلاص النية في العمل، مثلا لو عملت عملا وأخلصت النية لله، وشككت أني نافقت، هل سيؤثر ذلك على العمل أم لا؟
(7/31)
---(1/229)
هذا بوب عليه الإمام النووي رحمه الله في رياض الصالحين، أو في بعض كتبه قال باب ما يظن أنه من الرياء و ليس من الرياء .
فالشيطان لعنه الله كل همه أن يصرف الإنسان عن العمل الصالح، فإذا وجد من الإنسان هماً بالعمل الصالح أراد أن يثنيه عنه، فإذا غلبه وقهره وعزم على العمل وبدأ فيه جاءه من هذا المدخل الثاني أنت تفعل هذا رياءً أنت تفعل هذا نفاقاً، هو يريد أن يصدك عن العمل الصالح، فحسبك أن تعلم من نفسك أنك حين انبعثت في أول دفعة إنما انبعثت من أجل الله - عزّ وجلّ - إيمانا واحتسابا، فلا تلتفت للعوارض التي تعرض عليك بعد هذا، فإنما هي من الشيطان يريد أن يقعدك عن العمل .
إذا عملت عملا إداري وأخلصت النية لله وأخلصت النية للإدارة، فهل هذا ضربا من ضروب النفاق؟
الإخلاص لله أولاً هذا الذي يثاب عليه الإنسان بإذن الله - جلّ جلاله - ونخلص النية؛ لأن الله أمرنا أن نخلص أعمالنا كلها حتى الدنيوية أمرنا الله - سبحانه وتعالى - أن نحسنها وأن نتقنها وألا نقصر فيها، ولا نقعد عن بذل أي وسع نستطيعه حتى يكون عملنا على أكمل الوجوه. فحين يفعل الإنسان عمله بإخلاص وإتقان يثاب عليه ولو كان عملاً دنيوياً .
هل نعتبر الإصرار على بعض الصغائر دليل على ضعف الإيمان، وإذا كان الشخص ملتزماًَ محباً ومتبعاً بل وداعية لله ؟
لا شك أن من عقيدة أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ولا شك أن الإصرار على صغيرة ينقص من إيمانه بقدر ما يرتكب منها.
فننصح إخواننا جميعاً بالتوبة والإكثار من الاستغفار؛ استجابة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ( يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة ) .
يقول ماذا تقول يا شيخ لمن يقول أن الشيطان ليس بكافر والذي يقول هذه المقولة يدعي على نفسه أنه داعية ؟
(7/32)
---(1/230)
نسأل الله أن يهدينا وإياه سواء السبيل، ويكفي هذا للبيب الفطن، هذا ما يقوله عاقل فضلا عن أن يقوله مسلم.
(7/33)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
الشرح من قوله تعالى "ما أشهدتم خلق السموات والأرض"
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم مرحبا بكم في هذا اللقاء الجديد مع دروس تفسير سورة الكهف، و الآيات التي معنا منها هذه الساعة المباركة - إن شاء الله تعالى- تضمنت من المعاني ما يلي:
أولا: ثبوت التوحيد وبطلان الشرك .
ثانيا: ما يجوز من الجدال ومالا يجوز .
ثالثا: التحذير من الإعراض عن القرآن الكريم.
رابعا: وربك الغفور ذو الرحمة.
وأخيراً: وجوب الاعتبار بوحدة مصير المكذبين الظالمين.
وهذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات التي معنا ساعتنا هذه إن شاء الله تعالى من المعاني والتى سنعيش في رحابها فلنستمع إليها أولا قبل الخوض في تفاصيلها، سائلين الله عز وجل أن ينجز لنا ما وعدنا حيث قال: ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?[الأعراف: 204]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(8/1)
---(1/231)
? مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ?51? وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ?52? وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ?53? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ?54? وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ?55? وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ?56? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ?57? وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ?58? وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ؤظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ?59??[الكهف:51-59].
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ?[ص: 29].
(8/2)
---(1/232)
?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? [الحشر:21 ].
?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر: 23].
لما أنكر الله - تبارك وتعالى - على الظالمين اتخاذهم الشياطين أولياء من دونه كما قال - سبحانه وتعالى - ? أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَل? [الكهف:50] لما أنكر الله - تبارك وتعالى - على الظالمين اتخاذهم الشياطين أولياء من الله، بيّن أن الشياطين لا تستحق الولاية، ولا تستحق العبادة؛ لأنهم لم يخلقوا شيئاً، والإله الحق هو الذي خلق فسوى وقدر فهدى، فقال تعالى ? مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ? يعني إن هؤلاء الشياطين الذي عبدتموهم من دون الله واتخذتموهم أولياء من دون الله ولايتكم إياهم باطلة، وعبادتكم إياها باطلة؛ لأنهم لم يشهدوا خلق السماوات والأرض، لأن الله - تبارك وتعالى - خلق السماوات والأرض قبل خلق الخلق، فإبليس لم يكن موجوداً حين خلق الله - سبحانه وتعالى - السماوات والأرض لم يشهد خلقهما، فلم يكن له فيهما شركة فضلاً عن أن يستقل بخلق شيء من السماوات والأرض .
(8/3)
---(1/233)
والذي يستحق العبادة هو الله الخالق وما دام الشيطان لم يخلق فلا يستحق أن يعبد، ولذلك قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ?[الحج:73] .
فالذي لا يخلق عاجز والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً فبطل أن يكون إبليس إلها.
? مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ? ولذلك يكثر ربنا - سبحانه وتعالى - من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للمشركين ? هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ? [لقمان:11].
? قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ?[فاطر:40] .
? قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ?[الاحقاف:4] .
فالذين توليتموهم من دون الله وعبدتموهم من دون الله لم يخلقوا شيئا بل هم مخلوقون مملوكون مرددون لله - تبارك وتعالى - فكيف تتولونهم وتعبدونهم من دون الله - سبحانه وتعالى -؟! بئس للظالمين بدلا .
ولذلك يقول تعالى ? اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ?[الروم:40] .
(8/4)
---(1/234)
ولما أمر - سبحانه وتعالى - الناس أجمعين بعبادته وحده بيّن أنه يستحق العبادة لكونه الذي خلق فقال - سبحانه وتعالى - ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ?21? الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً ? يعني في العبادة ? وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ? [البقرة:21-22] أنه لا ند له في الخلق والتقدير والتدبير.
? مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ ? الذين يضلون عن سبيل، ويصدون عن سبيل الله، والشياطين على رأسهم ? وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ? وأصل العضد ما بين المرفق إلى الكتف في الإنسان، فهذا الجزء هو العضد، وهو محل القوة، فاستعير للمعين والنصير، استعير العضد للمعين والنصير.
ولذلك لما قال موسى - عليه السلام - ? وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ?[القصص:34] قال الله تعالى ? قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ?[القصص:35] أي سنقويك ونعينك بأخيك ونجعله لك عوناً ونصيراً .
فالله - سبحانه وتعالى - يقول: ? وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ ? أي أعواناً وأنصاراً، فالله - سبحانه وتعالى - هو القوي العزيز، وهو الغالب على أمره، وهو القادر على كل شيء لا يعجز ربنا عن شيء، ولا يعجزه - سبحانه وتعالى - شيء.
(8/5)
---(1/235)
ثم قال تعالى ? وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ? واذكر يا نبينا يوم يقول الله - تبارك وتعالى - للمشركين الظالمين الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله وجعلوهم شركاء لله، اذكر يا نبينا يوم يقول الله تعالى لهم: ادعوا شركائي الذين زعمتم، لقد زعمتم أن لله شركاء توليتموهم وعبدتموهم من دون الله، ترجون بذلك أن ينفعوكم في الآخرة بشافعتهم لكم عند الله - سبحانه وتعالى - فالآن أنتم في الآخرة هذا يوم البعث الذي كنتم به تكذبون، أنتم الآن أحوج ما تكونون إلى شركائكم الذين جعلتموهم شركاء لله تعالى فادعوهم استغيثوا بهم، استنصروهم حتى يدفعوا عنكم عذاب الله، أو يردوا عنكم بأس الله، أو يشفعوا لكم عند الله - سبحانه وتعالى -
? وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ? موبقا، اسم مكان بمعنى مهلكاً، وهو مأخوذ من قولهم وبق يبقوا، كوعد يعد، ومن قوله تعالى ? وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ?32? إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ?33? أَوْ يُوبِقْهُنَّ ? أي يهلكهن ? بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ? [الشورى:32-34] ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( اجتنبوا السبع الموبقات ) أي المهلكات وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملئ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء والقرآن حجة أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) أي مهلكها .
(8/6)
---(1/236)
فقوله تعالى ? وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ ? أي بين المشركين وشركائهم، جعلنا بينهم، وفصلنا بينهم، وفرقنا بينهم، وميزنا بينهم ? مَوْبِقًا ? أي مهلكاً .
قال المفسرون: المراد بالموبق الذي جعله الله بين الشركاء وشركائهم واد واسع عميق من النار، تسيل النار من حافتيه والعياذ بالله، فلا يمكن أن يعبر هؤلاء إلى أولئك، ولا يعبر أولئك إلى هؤلاء ? فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ?.
وقد أخبر الله - سبحانه وتعالى - وهو العليم الخبير عبادة أجمعين في الدنيا الذين يدعونهم من دون الله لا يستجيبون لهم في الدنيا ولا ينفعونهم في الآخرة قال تعالى ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ?5? وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ?[الاحقاف:5-6].
وقال تعالى عن نفسه: ? يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ?13? إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ?[فاطر:13-14] .
فيجب عليك -أيها المسلم- أن تسمع وتطيع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وصاك ( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ، لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشئ، لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) .
(8/7)
---(1/237)
فلا تدعو من دون الله، ولا تسأل الله غير الله، ولا تدعو من دون الله ? وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ?[يونس:106] يعني المشركين .
فدعاء غير الله شرك بالله - سبحانه وتعالى - وسؤال غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله شرك بالله - سبحانه وتعالى - .
? وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ? أي مهلكاً حال بينهم وبين ما يشتهون .
? وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ?52? وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ? حين برزت للغاوين حين جيء بها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( يؤتى يومئذ بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها )
يقول تعالى: ? وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً ?[الكهف:100] فلما رأوها أيقنوا بالهلاك، وأيقنوا أنه لا خلاص لهم ولا فكاك ? وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا ? والظن هنا بمعنى الاعتقاد الجازم بمعنى اليقين ? فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ? ينصرفون إليه ولا ملجأ يلجأون إليه .
? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ? ولقد صرفنا ونوعنا في هذا القرآن للناس من كل مثل، والحكمة كما قال تعالى: ? وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ?27? قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ?[الزمر:27-28].
? وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ?[طه:113].
(8/8)
---(1/238)
فالله - تبارك وتعالى - نوع في القرآن الكريم فجعل فيه القصص والأخبار والحكايات والأمثال والأوامر والنواهي، والترغيب والترهيب والحكمة، من كل ذلك لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا، ومع ذلك أبى أكثر الناس إلا كفورا، ولم ينتفعوا بالآيات المنزلة التي صرفها الله - تبارك وتعالى - ونوعها لعلهم ينتفعون بها ويستفيدون؛ فيخلصوا أنفسهم من عذاب الله - عزّ وجلّ -.
? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ?
هذا إخبار من الله - تبارك وتعالى - عن طبيعة الإنسان، أن الإنسان بفطرته وبطبيعته وبجبلته يحب الجدال ويحب المراء ويحب المناظرة ويحب الخصومة، وهذا الوصف للإنسان لا يذم به الإنسان مطلقاً، هل هذا الوصف للإنسان أنه أكثر جدلاً هذا الوصف لا يذم به الإنسان هذا خبر عن طبيعة الإنسان التي خلقه الله - تبارك وتعالى - عليها، لا يذم بمجرد كونه مجادلا إلا إذا كان جداله بالباطل؛ لدحض الحق، كما قال بعد ذلك على الكافرين ? وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ?[غافر: 5].
فالجدال ليس ممنوعاً مطلقاً، ولا مباحاً مطلقاً، وإنما الجدال منه الجائز، ومنه الممنوع، منه المباح، ومنه المحذور، ولذلك الله - سبحانه وتعالى - قال للنبى - صلى الله عليه وسلم - ? وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?[النحل:125].
وقال لنا نحن المسلمين: ? وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?[العنكبوت:46].
فالجدال الجائز: هو الجدال الذي يكون بالحسنى من أجل إحقاق الحق، وإبطال الباطل، من أجل نصرة المظلوم، ونصر الظالم، بمنعه من ظلمه .
هذا الجدال هو الجدال الجائز المباح .
(8/9)
---(1/239)
أما الجدال بالسوء، أما الجدال لدحض الحق وإحقاق الباطل، أما الجدال للتنصل من حق ثابت على الإنسان، يريد أن يدافع عن نفسه ويتنصل من الحق الثابت عليه، فهذا هو الجدال المنهي عنه وهذا هو الجدال المحظور .
والنبى - صلى الله عليه وسلم - يرشدنا إلى أن الإنسان إذا جادل مستخدما الجدال أسلوباً إلى الدعوة إلى الله ? وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? عليه أن يستمر في جداله ما رأى من الخصم قبولاً ورفقاً ولينا، فأما إذا رأى من الخصم عناداً وإصراراً واستكبارا، فإن الاستمرار في الجدال مع هذا الحال يؤدي إلى مضيعة الوقت وقسوة القلب، فعلى صاحب الحق إذا رأى إصرارا وعناداً واستكباراًُ من خصمه أن ينهي الجدال وينصرف من مناظرته .
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ) .
وقيل للإمام مالك رحمه الله، الرجل يكون عالماً بالسنة أيجادل عنها ؟ قال: لا، وإنما يعلمها فإن قبلت منه وإلا سكت .
? وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ?54? وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى ? ما الذي منع الناس من الإيمان بالله - عزّ وجلّ - وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - بعد إذ جاءهم بالهدى من عند الله - تبارك وتعالى - ? وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ?.
انتبه الله - سبحانه وتعالى - قال في سورة الإسراء قبل ذلك ? وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً ?[الاسراء:94].
(8/10)
---(1/240)
وهنا في سورة الكهف يقول تعالى: ? وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ?.
يقول العلماء : المانع من الإيمان نوعان:
مانع عادي، ومانع حقيقي، الذي منع الناس من الإيمان نوعان، مانع عادي، ومانع حقيقي.
المانع العادي: هو المذكور في سورة الإسراء ? وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً ? فهذا مانع منع الناس من الإيمان ولكنه مانع عادي، إذا زال دخل الناس في الإيمان فهذه شبهة عرضت للناس كلهم، كلما جاءهم رسول من عند الله قالوا ? أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً ? ? لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ?[فصلت: 14] فهذه شبهة عرضت لكثير من الناس منعتهم من الإيمان بالله - عزّ وجلّ - لماذا ؟ لأن الله - عزّ وجلّ - بعث بشراً رسولا، وهم يظنون أنه لا يمكن أن يبعث الله بشراً رسولا، لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإذا أراد الله - تبارك وتعالى - بعبد خيرا زالت عنه هذه الشبهة على أيدي العلماء والدعاة إلى الله - عزّ وجلّ - على بصيرة فدخل في الإسلام، ودخل في الإيمان، واتبع الهدى الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(8/11)
---(1/241)
أما المانع الحقيقي الذي منع الناس من الإيمان: فهو المذكور في سورة الكهف ? وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ?. والمعنى إن الذي منع الناس من الإيمان هو أنه حقت عليهم كلمة العذاب، والذين حقت عليهم كلمة العذاب لا يمكن أن يؤمنوا أبداً كما قال تعالى ? إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُون ?96? وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ?[يونس:96-97].
فهؤلاء الذين حقت عليهم كلمة العذاب لا يؤمنون أبداً، وما ينتظرون إلا أن تأتيهم سنة الأولين: أي أن يعذبهم الله تعالى بعذاب في الدنيا كما عذب الكافرين الظالمين من قبلهم كما قال تعالى ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ?6? إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ?7? الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ?8? وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ?9? وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ?10? الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ?11? فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ?12? فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ?13? إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ?14??[ الفجر:6-14]. لكل ظالم أو لكل طاغية
فهؤلاء منعهم من الإيمان أنهم حقت عليهم كلمة العذاب، فلا يؤمنون إلا أن تأتيهم سنة الأولين: أي يأخذهم الله بعذاب في الدنيا كما أخذ الذين من قلبهم، أو يأتيهم عذاب يوم القيامة قبلاً، أو مواجهة ومباشرة .
(8/12)
---(1/242)
وإذا آتاهم عذاب الدنيا آمنوا ولا ينفعهم إيمانهم، وإذا آتاهم عذاب الآخرة آمنوا ولا ينفعهم أيضا إيمانهم، قال تعالى: ? فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ?84? فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ?[غافر:84-85].
وقال تعالى: ? هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ?[الأنعام:158] .
? وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ?55? وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ?
وما نرسل المرسلين إلا مبشرين لمن آمن بهم واتبعهم على الهدى الذي جاءوا به من عند الله مبشرين للذين آمنوا وعملوا الصالحات بجنة عرضها الأرض والسماوات فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر .
ومنذرين للذين أصروا واستكبروا استكبارا، ولم يقلعوا عن الكفر فأبوا إلا كفورا، تنذرهم الرسل عذاب الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة الذي قال فيه: ? فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ?25? وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ?[الفجر:25-26] .
? وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ?
(8/13)
---(1/243)
هذا شأن الكافرين وهم من البشر، وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، لكن الكافر دائماً يجادل بالباطل لا يجادل بالحق، يجادل بالباطل؛ ليدحضوا: أي يزيلوا ويذهبوا بجدالهم هذا الحق والله - تبارك وتعالى - يتوعدهم بالعذاب المهين فيقول - سبحانه وتعالى - ? وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ?8? َانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ?9? ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ?[الحج:10].
جادلوا بالباطل الحق يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، إنهم يجادلون بالباطل من أجل أن يدحضوا به الحق والله من ورائهم محيط، فمهما علا الباطل وارتفع فلابد أن يقع ويزول، والدوام للحق بإذن الله وأهله كما قال تعالى: ? فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ?[الرعد: 17].
? وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ? ثم يتوعدهم الله - سبحانه وتعالى - على إعراضهم عن القرآن الكريم وآيات الذكر الحكيم، فيصفهم بالظلم الشنيع الفظيع فيقول - سبحانه وتعالى :- ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ? ومن أظلم أي لا أحد أظلم ? مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ? .
(8/14)
---(1/244)
والله - سبحانه وتعالى - قد وصف المعرضين عن الذكر الحكيم والكتاب المبين بالظلم والجريمة فقال - سبحانه وتعالى - ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ?[السجدة:22] .
فوصف الله - تبارك وتعالى - المعرضين عن القرآن بالظلم والإجرام، وتوعدهم بالانتقام ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ? ينتقم الله - تبارك وتعالى - من المعرضين عن الذكر الحكيم والكتاب المبين في الدنيا والآخرة .
أما في الدنيا فقد قال تعالى: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ?[طه:124] من أعرض عن القرآن الكريم يصبح في همٍّ، ويمسي في غمٍّ، ويمسي في نكد، ويصبح في حزن، لا يطمئن قلبه، ولا يهدأ باله، ولا يرتاح ضميره، ولا يجد للسعادة طعماً ولا لذة أبداً، بل ولا يعرف السعادة أصلاً؛ لأنه أعرض عن الذكر الحكيم الذي هو أساس السعادة وأصلها وأساس طمأنينة القلب وراحة الضمير، وهدوء الأعصاب ? الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ?[الرعد:28].
فمما ينتقم الله - تبارك وتعالى - به من المعرضين عن كتابه: أنه يسلط عليهم البؤس، والشقاء، والنكد، والهم، والغم، والحزن، فلا تطمئن قلوبهم، ولا يهدأ بالهم ولا أعصابهم، ولا تقر أعينهم أبداً، بل دائماً في هم وغم، لا ينفكون عن ذلك أبداً .
ومن انتقام الله - تبارك وتعالى - من المعرضين عن كتابه ما ذكره تعالى في قوله: ? وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ?36? وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ? [الزخرف:36-37].
(8/15)
---(1/245)
إذا بلغ القرآن الإنسان فأعرض عنه وأدبر، ولم ينتفع به، ولم يقبل هدى الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، فإن الله تعالى يسلط على هذا الإنسان الشيطان؛ فيكون له الشيطان قرينا، ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا، يصده هذا الشيطان عن سواء السبيل، ويصده عن الصراط المستقيم، ومع ذلك يزين له سوء عمله فيراه حسنا، ? إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ?[الأعراف:30] .
فإذا أوغل في الضلال؛ ختم الله على قلبه وعلى سمعه، وجعل على بصره غشاوة؛ فلم يهتدوا إذا أبداً، كما قال في الآية التي معنا: ? مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ?57??. فلن يهتدوا إذاً أبداً لماذا؟ لأن الله - تبارك وتعالى - ختم على قلوبهم وعلى سمعهم ? أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ?[الجاثية:23].
(8/16)
---(1/246)
وقد يقول قائل: فإذا كان الله تعالى هو الذي ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلماذا يؤاخذهم بذنوبهم؟ ولماذا يعاقبهم عليها ؟ نقول إن الله - تبارك وتعالى - لما خلقهم وهبهم هذه الحواس؛ حتى ينتفعوا بها، ويتعرفوا على آيات الله المنزلة، وآياته الكونية ? وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ?[النحل:78] ولكنهم عطلوا هذه الحواس عن وظيفتها، ولم ينتفعوا بها، فلما عطلوها منعهم الله - تبارك وتعالى - من الانتفاع بها.
(8/17)
---(1/247)
? إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا ? وفى ذلك يقول تعالى: ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ?[المنافقون:3] فالطبع على قلوبهم إنما جاء بعد كفرهم، وكما قال تعالى: ? فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ? [الصف: 5] فهم الذين زاغوا أولاً، وهم الذين حادوا عن الصراط المستقيم أولا، وهم الذين جعلوا أصابعهم في آذانهم؛ حتى لا يسمعوا كلمة الحق، واستغشوا ثيابهم؛ حتى لا يروا دلائل الحق، وأمثال هؤلاء لا يمكن أن يهديهم الله - تبارك وتعالى - بعد أن رفضوا الهدى بعد إذ جاءهم من عند ربهم. هذا انتقام الله تعالى من الذين أعرضوا عن القرآن في الدنيا، ومن انتقامه - سبحانه وتعالى - منهم في الآخرة ما ذكره - سبحانه وتعالى - ? مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً ?100? خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً ?[طه:100-101]، وما ذكره الله تعالى أيضا في قوله ? وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ?124? قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ?125? قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ?126? وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ?[طه: 124-127].
فإياك إياك والإعراض عن كتاب الله - عزّ وجلّ - إياك إياك والإعراض عن آيات الذكر الحكيم، ? وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ?7? يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ?8? وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ?[الجاثية:7-9].
(8/18)
---(1/248)
نسأل الله - تبارك وتعالى - أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وأن يجعلنا من القائمين به آناء الليل وأطراف النهار.
? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ? من الذنوب والمعاصي والخطايا والسيئات، وانتبه، أذكرك بما قلته عند قول الله - تبارك وتعالى - ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ?[الكهف:30] قلنا رُوي عن المسيح عيسى ابن مريم - عليه السلام - من عمل منكم عملاً صالحاً فليلهو عنه، يعني فلينسه؛ فإن الله لن يضيعه، ومن عمل منكم عملاًَ سيئا فليحصه؛ حتى يستغفر منه، ويتوب بإذن الله - عزّ وجلّ - .
فهنا الله - سبحانه وتعالى - يذم الذين نسوا ما قدمت أيديهم ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ? لا من العمل الصالح، بل من الأعمال السيئة، نسوا ذنوبهم وخطاياهم، حتى إن الله - سبحانه وتعالى - أخبر عنهم أنه يوم يبعثهم الله جميعاً، فيحلفون له كما يحلفون لكم: يعني يحلفون بالله ما عملوا هذه الخطايا، ولا ارتكبوا هذه السيئات. قال تعالى: ? يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ?[المجادلة:6].
(8/19)
---(1/249)
فإذا أذنبت ذنباً فلا تنسه، بل اجعله دائماً نصب عينيك؛ لأنك مطالب بتجديد التوبة والاستغفار من ذلك الذنب كلما تذكرته ، اجعل سيئاتك وخطاياك نصب عينيك، فكلما تذكرتها قلت: أستغفر الله، وأتوب إليه ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا ? ولذلك إن تدعهم يا نبينا أو غيرك إلى الهدى ? فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ?57? وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ? وقد أخبرنا - سبحانه وتعالى - أن رحمته واسعة ومغفرته، واسعة قال تعالى: ? إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ?[النجم: 32]. وقال تعالى: ? وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ?[الأعراف: 156]. وهو - سبحانه وتعالى - واسع المغفرة وواسع الرحمة ولكنه - سبحانه وتعالى - بين أهل رحمته وأهل مغفرته فقال تعالى ? وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ?[طه:82]. وقال تعالى: ? وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ ?156? الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ?[الأعراف:156-157].
فهذه هي مؤهلات الرحمة، وهذه هي مؤهلات المغفرة، فمن أراد أن يدخله الله تعالى في رحمته؛ فليتأهل بمؤهلات الرحمة، ومن أراد أن يدخله الله تعالى في مغفرته؛ فليتأهل بمؤهلات المغفرة، أما أن يقول الإنسان: ربنا غفور رحيم، رحمة الله واسعة، الله رحمن رحيم، سيرحمنا ربنا إن شاء الله تعالى، وهو لا يعمل بعمل صالح يوجب له رحمة الله، فهذا نوع من التمني لا يمكن أن يتحقق أبدا.
وفى ذلك يقول القائل :
ما بال دينك ترضى أن تدنسه وثوبك الدهر مغسول من الدنس
(8/20)
---(1/250)
ترجو النجاة ولم تسلك طريقته إن السفينة لا تجري على اليبس
الله - سبحانه وتعالى - واسع المغفرة، وواسع الرحمة، ولكنه - سبحانه وتعالى - أخبر على المؤهلات التي تؤهل الإنسان لرحمة الله، كما أخبر على المؤهلات التي تؤهل الإنسان لمغفرة الله - عزّ وجلّ - .
كما أنه - سبحانه وتعالى - لما أخبر أنه واسع المغفرة، وواسع الرحمة أخبر أنه سريع العقاب وشديد العقاب، فقال - سبحانه وتعالى - ? إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ?[الأعراف: 167]. وقال تعالى ? نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ?49? وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ? [الحجر:50].
فالله - سبحانه وتعالى - غفور رحيم لكنه أيضاً شديد العقاب، سريع العقاب، ومعنى هذه الأسماء والصفات لله - سبحانه وتعالى - أنه يلزم المسلم أن يكون راجيا خائفاً، لما علم أن الله غفور رحيم، هذه الأسماء تحمله على أن يعظم رجاؤه في مغفرة الله ورحمته، ولما علم أن الله شديد العقاب، سريع العقاب، شديد العقاب ذي الطول، هذه الصفات توجب للإنسان أن يحذر غضب الله تعالى وسخطه وعقابه، فيعمل بطاعة الله على نور من الله، يرجو رحمة الله ويترك معصية الله على نور من الله، يخشى عقاب الله ? وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ?. ? وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ? [النحل:61]. ? وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ?[فاطر:45] .
ولكنه حليم صبور، يحلم على العاصي، ويصبر عليه، ويمهل له، ويملي له؛ لعله يتوب؛ فيتوب عليه، ويستغفر؛ فيغفر له .
(8/21)
---(1/251)
فالواجب على الإنسان العاصي المذنب المسرف على نفسه في الذنوب والمعاصي ألا يغتر بإمهال الله - تبارك وتعالى -، فالله - سبحانه وتعالى - يمهله؛ حتى يتوب، حتى يستغفر، يمهله لعله يتدارك ما فات، فإن تدارك ما فات بالتوبة والاستغفار؛ قبله الله وتاب عليه، وإلا إن أصر واستكبر؛ أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وفى ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ قول الله تعالى: ? وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ?[هود:102] ) .
فإذا كنت تعصي الله، وترى الله تعالى يستر عليك، ويحلم عليك، فلا تظنن هذه غفلة، فإن الله تعالى: ? وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ?42? مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ?[ابراهيم:42-43].
فواجب عليك إذا أمهلك الله تعالى، ومد لك في العمر، أن تستبق الخيرات، وأن ترفع أكف الضراعة إلى الله تعالى تائباً مستغفرا، لعل الله تعالى يتوب عليك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يرغب في التوبة والإنابة، والرجوع إلى الله - عزّ وجلّ - فيقول - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله تعالى يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها ) .
(8/22)
---(1/252)
? وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً ? إن الله - سبحانه وتعالى - جعل للأمم آجالا، كما جعل للأفراد آجالا، قال تعالى: ? وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ? [آل عمران:145]. وكذلك قال ? وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ? [لأعراف:34] .
فالله - سبحانه وتعالى - سمى لإهلاك الظالمين موعدا، لولا هذه التسمية لذلك الموعد لعجل الله تعالى العذاب لمستحقيه كما قال تعالى ? وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً ?[طه:129] وفى الكلام تقديم وتأخير تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك بتأخير العذاب عنهم وأجل مسمى سماه الله لكان العذاب لزاماً لهم، ولكن الله - سبحانه وتعالى - ضرب لهم موعدا فلا يستأخرون عنه ولا يستقدمون؛ ولذلك قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ? أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ?83? فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ?[مريم:83-84].
? وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً ?. ومن أراد الاعتبار، ومن أراد الاتعاظ؛ فلينظر إلى الأمم التي أهلكت من قبل ? وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ?59?? .
(8/23)
---(1/253)
? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ?6? إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ?7? الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ?8? وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ?9? وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ?10? الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ?11? فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ?12? فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ?13? إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ?14??[ الفجر:6-14]. لكل ظالم ولكل طاغية ? وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ?[ابراهيم:42].
فالاعتبار بوحدة مصير المكذبين الظالمين واجب، حين تقرأ في التاريخ، وترى الله - سبحانه وتعالى - أهلك أمماً وأبادها بعذاب الاستئصال، يجب أن تأخذ حذرك، وأن تفر إلى الله - سبحانه وتعالى - مخافة أن يصيبك مثل ما أصابهم؛ ولذلك لما عرض الله تعالى على الكافرين مصارع المكذبين الظالمين في سورة القمر، فوجه إليهم في آخر السورة بالخطاب، فقال - سبحانه وتعالى - ? أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ?43? أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ?44? سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ?45? بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ? [القمر:43-46].
نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله الهداية والتوفيق، هذا والحمد لله رب العالمين،وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(8/24)
---(1/254)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إن الإنسان من أكبر الظالمين، أنا أريد أن أسأل، يعني أنا شديدة الغضب، أنا لما أغضب أعوذ بالله أتلفظ بألفاظ أسيء بها إلى الله - عزّ وجلّ - يعني أحد يقول لي صلي على النبي، أقول: ما أنا مصلية، أحد يقول: مثلا تعرفين الله، أقول: ما أعرف الله، أغضب من أولادي كثيراً، من زوجي، فما أعرف، فأعوذ بالله هل أدخل تحت إني أنا من الظالمين؟ هل يقبل الله عز وجل مني التوبة؟ وجه لي نصيحة أستعين بها على هذا الغضب ؟
نسأل الله لها مزيداً من الحلم، ونسأل الله أن يعافيها من هذا الغضب الذي يجعلها تنطق بكلمة الكفر والعياذ بالله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم ) فكلنا لم يولد عالماً، ولكن لما تعلمنا تعلمنا، فكذلك الإنسان إذا وجد من نفسه أن الغضب يغلب عليه، فليجتهد في قراءة فضل كظم الغيظ، وفضائل الحلم، وليجتهد على نفسه أن يتحلم، فيتحلم مرة بعد مرة حتى يصير الحلم له سجية وطبعاً بإذن الله - عزّ وجلّ - لكن عليها طبعاً إذا غضبت وتكلمت بمثل هذه الكلمات التي ذكرتها بعد الغضب عليها أن تتوضأ وتصلي ركعتين وتستغفر الله - عزّ وجلّ - وتقرأ شيئاً من القرآن الكريم حتى يغفر الله لها ما سلف من ذنبها؛ لأن تعالى قال: ? وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ?[هود:114] .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( وأتبع السيئة الحسنة تمحوها ) وعليها أن تكثر من قول: اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها .
(8/25)
---(1/255)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لا شك أن القرآن عظيم، وهذا شخص حافظته ممتازة في القرآن، لكن إذا سمَّع هو لنفسه يعني لا يخطئ؛ لأنه بعدما يسمَّع لنفسه يرجع ينظر خلال الصفحة يجد أنه ما أخطأ في شئ، يعني إلا نادرًا، ولكن إذا سمَّع له آخر يخطئ بشئ أكبر فما تفسيركم لهذا يعني ما السبب في هذا ؟
التفسير أن للآخرين هيبة، الإنسان إذا جلس يسمع على غيره من الرهبة والهيبة والمهابة والخشية هو لا يريد أن يخطيء فخوفه من الخطأ يجعله يخطأ، هو حافظ وهذا يحدث مع كبار الحفظة وليس مع المبتدئين، لكن بالتجرية يتعود الإنسان على هذا يسمع مرة بعد مرة بعد مرة سيكون في كل مرة متأخرة أحسن من التي سبقتها إن شاء الله.
هذه باحثة تريد أن تأخذ كتاب دفع إيهام الاضطراب للشيخ محمد أمين الشنقيطي ، الشيخ يذكر مجموعة من الأقوال، تريد أن تتخير القول الراجح وتخير بمرجحات حسب المذهب الحق، هل هذا نافع ومجزي، أم أنها تترك هذا، نريد نصيحة الشيخ؟
دفع إيهام الاضطراب للعلامة الشيخ الشنقيطي -رحمة الله عليه - كتاب جيد أنصحها به وبالاستمرار في بحثها فيه، والشيخ رحمه الله مفسر محقق يجمع الأقوال ويرجح بينها مما يدل عليه الكتاب والسنة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أريد أن أعرف طريقة ميسرة وسهلة للحفظ، وأريد أن أعرف: لماذا كلما أقرأ في القرآن كل آية أقرأها تستوقفني آيات كثيرة في القرآن، وعندما أقرأها للمرة الثانية كأني أقرأها لأول مرة، فهل هذه تعتبر من معجزة القرآن؟ وكنت أريد أن أعرف ما هو عذاب القبر ؟.
(8/26)
---(1/256)
لا شك أن من إعجاز القرآن: أن الإنسان يقرأه مرات ومرات، فيفتح الله تبارك وتعالى عليه في مرة متأخرة، ما لم يفتح عليه في مرة سابقة، وهذا حدث كثيرا للسلف الصالح رضوان الله عليهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سمع سورة الطور من النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا، ولكنه في ليلة من الليالي كان يتحسس أحوال الرعية، ويسير في طرقات المدينة فسمع قارئا يقر ?وَالطُّورِ ?1? وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ?2? فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ?3? وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ? [الطور: 1-3]، فجلس يستمع إليه فلما انتهى إلى قوله تعالى: ?إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ?7? مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ?8? ?[الطور: 7:8]، أخذه خوف شديد وعاد إلى بيته يعوده الناس ولا يعرفون ما سبب مرضه.
فمن إعجاز القرآن أنه دائما متجدد، والله سبحانه وتعالى يفتح على الإنسان في مرات دون مرات وهكذا، تقرأ أحيانا فلا تجد قلبك ولا تتأثر، فتقرأ حينا آخر فتجد قلبك وتتأثر، فذلك من فتوحات الله تعالى على عباده.
(8/27)
---(1/257)
أما الطريقة المثلى لحفظ القرآن الكريم التي دائما ننصح بها، وقد كررنا قولها في هذا البرنامج المبارك إن شاء الله تعالى، أننا ننصح إخواننا وأخواتنا الذين رغبوا في حفظ القرآن الكريم أن يبدءوا بحفظ حزب المفصل الذي هو من ق إلى الناس، من ق إلى الناس أربعة أجزاء، هذه الأربعة أجزاء الأخيرة قرئت كثيرا، وسمعت كثيرا، وحفظناها ونحن صغار، فإذا أراد الإنسان أن يحفظ وبدأ بها كان سهلا عليه أن يجمعها في وقت قريب جدا وقليل جدا، فننصحها وسائر المستمعين بأن يبدءوا بالحفظ من حزب المفصل، يبدأ بحفظ جزء عم، ثم تبارك، ثم قد سمع، ثم ق، ثم ينتقل من يس إلى ق وهكذا، حتى يرتقي فيختم المصحف كله إن شاء الله، مع ضرورة العناية بالمراجعة -مراجعة المحفوظ-؛ لأن هناك خطأ يشترك فيه أكثر الحفاظ: وهو أنهم يجدون في الحفظ، ويتركون مراجعة الماضي، فبعد أن يمشي شهرا في الحفظ يحفظ خمسة ستة أجزاء، يرجع للوراء ليسمع ما حفظه فلا يجده؛ لأنه حفظ وترك، لا، نحن نقول: من حفظ فلا بد أن يتعاهد القرآن المحفوظ بالمراجعة، كل يوم يقرأ المحفوظ ما دام أقل من ثلاثة أجزاء، فإذا زاد على ثلاثة أجزاء يقرأ كل يوم ثلاثة أجزاء وهكذا حتى يثبت الله تعالى القرآن في صدره.
هناك أربعة أسئلة: السؤال الأول: ما حكم إهداء قراءة القرآن للميت؟
(8/28)
---(1/258)
كما ذكر هو في سؤاله أنه اختلف العلماء في ذلك، لكن دائما نحن لا بد أن نخرج من الخلاف بالترجيح بين أقوال العلماء بالأدلة، فالراجح الذي هدانا الله سبحانه وتعالى إليه هو ما ذكره الإمام الشافعي رحمه الله ونقله عنه ابن كثير رحمه الله في تفسيره في سورة النجم في قوله تعالى: ?أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ?36? وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ?37? أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ?38? وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ?39? وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ?40?? [النجم: 36-40]، فدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كما نقله ابن كثير في تفسير هذه الآية، فدل بهذه الآية أنه لا ينفع الميت إهداء ثواب قراءة القرآن من عامة المسلمين؛ لأن هذه القراءة ليست من سعيه، والله تعالى قال: ? وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ?39? ? فما جرت به عادة الناس أنهم يقرءون شيئا من القرآن، وربما اجتمعوا ووزعوا أجزاء من القرآن على مجموعة من الناس، فإذا قرءوا كانوا كأنهم قرؤا القرآن كله، ثم يهدون ثواب ما قرءوا إلى أمواتهم وأموات المسلمين عامة بل وإلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أمر لا أراه جائزًا، بل إن الإنسان عليه أن يقرأ وهو على وجل من الله عز وجل وخوف ألا يثيبه، أنت تقول: أهديت ثواب ما قرأت إلى أبي وأمي وفلان وفلان، هل أنت جزمت بأنك أثبت على قراءتك؟ كيف تهدي شيئا لا تملكه؟ والله يقول في حق عباده الصالحين: ?وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ?60? ?[المؤمنون: 60]،أي خائفة، قالت عائشة - رضي الله عنها: يا رسول الله ?وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ? أهو الذي يزني ويسرق ويخاف؟ قال: (لا ياابنة الصديق، ولكنه الذي يصوم ويصلى ويتصدق ويخاف ألا يتقبل الله منه).
(8/29)
---(1/259)
فإهداء ثواب قراءة القرآن للأموات لا يجوز، لكننا نبشر السائل وغيره من المسلمين: بأن كل عمل صالح يعمله الولد فلأبويه خاصة دون عامة المسلمين من الأجر مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء، وذلك للآية التي ذكرناها آنفا ? وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ?39? ? فالولد من سعي أبويه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه) فإذا كان الولد من كسب أبيه، فمن فضل الله تعالى أن كل عمل صالح: صلاة، صيام، صدقة، قراءة قرآن، حج، عمرة، كل هذا يكون من الولد في صحيفة أبويه وهم أحياء وبعد مماتهما، من غير أن يقول: أهديت ثواب ما قرأت، أو وهبت ما عملت لأبي أو لأمي.
كان سؤاله الثاني: عن حكم ترتيل الأحاديث؟
لا أرى ترتيل الأحاديث كما يرتل القرآن ويجود لا أرى ذلك، لا بد من التفريق بين كلام الله سبحانه وتعالى،ـ وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فربما اشتبه الأمر على سامع يسمع إنسانا يرتل حديثا فيظن أنه يقرأ قرآنا، فردًّا ودفعا لهذه الشبهة، نقول: لا ترتل الاحاديث، ولكن تقرأ قراءة عادية.
السؤال الثالث: عن الراديو أو الكاسيت يشغل بالقرآن بصوت مسموع، مع عدم الاستماع إليه بنية طرد الشيطان من البيت.
(8/30)
---(1/260)
جرت عادة الطيبين - وما أكثرهم - بأنهم يتركون المذياع أو الكاسيت يقرأ القرآن في الإذاعة أو التسجيل في البيت طول النهار أو في المحلات، حتى إن بعض أصحاب المحلات إذا غادروا المحلات أغلقوا المحل وتركوا الراديو يقرأ القرآن، نحن نقول: ما تعبدنا بهذا وهذا شيء لم يفعله السلف إنما أمرنا ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ?[الأعراف:204]، أنا موجود في البيت موجود في المحل شغلت الراديو بجواري شغلت التسجيل أنا أستمع، قد أنشغل أحيانا لكنني يصل الصوت إلى أستمع، قد تنفعني آية لا حرج في ذلك، لكن عند النوم وعند مغادرة المحلات والبيوت تغلق هذه الكاسيتات والراديو.
سؤاله الرابع: هل من يستمع القرآن من خلال الشريط، ولم يقرأه مع استطاعته، هل يعتبر هاجرا للقرآن؟
لا شك أنه هاجر للقرآن؛ لأننا أمرنا بتلاوة القرآن أمرا أشد من الأمر من بالاستماع به، فيجب عليه أن يستمع، ويجب عليه أن يقرأ.
السلام عليكم ورحمة الله: عندي ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: ما حكم المجادلة وإن كانت في الحق؟
قلنا: إن الجدال نوعان: جدال مباح أو مشروع، وقد يتعين وقد يستحب، وجدال مذموم منهي عنه، أما الجدال المنهي عنه: فهو الجدال بالسوء والجدال بالباطل لدحض الحق، أما الجدال المشروع قد يكون متعينا لنشر الدعوة، وتبليغ الحق، والجدال بالحسنى من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل.
السؤال الثاني عن الإنسان العاصي الذي يتحجج بقول الله تعالى:?إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ? [البقرة: 173]،
(8/31)
---(1/261)
نعم، نحن نقول ?إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ? ومن أصدق من الله حديثا ومن أصدق من الله قيلا، لكن كما نبهنا لما أخبر الله تبارك وتعالى أنه واسع المغفرة، أخبر المغفرة تعم من ? وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ?82? ?[طه: 82]، ما فيه إنسان الآن يتقدم لمسابقة، لوظيفة، لعمل، إلا وهو لا يحمل المؤهلات التي طلبت لمن يتقدم لهذا العمل، لا يعقل أبدا أن يعلن عن مسابقة مطلوب من يحمل هذه المؤهلات يتقدم، لا يعقل أن يتقدم إنسان لا يحمل هذه المؤهلات، فكذلك الأمر الذي يريد أن يطلب رحمة الله تعالى لا بد أن يتأهل بمؤهلات التي تؤهله لرحمة الله ومغفرته .
السؤال الثالث: أنا أريد حفظ القرآن، ولكن لا أتقن التجويد، أريد طريقة صحيحة لإتقان التجويد؟
التجويد لا يؤخذ إلا من أفواه المشايخ، إذا أردت أن تتعلم التجويد؛ فابحث عن رجل من أهل القرآن المجودين المتقنين فجالسه وتعلم عليه، فإن القرآن لا يؤخذ إلا بالمشافهة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ذكرت سابقا أن الموت يؤتى به على هيئة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار، هل هو المكان الذي يطلق عليه العرف الذي يقف عليه أهل الأعراف يوم القيامة؟
لا ندري هل هو هذا أم لا، النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح فيوضع على سور بين الجنة والنار) ولم يسم هذا السور هل هو الأعراف، أم غيره الله. تعالى أعلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما ردك على من يقول: إن أهل النار يعذبون بموتتين، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى في سورة غافر ? قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ?[غافر:11]، وأن أهل الجنة لهم موتة واحدة؛ لقوله تعالى في سورة الدخان: ? لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى? [الدخان: 56].
(8/32)
---(1/262)
قول أصحاب النار: عافانا الله ? قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ? سموا الموتتين وسموا حياتين، المراد بالموتة الأولى: العدم الذي كان فيه الإنسان قبل خلقه، والمراد بالموتة الثانية: الموت المعروف الذي يموته الإنسان بعد استيفاء أجله، والمراد بالحياة الأولى: هذه الحياة التي نحياها، والمراد بالحياة الثانية: الحياة التي نحياها بعد البعث -إ ن شاء الله تعالى-وأما قول الله تعالى عن أهل الجنة ?لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى? فهي الموتة التي ذكرناها، فالعدم الذي سبق الوجود يسمى موتا ? قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ? كنا عدما فأحييتنا، كنا موتى فأحييتنا هذه الموتة الأولى، ثم لما استوفو آجالهم توفاهم الله هذه الموتة الثانية.
سؤال: لماذا بدأ الشيخ بتفسيرسورة الكهف بما أن هذه بداية الأكاديمية، فلماذا لم يبدأ بالبقرة أو الناس حتى يساعد بالفهم والحفظ
نحن جرينا -نرجو الله سبحانه وتعالى التوفيق - جرينا على سنة الله تعالى في التنزيل تقول أمنا عائشة - رضي الله عنها- كان أول ما نزل من القرآن أيات من المفصل فيها ذكر الجنة و النار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول ما نزل: لا تزنوا؛ لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، ولو نزل أول ما نزل: لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا نترك الخمر أبدا. فالله سبحانه وتعالى أنزل أول ما أنزل آيات من حزب المفصل الذي ذكرناه فيها الجنة والنار، فهو لم يبدأ بالبقرة، ولم يبدأ بالأنفال، ولم يبدأ بالتوبة، إنما كانت هذه متأخرة في النزول، فجريا على سنة الله تبارك وتعالى أن نبدأ بالعقيدة أولا، وبالجنة والنار والترغيب والترهيب.
(8/33)
---(1/263)
شرح الله صدور النابهين أن تكون البداية في هذه الأكاديمية المباركة -إن شاء الله- من أول سورة الكهف، ولعل الله يمد في الأعمار، وننتهي إلى الناس، ونرجع إلى الفاتحة والبقرة إن شاء الله.
سؤال: إذا حفظ الإنسان من القرآن ثم نسيه هل يحشر يوم القيامة أعمى كما جاء في الآية؟
قوله تعالى: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ?124? قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ?125? قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَ?[طه: 124-126]، النسيان هنا ليس هو ضد الذكر، ولكن النسيان هنا بمعنى الهجر والترك وعدم الإيمان وعدم العمل، وليس ضد الذكر.
ولكني أقول إن من أوتي القرآن أو شيئا منه ثم نسيه أقول إن لم يعاقب في الآخرة فكفاه عقاب الدنيا أن الله وهبه نعمته ثم أخذها منه؛ لأنك حين تحفظ القرآن أو تحفظ سورة من القرآن فإن هذه نعمة الله أنعم عليك بها، فإذا نسيتها الله استرد نعمته منك، لم يجدك أهلا لهذه النعمة فاسترد نعمته منك فأي عقوبة أشد من هذه العقوبة؛ فلذلك ننصح إخواننا وأخواتنا الذين انعم الله عليهم بالقرآن أو أجزاء منه أن يتعاهده بالمراجعة حتى لا يتفلت من صدورهم.
هل يثاب الأب والأم على عمل الابن، حتى لو لم يربياه على الالتزام بالشرع؟ وهل عليهم وزر على ما يرتكبه الابن من إثم؟
(8/34)
---(1/264)
كل عمل صالح يعمله الولد فلأبويه من الأجر مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء، وإن لم يكونا تسببا في ما هو عليه من الخير، إنهما كانا سببا في وجوده في هذه الحياة أصلا هما سبب وجودك في هذه الحياة، فكفاهما بهذا الفضل فضلا، فكل ما يعمله الولد من العمل الصالح فلأبويه من الأجر مثل أجره، وإن لم يكونا هما سببا في عمله الصالح هذا وهذا فضل الله، وأما عدل الله فهو ? وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ?[الإسراء: 15]، فإذا عمل الولد عملا سيئا لا يحمل على أبويه من وزره وإذا عمل الآباء عملا سيئا فلا يحمل على أبنائهم من وزره.
سؤال:هل نستطيع أن نجزم أن كل من مات كافرا أنه من أهل النار
لا شك في ذلك أن كل من مات كافرا، ولم تبلغنا عنه توبة، ولم نعرف عنه إسلاما، لا شك أننا نقول: إنه في النار.حتى ولو كان عين نعم، كل كافر علمنا أنه مات كافرا، ولم نعرف عنه إسلاما فهو في النار.
هل المقصود بذكر الله تلاوة القرآن فقط، أم يلحق بها التسبيح، والتهليل، والتكبير، والاستغفار، وقراءة أذكار الصباح والمساء
لا شك أن الذكر لفظ عام يشمل القراءة، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، لكن أفضل الذكر قراءة القرآن.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ذكرتم فضيلتكم أنه يجب ألا يهجر القرآن ويختم كل شهر، هل من يحفظ ويراجع وليس عنده وقت للختم في هذه المدة فيعتبر ممن هجره؟
أنا أنصح المنشغل بالحفظ أن يقرأ كل يوم ثلاثة أجزاء مما حفظ، ومما لم يحفظ، يعني يبدأ في الختمة من أو الفاتحة ِإلى الناس، ما لم يحفظه يقرأه من المصحف وما حفظه يقرأه عن ظهر قلب مرة ومن المصحف مرة أخرى، فبذلك يسهل عليه حفظ الغير محفوظ حين يأتي؛ ليحفظ سورة وقد قرأها كثير يسهل عليه حفظها، ولا يجوز له أن يهجر بقية القرآن حتى يحفظ منه ما تيسر.
(8/35)
---(1/265)
البعض يقولون: أن الله عز وجل خالق كل شيء، لكنهم يجعلون له آلهة آخرى، نرجو من فضيلتكم توضيح ثبوت التوحيد وبطلان الشرك للرد على هؤلاء القوم
شرحنا ذلك في الحلقة بالتفصيل، ونجمله في أنه إلهنا الحق الذي نعبده الذي خلقنا، كل ما سوى الله مخلوق مملوك مربوب لله، ولا يمكن للمخلوق أن يكون إلها أبدا؛ ولذلك سيدنا إبراهيم عليه السلام لما تبرأ من قومه ومما يعبدون من دون الله ? قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ?75? أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ?76? فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ?77? ? [الشعراء: 75-77]، لماذا تبرأ من الألهة التبي يعبدها قومه وأثبت ولايته لله وحده قال لأنه ?الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ?78? وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ?79? وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ?80? وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ?81? وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ?82? ?[الشعراء: 78-82].هل أحد غير الله يملك شيئا من ذلك لا إله إلا الله.
سؤال: هل من الإعراض عن القرآن ترك قراءته ؟
نعم، قلنا: من الإعراض عن القرآن ترك قراءته، وترك الاستماع إليه، وترك التدبر، وترك العمل، كل هذا من الإعراض عن القرآن الكريم.
السلام عليكم، ما الأشياء المطالبين بحفظها لوقت الاختبار، هل هو الشرح كاملا أم شرح المفردات فقط؟
لا، مطالبون إن شاء الله تعالى في الامتحان أن تعتمدوا على مختصر ابن كثير لشيخنا الرفاعي في المذاكرة، وإن لم نوفق في أن نوجد لكم هذا الشرح مكتوبا، فسنفرد لهذا الشرح سؤالا سيأتيكم سؤالا من هذا الشرح؛ حتى نفرق بهذا السؤال بين من استوعب الشرح وبين من اعتمد على قراءة الكتاب فقط، فانتبهوا لذلك كل ما أقوله احفظوه وذاكروه وادرسوه مع مختصر ابن كثير.
هل تفسير الشيخ ابن عثيمين يجزئ للمذاكرة؟
(8/36)
---(1/266)
لم أعلم للشيخ رحمة الله عليه تفسيرا كاملا، إن كان له تفسيرا كاملا، فذلك خير وبركة.
أرجو من الشيخ بيان معنى كلمة أكنة؟
أكنة: أي أغطية.
هل كلمة أرجوك خطأ؛ لأن الرجاء يصرف لله تعالى وحده فقط ؟
لا، أنت ترجو مني، وأنا أرجو منك، ما أقدر عليه، وما تقدر أنت عليه، ولكن لا أرجو منك ما لا تقدر عليه، هذا يرجى من الله تعالى، لكن أن ترجو مني ما أقدر عليه، وأنا أرجو منك ما تستطيعه لا حرج في ذلك إن شاء الله.
نعلم شيخنا أن الله تعالى يعلم ما كان، وما يكون، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فذكرت: أن الله تعالى ختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم، فلعلم الله بفساد قلوبهم؛ ختم على قلوبهم؟
لعلم الله بهم وباطلاعه على إصرارهم وعنادهم وكفرهم ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ?[النافقون: 3]، وقد قال الله تعالى: ? إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ?22? وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ?23? ?[الأنفال: 22: 23]، فليس من الحكمة أن يسمعهم، والمراد بالسمع هنا: هو سمع الانتفاع والاتعاظ والعمل وليس سمع الأذن.
(8/37)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
موسى والخضر
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:(1/267)
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم مرحبا بكم في هذا اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة الكهف، ونحن على موعد اليوم مع البدء في تفسير القصة الثانية التي وردت في السورة الكريمة: وهي قصة موسى والخضر التي قصها الله - تبارك وتعالى - علينا في سورة الكهف، تبين لنا أن الرحلة في طلب العلم من هدي النبيين، وعباد الله الصالحين، فلنستمع إلى آيات من هذه القصة كما جاءت في هذه السورة الكريمة المباركة قبل الخوض في تفاصيلها، سائلين الله - عزّ وجلّ - أن ينجز لنا ما وعدنا، حيث قال: ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?[الأعراف: 204]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(9/1)
---(1/268)
? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ?60? فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ?61? فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ?62? قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ?63? قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ?64? فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ?65? قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ?66? قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ?67? وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ?68? قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ?69? قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ?70??[الكهف:60-70].
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ?[ص: 29].
?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? [الحشر:21 ].
(9/2)
---(1/269)
?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر: 23].
إخوة الإسلام هذه آيات مباركات من سورة الكهف، من أول قصة موسى والخضر - عليهما السلام -، وقبل أن ندخل في تحليل الألفاظ والآيات، واستنباط العبر والدروس والأحكام منها، رأيت أن نقرأ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير هذه الآيات أولاً.
فإن الله -تعالى- وكل إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - مهمة بيان كتابه ? وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ?[النحل: 44] .
فإن شاء الله تعالى في هذه الساعة المباركة نستمع إلى قراءة الحديث كما رواه البخاري -رحمه الله- في كتاب التفسير، ثم نقرأ شرح الحافظ ابن حجر -رحمه الله- لهذا الحديث، ونستخرج منه من أحكام ودروس .
بوب البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب التفسير، فقال: باب فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا. قال: سربا يعني: مذهبا، يسرب يعني: يسلك، ومنه قوله تعالى ? وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ?[الرعد:10]، ثم قال البخاري -رحمه الله:- حدثنا إبراهيم بن موسى، قال: أخبرنا هشام بن يوسف: أن ابن جريج أخبرهم: قال: أخبرنا يعلى بن مسلم، وعمرو ابن دينار، عن سعيد بن جبير، يزيد أحدهما على صاحبه .
(9/3)
---(1/270)
ابن جريج يقول: أخبرني يعلى بن مسلم، وعمرو بن دينار بهذا الحديث الذي سيحكيه لنا الآن، يزيد أحدهما على صاحبه في الرواية وغيرهما، قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال: إنا لعند ابن عباس في بيته، إذ قال: سلوني قلت -أي أبا عباس-: جعلني الله فداءك بالكوفة رجل قاص -القاص: هو الذي يقص على الناس القصص والحكايات والأخبار- بالكوفة رجل قاص يقال له: نوف، يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل.
قال ابن جريج: أما عمرو فقال لي: قد كذب عدو الله، وأما يعلي فقال لي: قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : (موسى رسول الله -عليه السلام- قال: ذكَّر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب، ولى، فأدركه رجل فقال أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا؛ فعتب عليه إذ لم يرد العلم إلى الله.
قيل: بلى .
قال: أي رب فأين ؟
قال: بمجمع البحرين .
قال: أي رب اجعلي علماً أعلم ذلك منه .
فقال لي عمرو: قال: حيث يفارقك الحوت.
وقال لي يعلي: قال: خذ نوناً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح.
(فأخذ حوتاً فجعله في مكتل، فقال لفتاه لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت.
قال ما كلفت كثيراً.
فذلك قوله جل ذكره ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ? يوشع بن نون)، وهذه ليست عند سعيد أو عن سعيد.
قال: (فبينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذا تضرب الحوت وموسى نائم.
فقال فتاه لا أوقظه، حتى إذا استقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كان أثره في حجر) .
قال لي عمر: هكذا كان أثره في حجر وحلق بين أبهمتيه واللتين تليانهما .
? لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ? قال: قد قطع الله عنك النصب، هذه ليست عن سعيد، أخبره فرجع، فوجدا خضرا.
قال لي عثمان بن أبي سليمان: على طنفسة خضراء على كبد البحر.
(9/4)
---(1/271)
قال سعيد بن جبير: مسجى بثوبه: قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، (فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: هل بأرضي من سلام من أنت ؟
قال: أنا موسى .
قال: موسى بني إسرائيل ؟
قال: نعم .
قال: فما شأنك ؟
قال: جئت؛ لتعلمني مما عملت رشدا.
قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك؟
يا موسى، إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه، فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال: والله، ما علمي، وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر.
حتى إذا ركبا في السفينة، وجداً معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحل، إلى أهل هذا الساحل الآخر، فعرفوه، فقالوا: عبد الله الصالح ؟
قال: قلنا لسعيد: خضر؟
قال: نعم .
( قالوا: عبد الله الصالح، لا نحمل بأجر، فخرقها ووتد فيها وتدا.
قال: موسى أخرقتها؛ لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئاً إمرا) .
قال مجاهد: إمراً يعني منكراً .
( قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً .
قال: كانت الأولى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً .
قال: ?لا تؤاخذني بما نسيت، ولا ترهقني من أمري عسراً? . لقيا غلاماً فقتله) .
قال يعلى، قال سعيد: وجد غلماناً يلعبون، فأخذ غلاماً كافراً ظريفاً، فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، قال: أقتلت نفسا زكية بغير نفس، لم تعمل بالحنث.
وكان ابن عباس قرأها زكية زاكية مسلمة، كقولك غلاماً زكياً .
(انطلقا فوجدا جداراً يريد أن ينقض فأقامه) .
قال سعيد: بيده هكذا، ورفع يده فاستقام الجدار .
قال يعلى: حسبت أن سعيدًا، قال: فمسحه بيده فاستقام .
(قال: لو شئت لاتخذت عليه أجرا).
قال سعيد: أجراً نأكله .
وكان ورائهم، وكان أمامهم، قرأها ابن عباس: أمامهم، (وكان ورائهم ملك) يزعمون عن غير سعيد: أنه هُدَد بن بُدَد. والغلام المقتول اسمه يزعمون جيسور.
(9/5)
---(1/272)
(ملك يأخذ كل سفينة غصبا فأردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها، ومنهم من يقول: سدوها بقارورة، ومنهم من يقول: بالقار، كان أبواه مؤمنين، وكان كافرا؛ فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا: أن يحملهما حبه على أن يتابعه على دينه، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحما، لقوله أقتلت نفساً وزكية، وأقرب رحما هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل الخضر، وذهب غير سعيد: أنهما أبدلا جارية، وأن داود بن أبي عاصم قال: عن غير واحد إنها جارية ) .
هكذا أورد البخاري -رحمه الله- هذا الحديث.
وأراد ابن عباس أن يردَّ على نوف البكالي الذي يزعم: أن موسى صاحب الخضر ليس موسى رسول الله الذي بعثه الله إلى بني إسرائيل .
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله:- قوله ? فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ?61?? يعني مذهباً، يقال يسرب يعني يسلك .
ومنه قوله تعالى ? وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ?[الرعد:10].
قال أبو عبيدة في قوله تعالى ? فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ?61?? أي مسلكاً ومذهبا يسرب فيه . وفي أية أخرى ? وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ? وقال أيضاً: في قوله: ? وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ? سالك في سربه أي مذهبه، ومنه أصبح فلان آمناً في سربه، وفى الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) .
(9/6)
---(1/273)
قوله: بينما نحن عند ابن عباس إذ قال سلوني، يقول الحافظ: قول ابن عباس سلوني فيه جواز قول العالم ذلك، يجوز للعالم إذا اجتمع عنده الطلاب، أو غيرهم من عامة الناس أن يبتدأهم هو فيقول: سلوني، قال الحافظ: ومحل ذلك إذا أمن العجب، أو دعت الضرورة إليه كخشية نسيان العلم، يعني: يجوز للعالم أن يبتدأ الناس، فيقول: اسألوني، إذا لم يسألوه هم. قال: ولكن محل ذلك إذا أمن على نفسه الفتنة من العجب: بأن يعجب بنفسه، أو أن تأخذه العزة والكبرياء، أو أن العالم يخاف أن يندرس العلم ويذهب وينساه الناس، فيقول: سلوني؛ ليتجدد العلم في قلوبهم.
قوله: جعلني الله فداك فيه حجة لمن أجاز، خلافاً لمن منعه، يجوز للرجل أن يقول: للفاضل أو للخير أو للرجل المبارك جعلني الله فداك.
وقوله: إن بالكوفة رجل قاصا،ً القاص: هو الذي يقص على الناس الأخبار من المواعظ وغيرها، قوله يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل هكذا جاءت في هذه الرواية: يزعم أنه بالضمير، ولم يصرح بالاسم، وفى رواية سفيان: يزعم أن موسى صاحب الخضر، ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل .
فقال ابن عباس منكراً على نوف: كذب عدو الله، قال الحافظ: هذان القولان: كذبا عدو الله محمولان على أن ابن عباس أراد المبالغة في الزجر والتنفير عن تصديق تلك المقالة، لما قيل له: إن نوفاً يزعم أن موسى صاحب الخضر، ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، أراد أن ينفر الناس من قوله حتى لا يصدقوه، فقال: كذبا عدو الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ذكَّر موسى بنى إسرائيل ) ذكَّر: أي وعظهم، وفى رواية ابن إسحاق عند النسائي قال: ( فذكرهم بأيام الله ) .
وأيام الله: نعمائه، ولمسلم من هذا الوجه يذكرهم بأيام الله، وآلاء الله، ونعمائه، وبلاؤه، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في تفسير سورة إبراهيم .
(9/7)
---(1/274)
وفى رواية سفيان ( قام موسى خطيباً في بني إسرائيل حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب ) سمعوا موعظة بليغة، كما قال أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم :- وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون، كذلك فعل بنو إسرائيل مع موسى، وهو يذكرهم ويعظهم، كانت موعظة بليغة، فاضت العيون، ورقت القلوب، فولى موسى: أي قطع الخطبة والموعظة، وترك المجلس وانصرف.
قال الحافظ فيه: إن الواعظ إذا أثر وعظه في السامعين؛ فخشعوا، وبكوا، ينبغي أن يخفف لئلا يملوا. إذا حدث المحدث، ووعظ الواعظ، وذكر مذكر؛ فتأثر الناس بالخطبة، وتأثروا بالموعظة، ورقت قلوبهم، وفاضت أعينهم من خشية الله، ينبغي للواعظ أن يقطع موعظته، وأن ينهيها حتى لا يشق عليهم، ويملوا حديثه، محافظة على سلامة قلوبهم، فأدركه رجل لما ولى موسى -عليه السلام- قطع الخطبة وانصرف، تبعه رجل فقال له: هل في الأرض أحد أعلم منك ؟ قال: لا.
وفى رواية سفيان: أي الناس أعلم ؟ فقال: أنا .
فعتب عليه أن لم يرد العلم إلى الله - سبحانه وتعالى - وأخبره الله أن هناك عبداً من عباد الله عنده علم ليس عند موسى، فقال: أي رب فأين ؟ أين هذا الذي عنده علم ليس عندي ؟
في رواية سفيان: أي رب فكيف لي به؟
وفى رواية النسائي: فادلنني على هذا الرجل حتى أتعلم منه .
قال: اجعلي علماً، أي علامة أعرف بها موضع ومكان ذلك الرجل الذي عنده علم ليس عندي، أعلم ذلك به أي المكان الذي أطلبه فيه.
قال: حيث يفارقك الحوت، يعني فهو ثم .
وفي رواية سفيان عن عمر قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم.ذذ
قال: خذ حوتاً، وفي رواية نوناً، وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم، فقيل له تزود للسفر، أنت ستسافر، والسفر بحاجة إلى زاد .
(9/8)
---(1/275)
تزود حوتاً مالحاًَ، فإنه حيث تفقد الحوت، ويستفاد من هذه الرواية أن الحوت الذي تزود به موسى لطعامه كان ميتا؛ لأنه لا يملح السمك وهو حي، وهنا تأتي المعجزة مع أن الحوت ميت إلا أنه في المكان الذي فيه الخضر ستدب فيه الحياة، وسيهرب من موسى -عليه السلام- فحيث فقدته فهو ثم، أو حيث يفارقك الحوت فهو ثم، فبينما هو في ظل صخرة، وفى رواية سفيان: حتى إذا أتيا الصخرة، وضعا روؤسهما، موسى ومن ؟ وفتاه وضعا رؤوسهما فناما في مكان ثريان، يعني مبلول. ومنه حديث الرجل الذي وجد كلباً يلهث الثرى، الثرى هو السراب المبلول. في مكان ثريان أي مبلول إذ تضطرب الحوت، أي تفعل من الضرب في الأرض وهو السير.
وفى رواية سفيان اضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر. وفي رواية أبو إسحاق عند مسلم فاضطرب الحوت في الماء. فهنا رواية اضطرب في المكتل، وفي رواية أخرى اضطرب في البحر، قال الحافظ: ولا مغايرة بينهما؛ لأنه اضطرب أولاً: في المكتل، فلما سقط في الماء اضطرب أيضاً في الماء، إذاً دبت الحياة في الحوت وهو في المكتل، فلما تحركا نزل في البحر فاضطرب في البحر. فاضطرابه الأول: وقع في مبدأ حياته، واضطرابه الثاني: وقع في سيره في البحر حيث اتخذ فيه مسلكاً. وفي رواية قتيبة عن سليمان: في الباب الذي يليه من الزيادة، قال سفيان: وفى غير حديث عمر، وفى أصل الصخرة عين يقال لها: الحياة، عين ماء اسمها: عين الحياة، لا يصيب من مائها أي شيء ميت إلا أحياه الله - تبارك وتعالى -.
فأصاب الحوت من ماء تلك العين، فتحرك وانسل من المكتل، فدخل البحر، وكان موسى نائماً، فيوشع رأى الحوت، وقد اتخذ سبيله في البحر سربا، فلم يشأ أن يوقظ موسى .
قال: بدل أن أوقظه، أو أزعجه، أتركه حتى يستيقظ هو، فإذا استيقظ أخبرته، وموسى نائم، فقال فتاه: لا، أوقظه حتى إذا استيقظ، فاستيقظ موسى، فنسي الفتى أن يخبره .
(9/9)
---(1/276)
وأما قوله تعالى ? نَسِيَا حُوتَهُمَا ? فنسب النسيان إليهما تغليبا، لكن الناسي في الحقيقة هو الفتى؛ لأن موسى كلفه متى فقد الحوت يخبره، والناسي هو الفتى نسي أن يخبر موسى كما في هذا الحديث، وقيل: بل المراد أن الفتى نسي أن يخبر موسى بقصة الحوت، ونسي موسى أن يستخبره عن شأن الحوت بعد أن استيقظ؛ لأنه حينئذ لم يكن معه، وكان بصدد أن يسأله أين هو؟ فنسي ذلك.
قوله: فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كان أثره في حجر، قال: قال لي عمر، والقائل هو ابن جريج، قال لي عمر: كان أثره في حجر وحلق بين إبهميه واللتان تليانهما يعني السبابتين، يعني: الحوت لما خرج من المكتل اتخذ سبيله في البحر سربا، وترك في الصخرة أثر عظيم بحلقة مدورة، شبهها عمرو بحلقتي إبهاميه واللتين تليانهما.
وفى رواية سفيان عن عمر: فصار عليه مثل الطاق: وهو يفسر ما أشار إليه من الصفة. وفي رواية أبي إسحاق عند مسلم فاضطرب الحوت في الماء فجعل لا يلتئم عليه، لما مشى في الماء هو شق الماء، الماء في العادة عندما تشقه السفينة يلتئم ورائها، الحوت شق الماء، ولكن الماء لم يلتئم، ولم ينضم بعضه إلى بعض بعد أن مشى فيه الحوت، فاضطرب الحوت في الماء فجعل لا يلتئم عليه صار مثل الكوة.
(9/10)
---(1/277)
? فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ?[الكهف:64]. أي رجعا يقصان آثارهما أي آثار سيرهما؛ لأن الأقدام تؤثر في الأرض الرملية، أو في الأرض المبلولة، إذا أعطيت أرضاً رملية تجد قدمك قدماً قدماً وراءك. فرجعا يقصان آثارهما: أي يتبعان أثار سيرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، زاد النسائي في رواية له التي فعل فيها الحوت ما فعل، وهذا يدل على أن الفتى لم يخبر موسى حتى سارا زمانا، يعني الفتى لم يتذكر أن يخبر موسى أنه ما فقد الحوت إلا بعد أن مشى مسافة طويلة، إذ لو أخبره أول ما استيقظ ما احتاجا إلى أن يقتصا آثارهما. اقتصاص آثارهما دليل على أنهما كانا قد بعدا مسافة بعيدة؛ فخشيا أن يضلا الطريق، فرجعا يقتصان آثار أقدامهما حتى يرجعا إلى الصخرة، فلما وجدا الخضر نائماً كان مسجى بالثوب مغطى كله ليس هناك شيء ظاهر منه، جعل طرف الثوب تحت رأسه والطرف الآخر تحت رجليه فسلم موسى -عليه السلام- على الخضر السلام عليكم، فالخضر تعجب ما هذه التحية التي لم يسمعها في أرضه قبل ذلك، قال وهل بأرضي سلام ؟ عندما سمع السلام عليكم كشف وجهه، وقال: وهل بأرضي من سلام؟
(9/11)
---(1/278)
وفى رواية سفيان قال: وأنى بأرضك السلام؟ وهي بمعني أين أو كيف، وهو استفهام واستبعاد يدل على أن أهل تلك الأرض لم يكونوا إذ ذاك مسلمين؛ لأن السلام عليكم هي تحية المسلمين؛ ولذلك نحذر إخواننا المسلمين من التقصير في تحية الإسلام، واستبدال الأدنى بالذي هو خير، نستبدل تحيات غير إسلامية: صباح الخير، ومساء الخير، بدل السلام عليكم، وهذا لا يجوز، إن السلام عليكم تحيتنا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( السلام اسم الله، وضعه بينكم في الأرض فأفشوه بينكم ) وعظم - صلى الله عليه وسلم - أمر السلام فقال: ( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم ) وبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يقول لأخيه: السلام عليكم يؤجر بعشر حسنات، فإذا قال: ورحمة الله أعطى عشرين حسنة، فإذا قال: وبركاته أعطي ثلاثين حسنة، صح هذا في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جاءه رجل، فقال: السلام عليكم، قال: ( اجلس عشر ) فقال الثاني: السلام عليكم ورحمة الله، قال: ( اجلس عشرين ) فقال الثالث: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، زاد وبركاته: قال: ( اجلس ثلاثين ) .
وقد سمى الله - تبارك وتعالى - السلام تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم هي تحية المسلمين؛ ولذلك استنبط من إنكار الخضر السلام في هذه الأرض: أن أهل هذه الأرض لم يكونوا مسلمين؛ لأنه لم يكن يسمع فيهم قول السلام عليكم .
قال: من أنت ؟ قال: أنا موسى .
قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: نعم .
وسقط من رواية سفيان قوله: من أنت؟ وفي رواية أبي إسحاق، قال: من أنت؟ قال: موسى، قال: من موسى ؟ قال: موسى بنى إسرائيل، ويجمع بينهما بأن الخضر أعاد ذلك تأكيدا. من أنت؟ قال: موسى. قال: موسى بني إسرائيل ؟ قال: موسى بني إسرائيل، تأكيدا .
(9/12)
---(1/279)
قال: ما شأنك، ما الذي جاء بك يا موسى، أنت في بني إسرائيل، ما الذي جاء بك إلى هنا ؟
ما شأنك؟ أي ما جاءك؟ أما يكفيك أن التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك، ثم قال الخضر: يا موسى إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، أي لا ينبغي لك أن تعلم كل العلم الذي عندي، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه، وأنا أيضاً لا ينبغي لي أن أعلم كل ما أوتيت من العلم.
وتقدير ذلك تقدير الجميع على علم متعين؛ لأن الخضر كان يعرف من الحكم الظاهر ما لا غنى بالمكلف عنه، وموسى كان يعرف من الحكم الباطن ما يأتيه من طريق الوحي، ووقع في رواية سفيان: يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وهو بمعنى الذي قبله.
وفي رواية سفيان قال: إنك لن تستطيع معي صبرا، كذا أطلق بالصيغة الدالة على استمرار نفي موسى للصبر.
إنك لن تستطيع معي صبرا، يعني لن تستطيع أن تصبر أن ترى من أحوالي ما لا صبر لك عليه، لما أطلعه الله عليه من أن موسى لا يصبر على ترك الإنكار، إذا رأى ما يخالف الشرع علم الخضر: أن موسى إذ رأى فعلاً يخالف الشرع، لابد أن ينكر على فاعله ولو كان الخضر.
فقال له: إنك لن تستطيع معي صبرا؛ لأن ذلك شأن عصمته، المعصوم موسى -عليه السلام- لا يجوز أن يرى منكرًا ويسكت عنه، ولذلك لم يسأله موسى عن شيء من أمور الديانة، بل مشى معه؛ ليشاهد منه ما اطلع به على منزلته في العلم الذي اختص به.
وقوله: وكيف تصبر؟ استفهام عن سؤال تقديره: لما قلت إني لا أصبر ؟
يعني يتوقع أن موسى سأله: كيف تقول: إنني لن أصبر؟ أنا سأصبر، فقال: وكيف تصبر على ما تحط به خبرا؟
(9/13)
---(1/280)
? حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ ? انتهيا إلى شاطئ البحر، وجدا معابرًا، المعابر: هي السفن الصغار، فأصحاب السفينة رأوا الخضر فعرفوه، قالوا: العبد الصالح، عبد الله الصالح، الخضر فحملوه بغير أجرة، وهذا ماش من ذلك اليوم، وسائر في الناس إلى اليوم: أن الناس إذا ركبوا في أي مركب، ورأوا من الصالحين بينهم أو أحد العلماء، فإما أن صاحب السيارة نفسه لا يأخذ الأجرة، وإما أن يدفع له بعض الحاضرين إكراما. فحملوه بغير أجر، فلم يلبث أن خرقها، خرق السفينة، ووتّد بتشديد التاء، وتّد فيها وتدا أي جعل فيها وتدا.
وفي رواية سفيان فلما ركبوا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، قال: والجمع بين الروايتين أنه قلع اللوح، وجعل مكانه وتدا.
قال ? لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ? قال مجاهد أي أمراً منكرا. وعن قتادة إمراً أي: عجبا، ومن طريق أبي صخر في قول إمرا، قال أي: عظيما.
وفى رواية الربيع بن أنس عند ابن أبي حاتم أن موسى لما رأى ذلك امتلأ غضبا، وشد ثيابه، وقال: أردت إهلاكهم، أخرقتها لتغرق أهلها؟! ستعلم أنك أول هالك، فقال له يوشع فتاه: ألا تذكر العهد ألا تبادره بالسؤال حتى يحدثك هو. فأقبل عليه الخضر فقال: ألم أقل لك، فأدرك موسى الحلم، فقال: لا تؤاخذني، وأن الخضر لما خلصوا، قال لصاحب السفينة: إنما أردت الخير، فحمدوا رأيه وأصلحها الله على يده.
قوله كان أبواه مؤمنين، وكان كافرا يعني الغلام الذي قتله الخضر -عليه السلام- وفى رواية سفيان: وأما الغلام فطبع يوم طبع كافرا، وكان أبواه قد عطفا عليه أحباه وتعلقا به حب الفطرة مع كونه كافرا.
? فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ? أي يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه، خشينا أن يفتنهما في دينهما فيرتدا عن دينهما غلبة الحب له.
(9/14)
---(1/281)
قال: هذا من تفسير ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن زبير، وأخرج ابن المنذر من طريق سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير مثله .
وقال أبو عبيدة: في قوله يرهقهما أي: يغشاهما.
قال الحافظ ابن حجر بعد أن شرح الألفاظ والكلمات: وفى الحديث من الفوائد غير ما تقدم: استحباب الحرص على الازدياد من العلم، أن تكون حريصاً على أن تزداد كل يوم علماً جديداً، أن تكون ذا همة عالية لا ترضى باليسير من العلم، وفى إمكانك أن تحصل على الكثير .
فقد قال بعضهم :
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كعجز القادرين على التمام
يعني أن تكون قادراً، والفرصة متاحة وميسرة، والعلم بين يديك، ثم تكتفى من العلم بالنذر اليسير، وتكون همتك دون لا ترضى، أو لا تطمع في أن تحصل علماً كثيراً هذا خطأ.
إنما من قصة موسى والخضر نستفيد استحباب الحرص على الازدياد من العلم، ولو أدى ذلك إلى أن تسافر في البلاد، وتخرج من بلد إلى بلد في طلب العلم، فافعل ذلك .
فموسى -عليه السلام- مع أنه كليم الله من أولى العزم من الرسل، لما علم أن بالأرض الفلانية رجل عنده علم ليس عنده سافر إليه، وتحمل المشاق؛ ليزيد علماً، أو ليكسب علماً، إلى علمه .
واستحباب لقاء المشايخ، والخروج للقاء العلماء، وطلب العلم على أيديهم، فإن لطلب العلم طريقين: الطريق الأول: الأخذ من الكتب وهذا ليس نافعاً إلا بشروط ذكرها الإمام الشاطبي -رحمه الله- في مقدمة من المقدمات التي كتبها في كتابه الموافقات، وأما الطريق الثاني: فهو طريق المشافهة، وهذا هو أنفع الطرق في طلب العلم، طريق المشافهة: أن تأخذ العلم من أفواه المشايح.
(9/15)
---(1/282)
قالوا: لأن الله - تبارك وتعالى - جعل بين العالم والطالب خاصية في سرعة الفهم، وضربوا على ذلك مثالاً: أن الطالب يسهر الليل في مذاكرة مسألة، فلا يفتح عليه في فهمها، فيقول إذاً في الصباح آتي شيخي فأسأله عن المسألة التي عجز عن فهمها، فإذا أصبح توجه إلى شيخه؛ ليسأله فبينما هو في الطريق يقذف الله في قلبه بفهم المسألة، وربما انتهى إلى الشيخ ورفع أصبعه يستأذن في السؤال، فلما أذن له الشيخ بالسؤال حكى السؤال، فألقى الله الفهم على قلبه وهو يتكلم بالسؤال .
فعلينا أن نحرص إذا استطعنا أن نأخذ العلم من أفواه المشايخ، وتجشم المشاق في ذلك، وتحمل الصعاب في السفر إلى العلماء، والاستعانة في ذلك بالأتباع، يعني لا حرج إذا أراد الإنسان أن يسافر أن يأخذ خادماً يخدمه في السفر، كما فعل موسى -عليه السلام- .
وإطلاق اسم الفتى على التابع أن يقال للخادم فتى واستخدام الحر، الحر ضد العبد، والعبد: هو الرقيق المملوك، فيجوز استخدام الحر فضلاً عن استخدام الرقيق، وطواعية الخادم لمخدومه: أن الخادم يطيع مخدومه، وينفذ أوامره، وعذر الناس؛ لأن الفتى نسي أن يخبر موسى بما فعله الحوت، وقد كان قال له: لا أريد منك شيئاً أكثر من أنك حين تفقد الحوت تقول لي فقدنا الحوت، فقال له: هذه ليست صعبة، هذا أمر بسيط سهل، ومع ذلك فقد نسي أن يخبره فعذره موسى -عليه السلام- والحمد لله - تبارك وتعالى - أنه رفع عنا أيضاً المؤاخذة بالنسيان، وفى الحديث أنه لما نزل قوله تعالى ? رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ?[البقرة:286] قال الله تعالى نعم.
وفيه قبول الهدية من غير المسلم، يجوز للمسلم أن يقبل الهدية من الكافر، والشاهد عليها أن أصحاب السفينة كانوا كافرين، ولما رأوا الخضر العبد الصالح حملوه بلا أجرة، وأقرهم الخضر على ذلك، ولم يلح عليهم في قبول الأجرة، ففيه جواز قبول الهدية من غير المسلم .
(9/16)
---(1/283)
ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل الهدية من غير المسلمين ، وقصة الشاة المسمومة أهدتها له يهودية، كما تعلمون في غزوة خيبر، أهدته يهودية شاة مسمومة، وقبلها إلا أن الله حفظه وعصمه وأخبرته الشاة أنها مسمومة .
واستدل به على أن الخضر نبي لعدة معاني منها قوله: ? وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ? وكتباع موسى رسول الله له؛ ليتعلم منه، فالخضر ليس كما يقال: ولي من أولياء الله الصالحين ؟ لا، ليس الخضر ولياً، إنما هو نبي من الأنبياء؛ لأنه ليس لموسى الكليم الذي يأتيه الوحي من السماء، ليس له أن يتعلم من ولي، وكيف يتعلم الولي من النبي؟ والولي لا يأتيه الوحي، والنبي يأتيه الوحي، فاتباع موسى للخضر دليل من الأدلة التي يستدل بها على أن الخضر كان نبيا. وكإطلاق الخضر أنه أعلم من موسى، وكإقدامه على قتل النفس الزكية لما شرحه بعد وغير ذلك.
وقال ابن بطال: قول الخضر: وأما الغلام فكان كافراً هو باعتبار ما يؤول إليه أمره: أن لو عاش حتى يبلغ؛ لأن الغلام صبي صغير لم يبلغ الحلم بعد، إذًا هو على إسلامه إسلام الفطرة، ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة) فكان الغلام صبي صغيراً إذا هو على إسلام بالفطرة، ولكن كان كافراً هذا باعتبار ما سيؤول إليه أمره لو طالت حياته، واستحباب مثل هذا القتل أن يقتل غلام مخافة أن يكبر فيكفر، لا يعلم ذلك إلا الله - سبحانه وتعالى - ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده .
ويحتمل أن يكون جواز تكليف الصبي المميز كان مشروعاً في شريعة من قبلنا، يعني كان في شريعة من قبلنا يكلف الغلام ويجري عليه القلم، ويؤاخذ بأفعاله بالتمييز، التمييز يكون في سن سبع سنين أو ثمان سنين، أما في شريعتنا فقد رفع القلم عن الصبي إلى متى حتى يحتلم .
(9/17)
---(1/284)
قال: وفيه جواز الإخبار بالتعب، ويلحق به الألم من مرض ونحوه، موسى قال: آتنا غداءن لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، نحن تعبنا جداً من هذا السفر، ففي هذا جواز الإخبار بالتعب, ويلحق به الألم من مرض ونحوه، إذا كان إنساناً مريضاً فزاره زوار، وعاده العواد، فلا مانع أن يقول: أنا مريض، شريطة إذا كان هذا الإخبار على غير سخط القدر.
بعض الطيبين إذا زاره العواد وهو مريض يتحرج أن يشتكي، ويتحرج أن يخبر على نوع مرضه، ويتحرج أن يخبر عن الألم الذي يجده، وزواره يريدون أن يطمئنون عليه، هل يتألم أم لا؟ فيتحرج مخافة أن يكون في الإخبار شكاية، أو اعتراضاً على القدر. يجوز الإخبار بالمرض، والتعب، ونحو ذلك، ما لم يكن على سبيل الاعتراض .
(9/18)
---(1/285)
وفيه أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب والجوع، بخلاف المتوجه إلى غيره، كما في قصة موسى في توجهه لميقات ربه، وذلك في طاعة ربه، فلم ينقل عنه أنه تعب، ولا طلب غداءً، ولا رافق أحدا، وأما في توجهه إلى مدين فكان في حاجة نفسه فأصابه الجوع، وفى توجهه إلى الخضر، كان لحالة نفسه أيضاً فتعب وجاع، فكلما كان خروج الإنسان في سبيل الله، وابتغاء مرضات الله؛ يسر الله عليه الطريق، وهون عليه السفر، ولم يجد منه النصب، وفيه جواز طلب القوت، وطلب الضيافة؛ لأن موسى والخضر عرضا على أهل القرية أن يطعماهم، ففيه جواز طلب الطعام، وطلب الضيافة، وفيه قيام العذر بالمرة الواحدة، وقيام الحجة بالسارية؛ لأن موسى لما اعتذر عن أول مرة قبل الخضر عذره، وفى المرة الثانية قامت عليه الحجة، وفيه حسن الأدب مع الله، وألا يضاف إلى الله ما يستهجن لفظه، وإن كان الكل بتقدير الله وخلقه، والدليل على ذلك أن الخضر قال عن السفينة: ? فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ? فنسب العيب إليه، وقال عن الجدار ? فَأَرَادَ رَبُّكَ ? ومنه قول الخليل إبراهيم -عليه السلام- ? الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ?78? وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ?79? وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ?80??[ الشعراء:78-80]
فنسب المرض إليه .
ومنه قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - ( والخير بيدك، والشر ليس إليك ) .
وهذا ما ذكره الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في هذا الباب في كتاب التفسير، في شرح قصة موسى والخضر من الفوائد والدروس .
وإلى اللقاء القادم إن شاء الله مع تفسير الآيات، وتحليل الكلمات، واستنباط أيضاً العبر والعظات من الآيات التي قصها الله -تعالى- علينا في قصة موسى والخضر في سورة الكهف .
هذا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .
(9/19)
---(1/286)
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يا شيخنا، توجيهكم على من يسأل عن مسألة قد يشرحها أستاذ آخر، فنجد هذا الأستاذ يجيب بإجابة فيها اختلاف، فلا نعلم أيهما الصواب، وتلتبس علينا الأمور خاصة المبتدئين ؟
إذا اختلفت الفتية من عالم لآخر، واختلف الجواب عن سؤال واحد من عالم لآخر، فعلى العامي الذي يسأل أهل العلم، أن يقلد أعلم العالمين، ومن يظن بهما الخير، والتقى وبذلك تبرأ ذمته، شريطة أن يخالف هواه، وألا يتبع قول هذا؛ لأنه وافق هواه ويخالف القول الثاني: لأنه وافق هواه، بل يأخذ بالأحوط في دينه، وأبرأ ذمته.
سؤالها الثاني: تقول هل لابد من حفظ جميع الأدلة التي تذكرونها؟
لا شك أنه في الامتحان، أن الذي يأتي بأدلة كثيرة غير الذي يأتي بأدلة قليلة، فنهيب بجميع الطلاب بأن يعنوا بكل ما ذكرناه، ولا سيما والحمد لله أن المحاضرات أو بعضها الآن موجود على موقع الأكاديمية مفرغاً، فيستطيع كل طالب أن يسحب هذه الدروس مفرغة، وأن يذاكر منها إن شاء الله تعالى .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قلتم بأن الخضر نبي ورجل صالح، فما الثابت ؟ السؤال الثاني سؤال عن الخضر سمعت من بعض الناس أنه حي وسيخرج مع المهدي وغيره فهل هذا صحيح ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عندي ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: هل هناك فرق بين مجلس العلم ومجلس الذكر؟
نعم مجالس الذكر هي مجالس العلم، هكذا قال عطاء -رحمه الله- مجالس الذكر: هي مجالس العلم، كيف تبيع؟ وكيف تشتري؟ وكيف تنكح؟ وكيف تطلق؟ وكيف تتوضأ؟ وكيف تصلي؟ فمجالس العلم هي مجالس الذكر .
السؤال الثاني: هل أخذ العلم من خلال الأجهزة الحديثة كما نحن الآن يعد أخذاً بالمشافهة ؟
(9/20)
---(1/287)
لا شك أن هذا الأسلوب الآن في المحاضرات عن طريق هذه الأكاديمية المباركة -إن شاء الله- أن هذا من أخذ العلم مشافهة، وإن بعدت بيننا المسافات، إلا أننا كأننا على مائدة واحدة تسمعني، وتراني، وتأخذ العلم مني، ومن غيري من المشايخ مشافهة، فهذا من الطريق المحمودة: وهي أخذ العلم من أفواه المشايخ.
السؤال الثالث: ما الشروط التي تضمن لنا قبول هذه العبادة أي عبادة طلب العلم عند الله إن شاء الله ؟
الشرط لقبول العبادة -إن شاء الله- علماً كان أو غيره الإخلاص لله - تبارك وتعالى - فأنت تتطلب العلم؛ امتثالاً لأمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام بطلب العلم، قال تعالى: ? وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ?[التوبة:122].
فأمر الله -تعالى- من يستطيع أن يسافر، ويطلب العلم أن يسافر، ويغزو، ويتعلم ثم يرجع معلما،ً والنبى - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) فأنت حين تطلب العلم تبتغي بذلك وجه الله، لا شك -بإذن الله- أنك مقبول عند الله، ومأجور على عبادتك هذه وهي طلب العلم .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كتاب صفوة التفاسير من حيث الأخطاء العقدية أو العلمية التي فيه كي يعرفها الناس أو بعضها
هذه كنا ادخرناها للتفسير فإن شئت أجبناه وإن شأت أخرناها ؟ نؤخرها .
هذا من صلب التفسير، في حلقة التفسير -إن شاء الله- من صلب الموضوع أننا سنتكلم عن حياة الخضر، هل هو حي إلى الآن كما يزعم بعض الناس أم ماذا ؟ وهل هو نبي أو لي ؟ سنستفيض بذلك إن شاء الله في الحلقة القادمة .
(9/21)
---(1/288)
عندي شبهة في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) والحديث الثاني ( من طلب الآخرة فعليه بالقرآن ، ومن طلب الدنيا فعليه بالقرآن ومن طلبهما معاً فعليه بالقرآن ) فأنا لو طلبت بحفظ القرآن الكريم، أو طلب العلم شئ من الدنيا، ومن الآخرة، أو الشيء الذي يأتيني في الدنيا من الآخرة، هل أنا طلبت العلم هكذا للدنيا ؟
الحديث الآخر ضعيف لا يصح ( من أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معاً فعليه بالقرآن ) هذا ليس بصحيح وبهذا ينتهي الإشكال .
من المهم جداً للحافظ اتخاذ ورد يومي دائماً، لابد لا يقل عن ثلاثة أجزاء، بحيث يختم الحافظ كل عشرة أيام مرة؛ حتى يثبت القرآن في صدره، فهي أحياناً تقول تقرأ أربعة خمسة أجزاء في اليوم وأحياناً تقرأ جزء واحد، وأحياناً لا تقرأ.
تنظيم الوقت من عوامل النجاح في الحياة، فعليها أن تنظم وقتها، وتعلم أو تنظر في وقت الفراغ عندها؛ فتجعله لهذا الورد ثلاثة أجزاء يوميا بعد صلاة الفجر، ما بين المغرب والعشاء، في وقت الضحى بعد أن يخرج أبناؤها إلى المدارس وتتفرغ، المهم لابد أن تقرأ ثلاثة أجزاء أقل شيء حتى يثبت الله القرآن في صدرها .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نصيحتكم يا شيخ، فإني قد ختمت كتاب الله حفظاً، ولكن لا أستطيع أن أسير على ورد ثابت، هل على إثم ؟ السؤال الثاني: أقوم بتعليم بعض الأخوات وتمر بنا آية السجدة، ولم تسجد هل على سجود في هذه الحالة أم لا ؟
أولاً: سجود التلاوة ليس واجباً، وإنما هو مستحب، فالقارئ بالخيار إن شاء سجد، وإن شاء لم يسجد، وليس هناك بديل كما هو مشهور عند البعض: أنه إذا لم يسجد، يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هذا البدل ليس في الشرع، ليس في السنة، لم يرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه من لم يسجد يقول: كذا .
(9/22)
---(1/289)
فالقارئ بالخيار إما أن يسجد سجدة التلاوة، وإما ألا يسجد, وللعلم أن سجود التلاوة ليس صلاة، فلا يشترط له ما يشترط للصلاة، ويصح في أي وقت. فإذا ثبت سجد، وإن لم تثبت فلا شيء، لكن إذا كانت واحدة أول مرة واحدة تقرأ، فهذه القارئة إمامه للأخريات إن سجدت القارئة سجدنا، وإن لم تسجد لم يسجدوا .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يفهم من قصة موسى والخضر: أن ما يحدث للمسلم من أمور في ظاهرها شر أن يكون في طياتها الخير مثل خرق السفينة بغرض نجاة أهل السفينة من الملك والغلام والجدار إلى آخره ؟
لا شك في ذلك، والله - سبحانه وتعالى - قال: ? وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ?[البقرة:216].
فليس في الدنيا هناك أجمل من الرضا والاستسلام لله - سبحانه وتعالى - والرضا بقضاء الله - عزّ وجلّ - ? وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ? والله - سبحانه وتعالى - حين ابتدأ الحديث في براءة أمنا عائشة - رضي الله عنها - حين ابتدأوها بحادثة الإفك، ابتدأ القصة والحديث بقوله ? إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ? [النور:11] .
وطبعاً القذف قذف المحصن الغافل المؤمنة العفيفة الطاهرة لا أن ذلك في ظاهره شر محض يقال أي خير في هذا عفيفة طاهرة رميت الله يقول ? لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ? فعلى المسلم أن يوطن نفسه دائماً على الاستسلام لله -تعالى- والرضا بقضائه، وأن يعلم أن الله أبر به من نفسه، وأرحم به من نفسه، وأعلم بالمصلحة من نفسه.
يقول: مجمع البحرين هل هو مجمع البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي أي موقع مدينة طنجة ؟
سنتكلم إن شاء الله عن ذلك في الحلقة القادمة .
(9/23)
---(1/290)
يقول هل فعلاً حديث موسى الرجل الصالح بأخبار نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأخبار أمته وتمنى موسى -عليه السلام- أن لو كان من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟
لم يصح إلا ما جاء في كتاب ربنا - سبحانه وتعالى - فقط .
يقول: في أي كتاب نجد رواية البخاري لقصة موسى -عليه السلام- والخضر ؟
على أية حال نحن قرأنا في فتح الباري المجلد الثامن في كتاب التفسير في صحيح البخاري بدون الفتح، وفى الفتح ستجده في الجزء الثامن .
تقول: ما رأي فضيلتكم في كتابي أحكام القرآن للجصاص والتحرير والتنوير للطاهر بن عاشور ؟
كتابان جيدان .
