البشارة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بين الإشكال و الجحود
تمت مراجعته و تصحيحه بالأزهر الشريف
بموجب تقرير الفحص رقم 531 ــ 23 المؤرخ ب 04/12/2006
تأليف الأستاذ الشريف بن حمزة
الجبوري الجزائري
رقم الإيداع:2006-2316.
الردمك:9947-0-1411-8.
هذا الكتاب مقتبس من أصله:شبهة التاريخ الكبرى هل صحيح أنّ عيسى هو المسيح المنتظر
تمت مراجعة الكتاب و تصحيحه بالأزهر الشريف
بموجب تقرير الفحص رقم 531 ــ 23 المؤرخ ب 04/12/2006
و إنّي أرجو من كلّ من له نقد بناء أو تصويب أو اقتراح أو إستفسار أن يتصل بنا على البريد الإلكتروني التالي:bahous32@maktoob.com
شكر و إهداء
أتقدّم بجزيل الشكر و التقدير لمجمع البحوث و الدّراسات الإسلامية بالأزهر الشريف و على رأسه المدير العام السيّد عبد الظاهر محمد عبد الرزّاق لمراجعته هذا البحث و تصحيحه و إسدائه النصح لنا. فجزاه الله عن الإسلام و عنّا خيرا.
كما أهدي كتابي لروح والدي و والدتي العزيزة و لجميع المؤمنين من المسلمين و أهل الكتاب المهتمّين بحوار الحضارات.
3
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لعلّه لا يوجد مسلمٌ لم يطرح السؤال على نفسه لماذا لم يؤمنْ اليهود و النصارى برسولهم المبشّرُ به عندهم في التوراة و الإنجيل و زُبر الأوّلين. و ردّاً على هذا السؤال تباينت ردود أتباع الدّيانات الثلاث تباينا كبيرا.(1/1)
فبالنسبة لأهل الكتاب لا توجد بشارةٌ بمحمّد مطلقا و لا يعدو هذا الرّجُل عن كونه مُدّعيّاً. و لو كان خبرُه في الأسفار المقدّسةـ كما يقولون ـ ما سَبِقَهم إلى العلم به أحدٌ. و أمّا عموم المسلمين فيقولون إن وقع لُبسٌ بخصوص هذه المسألة فذلك لأنّ أهل الكتاب حرّفوها و تكاتموها بينهم حسداً من عند أنفسكم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ. و بقيت مواقف كلّ طرفٍ على حالها منذ القرن الرابع للهجرة1. و إعراض المسلمين و الكتابيين عن مصارحة بعضهم بعضا و الحوار معا برُوح منفتحةٍ عقّد المسألة أكثر.و يتسآل الكتابي، في خضمّ التراشق بالإتّهامات، هل يعجز إله المسلمين أن يُقيم حجّته و يحفظ بشاراته برسوله؟.. منْ يكون ابن البشر حتىّ يزوّر إرادة الله تعالى؟. و إذا إنجرّ المسلمون، وراء هذا المنطق فسيقعون في تناقض خطير من شأنه أن يأتي على قواعد عقيدتهم أو يُلزمون بما سيترتّبُ عنه من مفسدةٍ عظيمةٍ في الدّين و سفهٍ كبيرٍ2.
ـــــــــــــــــــــ
1-القرن الرابع الهجري هو أزهى عصور الجدل الدّيني. و كثير من الباحثين منهم الدكتور عبد المجيد شرفي يرى أنّ المسلمين بعد هذا القرن لم يأتوا بشيء ذي أهمّية .
2-إحذر ! نحن لا نقول بعدم وقوع التحريف مطلقا في الكتاب المقدّس. إنّما نقول لم يقع تحريف في البشارة. فلا يوجد نص من القرآن أو من صحيح السنّة يقول أنّ البشارات برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرفت.
.
4
فالله تعالى إن كان ضعيفَ الحجّة قليلَ البرهان فهو مغلوبٌ على أمره و ليس غالباً،و إلهٌ كهذا تنتفي عنه صفات الجلال و الكمال. و أنّى له و حاله هكذا، أن يطالب عباده بالبيّنة و البرهان1. و لا يستسيغُُ عاقلٌ أبدا أنّ الله تعالى يشكو المحرّفين إلى عباده بدل من أن يحفظ البشارات بعبده.فأين قوّته و عزّته و وعوده في إظهار دينه و أين حجّته البالغةُ2؟.(1/2)
ويعني هذا أيضا أنّ القرآنَ الكريم، تنزّه كلام الله و تعالى، محشوٌ بالباطل و الكَذِب و الإدّعاء بدون بيّنةٍ. فهذه إحدى التبعات التي ستترتّب عن القول بتحريف البشارة. فكيف يستقيم هذا المنطق و هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه .أليس هو الفصل ليس بالهزل، من قال به صدق، و من حكم به عدل و مَنْ تركه مِن جبّار قصمه الله؟.
و أمّا من وجهة نظر المنطق التاريخي فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء و ثلاث قارّات آهلة بالنّاس يومذاك تدين بالمسيحية هي أوروبا و آسيا و إفريقيا، كانوا متفرّقين في السهول و الجبال و الهضاب و الوهاد و الأدغال و المدن و القرى. و لم يكن في ذلك الزمان فضائيات أو إنترنت أو هاتف أو فاكس حتى تسهُل مؤامرة المحرّفين، إن افترضنا ذلك.
ـــــــــــــــ
1-قال تعالى:" قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"(البقرة 111).
2- قال تعالى : " قل فلله الحجة البالغة".(الأنعام149 ). قال القرطبي في تفسير الآية: "قل فلله الحجة البالغة" أي التي تقطع عذر المحجوج، وتزيل الشك عمن نظر فيها. فحجته البالغة على هذا تبيينه أنه الواحد، وإرساله الرسل والأنبياء، فبين التوحيد بالنظر في المخلوقات، وأيد الرسل بالمعجزات، ولزم أمره كل مكلف. فأما علمه وإرادته وكلامه فغيب لا يطلع عليه العبد، إلا من ارتضى من رسول. ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به لأمكنه.
5.
و من المستحيل مطلقاً،إذا سلّمنا بوقوع التحريف،ألا يظهر رجلٌ شريفٌ واحدٌ، ليس إلا واحدا، مثل جورج غالوي أو شارل باسكوا أو رمزي كلارك مندّداً بتواطىء النصارى و اليهود جميعا على تحريف أجلّ خبرٍ في الإنجيل و التوراة. و يبقى شيءٌ لَهُوَ حرِيٌ بالسؤال ما المصلحة المرجوة من تحريف هذا الخبر؟(1/3)
و إنّنا نرى القول بتحريف البشارة بدعةٌ منكرَةٌ و تكذيبٌ لله تعالى و رسوله. و لقد ثبت بنصوص قطعية الدلالة في الذكر الحكيم أنّ التوراة التي نزلت قبل ألفين و مئة سنة و الإنجيل الذي نزل قبل ستّ مئة سنة من بعثة خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - كانا و لا زالا صالحين لنقل هذا النبأ العظيم. قال تعالى: " الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحلّ لهم الطيّبات و يحرّمُ عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به و عزّروه و نصروه و إتّبعوا النّور الذي أنزل معه أولائك هم المفلحون"(الأعراف 157).
ليت الذين لا يفقهون قالوا: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم"(البقرة32) و سَكَتوا و أفتوا بلا أدري كما أوصى الإمام مالك رحمه الله و فوّضوا أمرهم لله. و لنا في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُسوةٌ حسنةٌ فما ثبت أنّهم قالوا مثل هذا القول العظيم. بل فهمِوا أنّ التبشير به هو ممّا إختصّ به تعالى علماء أهل الكتاب. فلم يتوجّه الخطاب القرآني في شأن البشارة إلى صحابته أو قومه، بل كان قصراً على أهل الكتاب1. فما ذُكرَ خبرُه - صلى الله عليه وسلم - أو خبر كتابه أو
ـــــــــــــ
1- أنظر الآيات التالية:" الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا
6.(1/4)
قِبلته إلا و كان مقترنا بذكر علماء أهل الكتاب. و قد يتسآءل سائلٌ لماذا لم يعرف الصحابة بشاراته في أسفار الأوّلين؟ و نجيب ببساطة لأنّهم كانوا أميّين .و لم يكلّفهم الله تعالى بالبحث عن هذا الأمر. و لو كلّفهم بذلك لشقّ عليهم، لأنّه سيتطلّب منهم دراسة اللغات الأعجمية من لاتينية و إغريقية و قبطية و سريانية لغات الكتاب المقدّس في ذلك الزمان؛ إذ لم تظهر ترجمة عربية إلا في السنة 737م. و من جهة أخرى لم يكن هذا التحدّي مطروحا عليهم من أهل الكتاب حتّى يرفعوه . زد على ذلك أنّ إيمانهم لم يتطلّب ذلك لأنّ لديهم من الحجج و الآيات ،و أعظمها معجزة القرآن الكريم، ما يكفي ليؤسّسوا لأنفسهم إيمانا صلبا مثمرا. لهذا فإنّنا نلخِّصُ الإشكال المختلف فيه بين المسلمين و أهل الكتاب في
ـــــــــــــــــــــــ(1/5)
أنفسهم فهم لا يؤمنون"( الأنعام20). " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و إن فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون"(البقرة 146) ." أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل"( الشعراء 197). " و يقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب"( الرعد43). " فولّ وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره و إن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحق من ربّهم و ما الله بغافل عما يعملون" ( البقرة144). " و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به"( البقرة89)." الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل" ( الأعراف 157)." و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزلٌ من ربّك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين"( الأنعام 114). " و إنّه لفي زبر الأوّلين"( الشعراء 196).أوّل شيء يجب التأكيد عليه هو ما من آية أخبرت عن البشارة به - صلى الله عليه وسلم - أو بكتابه أو قبلته إلا و إقترنت بذكر علماء أهل الكتاب. فالبشارة تخصّهم وحدهم لأنّ أصحاب رسول الله كانوا أميّين لا يقرأون حتى بلغتهم فكيف يكلّفهم الله تعالى عن البحث في شيء لم يكن ميسورا في زمانهم؟ فقولك أخي أنّ البشارة به حرّفت قولٌ عظيمٌ و جرأةٌ كبيرة على الله و رسوله.و لا يؤيّده القرآن مطلقا. فكما ترى القرآن لم يقل أبدا أنّهم حرّفوه بل يؤكّد أنّهم يكتمون الحق و يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. و يعرفون القبلة الجديدة و يعرفون الكتاب الجديد. فكيف توفق بين قولك حرّفت البشارة و كلام الله تعالى و أنت تقرأه ليلا نهارا؟
7
منهجية الدراسة لا في الخبر ذاته.(1/6)
و لو رجع المسلمون إلى القرآن الكريم لوجدوا فيه الجواب الشافي. فلقد أقرّ مبدأين للتعامل مع عقائد و ثقافات الأمم الأخرى هما: "لكلّ جعلنا منكم شِرعة و منهاجاً"1 ( المائدة48) و الثاني:" وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم"(إبراهيم4). و اللسانُ بمفهومه الشامل هو اللّغة و البيان و التاريخ و العُرف و و السياق الإجتماعي و السياسي. لأنّ اللغة تتأثّر بكلّ هذه العوامل. و لكلّ مصرٍ من الأمصار لُغتُه حتى في الأمّة الواحدة. فإن أحسنّا قراءة الكتاب المقدّس بلُغَته و سِيّاقه فسنرى أنّ كلّ سفْرٍ بل و كلّ صفحة منه بشّرت به - صلى الله عليه وسلم - .و النبأ السّار الذي يزفّه إليك، أخي القاريء، هذا الكتاب هو أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرفُه أوّل مؤمنٍِ إسرائيلي سمعَ كلام الله و هو لا يزال غضّا طرياً نازلا على جبل سيناء قبل ثلاثة ألاف سنة و يعرفهُ الآن و في كلّ مكان كلّ كتابي تعلّم أبجديات الإيمان. و الأمر لا يتطلّب بضعة دقائق حتّى نحلّ الإشكال بالنسبة للكتابي.أمّا،أنت أخي مسلم، فيتطلّب الأمر منك صبرا و أناة .
و انطلاقا من مسلّمات يسلّم بها المسلمُ قبل الكتابي و التي تتلخّص فيما يلي:
Iـ خبرُ البشارة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المقدّسة معلومٌ من الدّين بالضرورة: قال تعالى " الذين يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل" (الأعراف 157).
ـــــــــــــــــــ
1- يقول الإمام القرطبي في تفسيره للآية:و روي عن ابن عباس والحسن وغيرهما شرعة ومنهاجاً سنة وسبيلاً ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها والإنجيل لأهله ، والقرآن لأهله وهذا في الشرائع والعبادات والأصل التوحيد لا اختلاف فيه روي معنى ذلك عن قتادة.
.
8.
و من الأشياء المسلّم بها لدى المسلمين أنّ الله أخبر بصريح نصوص القرآن الكريم عن البشارة بنبيّه و رسوله في عشرات الآيات.(1/7)
IIـ إستحالة الكذب في حقّ الله تعالى: فإذا سلّمت،أخي المسلم، أو راودك شكٌّ أنّه لا توجد بشاراتٌ بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدّس فتذكّر قوله تعالى: " و من أصدق من الله حديثا"و قوله تعالى أيضا:" و من أصدق من الله قيلا" ( النساء87؛ 122). فإن أصررت فأحدُ التفسيرات المحتملة لموقفك أنّه تعالى علوا كبيرا قد يكون كذَبَ على عباده. فهل من رجلٍ يدّعي الإسلام يستطيع أن يذهب هذا المذهب و قد قال تعالى واصفا كتابه:" ما كان حديثا يفترى و لكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل كل شيء و هدى و رحمة لقوم يؤمنون" (يوسف111).
IIIـ إستحالة العجز و الجهل و الظلم في حق الله تعالى:فإن قلت حاشا لله أن يكون كاذبا، لكنّ البشارات بنبيّه وردت في التوراة و الإنجيل و كتب الأوّلين الصحيحة أمّا هذه فقد حُرّفت. فنُجيبك بالقول أنّ موقفك يقتضي أحد هذه السّفاهات الأربعة التالية:
1- عجز الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا عن حفظ البشارات: فالله في عقيدة المسلم فعّال لما يريد؛لا يعجزُه شيء في السّماوات و لا في الأرض. و تذكّر قوله: " و ما كان الله ليعجزه من شيء في السّماوات و لا في الأرض إنّه كان عليما قديرا" (فاطر44).
2ـ ضعف حجّة الله:فإذا حُرّفت البشارات و حُذِفت فهذا يقتضي أنّ الله لا يستطيع أن يُقيم حجّته على اليهود و النّصارى. و هذا لا يتّفق مع معتقد المسلم و قد قال تعالى:"قل فلله الحجّة البالغة"(الأنعام149). فكيف يُلزم الله عزّ و جلّ
9
أهل الكتاب بنصوص لا يملكونها؟ و ما ذنبُهم إن حرّفها رجلٌ أو رجلان في إحدى مداشر فلسطين منذ أكثر من ثلاث ألاف سنة؟. فإن قلت عليهم أن يبحثوا عن النّصوص الصحيحة فسنقول لك هذا ما ليس بوُسع أحدٌ أن يفعله و قد أعذر تعالى عجز الإنسان و ضعفه بقوله:" لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها"( البقرة 286).(1/8)
3ـ جهل الله تعالى علوا كبيرا:فإن لم تكن من الفئتين السالفتين فقولك بتحريف البشارات يقتضي أنّ الله بشّر بنبيّه في الكتب الصحيحة ثمّ حُرّفت بعد ذلك لكنّه لا علم له بما وقع فيها . و هذا مستحيلٌ في حق الله تعالى و قد قال تعالى:" لا يعزب عنه مثقال ذرة في السّماوات و لا في الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين" ( سبأ3).
4- ظلم الله تعالى علوا كبيرا:فإن رفضت أن يكون الله تعالى كاذبا عاجزا ضعيفا جاهلا لكن قلت خاطب الله تعالى أهل الكتاب بنصوص لم تعد بحوزتهم بفعل ما وقع عليها من تحريف و تزييف منذ العصور الغابرة. فسنقول لك هذا ظلمٌ و يستحيل الظلم على الله تعالى و قد قال تعالى:" و ما ربّك بظلام للعبيد" (فصلت 46،ق 29 ). فالكتاب الذي يطمئن إليه الكتابي هو التوراة و الإنجيل و كتب الأنبياء و المزامير كما كانت زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و هي نفسها التي وصلتنا اليوم. فلو قامت الحجّة من هذه الكتب لكانت مُلزمةً لأهل الكتاب و لا عُذر لهم. و حينئذ عليهم أن يختاروا عن بيّنة بين الهدى أو الضلالة.
بكلمة موجزة محمّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو النبيّ العظيم الذي ملأت أخبارُه الأسفار المقدّسة و نبوات الأنبياء و أدبيات إسرائيل.. الذي تمّت به نعمة الله ،
10
وتحقّقت فيه نُبُوات العهد القديم ،نُبُوةً نُبُوةً ، وأُكمِلَ به الدّين .
و السِرّ في حفظ صفته مفهومٌ ميسورٌ هو أنّ اليهود كانوا يعتقدون و لا زالوا أنّه منهم ،من نسل داوود ... و النصارى يعتقدون بدون بيّنةٍ أّنه عيسى عليه السلام . و الله غالب على أمره ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون .
منهج البحث
منهجُنا الذي أسّسَ هذا البحث يرتكز على النقاط التالية:(1/9)
أولا – فهمُ النصوص بناءً على مدلولات الكلمات في الثقافة الدينية لشعب إسرائيل. لأنّ الكلمةَ في الكتاب المُقدّس قد لا تعني بالضرورةِ ما تعنيه في الثقافةِ الإسلاميةِ العربيةِ. مثلا كلمةُ "عرَفَ " في اللغة العربية تعني فهمَ شيءٍ، و استِجلاءِ مَكنونِه ، وجعْله واضحاً، أمّا الكلمة نفسها في التوراة و الإنجيل فتعني مفهوما آخر تمامًا لا صِلة له بالمفهوم الأوّل . فهي تعني كلّ علاقة جنسية طبيعية أو شاذّة . قالت السيدة مريم عليها السلام لمّا بشّرها الملاك بميلاد الغلام الزكي :" كيف يكونُ هذا و أنا لَسْتُ أعْرِفُ رَجُلاً "(لو1/34) . وقال قوم لوط الفسقة لنبيّهم عليه السلام،لما استضاف الملائكة : ً أخرِجْهُما إلينَا لِنَعْرِفَهُما ً(تك19/5) .
و كلمةُ "عَهد" في الثقافة العربية هي الالتزامُ بشيءٍ،أو الامتناعُ عنه،أمّا في التوراة فتعني في أغلب الأحوال "الشريعة". و لمّا يصِفُ أنبياءُ بني إسرائيل التوكّلَ على الله تعالى يقولون :" الله صخرتي" أو" اللهُ صَخرَةُ الدُّهور" لبيان أنّ المتوكّل على الله قَدَمَاهُ ثابتتان . و منه ضَرَبَ سيّدُنا عيسى أمْثَالا على البيت
11
المؤسَّس على الصخرِ؛ و المؤسَّس على الرَّملِ . ولقد لقّبَ تلميذَه العظيم : سمعان بن يونا بالصَّخرِ .
وتصفُ التوراة الشعبَ المتمردَ بصَلْبِ الرَّقبة، و تشبّه الإعراضَ عن الوصايا بالخيانة الزوجية. و تأتي كلمة "اليمين" أو " يمين الرّب " في الكتب المقدّسة بمَعَانٍ مختلفةٍ : السُلطان ، القُوة،التأيّيد، القُدرة و الحِفظُ . ولم يفهَمْ أبدا شعب إسرائيل أنّ لله يمينا و يسارّاً كما فَهِمَتْهُ الكنيسة ذات الأصول الوثنية.(1/10)
و من الكلمات التي وردت في التراث المقدس و التي تعني امتحان الله وتأديبه لشعبه إسرائيل،لإخلاصه له،كلمة النّار . قال النبي زكريا : "فأُدخِلُ الثُلثَ في النَّارِ و أُحميَهُ إحمَاء الفِضَّة، و أمتَحِنُه امتِحَانَ الذَّهَبِ . هو يَدعو باسمي و أنا أُجيبُه ً (زكا13/9)،وليست النّار كما فهمِها لوقا فهما ماديا ، عند نزول الرّوح القُدُس على الحواريين يوم العَنصَرة 1. وأخيرا يجبُ التأكيد على شيء قد يغيب عن بال كثيرٍ من الناس،أنّ في أسفار الكتاب المقدس مُحكما و مُتشابها . فالله عزّ و جلّ في التوراة وحتى في تعاليم بولس - عندما يكون بين أهل النَّامُوس2 - ليس كمثله شيء،و لا نستطيع أن نَتَصَوَّرَه أو نَتَخَيَّلَه أو تُدركَه أفهامُنا3 وفيه نصوصٌ مُتشابهةٌ كمَجِيء الرّب،و خُرُوجِه للقتال،و رُكوبِِِه الغَمَام . و هذه المفاهيم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أع 2 / 1-4
2- كان بولس ثنائي الشخصية و التعاليم يقول عن نفسه في 1كو 9/15-21 : ً مع اليهود أعيش كأنني يهودي لأربح اليهود . ومع الذين تحت الناموس أعيش كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس .و مع الذين بلا ناموس أعيش كأني بلا ناموس ً. فلا نشك أن تعاليمه الموحدّة كانت تعنى الذين يعيشون تحت الناموس ( يعنى شريعة التوراة ) ، و تعاليمه الوثنية مع الذين يعيشون بلا ناموس
3 -تث 4/ 16-8 1 ؛33/26 ؛ رو 1/23 ؛ أع 17/24-29
12
لها ما يماثلها في القرآن الكريم و السُنّة . قال تعالى :" هل يَنظُرون إلاّ أنْ يَأتِيَهم الله في ظلل من الغمام والملائِكَةُ و قضي الأمرُ و إلى الله ترجع الأمور" (البقرة 210).