يقول: قال الله - عزّ وجلّ :- ? وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ? هل هذه الآية دليل على أن الصبر على أمر من الأمور يقتضى العلم به ؟
العلم يعين على الصبر؛ لأن موسى لم يكن عالما، لماذا خرق الخضر السفينة؟ لماذا قتل الغلام؟ لماذا أقام الجدار الذي يريد أن ينقض ولم يأخذ أجره ؟
فلم يكن عالماً بالحكمة الخفية في ذلك؛ فلذلك لم يصبر، لكن لو الإنسان علم الأشياء، فالعلم مما يعين على الصبر .
يقول: ما الفرق بين العلم الباطن، والعلم الظاهر الذي عند موسى -عليه السلام- والخضر ؟
العلم الباطن: الذي عند الخضر الذي فعله، هذا بالنسبة لموسى علم باطن غير ظاهر؛ لأن الخضر يعلم: لماذا خرق السفينة؟ لماذا قتل الغلام؟ لماذا أقام الجدار؟ فهذا شيء خفي عن موسى -عليه السلام- .
فلا يقال هنا علم باطن، وعلم ظاهر، وهذا لا نوافقه على ذلك، لكن كان كما عند الخضر من العلم بالنسبة لموسى علماً باطناً أي خفياً .
يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل تعتبر طريقتنا هذه في طلب العلم يعني عبر الإنترنت من المشافهة أم علينا أن نجالس العلماء ؟
هذا نوع من المشافهة، ومجالسة العلماء -إن شاء الله تعالى- ولا تقتصر على ذلك، بل حيثما وجدت أهل العلم من أهل السنة فزاحمهم بالركب أينما كنت .
(9/24)
---(1/291)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما جزاء تارك طلب العلم، الذي يتفلت منه القرآن؟
نحن نبهنا قبل ذلك أن قوله تعالى: ? قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ? [طه:126].
هذه العقوبة كانت على نسيان الترك، يعني: عدم العلم بالقرآن، وعدم اتباعه، وعدم العلم به.
وأما النسيان: الذي هو ضد الذكر، حفظ ثم نسي وتفلت منه القرآن، فنحن قلنا إن لم تكن هناك عقوبة منصوص عليها فحسب ذلك الإنسان رجل كان أو امرأة، أن الله -تعالى كان قد أنعم عليه بنعمة ثم سلبه هذه النعم وأي عقوبة من هذا ؟ أن يمن الله عليك بحفظ شيء من كتابه، أو حفظ كتابه كله ثم تسلب هذه النعمة، لو لم تكن هناك عقوبة غير هذا السلب لكان كافياً أن يحذر إنسان أن يتفلت منه القرآن بعد أن يؤتيه .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بالنسبة للأطفال هل هم مكلفين أو غير مكلفين إلى سن الحلم، أنا الآن أعلم أولادي القرآن، الصلاة، والصيام، وكل ما أمرنا الله به أعلمهم إياه، فهل هم يجزون على كل ما أعلمهم حتى يبلغوا الحلم، أم بعدما يبلغوا الحلم ؟
نشكر له حرصه على حسن تربية أولاده، ونسأل الله أن يبارك له فيهم، ويجعلهم من الصالحين، وأبناء المسلمين، معنى كون الصبي غير مكلف: أنه كل عمل صالح يعمله قبل بلوغه يكتب له أجره، وكل عمل غير صالح يفعله فلا يكتب عليه وزره إلا بعد بلوغ الحلم .
فقراءة أبنائك للقرآن، وصلاتهم معك في المسجد، وصيامهم معك في رمضان وفى النوافل، كل هذا لهم أجر عليه، وهم أيضاً في صحيفتك مثل أجرهم -إن شاء الله تعالى- .
أما معنى كونهم غير مكلفين: أنهم لا يؤاخذون بالسيئات، لا تحمل عليهم الأوزار على المعاصي حتى يبلغوا الحلم .
(9/25)
---(1/292)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السؤال: شخص مريض بمرض نفسي، فهل يكتفي بالرقية، أم يعالج بالأدوية مع الرقية أفضل ؟ السؤال الثاني: حكم طاعة الوالدين في ترك المستحب ، يعني شخص يريد أن يفعل سنة، وأبوه ينهاه عن فعلها بدون مبرر شرعي، فهل يكون مخالفته، أو إصراره على فعل السنة معصية لوالده ؟
نحن نستحب ما دام هناك طب متخصص في هذا المرض أن يذهب إلى الأطباء المتخصصين، لكن لا يحرم نفسه من الرقية الشرعية.
تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف يكون السلام على أهل الكتاب والكفار، هل نبدأهم بالسلام، وهل يكون السلام عليكم هي تحيتنا معهم ؟
أهل الكتاب يبدأون بغير السلام كيف حالكم؟، صباح الخير، مساء الخير، لكن لا يبدأون بالسلام عليكم .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركات، هل نستنبط من هذه القصة الكريمة استحباب ألا يسأل طالب العلم شيخه أو معلمه عن كل شيء؟
في أثناء المحاضرة ننصح الطالب: بألا يقطع على شيخه حديثه، وأن ينصت له تماماً حتى يفرغ من المحاضرة؛ لأنه في أثناء المحاضرة تجول في أذهان الطلاب أسئلة كثيرة، يأتي عليها الشيخ في أثناء كلامه، فليصبر الطالب حتى ينتهي الشيخ من حديثه، فإن فرغ ولم يأتِ على ما في ذهنه فليسأله عنه، أما إذا أتى عليه فقد كفاه الله تعالى المؤنة، فهذا يعني أن الطالب لا يسأل، لكن يسأل إذا احتاج إلى سؤال يسأل عنه، لكن بعد أن يفرغ الشيخ من حديثه.
هل يجوز للمسلم أن يهدي الكافر مقارنة بجواز قبول المسلم للهدية من الكافر ؟
لا شك في ذلك، عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قدمت أمي وهي مشركة، فقلت: يا رسول الله إن أمى قدمت، أفأصل أمي ؟ قال: (نعم، صلي أمك ) .
(9/26)
---(1/293)
يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ( رحمة الله علينا وعلى موسى: لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب؛ ولكنه قال ? قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً ? ) ماذا يقصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث ؟
كان يتمنى - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر موسى على الخضر حتى يرى أكثر مما رأى، هو رأى ثلاثة أمور، فلو صبر ولم يتعجل بالإنكار على الخضر، ولم يقل له لا تصاحبني بعدها، لكان رأى أشياء كثيرة استفاد منها، واستنفدنا نحن منها بعد وصولها إلينا عن طريق رسولنا - صلى الله عليه وسلم - .
يقول: هل تعتبر طريقتنا هذه في طلب العلم من العلم الشرعي ؟
أي نعم إن شاء الله مأجورون أيها المشاهدون رجالاً ونساءً على حرصكم على هذه المحاضرات، ولكن أخلصوا لله نياتكم.
تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل تفسير العلامة السعدي للامتحان مفيد ؟
لا شك أن تفسير العلامة السعدي من الكتب النافعة بإذن الله تعالى - عزّ وجلّ - تنفع الطالب الذي معنا، وتنفع العامة بإذن الله .
يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل هناك رواية تذكر أن الخضر عندما قتل الطفل قام بكسر رقبته، وهناك رواية تقول أنه ذبحه فأي الروايات أصح ؟
كلها روايات صحيحة، وإن شئت الجمع بينها فراجع فتح الباري الذي قرأنا منه آنفاً.
يقول هل يستنبط من معاملة الخضر لموسى -عليهما السلام- ضرورة تعامل المعلم في البداية بقساوة مع المتعلم ؟
ليست هناك قسوة، لكن موسى هو الذي خالف شيخه، ومعلمه، الخضر اشترط عليه ألا يبدأه بالسؤال، حتى يبدأه هو بالحديث عنه، ولكن لما تجاوز موسى -فلكل فعل رد فعل- فوجد من الخضر ما وجده؛ لأنه هو الذي ابتدأ بالقسوة في الإنكار عليه والغلظة .
يقول: هل اسمه الخَضِر أم الخَضْر ؟
لا، بكسر الضاد، لا بسكونها .
(9/27)
---(1/294)
يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل فتى موسى هو نبي بني إسرائيل بعد موسى ؟
هو يوشع بن نون.
وهل كان مع موسى والخضر في السفينة ؟ مع أن الضمير في الآية للمثنى أفيدونا جزاكم الله خيرا ؟
لا شك أنه كان مع مخدومه، صاحب موسى -عليه السلام-؛ ليخدمه، فلا شك أنه كان معه، ولكن الله سكت عنه؛ لأن المقصود بالذكر هو موسى والخضر .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بالنسبة لسجود التلاوة، هل يقوم التسبيح مقام سجود التلاوة إذا جاء سجود التلاوة، وهناك محاضرة ولا يريد أن يسجد؟
قلنا إن سجود التلاوة ليس واجباً، هو مستحب وليس بواجب، فمن سجد سجد ومن لم يسجد فلا شيء عليه ولا بديل للسجود، يعني ليس هناك بديل عن السجدة.
يقول: ما هي آداب العالم المتعلم في ضوء قصة موسى والخضر -عليهما السلام- ؟
نشكره على هذا السؤال، هذا سؤال لا يحتاج إلى جواب، لكننا نقول: للطلاب اهتموا بأدب المتعلم بارك الله فيكم، اهتموا بالأدب، العلماء -رحمهم الله- اهتموا بالأدب اهتماماً كبيراً، فكل من جمع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل فيها كتاباً سماه كتاب الأدب، والإمام البخاري -رحمه الله- لم يكتفِ بما أدخل في الصحيح من كتاب الأدب حتى أفرد له كتاباًَ مستقلاً سماه كتاب الأدب المفرد. والعلماء -رحمهم الله- ألفوا في الأدب مؤلفات مستقلة، ومصنفات مستقلة؛ فننصح الطلاب جميعاً بالاهتمام بهذا الأمر، أمر آداب العالم والمتعلم، وننصح في هذا الباب بثلاث رسائل مختصرة :
الأولى: أخلاق العلماء للأجروي.
والثانية: آداب العالم والمتعلم للإمام النووي .
والثالثة: حلية طالب العلم للشيخ بكر أبو زيد حفظه الله .
(9/28)
---(1/295)
هذه ثلاث رسائل مستقلة مختصرة في أدب الطلب، على الطلاب أن يعنوا بها، ثم عليهم أن يرتقوا في المؤلفات الطويلة والمصنفات الواسعة، فليراجعوا الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع للخطيب البغدادي، وجامع بيان العلم وفضله للحافظ ابن عبد البر، ومفتاح دار السعادة لابن القيم -رحمه الله- .
فإن الأدب هو بداية الطلب وهو نهايته، فإنما نتعلم لنتأدب وقديما قال الشاعر الحكيم :
والعلم إن لم تكتنفه شمائل تعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يتوج ربه بخلاق
وقال الآخر :
كن ابن من شئت واكتسب أدب يغنيك محموده عن النسب
فهذه نصيحة لما ينبغي للطالب أن يأخذ نفسه به من تعلم أدب العلم وأدب الطالب .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الخضر حي أم ميت ؟ هذا أولا، الثاني: هل هو نبي أو رجل صالح ؟ الثالث: بعض الناس يقولون أنك إذا فرغت من الصلاة وسلمت على من بيمينك قد تسلم على الخضر، نريد ردكم عليهم ؟
في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى سنبين بالتفصيل هل الخضر نبي أم ولي ؟ وهل حي أم ميت؟ سنبين هذا .
أما قوله إن الناس بعد الانصراف من الصلاة السلام عليكم السلام عليكم يصافح بعضهم بعضا، ويقولون: إنك لو صافحت أخاك فإنك صافحت الخضر، هو صافح أخاه أم الخضر؟
هو صافح أخاه، وهذه المصافحة بدعة، بدعة من بدع المصلين، المصافحة بعد الانصراف من الصلاة، ومن ضررها أن تعطل الإنسان عن الأذكار المشروعة دبر كل صلاة ، فهذه بدعة .
تسأل وتقول: ما هو الوتد؟
الوتد: قطعة من الخشب يكون أسفلها منحدراً بسمك أقل، ومن أعلى واسع، يدق في الأرض؛ لتثبت به الحبال ونحوها مما نربط فيها الحيوانات وغير ذلك .
في الحديث الأول ( من أراد الدنيا فعليه بالقرآن ) هل هذا قول أحمد بن حنبل أو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ والحديث الثاني ( اطلبوا العلم ولو في الصين ) ؟
(9/29)
---(1/296)
الحديث الأول ليس حديثاً، قوله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( من أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معاً فعليه بالقرآن )
قوله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا لا يصح؛ لأن هذا ليس حديثاً مرفوعاً أبداً .
أما القول الثاني: ( اطلبوا العلم ولو في الصين ) فليس حديثاً مرفوعاً أيضاً .
هل يجوز للمرأة الحائض والنفساء أن تمس كتاباً من كتب التفسير ؟
لا مانع أن تمس الحائض والنفساء والجنب كتب التفسير -إن شاء الله تعالى-؛ لأنها لا تأخذ حرمة المصحف .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، محفظة تبدأ بالتحفيظ للمتعلمين من سورة البقرة، وأما غير المتعلمات فتبدأ لهم من سورة النور، فذكرنا لها رأيكم في هذه القضية فرفضت فبما تفيدونا ؟
قديماً قالوا: لكل شيخ طريقة، فالمهم أن نحفظ، وطبعاً الطالب يلتزم بطريقة الشيخ الذي يتلقى منه، فنحن نصحنا نصيحة عامة، لكن ما دامت الأخت تلتزم مع أختها كما تحفظها، فعليها أن تطيع المحفظة، وتسمع كلامها؛ لأنها تمشى على خطتها إن شاء الله تعالى.
(9/30)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
تابع قصة موسى والخضر عليهما السلام
إنَّ الحمدَ لله، نحمدهُ، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ عليه ، وعلى آلهِ وصحبِه، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.(1/297)
ثُمَّ إنَّ مما قرأناه في كتب أدب الطلب قولَ العلماء:( العالمُ: من أضاف علمَ غيره إلى علمِ نفسه ، ولا يزال العالم عالماً مَا طَلَبَ العلم ، فإذا ظنَّ أنَّه استغنى فقدْ جَهِلَ .
وقِيلَ للإمام أحمد رَحِمَهُ اللهُ إلى متى تحمِلُ المَحبَرَة ؟ كلَّ يوم تغدو وتروح بدواة الحبر والدفتر والقرطاس والدفتر والكتاب .
إلى متى تحمل المَحبَرَة ؟ قال إلى المقبرة، سأظلُّ أطلبُ العلم حتى أموتَ وأُدفنَ فينقطعَ العملُ، لكن ما دامت فيّ حياة فسأظل أطلب العلم .
حَولَ هذه المعاني ـ الاستزادة من العلم ، وكسب علمِ الغير إلى علم النفس، والارتحال في طلب العلم ،وتحمل المشاق من أجل ذلك ، نعيشُ ساعتَنَا هذه ـ إن شاء الله تعالى ـ مع القصة الثانية التي قصها الله - تبارك وتعالى – علينا في سورةِ الكهف، وهي قصة موسى والخَضِرِ – عليهما السلامُ – والآيات المباركات التي معنا اليومَ تضمنتْ من المعاني ما يلي :
أولاً : سببُ ارتحالِ موسى إلى الخضر .
ثانياً : وجوبُ التزودِ للسفر .
ثالثاً : جوازُ اصطحابِ الخادم في السفر .
رابعاً : لا يزالُ العالمُ عالماً ما طلب العلم .
(10/1)
---
خامساً : استحبابُ إكرام الخادم .
سادساً : الله - سبحانه وتعالى – يُيَسِّرُ لطالب العلم أمرَهُ ويهوِّن عليه سفره .
سابعاً : هل كان الخَضِرُ نبياً أم ولياً ؟
ثامناً : هل مات الخَضِرُ أم مازالَ حياً ؟
وأخيراً ما هي آداب الطالب مع شيخه ؟
وهذا ـ بإيجازٍ ـ عرضٌ سريع لأهمِّ ما تضمنته الآياتُ المباركات التي معنا اليوم من سورة الكهف ،والتي سنعيش في رحابها ساعتَنَا هذه ـ إنْ شاء الله تعالى فلنستمعْ إلى هذه الآيات المباركات أولاً قبل الخوض في تفاصيلها، سائلينَ اللهَ - عزَّ وجلَّ – أنْ يُنجزَ لنا ما وعدنا، حيث قال: ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?[الأعراف: 204]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(10/2)
---(1/298)
? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ?60? فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ?61? فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ?62? قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ?63? قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ?64? فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ?65? قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ?66? قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ?67? وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ?68? قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ?69? قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ?70??[الكهف:60-70].
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ?[ص: 29].
?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? [الحشر:21 ].
(10/3)
---(1/299)
?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر: 23].
إخوةَ الإسلامِ :عرفنا من الحديث الذي قرأناه في صحيح البخاريِّ في الحَلْقةِ السابقة سببَ ارتحالِ موسى إلى الخَضِرـ عليهما السلامُ ـ وهوـ كما سمعناـ في الحديث أنَّ موسى - عليه السلامُ – قامَ يوماً خطيباً في بني إسرائيلَ، فذكَّرَهم ،و وَعَظَهُم، وكانتْ موعظةً بليغةً وَجِلَتْ منها القلوبُ وذَرَفَتْ منها العيونُ، فلمَّا رأى موسى – عليه السلامُ – تأثُّرَ القوم بموعظته ،وخشيتَهم، وحزنَهم ،وخوفَهم رقَّ لهم، ورَحِمَهُم ،فأنهي حديثَه وقطعَ موعظتَه ثُمَّ انصرفَ، فأدركَه رَجَلٌ من الذين استمعوا إليه ،وتأثروا بخطبتِه وموعظتِه ،فقال له: يا موسى هل على وجه الأرض أحدٌ أعلمَ منك ؟ فقال موسى – عليه السلامُ – لا ، ليس على وجه الأرض أحدُ أعلمَ مني .
فعَتَبَ الله عليه أنْ لم يردَّ العلمَ إلى الله - سبحانه وتعالى – فكان الأَوْلَى أنْ يقولَ موسى في جوابه لمَنْ سأله هل على وجه الأرض أحد أعلم منك؟ كان الأَوْلَى أن يقول: لا والله أعلم، أو يقولَ: الله أعلم، فإمَّا أنْ ينفيَ ويردَّ العلم إلى الله - سبحانه وتعالى – وإمَّا ألا ينفي ويردَّ العلمَ إلى الله - سبحانه وتعالى – فعتب الله ـ تعالى ـ عليه أنْ لم يردَّ العلم إليه وأخبره أنَّ بالأرض مَنْ هو أعلم من موسى ـ عليه السلام ـ فلما عَلِمَ موسى – عليه السلام – أنَّ على وجه الأرض من هو أعلم منه سأل اللهَ - سبحانه وتعالى – أنْ يَدُلَّهُ عليه ،وأنْ يهديه إلى كيفية لقائه ليتعلم َمنه .
(10/4)
---(1/300)
وفى هذا دليلٌ على أنَّ الإنسانَ ـ مهما بلغ من العلم ـ ينبغي أنْ يكونَ حريصاً على أنْ يتعلم من غيره ما ليس عنده .
ـ مهما علا كعبُ الإنسان في العلم، و ارتفعتْ درجتُه فيه إلا أنَّه سيظل هناك من هو أعلمُ منه ولو في بعض العلوم فإن الله - تبارك وتعالى – قال ? وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ?[يوسف: 76].
ـ فموسى – عليه السلام – على جلالة قدره لمَّا علم أنَّ على وجه الأرض من هو أعلم منه سَأَلَ الوصولَ إليه وخرج إليه وطلب لقاءه ليتعلم منه .
قد تتخصصُ في علمٍ أو علمينِ أو ثلاثةٍ فتتقنَ هذه العلوم وتفوقَ فيها غيرَك، لكنَّ التخصص دائماً في بعض العلوم يكون على حساب علومٍ أخرى ،فتفوقك في علم أو علمين أو ثلاثة يجعلك دُونَ هذه المرتبةِ في العلوم التي لم تتخصص فيها، فيجب عليك مهما كَثُرَ علمُك في تخصصك أنْ تضيفَ علم الآخرين من المتخصصين ـ أيضاًـ إلى علمك لتستفيد منه .
يقول العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره في هذه الآية : فلو كان هناك فقيهٌ مُحِّدث تقدَّم في الفقه ،والحديث ،وفاق فيهما غيره ،إلا أنَّه لم يكن في النحو ،والصرف في مثل هذا المستوى من الفقه والحديث ،وعلم أنَّ هناك مَنْ هو أعلمُ بالنحو ،والصرف منه، فينبغي له أنْ يتواضعَ ،وأنْ يأتيَ العالمَ الذي هو أعلم منه بالنحو والصرف ليستفيدَ مِنْ علمه ويتعلمَ منه ولا يأنفَ من الجلوس إليه لطلب العلم ،وإنْ كان هو متفوقاً ومتقدماً عليه في الفقه والحديث .
فموسى ـ عليه السلام ـ على جلالة قدره ـ لمَّا علم أنَّ على وجه الأرض من هو أعلم منه سأل الله أنْ يهديه إليه ،وأن يَدُلَّه عليه كيف يصل إليه.
فقال الله ـ تعالى ـ له خُذْ حوتاً في مِكْتَلٍ فحيثما فقدته فهو ثَمَّ. والحوتُ : معروفٌ سمكُ البحر. والمِكْتَلُ :وعاءٌ من الخُوْص يحمِل فيه الناس أمتعتَهم.
(10/5)
---(1/301)
خذ حوتاً في مكتل أي خذ سمكةً كبيرةً لتتزودَ منها، وتأكل منها في سفرك فتعلَّمَ من هذا: أنه يجب على من أراد السفر أنْ يتزودَ بالمال والطعام والشراب إنْ علم أنه ليس في طريقه طعامٌ ولا شرابُ، فإنَّ كليم الله موسى – عليه السلام – مع أنه من المتوكلين إلا أن الله أمره أن يتزوَّدَ.
فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكلَ، فلا يجوز لك أنْ تخرجَ في سفرٍ بلا مال ولا زاد ثم تزعم أنَّك متوكلٌ على الله، هذا لا يجوز. لقد كان بعض حجاج اليمن إذا خرجوا إلى الحجِّ لا يتزودون لسفرهم، ويقولون نحن ضيوف الرحمن يطعمنا، ويسقينا، فأنكرَ الله - تبارك وتعالى – عليهم هذا وأمر بالتزوُّدِ في سفرهم للحج ? وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ?[البقرة:197].
(خذ حوتاً في مِكْتَل) أي: سمكة كبيرة؛ تأكل منها أثناء سفرك، فحيثما فَقَدَّتَ هذه السمكة فَثَمَّ ذاك العبد الصالح، الذي قصدتَّه لتتعلم منه .
فقال موسى – عليه السلام – لفتاه ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ?.
واذكر يا نبينَا : ? َإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ? والمراد بالفتى: الخادم، وسُمِّيَ الخادم فتىً :لأنه جرت العادة أنَّ الخادمَ لا يكون شيخاً مسناً هَرِمَاً ؛لأنَّ المقصود من الخادم أنْ يتحمل الأعباء، والصعاب ،والمشاق ،وأن يقضيَ حوائج مخدومه ،فلابد أن يكون الخادم قوياً صحيحاً معافىً حتَّى يستطيع أداء هذه الوظيفة .
ولمَّا كان الشباب هو محلَّ الفُتوَّة ،والقوة أَطلَقَ على الخادم فتىً ؛لأنه جرت العادة أن يكون الخادم في سن الفتوة والقوة وهو سن الشباب ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبً? ?60?.
(10/6)
---(1/302)
لا أزال سائراً ماشياً في الطريق إلى أنْ أصل مجمعَ البحرين، ولو قطعتُ في هذا السفر والمشي حُقُبَاً من الزمان. والحُقُب :ُجمع حُقْب، والحُقْب: قال فيه بعض السلف :أنه سبعون سنة وقال بعضهم: ثمانون سنة. والمعنى: أنَّ موسى ـ عليه السلام ـ حرص كل الحرص على لقاء ذلك العبد الصالح ليتعلم منه ـ مهما كلفه السفر إليه ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ?60?.
(مَجْمَع): اسم مكان( مجمع البحرين) مكان يلتقي فيه البحران أيُّ البحرين ؟ البحرُ الأبيض والبحرُ الأحمر، البحرُ الأسود والبحرُ الأصفر، أيُّ البحرين ؟ لم يعين الله - تبارك وتعالى – البحرين ؛ولذلك إذا قرأتَ في التفاسير ترى في تعيين البحرين أقوالاً كثيرةً، كثرتُها تدل على اضطرابها وعدم صحتها، لأنها ليست مبنية على الدليل. فتعيين مجمع البحرين أين هو ؟ وما المراد بالبحرين؟ كل هذا من الرجم بالغيب. فالواجب علينا كما ذكرنا مراراً :أنْ نسكت عمَّا سكت الله - تبارك وتعالى – عنه؛ لأنَّ ذكر الأزمنة والأمكِنَةِ ليس فيه كثيرُ فائدة، ولذلك يكست الله ـ تعالى ـ عن الزمان والمكان الذي تكون فيه القصة، وتقع فيه الحوادث والأخبار لأنَّ الله - تبارك وتعالى – علم أنه ليس في تعيين الزمان والمكان كثيرُ فائدة .
? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ??60?.
(10/7)
---(1/303)
وأمره أن يأخذ حوتاً في مِكتَل، كما أمره الله - سبحانه وتعالى – ليَطعم منه أثناء سفرهما وكلف هذا الخادم: أنه متى فقد هذا الحوت أن يخبره. كلُّ الوظيفة التي اصطحب لها موسى ـ عليه السلام ـ ذلك الفتى :أنه متى فقد الحوت من المكتل أن يقول لموسى: فقدت الحوت. فاستصغر الفتى هذا التكليف ،وقال: ما كلفتَ عسيراً لقد كلفتَ أمراً يسيراً متى أفقده أقلْ لك ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ?60? فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ? نزل – عليه السلام – وفتاه عند مجمع البحرين فنام موسى – عليه السلام – إذِ اضطرب الحوت في المكتل بعد أن دَبَّتْ فيه الحياة واتخذ سبيله في البحر سرباً، أخذ يَسْرُبُ في البحر سرباً أي يسلك فيه مسلكاً. وقد قرأناه في الحديث من البخاري أنَّ أحد الرواة قال :فأمسك الله عنه جَرْيَةَ الماء حتى كانت هكذا وحلَّقَ بإصبعيه الإبهام واللتين تليانهما السبابتين .
فجرى الحوت في البحر وأمسك الله ـ تعالى ـ عنه جَرْيَةَ الماء فكان الماء كأنه صلب ،حتى أن الطاقة التي فتحها الحوت وهو يسري في البحر لم تلتئم بعد أنْ سلكها فلما نظر الغلام فوجد الحوت قد نزل في البحر ، نظر إلى موسى ليخبره كما كلفه فرآه نائماً فَشَقَّ عليه أن يوقظه ليخبره، قال :أتركه حتى يستريح، ومتى استيقظ أخبرته .
فلما استيقظ موسى – عليه السلام - نسيَ الغلام أن يخبره أنه فَقَدَ الحوت، ونسيَ موسى – عليه السلام – أن يسأله عن الحوت ? فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ? نسب الله - سبحانه وتعالى – النسيان إلى موسى والغلام .
أمَّا الغلام: فقد نسي أن يخبر موسى كما كلفه وأمَّا موسى :فقد نسي بعد أن استيقظ أن يسأل الغلام عن الحوت ? نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ ? أي اتخذ الحوتُ ? سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ?.
(10/8)
---(1/304)
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ( فساراً يومهما ) أو بقيةَ يومهما ( وليلتَهما ) مشياً بقية النهار والليلة التي استقبلاها .
معنى ذلك أنهما قطعا مسافة طويلة وبَعُدَا عن هذا المكان بُعْدَاً شاسعاً.
? نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ الْبَحْرِ سَرَبًا ?61? فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا ?.
قال العلماء في طلب موسى – عليه السلام – من الغلام أن يأتي بغدائهما ? آَتِنَا غَدَاءَنَا ? في ذلك تواضع موسى – عليه السلام – حيث لم يقل: للفتى آتني غدائي، ولم يقل: أحضر لي الطعام وإنما قال: ? آَتِنَا غَدَاءَنَا ? فيستفاد من ذلك: أنه ينبغي لمن وَّسع الله تعالى عليه واتخذ الخادم في الحضر أو في السفر أنْ يُكرم هذا الخادم وأن يحسن صحبته وأن يطعمه مما يأكل وأن يكسوه مما يكسى، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمرنا بذلك، أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بإكرام الخادم وإطعامه وكسوته .
حتى إن بعض الصحابة رأى أبا ذر - رضي الله عنه – ومعه غلام له ،على أبي ذرِ حُلَّةٌ، وعلى الغلام حُلَّةٌ مثلُها، فكأنه أُنكر على أبي ذر أنه كسى غلامه مما كسى نفسه، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول ( إخوانكم خَوَالُكُم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطمعه مما يأكل وليَلْبِسَه مما يَلبس ) .
فعلى الذين وسع الله - تبارك وتعالى – عليهم واتخذوا الخادم في الحضر أو في السفر أن يكرموا هذا الخادم وأن يحسنوا صحبته وأن يعاشروه بالمعروف وألا يكلفوه من العمل ما لا يطيق وإذا كلفوه أن يعينوه .
هذه وصايا الإسلام للذين وسع الله - تبارك وتعالى – عليهم واتخذوا الخدم .
? فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ?62??.
(10/9)
---(1/305)
النصب: التعب ،والمشقة واللغوب. وهذا: اسم إشارة عائد على السفر القريب وهو بَعد تجاوزهما مجمع البحرين، قال ? لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا ? هذا السفر الأخير بعدما تركا الصخرة التي نزل عندها بمجمع البحرين وفقدا حوتهما قال ? لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ? فلم يجد موسى – عليه السلام – النصب، والتعب، والمشقة في سفره منذ خرج لأنه حين خرج ـ أول ما خرج ـ خرج في سبيل الله - تبارك وتعالى – طالباً للعلم والاستزادة منه، فيسر الله عليه سفره وهون عليه سفره وطوى عنه البعد، فلما جاوزا المكان الذي فيه العالم الذي سيتعلم منه وجدا من السفر الثاني التعب والمشقة .
فقال العلماء: يستفاد من ذلك أنَّ الله - تبارك وتعالى – ييسر لكل إنسان خرج في سبيل الله أمره ويهون عليه سفره ،ولذلك أدل دليل على ذلك سفر الحج. سفر الحج تستيطع أن ترى فيه كيف ييسر الله - تبارك وتعالى – للناس أمرهم ويهون عليهم أسفارهم.
ترى الرجل في بلده قبل الحج ضعيفاً مريضاً وترى المرأة عجوزاً لا تستيطع الحركة وإذا بهما إذا سافرا إلى الحج أفاض الله - تبارك وتعالى – عليهما القوة والصحة والعافية فأدَّيَا مناسكهما على أكمل الوجوه .
هذا من تيسير الله - تبارك وتعالى – لأن سفر الحج سفرٌ في سبيل الله - تبارك وتعالى - كذلك طالب العلم إذا خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله ييسر الله - تبارك وتعالى – له أمره ويهون عليه سفره .
قال بعض العلماء: ولعل هذا التيسير لطالب العلم إنما هو بسبب وضع الملائكة أجنحتها كما في الحديث ( وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يصنع ) فهذا مما يستفاد من قول موسى لفتاه ? لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا ? فاسم الإشارة يعود على السفر القريب بعدما نام عند الصخرة بمجمع البحرين، وجاوزها وجد التعب والنصب بعد تجاوزه .
(10/10)
---(1/306)
وفى قول موسى – عليه السلام - ? لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ? جواز الإخبار بالتعب والمشقة وجواز الإخبار بالجوع فلا بأس بأن تقول لصاحبك لقد غلبني الجوع لقد جعت كثيراً، ولا بأس أن تقول لصاحبك، لقد نصبت وتعتب من هذا السفر، ولا بأس للمريض أن يخبر عُوَّادَهُ وزُوَّارَه بما يجد من الألم ما دام هذا الإخبار ليس على سبيل الشِكَاية والاعتراض على قدر الله - تبارك وتعالى – لأن بعض الطيبين قد يتحرج وهو مريض أن يخبر عواده وزواره بحاله وأنت تعلم أن العائد والزائر إما أن يكون من الأهل وإما أن يكون من الأصدقاء والخلان وكلاهما يريد أن يطمئن على المريض وحاله فيسألونه كيف حالك اليوم ؟ ما هي أخبارك ؟ كيف تجدك ؟ هل تجد الألم أم لا تجد الألم ؟
فقد يتحرج بعض المرضى أن يصرح بحاله مخافة أن يكون شكاية . لا. التصريح ما دام مَعْرِضَاً وتسليماً لقدر الله - سبحانه وتعالى – فهذا جائز .
قال موسى ? لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ? .
وحكى الله عن أيوب – عليه السلام – أنه قال ? أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ? [الانبياء:83].
? فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ?[الكهف:62].
هنا تذكَّرَ الفتى: أنه نسي الحوت ونسي أن يخبر موسى – عليه السلام – بما كان من أمر الحوت وأنه فقده حيث نزلا عند الصخرة .
? قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ ? أرأيت إذ نزلنا عند صخرة فنمت عندها فإن نسيت الحوت، إن الحوت قد خرج من المكتل ونزل في البحر واتخذ سبيله في البحر سرباً، لكنك كنت نائماً فكرهت أن أوقظك فتحملت حتى تستيقظ فأخبرك لكني بعد استيقاظك نسيت أن أخبرك .
? قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ?
(10/11)(1/307)
---
فنسب النسيان إلى الشيطان. فالنسيان الذي هو ضد الذكر يتسلط على الإنسان بسبب الشيطان وكذلك نسب الله - تبارك وتعالى – النسيان إلى الشيطان في قوله - عزّ وجلّ – ? وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?[الأنعام:68].
فنسب الله ـ تعالى ـ النسيان إلى الشيطان ? وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ? لأنك أيها المسلم منهي عن مجالسة الذين يخوضون في آيات الله .أنت منهي عن مجالس الغيبة وعن مجالس النميمة وعن مجالس السوء وعن المجالس التي يُعصى فيها الله - تبارك وتعالى – لأن الله قال :? وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ?[النساء:140]. في الوزر والإثم أنتم وهم سواء .
فإذا اُبتليتَ بمجلس فيه غيبه أو فيه نميمة أو فيه معصية أو فيه مخالفة لأمر الله - عزّ وجلّ – فأنت منهي عن مجالسة هؤلاء فإما أن تنهاهم ،وإما أن تقوم عنهم ولا تجالسهم، فإذا لم تنههم وجالستهم فكأنك مُقر لهم على ما يأتون من المعاصي فقد شاركتهم في الإثم والوزر .
(10/12)
---(1/308)
ولذلك حكى شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله - أنه أُتي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه – بقوم قد شربوا الخمر فقال: اجلدوهم، اجلدوهم حد الشرب فقالوا: إن كان فيهم فلاناً كان صائماً قال :به فابدؤوا، ابدؤوا بهذا الصائم في الجلد أولاً؛ كان صائماً فلماذا جالس الذين يشربون الخمر؟ به فابدؤوا فإذا أنت جلست في مجلس فيه معصية لله - عزّ وجلّ – ونسيت ؛أنساك الشيطان أن تقوم واسترسلتَ في الجلوس ،وأطلت فيه ثم تذكرت فلابد أن تنصرف ? وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ?.
كذلك نسب الله - عزّ وجلّ – النسيان إلى الشيطان في قوله - عزّ وجلّ – عن المنافقين ? اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ?[المجادلة:19].
فالنسيان يكون من الشيطان، وماذا يفعل الإنسان إذا نسي؟
قال العلماء في قوله تعالى ? وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ?[الكهف:24] .
يعني إذا نسيت شيئاً فاذكر الله - تبارك وتعالى – تذكر ما نسيت، لماذا ؟
لأن النسيان من الشيطان كما ذكرنا، والشيطان- لعنه الله- وصفه الله بكونه وسواساً خناساً يوسوس عند الغفلة ويخنس عند الذكر، فإذا نسيت شيئا،ً فمعني ذلك: أن الشيطان استحوذ عليك، فاذكر اسم الله - تبارك وتعالى – تطرد الشيطان، وإذا طردت الشيطان تذكرت ما كنت نسيته أو نُسيته .
هذا وجه من وجوه التفسير في هذه الآية لم نذكره نحن سابقاً عند تفسيرها ? وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً ?23? وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ?[الكهف:23-24] .
نحن في تفسير هذه الآية ذكرنا أرجح أقوال العلماء فيها وهو أنه إذا قال لك صاحبك ستأتيني غداً فقلت سآتيك غداً ونسيت أن تقول إن شاء الله فإذا تذكرت أنك قلت لصاحبك سآتيك غداً ولم تقل إن شاء الله فقل إن شاء الله ولو بعد حين .
هذا أرجح وجوه التفسير في هذه الآية.
(10/13)
---(1/309)
لكن من وجوه التفسير ما ذكرناه آنفاً أن النسيان من الشيطان، والشيطان الله تعالى وصفه بكونه وسواس خناس، يوسوس عند غفلة الإنسان عن ذكر الله فإذا ذكر الإنسان ربه انخنس الشيطان وبعد عنه فإذا نسيت شيئاً فاذكر الله - تبارك وتعالى – تطرد الشيطان فتعود إليك ذاكرتك وتذكر ما كنت نسيته .
? قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ?63??.
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ( اتخذ سبيله في البحر سرباً وكان لموسى وفتاه عجباً ) تعجب موسى كما تعجب الفتى، كيف أن الحوت الميت الذي أكلا منه نصفه كيف دبت فيه الحياة مرة ثانية ؟ فكان اتخاذ الحوت في البحر سرباً له يسلكه ،عجباً لموسى – عليه السلام – وفتاه كيف يحي هذا الحوت بعدما كان ميتاً وأكلنا نصفه ؟
فلما نزل الحوت في البحر أحياه الله - سبحانه وتعالى – حتى إنَّ بعض أهل العلم ذكر أن من نسل هذا الحوت ما هو موجود في السوق اليوم من أنواع السمك الذي يسمى( سمك موسى)، ترى السمكة عبارة عن نصف سمكة سلسلة الظهر على أحدى جانبيها لحم وعلى الجانب الثاني قشرة رقيقة فوق العظم أو فوق الشوكة ليس عليها لحم .
قالوا هذا السمك من نسل حوت موسى – عليه السلام – فكان اصطحبه في السفر وأكل منه وفى مجمع البحرين أحياه الله - تبارك وتعالى – ليستدل موسى بحياته على وجود العبد الصالح الذي خرج لهم .
? فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ?62? قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبً?
?63?أحي
ماذا يفعل موسى مع الفتى هل وبخه هل عاتبه ؟
(10/14)
---(1/310)
وقد قلنا: إنه لم يكلفه في سفره إلا أنه متى فقد الحوت يخبره به والفتى استصغر هذا التكليف وقال: ما كلفتَ عسيراً، هذا طلب سهل بسيط متى أفقد الحوت أخبرك، ومع ذلك نسي فعفا عنه موسى ولم يوبخه ولم يعنفه ولم يعاتبه لأن هذا شأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بالنسبة لما مضى، ما كانوا يعنفون ولا يوبخون وإنما كانوا يقولون: قدر الله وما شاء فعل .
في الحديث عن أنس - رضي الله عنه – قال ( خدمت النبي – صلى الله عليه وسلم – عشر سنين فما قال لي أُفٍّ قط، وما قال لشيء فعلته لما فعلته، ولا قال لشيء تركته لما تركته ولكن كان يقول:قدر الله وما شاء فعل ) .
فنستفيد من هذا أن نوطن أنفسنا وأن نعود ألسنتنا هذه الكلمة الطيبة،( قدر الله وما شاء فعل) إذا كلفت امرأتك بشئ فلم تفعله فسألتها قالت: نسيت، قل: قدر الله وما شاء فعل، إذا كلفت ولدك بشيء فنسي أن يفعله فسألته لماذا لم تفعله ؟ قال نسيت قل: قدر الله وما شاء فعل. لم يعنف موسى – عليه السلام – الفتى على أنه نسي أن يخبره ،مع أن نسيانه تسبب في أنه وجد النصب والتعب والمشقة في السفر كما شرحنا ما زاد موسى على قوله ? قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ? هذا الذي نريده، هذا الذي نريده وهذا الذي خرجنا من أجله وهذا الذي قصدناه من سفرنا ? قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصً??64? أي رجعا يقتصان ويتتبعان آثار أقدامهما في الرمال حتى لا يضلا الطريق فينحرفا يمنياً أو شمالاً عن الصخرة التي هي في مجمع البحرين التي قصداها.
? فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصً??64? حتى انتهيا إلى تلك الصخرة بمجمع البحرين، فرأى موسى – عليه السلام – رجلاً نائماً .
(10/15)
---(1/311)
قرأنا في الحديث أنه قد سَجَّى نفسه بثوبه، وضع طرفه تحت رأسه وطرفه الآخر تحت رجليه فهو مُسجىً كله لا يرى منه شئ فقال موسى: السلام عليكم، فلما سمع ذلك العبد كلمة( السلام عليكم) كشف عن وجهه وقال: وأنَّى بأرضك السلام ؟ مِنْ أين أتيت بهذه التحية، هذه التحية لم أسمعها في هذه البلد وفى هذه الأرض. من أين أتيتَ بهذه التحية تحية: السلام عليكم ؟ قال أنا موسى، قال موسى صاحب بني إسرائيل ؟ قال نعم .
قال ما الذي جاء بك يا موسى ؟
قال جئت لأتعلم من علمك.
قال يا موسى أنت على علم علمك الله لا أعلمه، وأنا على علم علمنيه الله لا تعلمه .
? فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمً? ?65?.
هذا العبد هو الخَضِرُ – عليه السلام – ما اسمه وما نسبه ؟ لا نعرف عن اسمه ونسبه شيئاً، لم يُسمَ في القرآن إلا بعبد من عباد الله ? فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ? ولم يسميه النبي – صلى الله عليه وسلم – ولكنه لقبه بالخضر، وسبب تلقيبه بهذا اللقب الخضر، أنه كان إذا جلس على أرض يابسه اهتزت تحته خضراء يانعة، فلقب بالخضر، فهذا الذي نعرفه عن هذا العبد الصالح، أنه يلقب بالخضر، لكن ما اسمه ما نسبه ؟ سكت الله تعالى أيضاً عن ذلك ولم يسميه النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يذكر له نسباً .
هل كان نبياً يوحى إليه، أم كان ولياً ؟
الراجح من أقوال العلماء أن العبد الصالح هو الخَضِر – عليه السلام – كان نبياً ولم يكن ولياً فقط لماذا ؟
أولاً : لأن موسى – عليه السلام – جاء ليتعلم منه. موسى – عليه السلام – وهو كليم الله ومن أولى العزم من الرسل الخمسة المعروفين ، جاء موسى – عليه السلام – على جلالة قدره- ليتعلم من هذا العبد. ولا يصلح أبداً أن يكون هذا العبد مجرد ولي لأنه ما كان لنبي أن يتعلم من ولي، لأن النبى أفضل من الولي ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء .
(10/16)(1/312)
---
فلم يكن العبد الصالح ولياً فقط وإنما كان ولياً من أولياء الله.
الدليل على كونه نبياً من هذه الآيات أن الله - سبحانه وتعالى – قال ? آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ? والمراد بالرحمة النبوة فإن الله - سبحانه وتعالى – سمى النبوة بالرحمة في مواضع من كتابه فقال في حق النبي – صلى الله عليه وسلم – ? وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ?31?? فقال الله تعالى منكراً عليهم ? أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ? [الزخرف:31-32].
هل رحمة الله- يعني بها النبوة- بأيديهم يقسمونها كيفما شاءوا فينبئون هذا ولا وينبؤون الآخر؟ ولما قالوا أيضاً ? أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا ? قال الله تعالى ? بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ?8? أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ?[صّ:8-9].
فهنا الله تعالى قال ? آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ? المراد بالرحمة هنا النبوة .
الدليل الثاني قوله تعالى ? وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ? والعلم اللدني الذي يؤخذ من الله - سبحانه وتعالى – بلا اكتساب من الإنسان هذا لا يكون إلا للأنبياء، لا يكون أبداً لبشر - من غير أنبياء- أن يمسي جاهلاً، ويصبح عالماً لا يمكن أبداً.
(10/17)
---(1/313)
إنما كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ( إنما العلم بالتعلم ) والله تعالى يقول ? وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ? [النحل:78] هذه الحواس التي هي وسائل التعلم فتتعلمون، أما العلم اللدني فهذا خاص بالأنبياء كما قال الله تعالى لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم – ? وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ?[النساء:113] حيث علمك ما لم تكن تعلم .
أيضا مما يستدل على نبوة الخضر، قوله عن الغلام الذي قلته ? وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ? [الكهف:80].
هذا الغلام لم يبلغ الحُلُمَ بعد قتله الخضرُ، ثم اعتذر عن قتله بأنه علم أن هذا الغلام لو كبر وبلغ مبلغ الرجال سيكفر بالله - عزّ وجلّ – وأبواه يحبانه حباًَ شديداً ويتعلقان به تعلقاً كبيراً فيخشى على الأبوين من هذا الولد إذا كبر وكفر بالله أن يتعلقا به ويتبعانه على الكفر بالله - عزّ وجلّ –.
من أين لهذا العبد الصالح أنه علم أن هذا الغلام لو كبر يكفر بالله ويخشى على والديه منه أن يكفرا ؟( كلمة غير مفهومة ) هذا غيب ولا يعلم الغيب إلا الله - عزّ وجلّ – ? قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ? [النمل:65].
لكن الله تعالى قال ? عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ?[الجن:26] ثم استثنى فقال ? إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ?[الجن:27].
فكون الخضر علم أن هذا الغلام لو كبر يكفر بالله - عزّ وجلّ – هذا من علم الغيب الذي أطلعه الله عليه والله لا يطلع على الغيب أوليائه، إنما يطلع على الغيب من ارتضى من رسول كما قال الله - سبحانه وتعالى – .(1/314)
(10/18)
---
ثم إن الخضر – عليه السلام – صرح في نهاية القصة بقوله ? وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ?[الكهف: 82] إذا كان الأمر ممن ؟ من الله - سبحانه وتعالى – لأنه لا يجوز عقلاً ولا شرعاً لأي بشر- مهما كان- أن يلقى غلاماً في الطريق فيقتله فإذا سُئلَ لما قتلته ؟
يقول لقد علمت أنه لو كبر لكفر بالله - عزّ وجلّ – فأنا قتلته قبل أن يكفر هذا لا يجوز لأحد فعله إلا أن يكون رسولاً من الله يوحي الله - تبارك وتعالى – إليه .
فهذه أدلة تدل على أن الخضر كان نبياً من أنبياء الله ولم يكن مجرد ولي .
النقطة الثانية التي وعدنا ببيانها في الحلقة السابقة: هل ما زال الخضر حياً أم مات ؟
والراجح أيضاً من أقوال العلماء أن الخضر – عليه السلام – قد مات وأنه مات قبل بعثة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – والدليل على أنه مات، قول الله لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم – ? وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ?34? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ?[الانبياء:34-35] .
فقوله ? وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ ? نكرة في سياق النفي والنكرة في سياق النفي ، فتعم كل بشر كان قبل النبي – صلى الله عليه وسلم – والخضر بشر ممن كان قبل النبي – صلى الله عليه وسلم – والله لم يجعل الخلد لنبيه فمعنى ذلك أن الخضر مات، كما يموت البشر .
(10/19)
---(1/315)
دليل ثاني : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – في يوم بدر وأنتم تعلمون من أحداث السيرة كيف كان حال المسلمين يوم بدر ثلاثمائة غير مسلحين واجهوا ألفاً مسلحاً، فالنبي - صلى الله عليه وسلم – دخل الصومعة التي بنيت له، وأخذ يرفع يديه إلى الله - عزّ وجلّ – ويستغيثه ويقول في الاستغاثة:( اللهم إن تَهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض ) يعني يا رب ليس على وجه الأرض مسلم إلا هذه العصابة التي معي تقاتل في سبيلك الآن فإن شئت يا رب قتلتهم؛ فلا تعبد بعدهم في الأرض. فلو كان الخضر حياً لكان يعبد الله. والنبي - صلى الله عليه وسلم – يقول :إن شئت لا تعبد إذا أهلكت هذه العصابة اليوم فمعنى ذلك أنه لم يكن أحد على وجه الأرض يومئذ يعبد الله غير هذه العصبة القليلة المؤمنة التي كانت تقاتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يوم بدر .
ثالثاً : من الأدلة التى يستدل على وفاة الخضر – عليه السلام – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صلى بأصحابه العشاء ذات ليلة متأخراً ثم قال لهم ( أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة سنة لا يبقى ممن هو على ظهرها أحد ) .
يعني إن هذا الجيل وهذا القرن سيسفنى بعد مائة سنة، فلا يبقى من هذا الجيل أحد بعد مائة سنة، فلو فرضنا أن الخضر – عليه السلام – كان على ظهر الأرض في هذه الليلة إذاً لقد عَمَّه قوله: بعد مائة سنة لا يبقى على وجهها أحد .
(10/20)
---(1/316)
ثم من الأدلة التي يستدل بها على وفاة الخضر أن الخضر كما دللنا كان نبياً، وقد أخذ الله تعالى من النبين ميثاقهم إذا جاءهم رسول من الله - عزّ وجلّ – أن يؤمنوا به ويتبعوه، فلو كان الخضر حياً إلى بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم – للزمه أن يأتيه، ويبايعه على الإسلام، ويتبعه عليه، ويقاتل معه أعداء الله، ولم يثبت أبداً أن الخضر أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – وبايعه على الإسلام واتبعه عليه ،فمعنى ذلك: أن الخضر كان قد مات قبل بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – .
ونكتفى بهذا القدر سائلين الله - تبارك وتعالى – أن يرزقنا وإياكم علماً نافعاً وعملاًَ مقبلاً، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب .
هذا والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ قلتم في تفسير قوله تعالى ? لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ? قلتم: إن (هذ)اسم إشارة للقريب. بمعنى: أنهم أصابهم التعب الشديد بعدما تجاوزا الصخرة التى عندها اصطحب ( كلمة غير مفهومة ) وأن الله - سبحانه وتعالى – سهل الجزء الأول من سفرهم لأنه كان في سبيل الله. سؤالي الآن: هل يحاسب الله تعالى سيدنا موسى نسيانه ولا يقف معه في تيسير سفره في الجزء الثاني على الرغم من أنه ليس له يد في هذ النسيان ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بالنسبة عندما قال سيدنا موسى: أنا أعلم أهل الأرض من باب دخول وسوسة الشيطان ، أو من باب الإعجاب بالنفس، أو من باب الخطأ لأننا نعرف أن الأنبياء معصومون ؟.
(10/21)
---(1/317)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، علمنا من فضيلتكم بالأدلة أن الخضر – عليه السلام – كان نبياً ولكن قرأنا على شاشة التلفزيون في هذه الحلقة وفى الحلقة الماضية عبارة:أن أول عقدة تحل من الزندقة أن الخضر كان نبياً فما هي الزندقة وما المقصود بهذه العبارة ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سؤالي: الحديث الذي ورد فيه المسيح الدجال وبقاؤه حياً في الجزيرة هل يتنافى مع ما ذكره الشيخ في بقائه حياً ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل لابد من الوضوء بالنسبة للمصحف، وهل يجوز للحائض لمس المصحف مع العلم أن لي ورد يومي ، ولا أستطيع أن أجلس إلا هذه المدة مدة الحيض ؟
ليس محاسبه على نسيانه فالله - سبحانه وتعالى – لا يحاسب على النسيان، ولكن المراد هو التفريق بين خروج الإنسان في سبيل الله - عزّ وجلّ – مهتدياً بهدى الله وبين خروجه في سفره أي سفر ليس في سبيل الله - سبحانه وتعالى – وهذا شيء قرأناه في الدرس السابق في الفوائد المستفادة من الحديث كما كان في فتح الباري شرح صحيح البخاري .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في قصة موسى والخضر موسى لم يصبر على ما فعله الخضر هل هذا الصبر على العلم أم الصبر على البلاء وكيف نصبر أنفسنا بالبلاء وخصوصاً بلاء تعدد الزوجات وهل الشكوى في هذا الأمر من باب عدم الصبر ؟
(10/22)
---(1/318)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عندي ملاحظة وسؤالاً أما الملاحظة فهي أنني غير في هذا الدرس أنكم متقيدون بمنهج ابن كثير في التفسير أكثر من تقيدكم بمادة تفسيره أحياناً فإن كان الأمر كذلك فما هو تعليقكم؟ وأما السؤال فهو كيف نتعامل مع كثرة الروايات والأخبار الواردة في تفسير بعض الألفاظ والآيات في كتاب ابن كثير وغيره؟ فكلمة الرقيم مثلاً وجدت لها أكثر من ثمان روايات، فما هي نصيحتكم لنا، السؤال الثاني والأخير: ذكرت في الدرس السابق أن أخذ العلم من الكتب يكون بشروط فما حكم بعض الأشخاص الذي يقرأون كتباً ويفتون بما قرأوه بل هناك من يفسر القرآن بما اطلع عليه من دون الأخذ عن شيوخ؟
الجملة لا شك فيها إشكال لغوي وبسط الكلمات لغوياً يساعد على الفهم المراد منها، فلعلنا نطلع على هذه الجملة ونرى المقصود منها إن شاء الله .
أما الزندقة فهو لفظ يراد به الإلحاد والكفر والشرك بالله - سبحانه وتعالى – .
كلمة زنديق: تطلق على الملحد الكافر المشرك .
حديث الجساسة رواه مسلم وغيره وهو يفيد أن المسيح الدجال الذي سيخرج آخر الزمان وحذرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – منه ومن إتيانه واتباعه وأمرنا أن نستعيذ بالله دبر كل صلاة من شره ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ) .
دل حديث الجساسة وغيره على أن المسيح الدجال مقيد بسلاسل في جزيرة إلى أن يأذن الله له بالخروج، فهنا تأتي شبهة. نحن استدللنا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم – ( أرأيتم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهرها أحد ) فهنا كان المسيح الدجال موجوداً في هذه الليلة وهو موجود إلى أن يخرج فهنا يقول العلماء في هذا الحديث أنه من العام المخصوص، خرج المسيح الدجال من هذا العام بالأحاديث الصحيحة الثابتة، ولم يخرج الخضر لأنه لم يأتي أحاديث صحيحة تدل على حياته – عليه السلام - .(1/319)
(10/23)
---
جمهور الفقهاء على منع المحدثة حدثاً أصغر فضلاً عن الأكبر أن يمس المصحف، ولكن ذهب كثير من العلماء إلى الجواز ولا سيما إذا خافت الحائض من النسيان إذا كانت دورتها تطول أيامها وتكثر وخشيت من النسيان إذا هي لم تراجع فرخصوا لها أن تراجع القرآن ولو مع حدثها.
الصوت كان فيه ضعف قليل من الأخ لكنه نستطيع أن نوجه كلامه، يعني كيف تقولون أنكم ملتزمون في الأكاديمية بمنهج الحافظ بن كثير وتأتون في المحاضرة بأشياء ليست موجودة في ابن كثير، هذا توجيه القول يكون مقبولاً حينئذ ونقول للأخ وغيره أننا نصحنا بضرورة العناية بكل ما يسمعون منا في هذه المحاضرة والحمد لله الدروس مفروغة على موقع الأكاديمية على النت يستطيع الطالب أن يسحب هذه الدروس وبذلك إذا قرأ في ابن كثير وجد الفوائد التي زدناها على ابن كثير فاستفاد منها وأضافها إلى موقعها في التفسير بإذن الله - عزّ وجلّ – .
العلماء قالوا إن الأخذ من الكتب، أخذ العلم من بطون الكتب جائز بشروط :
الشرط الأول : أن يكون هذا الطالب أخذ مفاتيح الكتب من العلماء فقد قالوا كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل منها إلى الكتب وبقيت مفاتيحه بأيدي الرجال، فالكتاب هذا كنز وكل كنز له مفتاح مفتاح الكنز هذا مع العلماء .
فينبغي لمن أراد أن يأخذ من الكتب أن يكون أولاً صاحب العلماء وجالسهم واستفاد منهم وتعلم كيف يدخل على هذه الكتب وكيف يحصل منها .
فالشرط الأول: أن يكون قد أخذ مفاتيح الكتب من العلماء .
ثانياً : أن يعتمد على كتب السلف الصالح النافعة التي اُتفق على صلاحيتها وكثير فائدتها ونفعها بإذن الله - عزّ وجلّ – .
(10/24)
---(1/320)
الشرط الثالث: ألا يعتزل العلماء وألا يبتعد عنهم بل يجب عليهم أن يظل متصلاً بالعلماء مع أخذه من الكتب، يرجع إليهم فيما يشكل عليه وفيما يعجز عن فهمه، يسألهم ويستفيد من علمهم، فبهذه الشروط ينتفع الطالب من الأخذ من الكتب وبغيرها. قد يضل ويضل إذا اعتمد على الكتب دون أن يرجع إلى المشايخ سابقاً ولاحقاً .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته تقول: عندما أسمع آيات الله تعالى يلين قلبي وخصوصاً إذا كان من قارئ خاشع وأحياناً تدمع عيني لآيات التبشير بالجنة رجاء ما عند الله، أما آيات الوعيد فقط أخاف ويلين قلبي ولا تدمع عيني هل هذا يدل على قسوة في قلبي؟أفيدوني .
نسأل الله لها المزيد من التوفيق والحرص على الخير إن شاء الله تعالى، دموع العينين ليست بيد الإنسان ولكنها فتوحات ورقة يقذفها الله - سبحانه وتعالى – في قلب من يشاء من عباده متى شاء - سبحانه وتعالى – وبالمجاهدة والمراوضة تصل إلى ما تريد بإذن الله - عزّ وجلّ –.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل إن نسبة العلم إلى نفسه هو كان سبباً في أمر المولى - عزّ وجلّ – موسى بالسفر إلى الخضر – عليه السلام - ؟
السبب أنه سئل:هل على وجه الأرض أحد أعلم منك ؟
فقال: لا، فعتب الله عليه أن لم يرد العلم إليه، هو لا يعلم من على وجه الأرض كلهم فكان الأولى به أن يقول الله أعلم، أو يقول لا والله أعلم .
فلما لم يرد العلم إلى الله كان ذلك سبباً في أن الله قال له: إن بمجمع البحرين عبداً عنده علم ليس عندك فخرج إليه .
يقول ما هو العلم اللدني الذي يوصف به الخضر – عليه السلام - ؟
ما علمه الله إياه في أن هذا الغلام سيكبر ويكون كافراً، هذا علم لدني من الله - سبحانه وتعالى – ومع غيره من علوم النبوة التي تعملها مما ذكر في الحديث والقرآن ومما لم يذكر .
(10/25)
---(1/321)
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سؤال هو ما الحكمة من عدم صبر موسى – عليه السلام – على ما كان يفعله الخضر – عليه السلام – وهل كل ما كان يفعله الخضر له حكمه وإن كانت الحكمة بينة نرجو منكم توضحياً ؟
كل هذا سيرد في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عندما تذكرون بداية الأدلة من القرآن الكريم أكتب بداية الآية وأضع نقاطاً وأكتب نهاية الآية من أجل إدراك كتابة جميع الآيات، فما رأيكم؟
جزاها الله خير إن شاء الله، وبعد المحاضرة تكمل المحاضرة تكمل المحاضرة إن شاء الله تعالى .
يقول بالنسبة لموضوع نسيان الحوت أخذ طريقه للبحر هل كان الحوت يرافق سيدنا موسى وكيف كان ذلك بعيداً عن المياه وهذا أنا لا أفهم هذا الجزء أرجو التوضيح ؟
لما قال موسى – عليه السلام – لرب العزة - عزّ وجلّ – كيف لي إليه أو أنى لي به كيف أصل إلى هذا العبد الذي عنده علم ليس عندي، قال: خذ حوتاً في مكتل يعني خذ سمكة ميتة صالحة للطعام، سمكة ميتة ضعها في وعاء في مكتل واذهب بها إلى المكان فالحوت ليس ماشياً في البحر يمشى و سيدنا موسى يمشى على الحائط، لا، الحوت كان ميتاً سمكة ميتة مشوية مملحة صالحة للطعام .
لكن كانت المعجزة في أن الله - عزّ وجلّ – قال له، متى تفقدها، يعني متى تدب الحياة في الحوت وينزل البحر تفقد هذا فتعلم أن هذا العبد في هذا المكان، لعله يكون الأمر اتضح بعد ذلك إن شاء الله .
لا شك أن مسألة الخضر هو نبياً أم ولياً وهل هو حياً أم ميتاً قد قتلتموها بحثاً ورفعتم عنها الإشكالات التي تواجه بعض المسلمين، غير أننا نريد كلمة توضحون فيها كيف تفهم نصوص الكتاب والسنة بصفة عامة، وخاصة النصوص المتعلقة بالاعتقاد؟ لا سيما أنه قد ضل من ضل وحاد عن الطريق من حاد وإنا لله وإنا إليه راجعون
(10/26)
---(1/322)
نحن نرفع شعار الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، كيف نفهم القرآن آيات القرآن، كيف نفهمها ؟ الأحاديث النبوية كيف نفهمها، فهمي وفهمك سبب من أسباب الضلال الذي يحكمني ويحكمك ويجعلني وإياك نتفق على ما اختلفنا إليه هو فهم سلف الأمة والمراد بسلف الأمة الصحابة والتابعون لهم بإحسان - رضي الله عنهم أجمعين – لأن الصحابة أنزل الله - تبارك وتعالى – القرآن بلغتهم ? إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ?[يوسف:2].
والصحابة هم الذين تلقوا هذا القرآن غضاً طرياً من في الرسول – صلى الله عليه وسلم – وهم الذين سمعوا السنة من في الرسول – صلى الله عليه وسلم – غضة طرية، وبصفتهم عرب قح لا يخفى عليهم أي لفظ يسمعونه، فكانوا يعلمون المعنى المراد فإذا أشكل عليهم المعنى المراد سألوا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك المعنى الذي أشكل عليه، لذلك نقول النصوص من الوحيين، القرآن والسنة. تفهم بفهم سلف الأمة ومعنى ذلك أننا يجب أن نرجع إلى ما كتبه السلف الصالح في كل فن، في التفسير,في الحديث،في الفقه ، في هذه العلوم ونأخذ بأقوالهم.
وأما الترجيح بين الأقوال والترجيح بين الأدلة فهذا علم خاص يدرس في الأصول سواء كان أصول الفقه أو أصول مصطلح الحديث .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل هناك حديث صحيح في فضل سورة الكهف قراءتها يوم الجمعة، السؤال الثاني بعض التفاسير والطباعة والمحققين ( كلام غير مفهوم ) السؤال الثالث بعض الناس لا يقول الله أعلمخشية التشكيك في علمهم نريد نصيحة للأمة بأكمله
(10/27)
---(1/323)
نعم هناك حديثان صحيحان قدمناهما في أول حلقة في فضل السورة ( من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له ما بينه وبين البيت العتيق ) وفي رواية ( فيما بينه وبين الجمعة التي تليها ) فهذان حديثان صحيحان في فضل سورة الكهف , ومن الأحاديث الصحيحة في الصحيح ( أن من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ) وفى رواية ( من آخر الكهف ).
أنا لست مطلعاً كثيراً على أحوال السوق والمكتبات .
نحن نصح كل من يتعرض للفتيا بألا يستحيي من قول لا أدري، وألا يستحيي من قول الله أعلم فإن الملائكة لم تستحي حين قال الله - تبارك وتعالى – لها ? أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ?[البقرة:31]. لم يستحوا أن يقولوا ? قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ?[البقرة:32].
والنبي - صلى الله عليه وسلم – وهو الذي كان يأتيه الوحي من ربه كان كثيراً ما يسأل فيقول:لا أدري أو يقول الله أعلم، فعلى الطالب أن يدين لله - تبارك وتعالى – بالتواضع وأن يعرف قدر نفسه، فكلما تواضع لله رفع الله قدره .
أليس من الصبر الجميل عدم الشكوى ؟
لا شك من الصبر الجميل عدم الشكوى، لكن لم نقل نحن بجواز الشكوى، نحن قلنا بجواز إخبار المريض عن مرضه شريطة ألا يكون الإخبار مصحوباً بشكوى، يعني كيف حالك ؟ الحمد لله، ماذا قال الطبيب ؟ ماذا قال في المرض الذي تجده ؟ قال كذا وقال كذا .
فأنت الآن تجد ألم أم الحمد لله مستريح الآن، أنا الحمد لله أحسن حالاً اليوم،التعب يعني أخف أقل وهكذا، فهذا إخبار جائز شريطة ألا يكون فيه شكوى، واعتراض على القدر .
يقول أنا أعاني كثيراً من النسيان لما طلبته من علم فهل تتكرمون بارك الله فيكم بنصحية لحفظي ما تعلمته رفع الله قدركم ؟
ننصحه بتعاهد العلم، كل العلوم التي حفظها بحاجة إلى أن يتعاهدها حتى لا تتفلت من صدره ابتداء بالقرآن الكريم وانتهاء بكل العلوم الشرعية التي حفظها ودرسها .(1/324)
(10/28)
---
العلم إن لم يراجع ويتعاهد بالمراجعة يدرس ولذلك روي عن علي - رضي الله عنه – أنه كان يقول لأصحابه تزاوروا وتذاكروا هذا العلم فإنكم إن لم تفعلوا يدرس، فحياة العلم مدراسته، فأكثر من المدارسة والمذاكرة والقراءة والاطلاع والمذاكرة واستعن بالله - عزّ وجلّ – واسأل الله أن يسرع حفظك ويقوي ذاكرتك .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سؤالي هو: ما حكم الاقتباس من القرآن إن نسيت أمراً ما أن أقول: ما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ؟
هذا النطق والاقتباس جائز لأنه استقبال جيد وفى موضعه، لكن بعض الناس يسيئون استخدام النصوص القرآنية في بعض الأماكن من باب الدعابة والمزاح وهذا لا يجوز، يجب أن ننزه كلام الله عن ذلك، يعني بعض الناس يقول ادخلوها بسلام، هذا غداؤنا، هذا رزقنا، من مثل هذه الاستدلالات، التي يقتبسونها في القرآن لبعض المواقف والمشاهد، لا أرى هذا .
لكن مثل ما ذكرت هي هذا في محله وجائز إن شاء الله .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل ورد في كتاب الله موضع آخر لسيدنا الخضر غير هذا وأكرمكم الله ؟
لا لم يرد لسيدنا الخضر – عليه السلام – ذكر في القرآن إلا هذا الموضع .
يقول ما حكم من يقدم ويفضل الولي عن النبى وقد يكون أعلم من النبى ويدعي عصمة الأولياء مثل الرافضة هداهم الله وماذا نرد عليهم ؟
هذه مسألة خطيرة جداً تطعن في العقيدة وننصح أمثال هؤلاء بمراجعة كتاب شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله:( الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)، فيستدلون بهذا الكتاب ويستفيدون منه إن شاء الله تعالى .
تقول أين قبر الخضر – عليه السلام - ؟
(10/29)
---(1/325)
يقول شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله: إن من رحمة الله- تعالى- بعباده أنه لا يعرف على وجه الأرض قبر أي نبي من الأنبياء السابقين، ولا يقال هذا قبر فلان إلا قبر الخليلين، إبراهيم ومحمد - صلى الله عليه وسلم – قبر الخليل محمد باليقين أنه مدفون في حجرته في المدينة المنورة يقيناً، وقبر الخليل إبراهيم -على شك- أنه في مدينة الخليل في فلسطين حفظها الله تعالى وأهلها، وما سوى ذلك من الأنبياء ليس هناك معرفة لقبورهم وهذا من رحمة الله بالناس حتى لا يتخذوا قبور الأنبياء أصناماً وأوثاناً يعبدونها من دون الله .
ما تقولون في إيراد أخبار بني إسرائيل لتفسير كتاب الله لا سيما فيما يتعلق بالقصص؟
عندنا من الصحيح الثابت في السنة ما في القصص النبوي ما يغنينا عن الإسرائليات .
هل يجوز أن نعبر بالعلم اللدني هذا أو لا ؟
العلم اللدني خاص بالأنبياء لا يكون لغيرهم. الله تعالى يوحي إلى أنبياءه، معنى العلم اللدني يعني من لدن الله عن طريق الوحي إلى رسل الله هذا العلم من الله مباشرة بالوحي لا يكون إلا للأنبياء، كما قلت في حديثي لا يعقل أبداً أن يمسى الرجل جاهل ويصبح يقول: أنا تعلمت الليلة، من أين تعلمت ؟ تعلمت من الله - سبحانه وتعالى – هذا كذب وافتراء لا يتعلم أحد من الله إلا الأنبياء بوسطة الوحي الذي ينزله الله - تبارك وتعالى – عليهم .
كيف نرد على بعض الناس المتمسكين بهذه الآية ويفضلون الولاية على النبوة ؟
نقول في معتقد أهل السنة كما قال الإمام الطحاوي- رحمه الله - نبي واحد أفضل من جميع الأولياء .
يقول من ادعى وجود الخضر – عليه السلام – إلى الآن؟
(10/30)
---(1/326)
هذه مسألة خلافية بين العلماء ومنصوص عليها في الكتب في تفسير القرطبي وغيره يعني ليست المسألة سهلة، لا. العلماء تكلموا في ذلك وقالوا أنه حي، لكننا رجحنا بالأدلة التي ذكرناها أنه قد مات، وهذا هو القول الراجح فإذا أراد أن يقف على من قال بحياته فيراجع تفسير القرطبي وغيره فسيرى من قال بحياة الخصر – عليه السلام – من العلماء السابقين .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هل الخضر كان متبعاً لشريعة موسى – عليه السلام – أم أن موسى – عليه السلام – كانت شريعته لبني إسرائيل فقط ؟
لا كانت شريعة موسى لنبي إسرائيل فقط، وكان الخضر في مكان غير مكان موسى – عليه السلام – ولم يكن مأموراً باتباع موسى، وإلا لآتاه هو، لكن موسى ذهب إليه يتعلم منه لما أخبره الله تعالى أن عنده علم ليس عنده .
يوجد من يقول: إن الخلد لله وحده هل يوصف الله بالخلد أم أنه لا يوصف بهذه الصفة ؟
نقول في حق الله ما قاله الله تعالى في حقه ? هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ?[ الحديد:3].
قال النبي - صلى الله عليه وسلم – ( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء ) .
(10/31)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
مرافقة موسى للخضر والتعلم منه
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :(1/327)
فإن اصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم – وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، ثم مرحبا بكم في اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة الكهف ، والآيات المباركات التي معنى اليوم تضمنت من المعاني ما يلي :
أولاً : أدب الطالب مع العالم .
ثانياً : ضرورة الصبر لطالب العلم .
ثالثاً : المشاهد التي لم بصبر عليها موسى مع الخضر عليهما السلام .
رابعا : من هو المسكين .
خامسا : تفسير الخضر لموسى عليه السلام " ما لم يسطع عليه صبرا " .
سادسا : ليس شيء أنفع للإنسان من الرضا بقضاء الله تبارك وتعالي .
وأخيرا : صلاح الآباء ينفع الأبناء في الدنيا وفي الآخرة .
وهذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات من سورة الكهف من المعاني والتي نعيش في رحابها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالي فلنستمع إليها أولا قبل الخوض في تفاصيلها سائلين الله عز وجل أن ينجز لنا ما وعدنا حيث قال ?وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ? [ألأعراف:204]
الشيخ :
(11/1)
---
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ?19? لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? [الحشر:19 – 20 ]
?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ? [الزمر:23](1/328)
لما لقي موسى الخضر عليهما السلام قال له هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا انظر إلي حسن الأدب في حسن العرض حسن أدب موسى عليه السلام وهو في مقام طالب العلم مع الخضر عليه السلام وهو في مقام المعلم هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا .
فيجب على الطالب أن يتعلم كيف يتأدب مع شيخه وكيف يحترمه ويجله وكيف يوقره فإن توقير العلماء واحترامهم واجب وقد تبرأ النبي صلي الله عليه وسلم من الذين لا يحترمون العلماء ولا ينزلونهم منازلهم فقال صلي الله عليه وسلم ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويجل كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه ) ولقد اهتم علماء السلف رضوان الله عليهم أجمعين بأدب الطالب مع الشيخ حتى صنفوا فيه مصنفات المختصرة والمطولة وأهيب بكل طالب أن يعمى بهذه المؤلفات المختصرة والمطولة حتى يتعلم كيف يتأدب مع نفسه أولا وكيف يتأدب مع شيخه وكيف يتأدب مع أقرانه وكيف يتأدب مع أهله وكيف يتأدب مع الناس أجمعين فقديما قال القائل :
والعلم إن لم تكتنفه شمائل
تعليه كان مطية الإخفاق
لا تحسبن العلم ينفع وحده
ما لم يتوج ربه بخلاق .
(11/2)
---(1/329)
ومن أمتع هذه المختصرات في أدب الطالب أخلاق العلماء للإمام الأجوري رحمه الله وآداب الطالب آداب العالم والمتعلم للإمام النووي رحمه الله وحلية طالب العلم للشيخ الدكتور بكر أبو زيد حفظه الله هذه الرسائل الثلاث أنصح طالب العلم أن يعنى بها وأن يهتم بها فقديما قالوا تعلموا العلم وتعلموا للعلم الأدب موسى عليه السلام في مقام المتعلم وهو رسول الله وكليمه لكنه يتأدب بأدب الطالب مع الشيخ فيحسن عرض نفسه على المعلم الذي يريد أن يصحبه ليتعلم منه هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت منه رشدا فقال الخضر عليه السلام ?َ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً?[الكهف: من الآية67] والطالب بحاجة إلي الصبر حتى يتعلم وأنا أعلم أنك لن تستطيع معي صبرا فكيف تتعلم ، والطالب لابد له من الصبر حتى يتعلم ولذلك قال القائل :
أخي لن تنال العلم إلا بستة سآتيك منها مخبرا ببيان
ذكاء وحرص واصطبار وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان .
فمن أهم عوامل نجاح الطالب في الطلب أن يتحلى بالصبر أن يصبر على مشاق الطلب أن يصبر على كل ما يلقاه في سبيل تعلمه فإذا لم يكن معه زاد عظيم من الصبر لن يستطيع أن يتعلم وإذا استعجل الطلب فلن يحصل شيئا فقديما قالوا من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه فلابد للطالب أن يصبر على مشاق الطلب وأن يصبر سنين طوال في التحصيل والتعلم حتى يصلح أن يقال له بعد ذلك طالب علم فضلا عن أن يعطى لقب العالم ?قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً?67?وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً? [الكهف:67- 68] .
(11/3)
---(1/330)
إنك سترى مني أشياء في ظاهرها المنكر وهي لما أعلمه أنا مما علمني الله معروف وأنت كرسول لا تستطيع أن ترى ما ظاهره المنكر ولا تنكره لا تستطيع أن ترى ما ظاهره قبح وتسكت عليه فإنك لن تستطيع معي صبرا لماذا ؟ سترى مني أشياء في ظاهرها المنكر فلابد أن تنكرها لأنك رسول ل تسكت على المنكر الذي تراه ?وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً? (الكهف:68)
قال موسى عليه السلام :?قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ?68? قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً? [الكهف:69]
وقد تكلمنا عن قوله تعالي?وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً?23? إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ?[الكهف:23- 24]
وذكرنا بركة هذه الكلمة ومن بركتها أن الإنسان إذا وعد وعلق الوعد على المشيئة فلم يفي به فلا حرج عليه بل إنه إذا حلف أن يفعل وعلق الأمر على المشيئة ولم يفعل لم يحنث فلا تلزمه كفارة اليمين ?قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً? [الكهف:69]
فإن لم يصبر بعد ذلك لم يكذب ولم يحنث ?قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً? [الكهف:69]
(11/4)
---(1/331)
قال فإن اتبعتني على ما ألزمت نفسك به ? فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً?[الكهف: من الآية70] إذا صاحبتني ورافقتني على هذا الشرط أن تصبر على ما تراه في الظاهر مخالفا للشريعة أن تصبر على ذلك فرافقني شريطة أن لا تسألني عن شيء اتركني أنا حتى أحدثك عن ما فعلته وأبين لك سره وحقيقته التي أعلمني الله تبارك وتعالي بها قال لك ذلك فانطلقا فأرادا أن يعبرا البحر من الساحل الذي هم عليه إلي الساحل الآخر فرأيا معابر يعبر الناس بها والمعابر هي المراكب الصغيرة التي يستعملها الناس في الانتقال من شاطئ إلي شاطئ فعرف أهل هذه السفينة الخضر عليه السلام فقالوا الخضر عبد الله الصالح فحملوهما ولم يأخذا منهما أجرة إكراما للخضر عليه السلام لأنهم يعرفون الخضر ولكن لا يعرفون صاحبه قالوا الخضر عبد الله الصالح فحملاهما ولم يأخذا منهما أجرة فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة وهما في وسط البحر جاء عصفور فوقف على شاطئ السفينة ثم نقر بمنقاره في البحر فأخذ قطرة ماء فقال الخضر لموسى عليهما السلام ما علمي وعلمك وعلم الناس كلهم بالنسبة إلي علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من ماء البحر وبينما السفينة تمشي في هدوء وأمان تجري بها ريح طيبة إذا بالخضر عليه السلام يعمد إلي السفينة وينزع لوحا من الخشب من أخشابها ?فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ?[الكهف: من الآية71] .
وهنا السفينة إذا خرقت وهي في البحر دخلها الماء وإذا امتلئت بالماء تعرضت للهلاك والغرق فلم يستطع موسى عليه السلام أن يصبر على ما رآه من الخضر ? قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ?[الكهف: من الآية71] .
لأنه معلوم مادامت قد خرقت فإن الماء سيدخله وإذا ملئها الماء غرقت وهلك من فيها ?قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا?[الكهف: من الآية71] .
(11/5)
---(1/332)
قال بعض المفسرين سبحان من جبل الأنبياء على الرحمة بعباده قال موسى للخضر ?أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا?[الكهف: من الآية71] ولم يقل أخرقتها لتغرقنا في وسط الزحام نسي نفسه وكان حرصه أشد على عيره وصدق الله العظيم حيث قال في نبينا محمد صلي الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم وقال :?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ?[ آل عمران: من الآية159] فهكذا فطر الله تعالي الأنبياء على رحمة عظيمة حتى استطاعوا أن يتحملوا أذى الناس وأن يصبروا على كل ما يلاقونه منهم الاضطهاد والأذى والتعذيب حتى يبلغوهم رسالة الله سبحانه ? قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ?[الكهف: من الآية71] وهو وإياه في السفينة فلو غرق أهلها غرق معهم لكنه في وسط الزحام من شدة رحمته التي فطره الله عليها نسي نفسه من شدة حرصه على نجاة الآخرين ? قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً?[الكهف: من الآية71] .
قالوا العرب تسمي الداهية العظيمة والمصيبة الكبيرة إمراً ?لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً?[الكهف: من الآية71] أي لقد جئت بداهية عظيمة ومصيبة كبيرة تغرق الناس بلا ذنب ولا جريرة ?لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً?[الكهف: من الآية71]فقال له الخضر عليه السلام ?قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً? [الكهف:72]
?قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ?[الكهف: من الآية73] فكانت هذه الأولي من موسى عليه السلام نسيانا وكانت الثانية شرطا وكانت الثالثة عمدا هكذا قال النبي صلي الله عليه وسلم قال كانت الأولي من موسى نسيانا وهو قوله ? أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً?[الكهف: من الآية71] وكان قد اشترط عليه ?قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً? [الكهف:70]
(11/6)
---(1/333)
فلما رآه خرق السفينة نسي الشرط الذي التزمه به مع الخضر ? قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً?[الكهف: من الآية71] ?قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً? [الكهف:72]
?قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً? [الكهف:73]
إن الله تبارك وتعالي تجاوز لعباده عما نسوه سواء كان واجبا مطلوبا فعله أو كان محرما مطلوبا تركه إذا ترك الإنسان الواجب ناسيا لا يؤاخذ وإذا فعل المحرم ناسيا لا يؤاخذ من الله سبحانه وتعالي فأولى الناس ألا يؤاخذ بعضهم بعضا على ما نسوه أولى الناس ألا يؤاخذ بعضهم بعضا بما نسوا ?قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً? [الكهف:73]
فانطلفا حتى إذا نزل من السفينة وصار يمشيان في الطريق في الشاطئ المقابل نظروا فوجدوا صبيانا يلعبون في الشارع فنظر الخضر إلي أحسن الصبيان وجها وأجملهم صورة وعمد إليه فقتله ?فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ?[الكهف: من الآية74] موسى عليه السلام لم يصبر حين خرق السفينة مخافة حدوث الموت فكيف يصبر وقد رأي الموت قد نزل بغلام بلا ذنب يرتكبه فغضب أشد الغضب وقال ?أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً?[الكهف: من الآية74] .
فكان صوته في المرة الثانية أعلي من صوته في المرة الأولي ولكل فعل رد فعل ولذلك علا صوت الخضر على موسى واشتد غضبه وإنكاره عليه في الإنكار ?قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً? [الكهف:75]
فاشترط موسى للخضر على نفسه إن هو سأله بعد ذلك عن شيء أن يكون آخر عهده به وأن يفارقه ?قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً? [الكهف:75]
(11/7)
---(1/334)
?قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً? [الكهف:76]
لقد صبرت علي وتحملتني وعذرتني في المرتين لك علي إن حدثت المر الثالثة أن يكون آخر عهدي بك وأن أفارقك وأنت معذور على فراقك لي لأنني لم أصبر عليك ، فانطلقا وقد ذكرنا أن موسى عليه السلام حين خرج للسفر تزود ماذا كان زاده الحوت ، الحوت المملح أكلا منه في أثناء سفرهما فلما دب فيه الحياة نزل في البحر ولم يبقي مع موسى عليه السلام طعام يأكله في أثناء السفر فبينما هما يمشيان غلبهما الجوع فدخلا قرية فطلبا من أهلها أن يضيفوهما وأن يطعمهما فلم يستجيبا ومنعوهما حق الضيافة ولم يكرماهما بالطعام .
?فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا?[الكهف: من الآية77] أي طلبا منهم الطعام أن يطعموهما ?فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ?[الكهف: من الآية77]
وجد الخضر عليه السلام في هذه القرية جدارا في بناء من البنيان يريد الجدار أن ينقض قد مال الجدار شيئا قليلا وهو يريده أن يقع على الأرض ?فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ?[الكهف: من الآية77] يريد أن ينقض هل الجدار له إرادة هكذا قال الله سبحانه وتعالي ألم يقل الله سبحانه ?تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ?[الإسراء: من الآية44] ألم يقل الله سبحانه وتعالي ?وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ?[الأنبياء: من الآية79] .
فإذا كانت الجبال والجمادات والأحجار تسبح بحمد الله سبحانه وتعالي تسبيحا لا نفقهه فلها إدراك وعقل وتمييز وإرادة يليق بها ? فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَه?[الكهف: من الآية77].(1/335)
(11/8)
---
قال المفسرون كيف أقامه هل هدمه ثم بناه قالوا لا إنما أشار إليه بيده هكذا أن اثبت مكانك فثبت الجدار مكانه بعد أن أراد أن ينقض أشار إليه الخضر بيده هكذا أن مكانك فثبت مكانه وهذه معجزة للخضر ولا نقول كرامة لأننا اتفقنا على أن الخضر عليه السلام كان نبيا والمعجزات تختص بالأنبياء أما الكرامات فتختص بالأولياء كونه يرى جدار يريد أن يقع فيشير إليه أن اثبت مكانك فيسمع الجدار كلامه ويثبت مكانه هذه معجزة للخضر عليه السلام فلما رأى موسى عليه السلام الخضر أقام الجدار ولم يأخذ عليه أجرا عاتب عليه أن لم يأخذ عليه أجرا ? قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً?[الكهف: من الآية77] قوم استطعمناهم فلم يطعمونا ولم يكرمونا ولم يعطونا حق الضيافة وأنت تقيم الجدار الذي كان سيقع بلا أجرة ? لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً?[الكهف: من الآية77] .
فكانت هذه الثالثة التي اشترطها موسى على نفسه ?قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ?[ الكهف: من الآية78] ، كما اشترط أنت على نفسك ?قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً? [الكهف:78]
ما هو تأويل الخضر عليه السلام لهذه المشاهد التي لم يصبر عليها موسى عليه السلام وأنكرها على الخضر في الثلاث مرات قال أما السفينة التي خرقتها فقلت أنت أخرقتها لتغرق أهلها ?أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ?[الكهف: من الآية79] فكانت لمساكين ، المساكين جمع مسكين ? فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ?[الكهف: من الآية79] .
الله سبحانه وتعالي قال :?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ?[التوبة: من الآية60] وقال في كفارة اليمين :? فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ?[المائدة: من الآية89] .
(11/9)
---(1/336)
حين يحنث إنسان في يمينه ويأتي يسأل ما الحكم ويأتي يسأل ما الحكم نقول له أطعم عشرة مساكين يقول من أين أتي بعشرة مساكين لا أستطيع أن أجد ولا أعثر على عشرة مساكين لماذا يقول هذ لأنه لا يعرف من هو المسكين الذي جعل الله له حقا في الزكاة وجعل من كفارات اليمين أن يطعم عشرة مساكين من هو المسكين ؟
قال العلماء قوله تعالي ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ?[التوبة: من الآية60] الفقير هو المعدم الذي لا يملك شيئا والمسكين من له دخل لا يكفيه فالمسكين أحسن حالا من الفقير ، الفقير هو المعدم الذي لا يملك شيئا والمسكين من له دخل لا يكفيه إنسان يعمل في عمل ما راتبه مائة جنيه مائتا جنيه في الشهر وعنده ثلاثة أربعة من الولد ويسكن في شقة يدفع لها إيجارا وكهرباء ومياه ماذا تفعل له المئتا جنيه والثلاث مائة جنيه في هذا الزمان فهذا يسمى مسكينا لأنه له دخل ولكن لا يكفيه لنفقته ونفقة من تلزم نفقته فهو مسكين إن كانت له سفينة تعمل في البحر مسكين وإن كانت له سيارة يعمل بها أو يعمل عليها ليكسب عليها فالمسكين من له دخل لا يكفيه ?أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ?[الكهف: من الآية79] فالعمل في البحر لكسب الأرزاق جائز لجميع أنواع العمل سواء إن كان عن طريق صيد السمك أو الغوص في البحار أو كذا أو كذا العمل في البحر جائز ?أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا?[الكهف: من الآية79] .
أردت أن أحدث فيها عيبا لماذا ؟? وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً?[الكهف: من الآية79] .
(11/10)
---(1/337)
وكان وراءهم لو حملنا وراء على ظاهره لقلنا لما يخرقها هو يخشى أن الملك يستوي عليها وهم قد تجاوزوه لأنه كان وراءهم قال العلماء الوراء هنا التي تطلق على الشيء وضده فالوراء في ظاهره الخلف وقد يطلق الوراء ويراد به الأمام قال تعالي ?وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ?15?مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ?[ابراهيم: من الآية16] .
هل جهنم وراء الكفرة أم أمامهم الآن تنتظرهم ?إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً? (النبأ:21)
جهنم أمامهم تنتظرهم يلقونها يوم القيامة ويدخلونها مدحورين لكن الله قال ?مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ?[ابراهيم: من الآية16] .
فأطلق الوراء وأراد به الأمام فهكذا قال الخضر عليه السلام وكان وراءهم يعني أمامهم ? مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً?[الكهف: من الآية79] .
حين تنظر في هذا العموم " يأخذ كل سفينة " تقول إذن لما أراد الخضر أن يعيبها لأن الملك سيأخذ كل سفينة معيبة كانت أو غير معيبة قال العلماء في الكلام حذف تقديره وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا أما إذا كانت معيبة فإنه لا يأخذها وهذا كما قال تعالي ?وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ?[الاسراء: من الآية58].
قال العلماء في الآية وصف للقرية حذف للدلالة عليه وتقدير الكلام وإن من قرية ظالمة إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أم من أين أتينا ذاك التقدير من قولك على ذلك "لم يكن ربك مهلك القرى يإيه بظلم فقال تعالي ?وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا ?[الاسراء: من الآية58] .
فقلنا تقدير الكلام وإن من قرية ظالمة إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة كذلك قول الخضر ? وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً?[الكهف: من الآية79] .
(11/11)
---(1/338)
كل سفينة تمر عليه يغتصبها من أصحابها فإذن تقدير الكلام يأخذ كل سفينة صالحة غصبا فأراد الخضر أن يجعل في هذه السفينة الصالحة عيبا حتى إذا رآها الملك معيبة تركها لمساكين ولم يغتصبها منهم ?أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً?79?وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً?80?فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً? [الكهف:81]
ذكرنا في الأدلة التي استشهدنا بها على نبوة الخضر أن مما يدل على نبوته هذا الخبر منه ?وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً? [الكهف:80]
خشيت إذا كبر هذا الغلام وبلغ مبلغ الرجال وكفر بالله عز وجل أن يتسبب في فتنة أبويه وأن يجعلهما يرجعان ويرتدان عن دينهما من شدة تعلقهما بهما وهذا الغلام كان لم يبلغ الحلم بعد فقتله قبل أن يبلغ من للخضر أن هذا الغلام لو كبر لكفر بالله هذا وحي أوحاه الله تعالي إليه لأن الله تعالي قال ?عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً?26? إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ?[الجن: من الآية27] .
(11/12)
---(1/339)
قال مطرف رحمه الله: لقد فرحا بهذا الغلام حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو عاش لأرهقهما طغيانا وكفرا فليرضي كل امرئ بما قدر الله له فإن قضاء الله لعبده المؤمن فيما يكره خير له من قضاء الله له فيما يحب قال مطرف رحمه الله لقد فرحا به حين ولد هذه فطرة كلنا يفرح إذا ولد له ولد ولاسيما إذا كان ذكر لقد فرحا به حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بلغ المبلغ الرجال لأرهقهما طغيانا وكفرا فليرضى كل امرئ بما قدر الله له فإن قضاء الله لعبده المؤمن فيما يكره خير له في قضائه في ما يحب يقول تعالي ?كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ? [البقرة:216]
ويقول النبي صلي الله عليه وسلم عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له فليوطن كل منا نفسه على الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالي خيره وشره فإن ذلك هو أساس السعادة الرضا بالقضاء والقدر أساس السعادة وأساس راحة البال وراحة الضمير وهدوء الأعصاب وطمأنينة القلب وقرة العين فليوطن كل إنسان منا على الرضا بقضاء الله تبارك وتعالي دائما وأن يعلم أن الله لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا وهو خيرا له فليجتهد في ذلك حتى يكون شعاره في هذه الحياة مل قاله ذلك الرجل الطيب :
يا رب ما مسني قدر بكره أو رضا إلا اهتدين به إليك طريقا
أمضي القضاء على الرضا مني به إني علمتك في البلاء رفيقا .
فكن أيها المؤمن على يقين من أن الله أبر بك من نفسك وأرحم بك من نفسك وألطف بك من نفسك وأعلم بمصلحتك من نفسك ففوض الأمر لله سبحانه وتعالي وتبرأ من حولك وقوتك واستعن بحول الله وقوته فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله .
(11/13)
---(1/340)
?وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً?80?فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً? [الكهف:81]
فإذا أخذ الله منك الولد فلتصبر ولتحتسب ولتسترجع وإذا وقبل أن تقول ولدي يجب أن تعلم أن الله قال عبدي
وأنا أحق به إذا ابتليت بموت ولد من أولادك فاصبر واحتسب واسترجع وقبل أن تقول ولدي اعلم أن الله قال عبدي وأنا أحق به في الصحيح أن بنتا من بنات النبي صلي الله عليه وسلم أرسلت إليه تقول يا أبتاه إن ابني قد احتضر فاشهدنا يا أبتاه ابني يموت فتعالي كن معنا في هذه الساعة إن ابني قد احتضر فاشهدنا فرد عليها مع من أرسلته يقول لها إن لله ما أخذ وله ما أعطي وكل شيء عنده بأجل مسمي فمرها فلتصبر ولتحتسب فإذا أصبت في نفسك فاصبر واحتسب وإذا أصبت في مالك فاصبر واحتسب وإذا أصبت في أهلك فأصبر واحتسب وإذا أصبت في ولدك فأصبر واحتسب واعلم أن قضاء الله لك خير من اختيارك لنفسك ، ?وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ?[البقرة: من الآية216] .
ثم قال له وأما الجدار الذي كان يريد أن ينقض فأقامته ولم أخذ عليه أجرة وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما كان هذا الجدار تحته كنز لغلامين يتيمين فلو وقع الجدار انكشف الكنز وأهل القرية إذا رأو الكنز لم يصبروا عليه فيهجمون عليه ويأخذونه فيضيع بذلك حق هؤلاء اليتامى ?وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً?[الكهف: من الآية82] .
(11/14)
---(1/341)
فقيضني الله تبارك وتعالي لهما بسبب صلاح أبيهما حتى أقيم الجدار لأحفظ لهما كنزهما حتى إذا بلغا أشدهما وبلغا مبلغ الرجال استخرجا كنزهما كان ذلك رحمة من ربك بهما بسبب صلاح أبيهما ففي هذا إشارة إلي أن صلاح الآباء ينفع الأبناء في الدنيا وينفعهم في الآخرة صلاح الآباء ينفع الأبناء في الدنيا كما رأينا ?وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً?[الكهف: من الآية82].
وصلاح الآباء ينفع الأبناء في الآخرة فإن الله تبارك وتعالي قال ?وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ?[الطور: من الآية21].
قال الله تعالي ?جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ?[الرعد: من الآية23] .
فإذا دخل المسلمون الجنة وكان الأب في درجة أعلى من درجة الأبناء فهو أعلى وأبنائه أدني منه فهذا فيه تفريق للشمل ومن تمام النعمة جمع الشمل أن يكون الأبناء مع أبيهم وأن تكون الأزواج مع أزواجهم فإذا كان الأب في منزلة أعلى في الجنة والأبناء دونه فإن الله تبارك وتعالي يتفضل على الأبناء فيرفع منازلهم إلي منزلة الآباء وذلك بسبب صلاح الآباء ?وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ ?[الطور: من الآية21].
ولكن كانوا في درجة أدني من درجته في الجنة ?أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ?[الطور: من الآية21] فصلاح الآباء ينفع الأبناء في الدنيا وفي الآخرة قال تعالي ?إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ?[فصلت: من الآية30] .
(11/15)
---(1/342)
عند الموت في هذه الساعة العصيبة الحرجة ساعة القلق والحزن والاضطراب والخوف ينظر يمينا يرى البنين يبكون وينظر شمالا يرى البنات يبكين وينظر تحت رجليه يرى الأزواج يصحن تتنزل عليهم الملائكة في هذه الساعة بهذه البشارة العظيمة ?أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ?30?نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ?31?نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ] (فصلت:30- 32)
يقول النبي صلي الله عليه وسلم احفظ الله يحفظك احفظ الله بأن تحفظ الأوامر بالأداء والنواهي بالترك والاجتناب والحدود بالوقوف عندها وعدم تجاوزها وتعديها وإذا حفظت الله في ذلك حفظك الله في دينك فثبتك بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وحفظك الله في صحتك فمتعك بسمعك وبصرك وقوتك طول حياتك وحفظك في ذريتك وأهلك بعد مماتك ولذلك كان بعض الصالحين يقول لابنه يا بني إني لأزيد في صلاتي رجاء أن يحفظني الله فيك يا بني إني لأزيد في صلاتي أصلي بالليل وأصلي بالنهار وأكثر من الأعمال الصالحة رجاء أن يحفظني الله فيك فصلاح الآباء ينفع الأبناء في الدنيا وفي الآخرة وهذا هو طريق التأمين على الحياة لمستقبل الأولاد هذا المستقبل الذي أزعج الآباء كثيرا كل أب قلق ومضطرب كيف يأمن مستقبل أولاده كيف يطمئن على أولاده بعد مماته التأمين على الحياة وتأمين المستقبل للأولاد ذكره الله تعالي في قوله ?وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً? [النساء:9]
(11/16)
---(1/343)
فصلاح الآباء ينفع الأبناء في الدنيا والآخرة وكذلك العكس صلاح الأبناء ينفع الآباء أيضا في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فصلاح الولد هو سبب قرة عين أبيه فليس هناك شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى ابنه صالحا مستقيا تقيا على الجادة على صراط الله الذي رسمه له وفي الآخرة ينفع صلاح الأبناء آبائهم كما قال النبي صلي الله عليه وسلم ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له ) أو ولد صالح لم يقل أو ولد يدعوا له لأن الولد غير الصالح أصلا لن يذكر أباه بالدعاء الولد الفاجر الفاسق أصلا لن يذكر أباه بالدعاء وإذا دعا مع فسقه وفجوره لا يتقبل الله منه إنما يتقبل الله من المتقين فقال صلي الله عليه وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له ) .
(11/17)
---(1/344)
وفي الحديث أيضا أن النبي صلي الله عليه وسلم قال( إن الرجل لترفع درجاته في الجنة حين مات دخل درجة معينة حين دخل أدخل درجة من درجات الجنة فبينما هو بعد سنين إذا بالملائكة يقولون له هيا بنا ترتقي درجة أعلى ونرفعك في درجة أعلى من الجنة إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول يا رب بما هذا هذا الرقي وهذا الارتفاع وهذه الترقية ما سببها وقد مت وانقطع عملي يا رب بما هذا فيقال باستغفار ولدك لك) فصلاح الآباء ينفع الأبناء في الدنيا والآخرة وكذلك صلاح الأبناء ينفع الآباء في الدنيا وفي الآخرة ?وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ ?(الكهف: من الآية82) ثم قال الخضر ? وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ?(الكهف: من الآية82) كل هذا الذي رأيته مني وأنكرته علي ولم تصبر على رؤيته من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار بلا أجرة كل هذا ما فعلته عن أمري إنما كان عن أمر الله تبارك وتعالي وهذا أيضا من الأدلة التي استدللنا بها على نبوة الخضر عليه السلام ثم قال له ?ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً?(الكهف: من الآية82)انتبه وفرق في الألفاظ ?قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ ?[ بتاء قبل الطاء ] ?سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً?(الكهف: من الآية78) ?ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ ?(الكهف: من الآية82) بالطاء بلا تاء قبلها ما الفرق بين اللفظين وما سر زيادة التاء قبل الطاء في اللفظة الأولي دون الثانية قال العلماء الجهل يكون ثقيلا على الإنسان فموسى عليه السلام لما رأى ما رأى وأنكره وهو لا يعلم حقيقته ولا يعرف السر ورائه كان ذلك(1/345)
(11/18)
---
ثقيلا على نفسه ?سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً?(الكهف: من الآية78) فلما أنبئه تعلم بعد أن كان جاهلا فزال الحمل عن نفسه وذهب الثقل الذي كان على عاتقه بسبب الجهل فقال ?سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً?(الكهف: من الآية78) كما قال الله تعالي بعد ذلك عن الجدار الذي بناه ذي القرنين ?فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً? (الكهف:97)
بلا تاء في اللفظة الأولي وبتاء في اللفظة الثانية ?فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ?(الكهف: من الآية97) يعني لم يستطيعوا أن يرتقوا فوق الجدار بسلم مثلا وينزل من الجهة الثانية ، وما استطاعوا أن ينقبوه ويخرجوا منه ومعلوم أن الارتقاء والعلو والارتفاع أسهل من النقب لأن النقب يحتاج إلي عمل وأما الرقي فيحتاج إلي سلم فقط ليوضع ?فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً? (الكهف:97)
قال النبي صلي الله عليه وسلم يرحم الله موسى لوددنا أن صبر مع الخضر حتى نرى من أمرهما عجبا لكن موسى لم يصبر فحرمنا من العجب الذي كان سيراه لو أنه صبر فنعود ونؤكد على ما ذكرناه أنه لابد لطالب العلم من الصبر .
أخي لن تنال العلم إلا بستة سآتيك منها مخبرا ببيان
ذكاء وحرص واصطبار وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا علما نافعا وعملا متقبلا ورزقا طيبا إنه ولي ذلك والقادر عليه هذا والحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
سؤال
ذكر المختصر الشيخ محمد الرفاعي رحمه الله أقولا في كيفية قتل الخضر للغلام فما رأيك يا شيخ أن أرجح الأقوال هي الذي قوله هو اقتلعه بيده لأن ورد في البخاري عن بقية الأقوال ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(11/19)
---(1/346)
كل ذلك جاء في روايات ونحن ضربنا صفحا عن ذكر كيفية القتل لأنها لا تنبني عليها كثير فائدة المهم أنه قتله اقتلع رأسه وضعه بين حجرين فضربه بهما أو غير ذلك كل ذلك صحيح ووارد ولكننا لم نتعرض في الشرح لأن الكيفية لا ينبني عليها كثير فائدة .
قوله عز وجل أيضا من المختصر يا شيخ الأسئلة الأربعة ?فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً? (الكهف:81)
قال المختصر أي ولدا أزكى من هذا وهما أرحم به منه لماذا لم يقل أيضا أي ولد يكون راحما بوالده لماذا جعل الولد أزكي أهم أرحم به
سؤال : لماذا لم يكن كل التفسير على الولد ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
الذي قتل ، لا يقال هذا لماذا لم يكن هذا قدر الله وما شاء فعل ?لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ? (الانبياء:23) .
سؤال : هنا يا شيخ يقول المفسر "ما فعلته عن أمري " لكني ليس به وقفت عليه هل المراد وقفت عليه أم المراد وفقت إليه .
وما فعلته عن أمري ولكن هذا الذي أطلعني الله عليه ووفقني إليه ووفقت إليه يعني أطلعني الله عليه ووفقت إليه .
يقول إنما الخضر كما جاء في البخاري لأنه جلس على فروة فإذا هي تحتج للخضراء بل المراد يا شيخ أنه جلس مرة واحدة على الخضراء تهتز من الخضراء ولماذا قال للخضراء وأنا سمعتك يا شيخ تقول أنه كلما جلس على هشيم أو هكذا أنه يتحول إلي خضار هذا هو دائما أم هو جلس مرة واحدة فإذا هي تهتز من خضراء وإيه معني قول من خضراء ؟
الله أعلم هل كان كلما تكرر منه ذلك أم تكرر مرة واحدة إنما العلة في تسمية الخضر أنه جلس فاهتزت تحته خضراء ، هل هكذا كلن دائما كلما جلس أم هذه مرة واحدة فأطلق عليه اللقب هذا لقب الخضر الله تعالي أعلم .
(11/20)
---(1/347)
سؤال: بالنسبة لأدب طالب العلم مه أستاذه يعني أنا معلمتي نحسبها على خير في تعليمي تقريبا كل شيء بس أنا في المعاملة الطبيعية ما بيننا بتقع في غيبة دائما فامش عرفة إيه الصح يعني المفروض أن أخذ من علمها وده أسيبه يعني الغيبة اللي هي بتعملها ماليش دعوة بيها وأتفرغ للعلم منها بس ده اللي أخذه منها وبالنسبة برده إن ساعات الواحد يجد شيوخ نحسبهم على خير و(كلمة غير مفهومة) حياتهم العادية حاجات مش كويسة يعني ؟
تطرح عليها سؤلا بحسن عرض في حسن أدب يا أستاذتي يا معلمتي أنا أبتلي بمجالس نساء تكون فيها الغيبة كثيرا يذكرن الغائبات بما يكرهن كثيرا فماذا أفعل أنا مع هذه النسوة التي أبتلي بالجلوس معهن واللبيب بالإشارة يفهم فلعل في هذا السؤال يكون فيه تذكرة لهذه المعلمة أن تقلع عن هذه العادة السيئة وهي عادة غيبة (كلمة غير مفهومة) الناس .
سؤال : بالنسبة للغلام اللي قتله الخضر عايزة أعرف أن السبب بس أن ممكن يموت طفل للواحد إنه ممكن يكون سبب للأذى ليه ولا هو ممكن يكون ابتلاء أنا ربنا رزقني بأربع أطفال وبيموتو في وقت معين ياترى ممكن يكون بسبب حقيقي سبب لكفر لينا أو أذى لينا ولا هو بس السبب دة ممكن يكون ابتلاء ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(11/21)
---(1/348)
لاشك أن موت الأولاد مصيبة ولكنها مصيبة عظيمة الأجر فقد صح في الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم ( أنه ما من مسلم يموت له ثلاثا من الولد لم يبلغوا الحلم إلا شفعوا فيه يوم القيامة ) وفي الحديث أنه إذا مات ولد العبد المؤمن قال الله تعالي لملائكته أقبضتوا روح ولد عبدي يقولوا نعم يقول ماذا قال عبدي يقولون حمدك واسترجع فيقول الله تعالي يا ملائكتي ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد ، فالصبر على موت الأولاد أجره عظيما جدا بإذن الله عز وجل والله سبحانه وتعالي أعلم بهم وبما كانوا عاملين كما قال النبي صلي الله عليه وسلم والنبي صلي الله عليه وسلم يقول لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وأهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة .
سؤال :
إذا كان الأب غير صالح فهل يضر الولد ، وهل يعاقبه ربنا في ولده إن كان الولد صالح ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
انتفاع الآباء بصلاح الأبناء والعكس هذا فضل الله سبحانه وتعالي والعدل أنه ? وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى?(الأنعام: من الآية164) ولذلك دفع لهذا الظن لما قال تعالي ?وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ?(الطور: من الآية21)لما ذكر الفضل دفع الظن الذي قد يقع كما سأل أخونا ?ٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ?(الطور: من الآية21) بما كسب من السيئات ، ? كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ?(الطور: من الآية21) فلا يحمل الأب وزر ابنه ولا يحمل الابن ورز أبيه ولكن من فضل الله تبارك وتعالي أن صلاح الآباء ينفع الأبناء وصلاح الأبناء ينفع الآباء .
سؤال :
ما معني قوله تعالي ? لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا ?(البقرة: من الآية104)؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(11/22)
---(1/349)
يقول تعالي في سورة البقرة ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا?(البقرة: من الآية104) راعنا بمعني أمهلنا انتظرنا فكانوا الصحابة رضي الله عليهم يقول راهنا بمعني أمهلنا وانتظرنا واصبر علينا وكانت اليهود الذين كانوا موجودين في المدينة يستعملون هذه الكلمة مع النبي عليه الصلاة والسلام ويريدون بها معني سيئا يؤذون به النبي صلي الله عليه وسلم فنهى الله تعالي المؤمنين عن التشبه باليهود حتى في الكلام فقال لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ما دمت تريدون بقولكم راعنا انظرنا فاتركوا راعنا سدا للذرائع حتى تغلقوا هذا الباب على اليهود الذي دخلوا منه على أذية الرسول وقولوا أنظرنا .
سؤال :
بما أنك تحدثت في بداية الدرس عن أدب الطالب مع العالم نريد نصيحة لبعض الشباب الذي لا يحترم العلماء وينقص من شأنهم ولا يأخذ بفتواهم التي فيها مصلحة عامة للأمة ويأخذ ما يوافق هواه مثلا إذا كان في أمر الجهاد إذا تكلم العالم بفتوى لا توافق هواه أو لا توافق هوي بعض الشباب لا يأخذها إلا إذا وافق هواه ، جزاكم الله خيرا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(11/23)
---(1/350)
نحن نؤكد دائما في دروسنا على الأدب وتقريبا تكررت نصيحتنا بأن يرى رسائل ثلاث في الأدب مرات ومرات وذلك أن الأدب شأنه عظيم اهتم به العلماء قديما وحديثا فكل من جمع حديث النبي صلي الله عليه وسلم سن كتابا في هذه السنن كتاب الأدب كما أن هناك كتاب الطهارة وكتاب الصلاة وكتاب الإيمان هناك كتاب الأدب والإمام البخاري رحمه الله من شدة حرصه على الأدب أفرض للأدب كتابا مستقلا فسماه كتاب الأدب المفرد وذلك من شدة حرصه رحمه الله على الأدب فنحن نصح الشباب بأن يتأدبوا تعلموا العلم وتعلموا للعلم الأدب لا يزال الشباب بخير ما التزموا بالمشايخ وما رجعوا إلي المشايخ وما رجعوا إلي كبار علمائنا فإذا ظن الشباب أنهم قد استغنوا عن مشايخهم فقد هلكوا والله ما ابتلي الشباب بشر إلا بشر بعدهم عن علمائهم واعتزالهم إياهم وزهدهم فيهم واتهامهم بأنهم لا يفقهون الواقع ولا يعلمون كذا ولا كذا ولا كذا هذا من سوء الظن بالعلماء وهذا من سوء الأدب فنسأل الله سبحانه وتعالي أن يصلحنا وشبابنا وأن يرزقنا وإياهم الأدب والعلم النافع .
سؤال :
لقد جاء في بعض التفاسير أن الغلام الذي قتله الخضر كان شابا وقد يطلق العرب لفظة غلام على من بلغ بدليل أن سيدنا موسى قال للخضر أقتلت نفسا بغير نفس فإن كان الغلام لم يبلغ لم يجب قتله بنفس وأيضا بدليل قراءة أبي وبن عباس وأما الغلام كان كافرا وكان أبواه مؤمنين والكفر والإيمان من صفات المكلفين ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لأبويه وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بعد البلوغ وأما الغلامان صاحبا الجدار فكانا تحت سن البلوغ لوصفهما باليتم أرجو من فضيلتكم التوضيح وجزاكم الله خيرا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(11/24)
---(1/351)
الحافظ بن حجر رحمه الله أجاب عن هذا حين قرأنا شرح الحديث في فتح الباري وقال أنه كان غلاما لم يبلغ الحلم وذكر مسألة هنا التكليف يكون قبل الكلم قال لعل هذا شريعة من كانوا قبلنا وليس بشريعتنا في شريعتنا رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم فالراجح أنه كان غلاما أي صبيا لم يبلغ الحلم بعد وخشي إذا هو بلغ أن يرهقهما طغيانا وكفرا فهذا ما رجحه الحافظ وهذا ما أجاب به كما قرأناه في الدرس السابق .
سؤال :
هل نستفيد من ذلك عدم التسرع في إنكار المنكر ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لا ليس في هذا أي دليل على أن يسكت الإنسان عما يراه من منكر بل من رأى منك منكرا فليغيره وليس لأحد في هذا الزمان أن يفعل ما ظاهره المنكر وما ظاهره الباطل ثم يقول لا تنكروا علي كما لم يمكر موسى على الخضر أنا أفعل أشياء ظاهرها شيء وباطنها شيء ليس هناك ظاهر وباطن في هذا الزمان ما فعله الخضر صرح بأنه وما فعلته عن أمري كان ظاهره مخالفا للشريعة ولذلك أنكره موسى عليه السلام لكن في الباطن والحقيقة كان الخضر متأولا في أفعال هذه بوحي الله تبارك وتعالي إليه فليس لأحد هذا الزمان أن يقتل أو أن يخرق سفينة أو أن يعيب صالحا أو أن يفسد صالحا ثم يقول لا تنكروا علي أنا عندي علم ليس عندكم هذا العلم الذي ليس عندنا إنما هو خاص بالأنبياء ولا نبي بعد محمد صلي الله عليه وسلم إذن قوله عليه الصلاة والسلام ( من رأي منكم منكرا هذا عام ، من رأي منكم منكرا فليغيره ) ولكن نقول كما وجه النبي عليه الصلاة والسلام فليغيره بيده وهذا في محل الولاية والسلطة فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وقد قال بعض السلف وقد سمع بحديث الحمد لله الذي جعل في الأرض سعة إن عجزت حتى عن تغير المنكر باللسان فأنكره بقلبك وأنت تبرأ بذلك ما دام الله يعلم أنك غير قادر على إنكاره باللسان .
سؤال :
(11/25)
---(1/352)
هل عند كتابة آيات القرآن للاستشهاد لابد أن تكتب كما هي في المصحف بنفس الحروف أم تكتب حسب النطق وجزاكم الله خيرا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
كلما اجتهد الطالب في حفظ القرآن برسمه رسم المصحف العثماني كان خيرا له ولكن إذا لم يحفظ الرسم وفي الامتحان كتب كما ينطق فلا حرج عليه إن شاء الله تعالي .
سؤال :
أنا طالبة علم وبأمس الحاجة لنصيحتكم أنا غير صبورة على طلب العلم ما هي الوسائل المعينة على ذلك ثم كيف أجاهد النية فينفل هذا الأمر أرجوك يا شيخنا دلني على الطريقة المثلي ل تهملوا رسالتي فالأمر جد خطير ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
أسأل الله أن يرزقنا وإياها حسن الخلق وحسن الأدب وأن يرزقها مزيدا من الصبر قال النبي صلي الله عليه وسلم ( ومن يتصبر يصبره الله ) فالذي لا يجد في نفسه صبرا على طلب العلم ولا صبرا على البلاء ولا صبرا على الطاعة ولا صبرا على المعصية عليه أن يتصبر ? رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ?(الأعراف: من الآية126)والنبي يقول ( ومن يتصبر يصبره الله ) فعلينا أن نلح على الله تعالي بالدعاء وأن نمارس أنفسنا ونجاهدها ونراوضها على الصبر على المشاق كلها كما قال النبي صلي الله عليه وسلم ( إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم ) فعلى الإنسان أن يتفقد جميل الأخلاق ومحاسن الآداب فما يفقده من نفسه فعليه أن يستجلبه بالمراودة والمجاهدة والله تبارك وتعالي يقول ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ? (العنكبوت:69) .
سؤال :
بينت لنا آداب الطالب مع العالم فهل تذكر لنا صفات العالم لأنه قد ظهر على الساحة كثيرا من الناس يدعون العلم ويفتون بما لم ينزل به سلطانا ولا حول ولا قوة إلا بالله ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(11/26)
---(1/353)
العالم الذي نؤكد على احترامه وتوقيره وإتباعه هو كما ذكر السلف العالم الرباني ولا يكون العالم ربانيا إلا إذا تعلم العلم وعمل به في نفسه وعلمه غيره فمن تعلم وعمل وعلم فذلك يدعى في ملكوت السماوات عظيما فهذا هو العالم الرباني الذي يجب علينا أن نحترمه أن نجله واحترامه هذا من الإسلام وتبرا النبي عليه الصلاة والسلام من الذين لا يحترمون العلماء كما ذكرنا .
سؤال :
أين كان أصحاب السفينة حين خرقها الخضر وهل رأوه ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
نعم كانوا في السفينة القادة يسألون عن سفينة ورأوه ولكنهم صبروا عليه ثم حمدوه وشكروه بعد ما العلة وهي ? وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً?(الكهف: من الآية79) .
سؤال :
هل يجوز أن أقطع وعدا وأقدم المشيئة وأنا أنوي عكس ما وعدت به وجزاكم الله خيرا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لا هذا لا يجوز الكذب المتعمد مع سبق الإصرار أن تقول سآتيك وأنت تنوي ألا تأتيني هذا كذب لا يجوز أن يتصف به المسلم حتى لو قال إن شاء الله لبد أن ينوي الفعل ويعزم عليه ويرد ذلك إلي مشيئة الله فإن كان صادقا عازما على الوفاء وصادقا في عزمه ثم لم يستطع الوفاء يغتفر له أنه لم يأتي لكن أن يعد وفي نيته ابتداء إلا يفي هذا لا يجوز أن يتصف به المسلم .
سؤال :
هل يجوز وضع المصاحف وكتب العلم أثناء التدارس على الأرض في المسجد إذ ليس هناك ما نرفعه عليه ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لا مانع أثناء المدارسة ونحن في حلقة قرآن في المسجد نقرأ القرآن ونتعلم ونتدارس والمصحف في يدي أرهقت يدي من حمل المصحف لا مانع إذ لم يكن عندي حامل أن أضعه على الأرض أمامي أثناء القراءة واثناء النظر والمتابعة أو كتاب تفسير أو كتاب حديث أو ذلك فإذا انتهت الحلقة انتهينا حملنا مصاحفنا وكتبنا ورفعناها إلي أماكنها اللائقة بها .
سؤال :
هل تجب كفارة مع قوله إن شاء الله ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(11/27)
---(1/354)
لا من بركة إن شاء الله أنه إذا قال والله لأفعلن إن شاء الله ثم لم يفعل من بركة إن شاء الله أنها ترفع عنه كفارة .
سؤال :
في قول الله تعالي ?فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ?الكهف: من الآية77 في لفظة يريد ألا تحمل هذه اللفظة على أنها كناية على أن الجدار كاد أو أوشك أن ينقض وهل قول الله تعالي ? وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ? (الإسراء: من الآية44)يستلزم منا أن نثبت تلك للجمادات الإرادة فمعني لو أثبتنا للجمادات الإرادة معني ذلك أن نثبت لها مثلا الحب والخضوع والإقبال وغيرها من الصفات ولو أثبتا لها هذه الصفات لزم أن نثبت لها العقل ولو أثبتنا لها العقل لزم أن تحاسب كما يحاسب الأحياء ممن وهبه الله العقل نرجوا التوضيح وجزاكم الله خيرا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
هذا الأخير بارك الله فيك لكن صفة الحب أثبتها النبي صلي الله عليه وسلم ألم تسمع أن النبي قال أحد جبل يحبنا ونحبه ألم تسمع بهذا الجبل يحب يحبنا ونحجبه فله إرادة وله عقل وله إدراك كما يليق به .
سؤال :
لماذا لم يصبر موسى عليه السلام رغم أنه وعد الخضر بذلك ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لأنه رأى ما لا يطيق الصبر عليه فنفذ صبره .
سؤال :
هل التقدير الذي في الآية يأخذ كل سفينة غصبا هل هذا ما نسميه الحذف بالإيجاز أكرمكم الله ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لا أدرى السؤال ولا أدري الجواب والله أعلم .
سؤال :
قلت يا شيخ أن المعجزة تخص الأنبياء وأن الكرامات تخص الأولياء هناك يا شيخ رسائل تأتي في الجوال تقول أن رجلا رأي النبي صلي الله عليه وسلم في المنام فقال له اقرأ أمتي مني السلام ثم يقول أرسلها لعشرة أشخاص فمن يفعل ذلك يجد أمرا يسره ومن لم يفعل يجد أمرا يحزنه فهل هذا صحيح يا شيخ ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(11/28)
---(1/355)
للأسف أن عامة المسلمين عاطفيين ، ما وراء العواطف في عقيدتهم وفي دينهم هذه الرسائل في الجوال هذه الأيام أشبه ما تكون برسالة الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية اللي هي تقريبا في من كل موسم ما يسمونه ، هذه البدعة وراء الرسول وقال له الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال أحد أن الرسول أتاه ونصحه بخير في المنام وأمره أن يبلغه الناس هذا في الحقيقة يتهم النبي بالكتمان كون النبي مات ولم يبلغنا هذا الخير في حياته مات ولم يبلغ وهذه مصيبة أن يتهم النبي بالكتمان ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه? (المائدة: من الآية67) ما مات عليه ، عليه الصلاة والسلام إلا بعد أن بلغ دينه كما أوحاه الله تعالي إليه بلا زيادة ولا نقصان فإذا يجيء جاء ويقول رأيت في المنام أتاني الرسول في المنام فقال أخبر الأمة أن يفعلوا كذا حتى يصله الخير ولا يفعل كذا حتى لا يصله الشر هذا كذب وهراء لا يجوز للمسلمين أن يجروا وراء نشر هذه الغوائيات والكذب والدجل .
سؤال :
المسكين هو من ليس له دخل يكفيه فما ضابط الكفاية وهل تشمل الضروريات فقط أم يدخل فيها الحاجيات والتحسينات ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
أقلها الضروريات لأن الضرورة ما إذا فقد أصاب الناس حرجا ومشقة في حياتهم وأما الكماليات والتحسينيات فلا يصيب الناس بفقدها حرجا ومشقة وإن كان يجدون بعض الحرج لكن لا يصيبهم حرج ومشقة كما يصيبهم إذا فقدوا الضرورة فهو ما لا يجد ما لا يكفيه لضرورياته .
سؤال :
علمنا أن الخضر عليه السلام نبيا فلمن أرسل الخبر ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لم يسمى الله تبارك وتعالي قوم الخضر ولم يذكر عنه أي شيء في كتابه إلا في هذا الموضع فقط والله تبارك وتعالي قال ?وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ?(النساء: من الآية164) .
سؤال :
(11/29)
---(1/356)
هل كان الفتي مع موسى عليه السلام حين صحب الخضر عليهما السلام ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
سكت الله تبارك وتعالي عن ذكر الفتي بعد أن صحب موسى الخضر ولكنه في الغالب كان معهما لما أين يتركه موسى .
سؤال :
في زماننا هذا نجد الكثير من الناس قد علت منازلهم أطواق استقبال الفضائيات ولديهم التلفاز والهاتف وكثير من الأمور غير الأساسية للحياة بل ومنها المحرم فيكون دخلهم لا يكفي هل نعتبرهم مساكين ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
هذا مما عمت به البلوى للأسف نسأل الله السلامة والعافية يغني تجد الرجل لا يجد ما يأكله ومع ذلك يؤثر أن يشتري مثل هذه الأشياء فأما مما عمت به البلوى فنقول صاحب الأموال صاحب الزكاة صاحب الصدقة يبدأ بتحري الصالحين من عباد الله الذين يستعينون بمال الله على طاعة الله قم إذا بقي عندهم مال فائض عن حالة الصالحين فاليبدأ بالذين يلونهم ثم الذين يلونهم أما لو قلنا إذا من كان عنده تلفاز لا يعطى من الزكاة إذن لن تجد من يقبل زكاتك ويريد الفقير الذي يقبل الزكاة في الأصل رحمة بالغني أن يكون هناك فقير يقبل الزكاة ولذلك حثنا النبي صلي الله عليه وسلم على المبادرة بالصدقة قبل أن يأتي يوم بصدقته فلا يجد من يقبلها .
سؤال :
لماذا كان الخضر هو السبب الذي أرسله الله لكي يقبض أجل الولد ، ولماذا لم يجعل سبب موته بعيدا عن الخضر مثلا أن يغرق ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
نقول يا أخوان أذكروا دائما قال الله عن نفسه ?لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ? (الانبياء:23)
فالقضاء والقدر هذا لا يسأل عنه لماذا لم يكن كذا ولماذا لم يكن كذا ولماذا كان هذه محل هذا فهذا لا يسأل ?لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ? (الانبياء:23)
سؤال :
إرادة الجدار هل تدل على وجود المجاز في القرآن وما الأحكام المترتبة على ذلك؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(11/30)
---(1/357)
لا نحن فسرنا الإرادة على ظاهرها حتى نهرب من المجاز ومن أراد أن يقف على هذه الحقيقة فليراجع تفسير أضواء البيان للشيخ الشنقيطي رحمة الله عليه فله كلام طيب جدا في مسألة المجاز هذه فنحن فسرنا الإرادة على حقيقتها حتى نهرب من القول ووجود المجاز في القرآن الكريم ؟
سؤال :
هل من الممكن أن نتصدق على الكفار مع أنهم من الممكن أن يشتروا المحرمات أو ربما الأفضل شراء الطعام أو أشياء لهم أليس كذلك جزاكم الله خيرا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
قال النبي صلي الله عليه وسلم تصدقوا على أهل الكتاب وهذا من سماحة الإسلام ويسر الإسلام أن النبي صلي الله عليه وسلم أمر المسلمين أن يتصدقوا على غير المسلمين تصدقوا أهل الكتاب والمراد بالصدقة هنا هي صدقة التطوع وليس بالزكاة فإن النبي صلي الله عليه وسلم قال في الزكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم لكن قوله عليه الصلاة والسلام تصدقوا على أهل الكتاب المراد صدقة تطوع فإذا رأيت كتابيا بحاجة وخشيت إذا أعطيته مالا أن يسيء استعماله فاشترى له ما تراه بحاجة إليه من الطعام والكسوة وغير ذلك لا حرج في ذلك .
سؤال :
هل كل مولود يولد على الفطرة ولم يبلغ الحلم يدخل الجنة فإذا كان الجواب بنعم فهل هذا الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام من هؤلاء ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
سئل النبي صلي الله عليه وسلم عن أطفال المشركين الذين يموتون قبل أن يبلغوا الحلم في الجنة أم في النار قال الله أعلم بما كانوا عاملين فهذا الحديث يشمل هذا الغلام الذي قتله الخضر الله أعلم بما كانوا عاملين ؟
سؤال :
(11/31)
---(1/358)
كيف نوفق بين حديث الجساسة والذي رواه مسلم والذي تحدث عن قصة (كلمة غير مفهومة) عن المسيح الدجال في تلك الجزيرة مع الجساسة والذي من نص الحديث إني مخبركم عني إني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في القرية إلي آخر الحديث وبين الحديث الذي استدللنا عليه بأن الخضر لا يمكن أن يكون حيا لأن الجيل هذا لن يكون حيا يبعد مائة سنة وجزاكم الله خيرا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
قلنا أن قوله صلي الله عليه وسلم أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأسي مائة سنة لا يبقي ممن هو على ظهر أحد هذا لفظ عام ، أن يخصص إلا بمخصص صحيح فحديث تميم الداري في قصة الجثاثة حديث صحيح فخص هذا العام خرج الدجال من هذا العموم لهذا النص الصريح وأما الخضر فليس هناك نص صحيح صريح في بقائه فلذلك أدخلناه في عموم الحديث ؟
سؤال :
بالنسبة لقصة الجدار ألا يتبين لنا أن الله لطيف باليتيمين هنا نرى الصفة بأعيننا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
جزاه الله خيرا ونرجوا أن نستفيد جميعا وألا نقلق على مستقبل أبنائنا كما شرحنا ولنتق الله ولنتركهم لله بعد مماتنا كما تولاهم في حياتنا .
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
(11/32)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:(1/359)
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم مرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة الكهف.
ومع القصة الثالثة التي قصها الله - تبارك وتعالى – علينا في هذه السورة وهي قصة ذي القرنين، وقد تضمنت الآيات المباركات من المعاني ما يلي :
أولاً : من السائلون عن ذي القرنين؟
ثانياً : هدي القرآن في القصص التركيز على مواطن العبر ؟
ثالثاً : من هو ذو القرنين ؟
رابعاً : هل كان ذو القرنين نبياً أم عبداً صالحاً ؟
خامساً : فضل الله على ذي القرنين .
سادساً : الحث على علو الهمة .
سابعاً : الرحلة الأولى لذي القرنين .
ثامناً : الرحلة الثانية .
تاسعاً : الرحلة الثالثة .
وأخيراً : من علامات الساعة خروج يأجوج ومأجوج .
وهذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات التي معنا اليوم من سورة الكهف من المعاني فلنستمع إلى هذه الآيات المباركات أولاً قبل الخوض في تفاصيلها، سائلين الله - عزّ وجلّ – أن ينجز لنا ما وعدنا، حيث قال: ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?[الأعراف: 204]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(12/1)
---(1/360)
? وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ?83 ? إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ?84 ? فَأَتْبَعَ سَبَبًا ?85 ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ?86 ? قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ?87 ? وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ?88 ? ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ?89 ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ?90 ? كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ?91 ? ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ?92 ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ?93 ? قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ?94 ? قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ?95 ? آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ?96 ? فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ?97 ? قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ?98 ?
(12/2)(1/361)
---
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ?99 ? وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ?100 ? الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ?101 ? ?[الكهف:60-70].
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ?[ص: 29].
?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الحشر:21 ].
?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر: 23].
? وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ? من السائلون الذين سألوا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذي القرنين ؟
يحتمل أن يكونوا كفار قريش، ويحتمل أن يكونوا اليهود، ويحتمل أن يكون كفار قريش أوعزوا إلى اليهود أن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ، والعكس كذلك محتمل أن يكون اليهود هم الذين أرسلوا إلى كفار قريش فقالوا لهم سلوه عن ملكٍ مَلَكَ البلاد . عن ذي القرنين .
(12/3)
---(1/362)
? وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ? يسألونك عن حاله، وخبره ،وأمره، لا يسألونك عن اسمه ونسبه وحَسَبِه وهيئته إنما يسألونك عن حاله وشأنه وخبره وأمره ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ? قل لهم يا نبينا وهذا هو التقدير الواجب عند تقدير المحذوف الذي خوطب بالخطاب مِن الخطأ أن تقول قل يا محمد لأن الله - سبحانه وتعالى – لم يخاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم – باسمه المجرد أبداً فمن الخطأ أن تقول قل يا محمد بل تقول قل يا نبينا، بل تقول قل يا نبينا قل لهم يا رسولنا، قل: سأتلوا، أي: سأقرأ عليكم منه أي: من خبر ذي القرنين ذكراً أي قرآناً، لن أجيبكم بشيء من عندي وإنما سأتلوا عليكم منه ذكراً أي قرآناً أنزله الله عليّ وأوحاه إليّ .
فإذا كان الجواب من الله - سبحانه وتعالى – فلا شك أنه أحسن الجواب وإذا كان القول من الله - سبحانه وتعالى – فلا شك أنه أصدق القول وقد استفتح الله - تبارك وتعالى – القصة الأولى في السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف بقوله ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ? [الكهف:13].
فحين يقول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم – ? قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ?83 ? ? أي سأنبأكم عن أخباره بالقرآن الذي أوحاه الله تعالى إلي فهو خبر صدق لا يقبل التكذيب ولا يقبل الشك أبداً، ? قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ?83 ? ? .
ودائماً نقول:إن من هدي القرآن الكريم في القصص أنه لا يعنى بالأزمنة ولا بالأمكنة ولا بأسماء الأشخاص كما لا يعنى بالأحداث والوقائع، ولا يتتبعها تتبعاً، فالقرآن ليس كتاب تاريخ وإنما القرآن يقص علينا من القصص ما فيه الذكرى والعبرة والعظة .
(12/4)
---(1/363)
ولذلك قال ? قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ?83 ? ? فإن ذكر الأزمنة والأمكنة وأسماء الأشخاص لا يترتب عليه كثير فائدة والقرآن يريد بما يقصه على الناس من أحسن القصص أن يأخذوا من هذا القصص الدروس والعبر والعظات والفوائد ولذلك قال الله - تبارك وتعالى – في خاتمة سورة يوسف التي سماها أحسن القصص ? لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ?[يوسف:111].
? قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ?83 ? ? إذاً من هو ذو القرنين ما اسمه؟ ما نسبه؟ ما حسبه؟ ما الزمان الذي عاش فيه؟ أين عاش على وجه الأرض ؟
كل هذه الأشياء سكت عنها ربنا - سبحانه وتعالى – ولم يخبر بها نبيه - صلى الله عليه وسلم – لقلة الفائدة المترتبة عليها فلماذا لقب بذي القرنين ؟
أيضاً ذكر المفسرون في ذلك أقوالاً كثيرة وكثرتها تدل على اضطرابها لعدم وجود دليل صحيح يثبت ما سر هذا اللقب لذي القرنين.
هل كان ذو القرنين نبياً أم كان عبداًَ صالحاً ؟
ذهب البعض إلى أن ذا القرنين كان نبياً ومما استدلوا به على نبوته قول الله - تبارك وتعالى – ? إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ?[الكهف:84].
قالوا والتمكين يكون للدين ويكون في الدنيا. وأجلُّ نعم الله - سبحانه وتعالى – الدينية هي النبوة فقوله تعالى ? إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ? يدل على نبوته وكذلك استدلوا على نبوته بقول الله - تبارك وتعالى - ? قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ?[الكهف:86] قالوا: الله - سبحانه وتعالى – كلمه قال ? قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ? فهذا الكلام من الله له يدل على نبوته.
والحقيقة أن هذه الأقوال ليست في القوة كالأدلة التي استدللنا بها على نبوة الخضر – – عليه السلام - .
(12/5)
---(1/364)
أما الدليل الأول: وهو التمكين في الأرض، فالتمكين في الأرض لا يكون للأنبياء وحدهم بل يكون للأنبياء وأتباعهم من عباد الله المؤمنين الصالحين ولذلك قال الله تعالى ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ?[النور:55].
فالتمكين في الدين لا يكون للأنبياء وحدهم وإنما يكون للأنبياء وأتباعهم المؤمنين عباد الله الصالحين، فلا يصلح هذا الدليل للإستدلال به على نبوة ذي القرنين.
وأما الدليل الثاني: وهو قول الله - تبارك وتعالى – له ? قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ? فإن هذا القول لا يستلزم أن يكون الكلام مخاطبةً من الله - تعالى - لذي القرنين وإنما يحتمل أن يكون هذا القول من الله لذي القرنين عن طريق نبي ذلك الزمان الذي كان يعيش فيه ذو القرنين، كما قال الله - تبارك وتعالى – عن بني إسرائيل: ? وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ?[النساء:154].
ولم يقل أحد: إن هذا القول من الله - تبارك وتعالى – لبني إسرائيل كان مواجهة من الله لهم، وإنما هذا القول قاله الله - تبارك وتعالى – لبني إسرائيل عن طريق موسى- كليمه ورسوله – عليه الصلاة والسلام - .
(12/6)
---(1/365)
ثم إن أعلى ما يمكن أن يقال في قوله تعالى ? قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ? إن لم يكن بواسطة نبي ذلك الزمان، فإنه يكون بواسطة الإلهام، ألهمه الله - تبارك وتعالى – هذا القول . والإلهام لا ينتهض أن يكون دليلاً لمن ألهم هذا القول؛ فإن الله - سبحانه وتعالى – سمى الإلهام الذي ألهمه أم موسى وحياً ? وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي ? [القصص:7].
فهذا الوحي لم يكن وحي نبوة وإنما كان وحي إلهام ومع ذلك لم يقل أحد من الناس إن أم موسى كانت نبية .
فالراجح من أقوال المفسرين: أن ذا القرنين لم يكن نبياً ولكن كان ملكاً صالحاً من أولياء الله الصالحين .
? وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ?83 ? إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ? وأتيناه من كل شيء يحتاجه لتوطيد ملكه وتثبيت مملكته آتيناه من كل شيء يحتاجه في المملكه سبباً يتبعه لتثبيت ملكه وتثبيت عرشه .
وذلك كما قال الهدهد لسليمان – عليه السلام – عن بلقيس ? وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ?[النمل:23].
أوتيت من كل شيء يحتاجه الملوك لتثبيت مملكتهم وتثبيت عرشهم .
(12/7)
---(1/366)
فالله - سبحانه وتعالى – تفضل على ذي القرنين بالتمكين في الأرض وبإعطاءه من كل شيء يحتاج إليه لذلك سبباً ? فَأَتْبَعَ سَبَبًا ?85 ? مع أن ذي القرنين كان ملكاً إلا أنه لم يُقصر في الأخذ بالأسباب وإنما اغتنم الأسباب التي هيأها الله - تبارك وتعالى – وأخذ بها وتوكل على الله - سبحانه وتعالى – فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله - عزّ وجلّ – ولا يجوز لأحد أن يترك الأخذ بالأسباب المشروعة ويزعم أنه متوكل على الله - تبارك وتعالى – فإن سيد الأنبياء محمداً - صلى الله عليه وسلم – كان سيد المتوكلين ومع ذلك كان يعد لكل شيء عدته، ويأخذ لكل شيء سببه الذي جعله الله - تبارك وتعالى – سبباً له .
فالأخذ بالأسباب واجب واغتنام الفرص المتاحة أيضاً واجب، فإن ذا القرنين لما هيأ الله - تبارك وتعالى – له الأسباب أخذ بها حتى بلغ ما بلغ من الرفعة والتمكين في الأرض . فأنت أيها الإنسان إذا تهيأت لك أسباب الأشياء النافعة الصالحة فلا تضييعها واغتنم هذه الفرص وخذ بهذه الأسباب، فإن ترك الأخذ بالأسباب المتاحة التي تمكنك من الوصول إلى ما يمكن الوصول إليه من العلو، والرفعة، والعزة، والتمكين في الأرض، ترك الأخذ بالأسباب المتاحة عيب رآه الشاعر الحكيم لا عيب مثله فقال :
ولم أرى في عيوب الناس عيباً كعجز القادرين على التمام .
(12/8)
---(1/367)
إذا مكن الله لك في الأرض وهيأ لك الأسباب مثلاً في طلب العلم ، فمن الخور،والضعف، والمهانة، والكسل المذموم أن تقعد على الأخذ بهذه الأسباب ولا تسعى في طلب العلم حتى تبلغ فيه مبلغه، وإذا هيأ الله لك أسباب الرقى والتقدم والرفعة فلم تأخذ بها وخلدت إلى الأرض وغلبت عليك البطالة والكسل ، فإن هذا أيضاً مذموم . يجب علينا أن نغتنم الفرص، وأن نأخذ بالأسباب التى أتاحها الله - سبحانه وتعالى – لنا نأخذ بالأسباب التى أتاحها للتعلم، ونأخذ بالأسباب التي أتاحها للتمكين في الأرض، ونأخذ بالأسباب التي أتاحها للرفعة والظهور والغلبة ، وأن نكون من أقوى الناس .
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – حثنا على علو الهمة حين قال:( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة ) هكذا يعلمنا النبي – صلى الله عليه وسلم – علو الهمة ( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وسقفه عرش الرحمن ) لكنه للأسف ترك كثيرٌ من المسلمين همتهم ضعيفه بل ميتة يقول لك القائل: يقول الله تعالى
? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ?[آل عمران:185] فحسبنا أن نزحزح عن النار .
ما هذه الهمة الضعيفة ؟ ما هذه الهمة الميتة ؟ النبي – صلى الله عليه وسلم – يحثك على علو الهمة ، وقوة الرجاء في رحمة الله - تبارك وتعالى - ( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وسقفه عرش الرحمن ) .
فالله - سبحانه وتعالى – تفضل على ذي القرنين بالتمكين في الأرض ، وآتاه الأسباب التي تعينه على تثبيت مملكته ودوام ملكه ? إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ?84 ? فَأَتْبَعَ سَبَبًا ?85 ? ? .
أخذ ذو القرنين بالأسباب التي أتاحها الله - سبحانه وتعالى – له وقام بثلاث رحلات :
(12/9)
---(1/368)
كانت الرحلة الأولى إلى الغرب والثانية إلى الشرق، والثالثة قال الله تعالى ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ? .
? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ? هذه هي الرحلة الأولى التي قام بها ذو القرنين ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ? المغرب : اسم مكان للمكان الذي تغرب فيه الشمس، ومغرب الشمس: يختلف في كل مكان من حيث الرائي فأنت في أي مكان تقف فيه ساعة الأصيل ساعة تتضيف الشمس للغروب يخيل إليك أن الشمس غربت في المكان الذي أنت فيه .
إذا كنت في ساعة الغروب على البحر ترى الشمس سقطت فيخيل إليك أنها سقطت في البحر وإذا كنت ساعة الغروب في الصحراء المترامية الأطراف لا ترى شيئاً على مد بصرك يخيل إليك أن الشمس غربت في الرمال .
وإذا كنت داخل المدينة عن يمينك عمارات وعن شمالك عمارات ونظرت ساعة الغروب يخيل إليك أن الشمس تغرب خلف العمارة فهذا معنى ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ? أي بالنسبة له ورؤيته لها في هذه الساعة ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ? الحَمِئَة: مؤنث الحَمَأ والحَمَأ هو الطين اللازب الذي خلق الله - تبارك وتعالى – منه الإنسان قال تعالى ? وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ?[الحجر:26].
وقال تعالى ? فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ?[الصافات:11].
والطين الازب :هو الطين الذي يلصق بعضه ببعض والطين الذي يلصق باليد حين تأخذ به فهذا هو الحمأ هو الطين اللازب .
(12/10)
---(1/369)
وهو الطين الذي يلصق بعضه ببعض، ويلصق باليد إذا أخذته، ونحن إذا رأينا مكان ماء جف منه الماء ترى الطين الباقي في المكان الذي جف منه الماء تراه أسود ناعماً ملساًَ فهذا هو الحمأ. ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ? عند هذه العين قوماً فمكنه الله - سبحانه وتعالى – منهم مكن الله تعالى ذا القرنين من القوم الموجودين عند هذه العين التي رأى الشمس تغرب فيها فقال الله - تبارك وتعالى – له ? قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ?86 ? إما أن تعذب هؤلاء الناس ، و إما أن تتخذ فيهم حسناً بالعفو عنهم، ولا شك أن من قدر على تعذيب إنسان ثم عفا عنه لا شك أنه بهذا العفو قد أحسن إليه فالله - سبحانه وتعالى – خير ذلك الملك الصالح - ذا القرنين - في هؤلاء القوم الذين وجدهم، ? قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ?86 ? يعني بالعفو عنهم .
انظر ماذا كان جواب الملك الصالح تأمل هذا الجواب الذي يدل على العدل والإنصاف، ? قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ? والمراد بقوله أما من ظلم، أما من ظلم نفسه بالكفر بالله والشرك به ورفض قبول دعوته له إلى الإسلام والإيمان، أما من ظلم نفسه بالكفر والشرك وأصر عليه ورفض الدعوة إلى الإسلام والإيمان ? أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ? فسوف نعذبه بأيدينا في الدنيا عذاباًً شديداً ثم يرد إلى ربه في الأخرة فيعذبه عذاباً نكراً .
(12/11)
---(1/370)
? وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ?88 ? من قبل دعوتنا إلى الإيمان ، من قبل دعوتنا إلى الإسلام،من قبل دعوتنا إلى التوحيد ? وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ? والحسنى هي الجنة كما قال الله تعالى ? لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى ? [الرعد:18].
وكما قال الله تعالى ? لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ?[يونس:26] والحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الله - عزّ وجلّ – .
قال ? وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ?88 ? سنقول له قولاً يسيراً سنقول له كلمة طيبة نقول له جزاك الله خيرا، تقبل الله منك أحسن الله إليك.
وانتبه هنا للتقديم والتأخير في الجزائين، لما ذكر ذو القرنين الجزاء الأول جزاء من كفر وظلم نفسه بالكفر بدأ بعذابه هو وأخر ذكر عذاب الآخرة، ولما ذكر جزاء من آمن وعمل صالحاً قدم ذكر جزاء الآخرة وأخر ذكر جزاء نفسه هو .
? قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ?87 ? فتعذيب ذي القرنين للظالمين الكافرين المشركين هو العذاب الأدنى لأن تعذيب ذو القرنين دون عذاب الله - تبارك وتعالى – يوم القيامة فإن الله تعالى قال ? فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ?25 ? وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ?[الفجر:25-26].
ولذلك قال ? وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ?[القلم:33].
وقال تعالى ? وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ?[الرعد:34].
(12/12)
---(1/371)
فبدأ ذو القرنين في ذكر الجزاء للظالمين بالعذاب الأدنى وأخر العذاب الأكبر وأما في جزاء المؤمنين الصالحين الذين قبلوا الدعوة واتبعوه على الإيمان بالله، وأسلموا معه لله - عزّ وجلّ – فبدأ بذكر الجزاء الأعظم جزاء الآخرة وأخر جزاءه هو .
قال ? وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ?88 ?
وفى هذا الجواب من الملك الصالح - ذي القرنين - رضي الله عنه – تعليم للملوك إذا فتحوا البلاد أن يحترموا أهلها وأن ينصفوهم من أنفسهم وألا يسعوا في الأرض فساداً بالقتل والنهب والسلب وانتهاك الأعراض، كما قالت ملكة بلقيس ? قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ? وأقرها الله - عزّ وجلّ – على ذلك الوصف فقال ? وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ? [النمل:34].
فالملوك الجائرون ، الملوك الظالمون إذا فتحوا بلاداً تسلطوا على أهلها فساموهم سوء العذاب شردوهم تشريداً، وقتلوهم قتلا انتهكوا أعراضهم وسلبوا أموالهم وسبوا نساءهم وذراريهم، لكن الملك الصالح - ذا القرنين يقول ? أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرً?87 ? وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ?88 ?.
كذلك في هذا الجواب تعليم للملوك الذين يمكن الله - تبارك وتعالى – لهم في الأرض أن من الواجب عليهم أن يشكروا من أحسن، وأن يعاقبوا من أساء وأن يقربوا منهم المحسنين وأن يطردوا عنهم المسيئين قال: وأما من آمن وعمل صالحاً فله من الله - تبارك وتعالى – في الآخرة جزاء هو الحسنى وسنقول له من أمرنا نحن يسراً، كلاماً طيباً نشكره على ذلك، جزاك الله خيراً أحسن الله إليك تقبل الله منك، ونحو هذا الكلام الطيب.
(12/13)
---(1/372)
فالملك الصالح هو من يشكر للمحسن إحسانه ويعاقب المسيء على إساءته . الملك الصالح: هو الذي يجعل بطانته من عباد الله الصالحين، المؤمنين المحسنين الطيبين المتقين، ويطرد عنه المسيئين فإن بهذه السياسة تصلح الأرض ويصلح أهله . وحين يرى الناس أن الملك لا يقرب منه إلا الصالحين سيجتهدون في الصلاح، وحين يرى الناس أن الملك يطرد عنهم المسيئين لن يحاول أحد أن يسيء لأن كل الناس يحبون القرب من الملك .
? ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ??89 ? للمرة الثانية يؤكد الله - تبارك وتعالى – على أخذ ذى القرنين بالأسباب واغتنامها مع التوكل على الله - سبحانه وتعالى – ثم أتبع سبباً فجاء من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ?90 ? ? .
إذا وجد هؤلاء الناس الشمس تطلع عليهم وليس عندهم شيء يكنهم ولا يسترهم ولا يواريهم من الشمس منذ طلوعها إلى غروبها وهم متعرضون لها ? وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ?90 ? كَذَلِكَ ? .
ما معنى قول ربنا ? كَذَلِكَ ? ؟ كذلك مكناه من القوم الذين وجدهم عند مطلع الشمس كما مكناه قبل من القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس .
(12/14)
---(1/373)
ذو القرنين حين بلغ مغرب الشمس مكنه الله - تبارك وتعالى – من القوم الذين وجدهم عندها ? قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ?86 ? ? لما قال ? ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ?89 ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ?90 ? ? قال الله تعالى ? كَذَلِكَ ? أي كذلك مكناه من هؤلاء القوم الذين وجدهم عند مطلع الشمس، كما مكناه من قبل من القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس، أي قلنا له أيضاً يا ? يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ? وكان جوابه في الثانية هو جوابه في الأولى ? قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ?87 ? وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ?88 ? ?.
قوله تعالى ? وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ?91 ? ?.
يعني أن رحلة ذو القرنين إلى الشرق وإلى الغرب وما فعل بالناس في الشرق وما فعل بالناس في الغرب كل ذلك كان بمرأى ومسمع وعلم من الله - تبارك وتعالى - ? وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ?91 ? ? أي:أحطنا خبراً بأحوال ذي القرنين كلها فلم يخفَ علينا شأن من شئونه ولا أمر من أموره لأن الله - سبحانه وتعالى – لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، بل هو - سبحانه وتعالى – قد أحاط بكل شيء علماً ووسع كل شيء علماً .
? وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ?91 ? ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ?92 ? ?.
(12/15)
---(1/374)
للمرة الثالثة يؤكد الله - تبارك وتعالى – على أخذ ذي القرنين بالأسباب ويمدحه على ذلك تعليماً لنا للأخذ بالأسباب والتوكل على الله - سبحانه وتعالى – فلا ينافي التوكل الأخذ بالأسباب أبداً، تأخذ بالأسباب المتاحة، وتتوكل على الله - سبحانه وتعالى – في ترتب النتائج التي على هذه الأسباب التي أخذت بها .
? حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ?93 ? ?.
حتى إذا بلغ بين السدين المراد بالسدين جبلين متجاورين بينهما فتحة وجد أمام السدين قوماً يسكنون ، فقراء، ضعاف، مساكين، الفقر ظاهر عليهم والضعف بادٍ عليهم ووجد من وراء السدين قوماً جبابرة طغاة ظالمين ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ?93 ? ? لغتهم غير لغته لسانهم غير لسانه فهم لا يكادون يفقهون قوله ولكن من فضل الله على ذي القرنين أنه أعطاه القدرة على فهم مراد هؤلاء الناس، مع أن لسانهم غير لسانه ولغتهم غير لغته إلا أنه بفضل الله استطاع أن يفهم ماذا يريدون .
? قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ?94 ? ?.
لما مر ذو القرنين - رضي الله عنه – على هؤلاء القوم الذين هم دون السدين ورأوه رأوا أبهة ورأوا عظمة ورأوا ملكاً كبيراً في ملك عظيم، فعلموا أن هذا الملك قادر على أن يكفيهم شر الناس الذين وراء السدين .
? قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ? يأجوج ومأجوج مأخوذان من مادة النار لأنك تقول أججت النار يعني أوقدتها وأسعرتها وأشعلتها .
فسميت هاتان القبيلتان يأجوج ومأجوج لكثرة شرهما وفسادهما وضررهما والعياذ بالله ؟
(12/16)
---(1/375)
من هم يأجوج ومأجوج ؟ هل هم عالم آخر غير عالم الإنس وعالم الجن وعالم الملائكة ؟
أما حقيقة يأجوج ومأجوج وما أصلهم ؟
يأجوج ومأجوج للأسف هم إخواننا في الآدمية، فهم من أولاد آدم – عليه السلام – كما في الحديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال ( يقول الله تعالى لآدم يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك يقول ابعث بعث النار من ذريتك، فيقول يا رب كم ؟
فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين في النار وواحد في الجنة )
قال - صلى الله عليه وسلم – فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد .
فكأن ذلك ثقل على الصحابة فقالوا يا رسول الله وأينا ذلك الواحد ؟
تسعمائة وتسعة وتسعين في النار وواحد في الجنة أينا ذلك الواحد ؟
فقال ( منكم الواحد ومن يأجوج ومأجوج الألف ) .
فدل هذا الحديث على أن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم لكنهم يختلفون سبحان الله في الخلقة وفى الطبيعة وفى الفطرة فهم قوم قد جبلوا على الشر والظلم والفساد في الأرض ولذلك استغاث هؤلاء القوم بذي القرنين من شرهم .
? قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ? أي عطاء فالخرج، والخراج:معناهما العطاء يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم – منكراً على قومه عدم اتباعهم له ? أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً ?[المؤمنون:72] لماذا لا يتبعونك؟ هل سألتهم من أموالهم حتى تعلمهم الدين فثقل عليهم المطلوب فعجزوا عن دفعه فلم يتبعوك ? أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ?[المؤمنون:72].
(12/17)
---(1/376)
فالخرج والخراج معناهما العطاء ? قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ? أي نجمع لك من أموالنا ونعطيك عطية على أن تجعل بيننا وبين هؤلاء القوم سداً يحول بينهم وبين الخروج إلينا ؟
وهل يطمع ذو القرنين الملك الصالح - الذي وسع الله - تبارك وتعالى – عليه - في عطاء يأخذه من الناس ولا سيماً وقد رأى علامات الفقر والضعف ظاهرة عليهم .
? قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ? كما قال سليمان – عليه السلام – وقد أرسلت إليه بلقيس بهديتها ? فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ?[النمل:36].
? قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ? مما تريدون أن تعطوني إياه ما مكني فيه ربي خير كل الذي أريده منكم أن تعينوني بعمال برجال يعملون معي قال ? قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ? المراد بالقوة هنا الرجال الأقوياء الذي يستطيعون العمل في بناء السد .
? فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ?95 ? ?.
أعينوني بقوة من الرجال يعملون أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج ردماً فلا يستطيعون الخروج عليكم بعد بناءه .
ثم قال ? آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ? والمراد بالزبر القطع قطع الحديد، أعطوني زبر الحديد كتل الحديد الكبيرة فهو إذاً لن يبني السد كما نبني نحن الآن الخرسانة أسمنت وزلط ومسلح حديد .لا.
سيجعل السد كله حديداً، كتلة خرسانية لا، كتلة حديدية كاملة .
(12/18)
---(1/377)
? آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ? فجعل يجيء بالحديد ويرصه فيما بين السدين على قدر الفتحة يرصه فيما بين السدين يرصه رصة ثم يضع فوقها الحطب ثم يرص الحديد ويضع فوقه الحطب ثم يرص الحديد ويضع فوقه الحطب حتى إذا رفع هذا البناء على آخر فتحة في الجبلين من أعلاها وقد بدأ من أسفلها ? حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا ? انفخوا النار حتى ينصهر الحديد فأوقدوا النار في الحديد وبين كل طبقة من طبقات الحطب فأوقدوا النار في هذا الحطب فاشتعل الحديد حتى انصهر ? حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ?96 ? ? والقطر هو النحاس المذاب، وتصور الحديد في هذا السد ويصب عليه النحاس المذاب؟ نحاس مع حديد يعطوه قوة شديدة جداً فهكذا بنى ذو القرنين هذا السد من الحديد والنحاس .
? حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرً?96 ? ? .
فلما بناه عجز يأجوج ومأجوج أن يرتقوه وينزلوا من الناحية الثانية وعجزوا أن ينقبوه ويخرجوا منه ? فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ?97 ? ?.
وقد قلنا في الدرس السابق إن الخضر – عليه السلام – لما قال لموسى :? قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ? [الكهف:78] بالتاء قبل الطاء ، فلما نبأه بتأويل ما لم يستطع عليه صبرا قال: ? ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ?[الكهف:82] بدون تاء .
(12/19)
---(1/378)
قلنا إن الفرق بين اللفظين: أن التاء قبل الطاء فيها ثقل في النطق يقابل ثقل الجهل الذي كان يعاني منه موسى – عليه السلام – لأنه كان جاهلاً بالأحوال التي دعت الخضر إلى فعل ما فعل فلما علمه زال الجهل وذهب هذا الثقل الذي كان على عاتقه فقال ? ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ? وهنا يقول: ? فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ?97 ? لأنهم إن يأتوا بسلم ،فييضعونه على الجدار وينزلون من الناحية الثانية ، هذا أسهل من أن ينقبوا؛ لأن النقب يحتاج إلى عمل دؤوب وشغل كثير لكنَّ الارتقاء بالسلم أسهل قال: ? فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ?.
فلما نظر ذو القرنين ورأى السد قد ارتفع بفضل الله شكر الله - سبحانه وتعالى – واعترف له بالفضل والمنة ? قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ?.
هذا السد إنما هو رحمة من الله - عزّ وجلّ – بهؤلاء الناس رحمهم الله- تعالى- بالسد فحال بينهم وبين يأجوج ومأجوج ? فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ?97 ? قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ? وهكذا اعترف بفضل الله ومنته وإحسانه على أن رحمه هو فأعانه و وفقه لبناء هذا السد ، ورحم بالسد هؤلاء القوم من شر يأجوج ومأجوج . وهكذا الصالحون دائماً يردون الفضل في كل شيء إلى الله - سبحانه وتعالى – بخلاف الطغاة الظلمة الجبابرة المفسدين في الأرض فإنهم ينسون فضل الله - عزّ وجلّ – عليهم ولا يذكرون إلا أنفسهم كما قال قارون - وقد نصحه قومه وذكروه ووعظوه أن يحمد الله - سبحانه وتعالى – على ما آتاه من فضله ? وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ?[القصص:77] - فما كان جوابه إلا أن قال: ? قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ?[القصص:78].
(12/20)(1/379)
---
أما ذو القرنين فبعد أن بنى السد وحبس به يأجوج ومأجوج عن هؤلاء القوم لم يفتخر على الضعفاء الفقراء ولم يطلب منهم أجرة ولم يطلب منهم شكراً وإنما اعترف بفضل الله وبرحمته ? قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ? إلى متى تظل هذه الرحمة؟ وإلى متى يحال بين يأجوج ومأجوج أن يخرجوا على الناس من وراء هذا السد قال :? فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ?98 ?.
والمراد بوعد الرب - سبحانه وتعالى – هنا هو الآخرة ? فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ?[الاسراء:104].
الله - سبحانه وتعالى – يقول في سورة الأنبياء ? حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ?96 ? وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ?[الانبياء:96-97].
فالله - سبحانه وتعالى – أخبر أن هذا السد سيظل قائماًَ إلى اقتراب ? الوعد ? وهو القيامة والنفخ في الصور .
? فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ? لأنه إذا قامت القيامة دكَّ الله - تبارك وتعالى – الأرض كلها دكاً كما قال - عزّ وجلّ – ? كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً ?21 ? وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ?[الفجر:21-22].
وقال تعالى ? فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ?13 ? وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ?14 ? فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ?15 ? ?[الحاقة:13-15].
(12/21)
---(1/380)
? قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ?98 ? وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ? تركنا يأجوج ومأجوج يموجون في الناس ويختلطون بهم بعد أن كان الله- تعالى - مانعهم وحاجزهم وراء السد .
وقد أخبرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يأجوج ومأجوج كل يوم يحاولون نقب السد ، فيعملون في النقب حتى إذا غربت الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فتفتحونه غداً ، فيرجعون ويتركونه بعد أن نقبوا فيه ما نقبوا، فيأتون في اليوم التالي فيجدون السد قد عاد كما كان قبل النقب فينقبون طول النهار حتى إذا كادت الشمس أن تغرب قال الذي عليهم ارجعوا: فتفتحونه غداً فيرجعون فيجدونه قد عاد قبل النقب وهكذا .
حتى إذا أراد الله لهم الخروج ألهم كبيرهم أن يقول آخر النهار بعد أن نقبوا فيه ما نقبوا:ارجعوا فتفتحونه غداً- إن شاء الله- فإذا قال : إن شاء الله رجعوا في اليوم التالي فوجدوا السد كما نقبوه فأتموا نقبه في الباقي ثم خرجوا على الناس ? وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ?99 ?.
نسأل الله السلامة والعافية ونعوذ بالله من الخذلان ونسأله الهداية والتوفيق .
هذا والحمد لله رب العالمين وصلِ الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
(12/22)
---(1/381)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ? فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ? يقول المفسر: أي ولداً أزكى من هذا وهما-أي الوالدين - أرحم به منه فجعل الزكاة للولد وأقرب رحما للوالين، فما الذي جعله يفرق في العطف ولماذا لا يكون العطف يعني أقرب رحما أي ولداً راحماً بولديه، ولداً أزكى من هذا هو راحم بوالديه ؟ يقول الشيخ: يأجوج ومأجوج في بلاد الترك ماذا يقصد المفسر ببلاد الترك؟ هل هم أحياء إلى الآن يأجوج ومأجوج ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ألا يحتمل أن يكون ذو القرنين مَلِك، وأيضاً في نفس الوقت أن يكون نبي، لأن هناك بعض الشواهد قد تكون تدل على أنه نبي، وذلك أنه دعا إلى الإيمان لأنه قال? أما من آمن ? وهذا واضح ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يمكن أن يلبس الشيطان على الإنسان : أنَّ عمله الصالح فيه رياء ؟ إذا أخطأ شيخ في الخطبة هل ممكن أن أحداً يقاطعه وينبهه لهذا الخطأ أم بعد اللقاء ؟
أخطأ في ماذا؟ في القرآن الكريم أم في الموضوع ؟
في موضوع الخطبة، وهل خروج يأجوج ومأجوج في وقت معين؟ وأي وقت ؟
نحن نشكر لها حرصها وعنايتها بالكتاب أثناء المحاضرة ونهيب بجميع المشاهدين رجالاً ونساءً أن يكونوا كذلك أن يكون مع كل أخ وأخت الكتاب ، أن يتابعوا معنا في الشرح - بإذن الله عزّ وجلّ – .
هي تقول: إن المؤلف قال: في قوله تعالى ? أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ? أن يكون الولد أزكى من الولد القتيل وأن يكون الوالدان أقرب رحماً بالولد المبدل منه بالولد القتيل هكذا قال المصنف- رحمه الله- وهي ترى أن يكون أزكى وأرحم من الولد . الولد أزكى في نفسه وأرحم بأبويه من القتيل، نقول لها: لا مانع من هذا الفهم -إن شاء الله- وهو محتمل- بإذن الله عزّ وجلّ – .
(12/23)
---(1/382)
لعلها تقصد أن بعض المفسرين ذكر: أن هذا السد الذي وراءه يأجوج ومأجوج في بلاد الترك، ولكننا قلنا إن الله - سبحانه وتعالى – لم يخبرنا بمكان هذا السد فلذلك لا يفيدنا - كثيراً -تعيين المكان الذي بني فيه السد .
- أي نعم - هم آدميون؛ فهم أحياء إلى الآن وسيخرجون في آخر الزمان وخروجهم علامة من علامات الساعة الكبرى ولعل الوقت يتسع في الحلقة القادمة - إن شاء الله -أن نتم ما سكتنا عنه لضيق الوقت اليوم .
النبوة :لا تثبت لأحد إلا بدليل صحيح صريح، ولم نقف على دليل صيح صريح يفيد نبوة ذي القرنين - رضي الله عنه – فالقول بأنه ملك صالح هو الأرجح - بإذن الله عزّ وجلّ – .
الشيطان- لعنه الله- كل همه أن يحول بين المسلم وبين صالح العمل، فإذا أراد أن يعمل المسلم عملاً صالحاً أتاه في طريقه ليحول بينه وبين هذا العمل. فإذا كانت العزيمة قوية وصاحب هذا المسلم التوفيق من الله - سبحانه وتعالى – ومضى في طريق هذا العمل الشيطان لا يتركه، وإنما يأتيه من ناحية أخرى يلبس عليه أنك تفعل هذا رياءً لا تفعله خالصاً لوجه الله، يريد بذلك كله أن يصده عن هذا العمل حتى لا يعمله مرة ثانية، وقد بوب الإمام النووي -رحمه الله- في كتاب رياض الصحالين باب ما يظن أنه رياء وليس رياء، فعلى المسلم أن يعلم من نفسه أنه إذا اندفع نحو هذا العمل الصالح إيماناً واحتساباً، فإذا اندفعت نحو هذا العمل الصالح إيماناً واحتساباً فلا تلتفت إلى الشبهات والشكوك والتلبيسات الشيطانية التي تأتيك بعد أن عزمت على هذا العمل وباشرته.
سيخرجون في آخر الزمان بعد نزول سيدنا عيسى بن مريم –عليه السلام - وسيأتي الكلام مفصلاً في الحلقة القادمة- إن شاء الله تعالى- .
(12/24)
---(1/383)
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أنا أراجع المحفوظ عندي من القرآن الكريم في صلواتي، وقبل أن أنام أصلي بحزب من المحفوظ ولكني أقرأه من المصحف . فهل تنفع هذه الطريقة للمراجعة؟ وهل هذا يعتبر قيام ليل لأني أخاف إن أخرت القيام إلى آخر الليل لا أصحو؟
زادها الله حرصاً وبارك الله فيها وتقبل الله منا ومنها وأنا لا أرى القراءة من المصحف في الصلاة ؛ لأنه ينبغي للمصلي أن ينشغل بربه - سبحانه وتعالى – عن كل شيء وحين يفتح المصحف سينشغل بالنظر في المصحف السطر الأعلى والسطر الذي يليه والسطر الأسفل وقلب الصفحة فسينشغل بذلك عن الصلاة .
فلذلك أرى أن تقرأ من حفظها الجيد في الصلاة وأن تجعل المراجعة في المصحف في خارج الصلاة .
يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . سمعت منذ مدة طويلة أحد العلماء - رحمه الله- في تفسير الآية ? وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ? أنها إعجاز علمي حيث إن ثلاثمائة سنة تعادل ثلاثمائة وتسع سنوات قبطية ولكن أنا أشعر في نفسي بدون علم أنها فعلاً ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً من نفس نوع السنوات وليس كما سمعت أرجو الإفادة بما يرفع الشك وجزاكم الله خيراً ؟
قول المفسرين في الآية أنها ثلاثمائة سنين شمسية وازدادو تسعاً من السنين القمرية فهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية وثلاثمائة فقط شمسية وهذا قول معتبر ومقبول-بإذن الله عزّ وجلّ – .
يقول هل يصح قول بعض العلماء: إن ذا القرنين قد يكون هو الإسكندر الأكبر وهل يحق هذا فيه حيث إن الإسكندر عرف بالظلم والبطش ؟
إذا كان الإسكندر عرف بالظلم والبطش فلا شك أنه ليس ذا القرنين لأن ذا القرنين كان ملكاً صالحاً ولياً من أولياء الله الصالحين .
يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هل من السنة قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة أفيدونا بارك الله فيكم ؟
نعم يستحب لكل مسلم ومسلمة قراءة سورة الكهف يوم الجمعة .
(12/25)
---(1/384)
هل يصح قول بعض المفسرين في عمرِ ذي القرنين أنه يبلغ ثلاثة آلاف وستمائة سنة ؟
ذكرنا أن للمفسرين أقوالاً كثيرة في تعيين اسمه وزمانه وعمره وكل هذه لا دليل صحيح عليها فلهذا سكتنا عنها لعدم صحة أدلتها .
ما صحة حديث النبي - صلى الله عليه وسلم – (من كل مائة من أمة محمد تسعة وتسعين في النار وواحد في الجنة ) ؟
أنا لا أعرف هذا الحديث، الحديث الذي أعرفه هو الذي ذكرته في يأجوج ومأجوج ( يا آدم ابعث بعث النار من ذريتك، يقول يا رب كم ؟ يقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ) فلما شق ذلك على أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – قالوا : وأينا ذلك الواحد ؟
قال ( منكم الواحد ومن يأجوج ومأجوج الألف ) .
قال الله - عزّ وجلّ – في كتابه الكريم على لسان ذي القرنين ? أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً ? وقال الله - عزّ وجلّ – في كتابه الكريم ? لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ? فهل هذا العذاب يقصد أما من ظلم أي أما من كفر بالله ولم يتبع الدعوة فهل هذا العذاب كان فيه شريعة من قبلنا؟ وكيف كان العذاب ؟
كان في شريعة من قبلنا لا يقبل إما الإسلام وإما القتل وسيكون ذلك أيضاًَ في آخر زماننا في شريعتنا أيضاً كما سينزل عيسى بن مريم – عليه السلام – لا يقبل إلا الإسلام أو القتل لكن في عهد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم – كان إما الإسلام وإما الجزية فإن أبوا الإثنين فالقتل .
يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته من هو النبى الذي كان في عصره ؟
لا ندري أي نبي كان في زمن ذي القرنين فلذلك سكتنا عن ذلك .
فضيلة الشيخ هل تصح السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ؟
جزاك الله خيراً.
(12/26)
---(1/385)
ذكر علماؤنا- رحمهم الله -أن زيادة مغفرته إنما تزاد في الرد لا في الابتداء فأقصى الابتداء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فإذا قال لك أخوك: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته قلت له: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته.
يقول هل يأجوج ومأجوج موجودون بالصين كما قيل وهل يمكن اكتشافهم بالأجهزة كما يكتشف ما تحت الأنقاض من أحياء بواسطة الأجهزة المتطورة ؟
الله - سبحانه وتعالى – غيبهم وحال بينهم وبين الناس، وحال بين الناس وبينهم لحكمة أرادها وليس كل موجود يعني لا يشترط أن يكون كل موجود يُرى أو يمكن اكتشافه .
فبنوا إسرائيل دخلوا التيه أربعين سنة في صحراء سيناء والناس يغدون ويروحون إلى فلسطين وإلى مصر ومع ذلك لم يشأ الله - سبحانه وتعالى – أن يطلع أحد من الناس على بني إسرائيل ولم يطلع بنو إسرائيل على الناس وهم في التيه حتى إذا انقضت المدة التي قدرها الله - سبحانه وتعالى – وخرجوا. فهم- يأجوج ومأجوج - موجودون وراء السد. أين هذا السد؟ وكيف لا نراه ؟كل هذا لا يطعن في كلام ربنا ونحن نؤمن بكلام ربنا - سبحانه وتعالى –وقيل :إنهم موجودون وراء السد إلى أن يشاء الله - سبحانه وتعالى – .
تقول هل نطلق على ذي القرنين بالرجل الصالح أو الولي الصالح أو الملك الصالح؟
كان رجلاً ملكاً ولياً صالحاً .
تقول لو سمحت تعيد لنا وصف حال القوم الذين رآهم ذو القرنين في الرحلة الثانية ؟
قال الله تعالى ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً ?[الكهف:90] يعني وجد ناساً في عراء تام ليس عندهم أي شيء يكنهم عن حر الشمس ولا يظلهم منه، منذ أن تطلع إلى أن تغرب وهم متعرضون للشمس وهذا كل ما ذكره الله - تبارك وتعالى – عن هذه الرحلة الثانية .
تقول كيف استطاع ذو القرنين أن يبلغ المشرق والمغرب وما هي الأسباب التي اتبعها ؟
(12/27)
---(1/386)
أعطاه الله - تبارك وتعالى – الأسباب المناسبة لذلك السفر الطويل الشاق واستخدمها.
أما تعيينها فلم يعينه الله - سبحانه وتعالى – ولم يعينها رسوله - صلى الله عليه وسلم – .
تقول هل يأجوج ومأجوج موجودان في هذا الزمان وأين مكانهما ؟
موجودون وراء السد الذي بناه ذو القرنين أين مكان السد في الأرض ؟ سكت الله – تعالى- عن ذلك.
ما قيل: إنهم في تركيا ما قيل: إنهم في الصين ما قيل: إنهم في كذا في كذا، كل هذا رجم بالغيب لا دليل عليه فنؤمن بما أخبرنا الله - تبارك وتعالى – به عنهم ونسكت عما سكت الله- تعالى عنه-.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لو سمحت ممكن نعرف المكان الذي كان فيه يأجوج ومأجوج حين بنى ذو القرنين السد ؟ نريد أن نعرف هل خروج يأجوج ومأجوج قبل خروج المسيح الدجال أم بعده ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سؤالي: هل كثرة سؤالنا عن موسى والخضر- في أشياء لم يذكرها النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يسأل عنها الصحابة - رضي الله عنهم – عندما أخبرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بالقصة- تعد فضولاً أو من الأشياء التي لا يجب أن نخوض فيها ؟
كانوا وراء السد، وراء الجبلين، كان هناك جبلان بينهما فتحة. هما كانوا وراء هذه الجبال وكانوا يغيرون من هذه الفتحة على الناس الذين أمام السد .
بعد نزول المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام – كما سنقص ذلك- إن شاء الله تعالى- في الحلقة القامة .
نعم سيدنا عيسى بن مريم سينزل –أصلاً- والمسيح الدجال موجود ويقتله، وبعد قتل سيدنا المسيح بن مريم للمسيح الدجال، يخرج يأجوج ومأجوج وعيسى بن مريم موجود في الأرض .
ليس جدالاً- إن شاء الله- أن يطلب الإنسان المزيد من العلم لا يعار عليه، لكن عليه إذا رزق العلم الذي كان يقصده ويطلبه أن يحمد الله على ذلك، وإذا لم يصل إلى معرفة جديدة ولا زيادة علم فهل يسكت عما سكت الله تعالى عنه .
(12/28)
---(1/387)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بالنسبة لقراءة سورة الكهف هل تجزئ قراءتها بعد غروب الشمس من يوم الخميس ليلة الجمعة؟ السؤال الثاني بالنسبة للكتب الخاصة في الدرس هل فيه فقط كتاب التفسير لنسيب الرفاعي ؟
نرجو أن تجزئ- إن شاء الله تعالى - وإن كان الأفضل أن تؤخر ليوم الجمعة .
نحن لا نقتصر في هذا الشرح على مختصر ابن كثير فقط بل نحن نحضر هذا الدرس مما توفر لنا من كتب التفسير كلها ثم نجمع الفوائد والنكات الحسنة فيها، ثم نلقيها على إخواننا، وإذا كنا ننصح الأخوة بكتاب مختصر ابن كثير لأنهم لا يستطيعون أن يرجعوا إلى كل ما نرجع إليه في المحاضرة ولكننا ننبه على أن المحاضرة مفرغة على موقع الأكاديمية ويستطيع كل طالب وطالبة الحصول على المحاضرة مفرغة من الأكاديمية إن شاء الله تعالى .
سؤال يقول:هل القوم الذين لا يفقهون قولا هم يأجوج ومأجوج؟ وهل السد موجود الآن ؟
لا، الذين لا يكادون يفقهون قولاً غير يأجوج ومأجوج الذي لا يكادون يفقهون قولاً هم الذين استغاثوا بالملك الصالح أن يغيثهم من يأجوج ومأجوج .
تقول هل مكان السد معروف الآن ؟ وأين هو ؟
لا نستيطع أن نجزم بوجود السد في أي مكان في الأرض، لكننا نؤمن بوجوده وإن كنا لم نطلع عليه .
هل القرآن فصَّل كل شيء عن قصة يأجوج ومأجوج أم أن للسنة شأناً في تفصيل ذلك ؟ وإن كان للسنة شأن في تفصيل أمور لم يأتِ بها القرآن فنريد منكم تعريفاً جامعاً مانعاً لتعريف السنة لاسيما وقد اختلط مفهوم السنة عند كثير من المسلمين ؟
ماذا تعني بمفهوم السنة ؟
يعني أقصد هل هي كما- يعني- يندرج في بعض عقول المسلمين أنها مندوبات ومستحبات فقط أم أنها مصدر تشريع مثلها مثل القرآن في التشريع ؟
السنة في عرف العامة تطلق على ما يقابل الفرض يكون هذا سنة وهذا فرض، صيام رمضان فرض وصيام الاثنين والخميس سنة .في عرف العامة السنة هي ما يقابل الفرض المطلوب فعله.
(12/29)
---(1/388)
وأما السنة عند العلماء فلها تعريف آخر تستطيعون أن تتعرفوا عليه من مادة مصطلح الحديث إن شاء الله تعالى، فهذا هو موضوع التخصص مصطلح الحديث .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يأجوج ومأجوجح عددهم كبير حتى أنه يخشى منهم على الناس أو المقصود هو خشية القوة فقط نرجو تفصيل هذه الجزئية ؟
لا، هم كثيرو العدد حتى سيأتي- إن شاء الله- في الدرس القادم- أنهم إذا خرجوا يكون أولهم بالشام وآخرهم بالعراق، أو أولهم بالعراق وآخرهم بالشام، انظر كم بين الشام والعراق من مسافة وهم ملؤوا هذه المسافة كلها، فهم كثيرو العدد وذووا قوة وبطش شديدين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سمعت مرة أن قراءة سورة الكهف يوم الجمعة هو سبب من أسباب عدم خروج يأجوج ومأجوج وأنه سيأتي يوماً وينسى الناس جميعاً هذه السنة فيكون هذا سبب خروجهم فهل ورد بهذا أثر صحيح ؟وجزاكم الله خيراً.
لابد للقول بهذا من دليل صحيح صريح وأنا شخصياً لم أطلع على حديث صحيح صريح في هذا الموضوع فنقول سورة الكهف تقرأ لفضلها الذي ورد في الحديث.
أما كونها تمنع خروج يأجوج ومأجوج وأن الله إذا أراد ذلك نسى الناس سورة الكهف هذا لابد له من دليل وأنا لم أطلع على هذا الدليل .
يقول أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ قلت: إن يأجوج ومأجوج قد جبلوا على الشر فكيف نوفق بين ذلك وبين ما قاله - سبحانه وتعالى – ? وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ? لا سيماً وأنهم بشر وهل وصلهم نبي ليقيم الحجة عليهم ؟
لا شك أنهم قصروا في تزكية أنفسهم فالله - سبحانه وتعالى – قال ? وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ?7 ? فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ?8 ? قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ?9 ? وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ?[الشمس:7-10].
(12/30)
---(1/389)
فيأجوج ومأجوج من الذين دسوا أنفسهم ولم يزكوها أما كونهم جاءهم نبي أو جاءهم رسول وأقيمت عليهم الحجة فإن الله تعالى قال ? وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ?[فاطر:24] وقال ? وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ?[الرعد:7] فالحجة قد قامت عليهم ولذلك يستحقون العذاب في الآخرة كما جاء في الحديث السابق .
تقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هل يوجد علاقة بين القصص الأربعة أهل الكهف والجنتين وموسى والخضر وذي القرنين وما علاقتهم من الحماية من المسيخ الدجال ؟
أولاً: نقول شاع بين عامة المسلمين أنه إذا ذكر الدجال قالوا المسيخ الدجال بالخاء وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا تصحيف وتحريف هو المسيح الدجال بالحاء كما يقال لعيسى بن مريم المسيح كذلك الدجال أيضاً يقال له المسيح الدجال .
وأما أن هناك علاقة بين القصص المذكور في السورة كلها وبين خروجه وعدم خروجه فهذا لم أقرأه فيما قرأت من كتب التفاسير .
يقول كيف نوفق بين ما وصل إليه العلم اليوم من استخدام الأقمار الصناعية ودقتها في تعيين المواقع وبين وجود قوم يأجوج ومأجوج على الأرض وهم كما يفهم من الحديث عددهم كبير جداً؟
(12/31)
---(1/390)
الله - سبحانه وتعالى – قال ? وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ?[البقرة:255] فالله - سبحانه وتعالى – لم يشأ للناس أن يطلعوا على يأجوج ومأجوج وقد ذكرت آنفاً أن بنى إسرائيل لما كتب عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض في صحراء سيناء الناس يروحون إلى فلسطين ويجيئون من فلسطين يخرجون من مصر إلى فسلطين ويجيئون من فلسطين إلى مصر ومع ذلك مع كثرة الأسفار وكثرة الناس وهم في التيه يروحون ويجيئون أيضاً لم يرَ بنو إسرائيل مسافرين ولم يرهم مسافرون، هكذا حجب الله - تبارك وتعالى – الرؤية عنهم حتى يتم لهم المدة التي كتبها،كذلك حجب الله - تبارك وتعالى – يأجوج ومأجوج عن الناس إلى الأجل الذي سماه الله - تبارك وتعالى – فإذا جاء وعد ربي ساعتها سيرونهم عين اليقين بإذن الله - عزّ وجلّ – .
(12/32)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
التفسير من أول قوله تعالى "قال هذا رحمة من ربي"
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، ثم مرحبا بكم في هذا اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة الكهف وهو إن شاء الله تعالي أخر درس في تفسيرها وقد تضمنت الآيات المباركات التي معنا منها من المعاني ما يلي:
أولا : من علامات الساعة خروج يأجوج ومأجوج .
ثانيا : براءة الصالحين ممن عبدوه من دون الله .(1/391)
ثالثا : جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين .
رابعا : النهي عن الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم .
خامسا : التوحيد هو دعوة الرسل أجمعين .
أخيرا : شروط قبول الأعمال .
وهذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات الخواتيم لسورة الكهف من المعاني والتي سنعيش في رحابها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالي .
الآيات :
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29)
(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21)
(13/1)
---
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23)
تحدثنا في الدرس السابق عن رحلات ذي القرنين الثلاث :
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ)(الكهف: من الآية86)
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ)(الكهف: من الآية90)
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْل) (الكهف:93)
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّ) (الكهف:94)
(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْم) (الكهف:95)(1/392)
(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْر) (الكهف:96) أي نحاس مذابا (فَمَا اسْطَاعُوا )(الكهف: من الآية97)أي ما استطاعت يأجوج ومأجوج ( أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْب)(الكهف: من الآية97)
(13/2)
---
فلما فرغ من بناء السد نظر إليه حامدا الله شاكرا قال هذا أي هذا السد الذي أعنت على بناءه ) هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي )(الكهف: من الآية98) رحم الله تبارك وتعالي الخلائق كلهم من يأجوج ومأجوج بسبب بناء هذا السد ، والله سبحانه وتعالي حافظ هذا السد ومبقيه إلي أجل مسمى عنده سبحانه وتعالي ، ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي )(الكهف: من الآية98) أي إذا انتهي هذا الأجل المسمى عند الله تبارك وتعالي لبقاء هذا السد (جَعَلَهُ دَكَّاءَ )(الكهف: من الآية98) وهذا وعد لا يخلف ) وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّ)(الكهف: من الآية98) (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)(الكهف: من الآية99) المراد بهذا الوعد فإذا جاء وعد ربي " المراد به قرب قيام الساعة ، فمن علامات الساعة خروج يأجوج ومأجوج من وراء السد الذي بناه ذو القرنين ، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه منذ بني هذا السد وهم يعملون في نقبه كل يوم حتى إذا غربت الشمس وكادوا أن ينتهوا منه قال كبيرهم ارجعوا فتأتون غدا فتتمونه فيرجعون غدا فيجدونه قد عاد كما كان قبل العمل ، وهكذا كل يوم حتى إذا جاء وعد ربي وأراد الله سبحانه وتعالي خروجهم ألهم كبيرهم أن يقول ارجعوا فتفتحونه غدا إن شاء الله تعالي ، فإذا قال إن شاء الله رجعوا في صباح اليوم التالي فوجدوا السد على هيئة ما تركوه عليه ، فأتموا عملهم وخرجوا يقول تبارك وتعالي (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (الانبياء:96)(1/393)
والحدب : هو الأرض المرتفعة العالية .
( مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)(الانبياء: من الآية96) والنسلان هو المشي السريع
(13/3)
---
(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا )(الانبياء: من الآية97) وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن خروج يأجوج ومأجوج إنما يكون بعد نزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء وقبله الدجال لعنه الله ، فالدجال سيخرج في آخر الزمان كما هو معلوم من الأحاديث الصحيحة ، وسينزل عيسى بن مريم عليه السلام من السماء فيقتل الدجال بباب لد بفلسطين ، ثم في زمن نزول عيسى بن مريم يخرج يأجوج ومأجوج فيوحي الله تبارك وتعالي إلي عيسى بن مريم عليه السلام إني قد أخرجت عبادك لا يدان لأحد بهم أي لا قدرة لأحد بهم ولا طاقة لأحد بهم فحرر عبادي إلي الطور هكذا يوحي الله تبارك وتعالي إلي عيسى بن مريم عليه السلام أن ينحاز بالمؤمنين معه إلي جبل الطور ويترك الأرض والبلاد والطرقات ليأجوج ومأجوج ، فيخرجون وهم من كل حدب ينسلون كما أخبرنا ربنا سبحانه وتعالي ، وجاء في الأحاديث أن أولهم يكون بالشام وأخرهم بالعراق ، وأنهم يمرون على بحيرة طبرية يمر أولهم ببحيرة طبرية فيشربونها كلها يشربون الماء كله لا يتركون منه شيئا ، حتى إذا جاء أخرهم إلي بحيرة طبرية نظروا فيها فلم يجدوا ماء فقالوا لقد كان في هذه البحيرة يوما ماء ، ثم خرجوا إلي المدينة فلم يجدوا أحدا في الطرقات ولا في البلاد ولا في المساكن والدور لأن الله تبارك وتعالي أمر عيسى بن مريم عليه السلام أن ينحاز بالمؤمنين معه في الجبال ، فلما وجدوا الطرقات خالية والبلاد خالية اغتروا بأنفسهم وقالوا ها نحن قد غلبنا أهل الأرض ، تعالوا نغلب أهل السماء فيأخذون السهام فيرمونها إلي أعلى يحاربون بها أهل السماء فتعود إليهم ملطخة بالدماء زيادة فتنة لهم والعياذ بالله .
(13/4)
---(1/394)
كل ذلك وعيسى بن مريم عليه السلام في الجبل منحاز بمن معه من عباد الله المؤمنين ، فيدعوا عيسى بن مريم عليه السلام ربه أن يخلص الناس من شر هؤلاء الناس يأجوج ومأجوج ، فيبعث الله تبارك وتعالي عليهم دودا يسمى النغف تدخل الدودة في قفا الإنسان فتصرعه فيصرعون جميعا موتة رجل واحد وعيسى بن مريم عليه السلام في الجبل يريد أن يطمئن على أحوال هؤلاء الناس يأجوج ومأجوج فيقول لمن معه من منكم يبيع نفسه لله فيخرج فينظر ماذا فعل القوم ، فيجبر الناس كلهم على الخروج لأن كل الناس قد هربوا منه فكيف يخرج لهم واحد فقط فيقول أيكم يبيع نفسه لله يخرج فينظر ماذا فعل القوم ، وهو رفيقي في الجنة فيقوم رجل فيخرج قد باع نفسه وغلب على ظنه أنه لن يعود ولن يرجع ، يخرج يتحسس أخبار القوم فإذا بهم ميتين موتة رجل واحد في الطرقات على كثرتهم ، فيرجع إلي عيسى عليه السلام فيخبره فيخرج عيسى والناس فيجدون الطرقات كلها ملئا بجسس القوم وهي نتنا ، لا يستطيعون أن يدفنوهم فيتوسل عيسى بن مريم عليه السلام إلي الله تبارك وتعالي ويدعوه أن يخلصهم من هذه الجسس المنتنة ، فيرسل الله تبارك وتعالي عليهم مطرا شديدا يحملهم إلي البحار ويخلص الناس منهم .
ثم يمكث عيسى عليه السلام في الأرض سنين تخرج الأرض بركتها وتعم الألفة والمحبة والمودة والأخوة الناس أجمعين حتى لا يبقي بين اثنين خصومة ولا شحناء ولا عداوة ولا بغضاء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ( طوبى لعيش مع عيسى بن مريم ) هكذا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت خروج يأجوج ومأجوج .
وقد كثرت الأسئلة في الدرس السابق عن مكان وجودهم ومكان هذا السد وكيف لا يعرفه الناس الآن مع أن العالم كله أصبح كالقرية الواحدة بوسائل الاتصالات الحديثة ووسائل الاستطلاعات الحديثة والأقمار الصناعية ونحو ذلك نقول أيها الأحبة ،
(13/5)
---(1/395)
أولا : هذا كلام الله عز وجل أخبرنا عن وجودهم وراء السد ومن أصدق من الله قيلا ، ومن أصدق من الله حديثا فنحن كمؤمنين بهذا القرآن أنه كلام الله عز وجل نؤمن بأن يأجوج ومأجوج وراء السد كما أخبرنا الله وإن لم نطلع عليهم وإن لم نعرف أين يقع هذا السد ، هذا شيء .
ثانيا : أنه ليس كل موجود يرى ، فأقرب شيء إليك عقلك فهل ترى عقلك لا تراه ولا تستطيع أن تجزم بأنك غير عاقل فأنت تجزم بوجود عقلك وتزعم أنك عاقل ومع ذلك أنت لم ترى عقلك .
ثالثا : هناك عوالم من عوالم الغيب آمنا بوجودها لإخبار الله تبارك وتعالي لنا بوجودها ونحن لم نرها ، أليس الملائكة موجودين ، أليس الجن موجودين ، فلماذا نقول أن الجن غير موجودين لأننا لا نراهم ، الجن موجودون ونحن لا نراه والملائكة موجودون ونحن لا نراه ، ومما قلناه في الدرس السابق أن بني إسرائيل لما استعصوا على موسى عليه السلام وأبوا أن يدخلوا الأرض المقدسة قال الله تعالي (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)(المائدة: من الآية26)
فكانوا في صحراء سيناء تائهين في الأرض لا يهتدون سبيلا للخروج للعودة إلي مصر ولا لدخول فلسطين ومع ذلك كانت الرحلات التجارية والقوافل السفرية مستمرة السير لم يطلع الناس على بنى إسرائيل ولم يطلع بنوا إسرائيل على الناس
(13/6)
---(1/396)
حتى انتهى الأجل وهو ( أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)(المائدة: من الآية26)فمكنهم الله تعالي من الاهتداء إلي الطريق ودخول الأرض المقدسة ، كذلك ياجوج ومأجوج رحم الله تعالي الناس بحبسهم وراء السد ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ ( أي جعل السد ) دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّ)(الكهف: من الآية98) (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي (الكهف:99) قوله تعالي ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ)(الكهف: من الآية99) عقب قوله (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)(الكهف: من الآية99)يدلك على اقتراب خروج يأجوج ومأجوج من قيام الساعة وأن خروجهم من علامات الساعة الكبرى ، إذا نزل عيسى بن مريم وقتل الدجال وخرج يأجوج ومأجوج فلم يبقي من الدنيا إلا القليل (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْع)(الكهف: من الآية99) (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْض) (الكهف:100)
(وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِف) (الكهف:53)
(إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِير) (الفرقان:12)
(وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُور) (الفرقان:13)
(لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِير) (الفرقان:14)
(الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْع) (الكهف:101)
(13/7)
---(1/397)
كانوا لا يرون آيات الله عز وجل ولا يسمعونها فهل هم بذلك معذورون ؟ لا إن الله سبحانه وتعالي لم يسلبهم السمع ولم يسلبهم البصر ، ولكن الله سبحانه وتعالي أعطاهم السمع وأعطاهم البصر وأمرهم أن ينظروا في الملكوت من حولهم ليروا مشاهد التوحيد ودلائل التوحيد وأمرهم أن يسمعوا بآذانهم إلي آيات الله منزلة ومع ذلك كانوا كما قال نوح عليه السلام ( جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَار)(نوح: من الآية7)فلما عطلوا هذه الحواس عن الاستخدام فيما خلقت له من التعرف على آيات الله الكونية وسماع آيات الله المنزلة عاقبهم الله سبحانه وتعالي فحال بينهم وبين الانتفاع بآذانهم وحال بينهم وبين الانتفاع بأبصارهم جزاء وفاقا ولا يظلم ربك أحدا ، كما قال سبحانه(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام:110)
وكما قال الله تعالي ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ )(الصف: من الآية5)
وقال تعالي ( صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)(التوبة: من الآية127) (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْض) (الكهف:100)
(الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْع) (الكهف:101)
أما السمع الذي قامت به الحجة فقد سمعوه ، وأما سمع الانتفاع فقد حال الله بينهم وبين كما قال عز وجل (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (لأنفال:22)
(13/8)
---(1/398)
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ)(لأنفال: من الآية23) أي سماع انتفاع فالمنفي عنهم هو سماع الانتفاع ، أما السماع الذي قامت به الحجة فقد تم وتحقق ولذلك قامت حجة الله تبارك وتعالي عليهم كما قال عز وجل (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُول)(الاسراء: من الآية15)
(الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْع) (الكهف:101)
ثم يبين الله تبارك وتعالي براءة عباد الله الصالحين من الملائكة والنبيين وغيرهم ممن عبدوهم في الدنيا من دون الله تبارك وتعالي فيقول (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُل) (الكهف:102)
(13/9)
---(1/399)
أفحسب الذين جعلوا مع الله إله أخر ، أفحسب الذين عبدوا الملائكة من دون الله ، أو عبدوا المسيح بن مريم من دون الله أو عبدوا أولياء الله الصالحين من دون الله ، (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ)(الكهف: من الآية102) أنهم بعبادتهم إياهم يرضون عنهم ويتولونهم من دون الله ، كلا ، كلا (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّ) (مريم:82) ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ،(قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ) (سبأ:41) فإذا كان الكافرون الذين عبدوا الملائكة وبن مريم وأولياء الله الصالحين من دون الله يظنون أن الذين عبدوهم من دون الله راضين عن عبادتهم وأنهم يتولونهم بهذه العبادة فقد أخطأو في هذا الظن . )أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُل) (الكهف:102) وقال بعض المفسرين (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ)(الكهف: من الآية102)ثم لا أعاقبهم على ذلك ولا أعذبهم ، أظنوا أن يشركوا بالله شيئا ويجعلوا مع الله آلهة أخرى ثم الله تبارك وتعالي لا يعاقبهم ولا يعذبهم على هذا الكفر والشرك كلا : ) إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُل)(الكهف: من الآية102)
وقال بعض المفسرين : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ)(الكهف: من الآية102)وأن ذلك نافعهم يوم القيامة :لا قال تعالي (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) (الاحقاف:5)
(13/10)
---(1/400)
(وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الاحقاف:6)
(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُل) (الكهف:102)
ثم يقول الله تعالي لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم يا نبينا (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَال) (الكهف:103) من هم أخسر الناس أعمالا (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْع) (الكهف:104)
هو ضال وهو يظن أنه مهتدى ومفسد في الأرض ويظن أنه مصلح ، هو سفيه ويزعم أنه مؤمن كما قال تعالي (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة:11)
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة:12)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (البقرة:13)
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْع) (الكهف:104)
قال تعالي (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)(لأعراف: من الآية30)
(13/11)
---(1/401)
وقال تعالي (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف:36) وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ، ومن كيد الشيطان بالإنسان أنه إذا أضل اجتهد على إقناعه أنه مهتدى لأن الإنسان إذا اعتقد أنه ضال ربما رجع عن طريق الضلال إلي طريق الهدى لكن الشيطان حتى يحكم قبضته على أتباعه وأوليائه يضلهم عن سواء السبيل ويقنعهم تماما مائة في المائة أنهم مهتدون ، فهؤلاء هم أخسر الناس صفقة وأخسر الناس عمل (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَال) (الكهف:103)
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْع) (الكهف:104)
ترى من هم أولئك الناس ، من هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، قال تعالي (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ)(الكهف: من الآية105) فالذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا هم الكفار (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ )(الكهف: من الآية105) ولكن كل مسلم ضال مبتدع له نصيب من هذه الآية على قدر ضلاله وبدعته ، ومن هنا يجب على كل عاقل أن يزن نفسه دائما بين الحين والحين بميزان الكتاب والسنة ليرى أين هو من الكتاب والسنة فربما لبس على الإنسان فخيل إليه أنه على السنة وهو على البدعة ، ربما لبس على الإنسان فخيل له أنه على الصراط المستقيم ، وبينه وبين الصراط المستقيم بعد المشرقين فمن أراد النجاة فليحاسب نفسه بين الحين والحين وليزن نفسه دائما بميزان الكتاب والسنة حتى يعلم أنه على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَال) (الكهف:103)
(13/12)
---(1/402)
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْع) (الكهف:104)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (الكهف:105)
فالكفر بالله عز وجل من محبطات الأعمال ، لا يقبل الله تبارك وتعالي من كافر عملا صالحا لا يقبل الله تعالي من كافر برا ولا خيرا ، إن عمل الكافر عملا صالحا ، إن فعل فعل خير إن فعل ، فعل بر لا يقبل منه هذا العمل ولا يثاب عليه أبدا ما دام كافرا بالله عز وجل .