و في السُنّة النبوية ثبت أنّ الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا .(1/11)
و ارتكازا على هذا الأساس فالكتاب المقدس عندما يتكلّم عن صفات سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يجبُ ألاّ ننتظِرَ أن تُسمّيه الأسفار المقدسة كما نُسمّيه نحن المسلمين بل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الثقافة الإسرائيلية . و الخطأ الذي وقع و يقع فيه كلّ باحثٍ في الكتاب المقدّس عن البشارات بمحمد - صلى الله عليه وسلم - و كتابه و قبلته و أمّته هو ظنّه الساذج أنّه سيجد كلمات مثل:محمد؛مكّة،القرآن..إلخ.
ثانيا - فهمُ النصوص بما يَقتَضِيه السِيَّاقُ النَّصي و التاريخي .ولقد ساهمتْ علوم الآثار و التاريخ و اللغات لاسيما القديمة مثل العبرانية و السريانية و الآرامية و اليونانية،و مختلف العلوم الإنسانية في تَبدِيدِ كثيرٍ من الحُجب الكثيفة التي كانت تلفُّ نصوص الكتاب المقدس .فاليوم نعرف الكثيرعن الظروف السياسية و الاجتماعية و العسكرية التي أحاطت بالأنبياء الذين دوّنوا نُبُواتِهم.فنبُوُةُ حبقّوق1 المُكوّنةُ من ثلاثة إصْحَاحَاتٍ،تبدو لقارئها لأوَّل وهلةٍ ألاّ رابِط بين فُصولها.لكن بمعرفَةِ الظُروف التي أحاطت بشعب إسرائيل،في هذه الأيام العصيبة سيَعلَم أنّ النبّي يتساءلُ – في حدود علمِه القليل – لماذا يكون شعبُك يا ربّ نهبًا و سلباً لمَنْ هُم أغرقُ منه في الخطيئة.فإن كان مختارُك شعبا متمرِّداً فلن يكون في أسوء الأحوال أشرّ من البابليين الذين لا يعرفونك مطلقاً ! فلماذا يأكل المنافق من هو ـــــــــــــــــــــــــــــ
1-النبي حبقوق عاش في نهاية القرن السابع و بداية القرن السادس قبل الميلاد . يكون قد عاصر حملة نبوخذ نصر على مملكة يهوذا .
13(1/12)
أبرّ منه ؟ تَساءل حبقّوق.فيُجيبه الرَبّ في الفصل الثاني أنّ بابِلَ هَراوَةُ الله لتأديب شعبه،وأنّ العقوبة مستحقّة لا ظُلم فيها. ثم في الفصل الأخير يَعِدُهُ الربّ بالخلاص القادم من بَرِّيةِ العرب،من فاران،ومن بلاد العرب الصخرية . و يأمُرُه بالصبر فإن النُبُوة لا تكذب ،و إن طال زمن تحققها.
و كلمة " لاويثان " التي وَردَت في نُبُوات أشعيا، لم نكن لِنَعرِفَها لولا علم الآثار الذي بيّن أنّه ثعبان عظيم مجنّح كان يعبُدُه البابليون . و على هذا الاكتشاف نستطيع أن نتأوّل نبوته1 أنّ الله يبيدُ مملكتي الشيطان عند بعثة مسيحه .
ثالثا - عندما تتضارب النصوص تضاربا لا يمكن التوفيق بينها فإننا نرجّح مايلي:
ــ نقبل بالشهادات الكثيرة في الحادثة الواحدة،ونرفض النصّ الشّاذ .مثلا
توجد أكثر من خمس شهادات أنّ اجتساس أرض كنعان بأمر سيدنا موسى عليه السلام كان من برية قادش برنيع2 . والحجّة القويّة تكمُن في أنّ هذه الشهادات من كَتَبَةٍ لا يجمَعُهم زمان ولا مكان. أمّا نصّ إجتساس أرض كنعان من برية فاران فهو نصّ دخيلٌ و لا يتعدَّى في أيّ حال سِنِي الجَلاَء في بابل.
و النصّ الذي يأخذ بظروف و حيثيات الحادثة أقوى عندنا من النصّ الذي لا يُعيرُها اهتماماً . فنص إنجيل يوحنا في القبض على يسوع أقوى من نصّ الأناجيل المتشابهة.لأنهّ الوحيد الذي ذكر أنّ الجند و الحرس أتوا بمشاعل و
ـــــــــــ
1-أش 26/20-27/1 التي يذكر فيها أنّ الربّ عز و جل سيجازى إثم سكان الأرض و بالذات يقتل لاويثان و تنّين البحر .
2-هذه البرية كانت في الشمال الشرقي لجزيرة سيناء و جنوب غرب أرض كنعان و موقعها قد يكون اليوم على الحدود الفلسطينية المصرية.
14(1/13)
مصابيح إلى بستان جيتسيماني،أين كان سيدنا عيسى عليه السلام و تلامذته يقضون ليلتهم ، لإلقاء القبض عليه. وهذا يتّفق،كما ذكرت الأناجيل المتشابهة1، مع أنّ سيدنا عيسى عليه السلام تناول الفِصحَ2مع تلامذته ليلا ثم عاد إلى البستان المذكور ليقضي ليلتَه مع خاصته عليهم السلام .
و النص البسيط الذي لا يحمِلُ خلفيةً عقائديةً أقوى،عندنا،من النص المعقّد أو المتأخّر . لأنّه لا يمثّل ما وصلت إليه الإختمارات العقدية ، بل الحادثة التاريخية . فبكاء المصلوب وصراخه في مرقس و متى : " إلهي إلهي لماذا تَرَكْتَني ! " (متى7/46؛مر15/34) أصحّ من نصّ لوقا:"يا أَبَتَاه إغفِرْ لَهُم فإنّهُم لا يَعلَمون "(لو23/34) . و نصّ لوقا متأخر عن النصّين السابقين. و محاولة لوقا مكشوفة لأنّه يريد أنّ يُظهر يسوع راضيا بهذا الموت كما سبق و أن أخبر به،إرضاءً لأبيه،لأجلِ كَفَّارَة خطايا البَشَرِ .
و النصّ الذي يُحاول تفسير أبسط الأفعال اليومية بنُبُوات الكتاب المقدس نَرفُضُه لصالح النصّ الذي لم يتكلّف ذلكَ . فرُكوبُ عيسى عليه السلام حماراً ليدخل إلى أورشليم،في مرقس،لا يُثير أيَّ انتباه و لم يحاول الإنجيلي ايلاءه أي اهتمام .فلم يكن عيسى عليه السلام لا أوّل و لا آخِر مَنْ ركب حماراً ليدخل إلى المدينة المقدسة،لأن مراكب عامّة النّاس، في ذلك الزمان،أَحْمِرَةٌ. أمّا في نصّ متّى
ــــــــــــــــــــــ
1 -الأناجيل المتشابهة هي : متى ، مرقس ؛ لوقا. سميت هكذا لاتفاقها الشبه حرفي في رواية الأحداث
الذي عاشها سيدنا عيسى عليه السلام . و يقابلها إنجيل يوحنا الذي يختلف عنها اختلافا جوهريا في
رواية الأحداث و في التسلسل الزمني و في الجغرافيا ، و أعظم شيء ، هو العقيدة.
2 ـ يعنى العبور،وهو عيد تذكارى رسّمته التوراة للاحتفال بخروج بنى إسرائيل من مصر وعبور البحر.
15(1/14)
فيسوع يَركَبُ حِمَارَين معًا !لينجَحَ حرفيا في تطبيق نُبُوة زكريا(متى 21/7 و زكا 9/9.). وكمثال آخر على حادثة ضَرْبِ أحدِ التلاميذ بسيفه أُذُنَ خادم الكاهن.
فمرقس لم يبّين كيف وصل السيف لِيَدِ أحد التلاميذ،أمّا لوقا فيُجهد نفسه في تبرير امتلاك التلميذ سيفا ؛ ويُظهر يسوع كأنّه لم يَرْضَ بهذا الفِعل بإبرائه أُذُنَ الخادم.ثم يفسّر هذا الحادثة على أنها تحقُّقٌ نبوات الأنبياء بذكرِه لنُبوة أرميا : " أَنّه أُحْصِيَ مع الأَثَمَة1 " .
رابعاً – الشهادات المُتّفِقَة بين إنجيلين أو ثلاثة – في إطار الأناجيل المتشابهة – نعتبرها ذات قيمة شهادة واحدة . لأنّ متّى و لوقا لم يفعلا شيئا سوى نَقلَ في كثير من الحالات لنصوص تكاد تكون حرفية من مرقس . و يكادُ يُجمِع على هذه النظرية كلّ علماء الكتاب المقدس .و نحسب شهادتين في الحادثة الواحدة
إذا تبيّن اختلاف مصادرهما . فميلاد عيسى عليه السلام،كمثال على ذلك،ذكرَه متّى و لوقا بروايتين2 لا تتّفِقان تماما إلاّ في أنّه وُلِدَ عليه السلام في بيتِ لحم اليهودية3.وهذه شهادة قوية لصالح مكان الميلاد .
خامسا ـ إذا اختلفت الروايات بين الأناجيل في قصّة جوهرية من العقيدة النصرانية فإننا نختار النصّ الذي يُخَالِفها .كقوله عليه السلام في إنجيل مرقس ،"مَنْ أَعْطَاكُم كأسَ ماءٍ لأنَّكُم تلاميذُ المسيحِ فالحَقُّ أَقُولُ لَكُم لَنْ يَضِيعَ أَجْرُهُ
ـــــــــــــــــــــ
1- لو 22/35-38 ؛ 22/50-51 ؛ أش 53/12
2- ... متى 1/18- 2 /1-23 ; لو 2/1-40.
3- اليهودية تعني قبيلة من قبائل بني إسرائيل ينحدرون من يهوذا ابن يعقوب عليه السلام. كما أنّها منطقة جغرافية جنوب فلسطين و كانت عاصمتها أورشليم. و سكنها بنو يهوذا و بنو بن يامين.
16.(1/15)
"(مر9/41) ، أما في النص الموازي : " مَنْ سَقَى أَحَدَ هَؤُلاء الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلميذٍ فالحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لا يَضِيعُ أَجْرُهُ " (متى 10/42). ؟
وكقوله عليه السلام أيضا:" مَنْ يَقْبَلَكُمْ يَقْبِلُنِي وَمَنْ يَقْبِلُنِي يَقْبِلُ الذي أَرْسَلَنِي، وَمَنْ يَقْبَلُ نَبِيًّا بِاسْمِ نَبِيٍّ ، فَأَجرُ نَبِيِّ يَأْخُذْ " (متى 10/40-41) . نلاحظ زيادة كلمة المسيح في نص مرقس و غيابها في متّى. فهل يمكن لمتّى إغفال لقب جوهري في عقيدة المسيحيين؟. فما الذي صرف متىّ أن يذكر كلمة المسيح كما وردت في مرقس مع علمنا أنّ متّى يأخذ عن مرقس،ولا نَشُكّ لحظة في أنّ الكنيسة لا تتلعثم في أن يسوع هو المسيح.وعلى هذا الأساس فإننا نؤثر رواية متىّ على مرقس .
سادسا-كثيرٌ من القضايا المحورية في النصرانية شكلّت ، في الأزمنة الأولى، مواضيعاً للخصومة وأثارت جدلا كثيرا . وقد عكست الأناجيل هذه المصادمات. فالإنجيلي اللاحق قد يقرّ الإنجيلي السابق ويخرُج النصّ مُدَعّما قويا،وفي أحيانٍ كثيرة قد يُكذّبه ويلجأ إلى تحوير النصّ .فلا غُلُوَ إذا دعونا إلى الشكّ في مثل هذه
الحالات .وعلينا أن نُرجِّحَ بين النصّين المتضاربين بناء على الشواهد النقلية والعقلية .وغالبا ما يخرج النصّ المتأخِّر مهزوما أمام النصّ المتقدّم وسنعطي أمثلة على هذا .
في الأناجيل المتشابهة حامل الصليب هو سمعان القيرواني1، أما في إنجيل يوحنا فيسوع هو الذي حمل صليبه . ٍوالقانون الروماني في تلك الآونة كان يُحمّل المحكومَ عليه بالصلب صليبه2 .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ متى 27/32 ، مر 15/21 ، لو 23/26 ، يو 19/17.
2 ـ 2599 ، 2433 TOB P . تقول الترجمة المسكونية في تفسير اختلاف النصوص : " هل
.17
فهدف يوحنا اللاهوتي من هذا التبديل هو إرادته قطع أيّ شُبهةٍ على الذين يرون إمكانية صلب سمعان القيرواني بدلا من يسوع .(1/16)
و في إنجيل مرقس، يأتي يسوع إلى يوحنا المعمدان ليَعْتَمِدَ منه كسائر شعب إسرائيل . ثم في الإنجيل الثاني في التسلسل الزمني وهو إنجيل متىّ ،يجعل في فَمِ يوحنا عليه السلام هذا الاعتراض قائلا : " أنا أَحْتَاجُ أن أَعْتَمِدَ مِنْكَ ، وأَنْتَ تَأتي إليَّ ! ً أما الإنجيل الثالث وهو لوقا فيروي قصّة سجن يوحنا المعمدان قبل اعتماد يسوع ، ويروي قصة التعميد دون ذكر من عَمَّدَه. والإنجيل الرابع وهو إنجيل يوحنا يتجاهلُ خَبَر اعتمادِ يسوع بالمرَّة ، رغم أنَّ كاتبه يُشير إلى أنّ الأمر لم يكن خافيا عنه1.فمن ارتباك الأناجيل في هذا الشأن،نستنتج أنّ الفكرة التي أقلقت كنيسة بولس هي:أنّ الإقرار بأنّ يسوع اعْتَمَدَ من يوحنا ينفي صفة المسيح عنه.إذْ كيف يَعْتَمِد المسيحُ مِمَّنْ ليس أهلا لأن يَحُلّ سُيُور نَعْليه ؟.
و من الأمثلة التي تدعم وجهة نظرنا أيضا هي أنّ كلّ الأناجيل المتشابهة تتّفق أنّ يوحنا و يسوع و تلامذته كانوا يُبَشِّرون بمملكة الله2 و لأجل هذا النبأ السّار سُمِّيَ الكتابُ،الذي أُنزِل على سيدنا عيسى بالإنجيل. فلا يوجد في الدنيا أحد من لَدُن عيسى عليه السلام إلى اليوم لا يُسمّي هذا الكتاب إنجيلا .
ـــــــــــــــ
يمكن أن نرى هنا (في نص يوحنا ) رد فعل ضد التفسيرات الدوكيتية التي ترى أن سمعان القيرواني هو
الذي صلب مكان يسوع " . و من أشهر الأناجيل التي قالت بهذا هو إنجيل بازيليد الذي وجده تان موتر في نجع حمادي مكتوبا على ورق البردي ( أنظر محاضرات في النصرانية لمحمد أبو زهرة تقديم الدكتور عمّار الطالبي ص 59 ) .
1 ـ متى 3/14 – 15 ، مر 1/9 ، لو 3/20 – 21 .
2- (متى 3/1 – 2 ، 4/17 ، مر 1/15 ، لو 4/43 ، لو 9/2 – 6
18(1/17)
فلماذا في الإنجيل الرابع – إن صَحَّت تَسْمِيَتُه إنجيلا – لا يوجد ذكرٌ للبشارة بمملكة الله من قِبَلِ يسوع أو تلامذته و لو لمرَّةٍ واحدةٍ ؟ ذلك لأن يوحنا اللاهوتي1الذي بدّل إنجيل التلاميذ ، و الذي ألّفَ كتابه في نهاية القرن الأول للميلاد ، كان يعلم يقينا أنّ البشارة بملكوت الله تعني البشارة بالملك الموعود رحمة للعالمين ، باني مملكة الله، و أنّ يسوع لم يزدْ دورُه عن التَبشيَر به.و لهذا السبب تجاهل خبر البشارة .
و من التجاهلات الخطيرة التي نستخلصها إذا ما قارنا إنجيلي مرقس و متّى من جهة مع لاحقهما إنجيل لوقا نجد أنّ الإنجيلين المتقدّمين يصفان الأمم بالكلاب و الخنازير2،و يَقطَعَان عنهم رسالة البشارة حيث يخصّصاها لبني إسرائيل وحدهم. لوقا تلميذ بولس يتغافل عن هذه النصوص كلّها ، و يؤكّد على نصوص أخرى مِثْلَ مَثَلِ السامرى الطيّب3 . فنجزم من هذه المقارنة أنّه بالفعل
ـــــــــــــــ
1 ـ يوحنا اللاهوتي هو كاتب الإنجيل الرابع ، أو بالأحرى مكيّف الإنجيل ، و هو تلميذ من تلاميذ بولس الأوفياء عاش في أفسس و مات في جزيرة بطمس و لم يكن خافيا هذا على أباء الكنيسة القدامى و أشهرهم الأب بابياس أسقف هيرابوليس كما ذكر أبو التاريخ الكنسي أو سابيوس القيصرى . و لا علاقة لهذا الكتاب بيوحنا التلميذ حبيب يسوع عليه السلام.
2 ـ متى7/6 ، مر7/26 – 27(1/18)
3- أنظر لو 10/24-36:" و إذا ناموسي قام يجرّبه قائلا يا معلّم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية..فأجاب و قال تحبّ الرّب إلهك من كلّ قلبك و من كلّ نفسك و من كلّ قدرتك و من كلّ فكرك و قريبك مثل نفسك...فقال النّاموسي و من هو قريبي؟ فأجاب يسوع و قال إنسانٌ كان نازلا من أورشليم إلى أريحا فوقع بين اللصوص فعرّوه و جرّحوه و مضوا و تركوه بين حيّ و ميّت. فعرض أنّ كاهنا نزل في تلك الطريق فرآه و جاز مقابله. و كذلك لاويٌ أيضا إذ صار عند المكان جاء و نظر و جاز مقابله. و لكنّ سامريا مسافرا جاء إليه و لمّا رآه تحنّن. فتقدّم و ضمّد جراحاته و صبّ عليها زيتا و خمرا و أركبه
.19
رسالة عيسى لم تُخَصَّصُ إلاّ لبني إسرائيل.و تَنَكُّرُ لوقا ذو الأصول الوثنية لهذه الحقيقة ، لم يزدها إلا تأكيدا.
و نجد مثل هذا عند مقارنة نصوص أسفار التوراة مع بعضها البعض. إذ ورد في سفر التثنية : " يُقيمُ لكَ الرَّبُ إلَهكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ بَينِ إِخْوَتِكَ " (تث18/15) . لا يوجد نصٌّ مثل هذا في كلّ الكتاب المقدس . لأنّ التوراة ليس من عادتها مخاطبة شعب إسرائيل كلّه بكلمة " من بين إخوتك1 " و قد وردت كلمة " من وسطك " في سفر التثنية وحدها ثلاث و ثلاثين مرة ، لم يجد كاتبُ الوَحي أيّ حاجة في أن يزيد إليها كلمة " من بين إخوتك " لزيادة وضوحها . فنستنتج أنّ النصّ الأصلي كان بدون "من وسطك ". و لهذا الأصل ثلاثة شواهد : تث 18/18،أع 3/22 ،أع 7/37 . و ارتِباَكُ الكاتب مع كلمة غير معهودة في التوراة عند مخاطبة شعب إسرائيل هو الذي جعله يزيد الكلمة "من وسطك" حتى تتّفق النبوة مع مبتغاه و هو خروج النبي العظيم ، الذي تَمَّت فيه نعمة الله،من بني إسرائيل،لا من إخوة بني إسرائيل .
ــــــــــــــــــ(1/19)
على دابّته و أتى به إلى فندق و اعتنى به....فأيّ الثلاثة ترى صار قريبا للذي وقع بين اللصوص". هذا النصّ لا يوجد إلا عند لوقا ذو الأصول الوثنية و لا يوجد في أيّ إنجيل آخر. و هدف لوقا واضح من خلال مقارنته بين كاهن و لاوي من جهة مع سامري- و السّامري أجنبيٌ في رأي اليهود و نصف وثني - صنع خيرا للرجل المعتدى عليه. و بهذا يعتقد لوقا أنّ يسوع قد فتح باب الخلاص لغير اليهود أيضا.
1-"إخوتك" لم تستعملها التوراة إلا ست مرّات .لكن أستعملت هذه الكلمة لوصف علاقة الأخوة بين الفرد وشعب إسرائيل أو قبيلة مع باقي الشعب أو فئة من الكتبة واللاويين مع عموم الشعب.أما كلمة"إخوتك" مخاطبة كل الشعب فلم ترد إلا في تث17/15؛تث18/15؛18 وهي النصوص المبشّرة بالمسيح.أو تث 2/4؛ تث 2/8 و تقصد شعب آدوم .
20
سابعا - إذا اختلفت الروايات في حادثة ما ، فلتفسيرها يجب الرجوع إلى ثقافة
شعب إسرائيل الدينية . كقوله عليه السلام : " لَيسَ الذي يَدْخُلُ إلى البَطنِ يُنَجِّسُ لكن الذي يَخرُجُ من الفَمِ . أَمَّا أن تَأْكُلَ دون غَسْلِ يَدَيكَ فهذا لاَ يُنَجِّسْ"(متى15/10-20 ( فيجب أن نفهم من هذا أنّ علماء الشريعة اليهود كانوا
يطلبون من كل واحدٍ غسل يديه قبل تناول الطعام ، حتى لا يأكل نجسا. و قد أنكر عليه السلام أن يكون هذا الصنيع من الدّين . و لهذا عقّب :" أن تَأكُلَ دون غَسْلِ يَدَيكَ فهذا لَيسَ نَجِساً . أمَّا قول الإنجيلين : كُلّ الطَعَام حتىّ النَّجِس منه طاهِرٌ . فهو قول مردود وهو من تعاليم بولس.