يقول تعالي (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (ابراهيم:18)
ويقول تعالي (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (النور:39)
(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَ( من شدة الظلمة ) وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور:40)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)(الكهف: من الآية105) لأن الأعمال لا يقام لها وزن إلا بالإيمان ، ولا يثاب العامل على صالح عمله إلا إذا كان مؤمنا بالله عز وجل ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله بن جدعان رجل من مشايخ العرب القدامى ، بن جدعان كان يقر الضيف ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه ؟
(13/13)
---(1/403)
كان بن جدعان في الجاهلية يكرم الضيوف ويطعم المسكين ويطعم الجائع فهل ذلك نافعه فقال صلى الله عليه وسلم لا ينفعه لماذا ؟ قال إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْن) (الكهف:105)
ذلك أنه ليس شيء أثقل في الميزان من الإيمان بالله عز وجل فالكافرين لا يقيم الله تبارك وتعالي لهم يوم القيامة وزنا .
(ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ)(الكهف: من الآية106) جزاء الكافرين جهنم بما كفروا (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ)(الكهف: من الآية106) بسبب بما كفروا ( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُو)(الكهف: من الآية106)كانوا يستهزئون بآيات الله ويسخرون من رسل الله فكفروا برسل الله وبآيات الله فكان جزائهم جهنم (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُو) (الكهف:106)
هذا هو جزاء الكافرين في الآخرة ، فما جزاء المؤمنين
قال تعالي (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُل) (الكهف:107)
إن الذين آمنوا بقلوبهم الإيمان التام المستلزم لعمل الصالحات بالجوارح ، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم ، فالإيمان ليس مجرد كلمات تنطق ولا حراف يترجمها اللسان ، ولكن لإيمان عقيدة وعمل ، عقيدة صالحة سليمة من شوائب الشرك تستقر في القلب ،وعمل صالح سليم من شوائب البدعة يظهر على الجوارح صباح مساء يصعد في السماء .
يقول تعالي (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (ابراهيم:24)
(تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (ابراهيم:25)(1/404)
(13/14)
---
وهذا مثل الكلمة الطيبة كلمة التقوى ، كلمة الإيمان ، كلمة التوحيد ، كلمة لا إله إلا الله حين تتمكن من القلب وتضرب بجذورها في أرضه ترتفع أغصانها بثمارها في سماء القلب فتظهر على الجوارح أعمالا صالحا صباح مساء تصعد في السماء ، إن الذين آمنوا بقلوبهم ، وعملوا الصالحات بجوارحهم ( كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُل)(الكهف: من الآية107) وجنة الفردوس هي أعلى درجات الجنة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ( إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وسقفه عرش الرحمن ) (خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَل) (الكهف:108)
وقد قلنا أن شعور الإنسان بدوام النعمة وأنه من زوالها من أسباب سعادته ومن أسباب التمتع بالنعمة أن يضمن الإنسان بقائها وأن يأمن من زوالها وفنائها ، كثير من الناس في الدنيا أنعم الله تبارك وتعالي عليهم ووسع عليهمولكنهم لا يهنئون ولا يتمتعون بهذا النعيم لماذا ؟ شبح الموت دائما يهددهم والخوف من زوال هذه النعمة دائما يعرض لهم ، فهم في قلق غير آمنين ولا مطمئنين لذلك لا تتم الفرحة بنعيم الدنيا ، أما أهل الجنة فإنهم إذا دخلوها نودو إن لكم أن تحيو فلا تموتوا أبدا وأن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبد
ويوتى بالموت على صورة كبش أملح فيوضع على صور بين الجنة والنار فينادى يا أهل الجنة فيشرئبون ينظرون ويا أهل النار فيشرئبون ينظرون فيقال للجميع أتعرفون هذ يقول نعم إنه الموت فيذبح هذا الكبش الذي يمثل الموت وينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت . (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُل) (الكهف:107)
(13/15)
---(1/405)
خالدين فيها وما هم منها بمخرجين ومع طول الحياة وطول المدة وطول البقاء لا تتطلع أنفسهم إلي التحول ولا إلي التغيير والتبديل . ( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَل)(الكهف: من الآية108)يعني هم لن يخرجوا من الجنة لن يخرجهم مخرج من الجنة ، دخلوها لن يخرجوا منها ، مع طول البقاء وطول الألفة ومدى الحياة حياة دائمة لا نهاية لها هل يصيبهم سئامة وملل أو يخطر ببالهم أن ينتقلوا من هذه الدار إلي دار أخرى كلا ( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَل)(الكهف: من الآية108) ، أنت في الدنيا دائما تتطلع إلي التغيير ، تكون في المدينة تسكن في الفلل وفي القصور إلا أنك أحيانا تشتاق إلي أن تخرج في البرية وتقيم في الصحراء ببيت من (كلمة غير مفهومة) تجلس فيه في الفضاء الواسع ، وأحيانا تنزل من المدينة إلي القرية ذات الدور من الطين وغير مؤسسة وغير مجهزة ، أنت أحيانا تمل وتسأم من طول بقائك في القصور والفلل والعمارات فتحاول أن تغير أحيانا ، أما أهل الجنة فمع طول البقاء ودوام البقاء وعدم النهاية ( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَل)(الكهف: من الآية108)
ثم يقول تعالي لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم يا نبينا (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَد) (الكهف:109)
المدد : الزيادة والبحر اسم جنس ليس مراده بحرا معينا وإنما البحر اسم جنس ولذلك قال (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ( والسبعة بالمثال وليس بالحرف أيضا ولنا كناية عن الزيادة) مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه ِ) (لقمان:27) لأن البحر والمداد والأقلام لها نهاية وكلمات الله لا نهاية لها ولا نسبة بين ما ينتهي مع ما لا ينتهي أبدا .
(13/16)
---(1/406)
(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَد) (الكهف:109)
وتختم السورة بقول الله تعالي لنبيه صلى الله عليه وسلم
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(الكهف: من الآية110) قل لهم يا نبينا ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ )(الكهف: من الآية110) أعجز عن ما تعجزون عنه ، وقد عجزتم مجتمعين عن الإتيان بسورة من مثل هذا القرآن ، فكيف أقدر أنا الواحد على ما عجزتم عنه جميعا (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(الكهف: من الآية110) جئتكم بهذا القرآن من عند الله ، فزعمتم أنني افتريته من عند نفسي ، أنا بشر مثلكم أعجز عن ما تعجزون عنه وأضعف عن ما تضعفون عنه وقد طلبت منكم أن تأتوا بسورة من مثل هذا القرآن ، فلو اجتمعتم فعجزتم فأنا بالتالي أعجز عن أن أتى بمثل هذا القرآن من عند نفسي ، فدل عجزكم على عجزي فثبت أن القرآن وحي الله تبارك وتعالي إلي ، وفد أخبرتكم في هذه السورة سورة الكهف بقصص كقصة أصحاب الكهف ، وقصة ذي القرنين ، وفيها من علم الغيب ما لا يعلمه إلا الله وما كان لي أن أعلم هذا القصص وأنبائه وأخباره إلا بوحي الله تبارك وتعالي إلي كما قال عز وجل (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَد) (الجن:26)
(13/17)
---(1/407)
(إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول)(الجن: من الآية27) (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ )(الكهف: من الآية110) هذا توجيه ، والتوجيه الثاني : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(الكهف: من الآية110) فكيف تقترحون علي أن آتيكم بآية أي بمعجزة ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ )(غافر: من الآية78) لماذا تقترحون علي الآيات ( نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوع)(الاسراء: من الآية90) لماذا تطلبون مني هذه الآيات (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُول)(الاسراء: من الآية93) أنا بشر مثلكم لا أستطيع أن آتي بآية إلا بإذن الله عز وجل ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)(غافر: من الآية78) فلا تسألوني ما لا أملك ولا تسألوني ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالي .
(13/18)
---(1/408)
ثم توجيه ثالث : (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ )(الكهف: من الآية110)قل يا نبينا لأصحابك ( إنما أنا بشر مثلكم فلا تطروني كما أطرت النصارى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ) ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من نهي عن أصحابه عن اطرائه وعن الغلو فيه ، جاءه رجل يقول ما شاء الله وشئت يا رسول الله فغضب وقال أجعلتنى لله ندا قل ما شاء الله وحده ، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه لم يكن شخص أحب إلي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك كان إذا دخل عليهم لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(الكهف: من الآية110) لكنني تميزت عليكم بشيء وهو الوحي ( يُوحَى إِلَيَّ)(الكهف: من الآية110) هذا هو الذي فضلني الله به عليكم إنما أنا وأنتم في البشرية سواء لكن الله فضلني عليكم بأن اصطفاني لوحيه (يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)(الكهف: من الآية110)
وهذا هو وحي الله تبارك وتعالي إلي جميع الأنبياء والمرسلين ، فالتوحيد هو دعوة جميع الرسل ، ولذلك اتفقت كلمة الأنبياء على( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)(لأعراف: من الآية59) قال تعالي (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:25)
وقال سبحانه (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النحل:1)
(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) (النحل:2)
(13/19)
---(1/409)
فالتوحيد هو دعوة جميع الرسل كلهم دعوا إلي إفراد الله تبارك وتعالي بالعبادة (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَد) (الكهف:110)
هذا الجزء الأخير من الآية تضمن شروط قبول الأعمال وأن شروط قبول الأعمال ثلاثة : الإيمان ، والمتابعة ، والإخلاص .
الإيمان : دل عليه قوله تعالي (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ )(الكهف: من الآية110) لأن الكافر لا يرجوا لقاء ربه (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) (يونس:7)
(أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس:8)
فقوله تعالي ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ )(الكهف: من الآية110) دل على اشتراط الإيمان لقبول الأعمال (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ )(الكهف: من الآية110) من كان يرجوا رؤية الله ويرجوا ثواب الله فليعمل ، أما أن ترجوا رؤية الله وترجوا ثواب الله بلا عمل فهذه أماني بعيدة التحقق ، ما بال دينك ترضى أن تدنسه ، وثوبك الزهر مغسول من الدنس ، ترجوا النجاة ولم تسلك طريقتها ، إن السفينة لا تجري على اليبس .
( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ)(الكهف: من الآية110) يقول الحسن البصري رحمه الله ( ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل )
)مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً )(الكهف: من الآية110) والعمل الصالح هو الموافق للسنة ، هو ما كان على هدى النبي صلى الله عليه وسلم .
(13/20)
---(1/410)
والشرط الثالث الإخلاص وقد دل عليه قول ربنا : ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَد)(الكهف: من الآية110)شركا أكبر ولا شركا اصغر ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَد)(الكهف: من الآية110) فإذا رزقت أيها المؤمن الإيمان بفضل الله عز وجل فاجتهد في الشرطين الأخيرين ، اجتهد في الإخلاص لله ، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عدم الإخلاص يمنع القبول ، وعدم موافقة السنة يمنع القبول أيضا يقول النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالي ( أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) ويقول في متابعة السنة ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) نسأل الله تبارك وتعالي أن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا وأن يرزقنا حب نبينا واتباعه حتى يرضي عنا ويتقبل أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه ، هذا والحمد لله رب العالمين وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
سؤال :
لقد قلتم أن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حينما ينزل فإنما أن يسلم الإنسان أو أن يقتل فلا يوجد جزية ولكن قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل عن عيسى يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية فهل هذا الحديث صحيحا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(13/21)
---(1/411)
يضعها بمعني يرفعها ، يضعها لا بمعني يفرضها وإنه معني يرفعها لأن الجزية مفروضة في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم على لسان مجمد صلى الله عليه وسلم فإذا جاء عيسى وضعها أي رفعها ونسخها ، وهذا بشرع محمد صلى الله عليه وسلم وليس بشريعة عيسى لأن عيسى عليه السلام حين ينزل لم ينزل نبيا مشرعا ، وإنما ينزل عاملا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أخبرنا بأن الجزية مقبولة من الكفار عند الجهاد حتى ينزل عيسى فإذا نزل عيسى لم يقبل جزية إما الإسلام وإما القتل ، ونبشر أخانا السائل من سورية بأن عيسى بن مريم عليه السلام أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه سينزل عندهم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق .
سؤال :
ذكرت يا شيخ حديث حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته الواحد منكم والألف من يأجوج ومأجوج لما كبر عليهم قول الله سبحانه وتعالي لآدم عليه السلام ( أخرج أهل النار من ذريتك من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار ) سؤالي يا شيخ إن كان الواحد الذي يدخل وهو من المؤمنين والتسعمائة وتسعة وتسعين الذين يدخلون النار هم يأجوج ومأجوج ، فماذا عن الكفار ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لعل هذا ليس هذا نفيا لعدم دخول الكفار النار ولكن المراد بهذا الحديث بيان كثرة عدد يأجوج ومأجوج ، وأما الكافرون من يأجوج ومأجوج ومن غير يأجوج ومأجوج هم في النار أيضا )إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة: من الآية72).
سؤال :
ما الفرق بين اسطاعوا واستطاعوا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(13/22)
---(1/412)
هي من حيث المعني واحد من جهة الاستطاعة والقدرة والتمكن ولكن فرقنا في اللفظين بأنه في الأولى بدون تاء تخفيفا على اللسان وفي الثانية تاء من باب الثقل لأن ارتقاء السد وعلوه والنزول من الناحية الأخرى هذا أسهل من النقب الذي يحتاج إلي آلات وحفر وعمل أياما كثيرة فقال (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ)(الكهف: من الآية97) لأن أن يظهروه أسهل من أن ينقبوه ، قال ( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْب)(الكهف: من الآية97).
سؤال :
هل هناك شروط خاصة للتوبة من التوسل الشركي الذي قد يقع حين البعض من خلال إفراد بعض الصالحين بعبادة (كلمة غير مفهومة) ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
التوبة شروطها عامة ، التوبة من جميع الذنوب شروطها عامة وهي الإقلاع من الذنب ، والندم عليه ، والعزم على ألا يعود ، أيا كان هذا الذنب كفرا أو شركا أو توسلا بدعيا أو توسلا شركيا ، أو الزنا أو القتل ، أيا كان الذنب فشروطه كما قال العلماء إقلاع من الذنب ، والندم عليه ، والعزم ألا يعود إليه .
لكن الله سبحانه وتعالي قال (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود:114) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، فقال العلماء على التائب من الذنب أن يكثر من ضده من الطاعة ، كان إنسان مبتلي بسماع الأغاني المحرمة فإذا تاب يكثر من سماع القرآن الكريم ، كان إنسان مبتلي بالتوسل الشركي وتوسل بدعي فإذا تاب يكثر من التوسل السني الصالح الموافق للشريعة وهكذا يكثر من ضد الذنب الذي تاب منه ، والله يتوب عليه .
سؤال :
نرجو تفسير واضح لقوله تعالي (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَد) (الكهف:109)
أجاب فضيلة الشيخ :
(13/23)
---(1/413)
الكلام صفة من صفات الله عز وجل فلو أن الله سبحانه وتعالي تكلم بكلام وكتب هذا الكلام بأقلام من أشجار الأرض كلها ومداد من بحار الأرض كلها لنفذت الأقلام والبحار قبل أن ينفذ كلام الله سبحانه وتعالي .
سؤال :
بالنسبة للمؤمنين اللي هيكونوا مع المسيح في نهاية الوقت من أهل الشام والعراق المؤمنين اللي موجودين في المنطقة دي بس ولا الأرض كافة ، وهل لهذا علاقة بتحرير بيت المقدس ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
عيسى عليه السلام سينزل في زمان محمد بن عبد الله المهدي رضي الله عنه ومحمد بن عبد الله المهدي رضي الله عنه سيكون سيجعل القدس عاصمة الخلافة الإسلامية في زمانه ومعلوم أن الناس تبعا لخليفتهم وأميرهم وإن بعدت بينهم المسافات فينزل عيسى بن مريم في زمان المهدي بفلسطين فيكون عيسى بفلسطين ونحن نحبه ونتبعه وإن كنا بعيدين عنه بأجسامنا ، ومن أدرك ذلك الزمان واستطاع أن يهاجر إلي فلسطين ليقيم مع المهدي وعيسى بن مريم فهنيئا له .
سؤال :
الأسباب المعينة على الصبر في التعلم ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
أولا : كثرة القراءة فيما جاء في فضل العلم والاشتغال به من القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانيا : قراءة سير أعلام النبلاء من علماء الأمة الذين رفع الله تبارك وتعالي ذكرهم ، قراءة سيرتهم والنظر في حياتهم وكيف كانوا يؤثرون طلب العلم على كل شيء حتى أنه مما قرأناه أنه كان بعض الطلاب يجتمعون لمدارسة فيضعون الطعام بين أيديهم ، تمضي الليلة وهم لا ينتبهون إلي الطعام من انشغالهم بالمدارسة والمداركة والمذاكرة ، فقراءة ما جاء في القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في فضل العلم والاشتغال به وقراءة سيرة السلف الصالح والعلماء كل ذلك إن شاء الله يقوي العزائم ويعين على الصبر والتضحية من أجل تحصيل العلم .
سؤال :
(13/24)
---(1/414)
قالت لي معلمتي أنه لا يجوز إن الإنسان يقرأ من أول البقرة حتى الناس ، هو لا يصح هذه القراءة ، حتى لا يقع في اللحن الجلي ، وأنا صححت مع معلمتي عشرة أجزاء فتقول اقرأيهم واجعليهم وردا لكي ولا عليكى أن تقرأى من البقرة وتختمي كل شهر القرآن فاقرئى الذي صححتيه على معلمتك فقط لأن كام قارئ للقرآن والقرآن يلعنه ، فهل هذا صحيح ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
هي حفظت عشرة أجزاء وصححتها ما أظن أن من صحح عشرة أجزاء وعلم أحكام التجويد فيها ما أظنه يصعب عليه أن يصحح قراءته بدون معلمه في الأجزاء الباقية ، فلذلك أنصح هذه السائلة بألا تحرم نفسها من قراءة القرآن ومن ختمه ولو مرة في الشهر مع التركيز على المحفوظ من أجل مراجعته إن شاء الله ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) أجر القراءة وأجر التعتعة .
سؤال :
كما ذكرت أنه هناك (كلمة غير مفهومة) شديدة (كلمة غير مفهومة) تكون في اقناع العاصي الذي يعرف أنه يرتكب معصية لكن ناتج فعلا صعوبة شديدة في إقناع المبتدع الذي يظن أنه على حق ولذلك لتمكن الشيطان منه كما ذكرت فضيلتكم فهل حضرتك تنصحنا بنقاط عملية نبتدئها (كلمة غير مفهومة) لمساعدة هؤلاء الضالين وإقناعهم بضالتهم خاصة إذا كان هذا (كلمة غير مفهومة) من الحافظين لكتاب الله والدارسين العلم الشرعي ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(13/25)
---(1/415)
النصيحة بأننا نتنزه عن الجدال فإذا رأينا إنسانا على بدعة وذهبنا إليه لنذكره بدعته والإقلاع عنها فرأينا منه سهولة ولينا وقبولا واستماعا فهذا نستمر معه في النصيحة والتذكرة ونأتيه بالكتب الصغيرة والكبيرة وأشرطة العلماء في التحذير من البدع وأهلها حتى يأخذ الله تبارك وتعالي بيديه ، أما إذا رأينا من المبتدع جدالا ومحاولة الرد علينا فقد قيل للإمام مالك رضي الله عنه الرجل يكون عالما بالسنة أيجادل عنها ؟ قال لا وإنما يطرحها فإن قبلت وإلا سكت ، فهذا هو شأننا مع المبتدعة إن وجدنا لينا وقبولا وحسن استماع وإنصات استمرينا في الدعوة والنصيحة ، وإن وجدنا جدالا وإصرارا على البدعة تركناهم وشأنهم والله الهادي إلي سواء السبيل .
سؤال :
ورد في الحديث أنه من يحفظ عشر آيات من أول الكهف فإنه يعصم من الدجال ، وفي رواية أخرى من أخر سورة الكهف ، ما هو القول الصحيح ، هل هو من أول السورة أم من أخرها ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
الروايتان صحيحتان فإذا جاءت رواية بمن حفظ عشر آيات من أول الكهف ورواية بمن حفظ عشر آيات من أخر الكهف ، يلزمنا نحفظ عشرا وعشرا وعشرة وعشرة يبقي عشرين يبقي بقي في السورة ثمانين أو تسعين آية فلنجتهد على حفظها وما أسهل حفظ سورة الكهف مع كثرة تلاوتنا وقرائتنا لها إن شاء الله تعالي .
سؤال :
قال الشيخ أن عيسى والمؤمنون سيكونون وراء الجبل احتماء من يأجوج ومأجوج فأين سيكون الكافرين من أهل الأرض ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
الله تعالي أعلم .
سؤال :
هل هناك حديث يخرج الأعور الدجال من خرسان ومعه سبعين ألف لواء يهودي ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
أي نعم حديث صحيح .
سؤال :
(13/26)
---(1/416)
عندما سئلت عن الزندقة في درس سابق أجبت أن الزنديق لفظ يراد به الإلحاد والكفر والشرك بالله سبحانه وتعالي ،وقلت مطلق لفظة زنديق على الملحد الكافر المشرك ونحن علمنا في مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة أن هناك قول للعلماء من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ، والزنادقة هم الذين يزعمون أنه يكفيهم حب الله عن عبادته ولا يقرنون المحبة بالخوف والرجاء بل يعبدون الله بالحب وحده ، وقيل التزندق هو الاستهتار بالدين فلا ينتهي عما نهى الله عنه ، فهل لك من تعليق يا شيخ على هذا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
التعليق أنه هو ما ذكرته إنما هو أمثلة للكفر والشرك الذي يستغني عن عبادة الله بادعاء حب الله يقول أنا أحب الله ولا أعبده يكفيني أنا أحبه أليس هذا كفرا ، والذي يستهزأ بالآيات وأحكام الشريعة أليس هذا كفرا ، فهي ما ذكرته إنما هي أمثلة ونحن أجملنا قلنا أن الزنديق لفظ يطلق على الملحد والمشرك والكافر وما ذكرته هي إنما هي أمثلة لأنواع من الكفر .
سؤال :
من الراجح في أقوال العلماء أنه لا يقرأ القرآن سواء حفظا عن ظهر قلب أو مسا للمصحف من لديه عذر شرعي إلا لضرورة هل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة ضرورة وهل يقراها حفظا من لديه عذر شرعي ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
زادها الله حرصا ، لا أرى مانعا من قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة مع وجود العذر الشرعي عند المرأة .
سؤال :
لماذا لم يخبر الخضر موسى عليه السلام بتأويل كل حادثة عند حدوثها ربما لو سمع موسى تأويل الحادثة الأولى لم يسأل بعدها وتعلم أكثر ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
الله تعالي أعلم .
سؤال :
هل القوم الذين لم يدعوا الله لهم من دونها سترا يعني أنهم كانوا أيضا عراة ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
ذكر ذلك بعض المفسرين ولكننا لا ندري مدى صحته .
سؤال :
القوم الذين لا يكادون يفقهون شيئا ، كيف استطاع ذي القرنين أن يفهمهم ؟ أجاب فضيلة الشيخ :
من تمكين الله لهم في الأرض .
سؤال :
(13/27)
---(1/417)
رأيت في برنامج يحكي قصص شخصيات إسلامية أن أول مرة عندما بلغ المسلمون القطب الشمالي تعجب) الخليفة في ذلك الزمان من خبر شروق الشمس طويلا لمدة ستة أشهر بدون غياب قال له علماء عصره أن الله تبارك وتعالي قال (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْر) (الكهف:90)
أي أن ذو القرنين ذهب للقطب ووجد حين ذهابه الشمس في فترة شروقها لستة أشهر لكني مع الأسف لم أتذكر عصر الخليفة ومن هو ومن أفتاه بهذا فهل هذه القصة لها أصل ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لا أعرفها .
وهل أنا آثمة برواية هذه القصة على ملأ من الأخوات وقد ضمنت صحتها حتى بحثت في كتب التفسير لم أجد لها أثرا في أقوال السلف .
أجاب فضيلة الشيخ :
ليست آثمة إن شاء الله وزادها الله حرصا ، والحرص على طلب العلم والبحث محمود وليس مذموم فهي محمودة على حرصها وبحثها ومحاولتها الزيادة من العلم وليست مذمومة فضلا على أن تكون أثمة إن شاء الله .
سؤال :
هل يجوز عامة أن يحمل تفسير آية من كتاب الله (كلمة غير مفهومة) يخبر به السلف الصالح في القرون المفضلة ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم هكذا قال بن مسعود رضي الله عنه .
سؤال :
(13/28)
---(1/418)
هل يصلح ما أمر الله سبحانه وتعالي به عيسى بن مريم أنه قد (كلمة غير مفهومة) دليل على أنه إذا واجه المسلمون قوم لا طاقة لهم بمحاربتهم على المنع من مواجهتهم ، وما توجيهكم إذا حدث هذا بفئة أو بشعبة من شعوب المسمون في مكان قد حصروا فيه ، فالحال كما نراه أن الحدود التي تحد بلاد المسلمين قد حاصرتهم وقد يسعى عدوهم استفزازهم وهم لا طاقة لهم بمحاربته ولا مكان لهم يتحرزون فيه من عدوهم هل يصبرون على أذى عدوهم ؟ وإن كان هذا (كلمة غير مفهومة) العدو على الشعب المسلم قتل أنفس أو تدمير بيوت أو قطع طرق وتضييق (كلمة غير مفهومة) أن يكون بجهاد عدوهم لما قد يشفي شيئا من غليلهم مع أنه لا يؤدي إلي توقف عدوهم عن الاعتداء بل قد يستفزهم إلي المزيد من القتل والتدمير والتضييق ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
فرج الله الكرب وعجل بالنصر الله تبارك وتعالي قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العس يسرا ) فاصبروا واحتسبوا عسى أن يكون الفرج قريبا إن شاء الله .
سؤال :
قرأت في الكتاب عن أبي هريرة الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فتح اليوم (كلمة غير مفهومة) يأجوج ومأجوج مثل هذا وعقد التسعين أخرجه البخاري ومسلم من حديث (كلمة غير مفهومة) فما مدى موافقة ذلك هل كبيرهم قال إن شاء الله في ذلك الوقت ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(13/29)
---(1/419)
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على إحدى نسائه ذات ليلة وهو يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من رم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها يعني السبابة ، ومثل هذه الحلقة حين تفتح من السد لا تسمح بخروج جزء من رجل فضلا عن رجل أو رجال فهذا لا ينفي ما ذكرناه من أنهم ينقبون كل يوم فهذا حديث رواه بن ماجة وصححه شيخنا الألباني رحمه الله أنهم ينقبون كل يوم حتى إذا كادت الشمس أن تغرب قال كبيرهم ارجعوا ستفتحونه غدا وهكذا كل يوم إلا أن يأذن الله بخروجهم فيقول ستفتحونه غدا إن شاء الله فيأتونه فيجدونه على الهيئة التي تركوها عليه فيتموا النقب والعمل ثم يخرجون ، فهذا حديث أيضا وليس مجرد كلام ، والجمع بين الحديثين أن ما فتح هكذا لا يمكن إنسان أن يخرج يده فضلا عن يخرج هؤلاء الجمع الغفير الكثير من يأجوج ومأجوج .
سؤال :
هل نحن على اثم في الاستماع ، هل استماعنا وتطبيقنا لهذه الأوامر والنواهي هل احنا على اثم في ذلك أو لا ؟ لأن الشيخ قال لنا إما أن يكون حجة أو أن هذا (9 قد يكون (كلمة غير مفهومة) ، هل على اثم في ذلك ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(13/30)
---(1/420)
كأنها تريد أننا قلنا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال والقرآن حجة لك أو عليك ، كأنها تريد أن تقول متى يكون القرآن حجة علينا ، ومتى يكون حجة لنا ؟ والجواب أننا بفضل الله عز وجل نتعلم ونستعين بالله تبارك وتعالي على العمل فإذا رزقنا العلم والعمل معا فذلك فضل الله تبارك وتعالي وإن قصرنا أحيانا فتركنا بعض ما تعلمناه من الواجبات أو ارتكبنا يعض ما تعلمناه من المحرمات فإننا نستغفر الله تبارك وتعالي ونتوب إليه وحين إذن يكون القرآن هو كل ما نتعلم علوم شرعية حجة لنا بإذن الله ، أما الذي هو حجة عليه هو الذي يتعلم ولا يعمل أبدا والعياذ بالله ويكون عالما بأنه غير عامل ويصر على عدم العمل فذلك هو الذي يكون علمه حجة عليه نعوذ بالله من الخذلان ونسأله الهداية والتوفيق .
سؤال :
كثير من الناس يفهمون حديث إنما الأعمال بالنيات أن المهم هو النية السليمة بغض النظر عن صلاح العمل هذا يظهر كثيرا في إنكار المنكر ، فماذا تستطيع أن نقول لهم ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(13/31)
---(1/421)
كثير من الناس يرون حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لا ينظر إلي أجسامكم ولا غلي صوركم ولكن ينظر إلي قلوبكم ، وينتهون عند هذا اللفظ فنقول لهم هذا الحديث فيه نقص فيه زيادة غير موجودة لم تبلغوها وانتم بهذا فالقارئ يقرأ فيقول فويل للمصلين ويسكت لو قرأت فويل للمصلين فلابد أن تقول الذين هم عن صلاتهم ساهون ، وكذلك قولهم إن الله لا ينظر إلي أجسامكم ولا إلي صوركم ولكن ينظر إلي قلوبكم ، فربنا رب قلوب المهم إن النية تكون سليمة ، فمثلا إنسان يصافح امرأة فإذا قلت له المصافحة حرام يقولك ربنا رب قلوب والله أنا نيتي سليمة ، النية هنا لا تسمن ولا تغني من جوع ، الحديث إن الله لا ينظر إلي صوركم ولا إلي أجسامكم ولكن بنظر إلي قلوبكم وأعمالكم ، فلابد من العمل مع النية ، اللهم إلا أن تنوي خيرا ثم تعجز عنه فإنك مأجور بنيتك ومن هنا قيل نية المرء خير من عمله ، متي إذا عزمت على فعل الخير ثم عجزت عنه فأنت مأجور بالنية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى الرجل إلي فراشه وهو ينوى أن يقوم من الليل يصلي فغلبته عينه كتب له أجره وكان نومه صدقة من الله عليه يعني أنت كمسلم حين تنام بالليل تقول أنا إن شاء الله أقوم قبل الفجر بساعة أصلي قيام الليل وتعزم على ذلك وتأتني بالمنبه فتضبط الوقت على قبل الفجر بساعة وتنام عازم على أن تقوم قلب الفجر بساعة تصلي فإذا بك لا تستيقظ إلا مع طلوع الفجر وربما أحيانا بعد طلوع الفجر أنت نمت عازما على أن تقوم بالليل تصلي فيكتب الله لك أجرك ويكون نومك صدقة من الله عليك وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما الدنيا لأربعة نفر رجل أعطاه الله علما ومالا فهو يعمل بعلمه في ماله يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه فهذا بأعلى المنازل ، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول لو أن لي مثل مال فلان لعملت به أو فيه بعمل فلان فهما في الأجر سواء ، هذه معني نية المرء خير من عمله مش على(1/422)
(13/32)
---
الإطلاق تقول أنا نيتي سليمة ثم لا تعمل الخير أبدا أو تفعل الشر المحرم الذي حرم الله عليك وتقول نيتي سليمة هذا كلام خطأ يجب أن يصحح للعامة بالحكمة والموعظة الحسنة .
سؤال :
المفسرين المعاصرين يقولون في قول الله سبحانه وتعالي " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " كلمة فتحت لا تحتمل لغة أن يكون م سيفتح هو السد جاء في الحديث الشريف أن الرسول صلى الله عليه وسلم استبقظ من نومه فزعا وقال ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من رمي يأجوج ومأجوج إلي أخر الحديث وهذا يشير إلي تزامن بدايات انهيار السبت مع بداية مرحلة العالمية واختلاط الأمم التي جاء الإسلام ليحققها ولا شك أن كلمة يختلط لا تفي هنا بالغرض بل يموج لأن الاختلاط لا يدل على الكثرة الهائلة وكل ذلك بعض إيحاءات كلمة يموج أما كلمة تركنا في قوله تعالي (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)(الكهف: من الآية99) فتوحي بالمنع السابق تستمر مرحلة موج الأمم في بعضها إلي يوم القيامة (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْع) (الكهف:99)
ولكن هذا الموج لا يذهب بخصوصيات الأمم وتميزها بدليل أن يأجوج ومأجوج الذين أفسدوا في مرحلة تبلور شخصيات وخصوصيات الأمم سيعاودون الكرة فيكون الوقت الذي تقترب فيه وظيفة الدين الدنيوية من نهايتها تقترب نهاية وظيفة العرب أيضا ، فما نصيحتكم لنا لمثل هذه التفسيرات ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
إحذروا مثل هذه التفسيرات فهذا تحريف للكلم عن مواضعه كما حرفوا الدجال وكما حرفوا بعض أمارات الساعة الثابتة في القرآن والسنة فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه فيجب على المسلم أن يكون حذرا من مثل هذه التفسيرات ، النصوص باقية على ظواهرها ولا يجوز تأويلها بغير تأويل السلف لها ، السلف كانوا أعلم وعلمهم كان أحكم .
سؤال :
(13/33)
---(1/423)
القوم الذين لا يفقهون قولا طلبوا من ذي القرنين أن يبنوا لهم سدا لكن ذي القرنين قال سأبني لكم ردما ، هل هناك فرق بين السد والردم ، أم المعني واحد ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لما بنى السد ردم ما بين الجبلين ردم الفتحة فأغلقها فكان سدا فالسد والردم معني واحد .
سؤال :
كيف يا شيخنا الوقت قصير بعد خروج يأجوج ومأجوج وعيسى عليه السلام يقعد سنين كما قلت بالناس حتى يموت يأجوج ومأجوج ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لو تصورت مثلا أن بعد عيسى بن مريم يعيش الناس مائة سنة ما قيمة المائة سنة بالنسبة لما مضى من العمر الدنيا وأمثالها ، لا شيئا فكون عيسى يعيش في الأرض بعد خروج يأجوج ومأجوج سنين أربعين أو أكثر أو اقل هذا ليس معناه أنه اقترب الوعد الحق كما قال ربنا سبحانه وتعالي ، الله سبحانه وتعالي منذ أن أنزل القرآن قبل أربعة عش قرنا اقتربت الساعة فهذا قرب له معناه ، واقترب الوعد الحق بعد خروج يأجوج ومأجوج (كلمة غير مفهومة) قرب له معناه .
سؤال :
هل يجب لطالب العلم أن يبدأ بحفظ أجزاء القرآن الكريم قبل دراسة مواد الأكاديمية من فقه وعقيدة وحديث إلي أخر العلوم برجاء النصيحة ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
كان السلف الصالح رضوان الله عليهم إذا جاءهم الطالب يطلب العلم سألوه هل حفظت القرآن فإن قال لا ردوه وإن قال نعم امتحنوه ، فحفظ القرآن الكريم أولا لكن الآن نحن تأخرنا في طلب العلم طلبنا العلم ونحن كبار فهناك الآن عندنا من (كلمة غير مفهومة) من العلم الكثير الكثير العقيدة في أربعين ، الفقه في العبادات العينية في أربعين وهكذا فلا نقول اتركوا طلب العلم حتى تحفظوا القرآن الكريم ولكن نقول ابدأو بحفظ القرآن الكريم وطلب العلم الذي فرضه الله عليكم مها اطلبوه معا وأعطوا القرآن أولوية حتى تنتهوا من حفظه إن شاء الله تعالي .
سؤال :
(13/34)
---(1/424)
ما نصيحتكم للروافض الذين فسروا الآيات التي نزلت في الكفار وهم جعلوها في أبي بكر وعمر رضي الله عنهم وهذه الآية التي ذكرتها قول الله عز وجل (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْع) (الكهف:104)
يقولون نزلت في أبي بكر وعمر وما حكم من يسب (كلمة غير مفهومة) الصحابة الكرام وما ردكم ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
نقول حسبنا الله ونعم الوكيل ورضي الله عن أصحاب النبي (كلمة غير مفهومة) أجمعين وهدى الله من سبهم ولعنهم لا شك أن لعن الصحابة كبيرة من أكبر الكبائر نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق .
سؤال :
ما هي المحبطات للأعمال غير الكفر وهل عقوق الوالدين محبط للعمل ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
نسأل الله السلامة والعافية نعم عقوق الوالدين من محبطات الأعمال فقد جاء رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت إن صليت الخمس وصمت رمضان وأعطيت زكاة مالي وحججت البيت ءأدخل الجنة قال نعم إلا أن تعق والديك ، فعقوق الوالدين من محبطات الأعمال فعلى المبتلى بالعقوق أن يبادر بالتوبة إلي الله سبحانه وتعالي وإن كان الوالدان ما زال على قيد الحياة فليبدل عقوقهم برا وإحسانا لهما حتى يرضين عنه ، وإن كان قد ماتا فعليه مع الاستغفار والتوبة أن يكثر من الدعاء والترحم عليهما ، عسى الله أن يتوب عليه وعلى أبويه .
سؤال :
هل يوم القيامة لازم أن يكون يوم جمعة ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه لا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة .
(13/35)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
بداية تفسير سورة مريم(1/425)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل ولا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
ثم مرحبا بكم في هذا اللقاء الجديد من لقاءات دروس التفسير وقد انتهينا بفضل الله تبارك وتعالي من تفسير سورة الكهف ، واليوم موعدنا مع البدء في تفسير سورة مريم ولكن قبل أن نبدأ في هذا الدرس الجديد من دروس تفسير سورة مريم نريد أن نطرح ثلاثة أسئلة على إخواننا المشاهدين والمشتركين معنا في هذه الأكاديمية العلمية المباركة حتى نطمئن على الحرص على المتابعة والمشاركة وعلى تحقق الاستفادة بإذن الله .
سؤال : ما هي المناسبة بين سورة الكهف وسورة الإسراء ؟
سؤال : ماذا استفدت من قوله تعالي ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَل ? [الكهف:30]
سؤال : ما هي شروط قبول الأعمال ؟
ثم نقول هذه الآيات المباركات التي معنا اليوم من سورة مريم تضمنت من المعاني ما يلي .
أولا : المناسبة بين السورة الكريمة وبين سابقتها وهي سورة الكهف .
ثانيا : موضوع السورة .
ثالثا : آداب الدعاء .
رابعا : نحن معاشر الأنبياء لا نورث .
خامسا : الحرص على صلاح الذرية .
سادسا: الحث على الاستمساك بالكتاب .
أخيرا : فضائل يحيى بن زكريا عليهما السلام .
(14/1)
---
وهذا بإيجاز أهم ما تضمنته الآيات المباركات من سورة مريم من المعاني والتي نعيش في رحابها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالي .(1/426)
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ? [صّ:29]
?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الحشر:21]
?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ?[الزمر:23]
سورة مريم تأتي في ترتيب المصحف عقب سورة الكهف والمناسبة بين السورتين أن الله سبحانه وتعالي قص علينا في سورة الكهف كما تعلمنا قصصا من أعجب القصص ، قص علينا قصة أهل الكهف ، وقصة موسى مع الخضر ، وقصة ذي القرنين ، وقد استفتح أول قصة بقوله ?أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَب ? [الكهف:9]
وقص الله تبارك وتعالي علينا في هذا القصص القرآني في سورة الكهف عجبا من آياته ودلائل قدرته سبحانه وتعالي .
(14/2)
---(1/427)
كذلك قص علينا ربنا سبحانه وتعالي في سورة مريم من القصص العجيب ، قص علينا قصة ميلاد يحيى بن زكريا عليه السلام وهذا أمر عجيب حيث لم تجري العادة بأن الشيخ الكبير يولد له بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة ، ولم تجري العادة أن المرأة العجوز تلد بعد ستين أو سبعين سنة فكان في ميلاد يحيى بن زكريا عليهما السلام أمر عجب ، وأعجب منه ما كان في القصة الثانية في سورة مريم وهي قصة ميلاد عيسى بن مريم عليه السلام ، إذا كان عجبا أن يلدا الشيخان الكبيران العجوزان المسنان فأعجب من ذلك أن تلد امرأة دون أن يمسها بشر في حلال أو حرام ، فلما قص الله تبارك وتعالي علينا في سورة الكهف عجبا فيما قصه علينا ناسب أن يأتي بسورة مريم عقب سورة الكهف لما فيها أيضا من العجب فيما اشتملت عليه من القصص .
وأما موضوع السورة فسورة مريم سورة مكية شأنها شأن السور المكية في الاهتمام بترسيخ العقيدة وبيان أصول الدين وأركان الإيمان ، وقد ركزت السورة الكريمة على الأصل الأول وهو التوحيد وعرضت علينا عن طريق القصص أن التوحيد كان دعوة جميع المرسلين ، وفي أخر السورة حدثنا الله تبارك وتعالي في عن أهوال اليوم الأخر وورود الناس النار وإنجاء الله تبارك وتعالي للمتقين وحبسه للظالمين في نار جهنم وختمت السورة بتنزيه الله تبارك وتعالي عن الولد كما زعمه المشركون ?وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَد ?88?لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّ ?89?كَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّ ?90?أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَد ?91?وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَد ?92?إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْد ?93?لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّ ?94?وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْد ? [مريم:88- 95]
(14/3)
---(1/428)
وسردت علينا السورة الكريمة قصصا من قصص الأنبياء والمرسلين قصة ميلاد يحيى بن زكريا عليهما السلام ، قصة ميلاد عيسى بن مريم عليهما السلام ، قصة إبراهيم عليه السلام ودعوته آبائه وقومه إلي التوحيد والإسلام ، وأطالت في هذه القصص الثلاث ثم جاءت إشارات مجملة إلي مجموعة من النبيين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام .
واستفتحت السورة الكريمة بقوله تعالي ?كهيعص ? [مريم:1]
وكثيرا ما استفتح الله تبارك وتعالي بعض سور القرآن بمثل هذا الاستفتاح بالحروف المقطعة فهناك سور استفتحت بحرف واحد وسور استفتحت بحرفين وسور استفتحت بثلاثة أحرف وسور استفتحت بأكثر من ذلك ، وقد اختلف العلماء في سر استفتاح الله تبارك وتعالي هذه السور القرآنية بمثل هذه الحروف المقطعة ورجح شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله أن سر ذلك والله تعالي أعلم بمراده هو الرد على المشركين الذين زعموا أن القرآن أساطير الأولين اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم فهي تملي عليه بكرة وأصيلا ، أو أن القرآن أفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ، فأراد الله سبحانه وتعالي إبطال ذلك الزعم ورد هذا الادعاء وإثبات أن القرآن كلام الله رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين ، فاستفتح الله تبارك وتعالي بعض سور القرآن بحرف وبحرفين وبثلاثة من الحروف الأبجدية التي يتكون منها كلام العرب ، وكأن الله سبحانه وتعالي يريد بهذا الاستفتاح أن يقول للذين زعموا أن القرآن أفك افتراه محمد من عند نفسه وليس وحيا أوحاه الله إليه كأن الله أراد أن يقول لهم إن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف التي يتألف منها كلامكم ومحمد الذي جاء بهذا القرآن واحد منكم فلإن كان محمد افتراه من عند نفسه فلن يعجز فصحائكم وأهل البلاغة منكم فرادى أو مجتمعين أن يأتوا بشيء من مثل ما أتي به محمد صلى الله عليه وسلم فإذا عجزتم فرادى ومجتمعين أن تأتوا بشيء من(1/429)
(14/4)
---
مثل هذا القرآن كان محمد أعجز منكم فثبت بعجزكم عن الإتيان بشيء مثل القرآن أنه كلام الله تعالي أوحاه إلي رسوله صلى الله عليه وسلم يقول تعالي ?وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ?23? فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ?في الحاضر وقت الطلب ?وَلَنْ تَفْعَلُو ? في المستقبل إلي يوم القيامة ، فالتحدي قائم إلي يوم القيامة والمعجزة باقية إلي يوم القيامة فإن لم تفعلوا في الحاضر ولن تفعلوا أبدا ?فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ? بالإيمان يأن القرآن كلام الله رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين .
يدلك على رجحان هذا القول في سر استفتاح الله تبارك وتعالي بعض سور القرآن بالحروف المقطعة أنك لا ترى سورة افتتحت بهذه الحروف المقطعة إلا رأيت الله تبارك وتعالي في مطلعها ينتصر لكتابه ويشيد به ويشير إلي علوا شأنه وارتفاع مكانته فإذا قرأت البقرة مثلا رأيت الله تبارك وتعالي يقول ، ألم ثم يقول ?ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ?[البقرة: من الآية2] لاشك ولا مرية أنه من عند الله عز وجل .
فإذا قرأت آل عمران رأيت الله تبارك وتعالي يقول ?الم ? [آل عمران:1]
?اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ? [آل عمران:2]
?نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ ?3?مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ?[آل عمران: 3-4]
فإذا نزلت إلي الحواميم رأيت الله تبارك وتعالي يقول " حم "?تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ? [غافر:2]
"حم "?تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ? [فصلت:2]
(14/5)(1/430)
---
"حم "?تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ? [الجاثية:2]
فهذا هو الراجح من أقوال العلماء في سر استفتاح الله تبارك وتعالي بعض سور القرآن بمثل هذه الحروف المقطعة .
?كهيعص ? [مريم:1]
وبعد هذا الاستفتاح يقول تعالي ?ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّ ? [مريم:2]
ذكر مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا ذكر كما قال تعالي في مواضع ?وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ? [الأنبياء:50] فأتي بالمبتدأ والخبر فقوله تعالي ?ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّ ? [مريم:2]
"ذكر " مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا ، قال الإمام البغوي رحمه الله في تفسيره وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره هذا زكر ربك عبده زكريا برحمتى ?ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّ ? [مريم:2]
المراد بالرحمة هنا قبول الدعاء وإجابة السؤال ?ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّ ? [مريم:2]
المراد بالرحمة إجابة زكريا فيما دعا وإعطائه ما سأل وكأن الله سبحانه وتعالي يقول إن من رحمة الله بالعبد أن يجيبه إذا دعاه وأن يعطيه إذا سأله ، ومن علامات الشقاء أن يدعوا العبد ربه يجيبه وأن يسأله فلا يعطيه ، لكن من رحمة الله تبارك وتعالي بالعبد أن يجيبه إذا دعاه وأن يعطيه إذا سأله كما قال تعالي ?وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ?83?فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَ ? [الانبياء:84] رحمة من عندنا بأيوب عليه السلام استجاب الله تبارك وتعالي دعائه وكشف ما به من ضر وآتاه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين .
?ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّ ? [مريم:2]
(14/6)
---(1/431)
وزكريا نبي من أنبياء بي إسرائيل المشهورين والمعروفين وفي وصف الله تبارك وتعالي له بالعبودية إشارة إلي أن عبودية الأنبياء لله تبارك وتعالي أشرف ما يصفهه الله تبارك وتعالي به ولذلك قلنا في أول سورة ، في أول آية في سورة الكهف ?الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ? [الكهف:1]
قلنا أن الله تبارك وتعالي وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أشرف المواضع فالأنبياء غاية ما يتطلعون إليه أن يبلغوا من العبودية بالله تبارك وتعالي مبلغا لم يبلغوا غيرهم من خلق الله سبحانه وتعالي .
?ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّ ?2?إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّ ? [مريم:3]
انتبه لكلمة الرب في هذه الايات المباركات وأحصي كم مرة ذكرت ?إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّ ?3?قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّ ?4?وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّ ?5?يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّ ? [مريم:5- 6]
في هذه الآيات جملة من آداب الدعاء ، الدعاء هو العبادة هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء هو العبادة ?وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ? [غافر:60]
فالدعاء هو العبادة هذا الدعاء حين تدعو الله سبحانه وتعالي هناك آداب ينبغي أن تتحلى بها وأنت تدعوا الله سبحانه وتعالي رجاء أن يكون دعائك مجابا ومقبولا .
(14/7)
---(1/432)
من آداب الدعاء : أن يلح الداعي على الله سبحانه وتعالي بندائه بوصف الربوبية ( يا رب ، يا رب ، يا رب ) فإن زكريا عليه السلام تقرر منه هذا النداء مرات كما أحصيناها آنفا في هذه الآيات المباركات وهذا هو هدي نبينا في الدعاء .
?وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ?[الانبياء: من الآية83]
?وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ ?[الانبياء: من الآية89]
وهذا أيضا هو هدي عباد الله الصالحين في الدعاء ?إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ?190?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ( استمع ) رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?191?رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ?192?رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ?193?رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ? [آل عمران:194]
ماذا قال الله تعالي ?فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ?[آل عمران: من الآية195]
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلي السماء يا رب ، يا رب ، يا رب .
فمن أدب الدعاء أن تلح على الله تبارك وتعالي في دعائك بوصف الربوبية لأن الربوبية تستلزم الفضل والمنة والعطاء والإحسان فكأنك حين تقول يا رب تقول يا رب أنا عبدك وأنت ربي ربيتني بفضلك وعودتني على إحسانك وجودك وكرمك فلا تجعلني ربي بدعائك شقيا .
(14/8)
---(1/433)
?إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّ ? [مريم:3]
لم يسمعه أحد من الخلق لماذا أخفى زكريا عليه السلام دعائه عن الناس ؟
لأن الإخفاء والإعلان بالنسبة لله تبارك وتعالي سواء قال تعالي ?سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ?[الرعد: من الآية10] فإذا كان الجهر والإسرار بالنسبة لله تبارك وتعالي سواء فلا داعي للجهر بالدعاء لأن الدعاء كلما كان في الخفاء وفي السر كلما كان أقرب إلي الإخلاص وكلما كان أقرب إلي الإخلاص كان أقرب إلي الإجابة من الله سبحانه وتعالي ، فحاول دائما أن تخفي دعائك وأن تخفي مسألتك ?ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ? [الأعراف:55]
لماذا تجهر بالدعاء ويسمعك أبعد الناس منك ، الله تبارك وتعالي منك قريب فأخفي دعائك عن الناس لأن الله سميع قريب ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ?[البقرة:186]
?إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّ ? [مريم:3]
فمن أدب الدعاء أن تلح على الله تعالي بالنداء بوصف الربوبية يا رب ، يا رب .
ومن أدب الدعاء أن تخفيه عن الخلق ،وأن تخفيه عن الناس .
قال ربي ، ماذا قال في دعائه الخفي الذي أخفاه عن الناس ?قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّ ?[مريم:4]
هذا من أدب الدعاء أيضا ، من أدب الدعاء أن يظهر الداعي وأن يظهر السائل لله تبارك وتعالي عجزه وضعفه وذله وافتقاره وانكساره أن تطرح نفسك بين يدي ربك سبحانه وتعالي وأنت تسأله وتدعوه ذليلا منكسرا فقيرا تظهر لله تعالي ضعفك وعجزك وافتقارك وشدة حاجتك إليه سبحانه وتعالي .
(14/9)
---(1/434)
أنت ترى السائل في الطريق يعترضك فيظهر لك من الذل والمسكنة والفقر والحاجة ما يستثير به عطفك حتى تعطيه وهو مخلوق مثلك عبد لله مثلك لا فرق بينك وبينه ومع ذلك يظهر لك من الفقر والضعف والعجز وقد يكون أقوى منك وقد يكون أصح جسما منك لكنه يظهر لك ضعفه وذله لأنه اعترضك بالسؤال ، وأنت في الحقيقة بالنسبة لله فقير عاجز ضعيف فأنت أولى وأحق حين تسأل الله تبارك وتعالي أن تظهر له ضعفك وعجزك وافتقارك وذلك له سبحانه وتعالي حتى يجيبك الله .
قال العلماء أظهر زكريا عليه السلام لله تبارك وتعالي ضعفه وعجزه الباطني والظاهري ?قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ?[مريم: من الآية4] وهن أي ضعف ?وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ?[مريم: من الآية4]وإذا وهن العظم وهن البدن كله لأن هذا اللحم إنما تحمله العظام ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ?12?ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ?13?ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْم ? [المؤمنون:12- 14] فهذا اللحم الذي في بدنك تحمله العظام .
(14/10)
---(1/435)
فزكريا يظهر ضعفه الباطني يقول ? إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ?[مريم: من الآية4] فإذا كان الضعف الداخلي بدأ يبقي الضعف الظاهري أولي ?إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ?[مريم: من الآية4] ثم أظهر عجزه وضعفه الظاهر ?وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْب ?[مريم: من الآية4] رأسه ابيضت كلها وبياض شعر الرأس دليل الضعف والعجز ودليل اقتراب الموت ?إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْب ?[مريم: من الآية4]ثم توسل إلي الله تبارك وتعالي ليجيبه ويعطيه سؤاله قال ?وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّ ?[مريم: من الآية4]ولم أكن بدعائك ربي محروما لأننا قلنا من رحمة الله بالداعي أن يجيببه ومن رحمة الله بالسائل أن يعطيه والشقي هو المحروم الذي يدعوا فلا يستجاب له ويسأل فلا يعطى والعياذ بالله فزكريا يقول يا رب أسألك وأدعوك ?وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّ ?[مريم: من الآية4] لقد عودتني الكرم والجود والفضل والإحسان أيام شبابي وقوتي وصحتي وعافيتي ، ما سألتك إلا أعطيتني وما دعوتك إلا أجبتني فهذا الكرم والجود الذي عودتني عليه يا رب في شبابي وصحتي يجعلني أطمع الآن.
ألا تخيب رجائي فيك قد اشتعل الرأس شيبا ?وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّ ?[مريم: من الآية4]
(14/11)
---(1/436)
ذكر بعض المفسرين عند هذه الآية أن رجلا دخل على حاتم الطائي فسأله وأنتم تعلمون كرم حاتم ، دخل رجل على حاتم الطائي فسأله من مال الله الذي آتاه فقال حاتم للرجل من أنت فقال الرجل أنا الذي أحسنت إلي عام أول ، ألا تذكرني لقد سألتك العام قبل الماضي فأعطيتني فسر حاتم بجواب السائل وقال مرحبا بمن توسل بنا إلينا ، الرجل يسأل حاتم من مال الله فحاتم يقول من أنت فالرجل يقول أنا الذي أحسنت إلي عام أول فيعترف له بإحسانه السابق حتى يحثه على إحسانه لاحق وكذلك فعل زكريا عليه السلام ?قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّ ? [مريم:4]
فمن آداب الدعاء أن تتوسل ‘لي اله تبارك وتعالي بجوده وكرمه وأسمائه وصفاته حتى يجيب دعائك ويعطيك سؤالك والله تبارك وتعالي يقول ?وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ ? [الأعراف:180] فمن أحسن أنواع التوسل أن تتوسل إلي الله تبارك وتعالي بأسمائه الحسنى ، يا رزاق ارزقني ، يا شافي اشفني ، يا غفار اغفر لي يا تواب تب علي وهكذا .
ومن أحسن ما يتوسل به أيضا إلي الله تبارك وتعالي الإيمان بالله عز وجل من أحسن ما يتوسل به إلي الله تبارك وتعالي ، ولذلك إذا تتبعت آيات القرآن ودعوات عباد الله المؤمنين الصالحين ترى أنهم يتوسلون إلي الله في الدعاء بإيمانهم بالله ?يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ?[المؤمنون: من الآية109] ?رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ? [آل عمران:53]
?رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?[آل عمران: من الآية16]
(14/12)
---(1/437)
?رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّ ? [آل عمران: من الآية193]فمن أدب الدعاء أن تتوسل إلي الله تبارك وتعالي بأسمائه الحسنى وصفاته العلا .
لقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، فقال صلى الله عليه وسلم لقد سأل الله بإسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب ?إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّ ?3?قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّ ?4?وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّ ?5?يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ? [مريم:3-6]ما المراد بالموالي ، المراد بالموالي عصبة الإنسان أقاربه الذين يرثونه حين لا يكون له فرع وارث وزكريا يقول ?وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي ?[مريم: من الآية5]هل كان زكريا عليه السلام ذا مال كثير وليس له ولد فخاف أن يذهب هذا المال إلي اخوانه وأعمامه وأبناء أعمامه فأراد أن يرزقه الله الولد حتى يرث ماله ؟ لا لا ليس هذا المقصد إن الأنبياء ناصحون لأممهم في حياتهم وبعد مماتهم ، لقد نظر زكريا عليه السلام في حال بني إسرائيل من حوله فلم يجد فيهم أحدا يصلح للنبوة قد ظهر فيهم الفساد ، وكثر فيهم فخاف زكريا عليه السلام أن يموت وتنقطع النبوة بموته من بني إسرائيل فأراد أن يرزقه الله تبارك وتعالي ولداً وأن يجعل الله تعالي هذا الولد نبيا من أنبياء بني إسرائيل لتستمر النبوة في بني إسرائيل وتستمر الدعوة ويستمر لتوحيد ويبقي الدين ظاهرا ، فلم يكن زكريا عليه السلام خائفا على ماله من أن يرثه العصبة من غير الفرع الوارث وإنما كان يخاف على أن تنقضي النبوة(1/438)
(14/13)
---
من بني إسرائيل لأنه رأي في بني إسرائيل فسادا لا يجعلهم صالحين يجعلهم غير صالحين للنبوة فقال ?وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّ ? [مريم:5] انتبه ? فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ?[مريم: من الآية5]يا رب الأسباب الظاهرة التي جرت العادة أن يكون بسببها الولد هذه الأسباب الظاهرة قد انقطعت مني ، أنا شيخ كبير ?وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ?[مريم: من الآية4]وامرأتي عجوز عقيم فأنا أطمع في الولد مع انقطاع الأسباب لأنني أرجو الولد من عندك من لدنك يا رب وإن انقطعت الأسباب فهذا يعلمك أنه من آداب الدعاء أيضا أن يقوى رجائك في الله سبحانه وتعالي ، وأنت تدعو الله وأنت كما وصاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ) مع انقطاع الأسباب يقوى الرجاء في الله سبحانه وتعالي ربما لو كانت الأسباب متوفرة يكون من الإنسان بعض الركون إلي الأسباب لكن عند انقطاع الأسباب يقوى الرجاء والله تعالي يقول في الحديث القدسي ( أنا عند حسن ظن عبدي بي ) فزكريا عليه السلام يقول ?فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ?[مريم: من الآية5] من عندك يا رب وإن كانت الأسباب من عندي قد انقطعت تماما ?فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّ ?[مريم: من الآية5]وكان الدافع لزكريا عليه السلام إلي هذه الدعوة ما ذكره الله تبارك وتعالي في سورة آل عمران أنه كان قد تكفل بمريم وهي طفلة صبية في المهد ?وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ? من الذي يأتيكي بالرزق ولا أحد يدخل عليك غيري ؟ أنَّا هذا الطعام والشراب ما أتيتك به أين لك هذا ولم يدخل عليك غيري ؟? قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(1/439)
?[آل عمران:
(14/14)
---
من الآية37]
فعلى وجه السرعة دار في عقل زكريا عليه السلام أنه وإن لم يكن صالحا للإنجاب وإن كانت امرأته عاقرا عقيما غير صالحة للإنجاب إلا أن الله قادر على أن يرزقهما الولد وإن انقطعت منهما الأسباب كما يرزق مريم الطفلة وهي في المهد بلا سبب?هُنَالِكَ ?[آل عمران: من الآية38]حين سمع منها قولها ?إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ?[آل عمران: من الآية37] ?هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ? [آل عمران:38]
(14/15)
---(1/440)
?قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّ ?4?وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّ ?5? يَرِثُنِي ? [مريم:6] في ماذا ؟ لا يرث المال فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قال نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة ولذلك لما مات النبي صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضي الله عنها أرسلت إلي أبي بكر تسأله ميراث النبي صلى الله عليه وسلم فقال أما علمتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وفي الحديث الأخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ، ولذلك دخل أبو هريرة رضي الله عنه السوق يوما فوجد الصخب والضجيج والانشغال في البيع والشراء والتجارة واللهو كذا فقال يا معشر الناس أنتم ها هنا وميراث محمد يقسم ، فأنصت الناس فقال أنتم ها هنا وميراث محمد يقسم قالوا أين يقسم ميراث محمد قال في مسجده في المسجد النبوي فتركوا السوق وركضوا ركضا إلي المسجد ينظرون هذا الميراث الذي يقسم فلم يجدوا إلا قوما في مجلس علم يذكرون الله تبارك وتعالي ، فرجعوا إليه يا أبا هريرة لقد قلت أنتم ها هنا وميراث محمد يقسم قال أتيتم المسجد ، قالوا أتيناه قال فماذا رأيتم فيه قالوا رأينا قوما يذكرون الله تبارك وتعالي ويتدارسون كتابا قال هذا هو ميراث محمد صلى الله عليه وسلم .
(14/16)
---(1/441)
فزكريا عليه السلام لم يعني بقول ?يَرِثُنِي ?[مريم: من الآية6]يرثني في الدنيا وفي المال وإنما أراد يرثني في النبوة ويقوم في بني إسرائيل مقام الأنبياء يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويدعوا إلي الخير ?فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّ ?5?يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ?[مريم: من الآية6] جملة ?وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ?[مريم: من الآية6] تؤكد لك ما ذكرته من أن المراد ميراث النبوة لا ميراث المال لأن يعقوب هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام أبوا يوسف عليه السلام ، وكم بين زكريا عليه السلام وبين يعقوب وزكريا يقول ?وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ?[مريم: من الآية6] فليس يحيى من ورثة يعقوب في الدني وإنما أراد?وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ?[مريم: من الآية6] في النبوة التي قال فيها يعقوب عليه السلام ليوسف عليه السلام ? لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ?5?وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ? [يوسف:5-6] فلما نظر زكريا عليه السلام في بني إسرائيل فلم يرى فيهم من يصلح للنبوة خاف إن هو مات وليس هناك نبيا أن تنقطع النبوة ، ومن كمال نصحه وشفقته ببني إسرائيل سئل الله تبارك وتعالي ?فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّ ?5?يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ? [مريم:5-6]
(14/17)
---(1/442)
ثم استمع إليه وهو يقول ?وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّ ?[مريم: من الآية6]اجعله ربي عبدا رضيا ترضى عنه ويرضى عنك ويرضى عن الناس ويرضى الناس عنه يكون عبدا مرضيا عندك وعند الناس ، وهذا الدعاء يدلك على أننا معشر الأباء يجب إذا حرصنا على الذرية أن نحرص على الذرية لا لمجرد الأبوة والبنوة وإنما يجب أن نحرص على الذرية لتكون ذرية طيبة صالحة تعبد الله سبحانه وتعالي وتحقق الغاية من خلقها ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ? [الذريات:56]
زكريا عليه السلام حين سأل الله الولد لم يسأل مطلق الولد وإنما قال :?وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّ ?[مريم: من الآية6] وفي آل عمران قال :?رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ?[آل عمران: من الآية38]كذلك فعل الخليل إبراهيم عليه السلام من قبل ?وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ?99?رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ? [الصافات:99- 100]
فيجب علينا إذا حرصنا على الذرية ألا نحرص عليها لمجرد أن نكون آباء وأن يكون لنا أبناء ، بل يجب عليا أن يكون حرصنا على صلاح الذرية أن تكون ذرية طيبة صالحة عبد الله –سبحانه وتعالى – وتدعو الناس إلى عبادة الله - عز وجل – وانظر إلى سليمان بن داود عليه السلام وهو يقول ( لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل منهن فارسا يجاهد في سبيل الله ) انظر إلى هذه الغاية من المعاشرة الزوجية ، انظر إلى هذا الهدف السامي النبيل الذي يحرث عليه سليمان عليه السلام ( لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل منهن فارسا يجاهد في سبيل الله ) ولقد أوثر عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قوله "أني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج مني من يعبد الله – سبحانه وتعالى "
(14/18)
---(1/443)
?قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّ ?4?وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّ ?5?يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّ ? [مريم:4-6]
وتأتي البشارة عقب الدعوة مباشرة ?يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّ ? [مريم:7]من المنادي ؟?يَا زَكَرِيَّ ?[مريم: من الآية7] هذا نداء ، وزكريا منادى ، من الذي ناداه ؟ الله تبارك وتعالى قال في آل عمران ?فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ?[آل عمران: من الآية39] فالملائكة هم الذين نادوا زكريا عليه السلام ، وهم الذين بشروه بهذه البشارة بأمر الله تبارك وتعالى لهم أن يبشروه بها ?يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ?[مريم: من الآية7]وانتبه للبشارة وما فيها من الكرم والجود?إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ ?[مريم: من الآية7] لفظ غلام عين جنس الولد ، لم يقل (إنا نبشرك بولد ) لأن لفظ الولد يشمل الذكر والأنثى ، لفظ الولد يطلق على الجنسين ، أما الغلام فيطلق على الذكر فقط ، فبشره الله تبارك وتعالى بالولد ، وأنه سيكون ذكرا ، وسماه الله له قبل أن يولد ?إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ?[مريم: من الآية7] وانتبه لهذا الاسم الحسن الجميل (يحي) فهو يحي ولا يموت في صغره ، ثم يحي ويشب ويكبر ، حتى ينبأ ، ويحي حياة طيبة ، ويحي حياة ملؤها السعادة والطمأنينة والأنس والرضا بقضاء الله – سبحانه وتعالى – (يحي) ومن هنا يجب علينا أيها الأحبة إذا ولد لنا ولد أن نحسن اسمه ، وأن نختار لها اسماً حسناً ، فإن لكل ولدٍ نصيبٍ من اسمه ، وإني لأحزن على المسلمين والمسلمات حين يتركون أسماء(1/444)
(14/19)
---
الصحابة والصحابيات ، ثم يذهبون شرقاً وغرباً يستوردون لنا أسماء ما أنزل الله بها من سلطان ، والكل يريد أن يسمي باسمٍ لم يجعل له من قبل سميا ، يا أخي هذه خاصة بيحي عليه السلام ?إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّ ?[مريم: من الآية7] ووقعت البشارة من زكريا عليه السلام موقعها ، وهنالك تعجب ، كيف سيكون الولد ؟ كيف سيعطى الولد ، طيف ستكون الولادة ؟ هل يخلق الله تعالى هذا الولد بكن فيكون ؟ أم كيف ستكون الولادة وكيف ستكون العطية ، وكيف ستكون الهبة ؟?قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّ ? [مريم:8] أنا شيخ كبير هرم ?اشتعل الرأس شيباً ? ، ?وهن العظم مني ? ، وامرأتي كانت في شبابها في زمن الولادة ، زمن صلاح الولادة ، كانت عاقراً عقيماً لا تلد ، فلآت يا رب وقد بشرتني ، كيف ستتحقق هذه البشارة ؟ وهذا منه ليس اعتراضاً على أمر الله – سبحانه وتعالى - ، ولا شكاً في قدرته ، وإنما كما قال إبراهيم الخليل عليه السلام ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ?[البقرة: من الآية260] فهكذا أراد زكريا عليه السلام بقوله ?أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ?[مريم: من الآية8 ] أن يطمئن قلبه نسأل الله العظيم رب العرش العظيم ، أن يبارك لنا في أزواجنا ، وأن يصلح لنا ذرياتنا ، ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمام هذا والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
سؤال : قال إحدى الأخوات أنها تعلمت عشرة أجزاء قراءة ، وقالت لها معلمتها بألا تقرأ الأجزاء الباقية ، لأنها لم تتعلم أحكامها ، واستشهدت بحديث (رب قاريء للقرآن والقرآن يلعنه) ؟(1/445)
(14/20)
---
أجاب فضيلة الشيخ :
الأخت جزاها الله خيراً أرادت أن تنبه المسلمين والمسلمات الذين يستدلون بالآيات والأحاديث في غير موضعها ، تلك المعلمة التي منعت السائلة من تقرأ غير العشرة أجزاء التي حفظتها ، قال لها ( كم من قاريء للقرآن والقرآن يلعنه) وهذا ليس بحديث أصلاً ، ثانياً : يجب على المسلم أن يحذر من أن يستدل بنص على شيء ليس النص دليلا عليه ، فلا يتكلم الإنسان إلا بعلم .
فنشكر الأخت المعلقة ، ونشكر الأخت السائلة في الحلقة الماضية أن تكون سمعت واستفادت هي وغيرها من المسلمين والمسلمات .
سؤال : لماذا بشر عيسى عليه السلام برسول اسمه "أحمد" ولم يقل "محمد" ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم – ( لي خمسة أسماء : أنا أحمد ، وأنا محمد ، وأنا العاقب ، وأنا الماحي وأنا الحاشر ) فأحمد هم محمد - صلى الله عليه وسلم – لا فرق .
سؤال : إنسان بإمكانه أن يتعلم الأحكام ويقرأ بالقراءة العادية ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
ينبغي لمن أتيحت له فرصة تعلم التجويد وتصحيح القراءة أن يغتنم هذه الفرصة ، وأن يحرص على تعلم التجويد وتصحيح قراءته ، لكننا نقول : أنه حتى يتعلم معذور إن أخطأ حتى يتعلم ، لكن ما دامت الفرصة متاحة لا ينبغي أن يقصر ويهمل ، ويترك الفرصة تضيع عليه .
سؤال : ما هو فضل ختمة القرآن ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(14/21)
---(1/446)
القرآن ، قلنا في بداية حديثنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : ( من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألق لام ميم حرف ، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) فمن فضائل الختمة انظر كم في القرآن الكريم كله من حرف ، ولك على كل حرف عشر حسنات ، هذا شيء ، الشيء الثاني أننا حين نختم القرآن نكون وصلنا ما أمرنا الله به أن يوصل ، الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نصل ما بيننا وبين القرآن الكريم ، فمن الوصل أن نختمه كل شهر مرة على الأقل ، وبالختمة تستطيع أن تأتي على كل ما في القرآن الكريم من سور وأحكام وآداب وأخلاق وتستعين بالله على العمل إن شاء الله تعالى ، لكنك لو جعلت لك ورداً معيناً من سور معينة أو أجزاء معينة تقرأها ولم تقرأ ما بقي من القرآن الكريم فأنت هجرن الجزء الذي لم تقرأه ، وبذلك تكون وقعت في محذور وهو هجر القرآن الكريم .
سؤال : كيف يعرف السورة المكية من المدنية ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
الحمد لله هناك كثير من طبعات المصاحف موجود مكتوب مثلا سورة مريم مكية وعدد آياتها كذا آية ، وهكذا .
سؤال : كيف يجازي الله الكافرين على أعمالهم الصالحة في الدنيا ؟ وخاصة أنن الكافرين جنازاتهم قيمة بخلاف المؤمنين ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
الله تبارك وتعالى لا يظلم الناس شيئاً فأيما كافر عمل عمل خير وبر أثابه الله تعالى عليه في الدنيا ، يعطه مالاً ، يعطه صحةً ، يعطه ولداً ، يعطه جاهاً ، يعطه منصباً ، يعطه من حسنات الدنيا ، ربنا قال ?فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ? [البقرة :200 ] ?وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ? [البقرة :201 ]
(14/22)
---(1/447)
فحسنة الدنيا كل ما يحب الإنسان ويتمنى من الخير ، فالكاف إذا عمل عملاً صالحاً ، جزاه الله عليه بحسنة الدنيا ، فإذا من الله على هذا الكافر بالإسلام بعد ذلك أعطاه حسنة الآخرة مع ما سبق له من حسنة الدنيا ، وأما إذا مات على كفره فقد أثيب على عاجل دنياه على صالح عمله ولا ثواب له في الآخرة .
سؤال : ما حكم قولي لمن يسألني وقال : من أين لك هذا ؟ أقول هو من عند الله ، إن الله يزق من يشاء بغير حساب ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لا شك أن هذا جواب يكفي في التعريض إذا لم تشأ أن تصرح من أين لها هذا ، إذا كان السائل له دلال عليها ومودة ، وأعرف من أين أتت بهذا الشيء فأرادت أن تخفي عليه الجهة التي أتت منها بهذا الشيء ، فقالت هو من عند الله ، فهذا جواب فيه تعريض وتورية ولا حرج في ذلك إن شاء الله .
سؤال : يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان زكريا عليه السلام ? وإني خفت الموالي من ورائي ? الآية ، نريد من سيادتكم توضيح الفرق بين الخوف الجبلي والخوف الشركي ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
ليس هذا موضع الخوف الجبلي ، والخوف الشركي ، إنما كما قلت أنه نظر في حال بني إسرائيل فوجدهم غير صالحين للنبوة ، فخاف أن تنقطع النبوة بموته ، وقلنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم – ينصح لأمته في حياته وبعد مماته ، فسأل الله أن يرزقه من صلبه ولداً صالحاً يصلح لأن يخلفه في ميراث النبوة .
سؤال : ما هي صلة القرابة بين نبي الله عيسى ونبي الله يحيي ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
ذكر بعض المفسرين أنهما ابنا خالة ، وصح ذلك في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم – في الإسراء والمعراج (لما استفتح السماء الدنيا قال : إذا أنا بآدم فلما عرج به إلى السماء الثانية قال : فإذا أنا بيحيي وعيسى ابني خالة ).
وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
(14/23)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول(1/448)
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
فضائل يحي ومريم عليهما السلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ثم مرحبا بكم في هذا اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة مريم وقبل أن نبدأ في الدرس الثاني نطرح أسئلة في الدرس السابق ونرجو الإجابة عليها كما تم ذلك في الحلقة السابقة .
سؤال : ما هو سر الحروف المقطعة في أوائل السور ؟
سؤال : ما هي آداب الدعاء ؟
سؤال : ما المراد بالرحمة في قوله تعالي ?ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّ ? [مريم:2] ؟
أما الآيات المباركات التي معنا اليوم من سورة مريم عليها السلام فقد تضمنت من المعاني ما يلي :
أولا : الحث على الإستمساك بالكتاب .
ثانيا : فضائل يحيى عليه السلام .
ثالثا : المناسبة بين ميلاد يحيى وعيسى عليهما السلام .
رابعا : فضائل مريم بنت عمران عليها السلام .
خامسا خروج مريم من بيت المقدس .
سادسا : اقتحام جبريل عليها خلوتها .
سابعا : التقوى تحول بين الإنسان وبين الحرام .
ثامنا : حكمة خلق الله تبارك وتعالي عيسى من مريم دون أب .
تاسعا : كلام عيسى عليه السلام في المهد .
أخيرا : الأخذ بالأسباب واجب .
وهذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات من سورة مريم من المعاني والتي سنعيش في رحابها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالي .
(15/1)
---(1/449)
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ? [صّ:29]
?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الحشر:21]
?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر:23]
(15/2)
---(1/450)
دعا زكريا عليه السلام ربه ? رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ?[آل عمران: من الآية38] فنادته الملائكة وهو يصلي في المحراب أن الله يبشرك ، ومع أنه هو الذي طلب الولد من الله تبارك وتعالي إلا أن البشارة كانت مفاجئة له فجعلته يتعجب ? أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّ ?[مريم: من الآية8] ?قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ?[مريم: من الآية9] الأمر كما سمعت ? فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ?[هود: من الآية17] ? قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ?[ مريم: من الآية9] بدليل ? وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئ ? [مريم: من الآية9] فلما استقر في قلب زكريا عليه السلام أن الله تبارك وتعالي أجابه وأنه سيعطيه غلاما زكيا ، أراد من الله سبحانه وتعالي أن يجعل آية تدله على استقرار الحمل في أوائل مراحله ذلك أن أمرات الحمل لا تظهر على المرأةإلا بعد شهرين أو ثلاثة فأراد زكريا عليه السلام أن يرى آية تدل على استقرار الحمل وثبوته في بطن امرأته ?قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّ ? [مريم:10]
(15/3)
---(1/451)
الآية والعلامة التي تستدل بها على استقرار الحمل وثبوته في بطن امرأتك هي أن يحبس لسانك عن الكلام مع الناس حالة كون لسانك سويا أي سليما لم تصبه آفة ولم تصبه علة ولا مرض ?أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّ ?[مريم: من الآية10] أي حالة كونك سويا سليم الأعضاء ولسانك سليم مئة المئة إلا أن الله سبحانه وتعالي يحبس لسانك عن كلام الناس ، أما إذا أردت أن تذكر الله وتسبح وتحمد فلسانك ينطلق بذكر الله ويحبس عن الكلام مع الناس ثلاث ليال وقد قال في آل عمران ?أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ?[آل عمران: من الآية41] فلما يقول ثلاثة أيام بفهم أنها بلياليهن ولما يقول أنها ثلاث ليال يفهم أنها بأيامهن ?آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ ?[مريم: من الآية10] حالة كون لسانك سويا سليما ليست به آفة ولا مانع يمنعه من الكلام إلا أن الله سبحانه وتعالي جعل حبس لسانك عن الكلام مع الناس آية لك تدل على ثبوت الحمل واستقراره ?فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ?[مريم: من الآية11] فحبس لسانه على الكلام? فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ?[مريم: من الآية11] أي أشار إليهم كما قال في آل عمران? آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْز ?[آل عمران: من الآية41] إلا إشارة ? فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّ ?[مريم: من الآية11] اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا على هذه النعمة التي أنعم الله بها علي وعليكم وقد قلنا أن زكريا عليه السلام حين سأل الولد إنما سأل الولد ليرثه في النبوة لأنه نظر في الناس من حوله فلم يرى فيهم من يصلح للنبوة بعده فخاف إن هو مات أن تنقطع النبوة من بني إسرائيل فسأل الله أن يرزقه ولداً ?يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّ ? [مريم:6]
(15/4)
---(1/452)
ولا شك أن في إجابة الله تبارك وتعالي لزكريا نعمة عليه لأن الله أعطاه الولد بعد ما كان ممنوعا منه وفي إعطاء زكريا الولد نعمة على بني إسرائيل لأن يحيى سيقوم في بني إسرائيل كما قام الأنبياء ? يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ?[آل عمران: من الآية164] ?فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى ? [مريم:11] أي أشار إليهم ?أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّ ?[مريم: من الآية11]?يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ?[مريم: من الآية12] انتبه لهذه النقلة وما حبس بين الآيات ?يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ?[مريم: من الآية12] سكت الله تبارك وتعالي عن مدة الحمل وعن ساعة الوضع وعن مدة الرضاع وعن سنين الصبا ليحيى حتى شب في صباه ونطق وتعالم الكلام سكت الله تبارك وتعالي عن ذلك كله لأنه كما ذكرنا مرارا القرآن ليس كتاب وقائع وأحداث يسرد الأحداث سردا إنما القرآن يركز في الأحداث على ما فيه الفائدة والعبرة والعظة كما قلنا في قوله تعالي ?وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْر ? [الكهف:83] سأقص عليكم من أنبائه ما فيه ذكرى ومنفعة لكم وسأسكت عن ذلك ، ولذلك هنا ما إن بشر زكريا عليه السلام بيحيى حتى انتقل الكلام من البشارة إلي النداء على يحيى مباشرة ?يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ?[مريم: من الآية12] وما أحوجنا إلي هذه الوصية ، يا مسلمون خذوا الكتاب بقوة ، استمسكوا بالكتاب عضوا عليه بالنواجذ ، فهكذا أمر الله تعالي يحيى عليه السلام ?يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ?[مريم: من الآية12] وهكذا أمر الله تعالي نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل ?فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ? [الزخرف:43] ومدح الله تبارك وتعالي الذين يستمسكون بالكتاب فقال ?وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ
(15/5)
---(1/453)
بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ? [الأعراف:170]
?يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ?[مريم: من الآية12] ما أحوجنا نحن المسلمين إلي هذه الوصية أن نستمسك بكتاب ربنا ,أن نعض عليها بالنواجذ ، وأن نقبل عليه نتلوه أناء الليل وأطراف النهار تلاوة تدبر وفهم تدعونا بعد ذلك وتدفعنا إلي العمل بكل ما جاء في هذا القرآن من أوامر ونواهي فهذا هو حق التلاوة الذي شهد الله لأهلها بالإيمان في قوله ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ ?[البقرة: من الآية121]
?يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ ً ? [مريم:12] والحكمة والفهم وقوة الإدراك وشدة الذكاء ?وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّ ?[مريم: من الآية12] أي في صباه وفي صغره منّ الله تعالي على يحيى عليه السلام بقوة الذاكرة وسرعة الفهم والقدرة على الإستنباط استنباط الأحكام والحكم بها ، ولذلك قال معمر قيل ليحيى عليه السلام وهو في صغره صبيا هيا بنا نلعب فقال للصبيان ما للعب خلقنا وهذه من الحكمة التي أعطاه الله تبارك وتعالي يحيى عليه السلام ، قال له صبيان هيا بنا نلعب فقال ما للعب خلقنا ?يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّ ? [مريم:12]
?وَحَنَان ?[مريم: من الآية13] أي وأعطيناه حنانا من لدنا وحنانا وعطفا وشفقة ورحمة, وهذه هي صفات الداعية الناجح الذي يستطيع أن يوصل رسالة ربه وأن يقيم الحجة لله تبارك وتعالي على خلقه ، لابد للداعية من حنان كثير ورحمة عظيمة وشفقة على خلق الله وعطف عليهم حتى يتحمل أذاهم ويصبر على ما يلقاه منهم فلا يمل ولا يَكَل ولا يفطر ولا يقعد عن تبليغ رسالة ربه .
(15/6)
---(1/454)
?وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً ?[مريم: من الآية13] أي زكيناه تزكيا وطهرناه طهارة من دنس الذنوب والمعاصي والخطايا فكان عليه الصلاة والسلام معصوما من الذنوب والمعاصي شأنه في ذلك شأن الأنبياء أجمعين .
?وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّ ? [مريم:13]?وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ?[ مريم: من الآية14] جعل الله تعالي يحيى عليه السلام برا بوالديه ولم يكن جبارا بالناس وإنما كان برا بوالديه وبرا بالناس ولم يكن عصيا لله تبارك وتعالي وإنما كان تقيا ، يأتمر لأوامر الله عز وجل وينتهي عن نواهيه . ?يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّ ?12?وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّ ?13?وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّ ?14?وَسَلامٌ عَلَيْهِ ?[مريم: من الآية15]الله تبارك وتعالي يسلم على يحيى بن زكريا عليه السلام ?وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّ ? [مريم:15]
قال سفيان بن عيينة رحمه الله ما من أيام أوحش على الإنسان من هذه الأيام الثلاث ، أوحش الأيام التي تمر على الإنسان هذه الأيام الثلاثة ، يوم ميلاده ، ويوم موته ، ويوم بعثه من القبور ، مع سائر الناس ، أما يوم الميلاد فإن الطفل يخرج من بطن أمه إلي عالم جديد عليه غريب لم يره قبل ذلك ولم يعرف عنه شيئا فيكون صعبا عليه جدا ولذلك يخرج من بطن أمه باكيا .
وأما يوم وفاته فإنه من أوحش الأيام لأنه قبل أن تخرج روحه يعاين ملائكة الموت وهو عالم لم يره ولم يشاهده ، وبعد موته ينتقل إلي عالم البرزخ وهو عالم لم يعرفه ولم يشاهده ، ثم يوم البعث ينتقل من القبر من البرزخ إلي أرض المحشر مع الأهوال التي تصحب الناس والشدائد التي تصيبهم في هذا اليوم .
(15/7)
---(1/455)
فنجى الله تبارك وتعالي يحيى عليه السلام من هذه الأهوال كلها ، نجاه من أهوال الميلاد وأهوال الموت ، وأهوال البعث فقال ?وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّ ? [مريم:15]
وبذلك تنتهي هذه القصة الأولى في سورة مريم عليها السلام وهي قصة ميلاد يحيى بن زكريا عليه السلام .
ثم يتبعها الله تبارك وتعالي بقصة ميلاد عيسى بن مريم عليهما السلام، وبين القصتين علاقة وتناسب ، فإن في خلق يحيى من زكريا عليه السلام وقد وهن عظمه واشتعل رأسه شيبا ، وكانت امرأته عاقرا لا شك أن في خلق يحيى من الشيخين الكبيرين العجوزين المسنين هذا عجب لأنه لم تجرى العادة في الناس أن يلد الرجل أو المرأة وقد بلغا من الكبر عتيا ، فالمرأة عندها في سنها سنين تعرف بسن اليأس ، يقال بلغت المرأة سن اليأس أي يأست من الحيض ، انقطع حيضها ويأست من الولادة بعد بلوغها هذا السن ، وكذلك الرجل وإن هو يعني تكثر سني ميلاده إلي أكثر من المرأة لكنه أيضا بعد السبعين وبعد الثمانين لم تجرى العادة أن يلد الشيخ الكبير .
فخلق الله تبارك وتعالي ليحيى من زكريا الشيخ الكبير ومن امرأته العاقر العقيم لا شك أن في هذا عجب ولكن أعجب من ذلك القصة الثانية وهي قصة ميلاد عيسى بن مريم عليه السلام أن يخلق الله تبارك وتعالي من امرأة خلقا دون أن يمسها رجل بحلال أو حرام هذا هو أعجب من القصة السابقة ، ولذلك ترى الله عز وجل كثيرا ما يجمع في القرآن الكريم بين القصتين بين قصة ميلاد يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم عليهم الصلاة والسلام ، جمع الله تبارك وتعالي بينهما في آل عمران ، وجمع بينهما هنا في مريم ، وجمع بينهما أيضا في الأنبياء ، ذلك أن في القصتين دلالة على عجيب قدرة الله تبارك وتعالي .
(15/8)
---(1/456)
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ? [مريم:16] واذكر يا نبينا في الكتاب والمراد به القرآن الكريم والذكر الحكيم ، واذكر يا نبينا لقومك من آمن منهم ومن لم يؤمن واذكر لهم في الكتاب الذي أنزلناه عليك مريم ، وفي هذا الذكر لمريم عليها السلام مما يدل على فضلها وعظيم شرفها أن يذكر إنسان في الذكر الحكيم ، أن يذكر إنسان في القرآن الكريم لا شك أن هذا شرف عظيم وثناء عظيم جدا أن يسمي الله تبارك وتعالي إنسانا باسمه ويقص على الناس من نبأه في القرآن الكريم ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم خير نساء العالمين مريم ابنة عمران ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام [ كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسيا امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ] .
ومريم هي مريم بنت عمران من سلالة داود بن سليمان عليهما السلام يقص الله تبارك وتعالي علينا هنا في سورة مريم قصة ولادتها لبنها عيسى بن مريم عليه السلام وقد قص الله تبارك وتعالي علينا قبل ذلك في سورة آل عمرانقصة ميلاد مريم نفسها عليها السلام ، يقول تعالي في سورة آل عمران ?إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ? [آل عمران:33]
?ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? [آل عمران:34]
?إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? [آل عمران:35]
(15/9)
---(1/457)
?فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ? [آل عمران:36] فليس قولها إني وضعتها أنثى إعلاما لله تبارك وتعالي بجنسها ، فالله تبارك وتعالي هو الذي خلقها وهو الذي أحاط بها علما قبل ولادتها ?أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ? [الملك:14]
?فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ?[آل عمران: من الآية36] في القوة والجلد والتحمل والقدرة على خدمة بيت المقدس ، وقد كانت نذرت ما في بطنها لخدمة بيت المقدس وكانت ترجوا أن يكون ذكرا ليقوى على خدمة بيت المقدس ويجتهد في خدمة بيت الله عز وجل ?فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ?[آل عمران: من الآية36] في القوة والجلد والصبر والتحمل والقيام بخدمة بيتك ?وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ?[آل عمران: من الآية36] ?فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَ ? [آل عمران:37] وزكريا عليه السلام هو زوج أختها فيحيى وعيسى ابنا خالة ، ?زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ?[آل عمران: من الآية37] فمريم ابنة عمران وضعت في بيت المقدس تحت رعاية الأنبياء وعباد الله الصالحين منذ ولادتها ، وكفلها الله تبارك وتعالي زكريا فكان كفيلها وكان راعيها ومربيها ومعلمها ومؤدبها فنشأت نشأة إيمانية محضة وعاشت في رحاب بيت المقدس بين العابدين
(15/10)(1/458)
---
الحامدين الذاكرين لله تبارك وتعالي وبينما هي بعد كبرها في بيت المقدس إذا عرضت لها حاجة عارضة أخرجتها من بيت المقدس ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّ ? [مريم:16]
ما هي الحاجة التي دفعت مريم للخروج من بيت المقدس ؟ لا يعنينا كثيرا تعين هذه الحاجة التي ألجأت مريم للخروج من بيت المقدس ، والخوض فيها رجم بالغيب ، لا ينبغي عليه عمل ونحن نركز دائما على أن الله تبارك وتعالي في القصص يسكت عما لا فائدة من تعينه من الزمان والمكان والحوائج ، المهم أن مريم نشأت في بيت المقدس ، في رحاب بيت الله عز وجل بين الأنبياء العابدين الحامدين الذاكرين وليس هناك تربية أحسن من هذه التربية ولا تنشئة أحسن من هذه التنشئة .
فلما بلغت سنا معينا كانت بها حاجة أخرجتها من بيت المقدس ? انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّ ?[مريم: من الآية16] في هذه الآية عين الله تبارك وتعالي لنا الجهة التي خرجت إليها مريم والمسافة التي انتهت إليها .
عين لنا الجهة بأنها مكانا شرقيا ، شرقية بيت المقدس ، وحدد لنا المسافة التي خرجت إليها مريم من بيت المقدس وهي [ فانتبذت ] والمراد أنها خرجت من بيت المقدس مسافة رمي بحجر فالنبذ معناه الرمي والطرح [ فنبذوه وراء ظهورهم ] فالنبذ معناه الرمي والطرح .
? انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا ?[مريم: من الآية16] أي أنها خرجت من أهلها مسافة رمي الحجر ، إذا مسكت حجرا هكذا ورميت به مهما كانت قوتك انتهى إلي مسافة فهذه المسافة مسافة رمية الحجر خرجت إليها مريم عليها السلام وكانت في الجهة الشرقية .
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّ ? [مريم:16]
(15/11)
---(1/459)
ومع كونها بعدت عن الناس وغابت عن أنظارهم إلا أنها لحشمتها ووقارتها وعفتها وصيانتها عليها السلام احتاطت بقدر ما يمكنها من الاحتياط ?فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاب ?[مريم: من الآية17] أي من دونهم حجابا بينها وبين الناس واختبأت ورائه حتى لا يراها أحد .
?فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّ ? [مريم:17]
لم يروعها وهي في خلوتها وراء حجابها إلا ورجل إنسان سوي بشر جميل الصورة حسن المنظر بين يديها في خلوتها وليس عندها أحد .
? فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ?[مريم: من الآية17] المراد جبريل عليه السلام سماه الله تعالي روحا في أكثر من آية ، سمى الله تبارك وتعالي جبريل روحا في أكثر من آية لماذا ؟ لأن جبريل كان حامل الوحي ، والوحي سماه الله تعالي روحا ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ?[ الشورى: من الآية52] فسمي الحامل باسم ما يحمل ، سمى الله تبارك وتعالي جبريل روحا لأنه يحمل الروح الذي هو الوحي ?فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّ ? [مريم:17] ومعلوم أن للملائكة القدرة على تشكل بأشكال مختلفة متباينة فتشكل جبريل في صورة بشر واقتحم على مريم خلوتها .
لماذا تمثل لها بشرا سويا ولم يظهر لها على أصل خلقته الملائكية ؟
(15/12)
---(1/460)
المقصود من ذلك الله تعالي أعلم ، ألا تنزعج انزعاجا وألا تفزع فزعا ، لأنها إذا فوجئت بشبح غريب بصورة غريبة غير مألوفة ولا معهودة فيكون خوفها أشد وقلقها أكثر فستخرج من خلوتها تركد ركدا حيث الناس فأراد الله تبارك وتعالي أن يهدئ من روعتها وأن يطمئن قلبها فأمر جبريل أن يتمثل لها بشرا حتى يكون الخوف قليلا والقلق قليلا ?فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّ ?[مريم: من الآية17] فلما رأت نفسها بين يدي إنسان في خلوة وليس عندها أحد لم تجد ملجأ تلجأ إليه إلا الله سبحانه وتعالي فلجأت إلي الله واعتصمت بالله واستجارت بالله ?قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ? [مريم:18] أعوذ بالله ألجأ إلى الله ألتصق بجناب الله سبحانه وتعالي ?قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ?[مريم: من الآية18] لأنه لا ملجأ ولا منجى إلا إلي الله سبحانه وتعالي في كل أمر ، وفي الشدائد والخطوب لا يلجأ إلا إلي الله سبحانه وتعالي فلجأت إلي الله لينجيها ويخلصها من هذا الإنسان الذي اقتحم عليها خلوتها لأنه من المعلوم بداهة حين تكون فتاة في خدرها أو وراء حجابها في خلوة ليس معها أحد وتفاجأ بإنسان تسور المحراب ودخل عليها خلوتها بداهة ماذا يريد هذا الرجل من هذه المرأة الخلوة إلا ما يريد الرجل من المرأة ، فاستعاذت بالله عز وجل ولجأت إليه وفرت إليه ?قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ?[مريم: من الآية18] ثم ذكّرته بالله عز وجل وتقواه قائلة ?إِنْ كُنْتَ تَقِيّ ?[مريم: من الآية18] وانتبه جملة ? إِنْ كُنْتَ تَقِيّ ?[مريم: من الآية18] جملة شرطية جواب الشرط محذوف بعدها وليس هذا الشرط متعلقا بالاستعاذة ? إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ?[مريم: من الآية18] هذه جملة تامة انتهت ، وأما قولها ?إِنْ كُنْتَ تَقِيّ ?[مريم: من الآية18] فليس شرطا للاستعاذة لا وإنما هي تقول له ?إِنْ كُنْتَ تَقِيّ ?[مريم: من الآية18] فارجع(1/461)
(15/13)
---
عما جئت له ولا تمسني بسوء فعلمت عليها السلام أن التقي ذو نُهية ، علمت أن الإنسان التقي إذا ذكر بالله تبارك تذكر وخاف من الله عز وجل وأقلع عما هم عليه أو به من المعاصي كما قال الله تعالي ?إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ? [لأعراف:201]
أحيانا يهم الإنسان بالسيئة ثم تنزاح عنه الغمة وينكشف عنه الغطاء ويرجع إليه نور الإيمان فيغلب ظلمة المعصية فيذكر الله فيخاف الله تعالي فيرجع عما هم به من السوء ?إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ? [الأعراف:201]
فالتقوى تحول بين الإنسان وبين الحرام ، التقوى إذا حلت القلب حالت بين الإنسان وبين الوقوع في الحرام ، التقوى تحول بين الإنسان وبين الوقوع في الزنا ، علمت ذلك مريم فذكرت الذي أمامها وهي لا تعرفه إن كنت تقيا فارجع عما جئت له ، وما أردته مني من السوء .
(15/14)
---(1/462)
وفي حديث الغار ؛الثلاثة الذين انطلقوا فآواهم المبيت إلي الغار قال أحدهم وهو يتوسل إلي الله تبارك وتعالي اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمّت بها سنة من السنين فجائتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها فرجعت ولم تفعل في أول مرة رجعت وتركت الذهب لم تقبله مقابل عرضها لم تساوم على عِرضها وشرفها ، فلما ضغطت عليها الحاجة وزادت عليها الحاجة جاءته تسأله فأعطاها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بينها وبينه وبين نفسها فرضخت تحت ضغط الحاجة فلما قعد بين رجليها ذكرته بالله قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فانصرف الرجل عنها ، فالتقوى حين تعمر القلب وتملؤه تحول بين الإنسان وبين الوقوع في الزنا ، وإذا حلت التقوى القلب حالت بين الإنسان وبين سفك الدماء المحرم بين ازهاق الأرواح البريئة وقتل الأنفس الطاهرة كما قال تعالي ?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ ? يعني الذي لم يتقبل منه لأخيه الذي تقبل الله منه ?قال لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ? [المائدة:27] ?لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ? [المائدة:28]
فالتقوى تحول بين الإنسان وبين الوقوع في الحرام ، علمت ذلك مريم فذكرت من أمامها وهي لا تعرفه بتقوى الله عز وجل ? إِنْ كُنْتَ تَقِيّ ?[مريم: من الآية18] جملة شرطية جوابها محذوف تقديره فارجع عما جئت إليه ولا تمسني بسوء .
(15/15)
---(1/463)
فكشف لها عن هويته ، وأعلمها بحقيقته ?قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ?[مريم: من الآية19] وبهذه الجملة اطمئنت بعض الشيء ولكنها لم تكد تطمئن حتى عاد القلق يساورها بالجملة الأخيرة حين سمعته يقول ?أَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّ ? [ مريم: من الآية19] ?قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّ ? [ مريم:19]
فعاد الشك يساورها والقلق يزعجها مرة ثانية ، ترى هل هذا الإنسان صادق أم غير صادق يقول ?أَنَا رَسُولُ رَبِّك ? ثم يقول ? لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّ ?[ مريم: من الآية19] من أين يكون الغلام إلا بأن يمس الرجل المرأة وهي امرأة غير ذات زوج وهي امرأة عفيفة طاهرة فلم تمس بحلال ولا حرام فمن أين يكون هذا الولد ?قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّ ? [مريم:19]
انتبه لقوله ?أَهَبَ لَكِ ?[مريم: من الآية19] من الذي يهب الأولاد للناس ؟ الله سبحانه وتعالي هو الوهاب ?لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ? [الشورى:49]
(15/16)
---(1/464)
فالوهاب هو الله سبحانه وتعالي ولكن كيف يقول جبريل ? لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّ ?[مريم: من الآية19] قال لأكون سببا في هبة الله لك غلاما زكيا ، أرسلني الله إليكي لأكون سببا في هبة الله لك غلاما زكيا ولذلك هناك قراءة ثانية " قال إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا " قالت متعجبة منكرة ما تسمع ?قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ّ ? [مريم:20] بحلال ولا حرام وإلي هذه الساعة لم يعرف في الناس أن تلد امرأة دون مس دون جماع دون معاشرة سواء كان حلال أم حرام ?قَالَتْ أَنَّى ?[مريم: من الآية20] كيف ?قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ?[مريم: من الآية20] بحلال ولا حرام ?وَلَمْ أَكُ بَغِيّ ?[مريم: من الآية20] قولها ?وَلَمْ أَكُ بَغِيّ ?[مريم: من الآية20] هذا تخصيص بعد تعميم لأن قولها لم يمسني بشر يشمل الحلال ولحرام لكنها تقول أنا غير متزوجة ليمسني رجل في الحلال ولست بغية والبغي هي الفاجرة العاهرة الزانية التي تمكن الرجال منها في الحرام فأنا لست بغيا حتى يمسني أحد في الحرام ولست متزوجة فمن أين يكون الولد ؟ قال كما قال لزكريا من قبل ?قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ?[مريم:21] ?قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ?[مريم: من الآية21] وقول الله تبارك وتعالي هو الحق والله تبارك وتعالي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون كما قال في آل عمران ?قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? [آل عمران:47]
(15/17)
---(1/465)
?قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ? [مريم:21] والحكمة من خلق الولد منك دون أن يمسكِ رجل والحكمة في ذلك ?وَلِنَجْعَلَهُ ?[مريم: من الآية21] أي هذا الولد الذي تلدينه ? وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ?[مريم: من الآية21] آية للناس تدلهم على كمال قدرة الله -سبحانه وتعالي- وعجيب صنعته -عز وجل -، ولنجعل هذا الغلام الذي تلدينه آية للناس يستدلون بها على كمال قدرة الله تبارك وتعالي وعجيب صنعته ، فإن الله تبارك وتعالي خلق آدم أول ما خلقه من تراب من غير ذكر ولا أنثي ثم خلق الله تبارك وتعالي حواء من آدم فخلق من ذكر بلا أنثى ثم خلق الله تبارك وتعالي من آدم وحواء الذرية المعهودة فخلق من ذكر وأنثى فهذه ثلاث دوائر خلق من غير ذكر وأنثى ، وخلق من ذكر بلا أنثى ، وخلق من الذكر والأنثى فأراد الله أن تكتمل الدائرة الرباعية التي تدل على كمال قدرة الله وعظيم صنعته فخلق من الأنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه السلام ، فهذا معنى قوله تعالي?وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ?[مريم: من الآية21]
(15/18)
---(1/466)
? وَرَحْمَةً مِنَّ ?[مريم: من الآية21] أي ولنجعل هذا الولد الذي تلدينه رحمة منا ، رحمة من الله بالمولود ورحمة من الله بالوالدة ورحمة من الله بالناس أجمعين ، أما رحمة الله تبارك وتعالي بالمولود فهو أن الله سبحانه وتعالي اصطفى عيسى واجتباه وجعله رسولا بنيا من أولي العزم من الرسل وهذه رحمة من الله سبحانه وتعالي ، ونحن قد فسرنا الرحمة في سورة الكهف التي أعطاها الله تعالي للخضر عليه السلام ?فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَ ?[الكهف: من الآية65] فسرنا الرحمة بالنبوة فرحمة الله بعيسى هو أن اجتباه واصطفاه واختاره وجعله رسولا نبيا وجعله من أولي العزم الرسل ، فهذه رحمة من الله بعيسى ، ورحمة الله بأم عيسى بمريم عليها السلام أنه لا شك في هذه الولادة كانت سببا لذكرى بالذكر الحسن والثناء الجميل ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ?[مريم: من الآية16] كل هذا بسبب هذه الولادة ، وأما رحمة الله للناس بعيسى فكونه جعله رسولا يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ولا شك أن هذا من رحمة الله تعالي بالناس أن يبعث إليهم ?رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ?[النساء: من الآية165] .
وكان أمرا ، كان هذا الحمل وهذه الولادة أمرا مقضيا لأن الله تبارك وتعالي قضاه والله تعالي إذا قضى شيئا فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره ? وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّ ?[مريم: من الآية21] ?فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّ ? [مريم:22]
(15/19)
---(1/467)
?فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ? [مريم:23] بشرت بالولد بعد البشارة حملته فانتبذت به فأجاءها المخاض ذهب بعض المفسرين إلي أن ولادة عيسى عليه السلام لم تكن كشأن ولادة سائر النساء لم يكن الحمل تسعة أشهر ولم تكن ولادة طبيعية ولكن ما إن بشرت حتى نفخ جبريل في درعها فذهبت النفخة إلي محل الولادة فكانت سببا للحمل فحملته فانتبذت فأجائها المخاض ، فقالوا لم يكن الحمل كحمل النساء تسعة اشهر مستدلين بأن الفاء العاطفة تفيد التعقيب في الترتيب بلا فاصل زمني والراجح أن الفاء هنا وفي بعض المواضع لا تفيد التعقيب في الترتيب فقد سبق معنا في سورة الكهف قول ربنا عز وجل ?وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ? [الكهف:45] ومعلوم أن بين نزول الماء من السماء على البذرة وبين خروج البذرة من الأرض زمن ، وبين استواء العود على سوقه وحمله للحب زمن وبين حصاده زمن لكن جاء الترتيب بالفاء هنا لم تفد التعقيب ، فكذلك الأمر في فاء الترتيب هنا لم تفد التعقيب وإنما الله سبحانه وتعالي قضى أن يكون الحمل حملا طبيعيا تسعة أشهر كما تحمل النساء بأولادهن ، ولو كان الحمل مرة واحدة حملت فولدت لكانت هذه معجزة كبيرة ومعجزة كبيرة خارقة للعادة فكانت أولى أن يصرح الله تبارك وتعالي بها في القرآن الكريم ، فلما لم يصرح الله تبارك وتعالي بأن حمل عيسى لم يكن على خلاف العادة حملن الحمل على ما جرت به عادة النساء ?فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّ ? [مريم:22]
(15/20)
---(1/468)
لما انقضت التسعة شهور مدة الحمل المعهودة وحست مريم بقرب وضعها خرجت بحملها وانتبذت أيضا ولكن مكانا قصيا ، فبعدت هذه المرة أبعد من بعدها حين خرجت أول مرة لحاجتها ?انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّ ?[مريم: من الآية16] ?فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّ ? [مريم:22]
?فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ?[مريم: من الآية23] ?فَأَجَاءَهَ ? [مريم: من الآية23] أي ألجأها واضطرها المخاض والمخاض هو الطلق ، والطلق هو وجع الولادة المخاض ، والطلق وجع الولادة سمي مخاضا من الخض والخض هو شدة التحريك وسمي وجع الولادة مخاضا لأن الولد إذا إذن الله تبارك وتعالي له بالخروج من بطن أمه ضرب بيديه ورجليه في بطن أمة بقوة فحركها تحريكا وهزها هزا شديدا فسمي الطلق ووجع الولادة مخاض لأن الولد حين يضرب بيديه ورجليه في أمه يريد الخروج يحركها تحريكا شديدا ووجع الولادة الطلق والمخاض وجع شديد أسأل الله أن يهون على نسائنا ونساء المسلمين أجمعين ولذلك رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلا يطوف بالكعبة وقد حمل أمَّه على ظهره يطوف بها ويقول إني لها بعيرها المذلل إن ذعرت ، فلما رأى الرجل ابن عمر قال يا ابن عمر أتراني كافئتها وجزيتها قال لا ولا بطلقة واحدة من طلقة الولادة ووجع الولادة ، قال لا ولا بطلقة واحدة .
?فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ ?[مريم: من الآية23]أي ألجأها وجع الولادة إلي جذع النخلة ، كانت نخلة قيل: كانت يابسا ليست فيها حياة ، وقيل: كانت نخلة حية ولكن ليس عليها بلح ?فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ?[مريم: من الآية23] وهنا لما جلست تنتظر الوضع أخذت تفكر في المستقبل كيف ستواجه قومها ، وماذا تقول لها ، فتمنت الموت قبل هذه الساعة ? قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّ ?[مريم: من الآية23] .
(15/21)
---(1/469)
ما المراد بالنسي المنسي : النسي المنسي هو ما ينساه المسافر في محطة نزوله للاستراحة ، المسافرون تكون لهم محطات استراحة ينزلوا فيها للاستراحة للطعام للشراب للصلاة ، فإذا نزلوا منزلا ثم ساروا منه بعد مسافة يتذكر إنسان أنه نسي شيئا فلان يقول نسيت الحطة ، هل هذه الحطة تستحق أن يرجع إليها المسافرون للبحث عنها ؟ لا تستحق ، فلان أعزك الله يقول نسيت النعال لا تستحق أن يرجعوا من أجلها ، فالنسي المنسي الشيء الذي ينساه المسافرون في محطة نزولهم ويتركونه فإذا تذكروه لم يعبأو به ولم يهتموا به ولم يرجعوا إليه بخلاف ما إذا يقول المسافر نسيت الحقيبة ، نسيت حقيبة المال هذا لابد أن يرجعوا إليه .
فلما ألجئَها المخاض وجلست تنتظر نزول ابنها من بطنها تمنت الموت ولا تواجه هذا الموقف الصعب عليها ? قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّ ? [مريم:23] ?فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّ ? [مريم:24]
?وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّ ? [مريم:25]
?فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّ ? [مريم:26]
?فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَ ?[مريم: من الآية24] بكسر الميم في مِن وبكسر التاء في تحتِها على إن "من" حرف جر و"تحتها" مجرور وفي قراءة " فناداها مَن تحتَها "
(15/22)
---(1/470)
بفتح الميم على إنها اسم موصول وفتح التاء في تحتها على أنها ظرف مكان ?فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَ ?[مريم: من الآية24] على القراءتين من تحتها ومن تحتها اختلف المفسرون في المنادي ، من الذي نادى مريم عليها السلام ?فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَ ?[مريم: من الآية24] بعض المفسرين أن المنادي هو جبريل عليه السلام وهذا قول مرجوح ، والراجح أن الذي ناداها هو ابنها عيسى عليه السلام يدل على رجحان كون المنادي عيسى عليه السلام أن جبريل لم يذكر أو لم يرد له ذكر في هذا الخروج الثاني ، جاء ذكر جبريل في الخروج ? فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّ ?[مريم: من الآية17]لكن في الخروج الثاني ?فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّ ? [مريم:22]
(15/23)
---(1/471)
لم يرد ذكر لجبريل هنا ثم إن الضمائر كلها في هذا السياق تعود على عيسى ?فحملته ? عيسى ? فَانْتَبَذَتْ بِهِ ?[مريم: من الآية22]عيسى ?فَنَادَاهَ ?[مريم: من الآية24] عيسى عليه السلام فالراجح أن الذي نادى مريم بعد وضعها هو ابنها عيسى ، ناداها ساعة ولادته ليطمئنها أولا لأنه قال لها كما سمعنا ? فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّ ?[مريم: من الآية26] إذا واجهت قومك فلا تتكلمي معهم واتركي الكلام لمولودك هذا ، فكانت الحكمة تقتضي أن تسمع كلام المولود أولا حتى تكون على يقين تام أنها إذا أشارت إليه ليكلمهم تكون على يقين أنه قادر على كلامهم ، فأنطق الله تعالي عيسى ساعة ولادته ?فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي ?[مريم: من الآية24]انظري من حولك ترى الله سبحانه وتعالي قد أحاطك بالآيات والدلائل الكثيرة ، أولا أنا ذا ابنك أكلمك ، ولم تجرى العادة بأن ينطق المولود عند ولادته ولا ينطق الولد كلاما فصيحا بعد سنة ولا بعد سنتين ولا بعد ثلاث لكن ها أنا ذا أكلمك ساعة الولادة لتعلمي أن ولادتي أمر غريب خارج عن السنن الكونية هذا شيء ، ? أَلَّا تَحْزَنِي ?[مريم: من الآية24] `
ثانيا : ?قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّ ?[مريم: من الآية24] كانت في جذع نخلة ولم يكن عندها ماء فأنبع الله تبارك وتعالي لها عين ماء نهرا جاريا أجراه من حينه حتى تشرب منه ?قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّ ?[مريم: من الآية24] لتشربي .
ثم ثالثا : ?وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّ ? [مريم:25]
قالوا النخلة كانت ميتة أو كانت حيا لكن ليس بها رُطَب ومع ذلك الله تعالي قال لها ?وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّ ? [مريم:25]
(15/24)
---(1/472)
سقوط الرطب بهز الجذع هذه كرامة خارقة للعادة لأنه لو اجتمع عشرة رجال ليهزوا جزع النخلة لا يمكن بهذا الهز أن يتساقط الرطب من أعلى النخلة فكيف يتساقط الرطب بهز مريم النفساء الضعيفة كيف تمسك بالجزع وتهزه فيتساقط الرطب فهذه كرامات أحاطك الله بها لتعلمي أنك بعين الله تبارك وتعالي وفي حفظه ورعايته فلا تحزني ?فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّ ? [مريم:24]
?وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّ ? [مريم:25]
قال العلماء في هذا تعليم لنا بالأخذ بالأسباب لطلب الرزق فلا يجوز أن نخلد إلي الأرض ونركن إليها ونقول: الله يرزقنا ، الله يرزقنا نعم ?إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ? [الذريات:58]
?وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ? [الذريات:22]
?فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ? [الذريات:23]
لكن الله قال ? فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ?[الملك: من الآية15]
وعلمنا الأخذ بالأسباب في أمره مريم وهي النفساء الضعيفة أن تبذل ما في وسعها من الأسباب وإن كانت ضعيفة ?وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّ ? [مريم:25]
(15/25)
---(1/473)
وفي ذلك يقول بعض الحكماء ألم ترى أن الله قال لمريم وهزي أليك بجذع النخلة تساقط رطب ، ولو شاء أسقطه من غير هزها ولكن كل شيء له سبب ?فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي ?[مريم: من الآية26]كلي هنيئا واشربي هنيئا وقري عين يقال قر الله عينك أي أراها ما يسرها ، والإنسان إذا سر نزلت دموعه ولكن دموع الفرح والسرور دموع باردة بخلاف دموع الحزن والهم فإنها دموع ساخنة ، فقال ?فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّ ? [مريم:26]
?إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً ?[مريم: من الآية26]عن الكلام فلن أتكلم فكيف تقول لهم إني نذرت صوماً ، قال فقولي أي بالإشارة كما أشار زكريا لقومه فأوحى إليهم كذلك أنتي إذا واجهتِ الناس فلا تتكلمي أشيري إلي مولودك هذا ليتكلم عنك ?فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً ?[مريم: من الآية26] وكان الصيام عن الكلام في شريعة من قبلنا ونسخ في شريعتنا فلا يجوز لأحد اليوم أن يقول أنا صائم عن الكلام ، لا الصيام عن المباح ليس من شريعتنا بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخط إذ رأي رجلا قائما في الشمس فقال من هذا قالوا هذا أبوا إسرائيل نذر أن يقوم فلا يقعد ، وأن يضحي فلا يستظل وأن يسكت فلا يتكلم وأن يصوم ، قال مروه فليقعد وليستظل وليتكلم ،?فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّ ? [مريم:26]
(15/26)
---(1/474)
?فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ?[مريم: من الآية27] كيف واجهتهم ؟ وكيف واجهوها ؟ وماذا رد عليهم عيسى بن مريم ؟ وكيف دافع عيسى عن أمه ؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة بإذن الله عز وجل ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدونا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا هذا والحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
سؤال :
هل من الممكن يا شيخ أن توضح لنا ما قلته في الحلقة الماضية في جواز الدعاء بصوت مرتفع مع جواز تأمين الناس عليه مع العلم أنه لم يثبت ولا عن الصحابة ولا عن السلف ذلك إلا في موضع الاستسقاء ولم يرد في قنوت الوتر كما يحدث اليوم فبعض الأئمة اليوم في العشر الأخير من رمضان دعاء ربما استمر على ما يزيد في النصف ساعة وفيه من السجع والتكلف الكثير برجاء التوضيح ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
نحن تكلمنا قلنا أن من آداب الدعاء اخفاء الدعاء فلما سأل سائل عن الجهر قلنا إلا في ما ثبت فيه الجهر وما على ذلك في قنوت الوتر والقنوت في الوتر ثابت وهو سنة طول العام وليس في رمضان فقط ، وإنما القنوت في الوتر سنة طول العام يأخذ به الإنسان ويترك فإذا اجتمع المسلمون في رمضان وقنت إمامهم فإنهم يؤمنون على دعائه أما ما أرشد إليه جزاه الله خيرا من أن بعض الأئمة الآن يطيلون في القنوت يتكلفون السجع في الدعاء وغير ذلك هذا الحقيقة كما ذكر مخالف للسنة وليس من أدب الدعاء .
سؤال :
هناك النصارى يستدلون أن سيدنا عيسى إله لأنه بلا أب كيف الرد على هذه الشبهة ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(15/27)
---(1/475)
الله سبحانه وتعالي واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ?[الشورى: من الآية11] ?وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِير ? [الاسراء:111]
الولد جزء أبيه ، الله سبحانه وتعالي صمد لا يتجزأ أبدا فعيسى بن مريم ليس ابن الله وإنما كما سيأتي في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالي أنه قال حين أنطقه الله في المهد ?قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ?[مريم: من الآية30] وإذا كيف إذا كانت المشكلة في أن عيسى ابن الله لكونه ولد بغير أب فلماذا لم تأتي هذه الشبهة في آدم الذي ولد بغير أب ولا أم هذة شبهة داحضة مردودة ونسأل الله للجميع الهداية إلي الإسلام.
سؤال :
مثل هذه القصص التي ذكرتها قبل قليل قصة مريم في الحقيقة الطريقة التي نتبعها في قراءة التفاسير من أجل تعلق القلب للقرآن الكريم حتى نعمل بهذا القرآن القرآن ؟
أجاب فضيلة الشيخ
(15/28)
---(1/476)
يعني كأنني فهمت جزاه الله خيرا أنه يريد يقول يعني كيف نستطيع أن نقرأ في الكتب ونجمع أقوال المفسرين ونستفيد منها والله تعالي ماذا مقصوده ، الحقيقة أنني في طريقة تحضيري الدرس آتي بما تيسر لي من كتب التفسير أضعها بين يدي عن شمالي وأخذ منها ثم أضع ما قرأته عن يميني وهكذا ، كتب التفسير كلها تتفق في المعني العام في اتفاق بين المفسرين جميعا لكن هناك فتوحات من الله سبحانه وتعالي يفتح بها على من يشاء من عباده فعلى القارئ وهو يقرأ أن يركز المعنى العام يفهمه حين يرى عجيبة أو نقطة غريبة فإذا حسن في الكتاب يعلم عليها ويشير إليها إما في الكتاب نفسه وإما في ورقة خارجية في الكتاب الفلاني الجزء كذا سطر كذا صفة كذا يرتب أول الكلام الذي أعجبه ثم هكذا حتى ينتهي من كل ما قرأ فسيخرج بمحاسن هذه الكتب التي قرأها كلها فيستطيع أن يرتبها يضع هذه الحسنة في أول الدرس وهذه في وسطه وهذه في نهايته هكذا تكون طريقة تحضير وهكذا يجمع محاسن التفاسير كلها في درس واحد إن شاء الله تعالي ، ونسأل الله أن ينفعنا وإياه بالقرآن وأن يجعلنا من أهله والمسلمين أجمعين .
سؤال :
هل يجوز مشاهدة المسلسلات الدينية التي تمثل قصة السيدة مريم وأصحاب الكهف وغيرها أم لا يجوز ذلك ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لا, لا يجوز هذا التمثيل ولا تجوز مشاهدته .
سؤال :
كيف نجمع بين قوله تعالي " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر "
وبين عدم معرفة معنى الحروف المقطعة ؟
سؤال :
هل سكت الصحابة رضي الله عنهم عن معرفة معنى هذه الحروف المقطعة أم ثبت مثلا أثار تدل على أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم في معناها أو تسائلوا فيما بينهم ؟
سؤال :
هل بأقوال أخري بأهل العلم في تفسير الحروف المقطعة بخلاف ما ذكره الشيخ وما هي ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
الله سبحانه وتعالي قال ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ? [القمر:17]
(15/29)
---(1/477)
أي فهل من طالب علم فيعان عليه فالقرآن ميسر ومفهوم الصحابة رضوان الله عليهم لم يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا فيما أعرف أنا لم اقف على حديث موقوف أو مرفوع أن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن معاني هذه الحروف لأن الله قال ?إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ? [يوسف:2]
وهما عرب والقرآن نزل بلغتهم فيعرفون هذا فيسألوا عنه ولذلك قلت أسألتهم للنبي صلى الله عليه وسلم عما لم يعرفوه في القرآن يسألونك ، يسألونك هذه محصورة في القرآن الكريم لكن لا أعرف أن الصحابة سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الحروف ، أما كون أن هناك أقوال أخرى مفسرين في هذا الحروف فلا شك أن هناك أقوال كثيرة من أراد أن يقف عليها فليرجع إلي كتب التفسير سيجد أقوال كثيرة جدا للسلف في هذه الحروف المقطعة لكننا قلنا أن الراجح ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيميه وذكرناه هذا الذي نراه راجح ونحن نضرب صفْحا عن كل الأقوال ونأتي للراجح حتى يتعلم الطالب أن يأخذ أقوى ما ثبت عنده .
سؤال :
كيف نجمع بين ترديد الدعاء وبين محبة العبد لربه إنه يعجل له الدعوة وبين إنه يأخرها محبة له ؟
أجاب فضيلة الشيخ
(15/30)
---(1/478)
التعجيل والتأجيل هذا مرده إلي علم الله تعالي وحكمته " الله لطيف بعباده " فحين يدعوا الإنسان بشيء ما فإذا علم الله سبحانه وتعالي أن لعبده مصلحة في التعجيل عجل له دعائه وسؤاله وإذا علم أن مصلحته في التأجيل أجله نضرب على ذلك مثال موسى عليه السلام حين كلفه الله تعالي بالدعوة ?اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ?24?قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ?25?وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ?26?وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ?27?يَفْقَهُوا قَوْلِي ?28?وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ?29?هَارُونَ أَخِي ?30?اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ?31?وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ?32?كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِير ?33?وَنَذْكُرَكَ كَثِير ?34?إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِير ?35?قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ? [طه:24- 36]
لم يقل استجبت قال: قد أوتيت أعطيك ما سألت لماذا لأن هذا الذي سأله يهمه جدا لوظيفته التي كلف بها وهي تبليغ الرسالة فعلم الله تعالي أن المصلحة تقتضي تعجيل الإجابة فعجله ، لما أتى موسي فرعون ودعاه إلي الله سبحانه وتعالي وأصر فرعون واستكبر استكبارا موسى دعا على فرعون ?وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ? [يونس:88]
قال قد أجيبت دعوتكما ولكن متي دمر الله تعالي ما كان يصنع فرعون وقومه قال المفسرون كانت بين تحقيق إجابة وبين إجابتها أربعون سنة فالله تعالي عليم حكيم إذا علم أن المصلحة العبد في التعجيل عجل له ما سأله وإذا علم أن مصلحته في التأخير أخره له وهوالرؤف بالناس الرحيم بهم سبحانه وتعالي .
سؤال :
(15/31)
---(1/479)
هل يجوز القول بأن مريم عليها السلام نبية من الأنبياء وهل يجوز أن نقول مريم عليها الصلاة والسلام ولماذا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لا يجوز القول بأن مريم نبية الله تعالي قال ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَال ?[يوسف: من الآية109]لم تكن النبوة في النساء أبدا إنما النبوة في الرجال ، ثم إن الله تبارك وتعالي بيّن مرتبة مريم في قوله
" ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة " والصديقية درجة دون درجة النبوة وفوق درجة الشهادة ، قال الله تعالي ?وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ?[النساء: من الآية69]فالصديقين غير النبيين ، وأمه صديقة فأحسن ما وصلت إليه مريم عليها السلام أنها صديقة ،
أما جواز القول أن يقال عليها السلام فهذا يجوز لها ولغيرها من الناس كلهم إذا قيل لك فلان يقرأك السلام ماذا تقول تقول عليه السلام فهذا مفيش منه مانع إن شاء الله .
سؤال :
كم كان عمر سيدتنا مريم عندما حملت ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لم أقف على شيء لتعيين سنها حين حملت عليها السلام .
سؤال :
هل تعلم الفائدة أو الحكمة التي من أجلها ذكر الله عز وجل الجهة أو المسافة التي مشتها مريم عليها السلام ؟
أجاب فضيلة الشيخ
الحكمة من تعين الجهة أو المسافة التي مشتها مريم عليها السلام المسافة حددت برمية حجر والجهة الجهة الشرقية هذا خبر عن الواقع ، لا نعلم الحكمة في ذكر هذا خبر عن الواقع ، خرجت إلي الجهة الشرقية ومشت مسافة رمي الحجر .
سؤال :
(15/32)
---(1/480)
ذكرتم في تفسير الآية الكريمة ?قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّ ? [مريم:18] أن قوله تعالي ? إِنْ كُنْتَ تَقِيّ ? [مريم: من الآية18] يعتبر استئناف معنى جديد غير مرتبط بالاستعاذة التي في أول الآية وهي جملة شرطية جوابها محذوف تقديره فكف أو ارجع عن السوء فعلى ذلك هل يجوز الوقف في التلاوة على منك وهل يعتبر وقفا واجبا لأجل توضيح انفصال المعني الوارد في أول الآية وعن آخرها ؟
أجاب فضيلة الشيخ
كما قيل أهل التجويد ليس هناك في القرآن وقف واجب ، كلمة واجب لا ، هناك في القرآن وقف يسمى وقف لازم لماذا لأنك لو وصلت اختل المعني تأتي على "إنما يستجيب الذين يسمعون والموتي يبعثهم الله ثم إليه يرجعون " فهنا الوقف على "يسمعون" لازم ومع ذلك لو لم تقف لا تأثم فليس هناك وقف يسمى وقفا واجبا يجب الوقف ، لكن العلم بأحكام الوقف يعطي الإنسان القدرة على إيصال المعاني للمستمعين، حينما يكون القارئ عالماً بأحكام الوقف؛ يقف على المعاني يبتدأ بها وينتهي إليها، فيبرز المعنى للمستمعين للقراءة، فيكون قارئا ومفسرا في نفس الوقت، لعلمه بأحكام الوقف.
سؤال:
بالنسبة ليأجوج ومأجوج نعرف أن مكانهم من الغيبيات ، ولكن هناك خبر في إحدى لقنوات باكتشاف قرية فيها بقايا امرأة لا يزيد طولها عن ثلاثة أقدام، وأن هؤلاء الأقزام عاشوا في القرية قبل ثمانية عشر ألف سنة، وهناك دلائل على وجودهم في الحاضر بشهادة أهل القرية الأندونيسية ، ويقول السكان الأصليين بأن أجدادهم يحكون لهم عن أقزام يعيشون في أعالى البراكين ويسمونهم بأبو جوج ومعناه الحرفي : العجوز التى تأكل كل شيء ، وهذا الخبر موجود على موقع القناة على شبكة الإنترنت، فهل هذا دليل على قرب الساعة أو على مكان وجودها.
فأجاب فضيلة الشيخ:
أما قرب الساعة فربنا قال قبل أربعة عشر قرن: اقتربت الساعة.
(15/33)
---(1/481)
وأما عن يأجوج ومأجوج فذكرنا في دروسنا أنهم يخرجون في زمان عيسى بن مريم عليه السلام، إذن نحن ننتظر مقدم المهدي عليه السلام من عند الله، وبعده الدجال، وبعده ننتظر نزول عيسى ابن مريم لقتل الدجال، وبعدين ننتظر خروج يأجوج ومأجوج ، فليس الوقت وقت خروجهم .
سؤال :
ما معني قصيا في قوله تعالي ?فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّ ? [مريم:22]
أجاب فضيلة الشيخ
أي بعيد
سؤال :
هل يجوز تمني الموت عند نزول الفتنة كما قالت مريم ؟
أجاب فضيلة الشيخ
ل في شريعتهم ليس في شريعتنا قال: النبي صلى الله عليه وسلم "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لابد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي ".
سؤال :
ممكن تقولون لنا لماذا سمي جبريل بالروح لأن المعلوم النصارى يقولون " بالتثليث الآب والإبن و الروح القدس والروح القدوس هو جزء من أجزاء الله فيجمعون بين هذه الإجزاء وهو الله " فممكن تبينون لنا لما سمي جبريل بالروح وهل الروح المذكور هو جبريل ؟
أجاب فضيلة الشيخ
المراد بالروح هو جبريل عليه السلام سماه الله تعالي روحا في أكثر من آية ?قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ?[النحل: من الآية102]
? يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ ?[النبأ: من الآية38]?تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَ ? [القدر:4]
الروح هو جبريل عليه السلام ، لماذا سمي جبريل روحا لأن جبريل هو أمين الوحي أمين الله على وحيه الأنبياء ، والوحي سماه الله تعالي روحا ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ ?[الشورى: من الآية52]فسمي الله تعالي الحامل باسم المحمول سمي جبريل روحا لأنه يحمل الروح وهو الوحي إلي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(15/34)
---(1/482)
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
تنزيه الله عن إتخاذ الولد , فضائل الخليل ابراهيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
ثم مرحباً بكم في هذا اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة مريم ، وقبل البدء في درس اليوم نطرح عليكم أسئلة الحلقة الماضية وهي :
سؤال : من الذي نادى مريم من تحتها ؟
سؤال : كيف تستدل من قصة مريم عليها السلام على وجوب الأخذ بالأسباب؟
سؤال : التقوى تحول بين الإنسان وبين الحرام ، بَيِّنْ ذلك ؟
أما الآيات المباركات التي معنا اليوم فقد تضمنت من المعاني ما يلي :
أولاً : مريم في مواجهة قومها .
ثانياً : من هو هارون الذي نسبوها إلي أخوته .
ثالثاً : فضائل عيسى بن مريم عليهما السلام .
رابعاً : تنزيه الله تعالي عن اتخاذ الولد .
خامساً : اختلاف بني إسرائيل في عيسى عليه السلام .
سادساً : يوم القيامة يوم الحسرة والندامة .
سابعاً : فضائل الخليل إبراهيم عليه السلام .
ثامناً : من هو الصديق ؟
وأخيراً : دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام لأبيه .
وهذا بإيجاز : عرض سريعٌ لأهم ما تضمنته الآيات المباركات التي معنا اليوم من سورة مريم من المعاني ، والتي نعيش في رحابها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالي .
(16/1)
---(1/483)
فلنستمع إلى هذه الآيات المباركات أولاً قبل الخوض في تفاصيلها ، سائلين المولى – عز وجل – أن ينجز لنا ما وعدنا حيث قال ?وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? [الأعراف:204]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
?فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً [27] يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [28] فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً [29] قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً [30] وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [31] وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً [32] وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً [33] ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [34] مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [35] وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [36] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [37] أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [38] وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [39] إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [40] وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً [41] إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا(1/484)
(16/2)
---
أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً [42] يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً [43] يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً [44] يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [45] قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [46] قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً [47] وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً [48] فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً [49] وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ? [ مريم :27-50]
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ? [صّ:29]
?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الحشر:21]
?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر:23]
(16/3)
---(1/485)
عرفنا في الدرس الماضي كيف ولدت مريم عيسى بن مريم عليهما السلام ، وكيف أنها من شدة ذهولها وعجزها عن مواجهة قومها تمنت الموتَ قبل هذه الساعة ?فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّ ? [مريم:23]
فأراد الله سبحانه وتعالي أن يطمئنها ويذهب عنها القلق والاضطراب والحزن فأنطق عيسى ابنها ساعة ولادته ?فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّ ?24?وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّ ?25?فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّ ? [مريم:24- 26]
فلما رأت هذه الكرامات التي تدل على أنها في رعاية الله وكلأه وعنايته وحفظه ، اطمئن قلبها ، وعلمت أن الله سبحانه وتعالي سيبرئها بنطق ابنها في المهد صبيا، ?فَأَتَتْ بِهِ ? أي بولدها بعيسى بن مريم عليهما السلام ?فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ?(مريم:27)
(16/4)
---(1/486)
فما هم أن رأوها حتى بادروا بالاتهام والإنكار ?قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّ ?[مريم: من الآية27] ، والافتراء هو الكذب والاختلاق ، وهذا كناية عن الزنا كما قال الله تعالي في بيعة النساء ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ ? [الممتحنة:12] فهذا الافتراء هو أن تفجر المرأة ، فتحمل من غير زوجها ، ثم تنسب هذا الولد الذي أتت به إلي زوجها وليس منه ، فتكون بذلك قد أتت بافتراء وكذب ، قالت لزوجها هذا منك وهو ليس منها .
فمعني قولهم ?يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّ ?[مريم: من الآية27] يعني لقد جئت بكذب واختلاق عظيم ، ما هذا الذي فعلتيه وما هذا الذي عملتيه ؟? لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّ ?[مريم: من الآية27] ?يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّ ? [مريم:28]
من هو هارون الذي نسبوها إلي أخوته ?يَا أُخْتَ هَارُونَ ?[مريم: من الآية28] هناك إشكال أن مريم هي بنت عمران وموسى عليه السلام بن عمران وأخوها هارون بن عمران ، فظن بعض الناس أن هارون المذكور في قصة ولادة مريم لعيسى هو أخو موسى عليهما السلام ، فظنوا أن مريم أخت هارون يعني أخت موسى ، وبين موسى وعيسى عليهما السلام مئات السنين ، فإذن ليس هارون المذكور في هذه القصة هو أخا موسى عليهما السلام ، ولكنَّ القوم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم ، وكان هارون هذا رجلاً صالحاً في بني إسرائيل ، وكانوا يشبهون به غيره في الصلاح والبر والتقوى .
(16/5)
---(1/487)
هارون كان رجلا صالحا في بني إسرائيل كانوا يشبهون به غيره في البر والتقوى والصلاح ، والعرب تطلق لفظ الأخ على النظير والشبيه فيقولون فلان ليس له أخ في صنعته يعني هو متفرد في هذه الصنعة ، ليس له فيها نظير ولا شبيه ولا مثيل ، والله تبارك وتعالي أطلق الأخوة على النظير والشبيه فقال سبحانه وتعالي ? وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِير ?[الاسراء: من الآية26] ?إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ?[الاسراء: من الآية27].
ومعلوم بداهة أن له ليس المراد بهذه الأخوة أخوة النسب بين المبذرين والشياطين ولكن ?إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ?[الاسراء: من الآية27] المراد بهذه الأخوة أنهم نظرائهم وأشباههم وأمثالهم في الإسراف والتبذير ومعصية الله والخروج عن أمر الله سبحانه وتعالي ، كذلك قال الله تعالي في الآيات والمعجزات التي أيد بها موسى عليه السلام وأنكرها فرعون وملئه قال تعالي ?وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ?[الزخرف: من الآية48] أي من نظيرتها وشبهها فإذن الأخوة هنا أطلقت على النظير والشبيه فمعني قولهم ?يَا أُخْتَ هَارُونَ ?[مريم: من الآية28] .
يعني يا شبيهة هارون في البر والتقوى والصلاح لقد كنا نحسن الظن بك حتى شبهناك بهذا الرجل الصالح هارون فما الذي كان منك وما هذا الذي افتريتيه ?يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّ ? [مريم:28]
يعنون أنكي من بيت طاهر من بيت عفيف من سلالة طيبة من ذرية صالحة أبوك رجل صالح وأمك كذلك ما كانت بغيا ، والبغي هي الزانية فكيف نشزت أنت وخرجت عن سلوك وسير آبائك وأمهاتك وخالفتيهم في السلوك والسير فاقترفتي هذا البهتان الذي وقعتي فيه .
(16/6)
---(1/488)
والسيئة من أهل الحسن تكون أسوء ما تكون بينما السيئة من أهل السوء لا تستقبح ولا تنكر ، إذا رأينا فتاة من بيئة سيئة ليس لها أب صالح ولا أم صالحة إنما البيت كله بيت سوء لو رأينا أن هذه الفتاة أخطأت وذلت الناس لا يشتد إنكارهم لهذا لأنهم يقولون من أشبه آباه فما ظلم ، لكن أن تكون فتاة من أسرة طيبة صالحة ملتزمة ، أبوها رجل صالح وأمها امرأة صالحة قانتة ثم تشز هذه الفتاة عن سلوك وسير الأسرة وتأتي بالمحرمات فهنا يستنكر منها ويستقبح فعله منها ?يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّ ? [مريم:28]
فكيف وقعت أنتي في هذه الخطيئة واقترفتي هذا الذنب ?مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّ ?[مريم: من الآية28] فبكل ثقة وبكل هدوء أعصاب وبكل طمأنينة قلب أشارت إليه قالت لا تكلموني كلموه هو فهو الذي سيبرئني ويعبر عن حقيقته ويكشف عن هويته لكم?فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ?[مريم: من الآية29] كما وصاها ?فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّ ?[مريم: من الآية26] .
فلما واجهوها بهذه المواجهة وبهذا الإنكار ?يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّ ? [مريم:28]
التزمت وصيته لها لا تتكلمي ?فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّ ? [مريم:29]
كيف تأمرينا أن نكلم هذا الصبي المولود ولم تجرى العادة قبل بأن يتكلم مثل هذا المولود في المهد صبيا قال بعض المفسرين قالوا لسخريتها بنا حيث تأمرنا أن نكلم ولدها أشد علينا من زناها ، يعني إذا كان زناها شديدا إلا أن أمرها إيانا أن نكلم هذا الغلام في المهد هذا أشد علينا من زناها لسخريتها بنا حيث تأمرنا أن نكلمه أشد علينا من زناها .
(16/7)
---(1/489)
كيف نكلمه وهذا المولود لم تجرى العادة بكلامه ، كانت هذه المقدمة كاستخراج الدليل منهم على أن المولود لا يتكلم فإذا سمعوا هذا المولود يتكلم قامت عليهم الحجة وعلموا أن كلامه أمر خارق للعادة فهو إذن من عند الله تبارك وتعالي فيستدلون على كلامه في المهد صبيا وبخرقه للعادة عدم كلام الصبيان بكلامه يستدلون كذلك على أن مريم إذا كانت ولدته بغير أب فهذا أمر خارق للعادة وهو من عند الله سبحانه وتعالي .
?فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ?[مريم: من الآية29] قالوا منكرين عليها الإشارة والأمر بكلامه ?كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّ ?[مريم: من الآية29] فأنطق الله تعالي عيسى بن مريم عليه السلام وهو حديث عهد بولادة ?قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ? [مريم:30] اسمعوها من أول لحظة اسمعوها قبل أن تضلوا فيا وقبل أن تنسبوا إلي ما لست له أهل ، اسمعوها مني ? إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ?[مريم: من الآية30] ولست إله ولا ابن الله ? إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ?[مريم: من الآية30] يعني الإنجيل ? وَجَعَلَنِي نَبِيّ ?[مريم: من الآية30] وهذا كلامه في المهد صبيا قال ? آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّ ?[مريم: من الآية30] وهو لم يؤتي بعد الكتاب ولم ينبى لكن لما كان تنبيهه أمرا محققا وتنزيل الكتاب عليه أمرا محققا عبر عنه بلفظ الماضي وكأنه حصل لأن كل ما يخبر الله به أنه سيكون فلابد أن يكون كما أخبر الله فإذا عبر عنه بالماضي فالمراد إفادة تحقق هذا الذي أخبر الله عنه .
كما قال الله تعالي ?اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ?[القمر: من الآية1]
(16/8)
---(1/490)
?أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ?[النحل: من الآية1]والأمر لم يأتي لأن المراد بالأمر القيامة ?أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ?[النحل: من الآية1] ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ?[الزمر: من الآية68] نفخ بلفظ الماضي وهو لم ينفخ في الصور بعد لكن لما كان لابد أن ينفخ فيه أتى بلفظ الماضي لإفادة تحقق هذا الذي أخبر به .
?قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّ ? [مريم:30]
?وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ?[مريم: من الآية31] وجعلني الله تبارك وتعالي مباركا أين ما كنت وأين ما حللت وأينما نزلت ، قال جمهور المفسرين قوله تعالي ?وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ?[مريم: من الآية31] من بركته عليه الصلاة والسلام كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في كل مكان ينزله ولا شك أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيه بركة عظيمة تحل على الناس الذين يجدون من يأمروهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فمن بركته عليه الصلاة والسلام أنه كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ومن بركته عليه الصلاة والسلام أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله ، ومن بركته عليه الصلاة والسلام أنه أحل لبني إسرائيل بعض ما كان محرما عليهم .
?وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي ?ربي سبحانه وتعالي وأوصاني ?بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّ ? [مريم:31]
(16/9)
---(1/491)
وصاني الله تبارك وتعالي بالصلاة وهي أعظم حق لله تبارك وتعالي على العباد وأوصاني بالزكاة وهي حق الفقراء والمساكين على الأغنياء ، الله تبارك وتعالي وصاني بالإحسان في ما بيني وبينه بالقيام بحقه عز وجل ووصاني بالإحسان في ما بيني وبين الناس بالقيام بحقهم ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّ ?[مريم: من الآية31] وهذه الوصية من الله تعالي لعيسى عليه السلام كقوله تعالي لمحمد صلى الله عليه وسلم ?وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ? [الحجر:99]
يعني الموت ، فما دام الإنسان حيا عاقلا فهو مكلف شرعا لا يسقط التكليف عن إنسان حي عاقل أبدا ، فما دام حي عاقلا فهو مكلف شرعا لا يسقط عنه التكليف إلا بالجنون والعياذ بالله أو يموت فينتهي التكليف وهذا معني قوله تعالي لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ?وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ? [الحجر:99]
وهذا معني قول عيسى عليه السلام ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّ ?[مريم: من الآية31] .
?وَبَرّاً بِوَالِدَتِي ?[مريم: من الآية32] أي وجعلني الله تبارك وتعالي برا بوالدتي .
وانتبه للتفرقة بين عيسى ويحيى عليهما السلام فإن الله قال في يحيى ?وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ?[مريم: من الآية14] لأن يحيى كان له أبوان أبوه وأمه .
أما في عيسى قال ?وَبَرّاً بِوَالِدَتِي ?[مريم: من الآية32] لأنه لم يكن له أب ?وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي ?ربي سبحانه وتعالي ?جَبَّاراً شَقِيّ ? [مريم:32]
وإنما جعلني برا بأمي وبرا بالناس ومطيعا وتقيا لله سبحانه وتعالي ?وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّ ? [مريم:33]
(16/10)
---(1/492)
وقد سلمه الله تعالي عند ولادته كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان عند ولادته فيستهل صارخا إلا مريم وابنها إقرأو إن شئتم قول الله عز وجل ?وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ?[آل عمران: من الآية36] فسلمه الله يوم ولادته وسيسلمه إن شاء الله تعالي يوم يموت وسيسلمه أيضا يوم يبعث حيا .
وانتبه لهذه اللفتة الزكية من عيسى عليه السلام حين يقول لبني إسرائيل ?وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّ ? [مريم:33]
فأنا ولدت كما ولدتم وسأموت كما تموتون وسأبعث يوم القيامة حيا كما يبعث الله تبارك وتعالي جميع الناس يوم القيامة أحياء ، فليس لي من الأمر شيء وإنما أنا كما قلت لكم ?إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ?[مريم: من الآية30] ?وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّ ? [مريم:33]
الله سبحانه وتعالي يقول ?ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ? [مريم:34]
لماذا كان هذا القول في عيسى هو قول الحق ؟ لأنه قول الله الحق ، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ?قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ? [صّ:84]
فكان هذا القول في خبر عيسى عليه السلام وفي حقيقته وفي قصته كان هذا القول هو القول الحق لأنه قول الله تعالي الحق ?قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ?[الأنعام: من الآية73] .
?ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ? [مريم:34]
أي يشكون ويرتابون فالله تعالي بين لهم الحقيقة في هذه القضية في عيسى بن مريم عليه السلام ، وأنه ما مثله إلا كمقل آدم كما قال عز وجل ?إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? [آل عمران:59](1/493)
(16/11)
---
وهكذا أراد الله تعالي أن يخلق عيسى من مريم دون أن يمسها بشر لتكمل الدائرة الرباعية كما شرحنا في الدرس السابق ?وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ?[مريم: من الآية21] خلق الله تبارك وتعالي الإنسان الأول آدم من غير ذكر ولا أنثى ثم خلق حواء من آدم فخلق من الذكر بلا أنثى ثم خلق من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء فأراد الله تبارك وتعالي أن تكتمل الدائرة الرباعية فخلق من الأنثى بلا ذكر .
?وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّ ? [مريم:33]
?ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ?[مريم: من الآية34]هذا هو القول الفصل فيه هذا هو القول الحق في شأن عيسى بن مريم ? قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ?[مريم: من الآية34] .
?مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ ?[مريم: من الآية35] ?مَا كَانَ لِلَّهِ ?[مريم: من الآية35]لا يليق بالله ولا ينبغي بجلال الله ولا يحق لله تبارك وتعالي ?مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ ?[مريم: من الآية35] تعالي وتقدس وتنزه عن اتخاذ الولد ?قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ? [يونس:68]
(16/12)
---(1/494)
?قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ?[يونس: من الآية68] فليس بحاجة إلي اتخاذ الولد أنا وأنت نحتاج إلي الولد ليحمل اسمنا وذكرنا بعد مماتنا والله تعالي حي لا يموت ، وأنا وأنت نحتاج إلي الولد لنأكل من كسبه إذا كبر ولنعتمد عليه إذا ضعفنا ، والله تبارك وتعالي هو الغني وهو القوى ، ثم إن الولد لا يكون في العادة الجارية إلا من الرجل والمرأة فالرجل إذا أراد لولد لابد أن يتزوج اتخاذ الزوجة دليل ضعف الإنسان ، من دلائل ضعف الإنسان أنه يحتاج إلي الزوجة فا لا يرضى أن يعيش أعزب بل هو يكافح ويجد ويجتهد حتى يتزوج مهما كلفه الزواج فالله سبحانه وتعالي قوي عزيز غني قادر سبحانه وتعالي ليس بحاجة إلي صاحبة ولم يكن له ولدا .
?وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِير ? [الاسراء:111]
?مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? [مريم:35]
وهذا الذي قضاه وأراده في عيسى بن مريم عليه السلام ، قضى الله وقدر وأراد أن يولد عيسى من مريم بلا أب ?إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? [آل عمران:59]
?سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ?[مريم: من الآية35]
هذه الآيات كالجملة المعترضة في أثناء كلام عيسى عليه السلام هذه الآيات من أول قوله تعالي ?وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّ ? [مريم:33]
?ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ? [مريم:34]
(16/13)
---(1/495)
?مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] [مريم:35]
هاتان الآيتان كالجملة المعترضة في كلام عيسى بن مريم عليه السلام لأن قوله تعالي بعد ذلك ?وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ? [مريم:36] هذا من تمام كلام عيسى بن مريم عليه السلام ?وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّ ? [مريم:33]
?وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ?[مريم: من الآية36] هذا هو كلام عيسى بن مريم عليه السلام فجاءت الآيتان اللتان تخللت هذه الآيات وهذا الكلام كالجملة المعترضة .
(16/14)
---(1/496)
فقوله تعالي ?وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ?[مريم: من الآية36] هذا من كمال وتمام كلام عيسى بن مريم عليه السلام ، يأمر بني إسرائيل إن يعبدوا الله تبارك وتعالي لأنه ربهم ?وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي ?[مريم: من الآية36] الذي خلقني وفطرني وهو يطعمني ويسقيني ويرزقني ويميتني ويحيني ?وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ?[مريم: من الآية36] فربط بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية كما ، دائما توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية والمشركون كانوا مقرين بالربوبية منكرين للألوهية ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ?[الزخرف: من الآية87] ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ?[العنكبوت: من الآية61] ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ?[يونس: من الآية31] فإذا قيل لهم لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله ، عن هذا ويقولون ?وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ? [الصافات:36]
فعيسى بن مريم أمرهم بتوحيد العبودية بناء على توحيد الربوبية ?وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ?[مريم: من الآية36]فإذا أقررتم بأن الله ربكم لزمكم أن تعبدوه وحده سبحانه وتعالي ، كما قال تعالي ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ? [البقرة:21]
(16/15)
---(1/497)
?الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ? [البقرة:22]
?وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ? [مريم:36]
فالصراط المستقيم أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا وأن يكفر بكل ما يعبد من دون الله سبحانه وتعالي وهذا معني لا إله إلا الله الكفر بكل ما عبد من دون الله والإيمان بألوهية الله تبارك وتعالي وحدة .
ولذلك يوم القيامة الله تبارك وتعالي يأمر المجرمين المستكبرين عن عبادته أن يمتازوا عن عباده المؤمنين العابدين ?وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ? [يّس:59]
ثم يقبل عليهم بالتوبيخ على رؤس الأشهاد فيقول ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ? [يّس:60]
?وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ? [يّس:61]
فالصراط المستقيم الذي أمر الله تعالي الناس أجمعين بسلوكه والسير عليه والالتزام به في قوله تعالي ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ?[الأنعام: من الآية153] الصراط المستقيم أن يعبد الله وحده لا يشرك به غيره وأن يكفر بكل ما يعبد من دونه سبحانه وتعالي ?وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ? [مريم:36]
(16/16)
---(1/498)
قال تعالي ?فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ?[مريم: من الآية37]اختلف بنو إسرائيل في شأن عيسى بن مريم عليه السلام من هذا ، ومن هو ، من هذا الذي يكلمنا ?فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ?[مريم: من الآية37] فمن بنو إسرائيل انقسموا قسمين اليهود والنصارى أما اليهود ففرطوا في حق عيسى عليه السلام فرطوا في حقه ونسبوه إلي الزنا نسبوا أمه إلي الزنا ونسبوه إلي السفاح وقالوا عنه ساحر هذا هو موقف اليهود من عيسى بن مريم عليه السلام رموها بالزنا ورموه هو بالسحر واتهموه أنه من سفاح لا من نكاح من سفاح ، وأما النصارى فغلوا في حق عيسى عليه السلام يعني قابلوا تفريط اليهود بالإفراط في عيسى عليه السلام فمنهم من جعله إلها ومنه من جعله ابنا لله ومن من قال ثالث ثلاثة ، ومنهم فريق آمنوا به وبما أخبرهم به عن نفسه ?إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ?[مريم: من الآية30]فقالوا هو عبد الله ورسوله ولذلك ربنا قال ?فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ? [مريم:37]
ولم يقل فويل لهم ، ولم يقل فويل للأحزاب وإنما قال ? فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُو ? [مريم: من الآية37] أي من الأحزاب لأن هناك حزبا آمن بعيسى بن مريم أنه عبد الله ورسوله ?فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?[مريم: من الآية37] ويل لهم يوم يبعثون ويل لهم يوم يردون إلي الله تبارك وتعالي ، وقد قيل إن الويل واد في جهنم تستغيث جهنم بالله من شدة حره فكيف بساكنه .
(16/17)
---(1/499)
إذن بنو إسرائيل لما وقفوا من عيسى هذا الموقف استحقوا العذاب لكن الله سبحانه وتعالي برحمته أمهلهم ولم يعجل لهم العذاب لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرى ، فإن تابوا ورجعوا عن هذه العقيدة الفاسدة تاب الله عليهم وغفر لهم وإن لم يتوبوا وماتوا على هذه العقيدة الفاسدة ?فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?[مريم: من الآية37] .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لا يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلت ثم قال ، قال ربه ?وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ? [هود:102]
فبنوا إسرائيل الذين فرطوا في عيسى والذين أفرطوا وغلوا فيه كلاهما استحقا العذاب ولكن الله تبارك وتعالي برحمته أخر عنهم العذاب لعلهم يتوبون فيتوب عليهم ويستغفرون فيغفر لهم فإن لم يتوبوا ?فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ?[مريم: من الآية37]يوم ? كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِير ?[الانسان: من الآية7]
يوما ?عَبُوساً قَمْطَرِير ?[الانسان: من الآية10]
فويل لهم من يوم ?يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيب ?[المزمل: من الآية17]
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ? [الحج:1]
?يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ? [الحج:2]
(16/18)
---(1/500)
?فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ? [مريم:37] ?أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَ ? [مريم: من الآية38] معني الكلام ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا ، يعني إنهم في يوم القيامة يسمعون جيدا ويرون الأشياء على حقيقتها ?أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَ ?[مريم: من الآية38] لكن كيف حالهم في الدني?لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ?[مريم: من الآية38] هم في الدنيا لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولم آذان لا يسمعون بها ، أما يوم القيامة ?لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ? [قّ:22]
ولذلك تعجب الله تبارك وتعالي من سمعهم وبصرهم فقال ?أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَ ?[مريم: من الآية38] يعني ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا ?لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ?[مريم: من الآية38] فإذا ماتوا انكشف الغطاء وظهرت الحقائق وتجلت الأمور كما قال تعالي?وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا ? أي يقولون ربن?أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ? [السجدة:12]
قال تعالي : ?وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ? [السجدة:13]
?فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ? [السجدة:14]
?أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ? [مريم:38]
(16/19)
---(2/1)
?وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ? [مريم:39]
الإنذار معناه الإعلام المصحوب بالتخويف ، أنذرهم يا نبينا أي خوفهم من عذاب الله عز وجل ، أنذرهم بأسا شديدا لعلهم يخافون فيقلعون عما هم فيه من الكفر والشرك الذي استحقوا به العذاب أنذرهم وخوفهم ?وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ? [مريم:39]
فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال يؤتي بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح فيوضع على صور بين الجنة والنار ، ثم ينادى يا أهل الجنة فيشرئبون ينظرون ، ويا أهل النار فيشرئبون ينظرون فيقال أتعرفون هذا فيقولون نعم إنه الموت فيذبح هذا الكبش الذي يمثل الموت ثم ينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت ثم قرأ صلى الله عليه وسلم قول ربه ?وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ? [مريم:39]
والمعني أن الحسرة ستصيب المتحسرين يوم القيامة بعد دخولهم النار ورؤيتهم دخول المؤمنين الصالحين الجنة فإذا رأو الناس دخلوا الجنة وهم في النار تحسروا حين إذن حسرة ما بعدها حسرة وندموا ندامة ما بعدها ندامة .
ثم يقول تعالي ?إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ? [مريم:40]
انتبه لصيغة الكلام ?إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ? [مريم:40]
(16/20)
---(2/2)
أربع ضمائر للمتكلم بأسلوب الجمع والله تبارك وتعالي واحد لا ثاني له ، وإنما يتكلم بأسلوب عظمة والعزة والكبرياء لأنه العزيز وأنه المتكبر وأنه العلي العظيم ، إذا كانت قد جرت عادة الملوك إذا خاطبوا الناس يقول نحن الملك فلان ، نحن رئيس الدولة الفلانية هذا البشر حين يتكلم عن نفسه يتكلم بأسلوب العظمة نحن رئيس الدولة نحن ملك المملكة ، فالله سبحانه وتعالي هو ملك الملوك وهو العلي العظيم فالكلام بأسلوب الجمع تعظيما لله العلي العظيم ?إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَ ?[مريم: من الآية40] ? هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ?[القصص: من الآية88] ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ? [الرحمن:26]
?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ ? [الرحمن:27]
?إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ? [مريم:40]
يوم القيامة لا يملكون شيئا ، وإلينا يرجعون يوم القيامة ليس معهم مما ملكوه في الدنيا شيء كما قال تعالي ?وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ?[الأنعام: من الآية94]
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (يطوي الله سبحانه وتعالي السماوات بيمينه ويأخذ الأراضين بشماله ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض أين الجبارون أين المتكبرون ، لمن الملك اليوم لله الواحد القهار )
?إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ? [مريم:40]
وهكذا تنتهي قصة ميلاد عيسى بن مريم عليها السلام ، وما أجمل تعقيب الله تبارك وتعالي على هذه القصة في سورة آل عمران ?إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [آل عمران:62]
(16/21)
---(2/3)
?فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ? [آل عمران:63]
?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? [آل عمران:64]
يقول النبي صلى الله عليه وسلم من شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلي مريم وروح منه وأن البعث حق وأن الجنة حق وأن النار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل .
ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ونشهد أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلي مريم وروح منه ونشهد أن البعث حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، ونرجو الله سبحانه وتعالي أن يؤتينا ما وعدنا على لسان رسولنا أن يدخلنا الجنة على ما كان من عمل .
ثم تأتي القصة الثالثة في هذه السورة الكريمة المباركة سورة مريم وهي قصة إبراهيم الخليل عليه السلام :
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّ ? [مريم:41]
واذكر يا نبينا في هذا الكتاب والمراد به القرآن الكريم والذكر الحكيم أشرف الكتب على الإطلاق والمهيمن عليها كما وصفه الله تبارك وتعالي ، واذكر يا نبينا في الكتاب إبراهيم أي واتلوا عليهم نبأ إبراهيم كما قال الله تبارك وتعالي كذلك في آية ?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ?[الشعراء:69]
(16/22)
---(2/4)
فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي سيتلو على قومه نبأ إبراهيم فهذا النبأ هو من عند الله سبحانه وتعالي ، فالذاكر لإبراهيم في الكتاب هو الله تبارك وتعالي ، فأي شرف أعظم من هذا الشرف وأي ذكر أحسن من هذا الذكر أن يذكر الله تبارك وتعالي إبراهيم عليه السلام في هذا الكتاب المهيمن على الكتب السابقة ، الخالد إلي يوم القيامة والناس كلهم يذكرون إبراهيم عليه السلام بتلاوة نبئه في هذا القرآن الكريم والذكر الحكيم ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ? [مريم:41]
وإبراهيم عليه السلام هو أبو العرب ? مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ?[الحج: من الآية78] هو أبو العرب وكان العرب ينازعون اليهود والنصارى شرف الانتساب إلي إبراهيم عليه السلام ، كان اليهود والنصارى والعرب يتنازعون شرف الانتساب إلي إبراهيم عليه السلام .
كان اليهود يقولون نحن أحق بإبراهيم من غيرنا ، كان يهوديا .
وكانت النصارى يقولون نحن أحق بإبراهيم من غيرنا ، كان نصرانيا .
وكان مشركو العرب يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وأنهم أحق بإبراهيم من غيرهم فبرأه الله مما قالوا فقال ?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? [آل عمران:67]
ثم بين سبحانه وتعالي وقوله الحق من أولى وأحق بإبراهيم فقال سبحانه ?إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ? [آل عمران:68]
(16/23)
---(2/5)
فالمراد من هذا الذكر ، ذكر نبأ إبراهيم في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالي يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم اذكر يا نبينا لقومك في الكتاب نبأ أبيهم إبراهيم وقل لهم لماذا ترفضون اتباعي على ما جئت به من عند الله ، أنتم تزعمون أنكم حريصون على دين آبائكم فلذلك رفضتم أن تتبعوني على ما جئت به من عند الله وأنتم تقولون إن أشرف آبائكم هو إبراهيم عليه السلام فلإن كنتم متبعون آبائكم على دينهم فإن أولى آبائكم بالاتباع على دينه هو إبراهيم عليه السلام ، فاتبعوا ملة إبراهيم فإنكم إذا اتبعتم ملة إبراهيم كنتم متبعي لأنني في الأصل على ملة إبراهيم عليه السلام كما قال الله تعالي لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? [النحل:123]
فالنبي يقول لهم إذا كنتم امتنعتم عن اتباعي على ما جئت به من عند الله حرصا على تمسككم بدين آبائكم ، وإبراهيم هو أشرف آبائكم فاتبعوا ملة أبيكم إبراهيم فأنا في الأصل على ملة أبيكم إبراهيم .
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ?[مريم: من الآية41] ثم إنكم يا معشر العرب إما أن تكونوا مقلدين أو مستدلين ، لأن الناس قسمان عامي مقلد ، وطالب علم متبع .
فالعامي الوجه في حقه كما قال تعالي ? فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ?[النحل: من الآية43] فالعامي مقلد للعلماء .
وأما طالب العلم فليس مقلدا وإنما هو متبع ، طالب العلم بما أوتي من العلم يستطيع أن يعرض الأقوال كلها على الأدلة فما كان عليه الدليل قبله ، وما لم يكن عليه الدليل رده فيكون بذلك متبعا .
فالنبي يقول لهم لمشركي العرب إما أن تكونوا من العامة مقلدين ، وإما أن تكونوا مستدلين ، فإن كنتم مقلدين آبائكم فإن أولى آبائكم بالتقليد إبراهيم
? فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيف ? [آل عمران: من الآية95](2/6)
(16/24)
---
وإذا كنتم مستدلين أي كان عنكم أثارة من العلم تستطيعون أن تميزوا بها بين الأدلة وترجحوا بعضها على بعض فاتبعوا إبراهيم في ذلك واسمعوا هذه الأدلة والبراهين التي حاج بها إبراهيم آباه أزر .
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّ ? [مريم:41]
من هو الصديق ؟
الصديق هو من كثر صدقه وتصديقه ، الصديق هو الذي إذا حدث الناس صدقهم ، وإذا حدثوه صدقهم ، فالصديق هو من كثر صدقه وتصديقه .
ولذلك لقب أبو بكر رضي الله عنه بهذا اللقب دون غيره فقيل له ولذلك لكثرة صدقه وتصديقه .
أما صدقه هو في نفسه فكان لا يتحرى الكذب أبدا ، وأما تصديقه فكان من أشد الناس تصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلمولذلك لما جاءوه صبيحة الإسراء بعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسرى به الليلة من المسجد الحرام بمكة إلي المسجد الأقصى بفلسطين أتوا أبا بكر فقالوا أما سمعت ما قال صاحبك قال وماذا قال ، قالوا يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة ثم أصبح بيننا ، فقال وأي الغرابة في ذلك إن كان قال فقد صدق ، إني لأصدقه في الخبر يأتيه من السماء في لحظة فكيف لا أصدقه في ذلك ، فالشاهد أن الصديق هو من كثر صدقه وتصديقه.
والله تبارك وتعالي يقول ?وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ? [الزمر:33]
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدى إلي البر وإن البر يهدي إلي الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) .
والصديقية مرتبة دون مرتبة النبوة وفوق مرتبة الشهادة ، قال الله تعالي ?وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ? [النساء:69]
(16/25)
---(2/7)
الصديقين مرتبة دون مرتبة النبوة وفوق درجة الشهادة ، ولذلك قال تعالي ?وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ? [الحديد:19]
ثم قال :?وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ?[الحديد: من الآية19] فالشهداء شيء والصديقون شيء أخر ، صنف ثاني ، الصديقون صنف والشهداء صنف أخر .
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّ ? [مريم:41]
انتبه من هذا الترتيب في وصف الخليل إبراهيم عليه السلام ?إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّ ?[مريم: من الآية41] وقد قلنا إن الصديقية مرتبة دون مرتبة النبوة ، فالله تبارك وتعالي استعمل أسلوب الارتقاء في المدح من الأدنى إلي الأعلى ، فإذا أردت أن تمدح إنسانا فأتي بأدنى صفاته وارتقي منها إلي الأعلى فهذا هو أسلوب المدح الحسن ، لكن لو بدأت بأعلى ما تمدح به ثم نزلت إلي أدنى منه وأقل لم يكن ذلك مدحا حسنا ، المدح الحسن أن ترتقي من الأدنى إلي الأعلى وهذا ما فعله الله تعالي في قوله ?إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّ ?[مريم: من الآية41] ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّ ? [مريم:41]
?إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ ? [مريم:42] تكررت منه عدو مرات ، انتبه لهذه اللفظة ? يَا أَبَتِ ?[مريم: من الآية42] التاء في كلمة يا أبت التاء عوض عن ياء الإضافة ، ? يَا أَبَتِ ?[مريم: من الآية42] كلمة أب قم اتصلت بها التاء ، هذه التاء ?يَا أَبَتِ ?[مريم: من الآية42] عوض عن ياء الإضافة تقدير كلام يا أبي لكن لفظة ? يَا أَبَتِ ?[مريم: من الآية42] فيها من الحنان والعطف والرفق واللين والرقة ما فيها
?إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئ ? [مريم:42]
(16/26)
---(2/8)
يا أبت لما تعبد حجرا ؟ لما تعبد وثنا ؟ لما تعبد شجرا ؟ لما تعبد صنما ؟ ل يسمعك إذا دعوته ، ولا يراك وأنت تتذلل له وتخضع وتظهر له فقرك وضعفك وانكسارك بين يديه عند السؤال ? لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئ ?[مريم: من الآية42] لا يجلب لك نفعا ، ولا يدفع عنك ضرا ?إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئ ? [مريم:42]
قال أهل السنة في هذه الآية دلالة على أن الله سميع بصير لأن إبراهيم عليه السلام أنكر على أبيه عبادة ما لا يسمع ولا يبصر فلم يرد آزر على ولده الإنكار ، لم يرد عليه إنكاره ، ولم يقل له ما الفرق بيني وبينك أنا أعبد ما لا يسمع ولا يبصر وأنت كذلك تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ، لم يرد آزر على ابنه الإنكار لأنه كان يعلم أن الله سميع بصير .
قال أهل السنة فكان آزر مع كفره أعلم بالله وأسمائه وصفاته من المعطلة الذين عطلوا صفات الله تبارك وتعالي ، الله تعالي يقول : ?وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ? [غافر:20]
ويقول سبحانه ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ? [المجادلة:1]
لما نزلت هذه الآيات قالت عائشة رضى الله عنها تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها ، لقد جاءت المجادلة تجادل رسول الله في زوجها وتشتكي إلي الله وأنا في الحجرة أسمع بعض كلامها ويخفى علي بعضه ولكن الله سمع كلامها من فوق سبع سماوات .
فمن أهم صفات الله عز وجل التي يجب أن نؤمن بها لله السمع والبصر .
?إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئ ? [مريم:42]
(16/27)(2/9)
---
المفروض في الداعي حين يدعوا أنه يكون على يقين من أن من يدعوه يسمعه ، وأن من يدعوه يراه ، وأن من يدعوه قادر قوي غني فكيف أنت تدعو ?مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئ ?[مريم: من الآية42]
مرة ثانية يستدر عطفه وحنانه بالنداء بلفظ يا أبت ?يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّ ? [مريم:43]
يتلطف إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه ويرفق به فلا يغلو في مدح نفسه ولا يفرط في حق أبيه ، فلا ينسب لنفسه العلم ولا ينسب إلي أبيه الجهل لم يقل له أنا عالم وأنت جاهل أو لم يقل له أنا أعلم وأنت لا تعلم إنما قال : ?يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ?[مريم: من الآية43] وإن كان قد آتاك شيء من العلم وإن كنت على حظ من العلم إلا أنني آتاني من الله تبارك وتعالي علم ليس عندك ، والواجب على العالم إذا بلغه أن فلانا من الناس عنده علم ليس عنده أن يقصد هذا العالم وأن يستفيد علمه إلي علم نفسه ، كما فعل موسى حين سافر إلي الخضر عليه السلام ليأخذ منه العلم الذي لم يكن يعلمه موسى عليه السلام .
فإبراهيم يتلطف مع أبيه في الدعوة حتى يستجيب له ويقبل دعوته ?يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئ ?[مريم: من الآية42] ?يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّ ? [مريم:43]
(16/28)
---(2/10)
مرة ثالثة?يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ?[مريم: من الآية44]وهل كان آزر أبو إبراهيم يعبد الشيطان ؟ إنه كان يعبد الأصنام والأوثان كان يعبد الحجارة فلم يكن يعبد الشيطان ، كان يعبد الحجارة والأوثان بتزيين الشيطان فالشيطان هو الذي دعاه إلي عبادة الأصنام والأوثان من دون الله ، فلما اتبعه وأطاعه في عبادة الأحجار من دون الله كان كأنه عبد الشيطان ، ولذلك قال له ?يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّ ? [مريم:44]
الشيطان عصى الله تبارك وتعالي وعصيانه ظهر معنا في سورة الكهف في قوله تعالي ?وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ? [الكهف:50]
?يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّ ? [مريم:44]
والعاصي لله لا يجوز أن يطاع في ما يدعو إليه لمعصية الله عز وجل ، ثم العاصي لا يكون إلا جاهلا كما قال الله تعالي ?إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ?[النساء: من الآية17]
فكل من عصي الله فهو جاهل وإن كان عالما ، العالم إذا عصي الله لم ينفعه علمه فهو جاهل فالعاصي لا يطاع والجاهل لا يطاع ، ولذلك قال الله تبارك وتعالي لموسى وهارون عليه السلام وقد دعوا على فرعون ?وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ? [يونس:88]
?قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ? [يونس:89]
(16/29)
---(2/11)
فالذي لا يعلم جاهل ، الجاهل لا يتبع وقال الله تعالي لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ?ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ? [الجاثية:18]
وقال له في سورة الكهف كما سبق معنا ?وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُط ?[الكهف: من الآية28]
فإبراهيم عليه السلام يقول لأبيه يا أبت ?إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّ ? [مريم:44] فكيف تتبعه وكيف تطيعه وقد عصي الله سبحانه وتعالي .
ومرة رابعة ?يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّ ? [مريم:45]
?يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ ?[مريم: من الآية45] أنا لا أجزم بأنه قد حقت عليك كلمة العذاب أنت مازلت حيا ومازلت أطمع في إيمانك وإسلامك وهدايتك ، فأنا لا أجزم أنه قد حقت عليك كلمة العذاب وأن الله لن يهديك لكنني أخاف عليك إن أنت سرت في ما أنت فيه من الكفر والعناد ولم تتبعني ? أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّ ?[مريم: من الآية45] والشيطان لا ينصر أوليائه بل يخذلهم ويتبرأ منهم أحوج ما يكونون إليه ?يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّ ? [مريم:45]
والشيطان هذا لن يستطيع أن يدفع عنك عذاب الله تبارك وتعالي بل سيتبرأ منك ومن سائر الذين تبعوه أحوج ما يكونون إليه .
الشيطان لا ينصر أتباعه وإنما يخذلهم ويتبرأ منهم في الدنيا وفي الآخرة ، الشيطان يخذل أوليائه ويتبرأ منهم في الدنيا وفي الآخرة .
(16/30)
---(2/12)
في الدنيا قال الله تعالي ?كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ? [الحشر:16]
?فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ? [الحشر:17]
ويوم بدر زين للمشركين سوء أعمالهم ورغبهم في الخروج لقتال المسلمين ? لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ?[الأنفال: من الآية48]
ويوم القيامة يخذل الشيطان أيضا أعوانه وأوليائه ويتبرأ منهم كما قال الله تعالي ?وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [ابراهيم:22]
?يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّ ? [مريم:45]
(16/31)
---(2/13)
كيف أجاب آزر آباه إبراهيم عليه السلام ?قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ? [مريم:46] هكذا يا إبراهيم مع أن إبراهيم لم يقل يا آزر وإنما يا أبت ، يا أبت ، يا أبت ، يا أبت فلم يراعي آزر لابنه حرمة ولم يراعي حق القرابة ?قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ? أي عن سبها وهجرها ودعوتي إلي هجرها ? لَأَرْجُمَنَّكَ ? أي لأرجمنك بالحجارة حتى الموت فإذا أردت السلامة فاهجرني واعتلني وابتعد عني ?وَاهْجُرْنِي مَلِيّ ?[مريم: من الآية46]
فلم يقابل الخليل إبراهيم عليه السلام جهل أبيه بجهل ولا إساءة أبيه بإساءة ولا قسوة أبيه بقسوة ، وإنما قابل الجهل بالحلم وقابل الإساءة بالإحسان وقابل الغلظة والفظاظة بالرفق والرحمة ?قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ ? [مريم:47]
وهذا هو هدي النبيين وعباد الله الصالحين حين يؤذون في الله عز وجل ، لا يجهلون على من جهل عليهم ، ولا يسيئون إلي من أساء إليهم وإنما كما فعل الخليل إبراهيم ووصف الله تعالي عباده عباد الرحمن ?وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلام ? [الفرقان:63]
?وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ? [القصص:55]
حين يؤذى الإنسان في الله فيتأدب بهذا الأدب ألا يقابل جهل الجاهل بالجهل وإساءة المسيء بالإساءة يوكل الله تبارك وتعالي له ملكا يدافع عنه .
(16/32)
---(2/14)
فقد صح أن أبا بكر رضي الله عنه كان ذات يوم جالسا نع النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رجل فأخذ يسبه ابتدأ أبا بكر بالسب بدل السلام فما زاد أبا بكر على قوله سلام عليكم والرجل يسب وهو يقول سلام عليكم والرجل يسب وهو يقول سلام عليكم حتى إذا نفذ صبر الصديق أبي بكر رضي الله عنه ورد على الرجل بمثل قوله ، قام النبي صلى الله عليه وسلم من المجلس وانصرف فلحقه أبا بكر وقال يا رسول الله كنت جالسا والرجل يسبني حتى إذا رددت عليه بعض قوله قمت وانصرفت عني قال يا أبا بكر كلن الله قد وكل بك ملكا يرد عليه كلما قلت له سلام عليك قال بل أنت سلام عليك هو لا يستحق السلام أنت المستحق للسلام فلما رددت عن نفسك انصرف الملك وحضر الشيطان وما كنت لأجلس في مجلس فيه شيطان .
?قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّ ? [مريم:47]
الله تبارك وتعالي عودني البر والحنان والرحمة والعطف وإجابة الدعاء وإعطاء السؤال وأنا سأستغفر لك ربي ، وأرجو ربي أن يغفر لك بسبب استغفاري لك ? سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّ ?[مريم: من الآية47]
لما مات أبو طالب على الكفر والشرك حزن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حزنا شديدا وقال والله يا عمي لأستغفرن لك ما لم أنهى عن ذلك فأنزل الله تعالي عليه قوله ?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ? [التوبة:113]
?وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ? [التوبة:114]
(16/33)
---(2/15)
إذن قول إبراهيم لأبيه ?سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ?[مريم: من الآية47] وعده أن يستغفر الله له فاستغفر له في حياته ، فلما مات على كفره وشركه وظهرت عداوته لله تبارك وتعالي تبرأ ابنه إبراهيم منه ولم يستغفر له .
فلا يجوز لأحد أن يستغفر لأبية المشرك أو لأمه المشركة محتجا باستغفار إبراهيم لأبيه فإن الله قال ?وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ? [التوبة:114]
ولذلك قال تعالي : ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ? ثم قال تعالي مستثنيا من التأسي ? إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ? [الممتحنة:4]
فهذا ليس فيه تأسي بإبراهيم لماذا ؟ ?وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ? [التوبة:114]
?قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّ ? [مريم:47]
?وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ? [مريم:48]
لم يبقي لوجودي بينكم فائدة وقد أصررتم على الكفر وأبيتم إلا الشرك ?وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّ ? [مريم:48]
(16/34)
---(2/16)
أنا أعتزلكم وما تعبدون من دون الله وأعبد الله وحده لا أشرك به شيئا ?وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّ ?[مريم: من الآية48]
انتبه في هذا الكلام تلميح لهم يقول أنا أدعو ربي ولن أكون بدعاء ربي شقيا وأنتم عبدتم غير الله ودعوتم غير الله فستكون عبادتكم لغير الله سببا لشقائكم في الدنيا وفي الآخرة ، هذا معني الكلام ولكن الخليل إبراهيم عليه السلام يستعمل التلميح محل التصريح ، ويستعمل التعريض محل المواجهة كما فعل موسى وهارون عليهما السلام حين أتيا فرعون وقد قال الله لهما ?فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? [طه:44]
ثم قال : ?فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ? انتبه ?وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ? [طه:47]?إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ? [طه:48]
(16/35)
---(2/17)
انتبه وتعلم هذا الأسلوب في الدعوة لا تواجه الناس بإنذار وبالترهيب والتخويف ، استخدم مع الناس دائما التلميح ما دام يغني عن التصريح ، واستخدم التعريض بدلا من المواجهة ، فهذا هدي الأنبياء لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على المنبر فيقول لماذا فعلت كذا يا فلان ؟ ولماذا فعلتم كذا يا بني فلان وإنما كان إذا بلغه شيء عن قوم هرع إلي المنبر فقال ما بال أقوام يقولون كذا ، ما بال أقوام يفعلون كذا ، إبراهيم يقول لأبيه وقومه ? وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّ ?[مريم: من الآية48] يقول لهم أنا لم أشقى ما دمت أعبد الله وحده ، لكنكم تعبدون غير الله فلابد أن تشقوا في الدنيا وفي الآخرة لكن لا يوجه لهم هذا التوجيه وإنما يلمح لهم تلميحا ، فتتعلم من هذا أيها الداعية وأيها الطالب أن تكون هينا لينا مع الناس ، لا تواجه الناس بإنكار ، ولا تسمي الناس بأخطائهم وعيوبهم ، ولكن أهتدي بهدي الأنبياء واقتدى بهم ، ما بال أقوام يقولون وما بال أقوام يفعلون .? وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى ?[مريم: من الآية48]
وهذا منه هضم لنفسه وتفويض لربه سبحانه وتعالي ?عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّ ?[مريم: من الآية48] لأنه يعلم أنه لا يجب على الله لأحد شيء .
?عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّ ?[مريم: من الآية48] أنا أرجو لأنه لا يجب على الله لأحد شيء وإنما الله تعالي هو الذي يتفضل على عباده بالإجابة إذا دعوه وبالعطاء إذا سألوه وهو الذي يتفضل عليهم أيضا برحمتهم يوم القيامة فيدخلهم الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لن يدخل أحدكم عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ).
?وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّ ? [مريم:48]
(16/36)
---(2/18)
فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله انتبه سمى الله الدعاء عبادة قال ?وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي ?[مريم: من الآية48] ثم قال ربنا فلنا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء هو العبادة ثم قرأ قول ربه ?وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ? [غافر:60]
فذكر الدعاء ثم سماه عبادة ?وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ? [غافر:60]
?فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ?[مريم:49] وذلك بعد إسماعيل عليه السلام ، وهبنا له إسحاق ويعقوب بن إسحاق ذلك بعد إسماعيل عليه السلام ، وكلا من إسحاق ويعقوب ?وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّ ? [مريم:50]
والمراد باللسان الذكر الحسن والثناء الجميل ، سمي الذكر الحسن والثناء الجميل لسان لأنه يكون باللسان ، والعرب تسمي الشيء باسم ما يكون به من الجوارح ، العرب تقول للنعمة والإحسان والفضل يد يقولون لفلان عندي يد يعنون النعمة لأن النعمة والإحسان يكون باليد ، فأطلق اللسان وأراد به الثناء الحسن والذكر الجزيل لأن الثناء الحسن والذكر الجزيل يكون باللسان فلا يذكر إبراهيم وأبنائه عليهم الصلاة والسلام إلا بالثناء الحسن والذكر الجميل وهم يستحقون ذلك فعلا ، ولذلك قال ? لِسَانَ صِدْقٍ ?[مريم: من الآية50] أنا وأنت حين نمدح قد نمدح بالباطل بما ليس فينا وحين نمدح قد نمدح الغير بما ليس فيه لكن الخليل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب إذا مدحوا فإنما يمدحون بالحق ولذلك قال :?وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّ ?[مريم: من الآية50] .
(16/37)
---(2/19)
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
هذا والحمد لله رب العالمين وصلي اله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
سؤال :
كم عدد الذين تكلموا في المهد غير عيسى عليه السلام ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
هناك حديث مشهور لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى بن مريم ، وجريج ، وبينما امرأة ترضع ولدها الحديث ، هذا الحديث قال العلماء لم يرد به الحصر لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ليس المراد بهذا الحصر ، حصر الكلام في الصغر في هؤلاء الثلاثة فإن هناك أحاديث أخرى صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم في كلام بعض الصبيان في مهدهم ، فكم عددهم على الحصر لا نعلم ولكن نقول إذا صح الحديث فنقبل بإذن الله عز وجل .
سؤال :
كم كان عمر عيسى عليه السلام حين رفع إلي السماء ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
كان عمره ثلاثا وثلاثين سنة وهو إن شاء الله تعالي سن أهل الجنة حين يدخلون الجنة يكونون على سن عيسى حين رفع ثلاث وثلاثين سنة .
سؤال :
هل عيسى عليه السلام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لا عيسى عليه السلام من بني إسرائيل ?وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ?[الصف: من الآية6] ولكنه سينزل في أخر الزمان ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون من أتباع محمد بعد نزوله إن شاء الله .
سؤال : كيف رفع إلي السماء ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
رفعه الله تعالي حيا ، رفع الله تعالي عيسى لما أراد اليهود أن يقتلوا عيسى عليه السلام ألقى الله تعالي شبه عيسى على أحد من الناس فدخلوا فوجدوا الشبه فأخذوه وهم يظنون أنه عيسى فقتلوه وقالوا إنا قتلنا المسيح بن مريم رسول الله قال تعالي :?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ? [النساء:158]
(16/38)
---(2/20)
ألقى الله تعالي عليه النوم وهذا معني قوله تعالي ?إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ?[آل عمران: من الآية55]الوفاة هنا معناها النوم فالله سبحانه وتعالي سمى النوم وفاة في أكثر من آية في مثل قوله تعالي ?وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ?[الأنعام: من الآية60] فقوله تعالي ? إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ?[آل عمران: من الآية55] يعني أصلط عليك النوم ثم أرفعك حيا إلي السماء ، فعيسى رفع حيا إلي السماء وسينزل إن شاء الله تعالي في آخر الزمان بعد ظهور المهدى محمد بن عبد الله رضي الله عنه وخروج الدجال ينزل عيسى بن مريم عليه السلام من السماء عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ثم يتوجه إلي بيت المقدس ويقتل الدجال .
سؤال : ما معني إني متوفيك ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
هذا الذي ذكرته سبقت بالإجابة إني متوفيك الوفاة هنا معناها النوم .
سؤال :
لماذا بادر الله سبحانه وتعالي مريم بقوله ?نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّ ?[مريم: من الآية26]بدون أن تسأل هي كيف تفعل بأمرها ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لطفا من الله ورحمة وجهها ماذا تفعل ، ولا سيما وقد أصابها ذلك القلق التي عبرت عنه بقولها ?يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّ ?[مريم: من الآية23] .
وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
(16/39)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
من أول قوله : "واذكر في الكتاب موسى ... "(2/21)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
ثم مرحبا بكم في هذا اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة مريم .
ونبدأ بثلاثة الأسئلة للحلقة السابقة :
السؤال الأول : ما هو الصراط المستقيم ؟
السؤال الثاني : من هو الصديق ؟
السؤال الثالث : استدل أهل السنة بقول إبراهيم لأبيه ? لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ ?[مريم: من الآية42] على أن الله سميع بصير فما وجه الاستدلال ؟
أما الآيات المباركات التي معنا اليوم من سورة مريم فقد تضمنت من المعاني ما يلي :
أولا : فضائل موسى عليه السلام .
ثانيا : فضائل إسماعيل عليه السلام .
ثالثا : الحث على صدق الوعد والوفاء بالعهد .
رابعا : واجب الرجل نحو أهل بيته .
خامسا : فضائل إدريس عليه السلام .
سادسا : خوف النبيين من رب العالمين .
سابعا : التحذير من إضاعة الصلاة .
أخيرا : التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
وهذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات التي معنا اليوم من سورة مريم من المعاني والتي نعيش في رحابها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالي .
(17/1)
---
فالنستمع إليها أولا قبل الخوض في تفاصيلها سائلين الله عز وجل أن ينجز لنا ما وعدنا حيث قال ?وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? [الأعراف:204]
?كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ? [صّ:29](2/22)
?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الحشر:21]
?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر:23]
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى ? [مريم:51]
واذكر يا نبينا في الكتاب الذي أنزلناه عليك وهو القرآن الكريم والذكر الحكيم ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى ?[مريم: من الآية51] وهو موسى بن عمران كليم الله عز وجل عليه الصلاة والسلام ، وقد قلنا أن ذكر أي إنسان في هذا الذكر الحكيم شرف ما بعده شرف ، وثناء ما بعده ثناء .
(17/2)
---
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَص ?[مريم: من الآية51] القراءة المشهورة لفتح اللام على أنه اسم مفعول ? إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً ?[مريم: من الآية51] وهناك قراءة ثانية بكسر اللام على أنه اسم فاعل " إنه كان مخلصا " والقراءتان صحيحتان ، ولا شك أن الإخلاص هو سبب الاستخلاص ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَص ?[مريم: من الآية51] فأخلص لله سبحانه وتعالي فاستخلصه الله تعالي لنفسه فكان عليه الصلاة والسلام مخلصا ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّ ? [مريم:51](2/23)
?وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ? [مريم:52] نادى الله تبارك وتعالي موسى عليه السلام بالوادي المقدس طوى عند جبل الطور هو جبل معروف بسيناء ، وكان هذا النداء أثناء عودة موسى عليه السلام من بلاد مدين بعد ما قضى فيها لصهره أبر الأجلين وأوفاهما عشر سنين كما هو معلوم مما قصه الله تبارك وتعالي علينا في صورة القصص إذ خرج موسى عليه السلام من مصر هاربا من بني إسرائيل فلما انتهى إلي بلاد مدين وانتهى إلي ذلك الرجل الصالح والد المرأتين اللتين سقى لهما موسى غنمهما ، ?قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ? [القصص:26]
?قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ? [القصص:27]
?قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ? [القصص:28]
(17/3)
---
قال النبي عليه الصلاة والسلام سألت جبريل عليه السلام أي الأجلين قضى موسى قال قضى أبرهما وأوفاهما ، فلما قضى موسى عليه السلام لصهره أبر الأجلين وأوفاهما ألقى الله تبارك وتعالي في قلب موسى حب العودة إلي الوطن وحب الرجوع إلي الأهل فاستأذن صهره وخرج بأهله ، وبينما هو بذلك المكان المقدس طوى وعند جبل الطور ناداه الله تبارك وتعالي ، ولم يذكر الله تبارك وتعالي ماذا نادى به موسى لكنه فسره وفصله في سورة طه حيث قال تعالي ?وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ? [طه:9]
?إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً ? [طه:10](2/24)
?فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ? [طه:11]
?إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ? [طه:12]
?وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ? [طه:13]
?إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ? [طه:14]
إلي أخر ما ذكره الله تبارك وتعالي من هذا النداء في سورة طه .
?وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّ ? [مريم:52]
والنداء يكون للبعيد ، والمناجاة تكون للقريب وفي الحديث أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قالوا يا رسول الله أبعيد ربنا فنناديه أم قرين فنناجيه فنزل قول الله تعالي ?وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ? [البقرة:186]
(17/4)
---
فالله سبحانه وتعالي نادى موسى ثم ناجاه وناجاه موسى عليه السلام ، وفي هذه الآية إثبات صفة الكلام لله عز وجل إذ أن الله تبارك وتعالي نادى موسى وسمع موسى كلام الله تبارك وتعالي فكان موسى كليم الله ، ولقد أكد الله تبارك وتعالي على كلامه لموسى بالمفعول المطلق المؤكد حيث قال ? وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيم ?[النساء: من الآية164] فموسى عليه السلام كلمه الله تبارك وتعالي وناجاه وناداه .
فالكلام صفة من صفات الله عز وجل .
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّ ? [مريم:51]
?وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّ ? [مريم:52]
?وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّ ? [مريم:53]
وذلك أن الله تبارك وتعالي لما كلف موسى عليه السلام بالرسالة رسالته إلي فرعون قال موسى عليه السلام ?قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ? [طه:25]
?وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ? [طه:26](2/25)
?وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ? [طه:27]
?يَفْقَهُوا قَوْلِي ? [طه:28]
?وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ? [طه:29]
?هَارُونَ أَخِي ? [طه:30]
?اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ? [طه:31]
?وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ? [طه:32]
?كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِير ? [طه:33]
?وَنَذْكُرَكَ كَثِير ? [طه:34]
?إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِير ? [طه:35]
قال الله تعالي ?قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ? [طه:36]
وفي سورة القصص قال الله تعالي حكاية عن موسى أنه قال ?وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ? [القصص:34]
(17/5)
---
?قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ? [القصص:35] فموسى عليه السلام سأل الله تبارك وتعالي أن ينبأ له أخاه هارون حتى يكون وزير صدق له ، ويشد عضده به ، فاستجاب الله تبارك وتعالي له ونبأ هارون وأرسله مع أخيه موسى إلي فرعون وملئه فهذا معني قوله ?وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّ ? [مريم:53]
وكانت هذه الهبة هبة النبوة لهارون بناء على سؤال موسى وشفاعته عند ربه لأخيه ، ولذلك قال بعض السلف ما من شفاعة شفعها أحد لأحد مثل شفاعة موسى لهارون ، وقال بعضهم ما نفع أخ أخاه مثل ما نفع موسى أخاه هارون ذلك أن الله سبحانه وتعالي نبأ هارون إكراما لأخيه موسى ?وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّ ? [مريم:53](2/26)
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ? [مريم:54] واذكر يا نبينا في الكتاب الذي أنزلناه إليك وهو القرآن الكريم والذكر الحكيم ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ?[مريم: من الآية54] وإسماعيل هو بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام وقد سبق في السورة قول الله تعالي ?فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّ ? [مريم:49]
(17/6)
---
ومعلوم أن الله سبحانه وتعالي وهب لإبراهيم إسماعيل أولا ، وهب الله تبارك وتعالي إبراهيم إسماعيل قبل إسحاق وقبل يعقوب فيعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فالله سبحانه وتعالي وهب لإبراهيم إسماعيل وإسحاق ، فالله سبحانه وتعالي قدم ذكر إسماعيل وإسحاق على ذكر إسماعيل وأخر إسماعيل وأفرده بالذكر ، قال العلماء إفراد الشيء عن جنسه بالذكر إنما يكون من باب التكريم والتشريف له ، فالله سبحانه وتعالي ذكر إسحاق ويعقوب في سياق واحد ثم أخر ذكر إسماعيل وذكره وحده ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ?[مريم: من الآية54]فكان إفراد إسماعيل عليه السلام بالذكر وحده دون أخيه وبن أخيه من باب التكريم والتشريف له .