ثامنا – نلتزم بنقل شروح نصوص الكتاب المقدّس و التعليقات عليه من أهله فقط، و لا يمكن بحال قبول شرح مسلم أو آخر إن لم يبيّن مصدر خبره.(1/20)
تاسعاـ يجب أخيرا ،أن نبرّر مراجع بحثنا التي إخترناها . أوّل نسخة للإنجيل وقعت بين يدينا ،والتي استلَفْناها من مكتبة الرهبان بالمدينة التي نقيم فيها،كانت عربيةً . إخترناها كما يمكن أن يختار أيّ إنسان ، يريد التعرّف على ثقافة أو دين جديد، أن يقرأ بلغته الأمّ . لكن الشيّ الذي حيّرنا أننا لم نفهم شيئا وأصبحتْ قراءتنا مدعاة للملل و الكسل.وذلك لأنّ الترجمات العربية تستعمل مفردات غير متداولة و تراكيب غير معهودة.وظننا أنّ هذا التعقيد قد يكون متعمدا.فاضطررنا لدراسة الكتاب المقدس باللغة الفرنسية. ولقد كانت دهشتنا عظيمة جدّا! لقد كنا نفهم النصّ ومراده من أوّل قراءة.وذلك لسهولة الكلمات والأسلوب معا.كان هذا أوّل انطباع خرجنا به من تجربتنا الأولى هذه.
وبعد ذلك تكرّس خيارنا لما تناولنا الترجمة الشهيرة:الترجمة المسكونية TOB
21(1/21)
فدراسة الكتاب المقدس باللّغات الأوروبية هو السبيل الأمثل في رأينا ،للإطلاع على محتوياته دون تعتيم . ومن جهة أخرى فإنّ نصوصه تمثّل ما تمخّض عن دراسة نقدية شاقّة لأكثر من خمسة آلاف مخطوطة باللغة اليونانية وحدها،ونسخ أخرى في لغات قديمة كالسريانية و اللاتينية و القبطية و الآرامية. و لقد استمرّت هذه الدراسة المُضنية لقرن و نصف من الزمان. فالترجمات الحديثة باللغات الأوروبية تختلف في نقاط كثيرة عن تلك التي انتشرت قبل 1850 م اختلافا جوهرياً. و لقد كان هَمّ هذه الدراسة هو الوصول ، قدر المستطاع ، إلى نصّ قد يكون قريباً من النصّ الأصلي و ذلك بالاعتماد على الشواهد التي جمعها العلماء في ثلاث عائلات كبرى :النص الأنطاكي سُمّي هكذا لأنّ مصدره من أنطاكية بسورية و يكون زمان انتشاره في سنة 300 م و يتميّزبأنّه يجمع الروايات المختلفة للنصّ ، و النصّ الإسكندارني أو النصّ المصري و من أهمّ نسخه النسخة الفاتيكانية و النسخة السينائية1. و يكاد يُجمع حوله العلماء أنّه النصّ الأكثر صحّة و لهذا سمي بالنصّ المحُايد ، و العائلة الأخيرة هي النصّ الغربي سُمّي هكذا لانتشاره في العالم الإغريقي الروماني و يّتميز بحبّه للشرح و التفسيرات و التدقيق و التنسيق ، الأمر الذي أبعده كثيراً عن النصّ الأصلي2.
وأحسن الترجمات التي اعتمدتُها هي الترجمة المسكونية للأسباب التالية :
1-لأنّها ترجمة اتّفقت عليها المذاهب النصرانية من كاثوليك و بروتسنانت و أرثوذكس ،ولم يحصل أبداً في التاريخ أن اجتمع النصارى حول ترجمة ما رغم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-النسخة الفاتيكانية مجهولة المصدر و هي محفوظة في مكتبه الفاتيكان , النسخة السينائية سميت كذلك لأنها وجدت في دير القديسة كاثرينا في جبل سيناء وهي محفوظة في متحف لندن.
2- TOB PP 2280 – 2284
22(1/22)
أنّهم حاولوا ذلك منذ القرن السابع عشر،لكن لم يُكتَب النجاح لها ، مثلما نجحت هذه الترجمة .
2- لأنّه تمّ تعاون أكثر من مئة و ثلاثين من أعظم علماء الكتاب المقدس في مختلف الإختصاصات ، في تحريرها .
3-أُعتُمدت هذه الترجمة على أساس الترجمات الأكثر تنقيحا،ثم عُرِضت على القرّاء و الاختصاصيين و اللاهوتيين وعلى مسؤولي الرابطة العالمية للكتاب المقدس وعلى السكرتارية الفرنسية لأجل اتحاد النصارى و آخرين .و كما مجمل مُراجعاتها قد وصل إلى العدد مئة .
4-و أهمّ من هذا كلّه،رغم إنها اختارت أن تكون على قاعدة ترجمات معينة إلا أنّ هذا لم يمنعها ما أمكن،أن تعطي في الحواشي روايات الترجمة السبعينية و وثائق قمران و مختلف الترجمات باللغات اليونانية و السريانية و الأرامية .و شروح الأحبار ومن أهمّهم بن زكاي وراشي . و تُحيل في أحيان إلى التلمود . و توضّح أسماء المدن القديمة و تموقعها الجغرافي.كما تسرِد الظروف الاجتماعية و الدينية و العسكرية و السياسية التي أحاطت بأحداث الكتاب المقدس .
و إلى جانب هذه الترجمة استعملتُ ترجمة أورشليم و هي ترجمة شهيرة في العالم الكاثوليكي،و ترجمة العالم الجديد و قد بيعت منها أكثر من ثمان و أربعين مليون نسخة ،و ترجمة العهد الجديد باللغة العامية الفرنسية التي قدمها
إيتيان شاربونتيه،و ترجمة العهد الجديد المسماة الزارع ،و ترجمة العهد الجديد
المسماة الرسالة ، و ترجمة لويس سكّون . هذا فيما يخصّ الترجمات باللغة الفرنسية . أمّا التراجم باللغة العربية فهي الترجمة اليسوعية طبعت سنة 1897
.
.23
في مطبعة المرسلين اليسوعيين ، و ترجمة الكتاب المقدس من دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط ، و ترجمة العهد الجديد المرموز لها LBI 1982.
و باللغة الإنجليزية ثلاث ترجمات هي :
Today's English Version. Abs ; Authorized version of James King ; Christian Community Bible catholic pastoral edition.(1/23)
و غالبا ما تتّفق الترجمات الفرنسية مع بعضها من جهة و الترجمات العربية مع بعضها من جهة أخرى . و في النقاط الحسّاسة من هذا البحث وَجدنا إختلافات ، تبدو بسيطة للوهلة الأولى لكنها ذات أهمية عظمى على المستوى العقدي،بين الترجمات الفرنسية و العربية . و لم أُعَوّل على الترجمات العربية و ذلك لثلاثة أسباب : فقرها من الشروح و التفاسير الكافية و عدم مواكبتها للحركة النقدية الجبّارة للكتاب المقدس التي كانت مَحَلَّ عرضٍ أعلاه . و السبب العظيم هو أنّ كتبة الكتاب المقدس العرب يكتبون بعُقدةٍ أنّ عين المسلم و العربي رقيبة ، و لهذا يحاولون تجريد خصومهم من كل سلاح قد يستعلمونه ضدهم .و سنبيّن معظم النصوص في الترجمات العربية التي تتعمّد هذا الأسلوب .
كما يجدر التأكيد على أنّنا في كتابنا تعمّدنا تكرار بعض النصّوص الكتابية من صفحة إلى أخرى عن سبق إصرار، و ليس في هذا عيبٌ بل إنّا نراه أسلوبا ربّانيا ورد في القرآن لترسيخ الأفكار و المعاني، و ذلك لفحصها من جميع وجهات النظر الممكنة،و لم نكتف بالإشارة إليها لأنّنا نتوقّع المشقّة التي قد يقع فيها المسلمُ
الذي ليس من عادته قراءة نصوص الكتاب المقدّس.
و أخيرا يجب أن أنبّه القاريء الكريم أنّه قد تحصل معه مشاكل بسيطة في الإحالات. و ذلك أنّ ترقيم أعداد الأصحاحات بين الترجمات الفرنسية التي
24.
أعتمدُها و الترجمات العربية قد يكون بينها تفاوت بسيط . فإن لم تجد رقم الأصحاح و العدد كما هو في هذا الكتاب فإنّك تجده قريبا منه في ترجمتك التي
تعتمدها.
الآيات القرآنية المشيرة إلى سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدّس.(1/24)
لا نذكر هذه الآيات الكريمة للإحتجاج بها على أهل الكتاب،ذلك لأنّه ببساطة غير ملزمين بالقرآن الكريم .إنّما نذكرها لهدف آخر. ذلك لأنها قاطعةٌ في أنّ الله تعالى شرّع البحث في الكتاب المقدّس عن صفات سيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - . وقد أشهد الله تعالى نفسه،ومن عنده علم الكتاب على أنّ هذا النبيّ مُرسلٌ قال تعالى : " ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب"(الرعد 43 ). فطوبى لعلماء أهل الكتاب الذين قرن الربّ عزّ و جلّ شهادته بشهادتهم. فيا له من فضل و شرف عظيمين ! ! ... ولو لم يذكر القرآن صراحة في عشرات الآيات الكريمة أنّ هذا النبي مبشّر به في التوراة والأنبياء و المزامير و الإنجيل ما استطاع أحد من المسلمين أن يُجهِدَ نفسه في نصوص العهد القديم ليجدَ أدلّة على نبوة هذا الرجل الذي عاش منذ ما يزيد عن ألف و أربع مئة سنة ، في هاتين القريتين الصحراويتين المنسيتين ، ولكان جهدُه ضربا من الهلوسة التي يَنْأَى عنها العقلاءُ.
لكن بادىء ذي بدء تعترضنا مشكلة على غاية من الأهمية . فقد ورد في القرآن الكريم أنّ عيسى عليه السلام بشّر بإسم أحمد تصريحاً لا تلويحاً قال تعالى حاكيا
.25(1/25)
على لسان عيسى بن مريم عليه السلام:" وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم مصدّقا لما بين يديّ من التوراة ومبشّراً برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد "1 . ولا يوجد ذكر لإسم أحمد في الإنجيل.ولا مبّرر لرجال حوّروا كلمة باراقليطوس إلى بيريقليطوس ليقرّبوها من معنى الحمد2 ... فخبرُه عليه السلام في الأسفار المقدّسة في غنىً عن لَيِّ النّصوص.و الأمر هذا بادرةٌ خطيرة . فلا سهل من أن نفترض أنّ النصّ كان هكذا ثمّ حُرّف. الإفتراضات لا تُعجزُ البشر. فيجب أن نقبل النصّ كما هو ما لم يثبت ما ينقضُه بنصوص أقوى منه. ولفهم نصوص القرآن يجب أن نقرأ القرآن كلّه،لأنّ أحسن تفسير للقرآن هو القرآن نفسه .وهذا مذهب السلف و الخلف بالإجماع .
ولو قرأنا آية الأعراف:"ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتّبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم و الأغلال التي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-الصف 6(1/26)
2- مع إيماننا العميق بأنّ البارقليطس هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنّنا لانقول أنّ النصّ الأصلي كان بريقليطوس. فلا توجد هذه الكلمة في أي مخطوط ، رغم أنّه وصلتنا خمس ألاف مخطوطة باللغة اليونانية وحدها. الكلمة كما وردت في الإنجيل باللغة اليونانية ثم باللغات الأخرى التي ترجمت عنها معناها الشفيع أو المعزّي أو المحامي. و كلّ هذه المعاني مقبولة لأن تكون وصفا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . و بالخصوص أنّ عيسى عليه السلام يقول سيعطى لكم برقليطس آخر( أنظر يو 14/16)، بإعتبار أنّ عيسى كان اوّل برقليطس للمؤمنين به( أنظر رسالة يوحنا الأولى 2/1). الترجمات العربية الحديثة لم تعد تستعمل كلمة" برقليطس" إنّما تستعمل شفيعا أو محاميا أو معزّيا.
.26
كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه وإتّبعوا النور الذي أنزل معه أولآلئك هم المفلحون "( الأعراف 157)، لعَلِمنا أنّه توجد بشارتان إحداهما منطوقةٌ رسولُها الكلمة ،والأخرى مكتوبةٌ رسولُها الحرف. فمن مقابلة آيتي الصف والأعراف نجد أنّ عيسى عليه السلام نُسِبَ له القولُ ولم تُنسَبُ له الكتابة. وهذه أيضا معجزة !
لأنّ عيسى عليه السلام لم يكتب حرفا واحدا من الإنجيل إنّما تلامذته هم الذين
كتبوا مع تلاميذ آخرين لبولس الطرسوسي.
والسؤال هل نقل الكتبة بأمانة ما قاله عيسى عليه السلام ؟نجيب لا !ان كان الحواريون أمناء على كلمة الله و رسوله فللأسف لم تصلنا من كتاباتهم الاّ ما محّصته كنيسة بولس وما أرادت أن توصله لنا. لكن هل استطاعت أن تطمس النصوص المبشّرة بسيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - في الانجيل؟ نجيب لم تستطع ! رغم أنّها كانت وجها لوجه مع الأناجيل قرابة ستّة قرون قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - و بقيت كذلك إلى زمن إختراع الطباعة.(1/27)
كيف تمّ ذلك ولماذا؟ لأنّ الله تعالى لو سمح بتحريف صفات عبده ورسوله في الكتاب لكانت الحُجّة عليه لا له .وقد نفى عزّ و جل و نأى بنفسه أن تقام عليه حجّةٌ حيث قال: " رسلا مبشّرين و منذرين لئلاّ يكون للنّاس على الله حجّة بعد الرسل"( النساء 165). ويكون حينئذ القرآن عابثا، إذا قبلنا مبدأ تحريف البشارة، إن أحالنا على الكتب السالفة لنتحقّق من صحّة نبوّته.
وحاشا لله ! فلا تقم الحجّة على الله لأنه الجبّار ،القاهر فوق عباده و الغالب على أمره ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون . وحاشا لكتاب الله ! لأنّه كتاب حكيم
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حكيم .فإن قبلنا بأنّ
27
البشارة به عليه الصلاة و السلام مُسحت ،فلا ذنب إذن لليهود و النصارى في أن يكفروا بالقرآن الذي أحالهم على كتُبِهم ليعلموا من أمره وأمر كتابه وأمّته . وهذا مستحيل عقلا ونقلا ! وإذا تمعنّا في آيات الأعراف نجد أن سرّ الإعجاز و التحدّي في الكلمة " عندهم " لأنّه لو قال تعالى : الذي يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل ،لكان الأمر مفهوما فلا نعلم توراة إلا لبني إسرائيل؛ولا إنجيلاً إلاّ للنصارى .لكن قد يُفهم إن كان النص كذلك ،التوراة والإنجيل الصّحيحان اللذان لم يُحرّفا .وبوجود الكلمة " عندهم " ضَمِن الله تعالى حفظ البشارات بعبده ورسوله في كلّ الكتب في أيدي مختلف الطوائف اليهودية و النصرانية والتي كان لكلّ منها أسفاره القانونية الخاصة به.وهذا أبلغ في التحدّي !
ونعود لنقول إنّ عيسى عليه السلام بشّر بإسم أحمد تصريحا بالقول ؛ أمّا البشارة المكتوبة التي وصلتنا فبشّرت بصفاته وذلك بصريح القرآن . فالذكر الحكيم لم ينطق بإسمه في البشارة المكتوبة إنّمانطق بصفاته؛ إذ لم يقل : الذي يجدونه مكتوبا عندهم اسمه أحمد إنّما قال:" يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم".(1/28)
و الكنيسة الوفيّة لتعاليم الإنجيل الصحيحة - والتي أصطلح عليها تاريخيا بإسم الكنيسة اليهودية المسيحية –التحقت كلّها بالإسلام غداة بعثة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأنّه لا معنى للإنجيل وراء هذا النّبأ العظيم.
ولنفترض أنّ الإنجيل نقل بأمانة ما علّمه عيسى عليه السلام ،وأنّ فيه ذكر صريح لإسم أحمد، فسنتوقع مشكلة من نوع آخر: وهي أنّ الملايين ستتسمّى بإسمه طمعا أن يكون أحدهم هو هذا النبي العظيم. وحينئذ سيشقُّ علينا من
28
هو أحمد الصحيح من هؤلاء ؟! و قد كان هذا الإشكال المماثل ممكن الوقوع عند بني إسرائيل لو كانوا ينتظرون نبيّا عظيما، ليس له من البشارات الدّالة عليه إلا اسم المسيح ـ مثلما يظن و يعتقد البعض خطأ أنّ "المسيح" إسمٌ ـ لكن هذا لم يحصل رغم أنّ كلمة "المسيح" أستعملت حوالي زمن عيسى عليه السلام كإسم علم. و سبب إمتناع وقوعه عند بني إسرائيل هو أنّهم كانوا مدركين حقيقة هذا النبيّ العظيم بأنّه مؤسس لمملكة الله على الأرض. يعني بإيجاز أنّه كان مسيحا بالحقيقة لا بالإسم.
إذن فالبحث الجادّ عن بشاراته عليه الصلاة والسلام هو البحث عن صفاته وما إختصّه الله به من بركة و رحمة في الكتاب.فلا يعجز النّاس أن يتسمّوا باسم أحمد لو علموا بإسمه من الأسفار المقدّسة. لكن الأكيد الذي لا يرقى إليه أدنى شكّ أنّه لا أحد منهم بل و كلّهم لا يستطيعون، و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، أن يحقّقوا نجاحات أحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/29)
وقد إعترض إخواننا النصارى زمن العامري1 في شأن تبشير الكتب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا: " إناّ وجدنا صاحب دعوة الإسلام مُدّعِيا صِدق خبره وصِحّته ما حكاه من أمره بأن شَهِدَت له الكتبُ المنزّلة قبله . ثمّ إنّ أرباب الكتب السالفة يهتفون بأنّ البشارة به غير موجودة فيها ، وإلاّ فدلّونا من أسفارها عليها .وإن إدّعيتم عليهم الكتمان و التحريف فوا عجبا من أمم تفرّقوا في البلاد وأشاعوا في خاصّها وعامّها أجلّ نبأ يُتوقع حدوثُه،وصار كلّ واحد منهم مُنتظرا له،و مبتهلا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1-هو محمد بن يوسف أبو الحسن. توفي سنة991م عالم بالمنطق والفلسفة. ولد في نيسابور وتوفي في خراسان
29
إلى الله تعالى في أن يُدْنيه ،حتى إذا هجم زمانُه وظهر مصداقه أعرضوا بجملتهم عنه وتطابقوا على كِتمانه .فإن كان هذا أمرا ممكنا فما يؤكّد و ما يُؤمّنُكم من وقوع مِثله في بعض سور القرآن ؟ قالوا : وإن كانت الكتب السالفة خلوا من هذه البشارة فأقلّ حاله فيما نحله من الإفصاح به هو أن يكون متقوّلا عليها .
فتسقط درجته عن أن يرتضى للشهادة فضلا عن أن يؤتمن للنبوة "1 .وقد كان إعتراض النصارى هذا على إسم أحمد . فنقول، نحن، أنّ التحريف وحذف إسم أحمد لم يكن في زمن العامري أو بعده، إنّما تمّ هذا في فجر المسيحية الأولى،على يد بولس الطرسوسي،كما سنبيّن فيما بعد ،على أنّ تحريف بولس لم يكن تحريفا مباشرا للكتاب . فلا نتوقع أنّ بولس قال للنّاس : إيتوني بالإنجيل لأمسح إسم أحمد منه إنّما حرّفه – وكان يعرفه – بتعاليمه الباطلة التي زعم أنّها الإنجيل الذي تلقّاه من المسيح يسوع .ولمّا إنتصرت كنيسته بعد مجمع نيقية 325 م ووقفت القوّة إلى جانبها ،تفرّق الموحّدون من النصارى الحاملين لبشارة يسوع الصحيحة ،وطلّ عليهم زمان سيد الخلق وهم أقلية كما سنبيّنه من نصوص التاريخ لاحقا .(1/30)
وإليك بعض الآيات،أخي القارئ،التي تقول أنّ سيد الخلق كان خبره في كتب السابقين .
? " وإذا أخذ الله ميثاق النبيئين لما أتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال آءقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فأشهدوا وأنا معكم من الشاهدين"( آل عمران 81).
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص 505
30
وجاء في صحيح البخارى عن إبن عباس قال : " ما بعث الله نبيا إلاّ أخذ عليه
الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.وأمره أن يأخذ على أمّته الميثاق لئن بُعِث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولَيَنصُرُنّه وليتّبِعُنه"1.
نفهم من مضمون الآية و الحديث أنّ كلّ الأنبياء السابقين من لدن آدم إلى عيسى عليهم السلام بشّروا به وأخذوا الميثاق و العهد على أممهم أن يتّبعوا سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - إن هم أدركوه.
? " الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنّ فريقا منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون .الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين"1 .
? " الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون "2. ويقول الإمام بن كثير في تفسيره ،في شأن هذه الآيات :" أنّ علماء أهل الكتاب يعرفون صحّة ما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يعرف أحدهم ولده . والعرب كانت تضرب المثل في صحّة الشيء بهذا". ويقول أيضا : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم،من بين أبناء النّاس كلهم . لا يشكّ أحد ولا يمتري في معرفة إبنه إذا رآه من أبناء النّاس كلّهم "3. و يعرفون التفاصيل الكاملة عنه - صلى الله عليه وسلم - . فكما تعرف ما دقّ و جلّ و ما ظهر و خفي عن ابنك :خِلقَته وخُلُقه ونزعاته و رغباته وصوته وما يفرحُه وما يزعجُه ،وكلّ شيء حتى الشّامة في جسده تعرفها
ــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/31)
1- سيرة إبن كثير دار المعرفة لبنان .الجزء II ص 287
2- البقرة 146 – 147
3- الأنعام 20
4- تفسير ابن كثير ص 140
31
وتستطيع أن تفرزه من بين مئات الآلاف من البشر كذلك كانت و لا زالت معرفة علماء الكتاب عنه عليه الصلاة و السلام ،والتي قد لا يعلمها مسلم عادي :يعرفون نسبه ومكان مبعثه وشريعته ومدينته التي تنتقل إليها رحمة الله وقبلته وجبله وأميّته وإنتقام الله به من أعداءه،وأنه يحرّر الأرض المقدسة ويقضي على ممالك الشيطان ،ويعزّ في زمانه التوحيد ويذلّ الشرك ويحكم بالعدل وتعطى له الجزية ،وتنظر الأمم إلى شريعته .ويعرفون حتّى نعليه ! ... . وسترى الآن،أخي صدق ما أقول لكنّ حب الدنيا و الجاه و الرياسة،وفي أحيان قد تكون نعرات قومية جاهلية منحطّة ،حالت دون ذلك .وكم سمعنا من هؤلاء و هؤلاء أنّ تديّنهم بالإسلام يعني فقدان هويتهم وذوبانهم في العرب. وهم يأبون ذلك ولو بثمن الكفر.