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ ?[مريم: من الآية54] والصدق صفة من الصفات الواجبة للأنبياء والمرسلين أجمعين فلا يكون النبي إلا صادقا ، فالصدق صفة مشتركة يشترك فيها جميع الأنبياء والمرسلين إلا أن الله تبارك وتعالي خص إسماعيل عليه السلام بذكر صدقه لأنه عليه السلام بلغ في الصدق مرتبة عالية حيث إنه عليه السلام وعد أباه أن يسلم له نفسه ليذبحه طاعة لله تبارك وتعالي ، ثم التزم كلمته وصدق في وعده ووفى بعهده لأبيه قال الله تعالي عن إبراهيم عليه السلام ?وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ? [الصافات:99](2/27)
?رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ? [الصافات:100]
?فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ? [الصافات:101]
?فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ? [الصافات:102]
?فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ? [الصافات:103]
?وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ? [الصافات:104]
(17/7)
---
?قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ? [الصافات:105]
فإسماعيل عليه السلام بلغ في صفة الصدق وخلق الصدق مبلغا فاق فيه غيره ، لذلك خصه الله تبارك وتعالي بالذكر ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ?[مريم: من الآية54] وهذا أحسن مثال يستدل به على صدق إسماعيل في وعده إلا أن بعض المفسرين ذكروا مثال أخر فقالوا دخل إسماعيل عليه السلام وصاحب له البرية لقضاء حاجة فعرضت لهما حاجة وهما في البرية ، فقال إسماعيل لصاحبه إما أن تأتي المدينة فتقضي حاجتنا وأنتظرك ، وإما أن تنتظرني وأدخل المدينة فأقضى الحاجة ، فقال الصاحب بل انتظرني وأنا أتيك بحاجتك ، فترك صاحب إسماعيل ، إسماعيل في البرية ودخل المدينة فلما دخل المدينة ورأى الناس والسوق انشغل بالسوق والناس نسي إسماعيل عليه السلام ، فظل إسماعيل في مكانه لم يفارقه ثلاثة أيام حتى تذكر صاحبه بعد ثلاثة أيام أنه كان قد وعد إسماعيل أن يرجع إليه ، فآتاه بعد ثلاثة فوجده في مكانه لم يبرحه ، فقال أنت هنا منذ فارقتك ؟ قال لقد قلت لك سأنتظرك ، وما كان لي حتى لو تأخرت أكثر من ذلك ما كان لي أن أخلف وعدي وأخرج من البرية حتى تأتيني بعد حين .(2/28)
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ?[مريم: من الآية54] وهكذا أثنى الله تبارك وتعالي على إسماعيل لصدق وعده ووفائه بعهده ، وكذلك مدح الله تبارك وتعالي المؤمنين على خلق الصدق والوفاء فقال تعالي ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيل ? [الأحزاب:23]
(17/8)
---(2/29)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ، غاب عمي أنس بن النضر عن غزوة بدر والنبي عليه الصلاة والسلام لم يعاتب أحدا على التخلف عن غزوة بدر لأنه لم يكن أصلا قد خرج للقتال كما تعلمون من السيرة ، يقول أنس بن مالك غاب عمى أنس بن النضر عن غزوة بدر فقال يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين ، لأن الله أشهدني قتال المشركين لايرين الله ما أصنع وهكذا أجمل وأطلق قال لأن الله أشهدني قتال المشركين في غزوة أخرى غير غزوة بدر ليرين الله ما أصنع ، لم يقل سافعل وأفعل وأفعل لأن الذين يقولون غالبا لا يفعلون ، لأن الذين يفعلون ويكثرون الكلام غالبا لا يفعلون ، لكن أنس بن النضر قال لإن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال أنس اللهم إلي أعتذر إليك عن ما صنع هؤلاء يعني المسلمين ، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ ، فقال يا سعد الجنة ورب النضر إني لأجد ريح الجنة من دون أحد ، قال سعد بن معاذ فوالله ما استطعت يا رسول الله يومئذ ما صنعت ، ما استطعت أن أصنع كما صنع أنس بن النضر فتقدم نحو المشركين فما زال يقاتلهن حتى قتلوه ، قال أنس ووجدنا به بضعا وثمانين ما بين رمية بسهم وطعنة برمح وضربة بسيف ، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فلم يعرفه أحد منا إلا أخته عرفته ببنانه فكنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ?مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ?[الأحزاب: من الآية23] فصدق الوعد والوفاء بالعهد من شيم النبيين وأتباعهم عباد الله المؤمنين ، وكما مدح الله تبارك وتعالي النبيين والمؤمنين على صدق الوعد والوفاء بالعهد فقد ذم سبحانه وتعالي الذين لا يصدقون إذا وعدوا ولا يوفون إذا عاهدوا ، وجعل ذلك من خصائص الكافرين الفاسقين والمنافقين فقال تعالي " ومنهم " أي ومن المنافقين فهذه الآية في سورة التوبة(2/30)
(17/9)
---
سورة براءة وبن عباس قد قال لا تقل التوبة ، ولكن قل الفاضحة سورة التوبة هي الفاضحة لأنها فضحت المنافقين ما زال ينزل فيها ومنهم ، ومنهم ، ومنهم حتى ظن كل واحد منهم لابد مفضوح ، ومنهم أي من المنافقين ?وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ? [التوبة:75]
?فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ? [التوبة:76]
?فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ ? [التوبة:77]
?أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ? [التوبة:78]
(17/10)
---(2/31)
فكان خلف الوعد والغدر وعدم الوفاء بالعهد من شيم المنافقين ، وبالمناسبة ننبه على بطلان قصة رويت في بعض كتب التفاسير في تفسير هذه الآيات من سورة التوبة " ومن من عاهد الله " هناك قصة لعلها لا تخطى عليكم وهي ما سموها بقصة حمامة المسجد ونسبوها إلي تعلبة بن أبي حاطب الأنصاري رضي الله عنه وقالوا إن تعلبة كان فقيرا فقال يا رسول الله ادعوا الله أن يوسع علي ولإن وسع الله علي لأنفقن هكذا وهكذا فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام يا تعلبة قليل يكفيك خير من كثير يضغيك ، قال يا رسول الله ادعوا الله لي ولله علي عهد لإن آتاني من فضله لأصدقن ولأكونن من الصالحين ، فدعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام فوسع الله عليه فكان له غنم ، فكان في أول عهده يسرح بالغنم وينزل الصلاة ، حتى إذا كثرت الغنم بعد في المرعى فلم يعد ينزل لصلاة الجماعة ، ثم كثرت فلم يعد ينزل لصلاة الجمعة ، ثم نزلت آية الصدقة فأرسل إليه عليه الصلاة والسلام هذه صدقتك فقال ما هذه الصدقة ما هذه إلا جزية فنزلت فيه هذه الآيات ، فلما نزلت الآيات ندم على ما كان منه وأتي النبي عليه الصلاة والسلام يعرض عليه زكاته فلم يقبلها منه ومات رسول الله عليه الصلاة والسلام فجاء بزكاته لأبي بكر فلم يقبلها ثم مات أبو بكر وجاء بصدقته إلي عمر فلم يقبلها ، هذه القصة باطلة سندا ومتنا ، هذه القصة أولا نسبت إلي تعلبة بن أبي حاطب الأنصاري ، وتعلبة بن أبي حاطب الأنصاري رجل من أفاضل الصحابة شهد بدرا واستشهد في أحد فكيف ينسب إليه هذا الفعل الذي لا يليق به رضي الله عنه ، ثم إن القصة جعلت هذا الرجل عاش بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام صدقته لكنه مات شهيدا في غزوة أحد رضي الله عنه ، ثم إن الله سبحانه وتعالي قال لنبيه عليه الصلاة والسلام ?قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ?[الأنفال:38] الكافر الأصلي الله يناديهم إلي الإسلام(2/32)
(17/11)
---
ويعدهم أن يغفر لهم ما قد سلف فكيف بالمسلم لو ارتد ثم تاب وعاد إلي دينه هو أولى بقبوله وأولى بتوبة الله تبارك وتعالي عليه .
ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الزكاة من أعطاها مأتجرا فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا يعني من أعطاها مأتجرا فله اجرها ومن منعها فإنا آخذوها وسنعاقبه بعد أخذها بأخذ نصف ماله عقوبة على منعه الزكاة ، فإذا كان هذا فكيف يترك النبي عليه الصلاة والسلام تعلبة بن حاطب ولا يأخذ منه الزكاة قهرا ، فهذه القصة التي وردت في تفسير آيات باطلة سندا ومنتا ، لكنها كما قلت في المنافقين ومنهم أي ومن المنافقين ، والشاهد أن خلف الوعد وعدم الوفاء بالعهد من شيم المنافقين ولذلك قال عليه الصلاة والسلام آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر .
(17/12)
---(2/33)
فإذا كان الصدق بالوعد والوفاء بالعهد من شيم النبيين وعباد الله المؤمنين فيجب علينا أن نهتدي بهديهم وأن نقتضى بهم وأن نحترم مواعيدنا وأن نحترم عهودنا فإذا أعطى أحدنا موعدا يجب أن يلتزم به مهما كلفه الالتزام وإذا أعطى أحدنا عهدا يجب أن يفي به مهما كلفه الوفاء ، لكن مما يؤسف له تهاون كثير من المسلمين بمواعيدهم وعهودهم ، يعطيك الرجل الموعد فتلتزم أنت به وتفرغ نفسك في هذا الوقت له وتعطل مصالحك ولا ترضى أن تأخذ أي موعد في نفس الوقت من رجل أخر لأنك أعطيت هذا الوقت لفلان ، وربما كان الموعد في بلد غير بلدك فتسافر وتتكلف من عناء السفر وكلفة السفر ومشقة السفر وفاء منك بوعدك لأخيك ثم هو لا يبالي بموعده الذي حدده وقطع على نفسه ، ولا يأتيك فيه ، ثم بعد حين تلقاه فتعاتبه فلا يقول إلا قدر الله وما شاء فعل ، اعفوا عفا الله عنك ، نعم قدر الله وما شاء فعل لكننا مسؤولون عن مواعيدنا التي أعطيناها لابد أن نحترم مواعيدنا ، ولابد أن نفي بعهودنا لأننا حين نلتزم مع بعض الناس بمواعيد كلفنا هؤلاء الناس كثيرا جدا ، كلفناهم من أوقاتهم ، وكلفناهم من أموالهم ، وكلفناهم من أموالهم ، ثم بكل سهولة لا نحترم مواعيدنا ولا نلتزم بها ، هذا خطأ يجب علينا أن نقتضي بإسماعيل عليه السلام ، وأن نهتدي بهدية في الصدق بالوعد والوفاء بالعهد الذي استحق أن يمدحه الله به ويذكره به في القرآن الكريم إلي يوم الدين ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّ ?[مريم: من الآية54] ?وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ? [مريم:55] تمام النجاة ، تمام نجاة العبد في أن يكمل نفسه وأن يسعى في تكميل غيره ، فلا يكفي أن تكون مهتديا حتى تكون هاديا ، ولا يكفي أن تكون صالحا حتى تكون مصلحا ، ولا يكفي أن تكون فاعلا للمعروف تاركا للمنكر حتى تكون آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر قال(2/34)
(17/13)
---
الله تعالي بسم الله الرحمن الرحيم ?وَالْعَصْرِ ? [العصر:1]
?إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ? [العصر:2]
?إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [ فكملوا أنفسهم ] وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ? [العصر:3] لتكميل غيرهم .
والله تبارك وتعالي يقول ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ?[المائدة: من الآية105]يعني إذا كنتم مهتدين في أنفسكم ودعوتم غيركم إلي الهدى فضلوا لا يضركم من ضر ما دمتم أنتم دعوتموهم إلي الهدى ، هذا هو معني الآية ، ومن الخطأ أن يظن أن معني الآية أنه يكفي أن تكون مهتديا في نفسك ولا يضرك ضلال غيرك وإن لم تدعه إلي الهدى .
(17/14)
---(2/35)
لا إذا كنت مهتديا في نفسك ورأيت الضالين ولم تدعهم إلي الهدى ضرك ضلالهم ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام [ مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ، فكان بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم قالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا لم نؤذي من فوقنا ، لو خرقنا في أسفل السفينة خرقنا فتناولنا منه الماء من البحر ولم نصعد إلي أعلى درجة العليا درج السطح ولا نؤذي جيراننا ، كل ساعة نصعد وننزل بالماء فنؤذي الجيران ، لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا فلم نؤذي من فوقنا فلو تركوهم وما أرادوا لهلكوا جميعا ، ولو أخذوا على أيديهم فنجوا ونجوا جميعا ، ولذلك قام أبو بكر رضي الله عنه على المنبر يوما وصحح للناس هذا المفهوم الخاطئ ، وقال أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ?[المائدة: من الآية105] ألا وإني سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول إن الناس إذا رأو ظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ويشهد لذلك قول ربنا سبحانه ?وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ?[لأنفال: من الآية25] فإذا أخذت على نفسك العهد أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو الناس إلي الخير فبمن تبدأ في الدعوة ، إذا علمت منزلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والدعوة إلي الخير ، وأخذت على نفسك العهد أن تأمر بالمعروف وتنهر عن المنكر وتدعوا إلي الخير فبمن تبدأ في الدعوة ?وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ?[مريم: من الآية55] فأهلك الزوجة والأولاد ثم الأقرب فالأقرب هم أولى الناس بدعوتك وعم أولى الناس بهدايتك ، وهم أولى الناس بأمرك لهم ونهيك إياهم ، وبهذا أمر الله تعالي نبينا محمدا عليه الصلاة والسلام(2/36)
(17/15)
---
?وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ? [الشعراء:214]
وقال : ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ? [الأحزاب:59]
?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ?[الأحزاب: من الآية59] لأن الزوجة أقرب الأهل إلي الزوج ، ثم وبناتك ثم ونساء المؤمنين ، فيبدأ الداعية بأهله أولا الزوجة والأولاد ثم الأخوة والأخوات والأقرب فالأقرب ثم يخرج إلي المجتمع كله كما كان يفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أراد أن يخرج للناس يأمرهم وينهاهم جمع أهل بيته فقال إني خارج على الناس آمرهم بكذا وأنهاهم عن كذا ، والله لتكونن أول من يأتمر وأول من ينتهي وإلا فالعصا فالواجب على الداعية أن ينتبه لهذا الأمر أحق الناس وأولاهم بدعوتك وجهدك في الدعوة أهلك أهل البيت ، الأسرة أولا لأن أسرتك هي مرآتك ، فكل ما تريده من المجتمع لأن يفعله فاجعل أسرتك مرآة للمجتمع يرى المجتمع فيها ما تريد أن يفعله المجتمع من الخير وما تريد أن يتركه من الشر .
لكن كثيرا من الدعاة وطلاب العلم قد قصروا في دعوة أهليهم ودعوة أسرهم بحجة الانشغال بواجب الدعوة ، فترى الرجل يشرق ويغرب ويعطي للناس كلهم من وقته ومن جهده ، ثم إذا طلبت منه الزوجة علمني يقول ما عندي وقت أعلمك وإذا طلب منه الولد علمني ، يقول ما عندي وقت أعلمك هذا خطأ .
ابدأ بنفسك أولا ، ابدأ بامرأتك وأهلك وأولادك علمه أولا وما بقي من وقت فأعطه للمجتمع ، أما أن تنشغل بدعوة الناس كلهم عن دعوة أهل بيتك فأين أنت من قول الله تعالي ?وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ?[طه: من الآية132]
(17/16)
---(2/37)
وأين أنت من قول الله تعالي ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ? [التحريم:6] كيف تقي نفسك من النار بإقامة دين الله عز وجل بفعل الواجبات ، وترك المحرمات ، وكيف تقي أهلك من النار ؟ تأمرهم وتنهاهم ، تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر ، تأمرهم بفعل ما أوجب الله عليهم ، وتنهاهم عما حرم الله تبارك وتعالي عليهم [ كلك راع وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالرجل في بيته راع وهو مسؤول عن رعيته ، فلنقدر هذه المسؤولية حق قدرها ، ولنعطى أولادنا ونسائنا من أوقاتنا ونفرغ لهم إن لم يكن كل يوم ففي الأسبوع مرتين أو ثلاثة ، نجعل لهم حلقة علم ، نجتمع على كتاب الله تارة وتفسيره تارة وحديث النبي تارة وشرح أحاديثه تارة والعقيدة تارة وهكذا حتى يكون البيت بيتا مسلما حقا كما أراد الله تبارك وتعالي .
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّ ? [مريم:54]
?وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ ?[مريم: من الآية55] حين يؤذن للصلاة لا تخرج وتترك المرأة والأولاد ولكن أيقظ المرأة عند الفجر من فراشها من نومها وبناتها قومي يا أم فلان ، صلي بارك الله فيك ، أيقظي البنات وصلي بهن في بيتك ، وأيقظ الصبيان واصطحبهم معك إلي المسجد وهكذا افعل في كل وقت ، إذا أذن للصلاة قومي يا أم فلان صلي أنت والبنات بارك الله فيك وهيا يا أولاد نصلي في المسجد جماعة ، فإذا رجعت من الصلاة السلام عليكم هل صليتي يا أم فلان ؟ نعم جزاك الله خير وبارك الله فيك ، تقبل الله منك ، لا والله ما صليت جزاك الله خير ، شغلت طب هيا الآن قومي إلي الصلاة .
(17/17)
---(2/38)
?وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ?[مريم: من الآية55] إذا كانت المرأة ذات مال ، إذا كان للمرأة ذمة مالية خاصة لها مال بلغ النصاب وجبت فيه الزكاة كل سنة فأنت أيها الزوج ، أنت أيها الراعي ، أنت أيها الرجل مسؤول عن امرأتك تحفظ لها حولها ، تحفظ لها وقت وجوب الزكاة عليها ، وقبل أن يحول الحول بأيام بأسبوع ، بأسبوعين يا أم فلان انتبهي حال الحول ، وجبت عليك الزكاة بادري بارك الله فيكي في إخراج زكاتك هذا حقها عليك .
?وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّ ? [مريم:55]
ولاشك أن من كان بهذه الصفات كان عند ربه مرضيا . ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّ ? [مريم:54]
?وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّ ? [مريم:55]
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّ ? [مريم:56]
?وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّ ? [مريم:57]
وإدريس عليه السلام من الأنبياء الذين لم يفصل الله تبارك وتعالي لنا قصتهم في القرآن كما فصل لنا مثلا قصة موسى وعيسى وإبراهيم وغيرهم من الأنبياء ، وإنما أجمل ذكره في هذه الآيات
?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّ ? [مريم:56]
?وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّ ? [مريم:57]
(17/18)
---(2/39)
هذا المكان الذي رفعه الله تعالي إليه هو السماء الرابعة ففي حديث المعراج أن النبي عليه الصلاة والسلام لما عرج به إلي السماوات العلا رأى في السماء الدنيا آدم عليه السلام ، ورأى في السماء الثانية يحيى وعيسى ابني الخالة ، ورأي في السماء الثالثة هارون ، ورأى في السماء الرابعة إدريس عليه السلام ، ولما حدث بذلك أنه رأى إدريس في السماء الرابعة قرأ قول ربه ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّ ? [مريم:56]
?وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّ ? [مريم:57]
بعد هذا التفصيل لقصص بعض الأنبياء والإجمال للقصص الآخر يقول الله تبارك وتعالي ?أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ? [مريم:58]
ويأتي بالإشارة اسم الإشارة الذي يدل على البعد أولئك ليفيد ارتفاع شأنهم وعلو مكانتهم عند ربهم عز وجل وصلي الله وسلم عليهم أجمعين ?أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ ِ ? [مريم:58]
من ذرية آدم نوح عليه السلام ، فنوح عليه السلام هو أول رسول بعثه الله تعالي إلي أهل الأرض كما جاء ذلك في الصحيح ، ? وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ?[مريم: من الآية58] إبراهيم وإدريس ?وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ ?[مريم: من الآية58] إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، ?وَإِسْرائيلَ ?[مريم: من الآية58] وهو يعقوب عليه السلام .
? وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ?[مريم: من الآية58] هؤلاء الأنبياء كانوا ? إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّ ?[مريم: من الآية58] كان أولئك الأنبياء ? إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا ? لله تعالي ? سُجَّداً وَبُكِيّ ?[مريم: من الآية58] يبكون من خشية الله عز وجل .
(17/19)
---(2/40)
لماذا يخشون الله عز وجل ؟ ومن أي شيء يخشونه ؟ وأي شيء يحذرون ويخافونه؟ ونحن نعلم أن الأنبياء معصومون من المعاصي والذنوب قبل النبوة وبعدها لأنه لو جاء رجل معروف بغير حسن سيرته وسلوكه قبل النبوة وجاء يدعي النبوة لكان ماضيه السيئ أقرب شيء للطعن فيه في صدقه وفي نبوته فالله سبحانه وتعالي عصم الأنبياء من الذنوب والمعاصي قبل النبوة وبعدها ومع ذلك يصفهم بأنهم ?إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّ ?[مريم: من الآية58] مع كونهم معصومين من الخطأ يخرون للأذقان سجدا ، ويبكون من خشية الله تبارك وتعالي .
بل اخبرنا الله سبحانه وتعالي أيضا أن الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، قال الله تبارك وتعالي عنهم ?يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ? [النحل:50]
حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام وصف شدة خوف جبريل من ربه فقال عليه الصلاة والسلام مررت ليلة أسري بي على جبريل كالحلف البالي من خشية الله ، والحلف الشيء القديم يوضع تحت الشيء الجديد ليحفظ الجديد من الأرض ، الحلف شيء قديم يفرش على الأرض مباشرة فيحفظ الشيء القديم الذي فوقه من البلى ، ومعني القديم إنه ضعيف جدا ، الحلف البالي القديم ضعيف ، فجبريل يراه النبي عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج كالحلف البالي من خشية الله فإذا كان هذا خوف الملائكة والنبيين من رب العالمين وهم لا يعصون الله ما أمرهم فكيف يكون خوفن نحن المسرفين على أنفسنا في المعاصي والذنوب .
كما روى عن بعض السلف أنه خلا بنفسه ذات يوم ثم تذكر مقام ربه ثم قال السنة ثلاث مائة وستون يوما ، في كل يوم أربع وعشرون ساعة ، في كل ساعة ذنب فكم ذنب في السنة ، وكم ذنب ارتكبته في ستين سنة عشتها ثم خر مغشيا عليه فمات رحمه الله .
(17/20)
---(2/41)
فالواجب علينا أن ننمي في قلوبنا الخوف من الله عز وجل لأن الله سبحانه وتعالي خوفنا قال عن أهل النار ?لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ? [الزمر:16]
فالخوف سوط يسوق به الله به عباده إلي طاعته ، فيجب عليك أن تقوي في قلبك وتنمي في قلبك خشية الله والخوف من الله حتى يحول الخوف من الله بينك وبين معصية الله عز وجل .
(17/21)
---(2/42)
?إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّ ?[مريم: من الآية58] هذا موضع من مواضع سجود التلاوة في القرآن الكريم ، وسجود التلاوة ليس واجبا لا في صلاة ولا في خارج الصلاة ، إذا مررت بآية سجدة في القرآن الكريم فأنت بالخيار إن شئت أن تسجد ، وإن شئت لن تسجد ، والدليل على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأت عليه آية سجدة وهي في آخر النجم فسجد وقرأت عليه مرة ثانية فلم يسجد وخطب عليه الصلاة والسلام ذات يوم في الجمعة فمر بآية سجدة فنزل فسجد ، وفي الجمعة التي بعدها قرأ نفس الآية فلم ينزل ولم يسجد ، وقد قال عمر إن الله لم يكتب علينا السجود التلاوة إلا أن نشاء ، فسجود التلاوة تطوع مستحب وليس واجبا فإذا مررت بآية سجدة وأنت بالصلاة أو خارج الصلاة فإما أن تسجد وإما ألا تسجد ، وإذا سجدت فالدعاء المستحب في سجود التلاوة تقول [سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين ، اللهم اكتب لي بها أجرا وحط عني بها وزرا واجعلها لي عندك زخرا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود] فإن حفظت هذا الدعاء فإتيانك به خير لك وإن لم تحفظه فسبح بحمد ربك قول سبحان ربي الأعلى ثلاثا وهذا أدناه ثم ارفع رأسك ، فإما إذا أردت ألا تسجد فليس هناك بديل عن السجدة ، بعض الناس يقولون إذا لم تسجد فقل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغنيك عن السجدة لا هذا الذكر لا يدل على مشروعيته دليل فإما أن تسجد وإما أن تمضي مرور الكرام ولا تسجد ولا شيء عليك .
كان هذا حال السلف من النبيين وعباد الله الصالحين كانوا ?إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّ ?[مريم: من الآية58]
(17/22)
---(2/43)
فكيف صار حال الخلف قال الله تعالي ?فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ ? [مريم:59] والصلاة هي عمود الدين كما قال النبي عليه الصلاة والسلام رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وزروة سنامه الجهاد وهي أول ما فرض من العبادات ، فرضها الله تبارك وتعالي بنفسه على نبيه ليلة المعراج مخاطبة منه لرسوله بلا واسطة وهي أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة ، أمر الله تبارك وتعالي بالمحافظة عليها صراحة في كتابه فقال ?حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ? [البقرة:238]
ومدح سبحانه وتعالي الذين هم على صلواتهم يحافظون ووعدهم أعلى درجات الجنة الفردوس فقال تعالي ?وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ? [المؤمنون:9]
?أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ? [المؤمنون:10]
?الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? [المؤمنون:11]
وكما أمر الله سبحانه وتعالي بالمحافظة على الصلاة ، ومدح المحافظين عليها فقد نهى وحذر من إضاعة الصلاة وذم مضيعيها فقال هنا ?فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّ ? [مريم:59]
وللمفسرين في تفسير الغي أقوال ، قالوا الغي هو الشر وقالوا الغي : هو الخسران ، وقيل الغي : واد في جهنم تستغيث جهنم بالله من شدة حره فكيف بساكنه والعياذ بالله .
والمراد بإضاعة الصلاة هنا ليس تركها بالكلية ولكن التهاون بها وإخراجها عن وقتها أحيانا بمعني أن يصلي الفجر بعج طلوع الشمس ، وأن يصلي الظهر بعد العصر ، أن يصلي العصر بعد المغرب ، وأن يجمع الصلوات كلها في يوم من الأيام حسب أعماله وأشغاله ، يدلك على ذلك قوله تعالي ?فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ? [الماعون:4]
?الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ? [الماعون:5]
(17/23)
---(2/44)
فهم يصلون لا يتركون الصلاة أبدا ، ولكن يسهون عن الصلاة أحيانا ?الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ? [الماعون:5]
فلو كانوا تاركيها بالكلية ما سماهم مصلين إنما قال ?فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ? [الماعون:4]
?الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ? [الماعون:5]
هم يصلون ولكن يسهون عن الصلاة أحيانا ، والويل أيضا قيل في واد في جهنم تستغيث جهنم بالله من شدة حره فكيف بساكنه .
أما الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ، والذين لا يسجدون أبدا وهم قادرون على السجود فأولئك مأواهم سقر ?وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ? [المدثر:27]
?لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ? [المدثر:28]
?لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ? [المدثر:29]
?عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ? [المدثر:30]
قال تعالي : ?كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ? [المدثر:38]
?إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ? [المدثر:39]
?فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ? [المدثر:40]
?عَنِ الْمُجْرِمِينَ ? [المدثر:41]
أهل الجنة لما أخذوا منازلهم في الجنة واتكأوا على أسرتهم أقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن أهل النار المجرمين لماذا دخلوا النار ؟ قالوا اسألوهم ، فاطلعوا فسألوهم ?مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ? [المدثر:42]
?قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ? [المدثر:43]
فالله الله عباد الله ?حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ? [البقرة:238]
واسجدوا لله تبارك وتعالي وأنتم قادرون مستطيعون قبل أن تؤمروا بالسجود فتريدون السجود فيحال بينكم وبين ما تريدون ?يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ ? [القلم:42]
?خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ? [القلم:43]
(17/24)
---(2/45)
?فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ ?[مريم: من الآية59]ما الذي جعلهم يضيعون الصلوات ؟ اتباع الشهوات ?أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ?[مريم: من الآية59] والشهوات فسرها الله تبارك وتعالي في آل عمران في قوله ?زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ? [آل عمران:14] لوكان لابن آدم وادى من ذهب لتمنى أن يكون له ثاني ولو كان له اثنان لتمني أن يكون له الثالث ، فالناس حرصوا على شهوات الدنيا ، حرصوا على جمع المال ، ولم يبالوا من حلال أم من حرام وانشغلوا بطلب الرزق وجمع المال عن الصلاة ، تسأل أحدهم يا فلان لماذا لا نراك في المسجد يقول والله أخرج مبكرا وأعود متأخرا ، هذا لا يبيح لك أن تترك الصلاة ، كيف تنشغل بشيء ضمنه الله تبارك وتعالي لك وتكفل به لك عن فريضة هي أعظم فريضة فرضها الله تبارك وتعالي عليك .
?فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّ ? [مريم:59]
ولما كان الله تبارك وتعالي بالناس رؤفا رحيما هو سبحانه وتعالي يفتح باب التوبة أمام الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، يفتح لهم باب التوبة لعلهم يتوبون ويحافظون على الصلاة ويستغفرون الله تعالي لما سلف فيغفر الله لهم .
يقول ?إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ?[مريم: من الآية60]
الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وماتوا على ذلك فسوف يلقون غية ، أما ? مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئ ?[مريم: من الآية60]
(17/25)
---(2/46)
يصف الله تبارك وتعالي هذه الجنة التي وعد بها التائبين بأنها جنات عدن أي جنات إقامة وجنات خلد ? لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَل ?[الكهف: من الآية108] ?وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ?[الحجر: من الآية48] كما سبق أن ذكرنا مرارا أنه بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا اهل النار خلود بلا موت .
جنات عدن : أي جنات إقامة ?لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَل ?[الكهف: من الآية108] ?وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ?[الحجر: من الآية48] ?جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ?[مريم: من الآية61] الله سبحانه وتعالي أرسل إلينا رسلا دعونا إلي الأيمان بالله ووعدوا عن الله عز وجل إذا آمنا بهم واتبعناهم أن يدخلنا الله تبارك وتعالي جنات عالية فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
?جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّ ? [مريم:61]
? إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ?[آل عمران: من الآية9]ولذلك حكى الله تبارك وتعالي عن أهل الجنة أنهم لما دخلوها حمدوه سبحانه على صدق وعده فقال عز وجل ?وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ?[الزمر:73]
?وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ? [الزمر:74]
(17/26)
---(2/47)
فالله تبارك وتعالي أرسل رسله بالهدى ودين الحق يدعون الناس إلي توحيده وإفراده بالعبادة ووعد من استجاب أن يدخله جنات عالية فيها من النعيم ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، والله يقول عن هذا الوعد ?إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّ ?[مريم: من الآية61]ثم يصف شيئا من نعيم الجنة فيقول ?لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْو ?[مريم: من الآية62] لقد كان المؤمنون في الدنيا يكرهون اللغو وينزهون أنفسهم عنه ?وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ? [القصص:55]
?وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَام ?[الفرقان: من الآية72]
المسلم طيب لا يقول إلا طيب ولا يحب أن يسمع إلا الطيب ، فإذا سمع الخبيث من الكلام أعرض عنه وبنفسه عنه فلما عرف الله منهم كراهيتهم للغو والرفث والخنا والزور أكرمهم في الجنة فنزه أسماعهم عن كل ما كانوا يكرهون سماعه في الدنيا فقال ?لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلام ?[مريم: من الآية62] كل ما يسمعون في الجنة سلاما سلامة ?تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ?[الأحزاب: من الآية44] ?تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ?[ابراهيم: من الآية23] والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ?سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ? [الرعد:24]
?لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّ ? [مريم:62]
(17/27)
---(2/48)
يعني يأتيهم الرزق في الجنة في كل يوم مرتين أول النهار ، وأخر النهار ?بُكْرَةً وَعَشِيّ ?[مريم: من الآية62] فطور وعشا ، وليس عند ربنا شمس ولا قمر ، وليس عند ربنا ليل ولا نهار فكيف ستعرف الأوقات ؟ هذا شيء يكون بالتقدير والتخمين ، خدام أهل الجنة يقدرون الوقت وكلما حان وقت الفطور أتوهم به ، وكلما حان وقت العشاء أتوهم به .
?كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?[البقرة: من الآية25]
?لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّ ? [مريم:62]
?تِلْكَ الْجَنَّةُ ?[مريم: من الآية63] التي وصف الله تعالي بعض نعيمها ?تِلْكَ الْجَنَّةُ ?[مريم: من الآية63] من يستحقها ، ومن يرثها ?تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّ ? [مريم:63]
فالجنة لا يدخلها إلا تقي ، قد صرح ربنا سبحانه وتعالي في ذلك أو بذلك في أكثر من آية ?وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ? [آل عمران:133]
?تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّ ? [مريم:63]
(17/28)
---(2/49)
فلا يدخل الجنة إلا تقي ، وجماع التقوى فعل الواجبات وترك المحرمات ، وقد تزداد التقوى في القلب حتى يفعل التقي المستحبات مع الواجبات ويترك المكروهات مع المحرمات ، والله تبارك وتعالي جمع خصال التقوى كلها في آية جامعة من سورة البقرة فقال عز وجل في تعريف المتقين من هم ?لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ? [البقرة:177]
فالمتقون أهل الجنة الذين وعدهم الله تعالي بالجنة هم أصحاب العقيدة الصالحة السليمة من شوائب الشرك ، وأصحاب العمل الصالح السليم من شوائب البدعة .
قال تعالي :?وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ?[البقرة: من الآية177] وهذه هي العقيدة ، ثم ذكر صالح العمل ، ثم شهد لمن جمع صالح العقيدة وصالح العمل بالصدق والتقوى فقال ? أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ?[البقرة: من الآية177] .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، هذا والحمد لله رب العالمين ، وصلي الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
سؤال :
كما تعلمون فضيلة الشيخ أن المنكرات أصبحت في كل مكان في البيت وفي الشارع وفي العمل ، فهل إذا اكتفى الإنسان بإنكار المنكر بقلبه مع القدرة على الإنكار باللسان يجزئه ذلك ؟(2/50)
(17/29)
---
أجاب فضيلة الشيخ :
الحمد لله وسع الله تبارك وتعالي علينا في مراتب تغير المنكر فقال النبي عليه الصلاة والسلام من رأى منكم منكرا فاليغيره بيده وقد نبهنا قبل ذلك أن التغيير باليد يكون لكل ذي ولاية في ولايته ، ولكل ذي سلطان في سلطانه ، الرجل في بيته ، المعلم في مدرسته ، المدير في إدارته ، وهكذا كل ذي سلطان يكون التغير باليد، فمن لم يستطع فابلسانه ، فمن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ، نقول وأنت تسير في الشارع مع كثرة المنكرات لو أنك تتبعت المنكرات بالتغيير باللسان واستوقفت كل من يفعل منكرا في الشارع لتنكر عليه باللسان أنت لم تغدوا ولن تروح ولن تقضي مصالحك ، فحسبك أن تنكر بقلبك وأن تشهد الله من قلبك أنك منكر لهذا المنكر ولا ترضى ، لكن لو أنك في عملك مثلا وبين زملائك وقال أحدهم كلمة اخطأ فيها ، كلمة تخالف العقيدة أو فعل فعلا محرما فلا مانع أن تقول له بالحكمة والموعظة الحسنة يا فلان الله يجزيك الخير الله يصلح لنا حالك قلت كذا وقد سمعت العلماء جزاهم الله خير أن هذا لا يجوز ، فعلت هكذا وقد سمعت العلماء يقولون أن هذا لا يجوز جزاك الله خير ربنا يهدينا وإياك ، لا مانع من ذلك ، اللهم إلا أن يغلب عليه أن الطرف المقابل لن يقبل النصيحة يعني يغلب عليه من الخبرة والمعرفة أنه لن يقبل النصيحة فهناك متسع له في قوله تعالي ?فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ? [الأعلى:9]
فما دام لا يرجوا منفعة فلينكر بقلبه والله حسيبه .
سؤال :
هل يشترط لسجود التلاوة الطهارة واستقبال القبلة ، وإذا لم يسجد القارئ هل يسجد المستمع أم لابد من سجود القارئ ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
سجود التلاوة ليس صلاة لأن جزء الصلاة لا يسمى صلاة ، هذه سجدة هي جزء من الصلاة لكن لا تسمى صلاة .
(17/30)
---(2/51)
الصلاة اصطلاحا عند الفقهاء : لا يطلق لفظ الصلاة على أقل من ركعة ، ركعة الوتر ، هذا أقل ما يطلق عليه لفظ الصلاة من أول الله أكبر والقراءة والركوع والرفع منه والسجدتين وما يقال بينهما والتشهد هذا ركعة فهذا ما يسمى صلاة ، جزء الصلاة لا يسمى صلاة ، جزء الصلاة خارج الصلاة لا يسمي صلاة فسجدة التلاوة ليست صلاة فلذلك لا يشترط لها ما يشترط للصلاة من الطهارة واستقبال القبلة ونحو ذلك ، إنما تجزأ بطهارة وبغير طهارة وإلي القبلة وإلي غير القبلة .
أما إذا كان في مجلس يقرأ فيه القرآن يقرأ القارئ والآخرون يستمعون فالقارئ هو الإمام ، القارئ هو إمام الجالسين فإذا سجد القارئ سجد الجالسون ، وإذا لم يسجد القارئ لم يسجد الجالسون .
سؤال :
أن الشيخ ذكر أن الرسل معصومون قبل البعثة وبعد البعثة وهنا أيضا يرد بعض الآيات التي قد يفهم منها خلاف هذا وهي قول الله عز وجل لنبيه ?وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ?[محمد: من الآية19] فأثبت له شيء من هذا ، وأيضا قصة موسى عليه السلام حينما قتل القبطي هذا القضية ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
أما قتل موسى للقبطي فمعلوم أنه كان قتله خطأ ?فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ?[القصص: من الآية15] ومع ذلك عدها موسى عليه السلام ذنبا واستغفر منه قال ربي إني ظلمت نفسى فاغفر لي فغفر له إنه غفور رحيم .
(17/31)
---(2/52)
وأما قول الله تعالي ? وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ?[محمد: من الآية19] فلا يستلزم أن يكون الذنب معصية من المعاصي ، وإنما على حد ما يقال وحسنات الأبرار سيئات المقربين فعلى قدر منزلة العبد عند ربه عز وجل يرى أن ما يباح لغيره لا يباح له ، ويرى أن فعل غيره وإن كان مباحا ليس مباحا في حقه فهذا معني ?وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ?[محمد: من الآية19] وإلا فمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرتكب من الذنوب التي نعرفها نحن من الذنوب ونعدها من الذنوب شيئا أبدا ، لكن قبل النبوة ولا بعدها ، والله اعلم .
سؤال :
للمبتدئ أفضل تفسير الجلالين أو تفسير بن كثير ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لا ننصح بتفسير الجلالين وإنما ننصح بتفسير أيسر التفاسير للشيخ حفظه الله ، أو تفسير السعدي رحمة الله عليه ، أو كلمات القرآن للشيخ محمد لمن أراد أن يعرف المفردات فقط ، أما تفسير الجلالين ففيه أخطاء عقائدية نخشى من المبتدئ إذا نظر فيها لا يعرفها ويعتقدها والشيء إذا تمكن من القلب صعب إخراجه .
سؤال :
لو سمحت يا شيخ على حديث من غشنا فليس من ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(17/32)
---(2/53)
تعرف حديث النبي عليه الصلاة والسلام من غشنا فليس منا ، وهي غشت في مادة في الامتحان ماذا تفعل تتوب إلي الله تعالي وتستغفره ولا تعد إلي هذا الذنب أبدا ، وبهذه المناسبة ونحن على أبواب الامتحانات وربما بدأت الامتحانات في بعض المدارس والجامعات ننصح أبنائنا الطلاب والطالبات أن يهتموا بدراستهم ومذاكراتهم ، وأن يعتمدوا على الله عز وجل ثم على جهودهم الشخصية ، وأن ينأوا بأنفسهم عن الغش في الامتحان ، فالغش في الامتحان هذا خيانة وكذب وتدليس وتزوير ، ثم بعد ذلك يحصل على شهادة مزورة وهو ليس لها أهلا ويعمل بعمل بشهادة مزورة وهو ليس لها أهلا ، وترتب عليه كما أفتى بعض المشايخ حفظهم الله أنه يكون المرتب الذي يتقاضاه من العمل حراما فننصح الطلاب والطالبات وهم في البداية أن ينأوا بأنفسهم عن مسألة الغش في الامتحان حتى لو طلب من الطالب المجتهد أن يغشش الآخرين يجب عليه أن يمتنع يقول لا أغش أحدا [ من غشنا فليس منا ] .
سؤال :
هذا السؤال متعلق في الآية الكريمة مريم رضي الله عنها لما قالت ? أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّ ?[مريم: من الآية18] ألا يمكن يعني حمل جملة ? إِنْ كُنْتَ تَقِيّ ?[مريم: من الآية18] على معني النفي بمعني ما كنت تقيا ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
(17/33)
---(2/54)
نقول لم اقرأ هذا الاحتمال لأحد من المفسرين ، لكن الكلام على أحسن وجوهه هو ما ذكرت أنها لجئت إلي الله عز وجل واستعاذت به أولا لأنه ل ملجأ لها ولا منجأ في هذه الحالة ولا في غيرها إلا الله سبحانه وتعالي ?قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ ?[مريم: من الآية18] ثم لما التجأت إلي الله واعتصمت به أرادت أن تذكره هو بما يحول بينه وبين الحرام فقالت ? إِنْ كُنْتَ تَقِيّ ?[مريم: من الآية18] يعني إن كنت من المتقين فارجع عما جئت له ولا تمسني بسوء فإن هذا لا يحل لك ، والتقي إذا ذكر بالله تذكر كما قال تعالي ?إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ? [اأعراف:201]
سؤال :
نحن في مسجد ونقرأ سويا من كتاب تفسير صفوة التفاسير هل الكتاب لأن فيه بعض الأخطاء العقدية فياريت يا شيخ توضح لنا بعضها على أساس أننا نتخذ موقف أو نوضح للناس إن شاء الله تعالي ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
بالنسبة لكتاب صفوة التفاسير فمشايخنا وعلمائنا حفظهم الله ردوا على الشيخ حفظه الله في مسائل عقدية كثيرة واردها في الكتاب تختص بالعقيدة والتأويل منها مثلا في قوله تعالي في سورة الفجر ?وَجَاءَ رَبُّكَ ?[الفجر: من الآية22] بأن يقال مثلا وجاء أمر ربك ، ويد الله توصف اليد على أنها القدرة وهذا تعطيل لصفات الله عز وجل ، إنما أهل السنة ?وَجَاءَ رَبُّكَ ?[الفجر: من الآية22] يجيء ربنا سبحانه وتعالي كيفما شاء ويأتي كيف يشاء ، كما ينزل في السماء الدنيا في ثلث الأخير من الليل كيف يشاء سبحانه وتعالي ، ويد الله ، يد الله نقول لله تعالي يد لا كأيدينا كما قال السلف الصالح رضوان الله عليهم فهذه الأمثلة من المسائل التي أخذها العلماء حفظهم الله على هذا الكتاب .
سؤال :
ذكرت قصة سيدنا موسى قلت إن الرسول عليه الصلاة والسلام سئل جبريل أي حضرتك ممكن تعيدوها علينا بعد إذنكم ؟
(17/34)
---(2/55)
أجاب فضيلة الشيخ :
قلنا أن الرجل الصالح في مدين وأقول الرجل الصالح ولا أقول شعيب لأن بعض الناس يعتقد أن الذي زوج موسى ابنته هو شعيب النبي ، ليس شعيب النبي ، الرجل الصالح في مدين لما عرض على موسى أن يزوجه ?قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ? [ أي تعمل عندي أجيرا ? ثَمَانِيَ حِجَجٍ ? [ ثمان سنين ده مهرك ] فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً [ إن جعلت الثمانية عشرة ، زودت اثنين من عندك? فَمِنْ عِنْدِكَ ?[ فهذا فضل منك ] [القصص: من الآية27] ربن قال ?فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ ?[القصص: من الآية29] أي الأجلين ؟ ما يرشد عن الثمانية ولا العشرة ففسر النبي عليه الصلاة والسلام بالآية المبهمة هنا المجملة قال سئلت جبريل أي الأجلين قضى موسى يعني الثمانية ولا العشرة ؟ قال قضى أبرهما وأوفاهما يعني قضى عشر سنين ، زاد لصهره سنتين زيادة عما طلب منه وهذا من مكارم الأخلاق .
سؤال :
ما المقصود بالدليل في المرة الماضية عندما أجبنا عن سؤال من الذي نادى مريم من تحتها أجبنا من غير دليل هل تقصد الدليل آية من القرآن وإذا كان الأمر كذلك ما هي الآية ، وهل عندما يطلب منا في الاختبار دليل تكون الأدلة كلها من القرآن الكريم وضحه جزاك الله خير أ ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
قلنا لما شرحنا الآيات وفسرناها أن أرجح أقوال العلماء في أن الذي نادى مريم هو عيسى عليه السلام لماذا رجحنا هذا القول وقلنا أن الذي ناداها عيسى وليس جبريل ، قلنا لأن جبريل لم يرد له ذكر في هذا الخروج الثاني ، ورد ذكر جبريل في الخروج الأول ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّ ? [مريم:16]
?فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّ ? [مريم:17]
(17/35)
---(2/56)
ولم يرد ذكره في الخروج الثاني ?فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّ ? [مريم:22]
ليس لجبريل ذكر في الخروج الثاني .
ثانيا كل الضمائر الموجودة في هذا السياق تعود على عيسى عليه السلام ?لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّ ?[مريم: من الآية19]
?وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّ ?[مريم: من الآية21]
?فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ ?[مريم: من الآية22]
?فَنَادَاهَا ?[مريم: من الآية24]
فكل هذه الضمائر تعود على عيسى عليه السلام ، فهذه هي الأدلة التي رجحنا بها أن المنادي هو عيسى بن مريم عليه السلام .
فليس بلازم أن يكون الدليل آية أو حديث .
سؤال :
هل يكفي المذاكرة للاختبار من كتاب اختصار تفسير بن كثير، أم يلزمنا المذاكرة مما كتبناه معك بارك الله فيك ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
لاشك أننا قلنا أنه من اختصر عن بن كثير فيحصل على درجة النجاح إن شاء الله تعالي ، لكن الذي يأتي بما قلناه ويأتي بما ذكرناه في الدروس لاشك أن هذا درجته ستكون أعلى من درجة من لم يأتي بها ، ولذلك .. طلاب والطالبات أن يعنوا بالدروس المفرغة على الموقع .
سؤال :
هل المقصود بالخرور بالسجود على الركبتين ؟
أجاب فضيلة الشيخ :
? خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّ ?[مريم: من الآية58] يعني نزلوا سجدوا لله تعالي .
وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
(17/36)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
من أول قوله " ومانتنزل إلا بأمر ربك "(2/57)
إنَّ الحمدَ لله، نحمدهُ، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ عليه ، وعلى آلهِ وصحبِه، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.
ثم مرحبا بكم في هذا اللقاء الجديد من دروس تفسير سورة مريم وقبل أن نبدأ في حديثنا نطرح عليكم الأسئلة الثلاث في الحلقة السابقة.
السؤال الأول قال الله تعالى ? وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً ? [مريم: 51].
بين القراءات الثابتة في قوله تعالى ? مُخْلَصاً ?. ووجه المعاني على كل قراءة.
السؤال الثاني ماذا تعلمت من قول الله تعالى في حق إسماعيل عليه السلام ? إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياًّ (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ? [مريم: 54، 55].
السؤال الثالث ما حكم سجود التلاوة.
أما الآيات المباركات التي معنا اليوم من سورة مريم فقد تضمنت من المعاني ما يلي:
أولاً: سبب نزول قوله تعالى ? وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ? [مريم: 64].
ثانيًا: استحباب مجالسة الصالحين ومحبتهم وزيارتهم وطلب الزيارة منهم.
ثالثًا: الحث على الصبر على العبادة.
رابعًا: دلائل إمكان البعث.
خامسًا: ورود النار معناه دخولها.
سادسًا: سعة الرزق لا تستلزم الهداية.
(18/1)
---
سابعًا: وجود الاعتدال بوحدة مصير المكذبين.(2/58)
وأخيرا الهداية تزيد وتنقص. وهذا بإيجاز عرض سريع بأهم ما تضمنته الآيات المباركات من سورة مريم من المعاني والتي نعيش في رحابها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالى فلنستمع إلى هذه الآيات المباركات أولا قبل الخوض في تفاصيلها سائلين الله عز وجل أن ينجز لنا ما وعده حيث قال ? وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? [الأعراف: 204].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(18/2)
---(2/59)
(? وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ (64) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ (65) وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَياًّ (66) أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِياًّ (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِياًّ (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِياًّ (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِياًّ (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَداًّ (76 ? [مريم: 64- 76].)
? كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ? [ص: 29].
(18/3)
---(2/60)
يقول الله تبارك وتعالى ? وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ?. جاء في الصحيح في سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبريل عليه السلام (يا جبريل ما منعكم أن تزورنا أكثر مما تزورن) جبريل هو معلم النبي صلى الله عليه وسلم الوحي كما قال تعالى ? عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ? [النجم: 5، 6]. والنبي صلى الله عليه وسلم أحب جبريل وتعلق به وكان إذا تأخر عنه اشتاق إليه فهو عليه الصلاة والسلام يقول لجبريل أنت تتأخر علي وأنا أشتاق إليك لماذا لا تكثر من زيارتك لنا لماذا تنزل علي كثير يا جبريل ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزل جبريل عليه بهذه الآية ? وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ?. يعني أن نزول جبريل عليه السلام من السماء على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي ليس له في أية إرادة ولا أية مشيئة وإنما جبريل عبد الله ينفذ أوامر الله تبارك وتعالى متى يأذن الله له في النزول ينزل ومتى يمنعه يمتنع وقد دلت هذه الآية على استحباب مجالسة الصالحين ومحبتهم وزيارتهم وطلب الزيارة منهم قد دلت هذه الآية على استحباب مجالسة الصالحين ومحبتهم وزيارتهم وطلب الزيارة منهم أن تدين لله تبارك وتعالى بحب الصالحين وأن تكثر من مجالستهم ومخالطتهم وأن تزورهم في بيوتهم وأن تدعوهم لزيارتك في بيتك وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله حيث قال (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريح طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا كريهة) وكان صلى الله عليه وسلم يحث على التزاور في الله والمخالطة لله عز وجل والبذل والعطاء لله وفي الله فكان صلى الله عليه وسلم يقول (من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزل) وقال صلى الله عليه(2/61)
(18/4)
---
وسلم قال الله تعالى (وجبت محبتي للمتحابين في والمتباذلين في والمتجالسين في والمتزاورين في) وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن رجل خرج من قريته إلى قرية أخرى لزيارة أخ له في الله فأرصد الله تعالى له تعالى له على مدرجته ملكا خرج رجل من قريته يزور أخا له في قرية أخرى فأرسل الله إليه ملك وقف له بالطريق فلما أتى عليه قال أين تريد قال أريد هذه القرية قال لما قال أزور أخا لي فيها لله قال هل بينك وبينه نسب أو بينك وبينه معاملة أو بينك وبينه علاقات تجارية أو دنيوية لماذا خرجت من قريتك لزيارة هذا الرجل في القرية الأخرى تسافر ما الدافع لهذه الزيارة وما الحامل لك عليها قال لا شيء غير أني أحببته في الله فقال الملك فإني رسول الله إليك أخبرك أن الله قد أحبك بحبك لأخيك أو غفر الله لك بزيارتك لأخيك فيجب علينا أن نقدر هذه الأعمال الصالحة حق قدرها مجالسة الصالحين محبة الصالحين مخالطة الصالحين زيارة الصالحين طلب الزيارة من الصالحين زيارة الإخوان في الله فإن هذا التزاور أصبح شبه مفقود هذا الزمان التزاور في الله انشغل الناس بأعمالهم وبدنياهم فلم يعودوا يتزاورون إلا للمصالح إذا كان له عندك حاجة أتاك وأنت إذا كنت لك عنده حاجة ذهبت إليه إذا انقضت الحاجات لا تزورهم ولا يزورك أما أن يخرج إنسان من بيته لزيارة أخ له في الله لا لشيء إلا ابتغاء وجه الله فهذه الزيارة صارت شبه معدومة فينبغي لنا أن نحي هذا التزاور أن نحي هذا العمل الصالح وأن ننشره فيما بينا أن نتجالس لله وأن نتعاطى لله وأن نتزاور في الله وأن نتحب في الله فإن الله تعالى يقول (وجبت محبتي للمتحابين في للمتجالسين في للمتزاورين في للمتبادلين في) نسأل الله تعلى أن يعيننا على ذلك وعلى صالح الأعمال كلها ? وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ?. للمفسرين في(2/62)
هذه الآية
(18/5)
---
قولان ? لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ? القول الأول الله سبحانه وتعالى يعلم ما بين أيدينا من المستقبل ويعلم ما وراءنا من الماضي ويعلم ما بين ذلك من الحاضر الله سبحانه وتعالى أحاط علما بنا من كل ناحية ? لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ? من المستقبل ? وَمَا خَلْفَنَا ? من الماضي ? وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ? من الحاضر كما قال تعالى ? يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ? [طه: 110]. والقول الثاني ? لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ? القول الثاني في تفسير هذه الآية أن لله تبارك وتعالى ملك السماوات والأرض وما بينهما لأن الله تبارك وتعالى قال في آية أخرى ? أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ? [سبأ: 9]. فقوله تعالى ? لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ? أي لله ملك السماوات والأرض وما بينهما كما قال تعالى ? الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) ? [طه: 5، 6]. وكما قال تعالى ?لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ? [الشورى: 48]. فإذا كان هذا ملكه فأين ملك غيره إذا كان الله سبحانه وتعالى ? لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ? فأين ملك غيره فالحقيقة أن الملك كله لله الواحد القهار وما نتملك نحن من ممتلكات إنما نتملكه على وجه العارية لأنه في الأصل ملك لله تبارك وتعالى والله سبحاته وتعالى تفضل علينا وملكناه ثم يوم القيامة يرد كل إلى الله عز وجل كما قال تعالى ? إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ? [مريم: 40]. وقال(2/63)
تعالى ? وَلَقَدْ
(18/6)
---
جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ? [الأنعام: 94].
? وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ? واعلم يا رسول الله أنني إذا تأخرت عنك في النزول فليس هذا عن نسيان من الله لك ? وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ ? فإذا تأخرت عنك ولم آتك فليس هذا عن نسان من الله عز وجل ? وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) ? [الضحى: 1- 3]. ولكن الله تعالى يفعل ما يشاء لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره ? وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ ? فنفى الله تبارك وتعالى عن نفسه النسيان في حين أنه قال في آية أخرى ? نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ? [التوبة: 67] وقال تعالى ? وَلَوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ? [السجدة:12- 14] فنسب الله تبارك وتعالى النسيان إليهما ونفاه في الآية التي معنا ? وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ ? ولإزالة هذا التعارض الظاهر بين الآيات نقول: النسيان المنفي عن الله تبارك وتعالى هو الذي ضد الذكر فالله تعالى لا ينسى شيئا ولا يغفل عن شيء وإنما ربنا سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء علما وأما قوله تعالى ? إِنَّا نَسِينَاكُمْ ? النسيان هنا معناه الترك والترك مستلزم النسيان لأنك إذا نسيت شيئا تركته وأنت تجهز نفسك للسفر وتعد أوراقك تجمع منها ما تشاء ثم تنسى(2/64)
شيئا تفاجئ وأنت في الطريق
(18/7)
---
وأنت تتفقد أوراق أن الورقة الفلانية قد نسيتها كيف نسيتها تركتها لما نسيتها تركتها فالله سبحانه تعالى يقول لأهل النار ? إِنَّا نَسِينَاكُمْ ? النسيان هنا ليس الذي ضد الذكر وإنما المراد به الطرد من رحمه الله عز وجل فلما طردتهم من رحمته صاروا كأنهم منسيون والله تبارك وتعالى لا ينسى النسيان الذي هو ضد الذكر ? وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ (64) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ? رب العالمين الذي ربى الخلائق بنعمه وتفضل عليهم بآلائه وإحسانه وكرمه ومنه وأعطاهم مما سألوه ومما لم يسألوه فالله سبحانه وتعالى ربى الجميع بنعمه وآلائه وفضله وإحسانه فيجب على الجميع أن يفرد الله تبارك وتعالى بالعبادة شكرا على ما أنعم به عليهم من النعم الظاهرة والباطنة لكونه رب العالمين فذلك يستلزم أن يكون إلها الذي يعبد دون غيره لأن الله الذي خلقنا ورزقنا وهو الذي يحيينا ويميتنا هو الذي يعطينا إذا سألناه ويجيبنا إذا دعاه وهو الذي يكشف الضر عن المضطرين ولا يملك ذلك غيره كما قال تعالى ? اللًّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ ? [الروم: 40]. لا سبحانه وتعالى عما يشركون فإذا كان الله تبارك وتعالى هو الذي ربى العالمين بنعمه وآلائه وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة فيجب أن يعبدوه وحده لا يشركوا به شيئا كما قال تبارك وتعالى ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ(2/65)
رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا
(18/8)
---
لِلَّهِ أَندَاداً ? [البقرة: 21، 22]. أي نظراء وأشباه تعبدونهم كما تعبدون الله وأنتم تعلمون أن الله لا ند له ولا نظير ولا شبيه ولا مثيل سبحانه وتعالى ? رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ? [مريم: 65]. والعبادة هي الغاية من خلق الخالق كما قال تعالى ? وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ (58) ? [الذاريات: 56- 58]. فالله تبارك وتعالى خلق الخلق لوظيفة واحدة وهي أن يعبدوه وحده لا يشركوا به شيئا والعبادة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله العبادة ربنا يقول ? فَاعْبُدْهُ ? ما هي العبادة يقول شيخ الإسلام رحمه الله عليه "العبادة لفظ جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) فالشهادتان والصلاة والصيام والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران وبر الوالدين كل هذا من الأعمال الظاهرة والإنابة والخشية والتوكل والرجاء والرهبة والمحبة والإخلاص واليقين والتوكل كل هذا من الأعمال الباطنة التي يحبها الله تبارك وتعالى فهذا معنى العبادة التي خلق الله الخلق من أجلها ? فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ? اصبر على عبادة الله سبحانه وتعالى فإن العبادة تكليف والتكليف لا يخلو من مشقة فاستعن على عبادة الله عز وجل بالصبر عليها ? فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ? ? وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ? [طه: 132] إن الطريق طويل والتكاليف كثيرة وإذا لم يكن مع الإنسان زاد عظيم من الصبر نفذ صبره في بداية الطريق أو في وسط الطريق فرجع عنه وتخلى عنه كما هو الواقع المشاهد(2/66)
نسأل الله السلامة والعافية كثيرا ما تجد إنسانا
(18/9)
---
دخل المسجد وتعلق به وسار من رواده وفجأة ينقطع عن المسجد والجماعة لماذا نفذ صبره وكثيرا ما ترى طالبا بدأ بحفظ القرآن الكريم وقطع فيه شوطا ثم يتوقف لماذا نفذ صبره بل كثير ما يخوض الطالب ميدان الجهاد جهاد الدعوة ويصعد المنابر ويعطي الدروس والمحاضرات وفجأة يغيب عن الساحة لماذا نفذ صبره فالصبر يجب أن يكون رفيقك في حياتك كلها إلى أن تلقى الله تبارك وتعالى على ما يحبه الله ويرضاه ولذلك فإن الله تبارك وتعالى حين كلف رسوله صلى الله عليه وسلم لأول مرة بالدعوة كلفه بالصبر ? يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) ? [المدثر: 1-7]. أمره بالصبر مع أمره بالدعوة ليفيده ويعلمه من أول وهلة أن الطريق طويل وأن التكاليف شاقة وأنك ستبذل من وقتك ومن صحتك ومن مالك في سبيل الله ابتغاء مرضات الله فوطن نفسك على الصبر حتى تؤدي المهمة التي كلفك الله تبارك وتعالى بها فيا أيها السالك لا تستوحش من قلة السالكين وتزود من الصبر فإنه خير ما يعطاه الإنسان ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر وكن كعابدة مكة كانت امرأة متعبدة في مكة إذا أصبحت تقول يا نفس اجتهدي فإن هذا اليوم قد يكون آخر الأيام فتقضي النهار كله في الطاعة والعبادة فإذا أمست قالت يا نفس اجتهدي فإن هذه الليلة قد تكون آخر الليالي فتقضي ليلها في العبادة وهكذا حتى أسلمت نفسها لفاطرها وبارئها وهي تسمع هذا النداء الحلو العذب ? يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) ? [الفجر: 27-30]. ? رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً(2/67)
وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ? [الأعراف: 126]. ? رَبُّ السَّمَوَاتِ
(18/10)
---
وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ ? هل تعلم لله سبحانه وتعالى سمي اسمه الله غير الله هل تعلم لله نظير هل تعلم لله شبيه هل تعلم لله مثل أو كفأ يستحق العبادة كما يستحقها الله سبحانه وتعالى كلا ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ? [الشورى: 11]. ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) ? [الإخلاص] ثم ذكر الله تبارك وتعالى إنكار المنكرين للبعث ورد عليهم بذكر أدلة إمكان البعث وتوعدهم إن هم أصروا على هذا التكذيب بلقاء الله بنار حامية يصلونها يوم القيامة قال تعالى ?ويقول الإنسان أأذا ما مت لسوف أخرج حيا ? [ ]. ? ويقول الإنسان ? المراد بالإنسان الكافر الذي ينكر البعث والقيام الذي ينكر الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى الذي يكذب بيوم الدين ?وإن تعجب فعجب قولهم .........هم فيها خالدون ? [ ] الله تبارك وتعالى يقول منكرا على هذا الإنسان الذي يستبعد البعث بعد الموت ? وَيَقُولُ الإِنسَانُ ? متعجبا ومنكرا ومتسائلا سؤال الإنكار ? أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَياًّ ? كيف يحيين الله تبارك وتعالى بعد ما أموت وأبلى وأفنى ويأكل الدود والأرض عضمي ولحمي كيف يعيدني الله تبارك وتعالى بشرا سويا بعد ما أصير ترابا ? أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ (17) ? [الصافات: 16، 17]. ? أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ? [ق: 3]. وقد تجرأ أحد الكفرة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بقطعة عظم قديمة والعظم كلما قدم كلما بلي وضعف العظم حين ينسلخ من اللحم جديدا يكون قويا يابسا ليس من السهل أن(2/68)
تكسره وكلما مضت عليه الأيام كلما ضعف ورق فأتى كافر من الكفار من منكري البعث
(18/11)
---
النبي صلى الله عليه وسلم ومعه قطعة عظم قديمة بالية ففتها في يده ثم ذرها في الهواء وقال يا محمد تزعم أن ربك يحيي هذا العظم بعد ما رم فقال صلى الله عليه وسلم (نعم ويبعثك ويدخلك جهنم) الله تعالى يقول منكرا على هذا الرجل الذي ينكر البعث بعد الموت ? وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَياًّ ?. قال تعالى مبينا أدلة إمكان البعث ?أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ? [ ]. العملية سهلة جدا ويسيرة لو تذكر الإنسان لكنه ناسا هو ناسا وإلا لو تذكر لعلم أن البعث أسهل على الله وأهون من النشأة الأولى ? أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ? أفلا يستدل بالنشأة الأولى على النشأة الثانية كما قال تعالى ? وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ? [الواقعة: 62]. لقد علمتك كيف أنشأكم الله تبارك وتعالى أول مرة من تراب ثم من نطفة فلولا تذكرون فتعلمون أن الذيت أنشأكم أول مرة قادر على أن ينشأكم المرة الثانية ? وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ? [الروم: 27] أي العود أهون على الله من البدء وهذا مثل ضربه الله للناس لعلهم يعقلون وإلا فليس على الله شيء أهون وشيء هين وشيء صعب وشيء أصعب كلا ? إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? [يس: 82]. لكنه مثل يضربه الله للناس لعلهم يعقلون ? وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ? ? وَهُوَ ? أي العود ? أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ?. فالذي أنشأ أول مرة لن يعجز أن يعيدك بعد موتك مرة ثانية وهذا دليل من أدلة إمكان البعث وفي خواتيم سورة(2/69)
ياسين نزلت بسبب ذلك الرجل الذي قال يا محمد أتزعم أن ربك يحيي هذا العظم بعد ما رم أنزل
(18/12)
---
الله فيه قوله ? أَوَ لَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ (81) ? [يس: 77- 81]. فأضاف الله تبارك وتعالى في آيات ياسين دليلا ثانيا من أدلة إمكان البعث الدليل في مريم وفي ياسين هو أن الله خلق الإنسان أول مرة فلن يعجز عن إعادة خلقه مرة ثانيا الدليل الذي زاد في ياسين يستدل به على إمكان البعث أن الله تبارك وتعالى خلق السماوات والأرض وهما أشد خلقا من الإنسان كما قال تعالى ? لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? [غافر: 57]. فالله تبارك وتعالى خلق السماوات والأرض وما فيهما وهما أشد وأكبر وأعظم خلق من الإنسان فإذا قدر على الأكبر كيف يعجز عن الأصغر لا يعجز الله تبارك وتعالى بعد ما خلق السماوات والأرض أن يحيي الإنسان بعد موته حياة ثانية ولذلك قال تعالى ? أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ المَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [الأحقاف: 33]. وقال تعالى ? أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ ?. الجواب السماء فالله ? بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ(2/70)
لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) ? [النازعات: 27-30] فكيف يعجز
(18/13)
---
من خلق السماوات والأرض أن يعيدكم بعد موتكم حياة ثانية فهذان دليلان هناك دليل ثالث يستدل به على إمكان البعث وهو أنك أيها الإنسان تموت وتحيا في اليوم الواحد مرة أو مرتين أنت تموت والله يبعثك في اليوم الواحد مرة أو مرتين كيف أنت تنام فتموت فتستيقظ فتبعث الله سبحانه وتعالى سمى النوم وفاة وسمى اليقظة بعد النوم بعثا فقال عز وجل ? وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ? [الأنعام: 60]. فسمى النوم أول الليل وفاة وسمى اليقظة آخر الليل بعثة ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه وضع يمينه تحت خده ثم قال (بسمك اللهم أموت وأحي) وكان إذا استيقظ قال صلى الله عليه وسلم (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور الحمد الله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره) فأنت تنام فتموت وتستيقظ فتبعث في اليوم الواحد مرة أو مرتين فكيف تستبعد على الله عز وجل أن يحييك بعد الموت الكبرى فالنوم أخو الموت هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم النوم أخو الموت فالله يتوفاك في النوم ثم يبعثك بعده وكذلك يميتك ثم يبعثك يوم القيامة إذا شاء سبحانه وتعالى دليل رابع على إمكان البعث هو أن الله سبحانه وتعالى يحيي الأرض الميتة بالماء ينزل عليها كما قال تعالى ? مِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المُوتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [فصلت: 39]. فكما يحيي الله تبارك وتعالى الأرض الميتة بالماء ينزل عليها من السماء كذلك يحيي الله تبارك وتعالى الموتى يوم القيامة فهذه أربع براهين يستدل بها على أن الله يحيي(2/71)
الموتى ويبعث من القبور ? وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَياًّ (66) أَوَلا يَذْكُرُ
(18/14)
---
الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ? ثم أقسم ربنا سبحانه وتعالى على البعث والحشر فقال ? فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ? [ ]. والحشر معناه الجمع ? فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ? [ ]. فأقسم الله تبارك وتعالى بربوبيته وأضافها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تكريما له وتشريفا ? فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ? [ ]. فخبر الله صدق بغير يمين فكيف إذا أكده باليمين ومع ذلك أقسم ربنا على البعث وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربوبية ربه على البعث أيضا قال تعالى ? وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ? [يونس: 53]. وقال تعالى ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ? [سبأ: 3]. وقال تعالى ? زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ? [التغابن: 7]. فأقسم الله تبارك وتعالى بربوبيته على أن البعث حق وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه على أن البعث حق فمن كذب الله ورسوله بعد ذلك وكذب بالبعث فالنار أولى به من كذب الله ورسوله بعد هذا القسم المؤكد أن الله يبعث الموتى ويحييهم ويحاسبهم من كذب الله ورسوله بعد ذلك فالنار أولى به ولذلك قال تعالى ? بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً (13) ? [الفرقان: 11-13]. فقيل لهم ? لاَ تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا(2/72)
ثُبُوراً كَثِيراً ? [الفرقان: 14]. فيا أيها العاقل كن على يقين من أنك إلى الله راجع وبين يدي الله موقوف وأمام الله مسئول فأعد
(18/15)
---
للسؤال جوابا فأعد للسؤال جوابا ?فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ?. نحشرهم والشياطين والشياطين الذين أضلوهم وأغووهم وجعلوهم يكذبون الله ورسوله وينكرون البعث بعد الموت ? فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِياًّ ?. أي على ركبهم كما قال تعالى ? وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ? [الجاثية: 28]. أي على ركبها ? كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا اليَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ? [الجاثية: 28]. يحشرهم الله تبارك وتعالى جميعا الشياطين والكفرة حول جهنم جثيا على ركبهم ثم يأمر الله تبارك وتعالى زبانية النار فتتخطف من شياطين الإنس والجن أكابرهم الذين أضلوا غيرهم عن سواء السبيل ? ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِياًّ ?. ما من أمة ضالة إلا وفيها أكابر متبوعون وأصاغر تابعون فالله تبارك وتعالى يحشرهم جميعا يوم القيامة حول جهنم جثيا ثم يأمر زبانية النار أن تتخطف العتل الجوار المستكبر الأكابر والسادة الذين ضلوا وأضلوا الناس عن سواء السبيل ينزعونهم من أممهم ثم يلقونهم أولا في النار ثم يلحقون بهم الأصاغر التابعون الذين تبعوهم على الفساد والضلال والكفر بالله والعياذ بالله ولذلك قال تعالى ? قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً ? [الأعراف: 38]. حتى إذا لحق الأصاغر بالأكابر ? قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ ? [ ]. أي قال الأصاغر للأكابر ? رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ(2/73)
النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ? [الأعراف: 38]. ? فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ
(18/16)
---
لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِياًّ (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِياًّ (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِياًّ (70) ?. والصلى معناه أنهم يدخلون النار فتغمرهم وتحيط بهم من جميع الجهات كما ينزل الإنسان في الماء ويغطس فيه ويغطيه الماء ويحيط به من جميع جهاته كذلك الكفرة الفجرة والعياذ بالله يصلونها أي يدخلون النار فتغمرهم وتحيط بهم من جميع الجهات ? لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ? [الزمر: 16]. ? لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ? [الأعراف: 41]. ? إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ? [الكهف: 29]. ? لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وَجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ ? [الأنبياء: 39]. ولذلك قال تعالى ? وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِه عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) ? [إبراهيم: 15-17]. ? ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِياًّ ?. ثم قال تعالى ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ ?. قال بعض المفسرين الواو في قوله تعالى ? وَإِن مِّنكُمْ ?. الواو واو القسم والمعنى والله إن منكم إلا واردها والله ما منكم من أحد إلا واردها واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد يموت له ثلاثة من الولد(2/74)
فتمسه الله إلا تحلة القسم) قالوا تحلة القسم هو القسم في هذه الآية ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ
(18/17)
---
? كان هذا الأمر قضاء مقضيا قد فرض منه فلابد أن يكون كما قضاه الله تبارك وتعالى وما معنى ورود النار ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ? ما معنى ورود النار ورود النار معناه دخولها ورود النار معناه دخولها وورود النار غير ورود الماء الله تبارك وتعالى قال في سورة القصص حكاية عن موسى عليه السلام ? وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ? [القصص: 23]. ورود الماء شيء وورود النار شيء آخر ورود الماء معروف ورد فلان البئر انتهى إلى شفا البئر فأدلى دلوه واستقى الماء الذي يريد أن يستقي الماء من البئر لا يدخل في البئر ولا ينزل فيه وإنما يكون على شفاها فيدلي دلوه ويخرج الماء هذا ورود الماء لكن ورود النار ما جاء في القرآن الكريم إلا بمعنى الدخول من ذلك قوله تعالى عن فرعون وملأه ? يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ ? [هود: 98]. الورود هنا معناه الدخول كما تقدم فرعون أمام ملأه في الدنيا فاقتحم بهم في البحر فتبعوه فأغرقوا أجمعون كذلك يوم القيامة يتقدمهم فيردهم النار يدخل هو أمامهم ويدخلون وراءه ? يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ ?. وقال تعالى لكفار قريش عبدة الأصنام والأوثان ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) ? [الأنبياء: 98، 99]. فالورود هنا معناه الدخول ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ(2/75)
جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ?. يعني داخلون لو كان هؤلاء الحجارة والأصنام التي عبدتوها من دون الله لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها أي ما دخلوها وكل
(18/18)
---
فيها خالدون فكل ورود للنار في القرآن فمعناه الدخول إذن فقوله تعالى هنا ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ?. أي داخلها وفي السياق نفسه ما يدل على أن الدخول الورود معناه الدخول وهو قوله تعالى ? ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ ?. فالكل ورد البر والفاجر والمسلم والكافر والظالم والعادل الكل ورد ثم يقول تعالى ?ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ?. فنخرجهم من النار ? وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ ?. فكلهم كانوا فيها لكن الله ينجي المتقين ? وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ ? فالورود في الآية معناه الدخول ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ ?. لكن يردها الناس كلهم فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت في الدنيا على إبراهيم الخليل بردا وسلام ? قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ? [الأنبياء: 68]. جمعوا الحطب وأوقدوا النار وأججوها وقيدوا إبراهيم بالحبال وألقوه فيها صدر الأمر من الله تعالى ? قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ? [الأنبياء: 69]. فعلى قدر صالح عمل الإنسان الوارد تكون سرعة خروجه من النار وعدم مس النار له وعدم إيذائها له وكلما كثرت ذنوب الإنسان والعياذ بالله كلما ذاق حر النار وأذاه لهيبها ومنهم من يكردس فيها فيعذب ثم يخرج بعد ذلك برحمة الله وشفاعة الشافعين أما الظالمون الكافرون فهم فيها خالدين أبدا وما هم منها بمخرجين ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا(2/76)
جِثِياًّ ?. ذكر بعض السلف أن عالما مر على مجموعة من الشباب وهم يلهون ويلعبون فإذا فيهم شاب يضحك بملء فيه يقهقه فأتاه العالم وهمس في أذنه كلمة أسرها إليه قال هل
(18/19)
---
أتاك من الله خبر أنك وارد النار العالم ماشي فوجد شباب يلعبون ويلهون وأحدهم يضحك بملء فيه يقهقه فأتاه ثم أسرها إليه هل أتاك خبر من الله أنك وارد النار فانتبه الشاب وقال نعم ?وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ?. فقال العالم فهل أتاك خبر من الله أنك صادر أتاك الخبر أنك وارد فهل أتاك الخبر أنك صادر فقال لا فما رؤي الشاب بعدها ضاحكا أبدا فأنت أيها الإنسان كيف تلهو وتلعب وتضحك بملء فيك والنار أمامك ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ? قسم من الله عز وجل لابد أن يتحقق ? كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ ? ولم يأتك الخبر بأنك من الناجين ? ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ? فهل أنت منهم أم لا في علم الله عز وجل فإن كنت على يقين أنك وارد النار ولست على يقين من النجاة منها فلما اللهو ولما الضحك ولما اللعب ولما الغفلة ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ (19) لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ (20) ? [الحشر: 18-20]. نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِياًّ (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ(2/77)
نَدِياًّ (73) ? لقد ذكرنا في سورة الكهف في قصة صاحب الجنتين أن أهل الدنيا استدلوا بعطاء الله تبارك وتعالى على رضاه استدلوا بعطاء الله على رضاه وظنوا أن العطاء عنوان الرضا
(18/20)
---
وأن الله سبحانه وتعالى وقد أعطاهم خير الدنيا فلابد أن يعطيهم خير الآخرة ? وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ ?. فرضا وجدلا ? وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَب ? [الكهف: 35، 36]. فأهل الدنيا ولاسيما الكفرة والفجرة يستدلون بسعة الدنيا يستدلون بكثرة الرزق يستدلون بكثرة الأموال يستدلون بما أوتوا من القوة أنهم أهدى سبيلا من المؤمنين لأنهم رأوهم على كفرهم وفسقهم في سعة من الرزق وبسطة من العيش وكثرة من المال والولد والجاه والسلطان الكلمة كلمتهم والرأي رأيهم ورأي المسلمين من الضعف والفقر والعجز بمكان فنسبوا ذلك إلى أنهم أهدى من المسلمين سبيلا ولو كان المسلمون على هدى لكان الله وسع عليهم فلما وسع الله على الكفرة وضيق على المسلمين استدل أهل الدنيا بذلك على من أهدى سبيلا من المؤمنين ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ? [الأحقاف: 11]. لو كان الذي جاء به محمد خيرا ما سبقنا إلى اتباعه هؤلاء الفقراء الضعفاء لو كان خيرا لكنا نحن أولى به وأحق لأن الله أعطانا خير الدنيا فنحن أيضا أحق بخير الدين والآخرة أما كوننا لم نتبع محمدا معناه أن هذا ليس خيرا لو كان خيرا ما سبقونا إليه قال تعالى ? وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا ? [الأنعام: 53]. أهؤلاء الفقراء الضعفاء من الله عليهم بالهداية والإيمان من بيننا نحن أهدى سبيلا منهم لأننا أكثر أموالا وأولادا(2/78)
? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ?. بينات واضحات ظاهرات الدلالة ? ? [ ]. ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ?. الأغنياء أصحاب الأموال
(18/21)
---
والأولاد والجاه والكلمة والرأي للذين آمنوا من الفقراء والمساكين ? أَيُّ الفَرِيقَيْنِ ?. نحن أم أنتم ? خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِياًّ ? يا جماعة فرقوا انظروا إلينا وانظروا إليكم ? أَيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِياًّ ?. بيوتنا خيرا من بيوتكم منازلنا خيرا من منازلنا أساسنا في المنازل خيرا من أساسكم نوادينا أكثر واردا من نواديكم فكيف تزعمون أنكم أهدى منا من الأولى بالهدى نحن الأغنياء أم أنتم الفقراء ونسوا أن سنة الله تبارك وتعالى في اتباع الرسل أن يكونوا من الفقراء والضعفاء كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى هرقل كتابا يعدوه فيه للإسلام قالوا ائتوني بمن بأرضنا من العرب فآتوه بأبي سفيان في نفر من العرب كانوا في قافلة تجارية بأرض الروم فقال هرقل لأبي سفيان إني سائلك عن هذا الذي يزعم فيكم أنه نبي فأجبني فسأله عدة أسئلة كان منها أفقراء الناس يتبعونه أم أغنياءهم فقال أبو سفيان بل فقراءهم فقال هرقل بعد أن انتهى من الأسئلة سألتك أفقراء الناس يتبعون أم أغنيائهم فقلت بل فقراءهم وهم أتابع الرسل فأهل الدنيا ظنوا أن الله ما دام قد أعطاهم الدنيا يبقى هذا لرضاه عنهم فكل خيرا في الدين فهم أولى به ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الفَرِيقَيْنِ ?. نحن أم أنتم ? خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِياًّ ? قال الله تعالى ? وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ?. أفلا يعتبرون أفلا يتعظون وكم سؤال للتكفير ? وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم ? [ ]. قبل هؤلاء الكفار أهل الدنيا(2/79)
? وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ ? ? وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ? [الإسراء: 17]. ? وَكَمْ
(18/22)
---
أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً ? [ ]. يعني الكفرة الفجرة السابقون الذين عذبهم الله وأهلكهم وأبادهم كانوا أكثر أموالا وأكثر أولادا وأعز نفرا وأقوى جاها وقوى عدة وعتادا من الكفار المعاصرين ولذلك يقول تعالى ? وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي ? [سبأ: 45]. فكيف كان نكيري عليهم لما كذبوا رسلي أفلا يعتبر الكفار المعاصرون بما أصاب الكفار السابقين وأن يحذروا أن يأخذهم الله كما أخذ الذين من قبلهم ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) ? [الفجر: 6-13]. ? فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ? [العنكبوت: 40]. ? أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) ? [القمر: 43- 46]. ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ(2/80)
الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِياًّ (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً (74) ?. ثم يأمر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو
(18/23)
---
المشركين الضالين إلى المباهلة ? قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ ?. إذا أصريتم أنكم على الهدى ونحن على الضلالة تعالوا نأتي بنساءنا ونساءكم وأولادنا وأولادكم وأنفسنا وأنفسكم ونخرج في الصحراء نبتهل إلى الله ونتضرع إليه اللهم زد المهتدي هدى وزد الضال ضلالة ولم يجيبوه لأنهم يعلمون حقيقة أنهم هم الضالون ? قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ?. حتى إذا رأى هؤلاء الكافرون أهل الدنيا ما وعدهم الله به من العذاب في الدنيا من القتل والأسر والآفات السماوية التي يسلطها الله عليهم ونحو ذلك حتى إذا أتاهم العذاب في الدنيا أو وكل عنهم عذاب الدنيا فأتتهم الساعة ولابد أنهم معذبون يوم القيامة ? حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ? [ ]. فعندها سيعلمون ? مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُند ?. محمد وصحبه أم هؤلاء الكفرة الضالون المشركون حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب في الدنيا وإما تأتيهم الساعة يوم القيامة عندنا سينكشف عنهم الغطاء ويرون الحقائق بأم أعينهم ? مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ?. ويزيد الله الذين اهتدوا واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم على ما جاء به من عند الله لما اهتدوا بقول الدعوة لما اهتدوا بقبول الإيمان واتباع القرآن يزيد الله الذين اهتدوا هدى فالهداية تزيد وتنقص ولذلك أمرنا الله تبارك وتعالى أن نسأله في كل ركعة من ركعات الصلاة(2/81)
الزيادة من الهداية ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ?. في كل ركعة تصليها تسأل الله الزيادة من الهداية قال بعض المفسرين في قوله تعالى في الفاتحة ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ? قالوا الذين يصلون مهتدون
(18/24)
---
فمعنى سؤالهم الهداية الثبات على ما هداهم الله إليه اهدنا أي ثبتنا على ما هديتنا إليه وهذا قول مرجوح والراجح أن سؤال الهداية هو طلب الزيادة منها ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ? أي زدنا يا رب هدى لأن ما فات الإنسان من الهداية أضعاف أضعاف ما حصله ما حصلته من الهداية جزء يسير وفاتك منه أو منها الكثير والكثير فأنت بحاجة إلى مزيد الهداية فلذلك في ركعة تصليها تسأل ربك ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ? فالإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية هذه حقيقة قررها ربنا في القرآن الكريم في أكثر من آية ? وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَداًّ ?. وقد فسرنا هذه الآية سابقا في سورة الكهف عند قوله تعالى ? المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ? [الكهف: 46]. وقلنا أن الراجح من أقوال المفسرين إبقاء الصالحات على عمومها لتشمل كل عمل صالح يحبه الله تعالى ويرضاه فالصلاة من الباقيات الصالحات والزكاة وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران والصدق في المعاملة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وغيرهم من الأذكار المشروعة كل ذلك من الباقيات الصالحات إن شاء الله ? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَداًّ ?. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك هذا والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا(2/82)
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(18/25)
---
إجابة السؤال الأول ? إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً ?. قرئت بكسر النان وبفتح النان من الإخلاص لله في الأعمال ويؤدي إلى خلوص التام لله عز وجل وهو الاصطفاء وبالفتح يعني الخلوص والاصطفاء والقراءتان صحيحتان.
والجواب أيضا صحيح والحمد لله وشكر الله لهما.
إجابة السؤال الثاني ? كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ ?. في قصته مع أبيه إبراهيم عليه السلام عندما قال ? سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ? [الصافات: 102]. فصدق في ذلك فصدق الوعد فقيل كذلك عندما كان مع صاحبه في البداية ونهج عنه صاحبه وتأخر وانتظر حتى جاء وبقي في مكانه.
لعل السؤال أشكل على السامعين كان السؤال ماذا تعلمت من قول الله تعالى عن إسماعيل ? إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ ?. فهذا تفسير صدق الوعد من إسماعيل ماذا تعلمنا تعلمنا أن نصدق الوعد وأن نفي بالعهد وأن يحترم أحدنا كلمته وأن يصدقها في وعوده ولا يخلفها إلا من عذر قهري يمنعه من الوفاء بعده وعهده فهذا هو المقصود بالسؤال ماذا تعلمت من قوله تعالى لإسماعيل ? إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ ?. فالجواب كان تفسير لصدق وعد إسماعيل كيف كان صادق الوعد لكننا أردنا ماذا أردنا من هذا .
الشق الثاني إجابة السؤال الثالث الشق الثاني من السؤال الثاني وقيل كذلك عندما كان مع صاحبه
لأ وماذا تعلمت من قوله تعالى ? وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ?.
لم يجب أحدا عليه يا شيخ
(18/26)
---(2/83)
هو واضح أن السؤال حصل فيه لبث في الفهم أردنا ماذا تعلمت من قول الله تعالى عن إسماعيل ? وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياًّ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ?. تعلمنا أن نصدق إذا وعدنا وأن نفي إذا عاهدنا وأن يجتهد كل منا على أهله وأن يقوم فيهم بالمسؤولية التي جعلها الله على عاتقه (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) كل واحد فينا مأمور أن يأمر أهله بالصلاة والزكاة.
إجابة السؤال الثالث سجود التلاوة مستحب وليس بواجب وليس هناك حرج على من يسجد للتلاوة.
إي نعم الجواب صحيح إن شاء الله تعالى .
استأذنك يا فضيلة الشيخ في اتصالين الأول من الأخ زياد من تونس السلام عليكم ورحمه الله وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته ما هي آداب الزيارة كما جاء في القرآن والسنة السؤال الثاني لماذا اعتبر بعض العلماء الصبر على الطاعة أفضل من الصبر على المعصية وبارك الله فيكم.
هل الفقر دليل كامل على قبول الله للعبد.
(18/27)
---(2/84)
آداب الزيارة هذه تحتاج إلى محاضرة كاملة لكننا نذكر الأخ الكريم السائل والأخوة الحاضرين وجميع المشاهدين بقوله تعالى ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ? [النور: 27]. وأفسر حتى تستأنسوا بأنها حتى تختاروا الوقت المناسب للزيارة التي يحصل فيه الأنس بكم لأهل البيت وبالتالي يؤنسكم أهل البيت وهذا أدب من الآداب المفقودة في الزيارة كثيرا ما يهجم بعضها على بعض في أوقات لا يكون الإنسان فيها مستعد لأي قادم فلذلك لا يعطي الزائر حقا إن لم يكن له ارجع لم يقل له ارجع لا يعطيه حقا من الكرم والترحيب والتهليل لأنك هجمت عليه في وقت هو غير مستعد لاستقبالك فمن أهم آداب الزيارة هو قوله تعالى ? حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ? معناها تستأذنوا ولكن اللفظ أفاد الاستئذان مع فائدة أخرى هي أن يكون الاستئذان في وقت يحصل فيه أنس بك لأهل البيت فيجم فإذا تركت عليه البيت تهللت وجوههم ورحبوا بك ومدوا إليك أيديهم فرحين بزيارتك حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها فمن أراد الوقوف على بقية الآداب فليراجع هذه الآيات في التفسير إن شاء الله.
(18/28)
---(2/85)
الصبر على الطاعة والصبر على المعصية لم أقرأ أن أحدهم قال الصبر على الطاعة أفضل على الصبر من المعصية لكن قرأت أن الصبر عن المعصية أفضل من الصبر على الأقدار المؤلمة الصبر ثلاثة أنواع صبر على الطاعة وصبر عن المعصية وصبر عن الأقدار المؤلمة الصبر على الأقدار المؤلمة تبتلى في نفسك في أهلك في مالك في ولدك تصبر وتحتسب أما الصبر عن المعصية أن تكون المعصية في متناول يدك وتصبر عنها وتحول بينها وبين نفسك ولا ترتكبها مخافة الله عز وجل هذا صبر عن المعصية أفضل من الصبر على الأقدار المؤلمة وذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في صبر يوسف على إخوته وفي صبره على امرأة العزيز قال إن صبره على إخوته كان صبر اضطراري أما صبره عن امرأة العزيز كان صبر اختياري فكان صبره عن المرأة اللي هي عن المعصية أفضل من صبره عن الأقدار المؤلمة والله أعلم.
(18/29)
---(2/86)
لا ينبغي أن يفهم أن الفقر عنوان الرضا كما لا ينبغي أن يفهم أن الغنى عنوان الرضى الله تعالى قال ? فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ?. انتبه ? إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ? [الفجر: 15]. انتبه لنفس اللفظة ? وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ? [الفجر: 16]. قال تعالى ? كَلاَّ ? الله تبارك وتعالى لم يكرم من وسع عليه ولم يهن من قدر عليه رزقه ولكن الله ابتلى الأول بالغنى ليرى أيشكر أم يكفر وابتلى الثاني للفقر ليرى أيصبر أم يجزع فليس الغنى عنوان الرضا وليس الفقر أيضا عنوان الرضا إنما عنوان الرضا التوفيق للطاعة فالغني إذا وفق لطاعة الله تبارك وتعالى وعرف حق الله في ماله فأنفق منه هاهنا وهاهنا ووصل به رحمه فهذا التوفيق للطاعة في حالة الغنى عنوان الرضا عنوان أن هذا الغنى كان نعمة وكذلك التوفيق للفقر إذا كنت في فقر ورأيت نفسك موفقا للصبر والرضا بقضاء الله والاجتهاد في طاعة الله فهذا التوفيق هو عنوان الرضا ولكن الرضا ليس بلازم للغنى وليس بلازم للفقر.
معنا اتصال فضيلة الشيخ من الأخ أشرف كمال من مصر سؤالي هل يجوز زيارة أهل الكتاب وتهنأتهم بأعيادهم وأفراحهم وشهود جنائزهم إن كان في قصد الدعوة وكذلك مجاملة لهم خاصة إذا كانوا زملاء في العمل وهل يقدح ذلك في الولاء والبراء السؤال الثاني نرجو من فضيلتكم توجيه نصيحة إلى العالم الإسلامي وإلى هؤلاء الذين يفسرون القرآن بآرائهم وأهوائهم دون الرجوع إلى منهج السلف الصالح في التفسير بحجة التفسير العصري للقرآن الكريم والذين تعج بهم القنوات الفضائية صباح ومساء وجزاكم الله خير.
(18/30)
---(2/87)
بر أهل الكتاب وإكرامهم والإحسان إليهم أذن الله تبارك وتعالى لنا فيه فقال عز وجل ? لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ? [الممتحنة: 8]. عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت قدمت علي أمي وهي راغبة أي راغبة في صلتي وبري وإكرامي وهي مشركة فلم تفعل معها شيء من البر والإحسان حتى استفتت النبي صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي قال (نعم صلي أمك) إذا دخل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فوجدهم قد ذبحوا شاة فقال "أهديتهم لجارنا اليهودي هذه الشاة التي ذبحتموها أهديتم منها إلى جارنا اليهودي فقالوا لا قالوا ابعثوا إليه منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) فبر غير المسلم إكراما وإحسانا وتأليفا لقلبه وتظهير في الإسلام أذن الله لنا في ذلك ولم ينهانا عنه لكن ما لا يفعله الرسول عليه الصلاة والسلام لا نفعله فمثلا بالنسبة لشهود جنائزهم النبي عليه الصلاة والسلام لما مات عمه أبو طالب وكلنا يعرف أبو طالب بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام وماذا قدم له جاء علي فقال يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات (قال اذهب فواره) روح ادفنته ولم يشهد جنازته فالبر متوقف على موافقة بالشرع ولا يجوز لنا أن نتوسع في دائرة البر حتى نقع في مخالفة الشرع والله تعالى أعلم.
أظن أن في قراءة السؤال هو الذي أعطاه من نفسه النصيحة.
الأخت أم شريفة من السعودية تقول ما هي أفضل طريقة لاستذكار التفسير وجزاكم الله خير.
(18/31)
---(2/88)
دائما حياة العلم مذاكرته دائما نستمع إلى هذا الشريط مرة ثانية إذا كان عندنا مسجلا نقرأ هذه الحلقة من التفسير إذا سحبناه مفرغة من الموقع كل يوما نستمع كل يوم نقرأ فبذلك يحي العلم في صدورنا وتتحقق الفائدة إن شاء الله من التفسير ومن غيره من العلوم الشرعية.
الأخت فاطمة صالح من السعودية تقول كيف يمكنني أن أثق الشخص الذي أجالسه أنه من الصالحين وما هي الأسباب التي تعينوني على الحث على مجالستهم.
الصلاح الحمد لله ظاهر من أعظم أمارات الصلاح المحافظة على الصلاة ثم اللسان يعبر عن صاحبه اللسان يعبر عن صاحبه الله تعالى قال عن المؤمنين الصالحين ? وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ ? [الحج: 24]. فإذا جالستي امرأة تعرفين أنها من أهل الصلاح فلاشك أنها من أهل الصلاح جالستيها ولم تسمعي منها في الجلسة إلا كل خير وكل كلام طيب فهي من أهل الصلاح إن شاء الله وإما إذا جالستي امرأة ثم وجدتيها لا يكف لسانها عن الغيبة وعن الكلام البذيء وعن اللعن والسب وذكر الناس بما يكرهون فهذه امرأة لا خير فيها تتركين مجالستها وتقوي في قلبك حب الصالحين ومجالستهم وزيارتهم بقراءة ما ورد في ذلك في الفضاء وأحسن كتاب ينصح به في ذلك هو كتاب رياض الصالحين إن شاء الله تعالى.
الأخ حسن الحربي من السعودية يقول فضيلة الشيخ بعض العامية يدعون بهذا الدعاء يدعون ربي لا تنساني يوم أنساك هل في هذا الدعاء شيئا نرجو التوضيح وجزاء الله خير.
(18/32)
---(2/89)
دائما نقول الاتباع في العبادات يؤدي إلى السلامة من الآفات فإذا تتبعنا الدعوات المأثورة ودعونا بها سلمنا من الأخطاء ومن الذلل وأنا أول مرة أسمع هذه الدعوة لكن نرجو الله تبارك وتعالى أن يعيننا على حفظ الدعوات المأثورة في الكتاب وفي السنة فندعو الله تبارك وتعالى بها لأن الله تعالى قال في الدعاء ? وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ? [البقرة: 190]. فهناك اعتداء في الدعاء قد يقع الإنسان في الاعتداء في الدعاء وهو لا يشعر بجهله فنسأل الله أن يعيننا على حفظ الدعوات المأثورة في الكتاب والسنة.
الأخ رضا من مصر يقول أنا ملتزم من جديد وأتمنى أن أكون ملتزما وسؤالي إني أحاول حفظ وقراءة القرآن ولكني أخطأ في القراءة وأنسى الحفظ فماذا أفعل وإن كان هناك دعاء يساعدني على ذلك لأني أحب القرآن فما رأيكم.