? "ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين" (البقرة89 ).
? " يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فأرهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا وإياي فأتقون ولاتلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون "(البقرة 41- 42).و العهد الذي يريده الله تعالى هنا ليس الإلتزام بشريعة موسى عليه السلام ،لأنّها نُسِخت بشريعة سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - .إنّما العهد أن يؤمنوا بالنبي العظيم الذي ورد ذكره في سفر التثنية1 .لأن الله تعهّد أنّه من آمن به سيبقى من شعبه ،ومن كفر به سيُقطع منه.ولم يعِب الله تعالى أبدا على
ــــــــــــــــــــــــــــ
1-تث18/15-18
32(1/32)
أهل الكتاب أنّهم حرّفوا النصوص الدّالة عليه إنّما أعاب عليهم إلباس الحقّ بالباطل و كتمان خبره و هم يعلمون، كما وضّحته الآية السالفة الذكر. فالأمر في هذا الخصوص لا يتعدّى التأويلات الباطلة ، وكتمان خبره عن أتباعهم.
? "وإنّه لتنزيل ربّ العالمين نزل به الرّوح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربّي مبين وإنّه لفي زبر الأوّلين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل " (الشعراء197). يقول الإمام القرطبي في تفسيره الأية: قوله تعالى : " وإنه لفي زبر الأولين " أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني الأنبياء . وقيل : أي إن ذكر محمد عليه السلام في كتب الأولين" . فعلماء أهل الكتاب يعرفون أنّه سينزل كتابٌ من بعد موسى ناسخا له ، كما سنبيّن لا حقا .
? " قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحقّ من ربهم وما الله بغافل عمّا يعملون " (البقرة144). قال الإمام بن كثير في تفسير هذه الآية: والذين آتيناهم الكتاب" أي من اليهود والنصارى يعلمون أنه منزل من ربك بالحق أي بما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين "فلا تكونن من الممترين".
و يعلمون أيضا أنّه سيكون هيكل آخر للصلاة ، غير هيكل أورشليم ، تنتقل إليه بركة الله تعالى . و قد كان - صلى الله عليه وسلم - ،لمّا هاجر إلى المدينة،يستقبل بيت المقدس بضعة عشر شهرا . وكان يحبّ قبلة إبراهيم .فكان يدعو الله وينظر إلى السماء .فأنزل عليه هذه الآيات ليتحوّل إلى الكعبة . ويقول إبن كثير في تفسيره : إنّ اليهود الذين أنكروا إستقبالكم الكعبة وإنصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أنّ الله
33(1/33)
تعالى سيوجّهك إليها.ولكنّ أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً وكفراً وعناداً 1 .وكلّ هذه الأخبار كانت معلومة لدى كثير من أهل الكتاب الذين لم يمنعْهم سلطانُهم ولا جاهُهم ولا مالهم من إعتناق الإسلام طواعية لا كرهاً ، وفاضت أعينهم من الدمع ممّا عرفوا من الحقّ.
يروى الإمام بن إسحاق قال : قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرون رجلا وهو بمكة ،أو قريب من ذلك من النصارى ،حين ظهر خبرُه في أرض الحبشة. فوجدوه في المجلس .فكلّموه وسألوه ورجال قريش في أنديتهم حول الكعبة .فلمّا فرغوا من مساءلتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمّا أرادوا دعاهم رسول الله إلى الله عز وجل وتلا عليهم القرآن فلمّا سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ،ثم استجابوا له وأمنوا به وصدّقوه ،وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره .فلمّا قاموا من عنده إعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقال : خيّبكم الله من ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل،فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم و صدّقتموه بما قال لكم. ما نعلم ركبا أحمق منكم !أو كما قال. قالوا لهم: لا نجاهلكم سلام عليكم،لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لانألونّ أنفسنا خيراً. وفيهم نزل قوله:" الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به ،إنّه الحقّ من ربّنا ، إنّا كنّا من قبله مسلمين .أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا ويدرأون بالحسنة السيئة وممّا رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين "2.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1-تفسير بن كثيرص139
2-وقد روى هذه القصة ابن اسحاق ومقاتل والطبراني عن سعيد بن جبير .و الآية هي القصص 52 – 55.
34(1/34)
وكانت قصّة وفد نجران بعد هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة للسنة الخامسة لبعثته عليه الصلاة والسلام .وكان سببها البلاء الذي اشتدّ على المسلمين ،و رأى عليه السلام أنّه لا يقدر أن يحمي أصحابه ويمنعهم ممّا هم فيه فقال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ بها ملكا لا يُظلم عنده أحد.وكان أوّل المهاجرين عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد بلغ عددهم بضعا وثمانين رجلا .فما إن وصلوا صدعوا بالحقّ أمام النجاشي ممّا علموا من أمر سيدنا عيسى عليه السلام من القرآن .فما كان من النصارى إلاّ أن أرسلوا وفداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة.فلمّا سمعوا القرآن وسألوه فاضت أعينهم دمعاً ممّا عرفوا من الحقّ . وهنا يجب أن نتوقّف مليا،لنتأمّل كثيراً .لم يأت هؤلاء النصارى فارّين بدينهم من أرض الحبشة إلى مكة .بل حدث العكس فرّ المسلمون بدينهم من مكة إلى الحبشة . و لم يزد عدد المسلمين في هذه السنوات الأولى عن مئة رجل،وقد حلّ بهم من البلاء ما حلّ! ... ولم تكن مكة يومئذ سوى قرية منسية في لفح الشمس .لم تكن عاصمة ثقافية كالإسكندرية ،ولا اقتصادية ولا سياسية يُصنع فيها القرار مثل روما ... . وكان هؤلاء النصارى في عزّ ومنعة فما الذي أغراهم في الإيمان برجل لا يجاملُ أحدا في الحقّ ؟ عادى كلّ النّاس من حوله قومه أولا وعلى رأسهم عمه أبو طالب مُجيره .سفّه أحلامهم وعاب آلهتهم وتوعّدهم بنار لظى لا تنطفىء ... .وعادى اليهود ووصفهم بالمغضوب عليهم ... .وحتّى النصارى الذين طلب منهم اللجوء السياسي ،وصفهم بالضّالين لقولهم عن الله بهتانا عظيما بإدعائهم أنّ له ولداً .فكيف نفسّر إيمان هذا الوفد الذي قطع الفيافي لِيُعاين رجلا لا مال له ولا سلطان ولا قوة ليعلن أنّه رسول الله الموعود رحمة للعالمين؟
35(1/35)
وتحكي سيرته عليه الصلاة والسلام أنّه بقي ثلاثة عشر عاماً في مكة ،لم ير من قومه إلاّ الإعراض و الإيذاء .ولم يزد أتباعه عند جمع من الباحثين عن مئة. فكيف نفسّر إنتشار دعوته بين عشية وضحاها ،كأنّها النار في الهشيم في يوم عاصف،لمّا وصل إلى يثرب؟ لا سِرّ في هذا سوى أن يثرب كانت آهلة باليهود.وكانوا يتوعّدون المشركين بقرب خروج نبي عظيم يقاتلونهم به ويبيدونهم إبادة عاد وإرم،وهو ما حكاه عنهم الذكر الحكيم:"ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ". و الق السّمع لما يقوله رجل من يثرب وهو سلمة بن سلامة قال : كان لنا جار من يهود بني عبد الأشهل،فذكر القيامة و البعث و الحساب والميزان و الجنة والنار ، فقالوا له :ويحك يا فلان أو ترى هذا كائنا ،أن النّاس يُبعثون من بعد موتهم إلى دار فيها جنّة ونار يُجزَون فيها بأعمالهم قال : نعم ! والذي يُحلف به ، و لَيَودّ أيّ شخص أنّ له بحظه من تلك النار أعظم تنّور يحمونه ثم يدخلونه إياّه فيطبقونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا . فقالوا له : ويحك ! وما آية ذلك ،قال : نبيٌ يبعث من نحو هذه البلاد ، وأشار بيده إلى مكة و اليمن قالوا : ومن يراه ؟ فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سناّ فقال : إن يستنفذ أي يستكمل هذا الغلام عمره يدركه ،قال سلمة : والله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وهو أي اليهودي بين أظهرنا فآمنا به وكفر بغيا وحسداً.فقلنا له : ويحك يا فلان ! ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى ! ولكن ليس به " 1 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-سيرة ابن كثير المجلد 1 ص 293
36(1/36)
و روايات الأنصار رضوان الله عليهم كثيرة . اكتفينا بهذا مخافة الإطالة . وإسلام عبد الله بن سلام – وكان حبراً من أحبار اليهود – في اليوم الذي وصل فيه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة،وإسلام بيته أيضا،آية على إنتشار خبره بين أهل الكتاب قبل بعثته . وقد أسلم ملك الحبشة ولم يكن طامعا في أي شيء يناله من رسول الله .وأسلم عالم من علماء النصارى إسمه ابن الجارود وقال : والله لقد بشّر بك ابن الباتول 1 .وكان سلمان الفارسي قبل إسلامه قد تنقّل بين أساقفة الشام والموصل ونصيبين وأخيراً إنتهي به المطاف إلى أسقف عمورية .فلمّا حضرته الوفاة سأله سلمان فأجابه : أيّ بني والله ما أعلم أحداً أصبح على مثل ما كنّا من النّاس آمرك أن تأتيه ولكنّه قد أظلّك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب .مهاجره إلى أرض بين حرّتين بينهما نخل ، به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة . بين كتفيه خاتم النبوة .فإن إستطعت أن تلحق بتلك البلاد فأفعل2.ونستخلص ممّا سبق أنّه كانت أقلية من النصارى لا تتردّد لحظة في أمر رسول الله المبشّر به ،بدليل أنّ كلّ أسقف من الأساقفة الذين زارهم سلمان يقول لمّا تحضره الوفاة : والله ما نعلم أحداً على ما نحن عليه إلاّ فلان فالحق به ! ولا نشكّ أنّ هذه الأقلية هم بقايا الكنيسة اليهودية - المسيحية التي حافظت على تعاليم عيسى عليه السلام وحوارييه، و الذين كانوا في البدء هم الأكثرية و بقوا كذلك إلى مجمع نيقية 325م. و كانوا يختلفون جوهريا عن الكنيسة الناشئة. و أهمّ شيء ميّزهم هو تمسّكهم بتعاليم التوراة و الأنبياء.
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسول ص 484
2 - سيرة بن كثير المجلد 2 ص 301
37
و أكثرهم اعتنق الإسلام،كما أقرّ بذلك الكاردينال الكاثوليكي دانييلو1.
البشارات بسيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدس.(1/37)
تختلفُ أراء المسلمين حول البشارة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المقدّسة.بعضُهم يرى ألا طائل من البحث في كُتبٍ قد أجمع المسملون بتحريفها. و يرى هذا الفريق أنّ مجرّد التفكير في تصفُّحِها سيضع المسلم في موقفٍ حرج و يعطي إشارة خاطئة لأهل الكتاب في أنّ الإسلام متردّدٌ بشأن صحّتها2 مع ما ينجرّ و ما يترتّب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- Bible , Le Coran et la Science .P64 La.يقول الكاردينال : لمّا إنفصلت الكنيسة(بولس) من علا ئقها مع الدّين اليهودي إنتهت الكنيسة اليهودية المسيحية في الغرب مبكّراً . لكن بقيت أثارها إلى غاية القرن الثالث و الرابع في الشرق وبالخصوص في فلسطين ، و البلاد العربية ،الأردن ،سوريا و بلاد ما بين النهرين . الكثير منهم إعتنق الإسلام بإعتباره وريث كنيستهم . وبعضهم رجع إلى كنيسة بولس .(1/38)
2-أنظر مقال :"هل كلّ ما في التوراة محرّف مبدّل" للدكتور زين العابدين الركابي. جريدة الشرق الأوسط العدد 9685 بتاريخ 27 ربيع الثاني1426 هـ الموافق ل 4 يونيو 2005. حيث ترى بشكل واضح أنّ المسيحيين يظنّون في هذا الموقف السليم تراجعا من الإسلام و المسلمين على أنّ الكتاب المقدّس وقع فيه تحريف. و الخطأ لا يُصحّحُ بخطإ مثله، لذا فإنّنا نرى ردود بعض المسلمين غير سليمة لمّا ينفون جملة و تفصيلا كلّ شيء في الأسفار المقدّسة. و يستخلص من فحص نصوص القرآن الكريم جيّدا أنّه لا يمكن بحال أن يكون كلّ الكتاب المقدّس محرّفا. و لا يعجز كتاب الله أن يرشدنا إلى منهج علمي لتمحيص الحقّ من الباطل في التوراة و الإنجيل، و هو الكتاب المهيمن على ما سبقه من كتبٍ. و قال تعالى:"ما فرّطنا في الكتاب من شيء"( الأنعام 38). لدرجة أنّ احد الصحابة قال: " و الله لو ضاع منّي عقال بعير لوجدته في القرآن". يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: أي في اللوح المحفوظ فإنه أثبت فيه ما يقع من الحوادث. وقيل: أي في القرآن أي ما تركنا شيئاً من أمر الدين إلا وقد دللنا عليه في القرآن إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول أو من الإجماع، أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب،قال الله تعالى :"ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء " .
38(1/39)
عن هذا الموقف من خطرٍ على عقيدة المسلم التي تكفرُ كفرا واضحا و صريحا بمسائل كثيرة مُسلّمة عند أهل الكتاب. هذا موقفُ عامّة المسلمين و معظم علماء الإسلام التقليديين1. و الحقّ يقال لو كنّا مكانَهم لفعلنا مثلَهم لسبب أنّه ليس كلّ المسلمين يحسنون قراءتها و يَأمَنُون شُبُهاتها. لكنّ الظرف الحالي يختلف عن السّابق. في الماضي كان المجتمع الإسلامي ،كما المجتمعات الأخرى، يُحكِم الرقابة على أفراده و يتحكّم في المعلومات التي يريد أن تشيع بينه من خلال ما تنشرُ الأكاديميات الإسلامية و وزارات الأوقاف و المساجد و دور التعليم و الثقافة و كذلك ما تسمح بنشره.فكان الإنفتاح على عقائد الأمم إنفتاحاً مجّانياً لا مبرّر له من شأنه أن يضرّ أكثر ممّا ينفع. و كان الموقفُ سليما.لكنّ الظرف الحالي يختلف إختلافا جذريا. فمع ظهور الفضائيات و الإنترنت و بداية إرتسام ملامح العولمة الثقافية التي تحميها قوانين الأمّم المتّحدة و التي من أبرز بنودها حرّية المعتقد فليس للمسلمين من مخرج إلا الإنفتاح على الدّيانات الأخرى و إنشاء وسائل إعلامية للردّ على الشّبهات و عرض الإسلام على غير أهله ليعتنقوه أو على الأقل للتعريف به ليحترموه. و لا نبالغ إن قلنا قد يتسلّل الشّك أو تعرَض لنا الشبهاتٌ إن داس أحدُنا أو أحد أبناءنا أو بناتنا خطأ على زرّ قناة مسيحية تدعو للإيمان بالرّب يسوع ، أو شاهد عمدا، بدافع الفضول و حبّ الإطّلاع، فِيلمًا عالي التقنية على قُرص ،لا يتجاوز سعره بضعة دنانير كفِلمِ ميل جيبسون حول صلب المسيح. و الطرف الآخر ـ لا تنس أنّنا نتكلّم عن مواقف المسلمين
ـــــــــــــــــ
1-نقصد بهذا اللقب جميع علماء الفقه و العقيدة و السيرة و التفسير إلخ...و هذا قد خبرته بنفسي و
وصلت إلى أنّ معظمهم يخاف من فتح هذا الباب و لا يستطيع أن يتحمّل مسؤولية جسيمة مثل هذه.
39.(1/40)
من البحث عن البشارات في الكتاب المقدّس ــ و هي أقلّية مُدركةٌ لمرُاد الله تعالى في عشرات آي القرآن الكريم التي تصف التوراة و الإنجيل بأنّها هدى و نورٌ و التي تملِك، في الوقت نفسه، أداة فاحصةً مُمَحّصةً للحقّ من الباطل في الأسفار المقدّسة،ترى أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو النّبي العظيم الذي عقد الربّ عزّ و جلّ العهد بشأنه مع بني إسرائيل و المشار إليه في سفر التثنية 15/18 و 18/18، و هو البارقليطس المبشّر به في إنجيل يوحنّا 14/16؛16/7-12.
لكن مع كوننا مؤيّدين للفريق الثاني إلاّ أنّنا نرى أنّ مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يصفه هذا الفريق لا يتناسب مع وصفِه و قدرِه و مقداره العظيم كماأخبر الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه عن ذكره و صفاته في التوراة و الإنجيل و زبر الأوّلين.و يُفهم من آي القرآن الكريم المحكمة و الكثيرة أنّ محمّدا - صلى الله عليه وسلم - عاش في ذاكرة شعب إسرائيل لمدّة ألفين و مئة عام1 . و الأملُ في مبعثه هو السّببُ الرئيس بعد التوراة الذي أمدّ إسرائيل بأسباب البقاء و الصمود و تخطّي المحن و الكوارث التي كادت أن تأتي عليه. وهذا ما قاله القرآن الكريم في مُحكم آياته:" و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين"(البقرة89) . و الإستفتاح هو الإستنصار. قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : كان يهود خيبر يقاتل غطفان فلما التقوا هُزمت اليهود، فعادت اليهود بهذا الدعاء وقالوا : إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم .
ــــــــــــــــــــ
1- هي المدّة الفاصلة بين نزول التوراة و القرآن الكريم.
40.(1/41)
قال : فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان ، لما بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كفروا ، فأنزل الله تعالى : "وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا" أي بك يا محمد ، إلى قوله : "فلعنة الله على الكافرين"1 . لا شكّ أنّ شخصا مباركا علّق عليه شعب إسرائيل كلّ هذا الأمل و أطنب في وصفه كلّ الأنبياء و جرى ذكرُه على كلّ لسان لا يتحرّف خبرُه.و المتتبّع لتاريخ إسرائيل يرى كم كان الشعب ينتظره2. ما مرّ زمنٌ على إسرائيل إلا وظهر من يدّعي أنّه النبيّ العظيم ، و لقد ظهر حوالي زمن عيسى عليه السلام وحده مئة مدّعٍ. نعم! محمد - صلى الله عليه وسلم - هو أسعد شخصية ذكرها الماضي التليد للمؤمنين من إسرائيل و حاضرُهم و مستقبلُهم.و لقد كان اليهود قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - يفاخرون به و يتوعّدون به الأوس و الخزرج في يثرب بقتلهم قتلة عاد و إرم.
أيّ شخص هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
ــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير القرطبي
2- ورد في إنجيل لوقا 2/25: و كان رجل في أورشليم إسمه سمعان. و هذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر تعزية إسرائيل". و كانت إمرأة تقيّة إسمها حنّة: وقفت تسبح و تكلّمت عنه مع جميع المنتظرين فداء إسرائيل".لو 2/38. و كان يوسف مشيرا و بارا صالحا "و كان ينتظر ملكوت الله " لو 23/52. لكنّ لوقا كما جميع تلاميذ بولس يرون أنّ يسوع هو المسيح لكنّه لم يثبت من هذا الكلام شيء واحدٌ.و ورد كثيرا في أسئلة علماء بني إسرائيل للنبيّين يحيى و عيسى عليهما السلام: أأنت المسيح؟. و في سؤال عيسى لتلاميذه من يقول النّاس أنّني أنا هو. فبادر بطرس و قال أنت مسيح الله. فإنتهرهم عيسى عليه السلام. و ورد أيضا السؤال متى يأتي ملكوت الله؟ فهذا ما كان ينتظره إسرائيل و قد بيّن تعالى في كتابه العزيز هذا الإنتظار في قوله تعالى:" و كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا".
.41(1/42)
إنطلاقا من نصوص القرآن الكريم و السنّة المطهرة الواصفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - و التي تمثّل للمسلم المرجع الأكيد في تقصّي أخباره - صلى الله عليه وسلم - و لغرض إستيضاح صورته - صلى الله عليه وسلم - في الأدب المقدّس فلا مناص من الإستعانة بإخواننا أهل الكتاب بشرط بسيط هو وجوب تكييف الأسئلة التي تُطرح عليهم حسبما يتّفق مع ثقافتهم الكتابية. و هذا الأسلوب سيكون حاسما إن شاء الله في تبيان الحقيقة.
السؤال المستنبط من القرآن و السّنة ... تكييف السؤال حسب ثقافة الكتابي ... جواب الكتابي
هل يوجد نبيٌ مكتوب ... من هي هذه الشخصية العظيمة التي تنبأت بها كتب موسى و الأنبياء و المزامير؟ ... نعم! هو المسيح
عنه في التوراة و الإنجيل و زبر الأوّلين؟
من هو النبي الذي كان بنو إسرائيل يستفتحون به على الذين كفروا، و يستنصرون به ؟ ... من هي الشخصية التي لقّبها بنو إسرائيل عزاء إسرائيل ، فداء إسرائيل..المخلّص الذي يسحق أعداءه؟ ... هي المسيح!
هل يوجد نبيٌ كنتم تنتظرونه و كان بنو إسرائيل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؟ ... هل توجد شخصيةٌ أطنب بإسهاب في وصفها الأنبياء و الأحبار و الأدباء و أصبحت شخصية معلومة من الدّين بالضرورة لدى بني إسرائيل ؟ ... نعم! هذه شخصية المسيح!
هل تنتظرون كتابا ناسخا للتوراة؟ ... هل وعد الرّب أن يقطع عهدا جديدا مع بني إسرائيل غير العهد الذي قطعه معهم في جبل سيناء؟ ... نعم! هو كتاب المسيح.
هل يعلم أهل الكتاب قِبلة أخرى غير بيت المقدس؟ ... هل تنتظرون مدينة مقدّسة جديدة غير أورشليم؟ ... نعم!مدينة المسيح .
من هو أوّل النبييّن خلقا؟ ... مَنْ كانَ قبل أن يكونَ أيُّ شيء؟ ... هو المسيح!
من هو أوّل من تنشقّ عنه الأرض؟ ... من هو أوّل من يقوم من بين الأموات؟ ... هو المسيح!
من تعطيه الأمم الجزية عن يد و هي صاغرة؟ ... من يتسلّط على أعدائه و تلحس الدنيا غبار نعليه و ملوك الأرض تُعطيه الجزية و تتقرّب له بالهدايا ؟ ... هو المسيح!(1/43)
من يُبعَثُ إلى أهل الكتاب و الأميّين على حدّ سواء؟ ... متى يعبد بنو إسرائيل الرّب مع الأمم على قدم المساواة؟ ... زمن المسيح!
هل تنبّأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنّ أصحابه سيحرّرون بيت المقدس من الرّوم؟ ... هل تنبّأ الأنبياء بسقوط الرّومان في الأرض المقدّسة و ما جاورها من حماة و دمشق و مؤاب و عشقلون ؟ ... نعم زمن المسيح و شعبه.
هل زكّى الله الأميّين ببعثة نبيّه و أخرجهم من الظلمات إلى النّور؟ ... هل ورد عندكم ذكر أمّة عمياء ،غبيّة ترث الأرض و تُعطى ملكوت الله بدلا من إسرائيل؟ ... نعم! هي أمّة المسيح
من هو النبيّ الذي يصلّي عليه الله تعالى و ملائكته و المؤمنون جميعا؟ ... من هو الشخص الذي تتبارك بإسمه قبائل الأرض؟ ... هو المسيح!
.43
طرح الإشكال و إصدار الفرضية:
من هذه الدّراسة المقارنة البسيطة نجد أنّ ما يصف المسلمون به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو بالذّات ما يصف به أهلُ الكتاب المسيحَ. و بناءً على:
أوّلاـ أنّه لا توجد شخصيةٌ في الكتاب المقدّس تتناسب مع مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير شخصية المسيح.
ثانياـ لا يوجد نبيٌّ وصف نفسه بجميع صفات المسيح غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ثالثاـ لا توجد شهادةٌ واحدة من عيسى عليه السلام و لا إقرارٌ واحدٌ منه و لامّمن عاصره بأنّه المسيح. لهذه الأسباب فإنّنا نفترض أنّ محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المسيح!.(1/44)
لا تنزعج أخي القاريء !إن كنت مسيحيا أو مسلماً. فالفرضية، في علم التربية، حلّ مؤقت يحتاج إلى تقصٍّ و لن نتبنّاها إلا إذا فنّدنا ما يذهب إليه عامة النّاس من مسيحيين و مسلمين و أثبتنا نقيض ذلك بكلّ البراهين النصّية و العقلية. لكنّ الإشكال الذي يعترضنا كمسيحيين أوّلا هو أنّ يسوع هو المسيح المنتظر. بهذا شهدت جميع الأسفار و آمن جميع النّاس و على رأسهم الأباء. و المسلم يرى أنّ المسيحي على حقّ لأنّه وردت كلمة المسيح في القرآن الكريم إحدى عشرة مرّة كرديفٍ لعيسى عليه الصلاة و السّلام. و ليس بالأمر الهيّن أن نخطيء أتباع ديّانتين عظيمتين يمثّلون تقريبا ثلاثة أخماس سكّان المعمورة.
و إنّي أتوقّع أن يكون المسلم أكثر المؤمنين تشدّدا في رفضه لهذه الفكرة؛ فلم يثبت هذا اللّقب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن و السنّة و لا عند الصّحابة و التابعين
44
رضوان الله عليهم. لكن من وجهة نظر أخرى فإنّي أرى أنّ أحوج المؤمنين لهذه الفكرة هو المسلم.فإن رفضها فهو مسؤولٌ أمام إيمانه و أمام أقرانه من أهل الكتاب.
و ردّا على الذين يُقنعون أنفسهم بالقول أنّ الكتب المقدّسة التي يعنيها القرآن الكريم هي تلك الصّحيحة التي لم تطلها أيدي التحريف ، نقول يستحيل لله عزّ و جلّ أن يجهل ما وقع في التوراة و الإنجيل زمن نزول القرآن أو يعجز عن حفظ صفات عبده و رسوله. كما يمتنع في حقّ الله تعالى أن يكذب أو يخاطب أهل الكتاب بنصوص لا يملكونها.
و لغرض لفت إنتباه القرّاء فإنّي أحيلهم على هذه الحقائق. لو افترضنا أنّك(1/45)
أوّل من التقى بعيسى بن مريم عليه السلام بعد نزوله و أردت أن تسأله عن الإنجيل. فهل ستتوقع أنّه يفهم قصدك منذ الكلمة الأولى؟ أعتقد أنّه لا يفهمك، لسبب أنّه لا يعرف معنى كلمة " الإنجيل". فهذه الكلمة يونانية و قد ثبت يقينا أنّ عيسى عليه السلام لم يتكلّم الإغريقية. إنّما تواضع النّاس بعده على استعمالها و شاعت في كلّ ربوع العالم فأقرّها الله عزّ و جلّ.و قد ثبت في القرآن الكريم أيضا أنّ موسى عليه السلام قال لقومه: اعبدوا الله، خافوا الله،اتّقوا الله. فهل كان موسى عليه السلام يعرف إسم الذّات الإلهية بهذا الإسم؟ فإن أجبتني بنعم فإنّي سأطالبك بالبرهان. و إن طالبتني بالإجابة فسأقول لك أنّ موسى عليه السلام لم يعرف أبدا هذا الإسم. إنّما كان يعرف الله تعالى بإسم " يهوه" و هو الإسم الذي تُرجم في القرن الرّابع قبل الميلاد إلى " الرّب الإله". و الفاصل بيني و بينك نسخ التوراة القديمة مثل الترجمة السبعينية و الفلغاظة و النسخة الفاتيكانية
.45
و السينائية و غيرها. و لا عجب في ذلك فتعدّد أسماء الله تعالى و اختلافها من أمّة لأخرى ثابتٌ بصحيح سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث جاء : اللهم إنّي أسألك بكلّ إسم هو لك أنزلته في أحد من كتبك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك.
فعليك أن تضع و أنت تقرأ نصوص الكتاب المقدّس نصب عينيك،الإشكال اللغوي. فاللّغة شيء عرضي و ليس جوهرا يتغيّر من زمن إلى آخر و من منطقة إلى أخرى و من زمن إلى آخر و من أمّة إلى أمّة.
بداية حلّ الإشكال:
قبل أن نبدأ بحثنا، اخي القاريء، سأقترح عليك تفحّص نصّين من الإنجيل و
القرآن و أطلب منك الإجتهاد في إدراك الفارق بينهما. هذان النصّان هما بداية إنطلاقنا و السبب الفعلي الذي جعلنا نتوجّه هذه الوجهة التي هي موضوع كتابنا و هذا قبل أكثر من إثنتي عشرة سنة.(1/46)
إقرأ معي قوله تعالى:" إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك بكلمة منه إسمه
المسيح عيسى بن مريم" ( آل عمران45-46). و النصّ الثاني من سفر الأعمال
9/22 :"و أمّا شاؤول1 فقد صار أكثرُ حماسةً في وعظِه،فكان يُفحم اليهود السّاكنين في دمشق ببراهينه التي كان يبيّنُ بها أنّ يسوع هو المسيح".
هل أدركت،أخي القاريء، الفرق؟ رغم أنّ النصّين يصفان معا عيسى بالمسيح
ـــــــــــــــــــــــ
1-شاؤول هو الإسم الحقيقي لبولس الطرسوسي معلّم هذا الدّين الذي يدعوه عامّة النّاس خطأ بالدّين المسيحي.
46
إلاّ أنّ معناهما مختلفٌ تماماً. و هكذا تبدأ الفروق بمقدار شعرةٍ و تنتهي بألآف الأميال.و لو أدرك المسلمون و المسيحيون الفرق بين المعنيين لإستطاعوا أن يؤسّسوا لأرضية سليمة و صلبة للجدال البنّاء. و إذا توفّرت النيّة الصادقة لتوصّلوا إلى الحقيقة كاملة.
المسيح في الآية القرآنية مجرّد إسمٍ. وهو وقفٌ من الله تعالى كقوله:" و مبشّرا برسول من بعدي اسمه أحمد" الصف6.. و كقوله أيضا " يا زكرياء إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى" مريم 7. و السّياق واضحٌ حيث بشّرت الملائكة السيّدة مريم بميلاد ولدٍ سعيدٍ طلبوا منها أن تسمّيه المسيح عيسى. أمّا الكلمة في النصّ الإنجيلي لها معنى مخالفٌ تماما. إذ لو كان إسما فقط لما تجشّم بولس المشقّة ليبيّن لليهود في مجامع دمشق أن يسوع هو المسيح و لما إحتاج أن يبرهن على ذلك. فأيّ فضلٍ و أيّ تكليفٍ و أجر يترتّب على أن نُقنع النّاس أنّ هذا الرجل أو ذاك إسمه زيدٌ أو عمرٌ؟ فكلُّ إنسانٍ له إسمٌ.
كلمة "المسيح" في النصّ الإنجيلي وظيفةٌ إلهيةٌ يضطلع بها رجلٌ بشّرت به كتبُ موسى و الأنبياء. أمّا في النصّ القرآني فهي مجرّد إسم لا يُفترضُ فيه أن يكون المسيحُ غير عيسى؛فهما إسمان لشخص واحد. كقولنا الشيخ ناصر الدّين هو الألباني و الألباني هو الشيخ ناصر الدّين.(1/47)
و ما دام المسألة إيمانية صرفة في الإنجيل فهي إذن مسألة قابلة للنقاش. ممّا يعني أنّ يسوع قد لا يكون المسيح، و يكون المسيح شخصا آخر غير يسوع.
ففي الإنجيل يسوع إسمٌ أمّا المسيح فوصفٌ عقدي، كوصفنا لمحمّد بأنّه نبيّ، يترتّب عنه إيمانٌ و كفرٌ و جزاءٌ و عقابٌ. و إذا أردنا إيجاز ما نحن بصدد شرحه
47
فنقول:النصّ القرآني يجعل من كلمة المسيح إسما، لا غير، عُرِفَ به عيسى عليه السلام منذ ولادته؛ أمّا النصّ الإنجيلي فالمسيح وظيفةٌ و مهمّة إلهية لاحقةٌ إضطلع بها يسوع بعدما بدأ رسالته. لأجل هذا الفرق بين النصّين توّلدَ في نفسنا الشّكُ هل عيسى هو المسيح أم إسمُه المسيح.
1- إسرائيل كان ينتظر ثلاثة أنبياء زمن عيسى عليه السلام
لمّا كان يوحنا يعمّد1 في نهر الأردن ،شدّ إنتباه علماء بني إسرائيل، فذهبوا إليه يسألونه : " أأنت إيليا ؟ قال :لا ! أأنت النبي ؟ قال : لا ! فقالوا له ما بالك تعمّدُ إن لم تكن المسيح ولا إيليا و لا النبي . قال :أنا صوت صارخ في البرّية أن أعدّوا طريق الربّ "( يو 1/ 19-25 ). وقد يتوهّم الواحد من إجابة بن زكرياء عليه السلام أنّ الأنبياء المنتظرين أربعة و الحقيقة هم ثلاثة فقط . و سبب التوهّم يعود إلى الخلل في سؤال العلماء إذ كان غير دقيق .ولو قالوا له أأنت النبيّ الذي يهيئ الطريق لكانت إجابته عليه السلام : أنا هو . لأنّ وظيفته،التي تنبأ بها أشعيا عليه السلام ،هي إعداد الطريق .
و لا أحد يستطيع فهم الكتاب المقدس أحسن من الأنبياء2 عليهم السلام ،و
ــــــــــــــــ
1-التعميد هو الغطس في ماء نهر الأردن مصحوبا مع العزم الأكيد على التوبة و ذلك تحضيرا للنفس حتى يكون أهلا لملكوت الله تعالى. و هذا الطقس الجديد لم يكن معروفا عند بني إسرائيل من قبل، و قد جاء به النبي يحيى بن زكريا عليه السلام ( الذي يدعى إسمه في الإنجيل يوحنا المعمدان).(1/48)
2- النبي في كنيسة بولس قد يأخذ معنى قبيحا .وكلّ العراّفين و المنجّمين كان بولس وكنيسته يعتبرونهم أنبياء .لكن عند علماء بني إسرائيل النبي هو شخص مصطفى يتلقى الوحي من الله .وكانوا ينتظرون ثلاثة أنبياء فقط بعد النبي ملاخي .
48
ورثتهم العلماء مِن بعدِهم.ولقد شهد له عيسى عليه السلام أنّه هو النبي الذي كُتِبَ عنه بالنبي ملاخي عليه السلام :" هاأنَذا مُرسِلٌ مَلاكي أمَامَ وجْهِكَ يُهَيء الطريقَ أمامك ".وقد شهد لنفسه ضمناً ما شهد له به عيسى عليه السلام صراحةً حيث قال :" إنْ أنا عَمّدْتُكُم بالماء ،فالذي يَأتي مِن بَعدي يُعَمّدُ كم بالنّار و الرُّوح القدس"1 .
إذن فهو النبي الذي يهيء الطريق أمام من يُعمّد بالنّار و الرّوح القدس.فأراد عليه السلام من إجابته للفرّيسيين و الكتبة ،أنّه ليس النبي الذائع صيته و الذي يعرفه العام و الخاص؛ إنمّا النبي المهيء للطريق . وكانا نبِيِّا البشارة حريصين ألاّ يرسما صورة مشوّشةً عن سيّد الأنبياء و إمام المرسلين - صلى الله عليه وسلم - في ذهن بني إسرائيل. وهذه قمّة الأمانة و الوفاء الذين يتّصف بهما الأنبياء .وسنرى فيما بعد كيف حقّق ذلك عيسى عليه السلام. ومن نبوة ملاخي،وسؤال علماء بني إسرائيل وكلّ آثار الباحثين يتبيّن أنّ إسرائيل كان ينتظر ثلاثة أنبياء : نبيّان يتقدّمان المسيح. وسؤالي إلى إخواني أهل الكتاب : إن كان الإنجيل لا يذكر إلا نبيّين : يحيى وعيسى عليهما السلام و قد ثبت يقينا أنّ المسيح ليس إيليا2؛وأنّ إيليا ليس النبي المهيء للطريق3،فمن هو الثالث ؟
2-إيليا سابق المسيح
فمن استنطاق النصوص ،فسيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - واحد من ثلاثة. إمّا هو النبي المهيء
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-متى 3/ 11- 12 ؛ مر 1/7-8 ؛ لو 3/ 16-17
2-سأل التلاميذ يسوع: لماذا يقول الكتبة و الفريسيون إنّ إيليا يجب أن يسبق المسيح.(1/49)
3- يحيى عليه السلام انكر أنّه إيليا ولم ينكر أنّه النبي المهيء للطريق، لمّا سأله علماء بني إسرائيل.
49
للطريق أو إيليا أو المسيح .ونصف المشكلة حُلّت . فقد كفانا يحيى وعيسى عليها السلام مؤونة البحث عن مهيء الطريق .ولم تتلعثم أسفار الإنجيل كلّها في هذا الشأن . إذن بقي نبيّان ولقبان .فأحد النبييّن هو إيليا وثانيهما هو المسيح . وقد أنكر عيسى عليه السلام أنّه المسيح في الأناجيل بإستثناء الإنجيل الرابع – الذي له وضع خاص سنناقشه –كما سنرى في الباب الموالي .فلم يبق لسيّدنا عيسى عليه السلام إلاّ أن يكون إيليا ( وهو النبي إلياس كما ورد ذكره في القرآن الكريم).وهو ما كان يعتقده المؤمنون بيسوع في زمانه.حيث وصلتنا عنهم ستّ شهادات بعضهم يقول أنّه ايليا وطائفة قالت هو ارميا وأخرى قالت هو يوحنا المعمدان و الرابعة قالت هو نبي من الأنبياء القدامى في اسرائيل. و لنحاول تمحيص هذه الأراء فنقول أنّ الطائفة التي قالت هو يوحنا المعمدان مُبطلة في ما ذهبت إليه و هي لا تردّد إلا ما تردّده السلطة السياسية،و هذا الصنف من النّاس لا يخلو منهم زمان و لا مكانٌ . وكان وراء اشاعة هذا القول الملك هيرودس1 الذي كان يئّن تحت وطأة الشعور بالذنب بقتله نبي الله يوحنا المعمدان. و القول أنّه ارميا شاذّ لم يرد الاّ في انجيل متى و لا تؤيّده النبوات و لا عقيدة اسرائيل. أمّا الطائفتان اللتان قالتا هو ايليا أو نبي من أنبياء اسرائيل القدامى فهما متقاربتان جدّا ويمكن التوفيق بينهما لأنّ النبي ايليا عاش في القرن الثامن قبل الميلاد و هو النبي الذي تنبّأت بشأنه النبوات من أنّه يسبق المسيح وهو ما تؤكّده أيضا عقيدة اسرائيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر متى 14/1: " في ذلك الوقت سمع هيرودس حاكم الربع بأخبار يسوع فقال لخدّامه:" هذا هو يوحنا المعمدان، وقد قام من بين الأموات. و لذلك تجرى على يده المعجزات!"
50.(1/50)
لكن السؤال ما علاقة عيسى بالنبي إلياس الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد ؟ و الإعتقاد في عودة النبيّ إيليا قبل المسيح حيّر كثيراً بني إسرائيل،ومنهم الحواريين عليهم السلام .لكن يبدو جليا من كلّ الأناجيل أنّ المفهوم قد صحّحه عيسى عليه السلام وقال لهم لا تنتظروا شخص إيليا التاريخي - هذا النبي الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد – أن يعود،لكنّه نبي آخر من أنبياء بني إسرائيل يفعل معجزات إيليا وتسري فيه روحُه وقوّتُه. و قد فهِمَ علماءُ الإسلام في هذا الفنّ مثل هذا، أذكر على سبيل المثال الدكتور أحمد حجازي السقا و الدكتور منقذ بن محمود السقّار، إلا أنّهم يقولون أنّ إيليا هو النبيّ محمد1 - صلى الله عليه وسلم - .و الدليل الآخر على هذا التفسير هو أنّ الأناجيل المتشابهة تقول أنّ إيليا هو يوحنا المعمدان .ولا علاقةُ دمٍ أو قرابةُ زمنٍ بين النبيّين .
سأل التلاميذُ معلّمهم فكان هذا الحديث :"سأله ( يسوع ) التلاميذ قائلين فلماذا يقول الكتبة إنّ إيليا ينبغي أن يأتي أوّلا . فأجاب يسوع وقال لهم إنّ إيليا يأتي أوّلاً ويردّ كلّ شيء. لكني أقول لكم إنّ إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كلّ ما أرادوا . كذلك إبن الإنسان أيضا سوف يتألّم منهم . حينئذ فهم التلاميذ أنّه قال لهم عن يوحنا المعمدان "2 و كان نصّ لوقا أكثر وضوحا بهذا الخصوص، وقد نقل خبر ميلاد يوحنا المعمدان،واضطراب أبيه زكرياء أمام ملاك الربّ الذي جاء ليبشّره. فقال الملاك مهدِّئا من روع زكرياء عليه السلام :" أليصابات سَتلِد
ــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر كتاب : "هل بشر الكتاب المقدّس بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ". ص ص 69؛ 70 للدكتور منقذ بن محمود السقار.
2- متى 17/10-13 ؛ لو 1/17.
51
لَك إبنا وتُسَمّيه يوحنا ويكونُ لك فرحٌ و ابتهاجٌ وكثيرون سَيفرحون بوِلادَتِه،لأنّه(1/51)
يكون عظيما أمام الربّ؛ وخمرًا ومُسكرًا لا يشرب.و مِن بطن أمّه يَمْتَليء من الرّوح القُدس.ويرُدّ كثيرين من بني إسرائيل إلى الربّ إلَهِهِم.ويتقدّم أمامَه بروح إيليا وقُوّته لِيردّ قلوب الأباء إلى الأبناء "( لو 1 / 15 – 17 ).
فالأمر اتّضح إذن !الأمر لا يتعلق بإيليا الشخص التاريخي إنما بنبيّ تسري فيه روح إيليا و قوّته. بقي لنا أن نناقش السؤال هل صحيح أنّ إيليا هو يوحنا المعمدان؟ والإجابة لا ! لأنّ يوحنا المعمدان نفسه لما سئل أأنت إيليا ، قال بوضوح وصراحة:لا!..فهل نستطيع أن نوفّق بين ما ورد في الأناجيل المتشابهة وما ورد في الإنجيل الرابع1 ؟ لا نستطيع أن نقبل أنّ يوحنا المعمدان هو إيليا و
ــــــــــــــــ
1- يوجد تناقض كبير بين نصيّ الأناجيل المتشابهة التي تجعل من يوحنا إيليا و نصّ الإنجيل الرابع الذي لا يعترف أنّ إيليا هو يوحنا المعمدان. قارن بين لو1/15-17 و متى 17/10-13 من جهة و نص يوحنا 1/ 19-25 . لا تنخدع أخي بتفسير قد تتلقّاه عن سؤالك لماذا هذا التناقض. فالمسألة عظيمة جدّا لأنّه إن لم يكن يوحنا إيليا فيسوع ليس المسيح. نص مرقس على النقيض غير واضح و لا ينعت يوحنا بإيليا بشكل صريح. أنظر النص 9/11-13:"فسألوه قائلين لماذا يقول الكتبة إنّ إيليا ينبغي أن يأتي أوّلا. فأجاب و قال لهم إنّ إيليا يأتي اوّلا و يردّ كل شيء. و كيف هو مكتوبٌ عن ابن الإنسان أن يتألّم كثيرا و يرذل. لكن أقول لكم إنّ إيليا أيضا قد أتى و عملوا به كلّ ما أرادوا كما هو مكتوبٌ عنه". و واضح أنّ نصّي متى و لوقا هما ممّا وصلت إليه الإختمارات العقدية و التي تريد أن(1/52)
تجعل من يسوع المسيح و يوحنا إيليا . و لكن كلّ النصوص يكذّب بعضها بعضا.و يخطأ كلّ دارس لكتاب المقدّس إن إعتقد أنّ النصوص وصلتنا بأمانة. يجب ألا يغيب عن ذهن الدّارس أنّ محرّري نصوص الإنجيل لم يكونوا التلاميذ عليهم السلام إنّما كنيسة بولس. و هذه النصوص تعكس إيمان ما أصطلح عليه بالكنيسة الناشئة ، كنيسة بولس. لهذا نرى في أحيان كلاما لا معنى له و لا ما يشهد له من نصوص العهد القديم. كمثال ما ورد في مرقس: إن إيليا قد أتى و عملوا به كلّ ما أرادوا كما هو
52.