الدعاء قل اللهم اجعلني من أهل القرآن اللهم أكرمني بحفظ القرآن اللهم فقهني في الدين وعلمني التأويل ثم عليك بالبحث على المساجد التي فيها حلقات تعليم القرآن الكريم ابحث عن هذه المساجد والتزم الشيوخ الذين فرغوا أنفسهم لتحفيظ كتاب الله وتعليمه فتعلم منهم إن شاء الله إنما العلم بالتعلم فإذا جالست هؤلاء الناس في المساجد ستستفيد منهم وتصحح قراءتك بإذن الله عز وجل.
الأخ كريم من فرنسا يقول إذا كنا في حلقة علمية ودخل علينا أحد ثم ألقى السلام هل الأولى عدم الرد أفيدونا أحسن الله إليكم.
(18/33)
---(2/90)
لا يجب الرد إذا دخل أي داخل على أناس في حلقة ذكر لمدارسة العلم فعليه أن يبدأ بالسلام وعليهم أن يردوا والرد كما تعلمون فرد كفاية فيكفي أن يرد واحد أو اثنين أو ثلاثة لكن لا يجوز نحن في حلقة علم لا تفشي السلام علينا أو يفشي السلام عليهم فلا يردون هذا خطأ إفشاء السلام من أهم الأعمال التي حث عليها النبي عليه الصلاة والسلام وجعلها من موجبات المحبة التي هي من موجبات الجنة (والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم) فمن خطأ العابدين أن يكون الإنسان يقرأ في القرآن الكريم في المسجد أو في البيت فيدخل الداخلي يقول السلام عليكم يشير إليه بيده ولا يرد بلسانه لماذا مشغول بما هو فيه من القراءة أو العلم هذا خطأ رد السلام لا يكون بالإشارة إلا في الصلاة إذا كنت في صلاة ودخل داخل فقال السلام عليكم فمن السنة أن ترد هكذا بالإشارة بيدك كانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر قبل أن ينهوا عن الكلام في الصلاة وكان يرد عليهم السلام فلما نزل قوله تعالى ? حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ? [البقرة: 238]. أي ساكتين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي فيرد عليهم بالإشارة أما غير المصلي قارئا للقرآن مذاكرا للعلم مشغول بأي أمر رد السلام بالإشارة خطأ ولا تبرأ ذمته بل يجب أن يرد السلام وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الأخت زينب من سوريا تقول لماذا لم يستطع موسى الصبر على الخضر عليهم السلام رغم أنه قال إن شاء الله أرجو الجواب إذا سمحتم.
(18/34)
---(2/91)
لا حول ولا قوة إلا بالله قال الإمام الطحاوي رحمه الله في العقيدة الطحاوية نقول لا حيلة لأحد ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله ولا قدرة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله فهكذا قدر الله عز وجل لموسى أن ينتهي صبره في هذه المرحلة .
الأخت منى من مصر تقول في قوله تعالى ? وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ? [مريم: 25]. هي كتبت ?تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِياًّ ? هل في هذه الآية دليل على أن عيسى عليه السلام ولد في فصل الصيف لأن النخل تثمر في الصيف ولو كان كذلك هل هو دليل على خطأ احتفال النصارى بميلاد المسيح في أول يناير وهو في فصل الشتاء وجزاءكم الله خير.
لا إحنا قلنا إن النخلة كانت يابسة يعني ليس فيها رطب ولا بلح فمن الكرامات التي أكرم الله بها مريم أنه أمرها أن تهز جزع هذه النخلة اليابسة فتساقط عليها الرطب فهذا من الكرامات كما أكرمها وجعل تحتها سريا أي نهرا جارية أكرمها بسقوط الرطب من نخلة يابسة كل ذلك حتى تطمئن حين ترى هذه الخوارق للعادات حولها نهر أجري في ساعته رطب يتساقط من نخلة وليست بحاملة رطب فتطمئن أن ولادتها لعيسى أمر خارق للعادة كما خرق الله لها العادة فتطمئن ولا تأسى ولا تحزن.
الأخت منال محمد من مصر تقول هل الورود هو دخول النار بالفعل أم المرور على الصراط.
الصراط هو في وسط جهنم وهو الطريق إلى الجنة إذا أذن الله تبارك وتعالى لأهل الجنة في دخولها فالطريق إلى الجنة هو الصراط في وسط جهنم وليس فوقها كالجسر المعلق لا إنما هو في وسط جهنم فالكل يدخل أهل النار يدخلون حتى يمكثوا فيها وأهل الجنة يدخلون حتى يعبروها ويكون العبور على ما ذكرنا منهم السالم ومنهم المخدوش السالم ومنهم المكدس على وجهه في النار كما جاء في صفة الورود وصفة الصراط يوم القيامة.
(18/35)
---(2/92)
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الأول
التفسير - المستوى الأول
د/ عبد العظيم بدوي
21/3/2005 - 11 صفر 1426
التفسير من قوله تعالى : "أفرأيت الذي كفر بآياتنا...."
إنَّ الحمدَ لله، نحمدهُ، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّمْ وباركْ عليه ، وعلى آلهِ وصحبِه، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.
ثم مرحبا بكم في هذا اللقاء الجديد والأخير من دروس تفسير سورة مريم وقبل أن نبدأ في الآيات الجديدة نطرح عليكم الأسئلة الثلاث في الحلقة السابقة.
السؤال الأول ما سبب نزول قوله تعالى : ? وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ? [مريم: 64].
السؤال الثاني اذكر حديثين في فضل زيارة الصالحين
السؤال الثالث ما معنى ورود النار المذكور في قوله تعالى : ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ? [مريم: 71].
أما الآيات المباركات التي معنا اليوم من سورة مريم فقد تضمنت من المعاني ما يلي:
أولاً: سبب نزول قوله تعالى : ? أَفَرَءَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا ? [مريم: 77].
ثانيًا: ? مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ? [ق: 18].
ثالثًا: ? مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً ? [فاطر: 10].
رابعًا: تسلط الشياطين على الكافرين.
خامسًا: لكل أمة أجل.
سادسًا: صفة حشر المؤمنين والكافرين.
سابعًا: أسعد الناس بالشفاعة يوم القيامة.
ثامنًا: تنزيه الله تعالى عن الولد.
(19/1)
---(2/93)
تاسعًا: إذا أحب الله عبدًا حببه إلى عباده.
وأخيرًا وجوب الاعتبار بوحدة مصير المكذبين.
وهذا بإيجاز عرض سريع لأهم ما تضمنته الآيات المباركات من سورة مريم من المعاني والتي نعيش في رحابها ساعتنا هذه إن شاء الله تعالى فلنستمع إلى هذه الآيات المباركات أولا قبل الخوض في تفاصيلها سائلين الله عز وجل أن ينجز لنا ما وعدنا حيث قال ? وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? [الأعراف: 204].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(19/2)
---(2/94)
? أَفَرَءَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَداًّ (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزاًّ (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِداًّ (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزاًّ (83) فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَداًّ (84) يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِداًّ (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداًّ (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُداًّ (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداًّ (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) ? [مريم: 77- 98].
(19/3)
---(2/95)
? كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ? [ص: 29]. ? لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? [الحشر: 21].
? اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ? [الزمر: 23].
قوله تعالى : ? أَفَرَءَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً (77) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَداًّ (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً? [مريم: 77-80].
(19/4)
---(2/96)
جاء في الصحيح في سبب نزول هذه الآيات أن خباب بن الأرت رضي الله عنه كان حدادا بمكة فصنع للعاصي ابن وائل شيئا من الحديد على أجل ثم جاء يتقاضاه فقال له العاص لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال خباب والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث فقال له العاص وإني لمبعوث بعد الموت؟ قال نعم قال إذا سيكون لي هناك مال وولد فأقضيك هناك فنزلت هذه الآيات ? أَفَرَءَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ?. لأنه قالها على سبيل الاستخفاف والاستهزاء أنت تقول أننا مبعوثون نعم خباب يقول بالبعث ويؤمن به وأما العاص فهو كافر بالبعث كافر بالله عز وجل فهو يقول إذا هناك أقضيك يقولها على سبيل الاستخفاف والسخرية والاستهزاء فنزلت هذه الآيات تعجيبا منه ومن قوله أفرأيت يا نبينا ويصلح الخطاب أن يكون لكل عاقل ? أَفَرَءَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ?. وقد ذكرنا في تفسير سورة الكهف وما سبق من سورة مريم أن الكفار ربطوا الآخرة بالدنيا وقاسوا الآخرة على الدنيا وظنوا أن عطاء الله تبارك لهم في الدنيا عنوان رضا الله تبارك وتعالى عنهم وكما رضي عنهم في الدنيا وأعطاهم فسيرضى عنهم في الآخرة ويعطيهم كما قال صاحب الجنتين ? وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ? [الكهف: 36]. هذه عقيدته أنه لا بعث بعد الموت ولكن لو فرضنا جدلا على سبيل التسليم لهؤلاء الذين يقولون بالبعث بعد الموت ? وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً ? [الكهف: 36]. هكذا قال العاص لخباب أيضا لئن بعثني الله تعالى سيكون لي مالي فأقضيك دينك هناك في الآخرة ? أَفَرَءَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ?. على ما استند في هذا القول(2/97)
(19/5)
---
فالدعاوى إذا لم تقيموا عليها بينات أبناءها أدعياء ما مستند في هذا القول وما دليله وما حجته ? أَطَّلَعَ الغَيْبَ ? . ولا يعلم الغيب إلى الله سبحانه وتعالى ? عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ? [الجن: 26]. هل اطلع الغيب وكشفت عنه الحجب ورأى الآخرة وما فيها ورأى أن له فيها مالا وولدا ? أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ?. أن الله سبحانه وتعالى إذا بعثه يوم القيامة يؤتيه في الآخرة مالا وولدا كما آتاه في الآخرة مالا وولدا ? أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلاَّ ?. كلمة زجر ووعيد ونفي لما سبق فهو لم يطلع الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهدا ? سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ?. فهذه الكلمة التي قالها كتبها الله تبارك وتعالى عليه شأنها في ذلك شأن كل الكلام الذي يتكلم الإنسان به قال الله تعالى ? مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ? [ق: 18]. ? وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) ? [ ق: 16- 18]. فكل كلمة يتفوه بها الإنسان يكتبها الملكان إن خير وإن شرا إن حسنة وإن سيئة يكتبانها ثم الله سبحانه وتعالى يجزي به يوم القيامة ? فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ (8) ? [الزلزلة: 7، 8]. وحين يؤمن الإنسان بكتابة الأقوال مع الأعمال يجب عليه أن يصون لسانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) قال العلماء الكلام أربعة أقسام خير محض وشر محض وخير مشوب بالشر والخير أغلب وشر مشوب بخير والشر أغلب(2/98)
فالنبي صلى
(19/6)
---
الله عليه وسلم يأمرنا (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) فأذن لنا في ربع الكلام وأمرنا بالسكون عن ثلاثة أرباع الكلام ولذلك قالوا خلق الله تعالى للإنسان أذنين ولسان واحد ليسمع أكثر مما يتكلم ? كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَداًّ ?. المدد الزيادة سنتدخله جهنم يصلاها مذموما مدحورا يذوق فيها العذاب ثم هو دائما في زيادة من هذا العذاب ? وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَداًّ ?. كما قال تعالى : ? مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ? [الإسراء: 97]. وكما قال تعالى : ? كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ ? [النساء: 56]. وكما قال تعالى : ? فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ? [ النبأ: 30]. ?وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَداًّ (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ?. هذا المال الذي غره وهؤلاء الأولاد الذين اغتر بهم وأعجب بماله وولده الله سبحانه وتعالى سيرثه في كل ما يقول لأن الله سبحانه وتعالى قال ? إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ?. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (يتبع الميت ثلاثة أهله وماله وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد يرجع أهله وماله ويبقى عمله) ولذلك قال تعالى : ? وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ? [الأنعام: 94]. ? وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ?. ثم يقول تعالى ? وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزاًّ ?. هؤلاء المشركون عبدوا من دون الله آلهة يطلبون بعبادتها العزة ? وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِز? والعزة الغلبة والمنعة والظهور والرياسة والمجد(2/99)
والريادة ? وَاتَّخَذُوا
(19/7)
---
مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزاًّ ? لقد أخطئوا الطريق وطلبوا العزة من غير مالكها لأن العزة لله جميعا كما قال تعالى : ? مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً ? [فاطر: 10]. وفي تقديم الجار والمجرور ? فَلِلَّهِ ? يفيد الحصر والقصر من لم يقل فالعزة لله وإنما قال ? فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً ? فمن أراد العزة فليطلبها من الله تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له فإن الله هو العزيز وهو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء كما قال تعالى : ? قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ? [آل عمران: 26]. فالكافرون اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا والمنافقون تولوا الكافرين أيضا طلبا للعزة وكلاهما أخطأ الطريق ? بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)? [النساء: 138، 139]. من كان يريد العزة فالله العزة جميعا أي فليطلبها من الله سبحانه وتعالى فهو العزيز وهو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء أما الكافرون الذين اتخذوا لهم من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزة فقد ضلوا الطريق وكذلك المنافقون الذين طلبوا العزة بولاية الكافرين قد ضلوا الطريق ? وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزاًّ (81) كَلاَّ ?. لن يكونوا لهم كما تمنوا بل سيكفرون بعبادتهم هؤلاء الآلهة التي عبدوها من دون الله يوم القيامة يكفرون بشركهم كما قال تعالى : ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ(2/100)
غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ
(19/8)
---
كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)? [الأحقاف: 5، 6]. سيكفرون بعبادتهم ويتبرءون منهم كما قال تعالى : ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)? [البقرة: 165- 167]. سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا كما قال الخليل إبراهيم عليه السلام لقومه المشركين ? إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ? [العنكبوت: 25]. المودة بينكم فقط في الحياة الدنيا ? ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ? [العنكبوت: 25]. كما قال تعالى : ? قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ? [الأعراف: 38]. وذكر سبحانه وتعالى أنه يقال لأفواج النار وهم يلقون فيها ويكبون ? هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباًّ بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباًّ بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ(2/101)
القَرَارُ (60) ? [ص: 59، 60]. ? كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ
(19/9)
---
بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِداًّ ?. فلم يعزوهم في الدنيا ولن يمنعوهم من عذاب الله في الآخرة ? وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزاًّ (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِداًّ ? [مريم: 81- 82]. لن يعزوهم في الدنيا ولن يمنعوهم من عذا الله في الآخرة كما قال تعالى : ? وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74) لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (75) ? [ يس: 74، 75]. أي في العذاب المهين يوم القيامة ثم قال تعالى : ? أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزاًّ ?. الأز هو الهز الأز هو الهز والهز معروف هو تحريك الشيء بشدة فالأز هو الهز والله تبارك وتعالى يقول معجبا من تسلط الشياطين على الكافرين ألم تر يا نبينا ولم تر أيها العاقل السامع ? أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزاًّ ?. أي تزعجهم إلى المعصية إزعاجا وتدفعهم إليها دفعا ولذلك لا ترى الكافر إلا سريعا في معصية الله بطيئا عن طاعته لا ترى الكافر إلا سريعا في معصية الله لماذا؟ لأن الشياطين تؤزهم أزا تدفعهم إلى الشر تدفعهم إلى الخطيئة تدفعهم إلى المعصية دفعا ? أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزاًّ ?.
(19/10)
---(2/102)
وقد يعتذر بعضهم عن هؤلاء الكافرين ويلتمس لهم العذر إذ أن الله سبحانه هو الذي أرسل الشياطين عليهم تؤزهم أزا إلى المعصية إذا هم معذورون هم مدفوعون دفعا إلى المعصية بأز الشياطين لهم والجواب أنهم ليسوا معذورين لأن هذا الأز وهذا الهز وهذا الدفع إلى المعصية إنما كان بعد أن أعرضوا عن الله سبحانه وتعالى وعن الهدى الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك قال ? وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) ? [الزخرف: 36، 37].
(19/11)
---(2/103)
فتسلط الشياطين على الكافرين لم يكن إلا بعد براءة الكافرين من رب العالمين وتولهم الشيطان ولو أنهم تبرءوا من الشياطين وتولوا رب العالمين سبحانه وتعالى وأخلصوا له لاستخلصهم الله تبارك وتعالى ولحفظهم من شر الشياطين فإن الله تبارك وتعالى قال للشيطان ? إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ? [الحجر: 42]. والشيطان اعترف بذلك فقال ? إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ? [ص: 83]. والله تبارك وتعالى يقول ? فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ ?. أي الشيطان ? لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ? [النحل: 98- 100]. فهؤلاء الكافرون هم الذين تولوا الشياطين من دون الله رب العالمين فوكلهم الله إلى الشيطان الذي تولوه من دون الله عز وجل ? أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزاًّ (83) فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ?. لا تستعجل هلاكهم ? فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ? [الأحقاف: 35]. ? فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَداًّ ?. الله سبحانه وتعالى جعل لكل أمة أجل هكذا قال ربنا ? لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ? [الأعراف: 34]. فكما أن الأفراد لكل فرد أجل فكذلك الأمم ?لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ? وكما أن الإنسان إذا جاء أجله لا يتقدم ولا يتأخر فكذلك الأمم إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون فالأمم الظالمة الله سبحانه وتعالى سمى لها أجلا فلن تزول ولن تبيد قبل هذ الأجل مهما استعجل المسلمون هلاك الظالمين فلن يهلكوا ولن يبادوا حتى يستوفوا آجالهم التي كتبها الله تبارك وتعالى لهم والله يقول ? فَلاَ تَعْجَلْ(2/104)
(19/12)
---
عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَداًّ ?. فهو أجل معلوم لا يزاد فيه ولا ينقص منه والشيء الذي لا يزاد إذا أخذ منه نقص الشيء الذي إذ لا يزاد فيه كلما أخذ منه نقص والله تعالى يقول ? إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَداًّ ? فهو أجل مسمى والله يعده ومنذ وجود الأمم وهم في عد آجالهم ونقصان أجلهم إلى أن تنتهي فيحيق بهم عذاب الله سبحانه وتعالى ? فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَداًّ ? والشيء المعدود هو الشيء القليل أم الشيء الكثير هو الذي ليس له حصر ولا عدد ولذلك قال تعالى : في قصة يوسف عليه السلام ? وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ? [يوسف: 20]. ما هو هذا الثمن البخس ? دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ?. فالشيء المعدود قليل فالأمم الظالمة لها أجال معلومة ومعدودة فلا تستعجلوا هلاك الظالمين ? إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَداًّ ?. كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرأ هذه الآية بكى ?إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَداًّ ? ويقول ما بعد العد إلا الموت وما بعد العد إلا فراق الأهل وما بعد العد إلا دخول القبر ? إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَداًّ ? ما بعد العد إلا الموت إذا انتهى العدد وانتهى الأجل جاء الموت وما بعد العد إلا فراق الأهل وما بعد العد إلا دخول القبر ? أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزاًّ (83) فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ?. لا تستعجلوا هلاك الظالمين فإن الله سمى لهم أجلا فلن يبادوا قبل نهاية الأجل ولكن إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ? فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَداًّ ?. ثم ذكر الله تعالى أهوال يوم القيامة وصفة حشر المؤمنين المتقين وصفة حشر الكافرين المجرمين فقال تعالى : ? يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86)?. الوفد جمعا واحده(2/105)
وافد كركب
(19/13)
---
وراكب فالراكب واحد وجمعه ركب والوافد واحد وجمعه وفد ? يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ?. ومن عادة الوفد أنه إذا وفد وفد راكبه من عادة الوفد أنه إذا قدم قدم راكبا ومن عادة الوفد أنه إذا أتى لشيء جاء وكله أمل وكله رجاء في قضاء ما جاء له وفي إعطائه ما يسأله فالمتقون يحشرون يوم القيامة ركبانا في هيئة الوفود الراكبة وكلهم أمل ورجاء وطمع في رحمه الله تبارك وتعالى ومغفرته ? يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ?. أي ركبانا وكلهم أمل ورجاء وطمع في رحمه الله تبارك وتعالى ومغفرته والله تبارك وتعالى يقول (أنا عند حسن ظني بي) فهم يرجون رحمة الله تبارك وتعالى وسيكون الله عند حسن ظنهم إن شاء الله ? يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) ?. قال بعض المفسرين ? وِرْداً ? في مقابل ?وَفْد? فالوفد الراكب والورد الماشي الوفد الراكب والورد الماشي وقال بعض المفسرون ?وِرْداً ? أي عطاشا ? وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ? أي عطاشا لأن الله سبحانه وتعالى إذا حشر الناس في أرض المحشر بعد بعثهم من قبورهم إذا حشر الله تعالى وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد الشمس فوق الرءوس دانية وجهنم بالموقف محيطة والزحام شديد هنالك في هذه الساعة الله تبارك وتعالى يكرم المؤمنين في أرض الموقف فيطعمهم ويسقيهم يطعمهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم (تكون الأرض يوم القيامة كالخبزة يتكفأها الجبار بيمينه كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر) فالله تبارك وتعالى يجعل الأرض المبدلة يوم القيامة خبزة يطعم منها المتقين في أرض المحشر ويسقيهم من حوض النبي صلى الله عليه وسلم فهم يساقون إلى الجنة وقد شبعوا وذهب ظمأهم وزال أما المجرمين فالله يقول ? وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ(2/106)
وِرْداً ?. فقال بعض
(19/14)
---
المفسرين ? وِرْداً ? في مقابل ? وَفْداً ? فالوفد الراكب والورد الماشي وقال بعضهم الورد أي العطاش يحشرون عطاشا مشاة ولا مانع من إطلاق تفسير الآية أو اللفظ بالقولين ويجمع بينهما أنهم يحشرون إلى جهنم مشاة وهم أشد ما يكونون عطشا وظمأ والعياذ بالله ? يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (87)? المشركون اتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا فقال سبحانه وتعالى ? كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِداًّ ?. ? وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ? [يونس: 18]. فقال تعالى : ? لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ ? هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله لا يملكون الشفاعة فكيف ترجون شفاعتهم وهم لا يملكون الشفاعة إنما قال تعالى : ? قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ? [الزمر: 44]. فالشفاعة ملك الله سبحانه وتعالى ? مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ? [البقرة: 255]. لا أحد فالله تبارك وتعالى هو مالك الشفاعة وهو الذي يأذن للشافع إكراما له وإظهارا لفضله على رءوس الأشهاد يأذن لفلان من الناس أن يشفع وتكون الشفاعة محددة في هؤلاء الناس وتكون في المشفوع رحمة به تكون الشفاعة في للشافع إظهارا لفضله ومنزلته عند الله سبحانه وتعالى وتكون رحمة بالمشفوع فيه لكنها كلها لله تبارك وتعالى لا يستطيع أحد أن يشفع من غير إذن الله والشافع إذا أذن الله له في الشفاعة لن تكون له حرية الاختيار يشفع في من وإنما ? وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ? [الأنبياء: 28]. ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن الشفاعة (فيحد لي(2/107)
ربي حدا فأخرجهم من النار ثم
(19/15)
---
أعود فأشفع فيشفعني ربي فيحد لي حدا فأخرجهم من النار) فالله سبحانه وتعالى هو الذي يأذن للشافع إظهارا لفضله وشرفه على رءوس الأشهاد يوم القيامة ويحد له ويسمي له من يشفع فيهم إذا من أراد الشفاعة فليطلبها من مالكها وهو الله سبحانه وتعالى والله يقول ? لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ?. فمن اتخذ عند الرحمن عهدا أن يشفع الله تبارك وتعالى فيه الشافعين فهذا الذي ستكون له الشفاعة ومن لم يتخذ عند الرحمن عهدا فالله تعالى قال ? فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ? [المدثر: 48]. وما هو العهد الذي يحق للإنسان الشفاعة يوم القيامة العهد هو لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله خالصا مخلصا بها قلبه فهذا تناله الشفاعة يوم القيامة كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال صلى الله عليه وسلم (لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألك عنها أحدا قبلك لما رأيت من حرصك على الحديث) حين قال من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة يا رسول الله قال (يا أبا هريرة أنا كنت أعلم أنه لم يسألني هذا السؤال قبلك لأني رأيت منك الحرص على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إلا الله مخلصا بها قلبه) إذن الشفاعة يوم القيامة تكون لأهل التوحيد لأهل لا إله إلا الله الذين عاشوا عليها وماتوا عليها أما الذين ماتوا مشركين وماتوا كافرين فهم الذين قال الله تعالى فيهم ? فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ?. ? يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ? [طه: 109]. والله لا يرضى إلا عن قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له فمن قال لا إله إلا الله مخلصا به قلبه نالته شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ومن الوسائل(2/108)
التي تنال بها شفاعة النبي صلى الله عليه
(19/16)
---
وسلم أن تصلي عليه عقب الأذان وأن تسأل الله له الوسيلة كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإن من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرة ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة) ? لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ ? أي هؤلاء الذين عبدهم المشركون من دون الله ? لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ?. فالله عز وجل أو على الله عز وجل فضلا وتكرم له أن يشفع فيه من شاء من الشافعين من النبيين والمؤمنين والملائكة وغيرهم كما هو مذكور في كتب السنة في موضع الشفاعة.
(19/17)
---(2/109)
? لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ? ثم قال تعالى : منكرا على المشركين الذين نسبوا لله الولد تعالى وتقدس عن اتخاذ الولد ? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِداًّ (89) ?. الإد عند العرب معناه الداهية العظيمة الداهية العظيمة الأمر العظيم الثقيل جدا ? لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِداًّ ? ? كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ? [الكهف: 5]. ? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِداًّ (89) ? . من ثقله وعظمته ? تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ ? مع قوتها وشدتها ومكانتها ? يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ ? بسبب قولهم ? اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ? ? وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِداًّ (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً (92) ?. ? بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ? [الأنعام: 101]. الله سبحانه وتعالى لم يتخذ صاحبة أي لم يتخذ زوجة والإنسان حين يريد الولد لابد أن يتزوج فالولد لا يأتي إلا من زوجة للرجل الرجل لا يأتيه ولد إلا إذا تزوج الله سبحانه وتعالى لم يتخذ زوجة لأن اتخاذ الزوجة عنوان الضعف وعنوان العجز والله سبحانه وتعالى يقول عن أعداءنا ? وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28)? [النساء: 27،(2/110)
(19/18)
---
28]. ? وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ? وراء الشهوات وأعظمها وأشدها على الإنسان الشهوة الجنسية ولذلك قال ? وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ? أمام هذه الشهوة فاتخذا الزوجة هذا من الضعف والعجز الشاب إذا بلغ الحلم صار يفكر في الزواج تفكيره في الزواج عنوان ضعفه وعجزه لا يستطيع أن يصبر عن النساء والله سبحانه وتعالى هو القوي العزيز القادر القاهر فوق عباده فليس به ضعف يدعوه إلى اتخاذ صاحبة ولا ولدا سبحانه وتعالى ? وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ? لأنه لم تكن له صاحبة ثم إن الولد جزء أبيه والله سبحانه وتعالى أحد صمد ? لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) ? [الإخلاص: 3-4] والوالد غالبا يشبه أباه والله تعالى ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ? [الشورى: 11] ثم إن كل من في السماوات والأرض عبيد لله تبارك وتعالى ? إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ?. فما داموا عبيده يستحيل أن يكون منهم ولد يستحيل أن يكون منهم ولد لأنه لو كان ولدا لم يكن عبدا فلما كان عبدا انتفى أن يكون ولدا لأنه في سنتنا نحن البشر لو أن رجلا عنده أمة فوطأها بملك اليمين فأنجبت له ولدا الولد أبوه حر وأمه أمة مملوكة إذا ولد الولد من أمة من رجل حر فهل يتبع أمه في العبودية أو في الرق أو يتبع أباه في الحرية؟ يتبع أباه في الحرية فإذا استولد السيد أمته فولدت له ولدا ألحق بأبيه في الحرية فما دام ولدا ينتفي أن يكون عبدا فإذا كان هذا في حقكم أنتم فكذلك الله سبحانه وتعالى أولى بكل كمال من عليكم به فلو كان لله ولد لم يكن عبدا والله يقول ? إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ?. فما داموا كلهم عبيده انتفى أن يكون له منهم ولد ? وَقُلِ(2/111)
الحَمْدُ
(19/19)
---
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ? [الإسراء: 111].
? إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداًّ (94)?. أحصا الله تبارك وتعالى من في السماوات ومن في الأرض وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا كل إنسان سيعرض على الله تبارك وتعالى وحده يوم القيامة كما قال ? وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً ?. وقال تعالى : ? وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)? [ق: 20، 21]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشئم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة) ? وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً ?. كما قال ?وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ? [الأنعام: 94]. ثم قال تعالى : ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُداًّ ?. إن الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم فالإيمان التام يستلزم العمل الصالح كل ما ازداد الإيمان ازداد المؤمن طاعة لله عز وجل وكلما نقص الإيمان كثرت المعاصي وقلت الطاعات يقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر يشربها حين يشربها وهو(2/112)
مؤمن ولا يسرق السارق
(19/20)
---
حين يسرق وهو مؤمن) فكلما ازداد الإيمان في القلب كان المؤمن سريعا إلى طاعة الله بطيئا عن معصيته وكلما نقص الإيمان في القلب رأيت ذلك الإنسان سريعا إلى المعصية بطيئا عن الطاعة ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ?. أي الإيمان التام المستلزم بصالح العمل بجوارحه ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ?. من عاجل ثوابهم في الدنيا من عاجل ثواب الإيمان والعمل الصالح في الدنيا أن الله تبارك وتعالى سيجعل لهم الرحمن ودا أي محبة في قلوب العباد لأنهم تقربوا إلى الله سبحانه وتعالى بطاعته ومن تقرب من الله تقرب الله منه من تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا هكذا قال ربنا سبحانه وتعالى فالمؤمنون بصالح عملهم يتقربون إلى الله وهذا التقرب يوجب له محبة الله عز وجل كما في الحديث القدسي أن الله تعالى قال (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي إلا ما افترضت إليه ولا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولأن استعاذني لأعيذنه) ، فإذا أحب الله تبارك وتعالى هذا المؤمن الصالح الذي يتحبب إلى الله ويتقرب إليه إذا أحبه الله حببه الله تعالى إلى عباده كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أحب الله عبدا نادى جبريل يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في أهل السماء يا أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض) اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب كل شيء يقربنا إلى حبك اللهم أحبنا وحبب إلينا عبادك وحبب صالحي عبادك إلينا.
? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُداًّ ?.
(19/21)
---(2/113)
ثم تختم السورة بقوله تعالى : للنبي صلى الله عليه وسلم ? فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ?. فإنما يسرنا القرآن يا نبينا كما قال ? وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ? [القمر: 22]. قال ابن عباس رضي الله عنهما لولا أن الله يسره ما استطاعت الألسن أن تنطق بحرف منه لأن هذا كلام الله القرآن كلام الله لولا أن الله يسره فجرت به ألسنتنا ما استطاعت الألسن أن تنطق بحرف واحد من كلام الله ولكن الله أنعم علينا به وأنعم علينا بتيسيره ? فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ? . لماذا ? لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ ?. تبشرهم بما أعد الله لهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وحين تدقق النظر وتتأمل ? لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ ?. وتنظر في سابق الآيات فترى الله تعالى يقول ? تِلْكَ الجَنَّةُ الَتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِياًّ ? [ مريم: 63]. ثم تراه يقول ?وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ? . ثم ننجي من ? ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ?. ثم في آخر السورة يقول ? فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ ?. فتعلم إنما مدار السعادة في الدنيا والآخرة على تقوى الله سبحانه وتعالى مدار السعادة في الدنيا والآخرة على تقوى الله عز وجل كما قال ذلكم الرجل الصالح الحكيم ولست أرى السعادة جمع مالا ولكن التقي هو السعيد وتقوى الله خير الزاد ذخرا وعند الله للأتقى مزيد حين تعلم أن مدار السعادة في الدنيا والآخرة على التقوى تجتهد في التقوى وجماع التقوى الجماع بالواجبات وترك المحرمات القيام بالواجبات وترك المحرمات ثم قد تزيد التقوى في القلب حتى يفعل الإنسان مع الواجبات المستحبات ويترك مع المحرمات المكروهات وهذه أعلى درجات التقوى أعلى درجات التقوى أن يفعل المرء المستحبات مع(2/114)
(19/22)
---
الواجبات وأن يترك المكروهات مع المحبوبات ? فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداًّ ? . وقد قلنا الإنذار هو الإعلام بالتخويف ? وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداًّ ? . يجادلونك بالباطل ليدحضوا به الحق والله سبحانه وتعالى من وراءهم محيط ? يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ ? [التوبة: 32]. ومرة ثانية يلفت أنظار الكافرين المعاصرين إلى وجوب الاعتبار بوحدة مصير المكذبين من قبلهم ? وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ ?. وقد قلنا أن هذا السؤال للتكفير ? وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ? [الإسراء: 17]. ? وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ?. فوجب على الكافرين المعاصرين الذين يكذبونك يا رسولنا أن يحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)? [الفجر: 7- 13]. ? فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ? [العنكبوت: 40]. إن ربك لبالمرصاد لكل ظالم ولكل طاغية ولكل كافر معاند إن ربك لبالمرصاد فعتبروا يا أولي(2/115)
الأبصار وبهذا
(19/23)
---
نصل إلى ختام تفسير سورة مريم سائلين الله سبحانه وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب غمومنا وغمومنا اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا وشفعه فينا واجعله حجة لنا لا علينا وارزقنا تلاوته آلاء الليل وآلاء النهار لعلك ترضى عنا هذا والحمد لله رب العالمين وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إجابة السؤال الأول أن جبريل عليه السلام تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فحزن النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فقال فتنزلت الآية أي أن نزول جبريل بإذن الله تعالى.
أي نعم الجواب صحيح وجزاه الله خيرا.
إجابة السؤال الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال أين تريد قال أريد أخا لي في هذه القرية قال هل لك عليه من نعمة قال لا غير أني أحببته في الله تعالى قال فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته وفيه رواه مسلم وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزل) رواه الترمذي.
الجواب صحيح وجزاهم الله خيرا.
إجابة السؤال الثالث معنى ورود النار يعني دخولها وتكون على المؤمنين بردا وسلاما وينجي الله المؤمنين.
الجواب صحيح وينقصه الأدلة لأن عندنا لا يقبل شيئا إلا بدليل فنرجو من الأخوة أن ينتبهوا لهذا في الامتحان إن شاء الله إذا أجابوا لابد أن يتبعوا ذلك بالدليل الورود هو الدخول ما الدليل على أن الورود هو الدخول تذكر أدلة على ما ذكرنا إن شاء الله تعالى.
(19/24)
---(2/116)
فضيلة الشيخ الوالد حفظكم الله تعالى أرجو من فضيلتكم النصيحة العاجلة فأنا بفضل الله مواظبة على دروس الأكاديمية إلى حد كبير ولكن هذا يتعارض مع بعض واجباتي كأمة وكزوجة فهل أقوم بتأجيل الدراسة حتى يقبل الأطفال مع الحرص مع سماع بعض الدروس فقط أرجو النصيحة.
قال صلى الله عليه وسلم (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز) فزادك الله حرصك وأعانك وقواك على مسؤولياتك لكن اغتنمي الفرصة ولا تفوتيها فإن الله قال ? وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ? [لقمان: 34].
الأخ أبو أنس من السعودية السؤال الأول كيف نجمع بين قاعدتين أن الله إذا أحب عبدا قذف في قلوب العباد محبة هذا العبد وبين تكذيب وبغض وعدم محبة كثير من المجتمعات التي أرسل إليها الرسل لهؤلاء الرسل. السؤال الثاني ما رأي فضيلة الشيخ في تفسير الشيخ الشعراوي وشكرا.
وإياكم وجزاك الله خيرا.
الأخت أم ناصر من الكويت بالنسبة للاستغفار ما هي صفات المؤمنين وخصوصا المؤمنات.
الأسئلة الفقهية في برنامج الجواب الكافي.
معنا اتصال آخر من الأخ إسلام السيد من مصر كيفية تحقيق التقوى في هذا الكم من الاختلاط الفاحش في الجامعة وغيره.
ما ذكره من أن أكثر الناس كذبوا رسلهم وعصوا أمرهم وخالفوهم فلم يحبوهم يجعلنا نقول أن المراد بالمحبة في قلوب الصالحين المؤمنين فلا ترى المؤمن إلا يحب الصالحين وأما الكفار فهم أولا عادوا الله سبحانه وتعالى فلن يوالوا أولياء الله عز وجل.
الشيخ عليه رحمة الله لم يسمي تفسيره تفسيرا ولكن سماه خواطر الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه.
(19/25)
---(2/117)
السؤال يعني أظنه غير واضح ولكن إذا كانت تريد أن تسأل كيف يكون المسلم مسلما وكيف تكون المسلمة مسلمة ما هي الصفات التي يجب أن تتوفر في المسلمة حتى تكون مسلمة حقا فأعظم آية جمعت الصفات التي يجب على المسلم أن يتحلى بها هي آية الأحزاب ? إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ? [الأحزاب: 35]. إلى آخر الآية فهذه الآية جمعت الصفات التي يجب أن يتحلى بها كل مسلم ومسلمة.
اتصال من الأخ زياد من تونس هناك كثير من الناس لم يفهم الشفاعة فهما سطحيا وبسيطا مما يدفعه عن التواكل والقعود عن العمل فنرجو من فضيلة الشيخ أن يوجه نصيحة عامة في هذا الشأن.
أظننا قررنا مسألة العمل وأكدنا عليها في هذا البرنامج أكثر من مرة وذكرنا هذا القول الحكيم ما بال دينك ترضى أن تدنسه وثوبك الدهر مغسول من الدنس ترجو النجاة ولم تسلك طريقتها إن السفينة لا تجري على اليبس فترك العمل توكل على الشفاعة هذا خطأ عظيم جدا الشفاعة لمن قال لا إله إلا الله مخلصا بها قلبه ولا تتمكن هذه الكلمة من قلب إلا وتثمر العمل الصالح ولابد كما قال تعالى : ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) ? [إبراهيم: 24، 25]. فعلى كل راج شيئا أن يأخذ بالأسباب التي تؤدي به إلى تحقيق رجاءه أما الرجاء مع عدم الأخذ بالأسباب فهذا تمني والتمني لا يتحقق أبداً.
سؤالي هو نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة فكيف يقول له المولى الكريم ? فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ?. هل كان صلوات الله وسلامه عليه يتعجل عذاب وعقاب الكافرين أرجو التوضحي وجزاكم الله خيرا.
(19/26)
---(2/118)
لا شك أن الفطرة البشرية ولاسيما في وقت الاستضعاف والاضطهاد والتعذيب تتطلع إلى تعجل النصر تتطلع إلى تعجل النصر كفطرة بشرية لكن الله سبحانه وتعالى دائما كان يوجه النبي إلى الصبر ويحثه عليه والنبي صلى الله عليه وسلم بدوره كان يحث أصحابه على الصبر ويرغبهم فيه فالتطلع إلى النصر وإلى هلاك الظالمين هذه فطرة بشرية قد لا يستطيع الإنسان دفعها كما هو واقعنا اليوم كلنا نتطلع إلى الخلاص وكلنا ننتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى لكننا نصبر أنفسنا حتى يأذن الله عز وجل.
الأخ عبد الحميد من الجزائر يقول ما الفرق بين أز الشيطان للكافرين ووسوسته للمؤمنين.
نسأل الله العافية الشيطان إذا تسلط على الكافر قلنا دفعه إلى المعاصي دفعا فلا ترى الكافر إلا سريعا في معصية الله بطيئا عن طاعته أما المؤمن فالشيطان يوسوس له لكن لا يؤزه ولا يدفعه يوسوس له ثم الإيمان والتقوى في القلب حسب قوتها وضعفها تدفع هذه الوسوسة وتضدها كما ذكرنا قبل قول الله تعالى ? إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ? [الأعراف: 201].
اتصال من الأخ عبد العزيز من السعودية الله يقول في سورة المؤمنون ذكر الله عز وجل في الأقواس الخمسة الإنسان وختم بها قول الله تعالى ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ? [المؤمنون: 14]. هل هناك معنى يا شيخ أو هناك سبب في اختيار الله عز وجل في هذه الكلمة يعني مثلا ما اختار الله عز جل قال سبحان الله أحسن الخالقين.
يعني سؤال عن لفظة تبارك وأحسن يعني. لا هذا القرآن لا يسأل ولا يورد ولا يسأل عن كلام الله بهذا الكلام.
اتصال من الأخ مبارك من مصر سؤالنا أمامنا مسجد يصلي به أحد المبتدعة هل يجوز لي الصلاة وراءه وشكر.
(19/27)
---(2/119)
المبتدع لا يصلى وراءه إلا عند الضرورة إذا تعين بمعنى أننا في الصلوات الخمس المساجد والحمد لله كثيرة تقام فيها الجماعة فإذا ابتليت بمسجد قريب منك وإمامه مبتدع فاتركه وتجاوزه إلى إمام آخر من أهل السنة وإن بعدت المسافة فلك بكل خطوة حسنة لكن أحيانا يتعين علينا أن نصلي وراء المبتدع مثل لو كانت مثلا سنة التجميع تجميع الجمعة في المسجد مقامة والقرية ليس فيها إلا مسجد واحد تقام فيه الجمعة أو مثل صلاة العيد تقام في الخلاء وكل البلد يصلون خلف إمام واحد ففي مثل هذه الصلاة في مسجد الجمعة وفي صلاة العيد في الخلاء إذا ابتليت بإمام مبتدع لزمك أن تصلي وراءه ولا يجوز لك أن تترك الصلاة خلفه لأجل بدعته لأنك في هذه الحالة إما أن تصلى وإما أن تصلي فلزمك الصلاة لأن الصحابة رضوان الله عليهم صلوا خلف كل بر وفاجر وهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة كما قال الإمام الطحاوي رحمه الله ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر وذلك إذا تعينوا لكن عند السعة نتركهم ولا نصلي وراءهم لكن إذا تعينوا لا يجوز أن نترك الصلاة خلف مبتدع من أجل بدعته والله تعالى أعلم.
اتصال من الأخت أم سارة من السعودية
(19/28)
---(2/120)
جزاها الله خيرا ونشكر لها حرصها واطلاعها هناك حديث (لا يرد القدر إلا الدعاء) وهناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت اللهم متعني بأبي سفيان وأخي معاوية وزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد سألت الله لآجال معلومة أو مضروبة لكنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم دعا لأنس بن أبي مالك بطول العمر وقد وردت أحاديث (من أحب أن ينسأ له في أثره ويبسط له في رزقه فلصل رحمه) فتكلم العلماء على مسألة زيادة العمر ونقصه بالتعاطي وبالمعاصي وهل هي زيادة حسية ونقص حسي أم زيادة معنوية بمعنى من اجتهد في طاعة الله في بر الوالدين وصلة الأرحام ونحو ذلك الله يبارك له في عمره وإن قصره فيفعل في العمر القصير ما لا يفعله غيره في العمر الكثير أم أنه يكون عمره ستين عاما أو ستين سنة فالله سبحانه وتعالى يجعلها بزيادة بالدعاء وبالأعمال الصالحة سبعين مثلا أو تسعين تكلم العلماء في الزيادة كما قلت هل هي حسية أو هي معنوية والأرجح أنها زيادة حسية ولكن هذا بالنسبة لما في أيدي الملائكة من الصحف أما اللوح المحفوظ فقد سبق فيها بعلم الله وقضائه كل ما هو كائن إلى يوم القيامة لا مبدل لكلمات الله عز وجل لكن الله سبحانه وتعالى في أيدي الصحف التي بأيدي الملائكة يقول يا ملائكتي فلان هذا إذا وصل رحمه وإذا لم يصل رحمه يكون علمه كذا وقد سبق في علم الله أنه سيصل ويكون عمره كذا أن أنه لم يصل ويكون عمره كذا والله تعالى أعلم فهذا معنى ما سألت عنه الأخت الفاضلة وجزاها الله خيرا.
(19/29)
---(2/121)
اتصالين الأول من الأخ أبو يحيى من مصر شيخنا قلتم في تفسير قوله تعالى : ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ?. إن الورد هو الدخول وقلتم بارك الله فيكم في قوله تعالى : ? وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ?. أن الورد هو المشي أو العطش فالسؤال كيف نفرق بين المعنيين في الكلمة الواحدة في القرآن وما هو الظابط الذي يظبط هذه الفروق بين المعاني في الكلمة الواحدة المعاني المختلفة في الكلمة الواحدة.
جزاكم الله خيرا أخي فضيلة الشيخ معنا اتصال آخر من الأخ أمجد من مصر بالنسبة لقول الله سبحانه وتعالى ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ? [المؤمنون: 14]. يعني معنى كلمة أحسن الخالقين.
هو في الظاهر عندنا اختلاف في الكلمتين وارد وورد وارد هذا هو الورود (كلمة غير واضحة) أما الورد فهذا الذي فسره العلماء بأنه المشي أو العطش فهناك اختلاف في اللفظتين ? وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ?. ? وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ?. ففيه لفظة وفيه فارق لفظي في الكلمتين.
أحسن الخالقين هل هناك خالق إلا الله وهو يقول ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ?. هل هناك خالق غير الله حتى يكون ربنا أحسن الخالقين الجواب أن الخلق هنا بمعنى التقدير ولذلك كان من معجزات عيسى ابن مريم عليه السلام قوله ? أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ ? [آل عمران: 49]. أخلق لكم أي أقدر هنا فالخلق معناه التقدير ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ? أي أحسن المقدرين فلا خالق بمعنى الخلق الذي هو الإيجاد من العدم إلا الله سبحانه وتعالى.
اتصال من الأخت أم هيثم من مصر أسأل عن قول (كلام غير واضح) وهل هو قول العلماء.
(19/30)
---(2/122)
لا هذا حديث هذا حديث مرفوع وتستطيعين أن تحصلوا عليه إذا فتحتي رياض الصالحين في باب الأمانة ستجدي هذا الحديث بلفظه هذا إن شاء الله.
اتصال من الأخ محمد بكري من مصر رأي الشيخ عن تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا والشيخ محمد عبده.
تفسير الشيخ رشيد رضا تفسير رائع وجيد إلا أن هناك بعض الهفوات لا تقدح في التفسير ولا تعيبه وكذلك القول في تفسير الإمام محمد عبده رحمه الله هناك تفسير جيد لكن مع الحذر منه ولذلك نحن نقول على الطالب أن يبتدئ القراءة التي يثق فيها تمام الثقة حتى إذا أشرب قلبه هذا العلم كان علما صحيحا لأن الإنسان إذا بدء بالقراءة من أي كتاب أشرب قلبه ما قرء ثم قد يكون فيه شيء غير صحيح فيصعب أن يخلص نفسه منه بعد ذلك فلذلك لا نقول للطلاب لا تبدءوا بالكتب الكبيرة هذه ولا الكتب التي لا تطمئنوا إليها ابدءوا كما قلنا بمختصر تفسير ابن كثير لشيخنا الرفاعي ابدءوا بتفسير السعدي ابدءوا بتفسير الجزائري مشايخ أهل السنة المشاهير الذين تأخذ منهم وأنت مطمئن بإذن الله عز وجل.
(19/31)
---(2/123)
فضيلة الشيخ استأذنكم إذا كان أحد من الشباب لديه أي سؤال أو أي استفسار تفضل يا أخي فضيلة الشيخ فضيلتكم عندما كنتم تشرحون ? يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ?. فجاء على خاطري سورة الزمر في آخرها يقول الله الرحمن تبارك وتعالى ? وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ? [الزمر: 71]. وبعدها بآية ?وَسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَراً ? [الزمر: 7]. فسياق المجرمين معروف أو سياق الكفرة معروف لأنهم لا يريدون أن يدخلونها مما فيها من العذاب فما يكون الداعي لأن يساق المتقين إلى هذه الجنة ويعلمون ما فيها من الخير السؤال الثاني أنه في آخر سورة مريم ?فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ?. فهل يكون المقصود باللسان اللغة لغة العرب أو غيرها وجزاكم الله خير.
السؤال الأول ? وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ? ?وَسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَراً ?. هؤلاء سيقوا وهؤلاء سيقوا نحن قلنا في سورة الكهف في قصة الخضر ? أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ? [الكهف: 79]. قلنا الوراء معناه الخلف فإذا حملنا اللفظ على ظاهره الوراء بمعنى الخلف قد يكون الملك وراءهم إذن هم تجاوزوه لماذا يعمد الخضر إلى عيب السفينة وهم تجاوزوا الملك وانتهى قلنا أن الوراء من الألفاظ التي تطلق على الشيء وضده وراء بمعنى الخلف وراء بمعنى الأمام وهي هنا بمعنى الأمام وكذلك لفظ سيق في الموضعين في الموضع الأول جيء في موضع الإهانة والإذلال والموضع الثاني جاء في موضع التكريم والتشريف.
(19/32)
---(2/124)
أما السؤال الثاني سؤالك الثاني ? فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ?. قلنا اللسان يطلق على اللغة وعلى الكلام ولذلك سبق في السورة في حق الأنبياء عليهم السلام ? وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ?. قلنا المراد باللسان الثناء عبر عن الثناء باللسان لأنه يكون باللسان كما أن العرب تطلق على النعمة اليد يقول لفلان عندي يد أي نعمة لأن النعمة تكون باليد.
فضيلة الشيخ جزاكم الله خيرا ولكن لي استفسار بسيط في السؤال الأول من بعض المشايخ سمعت أن هناك المؤمنين عندما يقفون أمام الجنة سينظرون وراءهم وينظرون ويبحثون عن أناس كانوا معهم في مساجد الله فيتأخرون عن الدخول فيساقون إلى الجنة تسوقهم الملائكة إلى الجنة فهل في هذا شيء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أنا لا أعرف هذا لا أعرف الذي ذكرت أنهم يتفقدون إخوانهم قبل دخول الجنة فإنما في الحديث الصحيح أنهم يتفقدون إخوانهم عند دخول الجنة إذا دخل أهل الجنة الجنة تفقدوا إخوانا لهم حتى إنه قال يعني ما أنتم بأشد مناجاة يعني في معنى الكلام يعني أنهم يجادلون الله تبارك وتعالى ويناشدونه في إخوانهم أشد من مجادلة الرجل أخاه في حق له عنده يقولون ربنا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا فما يزالون بالله حتى يشفعهم فيه هذا التفقد في الحديث إنما يكون بعد دخولهم الجنة.
اتصال من الأخ جمال فاروق من مصر هل من مزيد في الكتب والوصايا المنبرية.
أي نعم الأربعنيات وصلت إلى عشرة أربعينيات لو تتبعت ستجد إن شاء الله أخ جمال جزاء الله خيرا.
اتصال من الأخت أم محمد من الكويت سؤالي بالنسبة للصراط المستقيم بالنسبة للورود إلى جهنم هل هو يعني هو مفهومي من قبل أن الورود يكون ماشي على الصراط من تحت جهنم أو هو دخول جهنم نفسه.
(19/33)
---(2/125)
نسأل الله أن يجعلنا والسائلة وجميع المسلمين ممن ينجيهم الله سبحانه وتعالى كما قال ? ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ?. المرور يكون في وسط جهنم ثم إنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين كما كانت على الخليل إبراهيم في الدنيا وكل على حسب عمل كل على حسب أعماله منهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كطرف العين ومنهم من يمر كراكب جواد ومنهم من يمر يجري على رجليه ومنهم من يحبو ومنهم من يقع نسأل الله السلامة والعافية فالورود معناه الدخول لكن المؤمنون على حسب أعمالهم يكون إحساسهم بالنار حتى إنه ورد في بعض الآثار لكنها ضعيفة أن المؤمنين لما يجوزوا الصراط ويعدوا الناحية الثانية من النار يسألون إحنا هل مررنا على جهنم هل عبرنا الصراط لأنهم لا يشعرون بها تماما فنرجو من الأخوة أن لا يبلغ بهم الخوف مبلغا شديدا يعني يجعلهم يردون القول لكن نقول هذا من أرجح أقوال المفسرين أن الورود هو الدخول لكن إن شاء الله تكون النار بردا وسلاما على المؤمنين بإذن الله عز وجل.
الأخت ناني إبراهيم من السعودية تقول أرجو منك مشكورة عرض مشكلتي على الشيخ فأنا مشغوفة بطلب العلم ومنذ افتتاح قناة المجد العلمية بارك الله فيها وأنا مشغولة بمتابعة الدروس ليلا ونهارا لدرجة أنني لا أجد وقتا لقراءة القرآن الكريم تلاوة وحفظا كذلك صلاة أربع ركعات قبل العصر تركتها لأن الوقت لا يكفي حتى أنني أجد قساوة في قلبي ما العمل لا تقل خصصي وقتا فمشاغل البيت والوظيفة تزاحمني أيضا أرشدني أرشدك الله.
(19/34)
---(2/126)
نسأل الله أن يهدينا سبيل الرشاد مما وصى به علماء السلف طلاب العلم أن يحفظوا القرآن أولا أن يبدءوا بحفظ القرآن ثم وصوا من فرغ من حفظ القرآن ألا ينشغل بطلب العلم عن حفظ القرآن الكريم بل يجب التعاهد وتجب المراجعة هكذا وصوا السلف رضوان الله عليهم بطلب العلم يبدأ أولا بحفظ القرآن الكريم فإذا أنعم الله عليه به فلابد أن يتعاهد القرآن ولا يجوز له أن ينشغل عن القرآن بأي علم أبدا بل يجب أن يتعهد القرآن بمراجعة كل يوم ورد مهما كانت الأشغال ومهما كانت الواجبات والمسؤوليات وبعدين ? مَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ? [الطلاق: 4].
فضيلة الشيخ الأخت سمية من السعودية تقول هل محبة الناس للصالحين دليل مطلق على أنهم من المتقين.
يعني نقول أن محبة الناس وأعني بالناس المؤمنين الصادقين نريد المحبة الدينية لا المحبة العاطفية التي تكون للبر وللفاجر لأ المحبة الإيمانية في قلوب المؤمنين لإنسان تقي تدل على أن هذا من حب الله سبحانه وتعالى أحبه الله فحببه إلى عباده والمحبة ما دام الله أحب وحببه إلى عباده فلا شك أنه عند الله مقبول بإذن الله عز وجل.
(19/35)
---(2/127)
تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : التفسير/المستوى الثالث/الحج ــ النور
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
تم تحميل الدروس من موقع (الأكاديمية الإسلاميةالمفتوحة)على الشبكة العنكبوتية
بواسطة أبو الليث العدني الرفاعي/اليمن ـ عدن
لاتنسونا من خالص دعائكم
للتنبيه حول ترتيب الدروس أو النواقص والأخطاء في التحميل أرجو التواصل شاكراًعلى بريدي الإلكتروني وهو :
Ghassanshareef123alsharef@yahoo
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الأول - تفسير سورة الحج من آية 1 - 7
الدرس الأول
تفسير سورة الحج من اية 1 - 7
مرحباً بكم وبالإخوة المشاهدين, ويسرني - في الحقيقة- أن أشارك في هذه الدورة المباركة, ويسعدني أن يكون تناولنا لبعض سور القرآن الكريم من سورة الحج وكذلك أيضاً من سورة المؤمنون وسورة النور - إن شاء الله تبارك وتعالى- سيكون لقاؤنا - إن شاء الله- متكرراً, وسأتناول هذه السور الثلاث - بإذن الله تبارك وتعالى- وفي الحقيقة سأبدأ مع مطلع سورة الحج, وسيقتصر الحديث في هذا اللقاء حول سبع آيات من سورة الحج - إن شاء الله تعالى- يدور حديثني حول هذه الآيات السبع في محاور متعددة:
المحور الأول: أمر الله -تبارك وتعالى- الناس بتقواه, ومعنى التقوى.
المحور الثاني: معنى الزلزلة ومتى تكون.
المحور الثالث: ذم المجادلين في الله -تبارك وتعالى- بغير علم.
المحور الرابع: الأدلة على قدرة الله – تعالى- على البعث والنشور.
والآن أطلب من الأخ الكريم أن يتفضل بقراءة السبع آيات التي سأتناولها بالحديث - إن شاء الله تعالى.
(1/1)
---(3/1)
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ?1? يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ?2? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ?3? كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ?4? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ?5? ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?6? وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ?7?? [الحج: 1- 7].
إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين, وبعد.
(1/2)
---(3/2)
أرحب بكم مرة أخرى - أيها المشاهدون الكرام- في هذه اللقاءات التي ستتكرر - إن شاء الله تعالى- وكما أشرت آنفاً بأن حديثي سيكون حول سبع آيات من سورة الحج وحول محاور متعددة, وكما ذكرت أن المحور الأول هو:
أمر الله -تبارك وتعالى- بتقواه ومعنى هذه التقوى: وقد ورد ذلك صحيحاً في مطلع هذه السورة ألا وهي سورة الحج, وهو قول الحق -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ? هذا الأمر من الرب - تبارك وتعالى- بتقواه ورد في مطلع هذه السورة، وقد يسأل سائل: لماذا جاء الأمر بالتقوى هنا في مطلع هذه السورة؟ لو نظرنا إلى السورة السابقة, ألا وهي سورة الأنبياء سنجد أنها ختمت بالترهيب من عذاب الله - تبارك وتعالى- ومن طي السماء وإعادة الخلق وهذا أمر يدعو الإنسان إلى أن يتأهب لما هو مقبل عليه، ومن هنا جاء أمر الله - تبارك وتعالى- للناس جميعاً بتقواه في مطلع هذه السورة، ثم علل أيضاً الأمر بالتقوى بأن الزلزلة التي ستأتي بعدُ هي شيء عظيم، وأمر الله -تبارك وتعالى- بالتقوى جاء في آيات كثيرة من القرآن الكريم, ومن ذلك أيضاً قول الحق -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَ? [النساء: 1] وكقول الحق -تبارك وتعالى-: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ? [لقمان: 33] كما أمر الله -عز وجل- المؤمنين بالتقوى في آيات كثيرة من القرآن الكريم, وقد أمر أيضاً نبيه -صلى الله عليه آله وسلم- وهو سيد المؤمنين -عليه الصلاة والسلام- أمره بتقواه: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ? [الأحزاب: 1] والأمر بتقوى الله للنبي -صلى الله عليه آله وسلم- يعني: أن يداوم -عليه الصلاة والسلام- على تقوى الحق -تبارك وتعالى- والتقوى أيضاً هي وصية(3/3)
(1/3)
---
الله -عز وجل- للأولين والآخرين كما قال - جل ذكره: ?وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ? [النساء: 131] وقد أمر الله -عز وجل- المؤمنين خاصة بأن يتقوه كما ينبغي كما جاء في قوله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ?102?? [آل عمران: 102] ومعنى التقوى - أيها الإخوة الكرام- أن يتقي الإنسان ربه وذلك بامتثال أوامره والانتهاء عما نهى عنه -سبحانه وتعالى- فامتثال الطاعات والاستجابة لأمر الله -عز وجل- والحذر من الوقوع في المعاصي والسيئات كل ذلك من تقوى الحق -تبارك وتعالى- وللسلف عبارات كثيرة في مفهوم التقوى ومعناها كما ورد عنهم مثلاً التقوى هي: الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل قبل الرحيل، وقد جاء عن طلق بن حبيب -رحمه الله تبارك وتعالى- أنه قال: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله -عز وجل- على نور من الله تخشى أو تخاف عذاب الله -تبارك وتعالى-.
(1/4)
---(3/4)
والتقوى - أيها الإخوة الأحبة- نحن جميعاً بحاجة إليها لأنها في الحقيقة تجعل بينك وبين عذاب الله -تبارك وتعالى- وقاية, حاجراً, ومانعاً من أن يصيبك عذاب الله -تبارك وتعالى- وفي هذه الآية بصورة خاصة جاء الأمر بالتقوى معللاً كما أشرت بأن ما سيعقب أمر الناس بعد ذلك من زلزال وغير ذلك وحساب وجزاء سيأتي الإشارة إليه كل ذلك يجعل الإنسان يستعد بتقوى الله -عز وجل- وأن يتخذ التقوى عدة يواجه بها ما سيقابله بعد ذلك؛ ولذلك بعد الأمر بالتقوى مباشرة جاء قول الحق -تبارك وتعالى-: ?إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ? زلزلة الساعة شيء عظيم وهذا حق. والزلزلة: هي الحركة الشديدة المضطربة وهذا اللفظ كلمة ?زَلْزَلَةَ? يفيد هذه الحركة من وجهين, وآمل أن تتأملوا ذلك, كلمة الزلزلة هذا اللفظ يفيد الحركة الشديدة والاضطراب من وجهين:
الأمر الأول: من تكرار الحرف، فالحرف الأول والثالث من جنس واحد, والحرف الثاني والرابع من جنس واحد, هذا التكرار يفيد حركة واضطراباً فكلمة مثلاً صلصل قلقل، هذا يفيد حركة واضطراباً, تكرار الحرف يفيد ذلك.
الأمر الثاني: يفيد هذا اللفظ الحركة والاضطراب من التضعيف الموجود في كلمة «زلَّ» فهذا التضعيف يفيد أيضاً شدة وحركة واضطراباً.
فالأمر إذن شديد ومخيف حقاً وجاء ذكر القرآن له بعد الأمر بالتقوى ليبين أنه يجب على الإنسان أن يتقي ما سيأتي بعد من عذاب الله -تبارك وتعالى- ويتخذ استعداداً لذلك في دنياه وذلك يكون بتقوى الحق -تبارك وتعالى-.
معنى الزلزلة أشرت إليها الآن وهذا هو المحور الثاني, وأريد أن أبين - وهذا أمر مهم- متى تكون الزلزلة؟ متى تحدث؟ الزلزلة وردت في القرآن الكريم، وردت هنا, ووردت في ?إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ?1?? [الزلزلة: 1] اختلف المفسرون - رحمهم الله تبارك وتعالى- في وقت الزلزلة، متى تكون هذه الزلزلة؟
(1/5)
---(3/5)
فذهب بعضهم: إلى أن هذه الزلزلة ستكون في نهاية هذا العالم, في الدنيا, قبل قيام الناس من قبورهم، وقالوا: وهي المعنية في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ?1? وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ?2? وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا ?3?? [الزلزلة: 1- 3] وقالوا أيضاً هي المقصودة في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ?6? تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ?7?? [النازعات: 6، 7] أو: ?وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ?14?? [الحاقة: 14] واحتج أرباب هذا القول ببعض الأحاديث أوردها الحافظ ابن كثير-رحمه الله تبارك وتعالى- وأشار إلى ضعف هذا الاستدلال, وقد سبقه إلى ذلك إمام المفسرين الإمام الطبري - رحمه الله تبارك وتعالى-
(1/6)
---(3/6)
أما القول الثاني: فهو أن هذه الزلزلة ستكون بعد قيام الناس من قبورهم وفي عرصات القيامة حينما يقف العباد للحساب والجزاء بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وهذا في الحقيقة هو القول الراجح, وتؤيده الأدلة، فقد ساق الإمام ابن كثير - رحمه الله تبارك وتعالى- بعضاً من الأحاديث التي تؤيد هذا القول, ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية وكذلك أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإيمان عن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-: (أن النبي -صلى الله عليه آله وسلم- ذكر أن آدم -عليه السلام- سينادى في يوم القيامة ويقول الله له: يا آدم, فيقول لبيك ربنا وسعديك, فينادى بصوت يقول الله له فيه: أخرج من أمتك بعث النار، فيقول آدم -عليه السلام-: وما بعث النار؟ فيقول رب العزة والجلال - سبحانه وتعالى-: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فشق ذلك على الصحابة, فقال -صلى الله عليه آله وسلم-: منكم واحد ومن يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين, فسُرِّيَ عنهم...) إلى آخر الحديث، وفيه أن النبي -صلى الله عليه آله وسلم- قال: (إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبر الصحابة، ثم قال: ثلث أهل الجنة فكبر الصحابة، ثم قال: شطر أهل الجنة فكبر الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين-) يعني: نصف أهل الجنة والشاهد من هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه آله وسلم- ذكر فيه لما قال: (أخرج بعث النار، فقال: وما بعث النار يا رب) آدم -عليه السلام- قال ذلك (فقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) هذا بعث النار، فقال النبي -صلى الله عليه آله وسلم- فهناك ?تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَ? فنص -صلى الله عليه آله وسلم- أن وضع الحامل لحملها وذهول المرضعة عن رضيعها الذي ترضعه في ذاك الوقت إنما سيكون حينما ينادي رب العزة والجلال آدمَ -عليه السلام- بأن يخرج بعث النار وسيكون ذلك في(3/7)
(1/7)
---
عرصات يوم القيامة، وهذا هو الرأي الراجح في هذه السورة أن الزلزلة ستكون بعد قيام الناس من قبورهم. والسؤال الذي يمكن أن يتبادر إلى الذهن في هذه الحال: ما معنى الزلزلة إذن؟ ونحن قلنا: بأن الزلزلة هي الحركة الشديدة والاضطراب العنيف، فما معناها إن كانت ستكون في عرصات يوم القيامة؟ وقد انتهت الحركات والاضطراب وقام الناس من قبورهم، معنى الزلزلة إذن في هذا الموطن: هو الهول والفزع والخوف الشديد، والهول والفزع والخوف الشديد يسمى زلزالاً ويسمى زلزلة، كما جاء في سورة الأحزاب في قول الحق -تبارك وتعالى- وهو يصور حال أهل الإيمان وهم في غزوة الأحزاب: ?هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ?11?? [الأحزاب: 11] فالمراد بالزلزال الذي زلزلوه هنا: هوالخوف والهلع الذي أصاب قلوبهم.
(1/8)
---(3/8)
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ?1? يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ? الضمير في ?تَرَوْنَهَ? يعود إلى أي شيء؟ يعود إلى الزلزلة ?يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ? والزهول عن الشيء: هو الانشغال عنه والانصراف عنه؛ لأن ما يقع الإنسان فيه من شدة تجعله يذهل عما حوله, والذهول عُلِّقَ هنا بأمر يجب أن نتنبه إليه ?يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ? يعني: أن المرأة التي ترضع وليدها أو طفلها وهو من أحب الناس إليها، تذهل عنه لشدة هول هذا الموقف وهو الوقوف بين يدي رب العزة والجلال – سبحانه- وهذا يفسر معنى: أن الزلزلة المذكورة في الآية شيء عظيم؛ لأنها فعلاً تجعل المرأة التي تلقم طفلها الثدي تذهل عنه, ليس الذهول واقعاً وابنها بعيد عنها، وإنما يقع الذهول أثناء إرضاعها لوليدها، ويفهم هذا المعنى من قول الله -تبارك وتعالى-: ?يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ? لأنه يقال: مرضعة, ويقال مرضع، مرضعة إذا كانت تلقم الثدي وترضع ولدها بالفعل, فيقال عندئذٍ امرأة مرضعة، أما إذا كان من شأنها أن ترضع، ولكنها لا ترضع في هذا الوقت فنقول: امرأة مرضع والقرآن قال: ?يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ? وهذا فعلاً أو حقاً أمر عظيم؛ لأنها تذهل وقت أن تلقم طفلها وترضع وليدها فعلاً ثديها وهذا لعظم الهول كما ذكر بنا - سبحانه وتعالى- وأيضاً من هوله من هول يوم القيامة ومن هول الزلزلة ومن شدتها بعدما قال: ?تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَ? أي: أن المرأة الحامل ستضع وليدها في هذا الموقف، ثم قال رب العزة والجلال: ?وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى? تراهم حينما تشاهدهم وتنظر إليهم من(3/9)
(1/9)
---
حالهم كأنهم سكارى, وواقع الأمر أنهم ليسوا بسكارى كما قال الله: ?وَمَا هُم بِسُكَارَى?؛ لأنهم لم يشربوا شيئًا يدعو إلى الوقوع في السكر, ولكن ما هم فيه؛ بسبب أن عذاب الحق -تبارك وتعالى- شديد ?وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ? وهنا قد يسأل سائل: كيف يستقيم قولك بأن الزلزلة ستكون بعد قيام الناس من قبورهم وبين قول الله – تعالى-: ?يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَ? هل ستكون بعض النساء حاملاً وهي في هذا الموطن أو سترضع ويكون لها جنين ترضعه أثناء الحساب والسؤال وما إلى ذلك؟
وحل هذا من وجهين كما أشار إليه بعض العلماء:
الوجه الأول: - وقد ضعف- أنهم قد يبعثون على ما هم عليه ويبقون كذلك إلى أن يحاسبوا، يعني: المرأة الحامل تبعث كذلك حتى بين يدي رب العزة والجلال والمرضع كذلك ولكن لا يوجد دليل على هذا.
والراجح وهو القول الثاني: أن هذا كناية عن شدة الهول والفزع الشديد كقول الحق -تبارك وتعالى- عن هذا اليوم بأن الولدان يكونون فيه شيباً، هذا يكونون فيه شيباً كناية عن شدة الهول والفزع الذي سيصيب الناس في هذا الموطن ?يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ?2??.
ثم يقول رب العزة والجلال وهذا هو حديث المحور الثالث.
(1/10)
---(3/10)
المحور الثالث: وهو أن الله -عز وجل- ذم المجادلين فيه بغير علم: فقال جل ذكره: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ?3?? وأود أن أقف هنا وقفة مع قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَمِنَ النَّاسِ?؛ لأن هذه العبارة أو هذا التعبير أو هذه الكلمة افتتحت بها بعض آيات القرآن الكريم, وأود أن أعلمكم أن الآيات التي افتتح رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بها ?وَمِنَ النَّاسِ? غالباً ما تذكر في المنافقين والكافرين والمشركين, ولو نتأمل بعض هذه الآيات, وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم في نحو عشر مرات وذلك في سورة البقرة جاء في ثلاث مرات في ثلاثة مواطن، كقول الحق -تبارك وتعالى- عن المنافقين: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ? [البقرة: 8] فكلمة: ?وَمِنَ النَّاسِ? هنا أريد بها من؟ أريد بها المنافقون ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ? أيضاً جاءت كلمة: ?وَمِنَ النَّاسِ? وأريد بها المشركين في نفس سورة البقرة كقول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ? [البقرة: 165] وجاءت مرة أخرى في سورة البقرة أيضاً في المنافقين: ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ?204?? [البقرة: 204] كما جاء ذكر هذا التعبير في سورة العنكبوت وتكرر في سورة لقمان مرتين وفي الحقيقة أرى أن الوقت يضيق أن أتتبع مثل هذا ولكني أود أن أشير أنك إذا سمعت ?وَمِنَ النَّاسِ? فاعلم أنها غالباً ما تتحدث عن المنافقين أو عن المشركين والكافرين، وكذلك الآية التي معنا هنا وقد تكرر قول الله -تبارك وتعالى- في سورة الحج، تكرر في ثلاثة مواطن كلمة: ?وَمِنَ النَّاسِ? هذا هو(3/11)
(1/11)
---
الموطن الأول ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ?3?? يجادل في الله يعني: يخاصم في الله ومعنى يجادل في الله: يخاصم بأي شيء، يعني: ينسب إلى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ما لا يليق بجلاله وكماله، والآية التي معنا وستأتي بعض الناس يجادل في البعث والنشور وما إلى ذلك وإذا توسعت في الكلام أو في الحديث حول المجادلة في الله -عز وجل- سنجد أن كثيراً من الناس في فرق الضلال والبهتان يجادولون في الله -تبارك وتعالى- بغير علم, فالذين مثلاً نسبوا الولد إلى الله -تبارك وتعالى- يجادلون في الله بغير علم, والذين يتخذون لله الوسائل والأنداد والشركاء ويتوجون إليهم ويدعونهم ويتقربون إليهم دون الله -عز وجل- أيضاً يجادلون في الله بغير علم، كذلك المبتدعة الذين يتركون ما أنزل الله على النبي -صلى الله عليه آله وسلم- ويتبعون أقوال أئمتهم ورؤسائهم في الضلال هؤلاء يجادلون في الله بغير علم، والله -عز وجل- قد ذكر كثيرًا من الناس ممن يجادل فيه بغير علم، وقد نعى عليهم فعلهم هذا وتأملوا مثلاً قول الحق -تبارك وتعالى- ?خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ?4?? [النحل: 4] وهنا ?خَصِيمٌ مُّبِينٌ? في من؟ في الله -تبارك وتعالى- وما سأشير إليه بعد قليل من مجادلة المشركين في أن الله -عز وجل- سيعيد الناس للبعث والجزاء من جديد، هذا أيضاً جدال في الله -عز وجل- بالباطل، وبغير علم، وقد حكى الله -عز وجل- ما دار بين إبراهيم وبين الملك العاتي الجبار الذي لم يؤمن برب العزة والجلال, وكيف أنه جادل وحاج إبراهيم في الله -تبارك وتعالى- كما قال جل ذكره: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ? [البقرة: 258] واللهِ إنها لمصيبة كبيرة أن يكون هذا العبد المخلوق الضعيف الذي خلقه الله -تبارك(3/12)
وتعالى- وفعل
(1/12)
---
له ما فعل, يأتي ويجادل ويخاصم وفيمن؟ فيمن خلقه، فيمن ركبه، فيمن سواه، فيمن يطعمه, فيمن يتولى أمره وما إلى ذلك ... إنه حقاً هو الضلال المبين، وقد ذكر رب العزة والجلال في هذه الآية وأشار إلى أن بعض الناس أو ?مِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ? وقبل أن أنتقل إلى قوله: ?وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ? أود أن أقف أيضاً هنا وقفة يسيرة فيمن يجادل في الله بغير علم؛ لأشير إلى أن الجدال ليس كله مذموماً، أو باطلاً، فالذي يجادل لإحقاق الحق وإبطال الباطل ويجادل بعلم، هذا محمود، والله -عز وجل- قد أثنى على من يجادل بالحق في كتابه كما قال جل ذكره: ?وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? [العنكبوت: 46] وكما قال جل ذكره: ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? [النحل: 125] فهنا أثنى رب العزة والجلال على الجدال المحمود الذي يكون عن بينة ويكون عن علم ويكون بالتي هي أحسن، أما من يجادل بغير علم فمن هو إمامه ومن هو قائده وإلى أي شيء استند, ما هو الحجة والبرهان وما الدليل الذي يسير خلفه أو يتبعه إنما هو في الحقيقة لا يتبع إلا الشيطان، ?وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ? يعني: هذا الذي يجادل في الله بغير علم هو في الحقيقة ما هو إلا متبع لمن؟ للشيطان، هو يوصف الشيطان بأنه ?مَّرِيدٍ? والمريد معناها ماذا؟ معناه: العاتي الجبار العنيد، فالذي يجادل في الله بغير علم، بل إنني أقول: كل من يجادل في الله -تبارك وتعالى- بغير علم في الحقيقة ليس له إمام وليس له قائد يتبعه إلا من؟ إلا الشيطان الذي لعنه رب العزة والجلال – سبحانه وتعالى- والله -عز وجل- يحذر من طاعة الشيطان واتباعه ويبين هلاك ومصير هؤلاء الناس الذين يجادلون في الله بغير علم والذين اتبعوا الشيطان(3/13)
فيقول: ?كُتِبَ عَلَيْهِ
(1/13)
---
أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ?4?? ?كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ? يعني: كتب على من تولى الشيطان, والكتابة هنا كتابة قدرية أزلية يعني: أن الله -عز وجل- قدر ذلك في الأزل, ونحن نعلم - كما هو معتقد أهل السنة والجماعة- أن رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- قضى بكل ما هو كائن وواقع إلى قيام الساعة، سواءً كان محبوباً أو مكروهاً ولعلي آتي - إن شاء الله تعالى- في وقت لاحق - بإذن الله تعالى- أبين بعضاً من معاني هذه الأمور, ولكني أقول: كل ما يقع في الكون إنما يقع بإرادة الله -سبحانه وتعالى- ومشيئته وقدرته فحينما يقول: ?كُتِبَ? هنا والكتابة مرتبة من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر يعني: كتب الله -عز وجل- كتابة أزلية في كتاب عنده -عز وجل- أن من اتبع الشيطان, أن من تولاه يعني: من اتبع الشيطان واتخذ الشيطان ولياً من دون الله -تبارك وتعالى- فالشيطان يضله، الشيطان يغويه ويضله أين؟ يضله في الدنيا, أما في الآخرة ?وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ? وكلمة: الهداية هنا استعملت في الشر وهذا استعمال عربي معروف، فكما أن الهداية تستخدم في الإرشاد إلى الخير والفلاح تستعمل أيضاً في الدلالة على الشر، كما في هذه الآية وكما في قول الحق -تبارك وتعالى- مثلاً في سورة الصافات ?فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ? [الصافات: 23].
ثم بعد ذلك آتي إلى المحور الرابع:
(1/14)
---(3/14)
المحور الرابع: وهو الأدلة على قدرة الله -تبارك وتعالى- على البعث والنشور: وهذه الأدلة سيقت في كثير من آيات القرآن الكريم وتضمنتها آية جليلة كريمة في هذه السورة، وهي التي قال رب العزة والجلال فيها: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ? إن كنتم في ريب يعني ماذا؟ إن كنتم في شك، فالريب هو الشك ?إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ? يبدأ ربنا -سبحانه وتعالى- في هذه الآية الأدلة على البعث والجزاء والنشور، وعلى أنه -سبحانه وتعالى- سيعيد الناس للوقوف بين يديه والحساب والجزاء ثم بعد ذلك سيكون فريق في الجنة وفريق في السعير كما أخبر رب العزة والجلال - سبحانه- عن ذلك, وأنا - إن شاء الله تعالى- من خلال هذه الآية سأبين بوضوح الأدلة التي سيقت فيها على البعث والجزاء والنشور وعلى أن الله -سبحانه وتعالى- يعيد الناس بعد ذلك من جديد، ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ? ?فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم? من صيغة الجمع ?مِّن تُرَابٍ? هل نحن خلقنا من تراب جميعاً؟ أم ما المقصود بذلك؟ هل أجد عند أحد جواباً؟
المقصود آدم -عليه السلام-
المقصود آدم -عليه السلام-؛ لأن خلق آدم كما أخبر ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه وفي كثير من آيات القرآن الكريم وأيضاً الحديث يطول حول هذا أو حول الاستدلال وهو واضح فآدم -عليه السلام- هو الذي خلقه الله -عز وجل- من تراب، والله حينما يقول: ?فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ? لأننا فروع نتبع الأصل، أما الخلق الذي كان من تراب فهو آدم -عليه السلام- ثم خلق الله -عز وجل- زوجه منه, ثم بعد ذلك جاء الخلق عن طريق التزاوج والتناسل كما هو معروف ومشاهد في دنيا الناس اليوم.
(1/15)
---(3/15)
ثم ذكرت الآية بعد ذلك أطوار خلق الإنسان بعدما قال رب العزة والجلال، ?فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ? وأشرت إلى ذلك أن المراد بذلك آدم -عليه السلام- ووجه الأمر إلينا لأننا فروع نتبع ونرجع إلى الأصل ثم بعد ذلك تمت الأطوار عن طريق التناسل كما ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- وبعد التزاوج يُخلق الإنسان في رحم أمه في أطوار مختلفة متعددة أشارت إليها هذه الآية فبعدما قال: ?فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ? قال – سبحانه- ثم ماذا؟ ?مِن نُّطْفَةٍ? والنطفة: هي الماء القليل، الذي أشار إليه ربنا -سبحانه وتعالى- في بعض آيات القرآن الكريم بأنه من ماء مهين ثم بعد ذلك قال: ?ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ? والعلقة: هي الدم الجامد، الدم الجامد يقال له: علقة ?ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ? والمضغة: هي القطعة الصغيرة من اللحم على قدر ما يمضغها الإنسان, وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث المتفق عليه وأيضاً ورد في السنن والمسانيد: (إن في الجسد مضغة) فالمضغة: هي القطعة من اللحم بقدر ما يمضغها الإنسان، هذه هي الأطوار التي أشارت إليها الآية التي يمر بها الإنسان بداية وهو في رحم أمه، والسنة المطهرة قد بينت مقدار كل طور في ذلك، كما جاء هذا في حديث الصادق المصدوق، حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- لما قال: (حدثنا الصادق المصدوق) يعني: النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- (بأن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوم نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يرسل إليه الملك) الله -عز وجل- يأمر ملكاً فيرسل إليه ينفخ فيه الروح ويؤمر بأن يكتب أربعة أمور يكتب أجله ورزقه وشقي أو سعيد, وهذا الحديث يبين أن هذه الأطوار التي هي النطفة ثم العلقة ثم المضغة مدتها كم يوم؟ مائة وعشرون يوماً, ونفخ الروح إذن يكون في بداية الشهر الخامس أقول هذا لأن الآية لها تعلق بهذا الموضوع؛ لأن الله -عز وجل- بعدما قال: ?ثُمَّ مِن(3/16)
(1/16)
---
مُّضْغَةٍ? قال: ?مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ? واختلف أيضاً العلماء في معنى كلمة ?مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ?، فقيل: مخلقة يعني: كاملة تتم وتضعها المرأة دون نقصان، وغير المخلقة هو السقط الذي تضعه المرأة قبل أن يتم، وقيل: المخلقة هي التامة الكاملة السليمة من العيوب.
وغير المخلقة: هي التي يمكن أن يكون بها تشويه أو ما إلى ذلك ?مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ? لماذا؟ ماذا قال الله -عز وجل- بعد ذلك؟ قال: ?لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ? يعني: لنبين لكم أيها الناس المخاطبون, يا من تشكون في البعث وتنكرون حشر الناس بعد ذلك؛ لنبين لكم قدرتنا على ذلك، وفي ذلك إشارة - أيها الإخوة الكرام- حينما ذكر ربنا -عز وجل- هذه الأطوار إشارة لطيفة في هذه الكلمات من هذه الآية وهي: أن الله -عز وجل- استدل بهذا الخلق الأول وبهذه الأطوار على إعادة الناس بعد ذلك من جديد، ومن يخرج الناس من العدم إلى الوجود, الذي يخرج الناس من العدم إلى الوجود هل يستحيل عليه أن يعدهم مرة أخرى؟ أو يعجزه ذلك؟ وبالتالي ذكر هذه الآية وذكر هذا الدليل فيها وهو الدليل الأول لأن هذه الآية اشتملت على دليلين:
(1/17)
---(3/17)
هذا هو الدليل الأول: وهو الإشارة إلى الخلق الأول الذي خلقه رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وقد استدل ربنا -سبحانه وتعالى- في آيات أخر على هذا الخلق الأول, استدل به على النشأة الأخرى في أكثر من آية من القرآن الكريم كقول الحق -تبارك وتعالى: ?وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ? [الروم: 27] والله -عز وجل- يخاطب الناس بما يعقلون، وإلا فلا يوجد هين وأهون عند رب العزة والجلال؛ لأنه إذا أراد شيئًا قال له ماذا؟ كن فكان ورب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهذا أمر بدهي واضح لدى الناس, فالذي يجهز أول مرة لا يعجزه أبداً بحال من الأحوال أن يعيد ما خلق مرة أخرى، ولما كان هذا الأمر من الوضوح بمكان ذكر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أن من أنكر ذلك قد نسي الخلق الأول، يعني: من أنكر واستغرب واستبعد إعادة الناس من جديد قد نسي الخلق الأول وإلا لو لم ينسه ما جادل في ذلك وما أنكره, قال الله -عز وجل-: ?وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ? [يس: 78] يعني: أن هذا المخاطب لو لم ينسَ أن الله -عز وجل- أنشأه أول مرة وأنه أخرجه بقدرته من العدم إلى الوجود ما ذكر ذلك وما أنكر البعث والنشور، ?قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ? [يس: 78] ماذا استدل الله عليه؟ استدل الله -سبحانه وتعالى- بالنشأة الأولى: ?قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ? [يس: 79] وهناك الكثير من الآيات حتى في الآيات التي في آخر سورة يس وغير ذلك كثير من الآيات تبين هذا المعنى وتوضحه وتستدل على أن الذي أوجد الخلق أول مرة قادر -سبحانه وتعالى- ولا يعجزه ولا يستغرب أو يستبعد بحال من الأحوال أن يعيده بعد ذلك مرة أخرى من جديد وكيف يستبعد الإنسان ذلك أو يمكن أن يدور هذا في عقله ومن يفعل ذلك فلا شك أنه من الكافرين الخارجين عن دين الله -تبارك(3/18)
(1/18)
---
وتعالى- ولذلك رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- ذكر أن المنكرين للبعث هم الذين كفروا به -سبحانه وتعالى-: ?زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ?7?? [التغابن: 7] فهؤلاء الذين أنكروا البعث غاب عنهم هذا الدليل الواضح، غاب عنهم هذا الخلق الذي خلقه رب العزة والجلال وأنشأه في أطوار متعددة والذي يفعل ذلك لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولذلك ربنا -سبحانه وتعالى- ذكر لزكريا -عليه السلام- كلاماً عجيباً يحتاج إلى أن نفهمه وأن نتأمله: جزء من آية من القرآن الكريم وتدل على أمر عظيم ولكن قد يغيب استدلالنا بهذا على من ينكر البعث والنشور وعلى قدرة رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-: زكريا -عليه السلام- بشر بالولد وكان قد بلغ من الكبر عتياً كما جاء في القرآن الكريم، المهم أن زكريا استبعد هذا, لماذا؟ لأن امرأته بلغت سن اليأس ففي سن يستحيل أن تلد فيه النساء كما هو معلوم وهو أيضاً كبير, ربنا -سبحانه وتعالى- استدل بخلقه لزكريا -عليه السلام- على عظيم قدرته وعلى أنه يفعل ما يشاء، ماذا قال له في سورة مريم؟ ?قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ? [مريم: 9] لما استبعد ?وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا? [مريم: 9] فالخلق الحقيقة بهذه الأطوار دليل واضح على أن الله -سبحانه وتعالى- يعيد الناس إلى البعث والجزاء والحساب من جديد وأن هذا لا يستبعده عقل عاقل بحال من الأحوال؛ لأنه من الوضوح بمكان، والذكر في هذه الآية ذكر الأطوار يدل على عظيم خلق الحق -تبارك وتعالى- حينما يقول: ?مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى? لأن بعض من النساء يسقط جنينها قبل أن تلد وبعض النساء تلد جنيناً مكتملاً(3/19)
بعد ستة
(1/19)
---
أشهر أو في سبعة أشهر أو تسعة أشهر أو في فترات متفاوتة حول هذا ولذلك قال: ?وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى? ثم أشار رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أيضاً إلى أن الإنسان بعد أن يخرج من بطن أمه ماذا يكون حاله؟ ?ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ? ثم نخرجكم طفلاً يعني: تكون ضعيفاً، ثم بعد ذلك يشب الإنسان ليبلغ شيئًا من الكمال والقوة والتمام، وبعد ذلك بعض الناس يموت وهو في عنفوان شبابه ?وَمِنْكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ? يعني: يؤخر إلى الهرم وإلى الخرف وإلى الضعف وإلى النقص كما قال رب العزة والجلال – سبحانه-: ?اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ? [الروم: 54] كذلك أخبر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- في هذه الآية بأنه يفعل ذلك.
وأنتقل بعد ذلك للدليل الثاني حتى لا يضيق الوقت بي:
(1/20)
---(3/20)
الدليل الثاني: على البعث والجزاء مذكور أيضاً في هذه الآية وهو في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً? تراها هامدة: ميتة ليس بها نبات وليس بها زرع, أرض قحلاء صحراء لا ماء فيها ولا نبات ?وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ? يعني: تحركت ?وَرَبَتْ? لما فيها من زرع يعني: ارتفعت ?وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ?، هذا هو الدليل الثاني على البعث والله -عز وجل- يقول للمخاطبين: إذا كان الله -عز وجل- يحيي الأرض بعد موتها فهل يعجز أيضاً أن يحيي الإنسان بعد موته؟ ولذلك في سورة فصلت يقول رب العزة والجلال: ?إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى? [فصلت: 39] الذي يحيي هذه الأرض هو أيضاً يحيي الموتى, فالأرض كانت قحلاء جامدة لا ماء فيها لا زرع لا خضرة لا نبات, ثم بعد ذلك تصير خضراء يانعة جميلة تسر الناظرين تنبيت نباتاً متعدداً مختلفاً كما قال: ?وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ? [الحج: 5] بهيج يعني: حسن؛ لأن البهجة هي الحسن، وبمعنى: الإشراق والجمال. بعد أن ذكر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- هذين الدليلين على البعث والحساب والجزاء وقيام الناس بين يدي رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- رتب على ذلك أموراً خمسة ذكرها في الآيتين التاليتين على هذه الآية:
(1/21)
---(3/21)
الأمر الأول: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ? يعني: أن الذي يفعل ذلك هو الحق هو المتصف بصفات الجلال والكمال -سبحانه وتعالى- ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى?؛ لأن الآية السابقة سيقت للدلالة على هذا الأمر: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ?6?? -سبحانه وتعالى- فرب العزة والجلال يتصف بالقدرة المطلقة التي لا يعجزه شيء بسببها في الأرض ولا في السماء -سبحانه وتعالى- فهو الذي يقول للشيء: كن فيكون، وهو الذي خلق هذا الكون بقدرته ولو تأمل الإنسان ما في هذا الكون من مخلوقات جليلة يراها الإنسان بعينه وأمور أخرى لا يراها بعينه، يدرك بعين البصيرة والنظر والتأمل أن قدرة الله -سبحانه وتعالى- لا تقف عند حد، هذه أمور ذكرها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وذكرت منها ثلاثة الآن، أن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير، أما الأمر الرابع فقد أشار إليه رب العزة والجلال – سبحانه- ?وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَ? لماذا هذا الأمر والإشارة؟ لأن الله -عز وجل- في حديثه في مطلع هذه السورة يؤكد البعث والساعة والجزاء ووقوف الناس بين يديه -سبحانه وتعالى- ?وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَ? يعني: لا شك فيها يعني: يا أيها المستمع اعلم وانتبه أن ما أخبر رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- واقع لا محالة ولا يجوز بحال من الأحوال أن يشك الإنسان في خبر الله -تبارك وتعالى- أو أن يصاب بشيء من الريب أو الضلال أو الانصراف عما أخبر به رب العزة والجلال سبحانه, ثم بعد ذلك يختم ربنا -عز وجل- هذا السياق مؤكداً ما سبق أن أشار إليه، وهو قول الله -تبارك وتعالى-: ?وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ? لماذا؟ لأن قضية إخراج الناس وبعثهم من قبورهم كانت من القضايا التي أثار المشركون(3/22)
(1/22)
---
حولها جدلاً كبيراً، وجادلوا فيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأنكروا هذا الأمر, وقد كان هذا من الأمور المعروفة قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقد وجد قوم ذكرهم القرآن الكريم أو سماهم بالدهريين هؤلاء الناس قالوا: ?مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ? [الجاثية: 24] ثم تبعهم على هذا قوم - وللأسف الشديد- يوجدون في كل زمان ينكرون قدرة الرب -سبحانه وتعالى- على البعث والجزاء والنشور، وأنا أود أن أتعرض لهؤلاء؛ لأنه قد يوجد طائفة كبيرة من هؤلاء الناس في دنيا الناس حتى اليوم, تنكر وجود الله -عز وجل- وتنكر قدرة الرب -تبارك وتعالى- وبعضهم رفع شعاراً: ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر. وهذا - في الحقيقة- من الضلال بمكان، ولا يجوز لعاقل يعرف ما يقول أن يتفوه بمثل هذه الكلمات؛ لأن الإنسان لو نظر إلى نفسه لعلم وأدرك أنه مخلوق ضعيف, خلق من عدم ولا يملك من أمره شيئًا ولا من نفسه، ولا يستطيع أن يحرك ساكناً, الإنسان نفسه لا يستطيع أن يحرك ساكناً, إذا لم يرد رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أن يحركه, فما بال الإنسان يخاصم في رب العزة والجلال سبحانه, ويذهب إلى أنه لا يمكن أن يعيد الناس بعد ذلك إلى الحساب والجزاء؛ لأن الساعة والبعث والجزاء والنشور وحديث القرآن الكريم عن كل ذلك يدعو الناس إلى أن يتحسسوا مواطن أقدامهم فيتقوا ربهم -سبحانه وتعالى- ولذلك ربنا -عز وجل- لما افتتح السورة بتقواه قلت: علل ذلك بذكر الزلزلة وبذكر الساعة, وما يدور, وبعث الناس من القبور؛ كي يستعد الإنسان ويتخذ من التقوى طريقاً إلى أن يتجنب ما يمكن أن يحدث له مما لا يحب أن يكون أو أن يقع، ثم إنه -أيها الإخوة الكرام- يجب أن نواجه الملاحدة الذين ينكرون قدرة الله على البعث والجزاء، يجب أن نواجههم بهذه الأدلة النقلية العقلية؛ لأن هذه(3/23)
أدلة نقلية،
(1/23)
---
ومعنى نقلية: أنها نقلت إلينا بالتواتر في كتاب رب العزة والجلال. ومعنى أنها عقلية يعني: أن الإنسان يستطيع أن يصوغ من الدليل النقلي دليلاً عقلياً يلزم به المنكرين للبعث والنشور أو الذين ينكرون قدرة رب العزة والجلال – سبحانه- على أنه يفعل ما يشاء, كأن تأتي إلى الإنسان المجادل أو المنكر فيمكنك أن تقول له: إن كنت حقاً صادقاً وعلى يقين مما تقول فإن كان بإمكانك أن تؤخر أجلك ولو لحظة واحدة فأخره، هذا دليل واضح للجميع الموت, يأتي الواحد منهم وهو لا يستطيع أن يؤخره لحظة واحدة وهذا على أنه مربوب مقهور، خرج من العدم ثم أخرجه رب العزة والجلال بعد أن أوجده في أطوار مختلفة كما أشارت إليه هذه الآية, ثم بعد ذلك يميته, ثم بعد ذلك يبعثه من جديد؛ لأن من فعل هذه الأمور كلها لا يعجزه أن يفعل ما يشاء -سبحانه وتعالى- والله -عز وجل- إذا أراد شيئًا قال له ماذا؟ قال له: كن, فيكون، وهذا مما يجب أن نتنبه إليه وأن نتعلمه وأن نعرفه وأن نخرج من هذا اللقاء بمعنىً واضح ألا وهو أن نتقي رب العزة والجلال سبحانه؛ للأهوال التي ستأتي بعد ذلك، وأن نقر ونوقن بأن رب العزة والجلال سيجمع الخلائق جميعاً وأنه – سبحانه- لا يعجزه شيء من ذلك؛ لأنه إذا أراد شيئًا كان؛ لأنه القادر؛ لأنه الذي يفعل ما يشاء، وأنه -سبحانه وتعالى- هو الذي يتولى أمر الناس جميعاً وهو الخالق الفاطر الذي خلق الناس وأبدعهم من هذا الكائن الذي لم يكونوا فيه من قبل, فنحن كنا من عدم, ثم خرجنا في هذا الكون والذي أخرجنا هو رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- وهذا يدعونا إلى أن نقدر رب العزة والجلال حق قدره، وأن نعرف عظمة رب العزة والجلال سبحانه وأنه -عز وجل- يتصف بصفات الجلال والكمال والعظمة، ولذلك جاء في كتاب الله -عز وجل- ما يشير إلى هذا المعنى، حينما ذُكرت هذه الأطوار وذلك في قول الله -عز وجل- في سورة نوح: ?مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ(3/24)
للهِ وَقَارًا ?13?