في الوقت نفسه ليس إيليا. فعلينا أن نرجّح أحد النصين ونرفض الآخر. وقد رجّحنا النصّ الذي ينفي فيه يوحنا المعمدان أنّه إيليا. وكان ترجيحنا على الأسس التالية:
أ ـ أنّ صاحب الأمر و المعني الأوّل و الذي هو أعرف بنفسه من غيره رفض أن يكون هو إيليا .
ب ـ أنّ الإقرار بأنّه ليس إيليا أتى في الإنجيل الأشدّ حرصا على وصف يسوع بأنّه المسيح.و المسيح يجب أن يكون مسبوقا بإيليا، كما هو معروفٌ عند بني إسرائيل .وفكرة مثل هذه في سفر مثل هذا لن تكون إلا صحيحة .
جـ ـ تتردّد الأناجيل المتشابهة في نعت يوحنا المعمدان بإيليا.و كلامها يدلّ على
أنّها لا تتّبع إلاّ ظناً وما لها به من يقين. قال مترجم متّى ناسباً الكلام إلى يسوع عليه السلام : "إنْ أرَدْتُم أن تَقبَلوا فَهَذا هُو إيليا المُزْمَعِ أن يأتي"( متى11/14). ويقصد مترجم متى بهذا الكلام يوحنا المعمدان. و هو الذي أدرج فهمه في متن النصّ و أراد أن يَفهَم من كلام يسوع أنّه يقصد يوحنا. فيستحيل أن تكون العبارة:"حينئذ فهِمَ التلاميذُ أنّه قال لهم عن يوحنا المعمدان"من يسوع نفسه.
) أنظر نص متى أعلاه في باب :ايليا سابق المسيح( و نبرة التردّد في النصّين واضحة . و لا يستقيم في عقل مؤمن أن يُخيّر نبيٌّ قومَه المؤمنين في أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا! لأنّ كلام عيسى عليه السلام كان مُتوجّها به ليس لعموم النّاس و إنّما(1/53)
ـــــــــــــــــــــ
مكتوبٌ عنه. و إنّي أطرح هذا التحدّي على أهل الكتاب أخبرونا ماذا كُتب عن إيليا؟ و أين هو مكتوبٌ أنّه سيعملون به ما يريدون؟
53
للحواريين عليهم السلام.
د ـ لم يكن في يوحنا أيّ روح أو قوّة من إيليا. وقد شَهِدَ الإنجيل أنّ يوحنا لم يفعل معجزة واحدة(يو10/41). فلن يكون إيليا إلاّ عيسى عليه السلام، لكن يجب أن نتأكّد من هذا. فنحن لا ندعوك،أخي،أن تقبل الأشياء دون مناقشتها ... عيسى عليه السلام أحيا الموتى بإذن الله، و النبي إيليا أحيا الموتى فلقد أحيا إبن المرأة الصيدونية(I مل17/17-24). عيسى عليه السلام كثّر الطعام؛ وكثّر النبي إيليا الطعام للمرأة الصيدونية قائلا:"هكذا قَالَ الرَبّ إلَهَ إسرائيلَ إنّ كُوَارَ الدَّقِيقِ لا يَفرُغ و كُوزَ الزّيتِ لاينقُص إلى اليوم الذي فيه يُعطي الرَبّ مَطراً على وَجهِ الأرض"(1Iمل17/10-16). و ألياشاع أبرأ البُرْصَ لمّا حَلّ عَليه روح إيليا(II مل2/15؛ II مل5/12-14) و أبرأ عيسى عليه السلام البُرْصَ. و رُفِعَ إيليا إلى السماء(II مل2/11)،ورفع سيّدنا عيسى عليه السلام إلى السماء. وقد ثبت في الإنجيل أنّ جموعاً من بني إسرائيل كانت تقول عن عيسى عليه السلام أنّه إيليا1. و الإنجيلي لوقا يحكي عن عيسى عليه السلام أنّه كان كثيراً ما يُقارن
نفسه بالنبيّ إيليا.فلمّا رفضه عليه السلام أهل بلدته الناصرة قال لهم : "على كُلّ حَالِ تَقُولُونَ لي هذا المَثَل أيُّهَا الطّبِِيبُ أشْفِ نفسَك. كمْ سَمِعْنَا جَرَى في كفرناحوم فَأفعل ذلك هُنَا أيضاً في وَطنِك. وقال الحقّ أقول لكم إنّه ليس نبياً مقبولاً في وطنه. و بالحقّ أقول لكم إنّ أرامل كثيرة كنّ في إسرائيل في أيّام إيليا حين أُغْلقَت السّمَاء مدّة ثلاث سنين و ستة اشهر لمّا كان جوعٌ عظيمٌ في الأرض
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لو9/19؛ مر8/28؛ متى16/14
54(1/54)
كلّها.و لَم يُرسَل إيليا إلى واحدة منهنّ إلاّ إلى إمرأة أرملة إلى صِرَفةَ صيدا؛و بُرصٌ كثيرون كانوا في إسرائيل في زمن ألياشاع النبي ولم يُطهّر واحدٌ منهم إلاّ نعمان السرياني"( لو4/20-27). فعيسى،كما يتبيّن ممّا سبق ، هو سابق المسيح و ليس المسيح.
تساؤل: لماذا لم يصرّح عيسى بأنّه إلياس؟
و يجب ألا نتجاهل هذا الأمر مطلقا. فلو قال عليه السلام عن نفسه أنّه إلياس لزال الإشكال نهائيا. فلماذا نلجأ إلى التأويل و تفسير مواقف نبيّ الناصرة عليه السلام؟. و للإجابة عن هذا السؤال نفترض فرضيتين تضربان بجذورهما في الواقع
و تؤيّدهما الدّراسة النقدية الموضوعية.
الفرضية الأولى: بكلّ بساطة تمّ حذف التصريح لأنّه لا يتّفق مع تعاليم بولس الطرسوسي مؤسس هذا الدّين ـ الذي يسمّيه عامّة النّاس خطأ الدّين المسيحي ـ . و يجب ألا تنس أنّ الإنجيل مرّ عبر مرشّح هو كنيسة بولس التي لم تمرّر لنا إلا ما أرادت تمريره. و لكي تقتنع بهذه الفرضية فإنّي أدعوك للقيام بعملية حسابية بسيطة و ستكتشف صدق ما ندّعيه.
أحسُب نسبة أسفار بولس، الرّجل الذي حامت حوله الشبهات، من الإنجيل؟ و اعلم متى تمّ الإعتراف بقانونيتها؟ و احسب أسفار تلاميذ بولس الطرسوسي و نسبتها من الإنجيل؟ و أخيرا أحسب أسفار التلاميذ عليهم السلام و عددهم أربعة و ثمانون تلميذا( بإعتبار عددهم 12+ 72)1.
ـــــــــــــــــــ
1- أنظر النصوص أين اختار عيسى عليه السلام الإثنى عشر ثم لمّا أرسل الإثنين و السبعين ( لوقا 6/12-15 ؛متى10/1-4؛مر3/13-19) و أنظر أيضا لوقا 10/1-12.
55(1/55)
فسترى أنّ أربعة عشر سفرا من سبع و عشرين لبولس وحده. أي ما نسبته 51،81% من الإنجيل. و لوقا تلميذ بولس يُسهم بسفرين عظيمين على درجة كبيرة من الأهميّة، أي ما نسبته 7،40%، هما الإنجيل الثالث و سفر الأعمال الذي يروي حياة التلاميذ بعد رحيل عيسى عليه السلام. و هذا ما يرفع النسبة إلى 59،21 % . بقية الأسفار هي أسفار مترجمة مكيّفةٌ حسب تعاليم الكنيسة الناشئة. و إذا قارنا كتابات كنيسة بولس مع كتابات التلاميذ فسوف يظهر جليا ساطعا لكلّ ذي بصرٍ إنحيازها و إنتقائيتها ضد تعاليم كنيسة التلاميذ. إذ لم تصلنا من كتابات التلاميذ عليهم السلام سوى سبع رسائل( أي ما نسبته 25،92% من مجموع أسفار الإنجيل) لأربعة تلاميذ فقط ( يمثّلون 4،76% من خاصّته عليه السلام) ــ هذا إن صحّت نسبتها إليهم ــ هي رسالة يتيمة ليعقوب الصغير أخ عيسى عليه السلام و أوّل أسقف للكنيسة و رسالة يتيمة ليهوذا، أخ عيسى عليه السلام و رسالتين لبطرس الحواري عليه السلام و ثلاث رسائل ليوحنّا. و لا نعلم شيئا واحدا عن ثمانين من أصحاب عيسى( أي ما نسبته 95،23% من التلاميذ) و لا حرفا واحدا ممّا علّموه.
و أدلّة التحريف1 واضحة صارخة في الإنجيل و كأبسط مثال على ذلك فيما يخصّ بحثنا هو إدّعاء الأناجيل المتشابهة أنّ يحيى بن زكريا هو إلياس بينما في الإنجيل الرّابع يكذّب ابن زكريا هذا الزعم تكذيبا قاطعا. و الأمر ليس بسيطا حتى تقتنع، أخي الكتابي،بتفاسير مغرضة. فإن كان يحيى هو إلياس فعيسى هو المسيح و إن لم يكن فعيسى لن يكون أبدا المسيح المنتظر.
ــــــــــــــــــــ
1- أنظر رأينا في التحريف على هامش ص57-58
56(1/56)
الفرضية الثانية: و هذه الفرضية هي التي تمثّل قناعتي و تحظى بتأييدي هو أنّ عيسى عليه السلام، ابتداءً من لحظة حاسمة في حياته و التي لا نعلم تدقيقا بأسبابها، بدأ يتكلّم بالأمثال. أو بمعنى أكثر وضوحا بدأ يستعمل أسلوب التلميح بدلا من أسلوب التصريح و فسّر إرادته عليه السلام بقوله:" قد أُعطي لكم أن تعرفوا سرّ ملكوت الله و أمّا الذين هم من خارج فبالأمثال يكونُ لهم كلّ شيء. لكي يُبصروا مُبصرين و لا ينظروا و يَسمعوا سامعين و لا يفهموا لئلا يرجعوا فتُغفرَ لهم خطايَاهم" (أنظر مر4/10؛متى12/10-17؛ لوق8/9-10)..
فمن خلال تشبيه نفسه عليه السلام بإلياس و باليسع، و من خلال معجزاته التي تذكّرنا بمعجزاتهما قد فهم المؤمنون به من بني إسرائيل أنّه إلياس الذي يسبق المسيح.
عيسى و المسيح
3 أ ــ عيسى ينكر أنّه المسيح: إعتقد بنو إسرائيل أولا أنّ يوحنا المعمدان هو المسيح، وقد كذّب ذلك (لو3/15). و ظنّوا ثانيا أنّه قد يكون يسوع و كذّب ذلك أيضا دون تحفّظ .
تعال، أخي القاريء، لنر كيف كانت بداية بشارة عيسى عليه الصلاة و السّلام. إبتدأت رسالته عليه السلام أولا من إعتماده من يوحنا ثم جُرّب في البرّية و بدأ يَكْرِزُ في الجليل، فدعا الصيّادين الأربعة، ثم قال موعظته الشهيرة على الجبل.و أرسل الإثني عشر و سافر إلى صور و صيدا.و في طريق عودته ، و بالذات في قيسارية فيليبس محافظة بانياس السورية اليوم، أراد عليه السلام أن
.57
يستوضح فسأل تلاميذه:" ماذا يقول النّاس أنّي أنا هو ؟ ( أي ماذا يعتقدُ النّاس فيّ،منْ أنا من بين الثلاثة الذين ينتظرهم شعبُ إسرائيل1؟) فقالوا يوحنا المعمدان.(1/57)
و آخرون إيليا و آخرون واحدٌ من الأنبياء.فقال لهم و أنتم من تقولون أنّي أنا هو ؟ فأجاب بطرس و قال أنت المسيح.فأنتهرهم أن لا يقولوا لأحد عنه". أمّا في نصّ لوقا: " فأنتهرهم بشدّة و أوصاهم ألاّ يقولوا ذلك لأحد".وفي نصّ متى:" وحذّر تلاميذه من أن يقولوا لأحد أنّه المسيح"2. يجب ملاحظة و إستنتاج أنّ الحواري بطرس ،كسائر اليهود في زمانه،كان يفترضُ أنّ المسيح من ذرّية داوود .لأجل هذا بادر إلى الإجابة عن سؤال المعلّم بقوله:"أنت مسيحُ الله". لكنّ الردّ الحاسم و المفنّد لهذا الإعتقاد لم يتأخّر من عيسى عليه السلام. كما يجب التأكيد على أنّ كلّ المؤمنين بيسوع و الذين نُقلت عنهم ستّ شهادات في الانجيل وهي) مر8/27 -30، مر6/15-16، متى14/1-2، لو9/7-8، متى16/13-20، لو9/18-19( لم يوجد من بينهم واحدٌ إفترض أنّه المسيح.فأيُّ شيء أقوى من هذه الشهّادات في أنّ نبي الناصرة عليه السلام لم يعلّم أبدا أنّه المسيح. إذ كيف يفترض المؤمنون كلّ الإفتراضات إلا أنّه المسيح؟
لكن تعترضنا مشكلة،نحن المسلمين،كيف وصلنا هذا النصّ؟ أليس المنطقُ يفرض أنّه كان يجب على المحرّفين3 أن يتخلّصوا منه،إن صدق وصفنا،نحن
ـــــــــــــــــــــــــ
1-كان بنو إسرائيل ينتظرون النبي المهيء للطريق و إيليا و المسيح.
2- مر8/27-30؛ متى16/13-20؛ لو9/18-21.
3-مسألة التحريف هي من أعقد المسائل. و لقد سأل دوما إخواننا أهل الكتاب كيف يعبث رجلٌ مؤمنٌ
بكلام الله تعالى؟ هل يوجد من كذب كذبة ثم صدّقها إلى الدرجة أنّه يموت حرقا من أجلها؟ و أجيب
58
كمسلمين، على أنّ كتبة الإنجيل غير مؤتمنين عليه؟ فكيف يتسامحُ مُحرّف و يشهد ضدّ نفسه و ينقل نصّاً مثل هذا!
ـــــــــــــــــــــــــ
أنّه لا يوجد. و القول أنّ كتبة الإنجيل حرّفوا مع سبق الإصرار حماقةٌ و قائلها أحمقٌ.(1/58)
نعم وقع التحريف لكن دون قصد. لم يكن يعي أيّ كاتب لنصّ الإنجيل أنّه يحرّف. و إنّي أبرّأ تلاميذ المسيح عليه السلام من هذا العمل الدنيء ذلك لأنّ القرآن الكريم وصفهم بالمؤمنين و أنصار الله. التحريف وقع من تلاميذ بولس الطرسوسي الذي كانوا بمثابة مُرشّح لا يقبلون أن يصلنا إلا ما أرادوا أن يوصلوه.
و مع ذلك فلم يتوفر القصد الإجرامي في التحريف. و ذلك لأسباب التالية:
1ـ السبب الأول : هو إنشقاق الكنيسة الناشئة( الكنيسة التي أسّسها بولس الطرسوسي) عن كنيسة الرّسل( كنيسة عيسى عليه السلام و حوارييه و التي أصطلح عليها في التاريخ بإسم الكنيسة اليهودية-المسيحية) في عقد الخمسينات للميلاد. و تلاميذ بولس لمّا كانوا يحرّفون ما حرّفوا إلا تحت ضغط الرغبة الملحّة في التوفيق و التنسيق بين تعاليم بولس و تعاليم الحواريين إذ كانوا يرون في بولس رسولٌ على قدم المساواة مع التلاميذ عليهم السلام.(1/59)
2ـ السبب الثاني:عدم وعي كتبة الأناجيل بقدسيتها. و هذا هو السبب الهّام الثاني. و نريد من كلامنا أنّ إضفاء صفة القدسية لم يتمّ إلا في السنة 170م.إبتداء من هذا التاريخ بدأ المسيحيون يعتبرونها مقدّسة، أي بعد مرور أكثر من قرن من الزمن على كتابتها. و بدايةُ إنجيل لوقا واضحة و شافية كافية. فقد كتب لزميل له بعنوانه الشخصي و لم يطرق خياله أبدا أنّ مُؤلَفه( الذي أطلق عليه لاحقا الإنجيل الثالث) و سفر الأعمال سيقدّسهما النّاس من بعده. فقد كتب لصديقه ثاوفيلس ما يلي:" إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصّة في الأمور المتيقّنة عندنا كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين و خدّاما للكلمة رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأوّل بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيّها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي عُلّمتَ به"( لو 1/1-4). فلا يوجد شيء إسمه الإلهام من الرّوح القدس و لم يدّع لوقا ذلك. الشيء الذي يلفت إنتباه أيّ باحث يرى أنّ كتبة الإنجيل لا يفرّقون بين كلام الله و كلام عيسى و شروحهم. فكان من المفروض أن يكون الشرح على الحاشية لنعرف أنّ هذا فهم لوقا أو يوحنا الللاهوتي أو مترجم متّى أو مرقس. لكن كما هو ملاحظ نرى أنّ الشروح دخلت في متن النص و أصبح المسيحي يرى أنّ شرح هذا الكاتب او ذاك نصّ مقدّسٌ لا يجوز التأخر أو التقدّم عنه. أنظر الصفحة 124 على الهامش. لترى أنّه كثيرا ما نرى :كان هذا ليتم ما قيل بالنبي الفلاني.
59(1/60)
أليس من شذوذ التّاريخ أن يُحرّف كتبةُ الإنجيل ما دقّ و خَفيَ و لا يُحرّفون مسألة جوهرية عظيمة تأسّس عليها دينهم مثل هذه؟ و نقول إذا وصلنا هذا النصّ فلأنّ كتبة الإنجيل كانوا يدخلون شروحهم في متن النصّوص و يتأوّلونها باطلا. و أسلوب العمل هذا إشتهر به لوقا. فحسب زعم لوقا أن يسوع كان يخفي عن النّاس أنّه المسيح و في سفر الأعمال يذكر أنّ يسوع لم يصبح مسيحاً إلاّ بعد ما تمجّد على الصليب حيث جعله الله مسيحاً و ربّاً(أع 2/36). وهذا ما تتبنّاه ايضاً ـــــــــــــــــــــ
3-السبب الثالث و هو الأخير و هو الذي يفسّر كتابة الإنجيل الرّابع هو بدعة إلهام الرّوح القدس. و كلّ رجلٍ وضع بولس يديه على رأسه كان يعتبر نفسه مسوقا من الرّوح القدس يستطيع أن يتنبّأ ( أنظر أع19/6:"و لمّا وضع بولس يديه عليهم حلّ الرّوح القدس عليهم فطفقوا يتكلّمون بلُغات و يتنبّأون"). و أيّ خاطرة تخطر بباله أو تهيئات تعرض له أو أيّ حديثٍ مع نفسه كان يعتبره إلهاما من الرّوح القدس(1/61)
و لا يستطيع أن يفرّق بينه و بين كلام الله تعالى. و هذه الظاهرة يبدو أنّها إنتشرت لدرجة كبيرة حتى أصبح النّاس كلّهم يتنبّأون . قال بولس لأهل كورينثس :" اتّبعوا المحبّة و لكن جدّوا في المواهب الرّوحية و بالأولى أن تتنبّأو" و قال أيضا :"من يتكلّم بلسان يبني نفسه. و أمّا من يتنبّأ فيبني الكنيسة. إنّي أريد أنّ جميعكم تتكلّمون بألسنة و لكن بالأولى أن تتنبّأوا"( I.كو14/1-6)..و قد تجلّت هذه الإدّعاءات بشكل جلي في سفر الرؤيا حيث يكتب يوحنا اللاهوتي :"و سمعت ورائي صوتا عظيما كصوت البوق قائلا أنا هو الألف و الياء الأوّل و الآخر.و الذي تراه أكتب في كتاب و أرسل إلى السبع الكنائس التي في آسيا..أكتب إلى ملاك كنيسة أفسس"( أنظر رؤ1/10-12). و أيضا قوله:" من له أذنان فليسمع ما يقوله الرّوح للكنائس" (رؤ3/6؛ 3/22).لهذا نرى أنّ كاتب الإنجيل الرّابع يضع كلاما على فم عيسى عليه السلام لم يقله كقوله:" و أنا لم أكن أعرفه"يو1/31. و يعني أن يوحنا المعمدان لم يكن يعرف يسوع. و من يصدّق هذا الكلام؟ فقد كانا عيسى و يحيى أبناء عمومة و السيّدة مريم حضرت لميلاد يحيى ( أنظر لو1/36؛56). إنّما كتب هذا ليبرّر سكوت الأناجيل المتشابهة الأولى كيف أن عيسى إعتمد من يوحنا و نسي هذا الأخير أن يقدّمه لشعب إسرائيل على أنّه المسيح الذي جاء يمهّد الطريق أمامه. و كلّ هذا لغرض الخروج من المآزق التي وقعت فيها الأناجيل الثلاث الأولى بخصوص: ألوهية يسوع ، بنوته لله تعالى علوا كبيرا و مسيحانيته.