(1/24)
---
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ?14?? [نوح: 13، 14] وهذه من الفوائد التي يجب أن نخرج بها من هذا اللقاء وهو: أننا نقدر رب العزة والجلال وأن نعرف عظمة الله -سبحانه وتعالى- في كونه وأنه -سبحانه وتعالى- يفعل ما يشاء وأننا يجب أن تخضع رقابنا لله -عز وجل- فلا نخاصم ولا نجادل في الله -عز وجل- وأنى لمخلوق ضعيف ينكر قدرة الله -سبحانه وتعالى- وكل ما نراه يدل ويشهد بقدرة الله -سبحانه وتعالى- على الفعل التام، وعلى القدرة الكاملة التي بها يفعل ما يشاء؟!!!
وأكتفي في هذا اللقاء بهذه الكلمات على أمل أن ألتقي بكم - إن شاء الله تعالى- في لقاء قادم, إلى ذلك أصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الأخت الكريمة من الكويت تقول: ما الراجح في وقت الزلزلة المذكور في قوله تعالى: ?إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ? هل هو قبل القيامة أم عندها أم على عرصات القيامة كما ورد ذلك في التفاسير؟
(1/25)
---(3/25)
سبق أن ذكرت أثناء الحديث اختلاف المفسرين في ذلك, والراجح أن ذلك سيكون في عرصات يوم القيامة، وقد ذكر الإمام البخاري الحديث الذي أشرت إليه والذي ذكره هو والإمام مسلم وأيضاً أصحاب السنن: (وأن الله -عز وجل- ينادي آدم -عليه السلام- فيقول له: أخرج بعث النار ثم يقول عندئذٍ : وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: عند ذلك ?تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَ? هذا نص صريح في أن الزلزلة ستكون في هذا الوقت, وحتى لا يشتبه الأمر على السادة المشاهدين قلت أيضاً: بأن معنى الزلزلة لأني لما ذكرت الزلزلة معناها: الحركة الشديدة والاضطراب قلت معنى الزلزلة إذن: هو الخوف والرعب الشديد، بدليل ما حصل للمؤمنين في غزوة الخندق أنهم قال الله -عز وجل-: ?هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ?11?? [الأحزاب: 11] لم يحدث اضطراب للأرض أو لم يحدث لزلزال بالمعنى المعروف أو المشاهد الذي نشاهده أحيانًا وإنما معناه: هو الخوف والرعب والذهول الذي أصاب المؤمنين في ذلك الوقت.
الأخت الكريمة من السعودية تقول: يا شيخ أنا إنسانة يعني ملتزمة محافظة بشدة -ولله الحمد- لكن عندما أذكر الموت أحس برهبة شديدة مما يجعلني كأني أصرخ أو شيء من ذلك، فما أدري, هل هذا نقص إيمان؟
(1/26)
---(3/26)
لا.. - إن شاء الله- هذا علامة على وجود الإيمان, ومن المرغبات أن يذكر الإنسان الموت؛ لأن الإنسان يتذكر الموت, بل إنه سنة للرجال أن يذهبوا للمقابر كي يتذكروا الموت فيتذكروا المصير فالإنسان حينما يتذكر الموت لاشك أن هذا سيدفعه إلى تقوى رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- لأنه يعرف أنه سينتقل من هذه الدار التي يتنعم بها بشيء من النعيم أو يتلذذ بشيء من الطيبات وما إلى ذلك, سيكون الموت هو نهايته في هذه الحياة الدنيا وسينقطع عنه النعيم الذي هو بين يديه، وقد يغفل الإنسان وهو في ظل هذا النعيم أو في غفلة وهو سائر في الحياة الدنيا عما يجب عليه وعما يجب أن يقوم به من الطاعات تجاه رب العزة والجلال – سبحانه- أو أن يقع في بعض المعاصي والسيئات والذنوب فالإنسان حينما يتذكر الموت, يُتوقع أن يكون هذا التذكر دافعاً للإنسان إلى أن يخاف عذاب الله -تبارك وتعالى- وأن يستعد للقاء الله -عز وجل- فأقول للأخت الكريمة السائلة: بأن هذا ليس ضعف إيمان وإنما هو - إن شاء الله تعالى- يتوقع منه أن يكون من زيادة الإيمان ومن الحرص على الخير - إن شاء الله تبارك وتعالى-.
الأخ الكريم من المغرب يقول: هل هذه الطريقة صحيحة في تعلم التفسير مثلاً: عند حفظي سورة الحج أطلع على تفسير فضيلتكم إلى جانب تفسير ابن كثير وتفسير السعدي والتفسير الميسر وأيسر التفاسير وهكذا كل سورة نطلع عليها في الأكاديمية - إن شاء الله تعالى- فما رأي فضيلتكم؟
(1/27)
---(3/27)
أقول للسائل الكريم: هذه أيضاً طريقة فيها شيء من التوسع، هي أولاً طريقة صحيحة، لأن ما ذكرته من كتب ترجع فيها كتب تفسير القرآن الكريم على منهج أهل السنة والجماعة، ويعني بهذه المناسبة أود أن أوجه نصيحة لإخواني المشاهدين لأنهم حينما يقرؤون تفسيراً لكلام الله -تبارك وتعالى- يجب أن يقرؤوا تفسيراً على منهج أهل السنة والجماعة لأن بعض كتب التفسير قد امتلأت بكثير من الحشو أو أن المفسر قد يكون معتقداً لفكرة معينة، أو لمنهج معين أو لمذهب مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة، فالإنسان يجب أن يتميز في المصادر التي يرجع إليها، فإذا استمعت إلى شرح التفسير هنا ورجعت إلى تفسير الحافظ ابن كثير فهذا ما نلتزم به في الأكاديمية أو رجعت إلى تفسير الشيخ السعد - رحمة الله تعالى عليه- أو توسعت فرجعت حتى إلى تفسير الشيخ محمد أمين الشنقيطي فهذه كتب مفيدة - إن شاء الله تعالى- وإن كان لديك سعة من الوقت فلا مانع أبداً أن تتعرض لهذه التفاسير كلها لتستزيد وإن اقتصرت على تفسير الحافظ ابن كثير - إن لم يكن هناك فرصة للقراءة- فهو حسن, والله أعلم.
الأخ الكريم من الولايات المتحدة الأمريكية يقول: فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: إذن نفخة الفزع غير الزلزلة لأنها تكون قبل الساعة؟ وهل القائل أن الزلزلة قبل الساعة يرون أنها تحدث مع نفخة الفزع؟
(1/28)
---(3/28)
جزاك الله خيراً, النفخة جاءت في الأحاديث وأشار إليها القرآن الكريم وستحدث أو ستكرر في أكثر من موطن والذين قالوا: بأن الزلزلة قبل الساعة قالوا: بأنها ستكون قبل الساعة بقليل بدليل أنها أضيفت إلى الساعة وقالوا: الإضافة هنا لقربها منها، كما يقال: أشراط الساعة، وما جاء في قول الحق -تبارك وتعالى-: ?إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ?1?? [الزلزلة: 1] وغير ذلك من الآيات التي أشارت إلى رجفة الأرض أو الآيات التي جاء فيها ?إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ?1?? [التكوير: 1] أو ?إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ?1?? [الانشقاق: 1] كل هذا سيكون انقلاباً هائلاً كونياً قبل قيام الساعة بقليل ولذلك أضيف إلى الساعة لقربه منها كما يقال: أشراط الساعة.
الأخت الكريمة من مصر تقول: كنت أريد أن أسأل الشيخ: نحاول أن نتقي الله حق تقاته، لكن في الحياة كلما حاولنا أن نتقي الله في موقف صاحبه بعض الرياء فكيف الخروج من هذا الموقف؟
بسم الله الرحمن الرحيم, هذا - في الحقيقة- قد يكون من تلبيس الشيطان على الإنسان كي يصده عن العمل الصالح فعلى العبد أن يسعى في تقوى الحق -تبارك وتعالى- وذلك بامتثال الطاعات واجتناب المعاصي والسيئات ولا يدخل الشيطان عليه من باب أنه إذا فعل ذلك أنه سيكون واقعاً في الرياء وما إلى ذلك، على العبد أن يخلص نيته وأن يصلحها بالتوجه الكامل لرب العزة والجلال سبحانه، وأن يخلص لله -عز وجل- في كل أعماله، فيتوجه بكليته إلى الله -عز وجل- ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك لأن الشيطان حريص على أن يصد الناس عن الخير، فالإنسان يسعى في الطريق الصحيح وإذا جاءه الشيطان من هذا الباب فليدفعه وليستعذ بالله منه ولكن عليه أن يوطن نفسه بأن يوجه أعماله كلها لله -تبارك وتعالى-.
(1/29)
---(3/29)
ذكرتم أننا إذا وجدنا في كتاب الله -عز وجل- قول: ?وَمِنَ النَّاسِ? فهذا يتحدث عن المنافقين أو الكافرين وقد جاء في كتاب الله –تعالى- ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ? [البقرة:207]؟
جزاك الله خيراً، أنا كنت أود أن أسمع هذا السؤال منك لأني علمت أنك حريص عليه، ولعله فات عنك وما أدري الإخوة سيتنبوا لهذا؟ أنا قلت: في الغالب، إذا جاء ?وَمِنَ النَّاسِ? فهي ستكون متعلقة بالمنافقين أو الكافرين أو المشركين وذكرت الأدلة على ذلك من القرآن الكريم، ولا يمنع هذا أن تأتي كما في الآية, وأيضاً هي جاءت ومن نفسه وسط الآيات، وأيضاً فيها مدح، ?وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ?201??.
الأخت الكريمة تقول: السلام عليكم, سمعت من أحد المشايخ في رمضان في قناة فضائية أنه كان في روسيا أناس يوزعون القرآن على كل واحد مرة في الأسبوع ولأنهم لا يقرؤون العربية فعندما يقرؤون القرآن ينظرون إليه ويقولوا: هذا كلام الله, هذا كلام عظيم، وأنا أعلم أناساً لا يعرفون القراءة ولا الكتابة فهل يمكن أن يعملوا ذلك؟ لأنهم يحاولون أن يتقربوا إلى الله بأن ينظروا إلى القرآن فقط؟
فينظروا في القرآن ويقولوا: هذا كلام الله, هذا كلام عظيم؟
هذا كلام الله, هذا كلام عظيم، هناك أناس قالوا لي: إن ذلك بدعة ؟ لكن هل ثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك؟
(1/30)
---(3/30)
حقيقة بالنسبة للقرآن الكريم حتى الأعاجم الذين لا يعرفون اللغة العربية يتعلمون القرآن الكريم وهذا أمر مشاهد وواقع أن بعض الأعاجم لا يعرف اللغة العربية ولا يتكلم بها، ولا يفهمك إذا خاطبته بها ولكن إذا قرأت عليه القرآن الكريم مرة ومرة سيتعلمه وينطق به وهذا من فضل الله -تبارك وتعالى- وقد شاهدنا هذا مئات المرات، ولا أقول: عشرات المرات، يعني قد قابلت في حياتي العملية مئات مما لا يعرفون العربية يقرؤون القرآن الكريم فالأولى في مثل هذا الموطن أن نرتل القرآن الكريم على هؤلاء، وأن نكرره على آذانهم، فسيسمعوه ويتعلموه، وإذا صعب على إنسان ما, أن يقرأ القرآن الكريم فلنذكر له معاني القرآن الكريم باللغة التي يعرفها حتى يستفيد منها؛ لأنه بمجرد النظر دون أن يتعلم شيئًا ماذا سيستفيد؟ نحن نريد أن نعلمه آيات القرآن الكريم التي فيها أوامر تأمر بتقوى الله -عز وجل- وبطاعة الله -عز وجل- وفيها من التشريعات ما فيها حتى يقوم بعملها، كذلك حتى ينتهي عما نهى الله -سبحانه وتعالى- عنه، فإذا لم يفهم ذلك وأصبح يكرر كلمة واحدة بأن هذا القرآن عظيم.
حقاً هذا القرآن عظيم، والله -عز وجل- شهد لكتابه بهذا في القرآن الكريم وهذا أمر معلوم ولكن أود أن أقول: ما الفائدة التي ستعود على من يكرر هذا اللفظ دون أن يعرف شيئًا من القرآن الكريم قراءة فيتعبد لله -عز وجل- به أو أن يعرف معنى من معاني القرآن الكريم فيلتزم بشيء من الأوامر أو ينتهي بشيء من النواهي؟!! فالصواب في مثل هذه المسألة أن نكرر ولا يضيع الوقت عنا سدى وعنه، ينظر دون أن يتعلم ودون أن يفهم؟ لا... أن نكرر عليه بعضاً من آيات القرآن الكريم وأن يفهم أيضاً بعض معاني هذه الآيات من خلال اللغة التي يعلمها، والله أعلم.
الأخت الكريمة من مصر تقول: هل قوله تعالى: ?وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى? لكل الناس مؤمنهم وكافرهم أم أن المؤمنين مستثنون من هذا؟
(1/31)
---(3/31)
الحمد لله, لا شك أن الله -عز وجل- يخفف عن أوليائه وأحبابه ما سيكون في يوم الدين وقد ورد ذلك في سنة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لما ورد مرة بأن هذا اليوم أو وصف في القرآن الكريم بأن مدته خمسون ألف سنة فلما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- بأنه يخفف على المؤمن حتى كأنه كاليوم الواحد، يخفف عن المؤمن، ولكن من هو المؤمن؟ هذا الذي ينبغي أن نسأل أنفسنا هذا السؤال، يعني إن نستعد وأن نحقق فعلاً الإيمان الكامل لرب العزة والجلال, حتى ننال هذه المنزلة العالية والمرتبة الرفيعة.
الأخ الكريم يقول: ألا نأخذ بظاهر القول في أن المرضعة والحامل تبعث على صفتها يوم القيامة إذ قد يقودنا القول الثاني إلى القول بالتأويل من غير دليل؟
(1/32)
---(3/32)
في الحقيقة, المفسرون - رحمهم الله تبارك وتعالى- تعرضوا لهذه المسألة كما ذكرت ووجه استبعادهم للأمر الأول: أنه لا يوجد دليل عليه, وقوله -سبحانه وتعالى- فيه بأن المرضعة ستذهل عن رضيعها وأن الحامل ستضع حملها لا يعني أنها ستبعث على الهيئة التي كانت عليها في الدنيا, لا يصلح هذا دليلاً؛ لأنها ستتحلل يعني لو أن حاملاً ماتت وهي حامل فأجسادها تتحلل, فلا يوجد دليل على أنها ستعود بحملها في ذاك الموطن وفي هذا المكان، ولذلك ذكر أهل العلم أو رجح كثير من المفسرين ومنهم الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- والشيخ محمد أمين الشنقيطي, بل إن الإمام الشنقيطي نص على أنه لا يوجد دليل نستدل به على من يقول: بأن المرأة التي ماتت وهي حامل ستبعث أيضاً وهي حامل، لا يوجد دليل على ذلك، فيبقى أن يكون هذا كناية عن الكرب والفزع والهول، ولا يعد هذا من باب التأويل، وإنما هو تفسير للمعنى فالله -عز وجل- كما ذكر المفسرون استدلوا بأن الله -عز وجل- قال في هذا اليوم ?يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبً? [المزمل: 17] ولن يكون الولدان شيباً، لأنه لا يكون هناك شيب يوم القيامة وإنما هذا كناية عن الهول والفزع الذي سيحدث والكناية أسلوب عربي من أساليب اللغة، ولا يتعلق هذا بصفات الله -تبارك وتعالى- أو بأسمائه أو بشيء مما يتعلق به حتى نقول: بأننا نفتح على أنفسنا باباً من أبواب التأويل، وإنما هذا تفسير للمعنى، وعلى كل حال فالمفسرون - رحمهم الله تبارك وتعالى- ذكروا هذا وذكروا هذا ولكنهم رجحوا القول الثاني, العلم عند الله -تبارك وتعالى-.
الأخ الكريم من تونس يقول: عندما يأتي الخطاب للناس كما في بداية السورة فإلى من يتوجه هذا الخطاب؟
الأخ الكريم من مصر يقول: قول الله -سبحانه وتعالى- يصف المؤمنين بأنهم يوم القيامة سكارى هل يترنحون ويسقطون مثل السكارى أم ماذا؟
الأخ الكريم كان يسأل عن الخطاب في أول السورة إلى من يتوجه هذا الخطاب؟(3/33)
(1/33)
---
الحقيقة - يا أخي الكريم- القرآن الكريم جاء فيه نداء متكرر وعلى أوجه مختلفة فالله -عز وجل- نادى مرة بني آدم ونادى الناس جميعاً كما نادى أهل الكتاب كما خص أهل الإيمان بالنداء وحينما يأتي النداء موجهاً إلى قوم معينين فهو إلى ما وجهه الله -تبارك وتعالى- فالله -عز وجل- حينما يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ? [الحشر: 18] فيكون النداء موجهاً إلى المؤمنين، وعلة النداء معروفة في مثل هذه الحالة، وأنا في الحقيقة كنت أود أن أتعرض لهذا لكن خشيت في البداية أن لا أستطيع أن أوفي الحلقة حقها فلم أتعرض لمثل ذلك.
النداء للمؤمنين بلفظ الإيمان كي يحرك فيهم الشعور بالاستجابة لله -تبارك وتعالى-؛ لأن من شأن المؤمن أن يقبل على رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والله -عز وجل- ينادي أهل الكتاب كي يستمعوا ويقبلوا على أمر الله -تبارك وتعالى- ويستجيبوا له ويخصهم في مواطن هم بحاجة إليها، وحينما ينادي رب العزة والجلال بني آدم أو ينادي الناس جميعاً هذا نداء عام للجميع، كما في هذه الآية وكما في آية وقد تلوتها سابقًا آية سورة النساء: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ? [النساء: 1] فالمؤمنون أمروا بالتقوى وهنا الناس جميعاً قد أمروا بتقوى الله -عز وجل- والمؤمنون من الناس، فيدخلون في أمر الله -تبارك وتعالى- بتقواه, فالشاهد من ذلك أن النداء بلفظ الناس يعم من خلقه الله -عز وجل- من البشر.
الأخ الكريم من مصر كان يسأل هل الناس يوم القيامة يترنحون مثل السكارى؟
(1/34)
---(3/34)
لا... لا يترنحون ويمكن في خلال التفسير قد أشرت إلى ذلك وفي الآية دليل عليه قال: ?وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى? والرؤية هنا بصرية كما هو الراجح وقد تكون علمية ولكن لماذا؟ لأن الناس ستشاهد بعضها بعضاً، قال: ?وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى? ثم قال: ?وَمَا هُم بِسُكَارَى? سكارى يعني: الذي يراهم يشبههم بمن؟ بالسكارى من هول هذا الموقف، يعني كأنهم في ذهول في شدة في خوف أو رعب شديد، وهم في الحقيقة لم يصبهم السكر الذي يجعلهم يتساقطون؛ لأنهم لم يشربوا خمراً ولذلك قال الله: ?وَمَا هُم بِسُكَارَى? ولكن علة مشاهدتهم على هذه الحالة أن عذاب الله -سبحانه وتعالى- شديد كما ذكر ربنا -سبحانه وتعالى- في الآية.
الأخت الكريمة من مصر تقول: شيخنا الفاضل هل معنى أن الروح ينزل بها الملك بعد مائة وعشرين يوماً أن هذا الجنين ليس فيه حياة؟ أرجو توضيح ذلك لأن جهاز الموجات فوق الصوتية يظهر نبض الجنين منذ ثمانية أسابيع بصورة واضحة, معذرة أسأل لأن قضية المائة وعشرين يوماً جعلت بعض الشيوخ يجيزعمليات الإجهاض قبل هذا الوقت؛ لأن الروح لم تبعث بعض في حين أن من يرى الجنين في هذا الوقت يجده تمام الكمال حتى أظافره، فما هي الحقيقة بارك الله فيكم؟
في الحقيقة يجب أن نفرق بين أمرين:
(1/35)
---(3/35)
الأمر الأول: حياة الجنين عندما تبدأ النطفة وتوضع في رحم الأم، في الحقيقة قرأت في هذا لبعض أهل العلم وذكروا أنه بمجرد وضع النطفة في الرحم هذا جنين في بداية الخلق والتكوين وهو يمكن أن نقول: بأن فيه حياة لماذا؟ لأنه ينمو، النمو دليل على الحركة وعلى أن فيه حياة، أما نفخ الروح في هيئة لا يعلمها إلا رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- فلا تكون إلا في الموطن الذي جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأود أن أوجه وأن ألفت نظر إخواني المشاهدين في مثل هذه الحالة، أننا حينما نقول: بأن الروح تنفخ في بداية الشهر الخامس أنه يمكن أن يعتدى على الجنين قبل ذلك، لماذا؟ لا يجوز بحال من الأحوال لأنه خلق من مخلوقات الله -تبارك وتعالى- وله حرمة وأنه ينمو وأنه ينبت ثم إنه في القضاء عليه قضاء على إنسان أراد الله -عز وجل- أن يكون، لما وضع في الرحم، وإن سقط أو حصل ما حصل سيكون أيضاً بقضاء الله وقدره، ولكن من أين علم الإنسان أنه لن يتم مثلاً؟ فحينما نقول: بأن الروح ستنفخ فيه في بداية الشهر الخامس لا يعني ذلك أننا نقطع الصلة عما قبل الشهر الخامس أو أننا نجيز أن يفعل الإنسان في الجنين وفي رحم أمه ما يفعله لأن الروح بالطريقة التي يعلمها رب العزة والجلال لا تكون إلا في هذا؟ لا.... هو قبل الخمسة أشهر أيضاً، أو قبل أن تنفخ الروح فيه، هو كائن به حياة لأن به نمواً، ولا يعني أن تكون به الحياة فيه روح؛ فالنبات ينمو وهذا النمو حياة لهذا النبات وبدون روح، فهذا المخلوق وهو في بطن أمه به روح ويتحرك وينمو ويشب شيئًا فشيئاً فلا يجوز الاعتداء عليه أما الروح بالطريقة التي ذكرها النبي -عليه الصلاة والسلام- فنؤمن بها كما وردت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وهذه مسألة غيبية.
(1/36)
---(3/36)
الإخوة الكرام من مصر لهم رجاء وهو أنهم لم يسمعوا من فضيلتكم شرحاً وافياً لكلمة ?مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ? فيرجوا من فضيلتكم أن تبينوا لهم باختصار؟
في الحقيقة, لو رجع الإخوة إلى بعض كتب التفسير لوجدوا أن خلافاً كبيراً في هذه المسألة، وأنا ذكرت فيها أمرين:
الأمر الأول: أن معنى مخلقة يعني أنها تولد بعد تمامها ولا تسقط، وغير مخلقة هي السقط، وقد جاء هذا عن كثير من المفسرين، ووردت هذه الأقوال في كتب التفسير منسوبة إلى مجاهد وإلى غيره.
والرأي الذي رجحه بعض الأئمة وفيه إشارة في تفسير ابن كثير إلى ترجيحه وإن لم ينص عليه هو رأي الإمام قتادة - رحمه الله تبارك وتعالى- وهو أن معنى مخلقة يعني كاملة سليمة من العيوب، هذا معنى مخلقة, وغير مخلقة أنها بها شيئاً من النقص أو التشويه أو شيئاً من العيوب. وفي الحقيقة أقول هذا, وقد رجح الشيخ الأمين الشنقيطي -رحمه الله تبارك وتعالى- ذلك، وخالف في هذا الإمام الطبري, فالإمام الطبري رجح أن ?مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ? هو الكمال يعني: أن ولادة الجنين كاملاً أو لا يولد كاملاً كأن يسقط قبل أن تتم ولادته بطريقة طبيعية، فرجع ذلك ابن جرير، لكن خالفه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تبارك وتعالى- وهذا في الحقيقة عند النظر والتأمل أراه حقاً لعله هو الصواب وهو قول أيضاً أحد أئمة المفسرين ألا وهو الإمام قتادة - رحمه الله تبارك وتعالى-.
فضيلة الشيخ هلا تفضلتم بطرح أسئلة هذه الحلقة؟
بسم الله الرحمن الرحيم, نعطي السادة المشاهدين والإخوة الحاضرين ثلاثة أسئلة - إن شاء الله تعالى-.
السؤال الأول: اختلف المفسرون في وقت الزلزلة المذكورة في سورة الحج, اذكر الأقوال في ذلك مع الترجيح.
السؤال الثاني: ما معنى: ?يُجَادِلُ فِي اللهِ?؟ وهل الجدال بكل أنواعه مذموم؟ وضح ذلك.
(1/37)
---(3/37)
السؤال الثالث: قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ …? إلى آخر الآية... يدل على أمر عظيم, اذكره مدعماً إجابتك بدليلين من القرآن الكريم.
(1/38)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الثاني - تفسير سورة الحج من الآية 8 إلى الآية 17
المحاضرة الثانية
تفسير سورة الحج من آية 8 إلى الآية 17
ستستمعون - إن شاء الله تعالى- بعد قليل إلى الآيات التي سأتناولها - إن شاء الله تبارك وتعالى- وهذه الآيات كما تعلمون من سورة الحج وسيدور حديثي فيها حول المحاور التالية:
المحور الأول: مع المجادلين في الله مرة أخرى.
المحور الثاني: نموذج بشري من نوع غريب.
المحور الثالث: فهو بيان أن الله - تبارك وتعالى- يتفضل على أهل الإيمان بجنات تجري من تحتها الأنهار.
المحور الرابع: فهو في بيان أن الله نصر نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة.
المحور الخامس: هو بيان أن الله – تعالى- هو الذي يفصل بين أهل الأديان المختلفة ويقضي بينهم بالحق.
والآن نستمع إلى هذه الآيات التي سنتناولها بالشرح - إن شاء الله تعالى-:
(2/1)
---(3/38)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ?8?ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ?9?ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ?10?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ?11?يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ?12?يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ?13?إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ?14?مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ?15?وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ?16?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ?17??[الحج: 8: 17] .
جزاك الله خير
المحور الأول: مع المجادلين في الله مرة أخرى.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين, وبعد..
(2/2)
---(3/39)
فآمل أن ننتبه إلى هذه الآيات وإلى تفسيرها وشرحها بعد أن استمعنا إليها جميعاً, وأدعو إلى الانتباه أخشى أن يجذبكم فقط صوت الشيخ الكريم - جزاه الله خيراً- وتنصرفوا عن الكلام الذي سيتلوا بعد.
هذه الآيات والتي افتتحها القارئ بقول الحق - تبارك وتعالى-: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ? هذا التعبير هل سبق معنا أم لم يسبق؟
نعم سبق معن
سبق معنا في الآية الثالثة في هذه السورة وبنفس الحروف الأولى والكلمات الأولى في الآية الثالثة ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ?3??[الحج: 3] والآية الثامنة التي معنا مقدمتها كتلك: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ? ولو تأملتم - أيها الكرام- أن الآية الأولى التي وردت مفتتحة بقول: ? وَمِنَ النَّاسِ ? جاءت بعد الحديث عن الساعة وهولها وشدتها وعظمتها وكربها وهولها فكأن الله - عز وجل- يريد أن يلفت النظر وأن يقرر أمراً وهو مع شدة القيامة وأهوالها وعذابها وزلزلة الساعة يوجد أيضاً من يجادل في الله بغير علم.
(2/3)
---(3/40)
أما آية هذه اللقاء وهي الآية الثامنة بترتيب المصحف والتي افتتحت أيضاً بنفس الأسلوب السابق: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ? هذه جاءت بعد إثبات قدرة الرب -تبارك وتعالى- على البعث وعلى إحياء العظام من جديد, وعلى أن الله - سبحانه وتعالى- يفعل ما يريد, فكأن الآيات تقول: مع إثبات ذلك, مع إثبات قدرة الحق -سبحانه وتعالى- وسلطانه وعظمته يوجد أيضاً من يجادل في الله بغير علم يعني التكرار هنا له فائدة ومهم لأن التكرار وقع بعد أمر يختلف عن الآخر وهو يلفت نظر المستمع والقارئ إلى أنه ما كان ينبغي أن يكون ذلك وأن يقع وأن يوجد من يجادل في العظيم الكبير المتعال - سبحانه وتعالى- أيضاً أيها الكرام قيل في قول الحق - تبارك وتعالى- في الآية الأولى ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ?: هذه نزلت في الأتباع الجهلاء الذين يقلدون غيرهم بغير علم, وهناك دليل في الآية يدل على ذلك، يعني في الآية الأولى نزلت وحديثها ينصب على المقلدين الذين يقلدون غيرهم؛ لأن الله قال: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ? وبعدها ويتبع فهو إذن ليس تابعاً وإنما هو متبوع فهو مقلد جاهل سائر خلف غيره, لا يعرف عن الحق شيئاً وقد يسأل سائل يقول: المقلد لا يجادل؛ لأنه ليس عنده علم. والجواب عن ذلك: أنه يجادل محاكاة لأساتذته, يحاكيهم في الجدال ويخاصم بتقويم ما هو عليه من الباطل بدون علم كما ذكرت هذه الآية.
(2/4)
---(3/41)
أما الآية التي معنا: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ? نزلت في المتبوعين, نزلت في أئمة الضلال الذين يتبعونهم هؤلاء المقلدون الجهلاء فالآية الأولى في المقلِّدين والآية الثانية في المقلَّدين ويدل على ذلك أن الله - سبحانه وتعالى- قال: ? ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ ? يعني: هذا المجادل الذي جاء ذكره في الآية الثامنة وصفته الآيات بصفات تدل على أنه إمام متبوع عند هؤلاء الجهلاء, قال: ? ثَانِيَ عِطْفِهِ ? والقرآن الكريم يصور لنا تصويراً دقيقاً حال هذا الشخص الذي يتبعه الجهلاء وما هو عليه وانتبهوا معي حينما أذكر لكم هذا التفصيل كأنكم تشاهدون صورة حقيقية لهذا الرجل قال: ? ثَانِيَ عِطْفِهِ ? يعني: لاوٍ عنقه, وهذا تصوير لهيئته وحالته.
(2/5)
---(3/42)
أما أدلته: فكما قال الله - عز وجل-: ? وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ? ليس عنده دليل واضح وليست عنده حجة وبرهان يجادل بالباطل ليس عنده علم فهو كما وصفته الآية يستكبر عن الحق ? ثَانِيَ عِطْفِهِ ? الأمر الثاني: لا برهان عنده ولا دليل عندما يقوم بالجدال أو بالمحاجة أو لكي يدعو أتباعه إلى أن ينخرطوا في سلكه ليس عنده برهان على ما يقول غايته في ذلك صورته الآية وذكرته محصورة في كلمة واحدة وهي أنه يود أن يضل الناس عن الحق الذي جاء من عند الله - عز وجل- أما حياته فقد ذكرت الآية كما قال الله - عز وجل-: ? لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ? وآخرته ? وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ? أرجع فأقول: قول القرآن الكريم عن هذا الرجل المجادل الذي يتبعه قوم من الجهال ? ثَانِيَ عِطْفِهِ ? يدل على أن هذا الرجل يستكبر عن الحق الذي جاء من عند الله - تبارك وتعالى- لأن ثاني العطف يدل على ذلك وعطف الرجل يعني: جنبه يعني: يولي عن الحق مستكبراً عنه لا يستجيب له ولا يقبله, وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدل على أن الكافرين كانوا يستكبرون عن الحق وخاصة جاءت هذه الآيات في سياق الحديث عن المنافقين ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ? [المنافقون: 5] فهم يعرضون عن الحق ويستكبرون عليه وبخصوص فرعون بالذات فالقرآن يصوره تصويراً أيضاً دقيقاً يفيد هذا المعنى كما جاء في قول الحق - تبارك وتعالى-: ? وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ?38? فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ?[الذاريات: 39] فإذن القرآن الكريم يصور أعداء الحق أنهم يستكبرون عليه, ولكن في قول الله - تبارك وتعالى-: ? لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ? إشارة إلى أن الحق - تبارك وتعالى-(3/43)
(2/6)
---
يعامله بنقيض قصده فهو استكبر عن الحق فيذله رب العزة والجلال - سبحانه وتعالى- وكم من أناس استكبروا عن الحق فأذلهم الله - عز وجل- في الدنيا قبل الآخرة. أين فرعون؟ أين هامان؟ أين قارون؟ أين أبو جهل؟ أين هؤلاء وهؤلاء ممن استكبروا عن الحق؟ ما وصلوا إلى ما أرادوا ويؤكد ذلك قول الحق - تبارك وتعالى- عن هؤلاء وأمثالهم: ? إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ?[غافر: 56] في صدورهم كبر ولكن لا يبلغهم شيء ولن يصلوا إلى حقيقة هذا الأمر وهذا تقرير من القرآن الكريم بالإهانة والمذلة لهؤلاء الناس, وكما أن الآية ذكرت بأن الله يذلهم في الدنيا كذلك أيضاً سيذلهم رب العالمين - سبحانه وتعالى- في الدار الآخرة وهم يستحقون ذلك جزاءً وفاقاً لإعراضهم واستكبارهم عن الحق الذي جاء من عند الحق -تبارك وتعالى- تأملوا قول الحق - جل ذكره- في سورة المعارج: ? يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ?43? خَاشَعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ?[المعارج: 43: 44 ] فالآية إذن صورت هذا المجادل بغير علم, المتبوع تصويراً دقيقاً ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ?
- أدلته: أنه ليس معه دليل ? بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ?
- صورته التي يظهر بها على الناس: ? ثَانِيَ عِطْفِهِ ?
- غايته: الإضلال عن سبيل الله - تبارك وتعالى-
(2/7)
---(3/44)
- مصيره: في الدنيا المذلة والمهانة والقرآن الكريم بين في آية أخرى أن الذل أيضاً معه في الآخرة وهو أيضاً في الآخرة في عذاب الجحيم كما قال الحق - تبارك وتعالى-: ? لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ? والحريق يعني العذاب المؤلم الشديد وهو يستحق ذلك لأنه صرف الناس عن الحق - تبارك وتعالى- ثم يخاطب القرآن الكريم هذا الرجل المجادل بالذات لماذا؟ لأنه إمام في الضلال إمام متبوع تتبعه أمة على هذه الفساد والضلال الذي هو عليه, يخاطبه القرآن متهكماً به ? ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ? ? ذَلِكَ ? يعني: ما يحدث لك بسبب ما قدمت يداك, والله لا يظلم الناس شيئاً بحال من الأحوال وهذا فيه تبكيت له يعني: نالك الذل في الدنيا وسينالك في الآخرة والعذاب المحرق المؤلم أيضاً في الآخرة أيضاً بسبب ما أسلفت في الأيام الخالية وقد يقول قائل: لماذا نسب الله - عز وجل- الكفر الواقع من الإنسان إلى اليد والإنسان الكافر يقع منه الكفر ويقع منه غير ذلك من الذنوب والمعاصي والكفر وهو أعظم ما يفعله الكافر في دنياه حينما لم يؤمن برب العزة والجلال لا يقع باليد وإنما بكون بالقلب واللسان فلمَ قال الله - عز وجل-: ? ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ? ؟ قال أهل العلم: هذا أسلوب عربي معروف وذلك أن العرب تضيف الأعمال إلى اليد, لماذا؟ لأنها الجارحة التي يفعل الإنسان بها معظم الأفعال فغلبت عليه, إلى جانب أنه يترجم بيديه عما قام في قلبه من كفر بالله - تبارك وتعالى- فتكون أعماله في غاية من الضلال ومعظمها يكون بيديه لذلك قال الله له: ? ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ? ثم قال رب العزة والجلال: ? وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ? أود أن أقف هنا معكم عند قوله تعالى: ? وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ? أولاً: التعبير
(2/8)(3/45)
---
بقوله: ? وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ? ليدل وليسشر إلى هؤلاء المستكبرين أنهم استكبروا على من على الرب الخالق الموجد - سبحانه وتعالى- وما كان ينبغي ذلك والإنسان المخلوق الضعيف يجب أن يطأطئ رأسه لخالقه ونحن نشاهد في الدنيا أنه إذا أنعم إنسان على آخر ربما مال إليه ووقف إلى جواره ولله المثل الأعلى، فما بالك يا عبد الله بالذي خلقك وأوجدك وتفضل عليك وأعطاك ما أعطاك في هذا الكون العظيم وهو رب السماوات والأرض وما كان ينبغي على العبد الضعيف أن يستكبر على الرب - سبحانه وتعالى- ولذلك موقع كلمة الرب في قوله تعالى ? وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ? في مكانه ، لو جئنا لكلمة «ظلام» نجدها صيغة مبالغة تفيد نفي الظلم المبالغ فيه عن لله - تبارك وتعالى- مع أن أصل الظلم منفي عن الله - تبارك وتعالى- وقد نفى الله - سبحانه وتعالى- عن نفسه الظلم في كتابه في آيات كثيرة من القرآن الكريم كقول الحق - تبارك وتعالى- ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ?[الأنبياء: 47] وكما قال جل ذكره: ? وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ?[الكهف: 43] ? إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ?[النساء: 40] يعني: الشيء الحقير الذي لا يراه الإنسان بعينه فكيف عبرت الآية أو جاءت الآية فقالت ? وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ? نفت المغالاة والمبالغة في الظلم وقد يفهم الإنسان منها بأن أصل الظلم موجود والأمر ليس كذلك.
ولكن كيف نوجه الآية؟ إذن: كيف نفهم ? وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ? وهي صيغة مبالغة؟ للعلماء فيها أقوال:
الوجه الأول: قالوا: بأن الصيغة هنا ليست للمبالغة وإنما هي للنسب ويصبح معنى الآية: وما ربك بذي ظلم للعبيد.
(2/9)
---(3/46)
فإذن تكون نفت أصل الظلم قال بعض أهل العلم: بأن الصيغة هنا ليست للمبالغة وإنما هي للنسب ويصبح معنى الكلام: وما ربك بذي ظلم للعبيد - سبحانه وتعالى- هذا وجه.
الوجه الآخر: قالوا: إنه عبر بصيغة المبالغة هنا بالنظر إلى كثرة العبيد, اليوم العالم الذي نحن نعاصره ونعايشه مليارات فما بالك منذ أن خلق الله الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فالعبيد كثيرون فنفى ربنا - سبحانه وتعالى- الظلم وجاء بصيغة المبالغة لنفي الظلم المنفي الواقع وأنه لا يكون بحال من الأحوال ليقابل ذنوب العباد الكثيرة يعني: أن الله - سبحانه وتعالى- على فرض لو ظلم سيكون الظلم كبيراً لظلم العباد لأنفسهم وهذا لا يليق برب العزة والجلال - سبحانه وتعالى- والنبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته قد روى عن رب العزة والجلال - سبحانه وتعالى- الحديث القدسي المعروف: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالمو) فالله - عز وجل- حرم الظلم على نفسه ونفى عنه أصله في كتابه وأصله يعني: أدنى ظلم للعباد لا يظلمه ولا يفعله ومن صفات رب العزة والجلال - سبحانه وتعالى- أنه هو الحكم العدل فلا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون, والتوجيه الذي ذكرته في الآية أعتقد بأنه يحل ما يمكن أن يرد من إشكالات حولها إما أن تكون المبالغة هنا للنسبة وإما أن يكون المراد من أن الله - عز وجل- نفى ظلمه الذي يمكن أن يقع على العبيد نفاه بمقابلة كثرة الظلم أو كثرة العبيد الذين سيقومون بالمعاصي والسيئات وما إلى ذلك، فناسب أن يأتي بصيغة تدل على كثرة هؤلاء العبيد الذين يمكن أن يقع منهم هذا الظلم وأعتقد أن هذا أمر واضح بمكان.
المحور الثاني: نموذج بشري من نوع غريب:
(2/10)
---(3/47)
وهذا النموذج مذكور أيضاً في قول الحق - تبارك وتعالى-: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ ? وهذه الآية كما أشرت ربما سابقاً ورد فيها قول الله تعالى: ? وَمِنَ النَّاسِ ? كم مرة؟ ثلاث مرات هذه المرة الثالثة في قول الحق - تبارك وتعالى-: ? وَمِنَ النَّاسِ ? قال هنا في هذه الآية: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ ? هذه الآية تقدم لنا نموذجاً غريباً لقوم في غاية من السفه والضلال، لقوم يتخذون العقيدة مجالاً للمتجارة والمقامرة والمغامرة، لم يطمئن قلبه إلى الإيمان ولم يدخل إلى قبله اليقين ولكنه ينظر بعين المنفعة والمصلحة, لا يؤمن بالله - عز وجل- إيمان رجل قائم على اليقين والحق أو الإيمان الصادق الذي يجعل الإنسان يذعن بقلبه وينطق بلسانه ويعمل بجوارحه ولكنه ربما يمكن أن أعبر عنه فأقول: يرصد الأحداث من خارج الإيمان فإذا وجد ملجأً يطمع فيه أو مصلحة يمكن أن يحققها أعلن أنه من المؤمنين وإن وجد الأمر على غير ما يحب انصرف وسرعان ما انصرف, والقرآن يصور هؤلاء القوم فيقول: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ ? على حرف قيل: يعني على شك يعني ليس عنده يقين وقيل: على حرف يعني على طرف كما نقول مثلاً: حرف الجبل يعني طرف الجبل لماذا يقف على الطرف؟ لماذا يقف على الحرف؟ الآية أجابت عن ذلك ? فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ? إن وجد فيه مصلحة أو أن هناك منفعةً أو أنه سيحقق مكاسب أو أرضاً جديدة بالعبارات التي يمكن أن نعبر عنها ? فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ? وقال: الأمور تمام وتمشي وهذا دين لا بأس به ? وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ? والفتنة: هي البلاء, والابتلاء يقع في الناس جميعاً والابتلاء يكون بالخير ويكون بالشر والابتلاء أصله محنة يبتلي الله - عز وجل- بها الإنسان ليظهر هذا الإنسان ويعلم هل هو على حق ويقين وإذعان وصدق أم أنه ليس كذلك. وهذا(3/48)
(2/11)
---
إن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة يعني: بلاء ارتد وانتكس ? انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ? وإذا فعل ذلك وإذا انقلب على وجهه ? خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ? يؤكد هذا المفهوم وهذا المعنى - من أن المراد بقوله: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ ? قوم ينظرون من الخارج إلى الإسلام إن وجدوا مصلحة دخلوا وإن وجدوا ما لا يحبون انصرفوا - الحديثُ الذي أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم عن عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال في تفسير هذه الآية: ( ترى الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله) يعني: صارت الدنيا بين يديه (قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء) وهذا تفسير عبد الله بن عباس وهو حبر هذه الأمة -رضي الله تعالى عنهما- في معنى هذه الآية وهذا لون من الناس عجيب نلتقي به بين الحين والآخر يعني: يجعلون المنافع نصب أعينهم إن وجد في الأمر منفعة أقبل, في الدين له مصلحة فيه رفع شعاره وإن لم يكن كذلك خرج وانصرف عنه وتركه، وهؤلاء كما ذكرت يذكرهم القرآن قبل أكثر من أربعة عشر قرناً ويوجدون في كل فترة من الزمان وبين الحين والآخر, ولكن هل هؤلاء سيكسبون أو سيحققون أرضاً كما يزعمون أو يقولون؟ القرآن الكريم بعد ما قال: ? انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ? قال: ? خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ? وإذا خسر الدينا والآخرة ماذا بقي له؟ يعني: لم يحقق فلاحاً في الدينا ولا نجاحاً ولا توفيقاً ولا تسديداً والخسران العظيم ما سيلاقيه حينما يقف بين يدي رب العزة والجلال - سبحانه وتعالى- في يوم الدين ولذلك ربنا بعد ذلك قال: ? ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ? ثم تصور الآية التي تلي ذلك حال ذلك الرجل وتبين أنه منافق وأيضاً مشرك وتأملوا معي وقد سمعتم الآيات ? يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ ? يدعو من؟ ? مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ(3/49)
ذَلِكَ
(2/12)
---
هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ?12? يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ? هذا الرجل يدعو من دون الله يعني: يستغيث بغير الله ويلجأ إلى غير الله ويطلب من غير الله ويستعين بغير الله وفي واقع الأمر من يدعوه لا يملك له لا من الضر ولا من النفع شيئاً والقرآن الكريم يصرح بهذا في هذه الآية وفي مواطن أخرى متعددة هنا يقول: ? يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ? وفي آيات أخر: ? وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ ?[يونس: 18] يدعون من دون الله ما لا يملك لهم من الأمر شيئاً والقرآن الكريم يصرح بهذا في أكثر من موضع كأن يقول مثلاً: ? إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ?[فاطر: 14] يدعو من دون الله ما لا يضره إن لم يعبده وما لا ينفعه إن عبده هو في كلا الأمرين في خسران مبين؛ ولذلك ربنا -سبحانه وتعالى- ذكر ذلك عنه قال: ? ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ?12?يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ? لو تأملتم - أيها الإخوة الكرام- هنا الآية التالية قد يستشكلها البعض يقول ماذا؟ يقول: بأن الآية الأولى نفت الضر والنفع بإطلاق ? يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ? والآية الثانية أثبت أن هناك ضراً أقرب من النفع فهل الآية الثانية تتعارض مع الآية الأولى أم أن لكل تفسيراً وتوضيحاً؟
(2/13)
---(3/50)
أولاً: قيل بأن الآية الأولى جاءت للحديث عن الأصنام والأوثان ? يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ? والدليل على ذلك أن «ما» دخلت هنا في الآية ? مَا لاَ يَضُرُّهُ ? و«ما» لغير العاقل فهي في الأصنام و الأوثان أما الآية التالية: ? يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ? فهي في المستكبرين والوجهاء والزعماء ممن يملكون شيئاً من النفع أو الضر لمتبوعيهم في الدنيا. يعني: فرعون لما أتى بالسحرة, السحرة ماذا قالوا له؟ ? أَإِنَّ لَنَا لأجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ?42??[الشعراء: 41] هو صحيح نفع بسيط ولكن يطلق عليه نفع فتكون الآية الأولى في الأصنام والأوثان لمن يدعو الأصنام والأوثان والآية الثانية فيمن يلجأ إلى ما يمكن أن يقدم شيئاً من النفع الدنيوي ويدل على ذلك أيضاً أن الآية الثانية دخلت «من» ? يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ? وقيل: أيضاً بإن الآيتين تسيران في اتجاه واحد والمعنى: أن الآية الأولى نفت عنه الضر والنفع في خاصة نفسه, فكل من دُعِيَ من دون الله لا يملك في نفسه شيئاً لا من النفع ولا من الضر والآية التالية أثبتت الضر لمن عبد غير الله - تبارك وتعالى- وقالت له: بأن الضر أقرب إليك من النفع وفي الواقع لا يوجد نفع أصلاً لأن الضر هو الكبير الذي سيقع عليه وهو كان يتوقع نفعه فقالت له: لا.. لَلضُّر أقرب إليك من النفع الذي كنت تتوقعه ولا يوجد هناك نفع أصلاً فالآية إذن الأولى تتحدث عن نفس من عبد من دون الله - تبارك وتعالى- أنه في نفسه لا يملك شيئاً من الضر والنفع.
(2/14)
---(3/51)
والآية الثانية: تتحدث عن العابدين الذين عبدوا من دون الله – تعالى- فوقع عليهم بسبب هذه العبودية الضر ولن يحصلوا على شيء من النفع لذلك الآية الأولى قالت: ? ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ? والآية الثانية قالت ? لَبِئْسَ الْمَوْلَى ? وما هو المولى ؟هو الصاحب والخليل ? وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ? أيضاً المعاشر والمخالط بئس هذا وبئس هذا سواء عبد الإنسانُ الأصنامَ والأوثان أو عبد غير الله - عز وجل- من المخلوقات التي تتحرك وتحيا وتموت كل ذلك لا ينفعه، لا ينفعه ولياً وينفعه مخالطاً ومعاشراً لأنه لن يستفيد من ذلك شيئاً وكما قررت آيات القرآن الكريم أن هذه الأصنام أو كل من عبد من دون الله - تبارك وتعالى- لا يملك شيئاً من الضر ومن النفع تأملوا قول خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- حينما قال لقومه: ? قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ?72?أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ?[الشعراء: 72: 73] يعني: إبراهيم يقيم الحجة على من ؟ على أتباعه يقول: هل هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون؟ لم يفعلوا شيئاً من هذا.
المحور الثالث: الله يتفضل على أهل الإيمان يجنات تجري من تحتها الأنهار:
(2/15)
---(3/52)
ولقد أعجبتني في تفسير هذه الآية كلمات الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- وأحب أن أقرأها عليكم, قال كلمات جميلة في معنى هذه الآية لأنها تحتاج أيضاً إلى أن أبين فيها شيئاً مهما قال -رحمه الله تعالى-: « لما ذكر الله أهل الضلالة الأشقياء عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم» انتبهوا إلى كلمة وصدقوا إيمانهم بأفعالهم لأنها النقطة التي سأقف عندها في هذه الآية، « فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات وتركوا المنكرات فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات الجنات» وهذا يعني: أنه لابد من العمل وأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان وشرط الحافظ ابن كثير هنا أن هؤلاء آمنوا بقلوبهم وصدقوا ثم بعد ذلك ماذا فعلوا؟ صدقوا إيمانهم بأفعالهم لأن فيه طبقات وفرق - وللأسف الشديد- في المجتمع الإسلامي - واسمح لي أن أدخل قليلاً في مجالي- جاءت في مثل هذه المواقف وأخرجوا الأعمال عن الإيمان, هي طائفة معروفة طائفة المرجئة وسموا بالمرجئة لأنها مأخوذة من الإرجاء والإرجاء هو التأخير لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان وأبعدوها وقالوا: في ذلك عبارات مختلفة وهم فرق وطوائف متعددة وفي الحقيقة لهم آثار سلبية خطيرة على المجتمع الإسلامي وعلى الفرد المسلم, لماذا؟ لأنهم أقعدوه عن العمل الصالح الذي يجب أن يتوجه به إلى رب العزة والجلال – سبحانه- والأعمال في الحقيقة تدخل في مسمى الإيمان ولكن المرجئة ومن لف لفهم يستدلون -وللأسف الشديد- بمثل هذه الآية على أن العمل لا يدخل في الإيمان؛ ولذلك أود أن أناقشهم فيها:
قالوا: إن الله هنا عطف العمل على الإيمان والعطف يقتضي المغايرة فالأعمال لا تدخل إذن في مسمى الإيمان. وأود أن أبين وأن أرد على هذه الشبهة بجواب يسير:
(2/16)
---(3/53)
أولاً: العطف عطف الشيء على الآخر يقتضي المغايرة كما ذكر ولكن هناك ألواناً من هذا العطف: فهناك عطف يقتضي التباين ولكن عطف بعض الشيء على بعض له مكان آخر كما معنا في هذه الآية، وأود أن أقول بأن الإيمان في القرآن الكريم أحياناً يأتي مطلقاً فتدخل فيه الأعمال لأنه يصبح معناه: الدين كقول الحق - تبارك وتعالى-: ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ?[الحجرات: 15] المراد بالمؤمنين هنا الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات ونطقوا بألسنتهم لأن الإيمان إذا جرد عن الأعمال الصالحة أريد به الدين والدين الذي جاء من عند الله - تبارك وتعالى- يشمل الإسلام وهي الأعمال الظاهرة والإيمان ألا وهي الأعمال القلبية أو الباطنة والإحسان التي هي أعلى مراتب الإيمان فيأتي الإيمان في القرآن الكريم مجرداً عن الأعمال فيكون بمعنى الدين فتدخل فيه الأعمال الصالحة لأن الدين يشمل الدين كله الذي جاء من عند الله - تبارك وتعالى- بالإسلام والإيمان والإحسان.
(2/17)
---(3/54)
وأحياناً يأتي في القرآن الكريم عطف العمل الصالح على الإيمان والعطف هنا - يا إخواني- يكون من باب عطف بعض الشيء عليه, الأعمال الصالحة من الإيمان فالله -عز وجل- عطف بعض الشيء وهي الأعمال الصالحة على الإيمان هذا وارد في القرآن؟ نعم وهو المعنى هنا وهذا يفيد أن العمل يدخل في الإيمان والإشارة إليه مهمة والعطف هنا دل دلالة واضحة على أهمية الأعمال الصالحة وأنها لابد من وجودها إن قلنا بأن هناك إيمان. هنا عطف بعض الشيء عليه وهذا وارد في القرآن الكريم كقول الحق - تبارك وتعالى-: ? حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى ?[البقرة: 238] الصلاة الوسطى من الصلوات أم خارجة عنها؟ منها. ? مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ?[البقرة: 98] جبريل وميكال من الملائكة أم لا؟ من الملائكة طيب ربنا عطفهم على الملائكة فهل العطف هنا يقتضي المغايرة وأن جبريل وميكائيل ليس من الملائكة أو أن الصلاة الوسطى لما عطفت على الصلوات ليست من الصلوات؟!!! ولكن هذا من عطف بعض الشيء عليه وهو يفيد فائدة مهمة نحتاج إليها هنا وهي: أن هذا العطف يأتي للإشادة والتنبيه والاهتمام بهذا الذي عُطف وهذا يدل على ويفيد أن الأعمال الصالحة مهمة وضرورية ولابد منها وأنها تدخل في الإيمان بدليل أن الله - عز وجل- يكون قد ذكرها كم؟ مرتين: مرة في العموم ومرة حينما عطفها أو عطف شيئاً من هذا العموم على العموم وذكره بعينه وهذا يدل على مكانته وعلى فضله وعلى شرفه وعلى أهميته فنحن نعلم بأن الصلاة الوسطى لها فضل عظيم ونعلم أيضاً أن جبريل وميكائيل هم من أشراف وأسياد أو رؤساء الملائكة فأفرد كل بالذكر لأهمية ما ذكر واضح ولذلك الأعمال تدخل في مسمى الإيمان ونحن نخاطب المجتمعات كلها نقول: الإيمان ليس مجرد ما وقر في قلبك - يا أيها الإنسان- أو كلمات تنطق بها بلسانك ليس إلا, بل لابد أن تصدق أعمالك هذه(3/55)
(2/18)
---
الأقوال أو ما زعمت وذهبت إلى أنه قام في قلبك, ورحم الله الحسن البصري لما قال: «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي» وهذا ثابت عنه وقد ذكره عنه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل وإن قوماً أحسنوا الظن بالله» وكذبوا زعموا ذلك أنهم يحسنون الظن بالله – تعالى- «لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل». إذن: الإيمان حينما تقول: أنا مؤمن بقلبي وتنطق بلسانك بكلمات الإيمان هذا يدفعك إلى أن تقوم بالأعمال الصالحة لرب العزة والجلال سبحانه والله- عز وجل- ذكر هذه الآية بعدما ذكر أهل الضلالة الأشقياء كما أشار إلى ذلك الإمام الحافظ ابن كثير؛ ليبين فضل ومكانة أهل الإيمان على هؤلاء الأشقياء الفجار المستكبرين على رب العزة والجلال – سبحانه-.
المحور الرابع: بيان أن الله - تبارك وتعالى- نصر نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- في الدنيا والآخرة:
كما قال ربنا في كتابه: ? لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ?[غافر: 51] فالنصر لأهل الإيمان والعاقبة كما قال ربنا - سبحانه وتعالى- بعد ما أهلك قارون قال: ? تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ?[القصص: 83] فالنصر حليف أولياء الله وعباد الله الصالحين وعلى رأس الأولياء الأنبياء والرسل وعلى رأس كلٍّ نبي الهدى والرحمة - صلوات الله وسلامه عليه- وهنا وقد ذكرت وأحببت أن يكون عنوان هذا المحور هكذا: بيان أن الله نصر نبيه -صلى الله عليه وسلم- للإشادة بهذا الأمر وبيان أهميته ودفاعاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين مجتمعات تطعن عليه بين الحين والآخر, وتتهمه بما ليس فيه وهو إمام الأنبياء وسيد المرسلين - صلوات الله وسلامه عليه-.
(2/19)
---(3/56)
الله - عز وجل- يمتن عليه ويتفضل عليه ويبين أنه ناصره ومؤيده ومدافع عنه وذلك في قول الحق - تبارك وتعالى-: ? مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ? قد يستغرب بعضكم: ما علاقة هذه الآية بنصر الله لنبيه-عليه الصلاة والسلام-؟
ذكر المفسرون أوجهاً في تفسير الآية الراجح فيها الوجه الأول الذي سأذكره الآن:
الوجه الأول: وهو أن الحق - تبارك وتعالى- يقول للكافرين الذين يحسدون النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما آتاه رب العزة والجلال - سبحانه وتعالى- يقول لهم: من كان يظن من هؤلاء الكفرة الحاسدين أن الله لن ينصر نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة ? فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ ? يعني: بحبل ? إِلَى السَّمَاءِ ? والمراد بالسماء هنا يعني يمدد بسبب يعني بحبل إلى السماء يعني: سقف بيتك وكل ما علاك فهو سماء فسقف بيتك هو سماء بالنسبة لك ? ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ? لن يكون ولن يتحقق له ذلك لأن الله ناصرٌ نبيه -صلى الله عليه وسلم- ويرشد إلى هذا المعنى قول الحق - تبارك وتعالى- في المنافقين ? وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ?[آل عمران: 119] والله ناصرٌ نبيه -صلى الله عليه وسلم- قد يقول قائل: طيب أنت تقول بأن الآية في نصر الله للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يتقدم للنبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر فما الدليل على ذلك؟ انتبهوا لعلي أسألكم عن هذا. أقول: نقول بأن الآية في بيان أن الله نصر نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة والآيات لم يسبق فيها ذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلم قلنا هذا وقلت بأن هذا هو الراحج؟
(2/20)
---(3/57)
أقول: لأن الآية السابقة على هذه الآية قول الله - تبارك وتعالى-: ? إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ? والإيمان لا يتحقق إلا بماذا؟ بالإيمان بالله والإيمان بمن؟ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا مذكور ضمناً في الإيمان المشار إليه في الآية السابقة.
الوجه الثاني: وهو قول مرجوح عند كثير أهل العلم في معنى ? مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ ? أن المعنى: من كان يظن أن الله لن ينصر محمداً -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة والحال أن النصر يأتيه من السماء فليمدد بسبب إلى السماء فيرتقي به, فيقطع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصر الله له. وهذا أيضاً لا يمكن أن يرد عند عاقل يفهم ما يقول, اللهم إن كان كبعض الملحدين إن وصلوا إلى ما وصل إليه فرعون؛ لأن فرعون يقيناً طلب من موسى طلباً غريباً وهذا الطلب يدل على أن محاورات دارت بين موسى وبين فرعون وأن موسى -عليه السلام- أخبر فرعون بأن ربه في أعلى عليين بدليل أن فرعون رجل من الحمق بمكان لما نادى وزيره يا هامان ? يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ ?36? أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا ?[غافر: 36: 37] هذا يدل على أن موسى أخبره أن ربه في أعلى عليين في السماء فوق السماوات على عرشه - جل في علاه-.
إذن القول الراجح بعد ذكري لهذا القول: هو أن المعنى أن من كان يظن أن الله لن ينصر نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة فليفعل بنفسه ذلك حتى يقتل وينقطع أو يعذب نفسه حتى يهلكه الله - سبحانه وتعالى- ولن يتخلى رب العزة والجلال عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- والله ناصر نبيه ومصطفاه.
(2/21)
---(3/58)
ولم أجعل للآية التالية على ذلك عنواناً لارتباطها بهذه الآية التي هي ? وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ? لماذا؟ لأن هذا من نصر الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- أن الله أنزل عليه هذا القرآن الكريم، القرآن الكريم هو كتاب هذه الأمة, الكتاب الذي أحكمت آياته, الكتاب الذي نزل لإخراج الناس من ظلمات الجهل والشرك والضلالة والخرافة إلى نورالإيمان والعلم والتوحيد, وصفه ربنا - عز وجل- هنا في هذه الآية بأنه أنزل آيات بينات والكتاب محكم كما قال ربنا عنه في كتابه: ? كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ?[فصلت: 1] وكما أشار إلى المكذبين به ? وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ?[النساء: 82] وكلمة ? وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ? تدل على ماذا؟ تدل على أن الكتاب نزل من أعلى إلى أسفل لأن النزول لا يكون إلا هكذا وهذا يدل:
(2/22)
---(3/59)
أولاً: على أن القرآن كلام الله - تبارك وتعالى- تكلم الله به وأن جبريل نزل به من عند رب العزة والجلال - سبحانه وتعالى- وربنا -عز جل- ختم هذه الآية بقوله: ? وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ? وأنا أخرت الكلام عن الإرادة هنا لأنها وردت في آية سابقة ? إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ? لأقول: بأن الله - عز وجل- كما أضل السابقين الذي أشار إليه الذي هم ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ? كما أضل هؤلاء هدى هؤلاء, رب العزة والجلال – سبحانه- وأن الذي فعل الشقاء والضلالة بهؤلاء فهو رب العزة والجلال - سبحانه وتعالى- والذي فعل الهداية بأهل الإيمان من؟ أيضاً هو رب العزة و الجلال -سبحانه وتعالى- ومن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر إثبات إرادة الله - سبحانه وتعالى- الشاملة لكل ما يقع في الكون.
المحور الخامس: هو بيان أن الله – تعالى- هو الذي يفصل بين أهل الأديان المختلفة ويقضي بينهم بالحق:
سآتي إلى الآية الأخيرة لأنتهي الآية قول الله - تبارك وتعالى- وتدور أولاً: تحت محور عنونته بقولي: الله – تعالى- هو الذي يفصل بين أهل الأديان المختلفة ويقضي بينهم بالحق:
الله - عز وجل- هو الذي يفصل بين أصحاب الأديان المختلفة ويقضي بينهم بالحق وقد ذكر ربنا - سبحانه وتعالى- في قوله: ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? الآية هذه ذكرت ستة أديان:
(2/23)
---(3/60)
- الدين الأول: دين أهل الإيمان, وافتتح الله به لأنه أعظم الأيان وأشرفها وهو الحق الذي جاء من عند الحق - تبارك وتعالى- الذي لم يغير ولم يبدل ولم تلعب فيه أيادي اللاعبين فهو محفوظ بحفظ الله - تبارك وتعالى- له قال الله في أهله: ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ? بعدها.
- الدين الثاني: ? وَالَّذِينَ هَادُوا ? وهم أمة الغضب, أمة الغضب من؟ أمة اليهود وهي عبارة جميلة ذكرها بعض أهل العلم قال: أمة الغضب وأمة الضلال فاليهود هم أمة الغضب سموا يهوداً لماذا؟ قيل: نسبة إلى يهوذا الابن الأكبر ليعقوب وهي كانت تطلق عندهم يهوذا والعرب أبدلوا الذال المعجمة دالاً فقالوا: يهودا ثم نسبوا إليه فقيل: اليهود. وقيل: اليهود مأخوذة من هاد بمعنى تاب كما قال موسى لربه ومن معه: ? إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ?[الأعراف: 156] يعني: تبنا إليك واليهود قوم ينتسبون إلى من؟ إلى موسى -عليه السلام- ولكنهم هم أمة الغضب كما ذكرت فكم خالفوا نبيهم موسى -عليه السلام- وكم خرجوا عن الحق الذي جاء به من عند الله - تبارك وتعالى- وكم أفسدوا في الأرض وما زالوا يفسدون, وهم الذين تعرضوا حتى للأديان التي جاءت بعد دينهم وحاولوا إفسادها، وإخراج الناس عن الحق الذي أتى به الأنبياء والمرسلون بعد نبيهم موسى -عليه السلام- وقد أتعبوا نبيهم وجادلوه ووقفوا مواقف مخزية ومازالوا إلى يومنا هذا يصدون عن سبيل الحق - تبارك وتعالى- .
(2/24)
---(3/61)
- الدين الثالث: أما قوله - جل ذكره-: ? وَالصَّابِئِينَ ? فالصابئين هنا الواردة في الآية جمع صابئ ويقال لهم: الصابئة, قال الإمام الحافظ ابن جرير -رحمه الله تعالى- الصابئ: المستحدث سوى دينه ديناً آخر كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه وكل خارج من دين كان عليه إلى دين آخر كانت تسميه العرب صابئاً ولذلك المشركون كانوا يزعمون أنهم على دين, دين الشرك فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أطلقوا عليه كلمة صابئ والإمام الشهرستاني -رحمه الله تعالى- قال: الصبوة في مقابلة الحنيفية وفي اللغة صبى الرجل إذا مال وزاغ عن الحق الذي جاء من عند الحق -تبارك وتعالى- وقيل: الصابئة أيضاً هم الذين عبدوا الكواكب من دون الله - تبارك وتعالى- ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى ?
- الدين الرابع: النصارى هم أتباع عيسى -عليه السلام- قيل: سموا نصارى نسبة إلى قرية كان يقال لها: ناصرة كانوا ينزلون بها فنسبوا إليها, وهؤلاء الناس أيضاً غيروا وحرفوا وبدلوا الدين الذي جاء به عيسى -عليه السلام- وكان اليهود وهي أمة الغضب على رأس من كانوا سبباً في إفساد دين النصارى وإخراج هؤلاء الناس عن الحق الذي جاء من عند الله - تبارك وتعالى- وتعرفون ما لديهم من معتقدات باطلة فاسدة ودينهم في الحقيقة لا يقبله عقل ولا منطق وهم مهما يفعلوا ومهما يصدوا الناس عن الحق فالله - سبحانه وتعالى- سيظهر دينه لا محالة وهذه الأديان كلها أديان باطلة
- الدين الخامس: وأما المجوس فهم قوم من القدماء لهم نحلة خاصة كانوا موجودين قبل الإسلام ومن أصول دينهم القول بالاثنين بإلهين يقولون: بأن هناك إلهاً للنور وإلهاً للظلمة أو إلهاً للخير وإلهاً للشر، هذا هو الدين الخامس.
(2/25)
---(3/62)
- الدين السادس: الذي أشارت إليه هذه الآية فهو ما جاء في قول الحق - تبارك وتعالى- ? وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ? في الحقيقة يا إخواني من سبق ذكره من هؤلاء سوى أهل الإيمان وقعوا في الشرك: اليهود وقعوا في الشرك والصابئة وقعوا في الشرك والنصارى أمة عظيمة في الشرك يكفي أنهم قالوا: بأن الله ثالث ثلاثة هذا شرك خطير وإن موهوا وزخرفوا القول به. والمجوس لما قالوا: بإلهين أيضاً وقعوا في الشرك فمن المراد إذن بقول الحق - تبارك وتعالى-: ? وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ?؟؟؟ قال أهل العلم وهو الصواب: هم المشركون من العرب خاصة والقرآن الكريم إذا أطلق في الغالب كلمة "الذين أشركوا" أصبحت هذه الكلمة علماً على مشركي الجاهلية لأنه يذكر غيرهم بما لديهم من صفات أو ينسبهم إلى الكتب التي هم عليها أو يسميهم بأسماء الأمة التي هم عليها كما في هذه الآية: اليهود النصاري أو يقول: أهل الكتاب أو يقول: المجوس أو يقول.. غير ذلك المراد بالذين أشركوا هنا هم كفار قريش.
هذه الأديان كلها لا دين فيها حق إلا ما بعث به النبي -صلى الله عليه وسلم- قد يقول قائل: لا تتجنى. يعني: ديانات الأنبياء السابقين باطلة؟ نقول: ديانة النبي موسى -عليه السلام- صحيحة والتوراة التي نزلت من عند الله صحيحة ونحن نؤمن به ونؤمن ببعثته ونؤمن بأن الله أنزل عليه كتاباً ولكن أيضاً نؤمن بأن بعثته كانت خاصة بقومه وانتهت ببعثة النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- ونؤمن بأن أتباعه غيروا وبدلوا ولعبت أيدهم في الكتاب الذي نزل عليهم من عند رب العزة والجلال - سبحانه وتعالى-.
(2/26)
---(3/63)
كذلك دين عيسى ابن مريم-عليه السلام- ديناً صحيحاً نزل من عند الله - تبارك وتعالى- عليه وفي وقته من آمن به وصدق برسالته وآمن بشريعته من أهل الإيمان الصادقين المخلصين لهم جنات النعيم عند رب العزة والجلال, ولكن ايضا نُسخ هذا الدين ببعثة النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- وكان على أهل هذه الأديان كلها أن يدخلوا في دين محمد -صلى الله عليه وسلم- لأن أنبياءهم لو كانوا موجودين عند بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما نطق بذلك التنزيل لآمنوا بالنبي -عليه الصلاة والسلام- بل إنهم آمنوا به في حياته -صلى الله عليه وسلم- متى كان ذلك؟ أثناء الإسراء والمعراج, لما جمع الله - عز وجل- الأنبياء والمرسلين وتقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- ليصلي بهم إماماً, إذن الأديان كلها باطلة إلا الدين الحق وطالما أنها باطلة ستحتاج إلى أن يحكم بينها وأن يفصل فيها والحكم فيها لمن؟ لمن أنزلها ألا وهو رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- والله - عز وجل- قال في ذلك: ? إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? وفصل الله حق وحكم الله عدل بدليل أنه عقب على هذا بقوله: ? إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? والذي يشهد ويعرف ويعلم لاشك أنه سيقضي بعلم وسيفصل بالحق.
وأكتفي بهذا ... وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أشرت - حفظك الله- إلى أن الله - عز وجل- يهدي من يشاء, من ضل بمشيئة الله ومن اهتدى بمشيئة الله حبذا لو كان هناك شيء من التوضيح لمشيئة الله - عز وجل- القدرية الكونية والشرعية ؟
(2/27)
---(3/64)
ذكرتم - حفظكم الله- وجهين لدفع التعارض الذي قد يتوهمه البعض في قوله – تعالى-: ? يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ? وقوله: ? يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ? السؤال: هل يمكن أن تكون الآية الثانية استدراكاً للآية الأولى مثل قوله – تعالى-: ? أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ?[الأعراف: 179] وقد أشار إلى ذلك الشيخ السعدي في تفسيره وقال نصاً: «ليس بيده من الأمر شيء قال: بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب» والله – تعالى- أعلم.
نريد أن يعلمنا الشيخ: كيف نتدبر القرآن الكريم؟ وكيف نطبق الآيات وننزلها على حياتنا العملية ؟
كان يسأل عن المشيئة القدرية الشرعية في أن الله - عز وجل- يهدي من يشاء ويضل من يشاء
في الحقيقة هذا موضوع طويل افترقت فيه فرق إسلامية التي هي مسألة هداية الله - عز وجل- لمن يشاء وإضلاله لمن يشاء:
- زعمت بعض الفرق أن الله - سبحانه وتعالى- يفعل ذلك.
- ولكن الحق والصواب المؤيد بالدليل أن رب العزة الجلال - سبحانه وتعالى- يفعل ما يشاء وهو - عز وجل- هو الذي أراد هداية المهتدي وأراد إضلال الضال - سبحانه وتعالى- وما أريد أن أذكر أموراً يكون فيها شيء من التوسع عليكم.
(2/28)
---(3/65)
- أهل السنة يؤمنون بهذا. المعتزلة يقولون: لا.. فمعنى أن الله يهدي من يشاء يعني ينسبه إلى الهداية أو تسيمة الله له مهتدٍ. ويضل من يشاء تسمية الله له ضالٌّ وفي واقع الأمر وكما نطق القرآن الكريم أن الله - عز وجل- يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأن الله أراد الهداية وأراد الضلال بدليل قوله – تعالى-: ? فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ?[الأنعام: 125] ولكن الأخ وهو - جزاه الله خيراً- يفهم ما أقول ومن خلال السؤال هو أجاب, ولكنه يريد أن أوضح هذه المسألة للمستمعين لما أشار إلا الإرادة الكونية وإلى الإرادة الشرعية.
الإرادة الكونية حينما نقول: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء. هذا يدخل في الإرادة الكونية, ما هي الإرادة الكونية؟ قالوا: هي الإرادة العامة الشاملة التي يدخل فيها كل ما يقع في الكون سواء أحبه الله - عز وجل- ورضيه أم لم يحبه ويرضاه هذه الإراد الكونية القدرية وهي التي يدخل فيها يهدي من يشاء ويهدي من يشاء.
أما الإرادى الدينية الشرعية فهي المتضمنة للمحبة والرضا وهنا نقول: إن الله - عز وجل- وإن أراد الكفر كوناً وقدراً وإن أراد الضلال وإرادة كونية قدرية إلا أنه لا يريده ديناً ولا شرعاً فكفر الكافر واقع بإرادة رب العزة والجلال – سبحانه- وإن كان الله لا يرضى لعباده الكفر, ففرق بين الأمرين بين الإرادة الكونية القدرية وبين والإرادة الدينية الشرعية، وأكتفي بالجواب عن هذ السؤال.
(2/29)
---(3/66)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, عندي سؤال: هل يصح الاستدلال بقوله – تعالى-: ? ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ? على أن الله - سبحانه وتعالى- يجازي بالعمل أي لابد من اقتران الإيمان بالعمل حيث في ذلك رد على المرجئة الذين يقولون: إن الله يجازي على الإيمان فقط هل يصح الاستدلال بهذه الآية؟
نعم... هي ما اشارت إليه - جزاها الله خيراً- معنى صحيح يبين أن الإنسان يجازى على أعماله فإذن الأعمال داخلة في الإيمان فهو محاسب عليها والحقيقة أيضاً المسألة في مثل هذا طويلة فالأعمال تدخل في الإيمان والله - عز وجل- ذكر بأن الذين يتنعمون بالجنان هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وكما جاء في القرآن الكريم: ? جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? في آيات كثيرة من القرآن الكريم ويمكن المتتبع لآيات القرآن الكريم ولعلي أطالب بعض الحاضرين أن يجمع لنا بعض الآيات ويؤكد ما أشارت إليه الأخت - جزاها الله خيراً-.
كان سؤاله عن الآيتان ? يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ ? وقوله الله - عز وجل-: ? يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ? وذكر تفسير الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى- أن الآية الثانية استدراك في قول الله - عز وجل-: ? أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ?
- جزاه الله خيراً- هذا المعنى صحيح, وهذا المعنى يدخل أيضاً فيما ذكرت ولكن حينما نفصل في مثل هذه المسائل وما ذكره هو أو أشار إليه هو معنى صحيح, وذكرت أنا من آيات القرآن الكريم أن هذه الأصنام أو من عبد من دون الله - سبحانه وتعالى- حتى من غير الأصنام ممن عبدهم الناس من دون الله – تعالى- من البشر أو من الملائكة أو من الجن كل هؤلاء بنص القرآن الكريم بأنهم لا يملكون نفعاً ولا يملكون ضراً وهذه آيات وما يذكر فيها من تفسير هو تفسير صحيح يتفق مع آيات القرآن الكريم, والقرآن يفسر بعضه بعضاً.
(2/30)
---(3/67)
كانت تسأل عن كيفية تدبر آيات القرآن الكريم وكيفية تطبيقها في أرض الواقع
في الحقيقة القرآن الكريم - أيها الإخوة- ما نزل إلا لرحمتنا, الله - عز وجل- في سورة يس لما ذكر القرآن الكريم قال: ? إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ?69? لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ?[يس: 70] كيف يطبق الإنسان؟ لابد أن يشعر الإنسان بأن إيمانه صحيح ويجب أن ينميه وأن يطبق بأعماله وجوارحه ما زعم أنه قام في قلبه وما نطق به لسانه, فالإنسان ينظر ويتأمل إلى ما أعده الله - عز وجل- لأهل الإيمان فيقوم بتهذيب نفسه وتربيتها على كتاب الله وهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلزمها ويزمها على الحق الذي جاء من عند الله - عز وجل- ولن يكون الإيمان صحيحاً إلا بالتطبيق العملي للقرآن الكريم وآياته وتدبرها وكما جاء في الحديث عن الصحابة أنهم: (كانوا لا يتجاوزون عشر آيات إلا بعد أن يقرؤوها ويفهموها ويعملوا بها قال فتعلمنا الإيمان والعمل مع) يعني: يقرأ الآية ويطبقها, فالله - عز وجل- حينما يقول: يا أيها الذين آمنوا أو يا بني آدم أو يأمرك بأمر انظر إلى هذ الأمر والتزمه وإذا نهاك عن شيء فانظر إلى هذا النهي واتركه تكن بهذا مستجيباً لله - تبارك وتعالى-.
كان السؤال الأول: اختلف المفسرون في وقت الزلزلة في سورة الحج اذكر الأقوال مع الترجيح؟
وكانت الإجابة:
اختلف المفسرون في أمر الزلزلة إلى:
أولاً: البعض قال: قبل البعث وساعة قيام الساعة.
ثانياً: البعض قال: هي زلزلة البعث مستدلين بقول الله - تبارك وتعالى-: ? إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ?[الزلزلة: 1]
(2/31)
---(3/68)
ثالثاً: البعض قال: بعد قيام الناس من قبورهم وهو الراجح لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أورده البخاري عن أبي سعيد: (إن الله ينادي آدم يوم القيامة ويقول: يا آدم أخرج بعثه النار فيقول: وما بعث النار يارب؟ .... ) وفي الحديث عندما أخبر الله آدم -عليه السلام- أن بعث النار هو (من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فهنالك تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حمله) والله أعلم.
الحقيقة ما أجاب به المجيب عن هذه السؤال كلامه صحيح واستدلاله في موطنه وهو الراجح - إن شاء الله تعالى- تتبعت كثيراً من كتب التفسير فوجدت أن هذا هو الراجح ويؤيده أيضاً الحديث المذكور في تفسير هذه الآية وقد أخرجه الإمام البخاري في تفسير له عن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا جاءنا التفسير من النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الآية فحسبنا أو وجب علينا أن نقف عنده وأن نأخذ به.
كان السؤال الثاني: ما معنى الجدال في الله وهل الجدال بكل أنواعه مذموم؟ وضح.
وكانت الإجابة:
يجادل في الله بمعنى: يخاصم في الله أي أنهم ينسبون لله ما لا يليق به -سبحانه وتعالى- وليس الجدال بكل أنواعه مذموم قال – تعالى-: ? وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?[العنكبوت: 46] ? وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?[النحل: 125] قال الله – تعالى-: ? ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?[النحل: 125] فعلينا أن نجادل بالتي هي أحسن فإذا كان المجادل يريد الحق فيكفيه الحكم وإن كان معرضاً فعلينا بالموعظة الحسنة لعله يرجع وإن كان لا يريد إلا الجدال فالجدال بالتي هي أحسن إلى حد قد بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي ذكر فيه: ( أنا زعيم في بيت من ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محق)(3/69)
(2/32)
---
وهو محق في إجابته - جزاه الله خيراً- بل إنه أضاف إليها شيئاً وذكر فيها أشياء وهذا -في الحقيقة- يسعدني شخصياً حينما أجد من المتابعين شيئاً من ذلك, وأسأل الله لهم التوفيق.
كان السؤال الثالث فضيلة الشيخ: قول الله - تبارك وتعالى-: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ .....? يدل على أمر عظيم: اذكر إجابتك مدعماً ذلك بدليلين من القرآن الكريم؟
كانت الإجابة:
الأمر العظيم هو إثبات البعث رداً على منكري البعث من الكفار والمشركين وقد وضح الله لنا هذا الأمر العظيم بدليلين عقليين:
أولهما: خلق الله آدم من تراب: يخاطب الله - جل جلاله- عقول البشر كأنه يقول: يا من تنكرون البعث إنا خلقناكم من تراب ونسب البشر جميعاً من تراب لأن آدم -عليه السلام- من تراب ولأننا فروع نتبع الأصل ثم ذكر إلينا أطوار الجنين في بطن أمه نطفة ثم علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة, ثم يولد طفلاً ويصير كبيراً ثم يموت ويبعثه الله - تبارك وتعالى- ومما لا يخالف فيه أن إعادة الخلق أيسر من الخلق ذاته وهذا بالنسبة للبشر وأما لله - تبارك وتعالى- فلا يصعب عليه شيء.
الأمر الثاني: هو إحياء الأرض بعد موتها الأرض تكون هامدة ثم ينزل الماء عليها فتهتز وتصير جميلة, فالله الذي يحي الأرض قادر على أن يحي البشر. والله أعلم.
(2/33)
---(3/70)
جزاك الله خيراً وجزى الله المجيب أيضاً خيراً على هذا السؤال, وأنا حينما سألت أو طرحت هذا السؤال في الحلقة السابقة أردت أن لا ينصرف الذهن عن هذه القضية الهامة وخشيت أن بعضكم يمكن أن يقول: الحديث عن البعث ومذكور في الآية صراحة فهل هو يسأل عن شيء مذكور صراحة في هذ الأمر؟ فعلاً أنا أسأل عنه ولكن كنت أود في هذا السؤال بالذات أن يتوسع أو أن يجيب أحد المجيبين بآيات أخر فيها دلالة على البعث وضاق الوقت عن أن أشير إليها, مثلاً ما جاء في سورة البقرة: ? وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ?72? فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى ?[البقرة: 72: 73] فالله - عز وجل- استدل بإحيائه لهذا الميت في الدنيا على البعث والجزاء والنشور وغير ذلك من آيات القرآن الكريم... وهي منتشرة, والدلالة على البعث يمكن أن تجمع في ستة أمور ولعلنا نأتي على شيء منها مفصلاً - إن شاء الله تعالى-.
تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, سؤالها: هل سورة الحج مكية أم مدنية ؟
اختلف المفسرون في هذا اختلافاً كثيراً فبعضهم ذكر أنها مكية وهذا هو الموجود في كثير من المصاحف المطبوعة والبعض ذكر أنها مدنية ورجحوا ذلك بآيات الحج الواردة في هذه السورة ومن قال: إنها مكية ذهب إلى أن السورة تقوم أو تتحدث أو يدور محور حديثها حول موضوعات السور المكية من إثبات البعث والجزاء وخلق الله لهذا العالم وإثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- والبعض ذكر أنها مكية عدا الآيات التي وردت في سياق الحديث عنها وهذا وارد في كتب التفسير وفي علوم القرآن ولا يمنع أن تكون هناك بعض آيات نزلت في مكة من السورة وبعض آيات نزلت في المدينة النبوية. والله أعلم.
يقول: هل المقلد ملزم باتباع شيخه في كل ما يعتقده شيخه دون دليل؟
في الحقيقة:
(2/34)
---(3/71)
أولاً: يجب على المقلد ألا يقلد إلا من يعرف الحق بالدليل, وحينما يقلد لا يقلد الشخص في نفسه أو في ذاته يعني: لا تقلدني ولا تقلد فلاناً ولكن أنت تكون مقلداً لعدم معرفتك بالدليل, فإذا سمعت الدليل فعليك بلزوم الدليل ولا تلزم قول الشيخ وأنا أخاطب الناس كافة وكلهم يشاهد أو يسمع لا تأخذ دينك يا عبد الله من أي إنسان مهما كان إلا إذا كان هذا القول الذي يقدمه لك عليه أدلة شرعية صحيحة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية.
الناس اليوم في دنياهم يبحثون ويقلبون ويفتشون: العامل في مصنعه من يقوم في أي مكان كالزارع مثلاً في أرضه كل إنسان يعرف ماذا يفعل. وماذا يقدم. ومتى يزرع. ومتى يحصد. ومتى تشتغل المكائن. ومتى توقف. وما إلى ذلك. أما الدين فيقلد الإنسان بجهل فهذا لا يجوز أنت يجب عليك أن تبحث عن الدار الحقيقية في الدار الآخرة وأن تبذل من الجهد ما تتعلم به شيئاً من الدين كما جاء من عند الله - تبارك وتعالى- وأقول: شيئاً لأشير إلى أنه ليس كل إنسان مطالباً بأن يكون عالماً ولكن يجب أن يتعلم كل منا من مسائل الاعتقاد ما يصحح به عقيدته, ومن مسائل العبادات ما يتمكن به أن يكون عابداً بين يدي رب العزة - سبحانه وتعالى- يتعبد بالأعمال المشروعة, يتعلم صحة الاعتقاد ويتعلم كيف يقوم لله - عز وجل- بالعبادات التي شرعها رب العزة والجلال وبينها لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى المقلد ألا يأخذ كلام شيخه بلا دليل, بل عليه أن يطلب منه الدليل وإذا ظهر له أن الحجة في قول غير شيخه رجع إليه؛ لأن العبرة بـ «قال الله» ، «قال رسول» -صلى الله عليه وسلم-.
يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما السؤال: بالنسبة للآية الحادية عشرة ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ ? هل قصد بهم المنافقون؟ وما الفائدة من قول الله في الآيات: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ ? مع أن الصفات تنطبق على المنافقين؟ جزاكم الله خيراً
(2/35)(3/72)
---
هو في الحقيقة شطر الآية الأولى ينصرف إلى المنافقين, الآيات التالية بعده? يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ ? تخاطب من؟ تخاطب المشركين والمنافق يجمع إلى جانب نفاقه يجمع الشرك بالله – تعالى- ويقع فيه, فكلمة المنافق هنا تشمل المشرك والكافر والمنافق ولكن نحن نوجه مدلولات الآيات على حسب ما ترشد وما تشير إليه في الأغلب الأعم. والله أعلم.
تقول: هل نقول: إن موسى -عليه السلام- أتى باليهودية, وعيسى بالنصرانية أم بالإسلام؟ أقصد هل اليهودية تطلق على دين موسى -عليه السلام- قبل التحريف أم بعده ؟
(2/36)
---(3/73)
في الحقيقة أصل دين الأنبياء واحد وهو الإسلام كلهم جاءوا بالإسلام والآيات في سورة البقرة ويطول المقام ? أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ... ?[البقرة: 133] ونفس يوسف -عليه السلام- لما قال: ? تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ?[يوسف: 101] والإسلام له معنى عام ألا وهو الاستسلام لله - عز وجل- والدخول في الدين الذي جاء من عند الله - تبارك وتعالى- وله معنى خاص وهو الإسلام الذي بعث به النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصل دين الأنبياء واحد؛ لأن كلهم يشتركون في اعتقاد واحد ألا وهو إفراد الله بالعبودية, إطلاق اليهودية والنصرانية عليهم أمر سائغ ومذكور في كتاب الله - عز وجل- حينما قال الله - عز وجل-: ? وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ?[المائدة: 41] مثلا ? الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ?[المائدة: 82] فذكر ذلك القرآن الكريم وأضافهم إليها وهذه الإضافة لهما معانٍ سبق أن ذكرتها ولا شيء في ذلك, ولكن أود أن أشير إلى أن الأنبياء جميعاً جاءوا بالإسلام العام بمعنى: إسلام الوجه لله واشتركوا جميعاً في الدعوة إلى توحيد الله - تبارك وتعالى- يؤكد ذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- (الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى وأبوهم واحد) يعني: أصل الدين واحد الذي هو دين الإسلام ? إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ ?[آل عمران:19].
لو تفضلتم بطرح أسئلة هذه المحاضرة؟
السؤال الأول: قال – تعالى- فيمن يعذبه من الكافرين: ? ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ? مع أن الكفر ليس من عمل اليد, فكيف توجه ذلك؟
السؤال الثاني: ما معنى: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ ?؟ أيد ما تقول بحديث للنبي -صلى الله عليه وسلم- .
(2/37)
---(3/74)
السؤال الثالث: اذكر الوجهين في تفسير قول الله – تعالى-: ? مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ ....? إلى آخر الآية.... مع ذكر الراجح منهما.
(2/38)
---
مكتبة الأكاديمية - مكتبة دروس الأكاديمية - الدروس المفرغة - التفسير - المستوى الثالث
التفسير - المستوى الثالث
فضيلة الشيخ / عبد الله شاكر
23/11/2005 - 22 شوال 1426
الدرس الثالث
الدرس الثالث: تفسير سورة الحج
فضيلة الشيخ أهلاً ومرحباً بكم
أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم وبالحاضرين والمشاهدين ونبدأ -إن شاء الله تعالى- بإعطاء الإخوة الحاضرين والمشاهدين فكرة عن المحاور التي سأتحدث عنها في هذا اللقاء -إن شاء الله تبارك وتعالى-:
المحور الأول: الكون كله يسجد لله تعالى.
المحور الثاني: أنواع عذاب أهل النار.
المحور الثالث: ما أعده الله للمؤمنين في الجنان.
المحور الرابع: الكافرون يصدون عن سبيل الله.
والآن يتفضل الأخ الكريم فليقرأ لنا هذه الآيات التي سأتناولها بالحديث والشرح -إن شاء الله تعالى-.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(3/1)
---(3/75)
?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ?18? هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ?19? يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ?20? وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ?21? كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ?22? إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ?23? وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ?24? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ?25??.
أحسنت وبارك الله فيك.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك ومصطفاك وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم وسلك سبيلهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وبعد.
(3/2)
---(3/76)
فأرحب بكم أيضاً مجدداً في هذا اللقاء ومع هذه الآيات التي سمعتموها قبل قليل، وحولها يدور حديثي -إن شاء الله تعالى- ومع المحور الأول في هذا اللقاء وهو:
المحور الأول: الكون كله يسجد لله -تبارك وتعالى-:
وقد عنونت هذا العنوان من الآية التي سمعتموها آنفاً، وهي قول الحق -تبارك وتعالى-:
?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ? إلى آخر هذه الآية... حيث أخبر رب العزة والجلال أنه -سبحانه وتعالى- هو المستحق للعبادة وحده دون سواه، وعليه فجميع الكائنات في هذا الكون تسجد له طوعاً وكرهاً، وقد ذكر رب العزة والجلال أولاً أن كل ما في السماوات والأرض يسجد له سبحانه، ثم بعد ذلك بدأ وعدد بعضاً من المخلوقات التي تسجد بأعيانها فهو قال أولاً: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ? ومن في السماوات ومن في الأرض: يشمل جميع الملائكة ويشمل كل ما يمكن أن يوجد في أقطار السماوات والأرض وما بين السماء والأرض وما جاء ذكره في هذه الآية الكريمة المباركة من الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وهذا يشمل كثيرًا مما في هذا الكون، نص رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- على أن الجميع يسجد له -سبحانه وتعالى- وكما أشرت الآن ذكر أولاً أن كل ما في السماوات وما في الأرض يسجد له سبحانه، ثم عقب بذكر بعض مفردات من المخلوقات التي تسجد أيضاً لله -عز وجل- فبعدما قال: ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ? عقب -سبحانه وتعالى- على ذلك بقوله: ?وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ? أولاً: ذكر هنا ربنا -سبحانه وتعالى- من المفردات التي خصها بالذكر أولاً: الشمس والقمر والنجوم، وهذه كلها تدور في مجموعة الأفلاك السماوية وهي داخلة أيضاً فيمن يسجد مما أودعه الله -عز وجل-(3/77)
(3/3)
---
في السماوات فلماذا خصها رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- بالذكر؟ قال بعض أهل العلم: بأنها خصت بالذكر لأن بعض الناس عبدوا الشمس والقمر من دون الله -تبارك وتعالى-، وقد نص على ذلك القرآن الكريم: ?وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ?37?? [فصلت: 37] وتعرفون أن قوم إبراهيم -عليه السلام- كانوا يعبدون الكواكب من دون الله -تبارك وتعالى-، فالنص إذن على هذه الأشياء بأعيانها وهي داخلة فيما ذكر أولاً ليبين رب العزة والجلال سبحانه ويوضح لكل مستمع أن هذه المخلوقات بأعيانها التي عبدها الناس من دون الله –سبحانه- هي في حقيقة الأمر وفي واقعه تعبد الله -عز وجل- بل هي تسجد له -سبحانه وتعالى-، كما يسجد لله -عز وجل- مما جاء ذكره في هذه الآية الجبال والشجر والدواب، فالجبال تسجد لله والشجر يسجد لله والدواب وهي الحيوانات بجميع أشكالها وأنواعها لأن هذا جمع وكلام الله صدق تسجد لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-.
(3/4)
---(3/78)
وقد ذكر ابن كثير وغيره عن مجاهد -رحمه الله تعالى- أن سجود الجبال والشجر سجود ظلها لله -تبارك وتعالى- يعني أن الظل يسجد أيضاً لله -عز وجل- واستند في ذلك إلى قول الحق -سبحانه وتعالى-: ?أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ?48?? [النحل: 48] فما خلق الله -سبحانه وتعالى- من هذه الأشجار أو من الجبال وله ظل هو وظله يسجد لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، وواقع الأمر أيها المشاهدون الكرام أن سجود هذه الكائنات واقع وحاصل لرب العزة والجلال -سبحانه وتعالى-، فقد جاءت أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بيَّنَ فيها المصطفى -عليه الصلاة والسلام- أن الشمس والقمر وجاء ذكر ذلك يعني غير الشمس والقمر في بعض الأحاديث كله يسجد لله -عز وجل- سجود حقيقة وهو ما عليه أهل السنة والجماعة, ومن ذلك أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- سأل ذات يوم أبا ذر -رضي الله تعالى عنه- سؤالاً فقال له فيه: (أتدري أين تذهب الشمس؟) هذا استفهام, رسول الله -صلى اللع عليه وسلم- يستفهم ويسأل هذا الصحابي الجليل -رضي الله تعالى عنه- وينتظر منه الجواب، فماذا أجاب -رضي الله تعالى عنه-؟ (قال: الله ورسوله أعلم) هنا فائدة يجب أن أقف عندها لنستفيد وهو أن من لا يعلم شيئًا من الأمور يجب عليه أن يرد علمه إلى من يعلمه، ولا يقول على الله -عز وجل- كذباً أو بطلاناً أو يفتري على الله -سبحانه وتعالى- شيئًا هو لا يعرفه، فيقع بذلك في الضلال المبين، وصحابة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ومنهم أبو ذر -رضي الله تعالى عنه- من أعلم الناس بدين الله، وبسنة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولذلك لما سأله النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أمر لا يعلمه هو، أسند الأمر إلى من يعلمه فقال: (الله ورسوله أعلم) وأنا أود أن أسأل هنا سؤالاً للحاضرين معي،(3/79)
(3/5)
---
وأنتظر من يعرف الجواب أن يرفع يديه، لنستمع إلى جوابه، هل يجوز اليوم لو سئل الواحد منا سؤالاً أن يقول: الله ورسوله أعلم؟
لا يقول, بل يقول: الله أعلى وأعلم، لا يقول: الرسول لأن الرسول توفاه الله -عز وجل-
هل أحد من الإخوة عنده إضافة؟
يقول الله ورسوله أعلم إن كان الأمر متعلقاً بالشرع
نعم، يقول الله ورسوله أعلم إن كان أمراً متعلقاً بالشرع وبالدين فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمه، أما إن كان الأمر من أمور الحياة الدنيا أو النازلة أو الواقعة اليوم بعد أن قبض النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيقول: الله أعلم، هنا النبي -صلى الله عليه وسلم- حاضر يعلم الأمة ويأتيه الوحي من عند الله -تبارك وتعالى-، وهذه مسألة شرعية لا يعلمها أحد قبل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بعدما بعث النبي -عليه الصلاة والسلام- ولذلك أبو ذر -رضي الله عنه- أحسن حينما قال: (الله ورسوله أعلم) ماذا أجابه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؟ (قال: فإنها تذهب تسجد تحت العرش) تذهب هذه الشمس فتسجد تحت عرش الرحمن -تبارك وتعالى-، ثم تستأذن ثم يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (فيوشك أن تستأذن فيقول الله لها: ارجعي من حيث جئتي)، وذلك سيكون في نهاية هذا العالم حينما يشاء رب العزة والجلال -سبحانه وتعالى- أن يجمع الناس وأن ينتهي هذا الكون، وقتئذٍ سيكون طلوع الشمس من مغربها علامة من علامات قرب قيام الساعة، وهي من العلامات الكبرى كما هو معلوم عند المسلمين وهذه المسألة من المسائل التي يتعلمها أهل الحق حتى إذا وقعت في أي وقت هذه العلامات أو وقع شيء منها عرف الإنسان كيف يتعامل معها.
(3/6)
---(3/80)