.60
الترجمة المسكونية حيث تعلّق على هذا النصّ بقولها:" ردّ فعل يسوع هذا لا يعني حسب مرقس أي رفض للقب المسيح، الذي سيقبله في 14/62. لكن هذا اللقب مِثلَه مِثل لقب إبن الله وضعه يسوع تحت طائلة الكتمان، لأنّه لم تأت بعد(1/62)
مهمّة يسوع: الموت و القيامة"1. فيلزم لوقا وكنيسة بولس و الترجمة المسكونية أنّ يسوع كان يطلب من النّاس الإيمان به،لكن لمّا يقولون: بأيّ حقّ نؤمن بك؟ مَنْ أنت ؟ يقول : أنا لاشيء! لكن آمنوا بي ! فهل يصحّ لنبي ألاّ يظهر أوراق إعتماده أمام قومه الذين أُرسِل إليهم ثم يطلب منهم أن يؤمنوا به ؟ بماذا يؤمنون إن لم يخبر عن نفسه من هو؟ و منطق الإنجيل نفسه و الكتاب المقدّس كلّه يكذّب هذه الفرضية التي إفترضها لوقا و الكنيسة من بعده. فما ظهر رجلٌ يتكلّم بإسم الله إلا و عرّف بنفسه أنّه يتلقّى الوحي منه و يتنبّأ باسمه.و ها هو خبر يوحنا المعمدان ليس ببعيد.فلمّا سُئل بأي حقّ يُعمّد النّاس،لم يقل آمنوا بي و لا تسألوا، إنّما أعلن عن نفسه أنّه النبي الذي بشّرا به أشعيا بقوله:" أنا صوت صارخ في البرّية"؛ و النبي ملاخي بقوله :" إن أنا عمّدتكم بالماء فالذي يأتي من بعدي يعمّدكم بالنار و الروح القدس". و عيسى عليه السلام نفسُه لمّا كان في النّاصرة عرّف نفسه على أنّه نبيّ الله يتكلّم بإسمه. مكتوبٌ:" و أمّا يسوع فقال لهم ليس نبيٌّ بلا كرامة إلا في وطنه و في بيته" ( متى13/57). فموقف الكنيسة و عيسى من مسألة مسيحانيته متضاربٌ بالمرّة.
ومن جهة أخرى ألاّ يكون يسوع في حياته مسيحاً ـ و هو الملك ـ ثم لمّا مات أصبح ملكاً سفاهةٌ،لأنّ المسيح كما تنبّأت به الكتب نبيٌ ملكٌ جبّارٌ ترعاه عين
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- TOB p2412
61.
الله. يسقط الأعداء أمامه، و يُوَحّد الربّ في زمانه، و تُعطى له الجزية، و يحكم(1/63)
من النهر إلى النهر، و يردّ ملك إسرائيل المغتصب إن هم آمنوا به. و لا يوجد شيء من كلّ هذا في السماء. فلا تُعطى جزيةٌ في السماء، و لا يوجد حكم في السّماء إلاّ لله، و لا يوجد مُلكٌ لإسرائيل في السماء، و لا يوجد جهاد في السماء إنّما جنّة للمتّقين و نار للكافرين. إذن خلاصة القول أنكر يسوع عليه السلام أنّه المسيح لأنّه ببساطة ليس المسيح؛ولم يأت إلاّ للبشارة به. وكلّ نصوص الإنجيل تؤكّد هذا.و الأدلة التي تدعّم هذه الحقيقة هو أنّ يوحنا اللاهوتي الذي كتب إنجيله على أعتاب القرن الثاني للميلاد لا لإزاحة الأناجيل المتشابهة، كما ذهب إليه بعض الباحثين البروتستانت،لكن ليسدّ الفراغ الهائل فيها حول طبيعة يسوع الإلهية و المسيحانية. كتب في آخر إصحاح له:" كَتَبتُ لَكُم هذا لِتُؤمِنُوا أنّ يسوع هو المسيح إبن الله"( يو20/30-31).
فيجب أن نفهم من هذا حتّى في كنيسة بولس لم يكن مقطوعاً فيه أنّ يسوع هو المسيح إبن الله. وفي رسالة يوحنا اللاهوتي الأولى إشارة إلى أنّ لا الحواريين و لا تلاميذ يوحنا المعمدان كانوا يؤمنون أنّ يسوع هو المسيح.قال:"من هو الكذّاب إلاّ الذي يُنكر أنّ يسوع هو المسيح"( Iيو2/22). وقال أيضاً:" كُلّ من يُؤمن أنّ يسوع هو المسيح،فقد وُلِدَ من الله"( Iيو 5/1). و الخطاب في هذين النصّين واضحٌ أنّه يتوجّه إلى المؤمنين بيسوع الذين لا يعترفون بمسيحانيته و لا يمكن بحال أنّه يخاطبُ اليهود، و ذلك لأنّ موقف اليهود كان متصلّبا من يسوع و كانوا يرون فيه شيطاناً(حاشاه عليه السلام) نزل على الأرض و كانوا يلقّبونه بعل زبول أو بلعام
.
62.
بن باعور مضلّ إسرائيل. فنفهم من ردود فعل الكاتب هذه أنّ كنيسة الرُّسل1 لم تؤمن أبداً أنّ يسوع هو المسيح.(1/64)
و لو كان يسوع عليه السلام رفض لقب المسيح أمام الشعب لا لشيء إلاّ لأنّ إبن الإنسان لم يتمجّد بعدُ على الصليب،كما تزعم كنيسة بولس،فلماذا أذاع الربّ عزّ وجلّ هذا السرّ و كشفه ـ حسب زعم الإنجيل ـ لجميع النّاس الذين أتوا للإعتماد من يوحنا يوم أن أتى يسوع هو الآخر للإعتماد،حيث فُتحت السماوات و نزل الرّوح القُدس على شكل حمامة وسُمع صوتٌ من السماء يقول:"هذا إبني الحبيب الذي سُرّت به نفسي"2،و تتكرّر نفس الحادثة حسب زعم الأناجيل،في جبل التجلّي لمّا ترآءى ليسوع و حوارييه إيليا و موسى عليهم السلام، و يسمعون نفس التصريح السابق.و التصريح هذا ليس إلاّ إدغاماً لنصّين شهيرين من نصوص الأنبياء المبشّرين بالمسيح. "هذا إبني" هو المزمور الثاني؛ " الحبيب الذي سرّت به نفسي" هو الإصحاح 42 من نبوة أشعيا " هو ذا عبدي الذي أعضُده، مختاري الذي سُرّت به نفسي". فهل يصحُّ أنّ الله يتكلّم و يُسمِع صوتَه لكلّ الشعب و يعترف بهذا الإعلان أنّ يسوع هو المسيح ثم يسوع بعد ذلك يزجر تلاميذه وينتهرهم بشدّة ألاّ يقولوا لأحد أنّه المسيح؟
و يعترف جمعٌ كبيرٌ من علماء أهل الكتاب بهذه الحقيقة: هي أنّ يسوع لم يدّع قط أنّه المسيح. وهؤلاء لم يكن لديهم أيّ مصلحة حتى يقرّوا بهذه الحقيقة. و أيّ مصلحة في رأيك،أخي القاريء،أن ينكر هؤلاء العلماء جوهر العقيدة المسيحية.
ـــــــــــــــــ
1-الرّسول في الإنجيل يعني رسول المسيح و هو ما نسمّيهم، نحن المسلمين، بالحواريين
2-متى3/17؛ مر1/11؛ لو3/22؛ أنظر الحادثة الثانية في متى17/5؛ مر9/7؛ لو9/35
63
و أخصّ بالذكر منهم شارل جينيبير و رودولف بلتمان و شارل ديكوك1. و ألفريد
لوازي )عالم اللاهوت العظيم و الكاهن (الذي قال :" لا توجد أيّ علاقة و لو واهية بين يسوع التاريخ و مسيح الايمان"2. و ألفريد لوازي يريد أن يقول أنّ جميع النبوّات بالمسيح في الكتب لم تتحقّق منها واحدةٌ في شخص يسوع. وهؤلاء(1/65)
لم يُسلموا ولم يكن هذا الكلام ليرضي أحدا بل بالعكس لم يجدوا لأفكارهم هذه أيّ نصير واحتملوا الايذاء وضُربوا بالحرام و أخرجتهم الكنيسة من الجماعة المقدّسة.
ولم يكتف سيدنا عيسى عليه السلام بالقول في رفضه أنّه المسيح،إنّما دعّم قوله بفعله وهو ما يرويه سفر يوحنا عن الجموع التي رأت عجائب يسوع الذي أطعمهم من رغيفين وسمكتين وكان عدَدُهم يناهز الخمسة ألاف : " فلمّا رأى النّاسُ الآيَة التي صَنَعَها يسوع قالوا إنّ هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم3. وأمّا يسوع فإذ عَلِمَ أنّهم مُزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً إنصرف إلى الجبل وحده "4. وإنصرافُه إلى الجبل وحده بعدما عَلِمَ ما أزمعوا أن يفعلوه،تأكيدٌ آخر على أنّه ليس النبي الملك أي المسيح الموعود رحمةللعالمين.
ـــــــــــــــــ
1- أنظر على الترتيب: المسيحية نشأتها وتطورها ص38؛
La litterature polemique musulmane contre le christianisme
pp221-222;و الفكر الإسلامي في الرد على النصارى ص 36
2-Introduction à la Bible Robert & Feuillet p 152.
3- بنو إسرائيل كانوا يعتقدون أنّ النبي العظيم المبشّر به في سفر التثنية 15/18، 18/18 هو المسيح. فهذا الشخص المبارك نبيّ و مسيحٌ و شفيعٌ.
4- يو 6 / 14- 15
64(1/66)
لكن توجد أربعة نصوص حيث ينسب يسوع عليه السلام لنفسه لقب المسيح هي : متى 23/10 : " ولا تُدعَوا معلّمين لأنّ معلّمَكم واحدٌ المسيح ". وهذا النص لا يوجد في النصوص الموازية له في لوقا ومرقس. فمن أين أتى به مترجم متّى ؟ وإن وُجد ابتداءً فعلا في متّى فلماذا لم ينقله لوقا عنه ؟ مع أنّ هذا النص لو وُجِدَ لما تردّد أيّ إنجيلي في نقله إذ لا نشكّ في أنّ أحداً من كنيسة بولس كان لا يؤمن بأنّ يسوع هو المسيح . و النص الثاني مر 9/41 :" لأنّ من سقاكم كأس ماء باسمي لأنّكم للمسيح فالحقّ أقول لكم إنّه لا يضيع أجرُه " والنصّ هذا قد حقّقه عَلَمَان من أعلام النصارى الكبار ألا وهما الآبوان بينوة وبوامار مدير المدرسة الانجيلية بأورشليم في كتابهما الشهير وبيّنا أنّ العبارة "للمسيح" تُشتمّ منها رائحة بولس كما وردت كثيرا في رسائله مثل رو8/9؛ 1كو1/2 ؛ 2كو10/7 1وتأكّدا من أنّها زيدت لاحقا و أنّ النصّ الموازي في متّى هو الأصلي2: " مَن سَقى أحدَ هؤلاء الصغار كأس ماء باردٍ فقط باسم تلميذ فالحقّ أقول لكم إنّه لا يضيع أجرُه "(أنظر متى 10/42). وأمّا النص الثالث فهو مر 14/62 فقد ناقشناه نقاشا مستفيضا في كتابنا " صلب عيسى عليه السلام التاريخ و الوهم " .و المصلوب لم يعترف أبدًا أنّه المسيح . و النص الرابع وهو لو 24/46 : " وقال لَهم هَكذا هو مَكتُوبٌ وهكذا كان ينبغي أنّ المسيح يَتألّم ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث " . ولا يوجد في النصوص الموازية أنّه قال أنّه المسيح .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1—أنظر رو 8/9: "إن كان أحدٌ ليس له روح المسيح فذلك ليس له" الضمير المتصل يعود على المسيح.؛ 2 كو10/7:" إن وَثِقَ أحدٌ بنفسه أنّه للمسيح"
2-Les Synopse des quatres Evangiles . P.Benoit-M.E.Boismard
Note175 .P265.
65(1/67)
وهذا النصّ أصلا إختلاق من خيال لوقا فأين يوجد في الكتب أنّ المسيح يُصلَب ويقوم من بين الأموات. وقد ناقشنا هذا النص في كتابنا السالف الذكر" . فكما ترى لا تصمد هذه النصوص أمام النقد . لكن إذا قلنا أنّ عيسى ليس أي علاقة لا من بعيد و لا من قريب مع كلمة المسيح لن نكون منسجمين مع أحداث التاريخ ولن نجد تفسيراً مقنعاً لحادثة الصلب – و هي حادثة تاريخية تؤيدها الأديان الثلاثة – وتدخّل السلطات الرومانية، وتكفير يسوع من طرف اليهود.
فكيف نحلّ هذا اللُبس؟ نقول أنّ عيسى عليه السلام كان اسمه المسيح، مجرّد إسم لا غير ،و لم يكن أوّل و لا آخر من تسمّى بهذا الإسم.و أقوى شهادة حاسمة في القضية هي شهادة الوالي الروماني بيلاطس حيث قال:" فماذا أفعلُ بيسوع الذي يُدعى المسيح....من تريدون أن أطلق لكم بارابّاس أم يسوع الذي يُدعى المسيح" ( أنظر متى 27/17 و 27/22). فلو لم يكن لدى الحاكم الرّوماني، و هو المسؤول الأوّل و الأخير عن النظام العّام و الإستقرار في ولاية اليهودية، يقينٌ بأنّ المسيح إسمٌ و ليس وظيفةٌ1 للمقبوض عليه لما برّأه ممّا اتّهمه به اليهود و حاول اطلاق سراحه. و كان هذا الإسم يحملُ مدلولا سياسيا. و الأمر هذا نفسه موجودٌ عند المسلمين.فلو توجّهنا بالسؤال لرجلٍ إسمه خليفة بالسؤال التالي: هل أنت خليفة المسلمين؟ سيجيب لا! هذا إسمي الشخصي الذي سمّاني به أبواي و لست خليفة على المسلمين. فكلمة خليفة مثل كلمة المسيح تحمل مدلولا سيّاسيا. و قد كانت في القرون الأولى للإسلام تعني مَلِكُ المسلمين.
ـــــــــــــــــــ
1- لا تنس أنّ المسيح تعني الملك. و إدّعاء الملك في الإمبراطورية الرّومانية جريمةٌ سيّاسيةٌ لم تتهاون معها السلطة.
66(1/68)
و حول مدلول كلمة " المسيح" دار جدلٌ كبيرٌ بين المفسّرين و أعتقد أنّ هذا الجدل سيفتحُ مرّة أخرى بين المسلمين و المسيحيين و اليهود من جديد، لكنّ هذه المرّة على أساس معطيات جديدة و علمية.
من بين الأراء التي يفترضها الإمام القرطبي و الرّازي و الزمخشري و البيضاوي صراحة، و الإمام بن كثير ضمنا أنّ كلمة " المسيح" لقبٌ بناءً على المعاني التي فُسّرت بها و التي أُثرت عن المفسّرين. و اقترحوا معان لها: هي الصِدِّيق حسب رأي إبراهيم النخعي، و المبارك حسب رأي الزمخشري. و ذكروا أيضا أنّ اللّقب أُخِذَ من كونه عليه السلام كان يمسح المرضى و يشفيهم، و هذا رأي ابن عبّاس رضي الله عنه. و عند بعضهم، أخذ، من كثرة السيّاحة لأنّه عليه السلام كان سائحا. و قالوا أيضا لأجل أنّه كان مسيح القدمين ، لا خمص فيها. و قيل لأنّه مُسح بدهن طاهر يُمسح به الأنبياء و يُعرفون به أو لأنّه مُسح من الذنوب و طُهّرَ منها و أخيرا أو لأنّ جبرائيل عليه السلام مسحه بجناحه عند ولادته.
و كلّ هذه التأويلات المتضاربة ، و التي لا سند لها من القرآن أو ممّا صحّ من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو حتّى من أصول الُلغة العربية لم تكن لو لم يفترض المفسّرون أنّ كلمة " المسيح" لقبٌ. و قد نقبل أنّها إسم مشتقٌ من الفعل مَسَحَ لو كان إسمه الماسح أو الممسوح أو المِسّيحُ. و يبقى سؤالٌ لهو حاسمٌ في المسألة كيف يمكن للعربية أن تشتّق إسما من اللغة العبرية؟ و نتسآءل لماذا نتجاهل السياق اللغوي و الدّيني الإسرائيليين لفهم هذه الكلمة و قد ثبت أنّها كلمة عبرانية؟
و الحقّ الذي نراه أنّ المسيح ليست لقباً مشتقّا بل هي إسم ثان لعيسى عليه السلام. و أوّل دليل هو السياق القرآني في نصّ البشارة بميلاده عليه السلام.
.67(1/69)
فمعروفٌ أنّ اللّقب هو إسم للتشريف أو التعريف أو التحقير يوضع لإنسان بعد إسمه الأول؛ فهو لاحقٌ. لكن كما هو واضحٌ من نصّ القرآن الكريم أنّ اسم المسيح سُمّي به النبّي عيسى منذ ولادته:قال تعالى:" إذ قالت الملائكة إنّ الله يبشّرك بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم" (آل عمران)
و لنأخذ الألقاب التالية كمثال الأمين و الفاروق و الصدّيق التي أشتهر بها محمد - صلى الله عليه وسلم - و عمر و أبي بكر رضي الله عنهما قبل البعثة. فهل كانوا معروفين بها منذ ولادتهم؟ و الجواب :لا. إنّما هي ألقاب لحقت بأسماءهم بعدما عرف النّاس عنهم الأمانة و العدل و الصدق.
و من جهة أخرى فلا نعلم ـ حسب علمنا المتواضع ـ أنّ العرب أو الأعاجم يلحقون اللّقب بالنسب. فلا يقول النّاس الأمين بن عبد الله بن عبد المطّلب، و لا الفاروق بن الخطّاب ، و لا نقول الصدّيق بن أبي قحافة. إنّما نقول محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب و عمر بن الخطّاب و أبي بكر ابن أبي قحافة ..إلخ. و لو كان " المسيح" لقبا ما صحّ نسبته لأمّه مريم. و قد ثبت في القرآن الكريم قوله تعالى :"قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيئًا إِنْ أرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ بن مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ في الأرْضِ جَمِيعًا "1 (المائدة 17). و قال أيضا:"مَا المَسِيحُ بنُ مَرْيَمَ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ "(المائدة 72-73). و التاريخ يؤكّد بما لا يقبل مجالا للشكّ أنّ هذه الكلمة إسمٌ تسمّى به النّاس منذ فجر المسيحية2. و لا زالت القواميس الإنجليزية تعتبرها إسما شخصيا لا غير.
ــــــــــــــــــــــــ
1-أنظر المائدة 17؛ 72-73.
2- أنظر الصفحة71.
.68(1/70)
و لتلخيص رسالته عليه السلام نقول أنّه أتى لشعبه اسرائيل خاصّة بصفته رسولا مبشّرا و سيعود ثانية بصفته حاكما عدلا لجميع أهل الأرض بشريعة العهد الجديد) الشريعة الجديدة التي نسخت التوراة(.وإلى هذا المعنى أشار عليه الصلاة والسلام بقوله لمّا سأله الحواريون عليهم السلام قائلين : " ما هي عَلاَمَةُ مَجِيئِكَ وانقضَاء الدهر ؟ فأجاب يسوع وقال لهم أنظروا ! لا يُضِلّكم أحدٌ.فإنّ كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح ويضلّون كثيرين"1 . ومن كلامه يُفهم أنّ مجيئه عليه السلام علامة من علامات الساعة الكبرى .ونص لوقا أكثر وضوحا : " قائلين أنّي أنا هو و الزمان قد قرُبَ " . وسيجئ عليه السلام بعد خروج المسيح الدجّال الذي ينتحِلُ إسمَه ، ويفعل المعجزات ويُضِلّ النّاس. ولم يُحذّرنا في النصّ إلاّ من الشرّير الذي يزعم أنّه المسيح ويدّعي أنه الله ، ويفعَلُ المعجزات لِيُضِلّ المخلصين إن إستطاع .
ب- كيف وردت كلمة المسيح في الأناجيل
لم تتّفق الأناجيل الأربعة على أنّ يسوع هو المسيح و لو بالاسم. و لم تتّفق الأناجيل المتشابهة على كلمة المسيح الاّ لمّا رفضها يسوع أمام تلاميذه في قيسارية فيليبس بعدما ظنّوا أنّ المعلّم عليه السلام قد يكون هو المسيح المنتظر) أنظر متى16/ 20، مر8/29-30، لو9/20-21( 2.
ـــــــــــــــــــــــ
1-متى 24 / 5 ؛ مر 13/ 6 ؛ لو 21/ 8
2ـ أنظر النصوص التالية: متى 16/20:" و حذّر تلاميذه من أن يقولوا لأحد أنّه هو المسيح" .النص للترجمة العربيةLBI و TOB؛ مر8/29:" فأجاب بطرس و قال له أنت المسيح. فإنتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه" لو9/20-21:"فأجاب بطرس و قال أنت مسيح الله ،فإنتهرهم و أوصى أن لا يقولوا ذلك لأحد".
69(1/71)
أو لمّا كذّب أن يكون المسيحُ أصلا من نسل داوود) أنظر مر12/35-37، متى 22/41-46،لو20/41-44(1، أو لمّا جاءت على سبيل اتّهام من رئيس الكهنة قيافا)أنظرمتى26/63، مر14/61، لو22/67)2،أو على سبيل النكاية والتشفّي من قبل رؤساء الكهنة والشعب)متى26/68،مر15/32،لو23/35.(3 .
و في متّى، بإعتباره إنجيلا شاع في الأرض المقدّسة بين شعب عيسى عليه السلام و كانت كلمة "المسيح" لا تطرح إشكالا عقديا كذاك الذي طُرح أمام الكنيسة الناشئة ذات الأصول الوثنية في روما، فوردت كلمة المسيح كإسم شخصي ليسوع في أربعة أصحاحات )متى1/16 ،24/5 ،27/17 ،27/22(4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر النصوص التالية:مر12/35:" كيف يقول الكتبة إن المسيح من نسل داوود؟" ؛متى22/41-46:" ماذا تظنون في المسيح .إبن من هو؟" ؛لو 20/41-44:" كيف يقولون إن المسيح إبن داوود؟".
2-أنظر النصوص التالية:متى26/63:" هل أنت المسيح إبن الله الحيّ" ؛مر14/61:"فسأله رئيس الكهنة أيضا و قال له أأنت المسيح ابن المبارك"؛ لو22/67:"إجتمعت مشيخة الشعب رؤساء الكهنة و الكتبة و أصعدوه إلى مجمعهم قائلين إن كنت أنت المسيح فقل لنا".
3-أنظر النصوص التالية:متى26/68:"حينئذ بصقوا في وجهه و لكموه، و آخرون لطموه قائلين تنبّأ لنا أيها المسيح من ضربك؟" ؛ مر15/32:"لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى و نؤمن"؛ لو 23/35:"فليخلّص نفسه إن كان هو المسيح مختار الله؟".(1/72)
4-أنظر النصوص التالية متى 1/16:"و يعقوب ولد يوسف رجل مريم التي وُلد منها يسوع الذي يدعى المسيح" ؛ متى 24/5:"فإنّ كثيرين سيأتون بإسمي قائلين أنا هو المسيح و يضلون كثيرين"؛ متى27/17:"قال لهم بيلاطس فماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح" ؛ متى 27/22:" قال لهم بيلاطس من تريدون أن أطلق لكم باراباس أم يسوع الذي يدعى المسيح". و لإزالة اللبس نفترضُ أنّ أحدا قال إلتقيت العام الماضي مع الملك حسين و آخر قال إلتقيت مع حسين الذي يُدعى الملك. فأعتقد أنّ الشخصين إلتقيا بشخصيتين مختلفتين تماما. أوّل شيء يتبادر إلى ذهن المستمع أنّ الأول إلتقى مع جلالة المغفور له الملك حسين إبن عبد الله ملك الأردن؛ و الثاني إلتقى بحسين آخر يلقّبه النّاس بالملك.
70
أمّا عند الحواري مرقس فيتجنّبها مطلقا حتّى بهذا المعنى)قارن مر13/6 - متى24/5، مر14/65-متى26/68، مر15/9- متى27/22، مر15/12 - متى27/17(1.
ويستعيض عنها بكلمة الملك )أنظر مر15/2 ،15/9، 15/12 ،15/18، 15/26(2 . لكن يوجد استثناء في مرقس حيث وردت الكلمة مرّتين على لسان يسوع. أوّلا في مر9/41 و لقد جزما من لا يَشُكّ أحدٌ في مسيحيتهما أنّ العبارة :" أنّكم للمسيح" زيدت لاحقا. وهي تعكس فكر بولس وأسلوبه3 وقد ناقشناها بإطناب أعلاه في باب : يسوع و المسيح، الفقرة أ- يسوع ينكر أنّه المسيح. و المرّة الثانية في مر14/62 4 ويكفي لدحض هذا النصّ أنّه تكذّبه ستة نصوص موازية تكذيبا
ـــــــــــــــــــــــــــ(1/73)
1-قارن مر 13/6:فإن كثيرين سيأتوا بإسمي قائلين إنّي أنا هو و يضلون كثيرين" / متى 24/5:"فإنّ كثيرين سيأتون بإسمي قائلين أنا هو المسيح و يضلون كثيرين" ؛ مر14/65:فإبتدأ قوم يبصقون عليه و يغطون وجهه و يلكمونه و يقولون له تنبّأ. و كان الخدّام يلطمونه"/ متى26/68: :"حينئذ بصقوا في وجهه و لكموه، و آخرون لطموه قائلين تنبّأ لنا أيها المسيح من ضربك؟" ؛ مر15/9:" فقال بيلاطس أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود"/ متى27/22: " قال لهم بيلاطس من تريدون أن أطلق لكم باراباس أم يسوع الذي يدعى المسيح" ؛ مر15/12:"فأجاب بيلاطس أيضا و قال لهم ماذا تريدون أن أفعل بالذي تدعونه ملك اليهود"/ متى27/17:" قال لهم بيلاطس ماذا تريدون أن أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح"
2-أنظر النصوص التالية مر 15/2:" فسأله بيلاطس أنت ملك اليهود؟" ؛ مر15/9:" أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟" ؛ مر15/12:"ماذا تريدون أن أفعل بالذي تدعونه بملك اليهود؟" ؛ مر15/18:" و إبتدأوا يسلمون عليه قائلين السلام عليك يا ملك اليهود" ؛مر15/26:"و كان عنوان علّته مكتوبا ملك اليهود".
3- أنظر النص كاملا:" لأنّ من سقاكم كأس ماء بإسمي لأنّكم للمسيح فالحق أقول لكم إنّه لا يضيع أجره".
4- النصّ: " فسأله رئيس الكهنة أيضا و قال له أأنت المسيح إبن الله المبارك، فقال يسوع أنا هو"
71
قاطعا،و لا يمكن التوفيق بينها مطلقا. حيث أجاب المقبوض عليه أمام سؤال الكاهن وبيلاطس:"أأنت المسيح؟" بالنفي الضمني:"هو أنت الذي تقول هذا" )أنظرمتى26/64، متى27/11، مر15/2،لو22/70، لو23/3، يو18/37( 1.(1/74)
و لتفسير إختلاف إنجيلي متّى و مرقس في نعت يسوع بالمسيح نقول أنّ انجيل متّى انجيل فلسطيني،انتشر بين المؤمنين من شعب عيسى عليه السلام ولم يكن إسمه يطرحُ أيّ اشكال لديهم بخصوص وظيفته. فقد كانوا يعلمون أنّ اسمه المسيح2 و لم يكن مسيحا بالوظيفة. أمّا الحواري مرقس فقد كتب انجيله في روما، وقد كان الخطر يتهدّد رسالة الانجيل في الصميم اذ كان بولس و أتباعه يعلّمون أنّ يسوع هو المسيح الذي بشّرت به التوراة و الأنبياء و المزامير.
و قد شهد المؤرخ و القائد العسكري اليهودي يوسيفوس فلافيوس الذي عاش في فلسطين و عاصر عيسى عليه السلام أنّ يسوع لُقّبَ ب"المسيح "3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1-النصوص مختارة من الترجمة المسكونيةTOB . والنّص كما ورد: "C’est toi qui le dit "
2-Le fondateur du Christianisme P 105 Charle Dodd :" Le Messie donna Christos en langue grecque, cependant on ne comprit pas toujours le sens de ce dernier mot et l'on l'utilisa assez tôt comme un nom propre".
حيث يذكر شارل دود أنّ كلمة المسيح تعطي باليونانية كريستوس . لكن لم يفهم النّاس معناها ـ حسبما يعتقده ــ لهذا أستعملت كلمة المسيح كإسم شخصي منذ فجر المسيحية . و لفهم هذه الإشكالية نقترح هذه المقاربة من الثقافة الإسلامية. لو قال رجلٌ أبو بكر كان خليفةً شرعيا بعد رسول الله و قال لقد إلتقيت بالأمس صديقي خليفة. فالمسلم لا يحتاج إلى عناء أو جهد في تحصيل أنّ معنيي كلمة خليفة تختلفان في تصريح هذا الشخص. فالأول يحمل معنى سيّاسي و هو أنّ أبا بكر كان رئيس الجهاز التنفيذي في السلطة الإسلامية بعد رسول الله؛ أمّا الثاني فقد إلتقى بشخص إسمه خليفة. هكذا أيضا أتباع عيسى عليه السلام كانوا يوقنون أنّ المسيح إسمٌ لعيسى و ليس وظيفة سيّاسة.(1/75)
3-Voir "Jésus en son temps" p 13. Daniel Rops. Où il cite Jacques premier évêque de Jérusalem: " le frère de Jésus, surnomé le Christ".
72
جـ :بدعة السرّ المسيحاني:
نحن هنا لسنا بصدد تسليط الضوء على التناقضات العظيمة بين الأناجيل ،فهذا ممّا لا يخفى علمُه على أحد. و من هذه التناقضات التي لا تقبل التوفيق هي ما يمسّ بجوهر العقيدة في عيسى عليه السلام هل هو المسيح أم لا.
لقد تسلّل الشكّ،في القرن التاسع عشر،إلى علماء المسيحية بخصوص رسالة يسوع و طرقت فكرة السرّ المسيحاني1 خُلجان قلوبهم.عُرفت هذه الفكرة و سُميّت كذلك منذ أكثر من قرن لكنّ الحقيقة أنّ مُبتدعها الأوّل هو لوقا الإنجيلي. و هي فكرة تتلخّصُ في أنّ عيسى عليه السلام كان يُخفي عن النّاس أنّه المسيح قبل صلبه و قِيَّامته.لكنّ يوحنا اللاهوتي،الذي كان آخر من كتب إنجيلا و ذلك في نهاية القرن الأول الميلادي،هدم كلّ ما بناه و إجتهد فيه سلفُه لوقا.
ـــــــــــــــــــــــــــ
واضحٌ من نصّ المؤرّخ اليهودي أنّ يسوع كان يحملُ هذا اللقب كإسم فقط. فلا يمكن للملك( المسيح) أن نقول أنّه يُدعى الملك. و من نصوص التوراة يتّضح الأمر جليا. داوود و شاؤول بن كيش البنياميني و سليمان عليهم السلام كانوا مسحاء. و ما وجدنا أبدا أنّ أحدا قال عن أحدهم أنّه دُعي بالمسيح و ذلك لأنّهم كانوا مسحاء بالحقيقة.
2-Voir Jésus en son temps pp 212; 325." On a même pu parler d'un secret messianique que Jésus aurait tu le plus longtemps possible pour ne le livrer qu'à la Résurrection".(1/76)
يقول دانيال روبس في كتابه يسوع في زمانه ما يلي: "لقد إقترح الباحثون فكرة السرّ المسيحاني التي مفادها أنّ يسوع أخفى تعاليمه و طبيعته إلى غاية الساعة الحاسمة عند قيّامته ". و قال في الصفحة 325 ناقلا قوله عن النقاّد غير الكاثوليك:" مرتكزين على نص أع2/36 يتّجه الباحثون غير الكاثوليك إلى الإعتقاد أنّ يسوع لم يكن في حياته واعيا مدركا أنّه المسيح أو أنّه الله المتجسّد. عند بعضهم، فإنّ قيّامته هي التي أعلنت عن طبيعته الإلهية و عند البعض الاخر تأليه يسوع هو عمل الكنيسة الأولى التي إعتقدت أنّه المسيح ابن الله الذي قام من بين الأموات"
.73(1/77)
و لقد ألقى بكلّ ثقله ليُبيّن أنّ عيسى هو المسيح الذي تنبّأت به الأنبياء، و لم يتورّع حتىّ من أن يجعل يسوع يُعلن أنّه المسيح لإمرأة سامرية سيّئة السُمعة إلتقاها صُدفة في بئر يعقوب بنابلس حاليا1،الشيء الذي لم يتبرّع به يسوع حتىّ على أعظم تلميذ له هو سمعان بطرس الحواري. لكنّه كانت للوقا وجهة نظرٍ مختلفةٍ تماماً. و شهادة لوقا لا تُقدّرُ بثمنٍ إذا أخذنا بعين الإعتبار أنّه أوّل تلميذٍ من تلاميذ بولس تجرّأ قلمُه على تدوين الأحداث التي عاشها خاتم أنبياء بني إسرائيل. وهذا ما يجعلُ منه شاهدا مباشرا على عقيدة الأناجيل التي سبقته.وبعد فُحصٍ دقيق لانجيله يتّضح أنّ موقِفَه كانت تتجاذبُه عقيدتان متناقضتان:عقيدة الحواريين عليهم السلام الذين لا يرون أبدا أنّ يسوع هو المسيح و عقيدة بولس التي تتبنّى نقيض ذلك. ومعروفٌ عن لوقا أنّه مثقّف يوناني يعتمد العقل ان اختلفت النصوص أو شابتها أيّ شائبة. فاقترح فكرة توفيقية لازال النصارى يعتنقونها الى اليوم هي فكرة السرّ المسيحاني التي بموجبها كان يسوع يُخفي عن النّاس أنّه المسيح قبل صلبه كما أشار الى ذلك في الأصحاح لو 4/41 2 ولم يجعل الاعتراف على لسان يسوع أنّه المسيح الاّ لمّا صُلِبَ و قام من بين الأموات كما ورد في الأصحاحين لو24/26؛46. 3
ــــــــــــــــــ
1-أنظر يو 4/26: قالت المرأة السامرية أنا أعلم أنّ مسيّا الذي يقال له المسيح يأتي.فمتى جاء ذاك يخبرنا بكلّ شيء. قال لها يسوع أنا الذي أكلّمك هو"
2 ــ أنظر لو 4/41:" و كانت شياطين أيضا تخرج من كثيرين و هي تصرخ و تقول أنت المسيح إبن الله .فانتهرهم و لم يدعهم يتكلّمون لأنّهم عرفوه أنّه المسيح"
3- بعدما رفض يسوع أنّه المسيح في لو9/22 يجعل لوقا على لسان يسوع ما يلي أنظر لو 9/23 : " قائلا إنّه ينبغي أنّ إبن الإنسان يتألّم كثيرا و يُرفض من الشيوخ و رؤساء الكهنة و الكتبة و يُقتلُ و في
74(1/78)
واذا عقدنا مقارنة بين الأناجيل المتشابهة من جهة و انجيل يوحنا من جهة أخرى فسنجد البون شاسعا.فان كان الانجيليون الثلاث قد أحجموا أو تعثّروا في الاعتراف بأنّ يسوع هو المسيح، فانّ صاحب الانجيل الرابع لا يتلعثم مرّة واحدة في أنّ يسوع هو المسيح الذي انتظره شعب اسرائيل، بالمعنى الدّيني و ليس بالاسم. وجعل من هذه الفكرة المبدأ الحيوي الأوّل في الايمان بيسوع و الدافع الرئيسي لكتابة انجيله كما ورد في الاصحاحات)1/8-9؛17/20-22؛20/31.(1 فهو أوّل و آخر من أخبر أنّ يسوع هو المسيح2.ثمّ تعمّد أن يجعل هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اليوم الثالث يقوم". وورد أيضا في إنجيل لوقا أنّ يسوع لمّا سأله الفرّيسيون متى يجيء ملكوت الله أجابهم في لو 17/25:"لكن ينبغي أوّلا لإبن الإنسان أن يتألم كثيرا و يُرفض من هذا الجيل". و أكّد لوقا هذه العقيدة في سفر الأعمال 2/36:" فليعلم يقينا جميع بيت إسرائيل أنّ الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم ربّا و مسيحا" . و لم يجعل إعترافا صريحا من يسوع أنّه المسيح إلا لما مات و قام في الأصحاحين لو 24/26:"أما كان ينبغي أنّ المسيح يتألّم و يدخل في مجده" ؛ و في لو 24/46:" و قال لهم هكذا هو مكتوبٌ و هكذا كان ينبغي أنّ المسيح يتألم و يقوم من بين الأموات في اليوم الثالث"(1/79)
1-سبب كتابة يوحنا اللاهوتي لكتابه هو محاولته إثبات ما أخفقت فيه الأناجيل الثلاث التي سبقته ، ألا و هو مسيحانية يسوع .و أفصح يوحنا اللاهوتي عن سبب كتابته للإنجيل بقوله في يو20/31:" كتبت لكم هذا لتؤمنوا أنّ يسوع هو المسيح ابن الله". فلم يقل سأثبت لكم من نصوص الأناجيل ـ التي سبقته و التي لا دخل له فيها ـ أنّ يسوع هو المسيح، إنّما لجأ للكتابة. و هذا الأمر سهلٌ ميسور لجميع النّاس أن يكتبوا ما يشاءوا. فلو أراد أحدٌ أن يصرّ على حماقته بأن قال الجزائر دولة في أمريكا الجنوبية، فلم يصدّقه أحدٌ فلجأ إلى الكتابة و كتب أسفارا تكرّر فيها قوله أو قول من أراد أن يقوّله أنّ الجزائر دولة في أمريكا الجنوبية فهل ترى أنّ كتابته ستنفعه بشيء؟ و هذا السفرُ مفضوح. فكيف يمكن
لرجلٍ أن يكتب، مجرد كتابة، ليثبت أنّ يسوع هو المسيح؟.
2-باسثناء مر14/62 الذي ناقشناه أو لو24/26،46 وهذا الآعتراف حسب لوقا ليس في حياته بل بعد موته وقيامته.
75
الاعتراف على لسان يسوع نفسه)أنظر يو4/26 ،10/25( ،وعلى لسان الحواريين اندراوس، مرثا ، فليبس ونثنائيل (أنظر يو1/41 ،1/45 ،1/49؛ 11/27 ) و على
لسان عامة الشعب)يو7/41( و أخيرا على لسان يوحنا المعمدان )يو3/28(. بينما لا يوجد شيءٌ واحدٌ من هذا الاعتقاد في الاناجيل المتشابهة. ثمّ ليقوّي من مُعتقده المبتدع هذا،تجاهل كلّ النصوص من الاناجيل المتشابهة التي تقدح في مصداقية الادّعاء بأنّ يسوع هو المسيح.
د – حجّة التاريخ :(1/80)
و التاريخ أصدق راوٍ بعد الله ورسله،لا يزوّر ولا يكذب ولا يُغالي،لأنّه كما يصفه أهل الكتاب،فعل الله تعالى .فمتى كان يسوع مسيحاً ( يعني ملكاً ) ؟ ولن يجرؤ أحدٌ على الإجابة .حتّى الإنجيل لم يذكر هذا الخبر .والتاريخ يخبرنا كثيراً عن ملوك بني إسرائيل حتى من لم يَدُمْ مُلكُه إلاّ ثلاثة أشهر أو ستة ولم يخبرنا بكلمة واحدة عن مملكة يسوع .وكلّ ما في الأمر أنّ المؤمنين إستقبلوه بهتافات الملك لمّا دخل إلى أورشليم1، لكنّه فعليا لم يكن ملكاً .
ويخبرنا التاريخ والكتاب المقدّس، أنّ في زمانه عليه السلام ،كان وطنه مستعمرة رومانية .وكان شعبه خاضعاً للوثنيين منذ حملة نبوخذ نصّر البابلي ،أي منذ ست مئة سنة قبل ميلاده.وقد تعاقبت عليه الإدارات الوثنية من البابليين إلى الفارسيين و اليونانيين و أخيرا الرومانيين.
و قد كان عليه السلام حريصا شديد الحرص ألاّ يختلط أمرُه مع النبيّ المَلِك الذي من أجله جاء وسيدنا يوحنا المعمدان للبشارة به. فالمسيح كما جاءت صفاته
ـــــــــــــــــ
1- متى 21/ 1 – 9 ؛ مر 11 / 1 – 10 ؛ لو 19 / 28 – 38
76(1/81)
في الكُتُب تُعطي له الأمم الجزية أمّا سيدنا عيسى عليه السلام فكان يدفع الجِزيةَ لقيصر1، والمسيحُ كما في الكُتب يحكم من النهر إلى أقاصي الأرض وسيدنا عيسى عليه السلام وُلد ورُفع زمان الإستعمار الروماني ولم يحكم حتى في بلدته الناصرة. والمسيح يحمل سيف الإنتقام ويبيد الوثنيين والكفرة ويكون الظالمون أمامه كالعُصافة،ويَقتلُ تنّين البحر ولاوياثان مملكتا الظلم والطغيان ،وعيسى عليه السلام حرّم على أصحابه حتى حمل العصّي .والمسيح في الكُتب يقضي بين الأمم ويُزهِر العدل في زمانه وسيّدنا عيسى عليه السلام مبالغة في الإحتياط لم يقض حتى بين شقيقين تخاصما عنده في الميراث وقال : " ياإنسان من أقَامَنِي عَليكُما قَاضيا أو مُقسّماً "2 والمسيح في الكُتب يَذِلّ الشِركُ أمامه ويعزّ التوحيد، وتلحَسُ الدنيا غبار نعليه ،وسيدنا عيسى عليه السلام رُفع إلى السماء و السلطان في أيدي الوثنيين .والمسيح يتزوّج بنات الأشراف والأعيان والسلاطين وسيّدنا عيسى عليه السلام كان مُمتنعا عن الزواج لأنّه كان ناذراً لله تعالى مثل السيد يحيى بن زكريا وأمّه السيدة مريم عليهم السلام .والمسيح أميّ كما تنبأ بذلك أشعيا وعيسى عليه السلام كان يُفحمُ الأحبار وهو في السنّ الثانية عشرة من عمره. و المسيح كما تنبّأ الأنبياء يأتي من الجنوب من برّية العرب،وعيسى عليه السلام أتى من شمال الأرض المقدسة : الناصرة.
هـ – حجة القرآن والسنّة المطهّرة
و إنّنا ننقل حجج القرآن ليس لغرض إقناع إخواننا أهل الكتاب، بل لأنّنا نتوقّع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1-متى22/21؛ مر12/17؛ لو20/25
2- لو 12 / 14
.77(1/82)
أنّهم سيكونون أوّل من يعترض على ما ذهبنا إليه بقولهم إنّ القرآن و المسلمين كلّهم يشهدون ليسوع بالمسيحانية،و لأنّنا نتوقّع أيضا تساؤل المسلم بهذا الشأن . وبالفعل فقد وردت كلمة المسيح في القرآن إحدى عشرة مرة،تسع مرّات وردت لتفنّد التأويل الكافرَ و المزوّرَ لهذه الكلمة وقد درسناها بشكل مستفيض في كتابنا "يسوع ابن الله أم ابن الإنسان" .و وردت مرّة على سبيل الإخبار عن زعم بني إسرائيل في أنهم قتلوا المسيح عيسى عليه السلام في قوله تعالى:" و قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبّه لهم" (النساء 157). و عدم اغفال القرآن للكلمة في قضية الصلب اشارة منه الى تأويلها السيّاسي خُبثا ومكرا من قِبَلِ اليهود. وهذا يتّفق مع ما كان مكتوباً على خشبة الصليب : " يسوع النّاصري مَلِكُ اليهود "1 . و وردت مرّة واحدة على صيغة التبشير : " إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّرك بكلمة منه إسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلّم النّاس في المهد وكهلاً ومن الصالحين . قالت ربِّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون ، ويعلّمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل "(آل عمران45-49).وهذه البشارة تمّت للسيدة مريم عليها السلام قبل ميلاد غلامها الزكي. ولفهم نصّ البشارة وزمن تحقّقها يجب أن نقسّم حياة سيدنا عيسى عليه السلام إلى حقبتين.
ــــــــــــــــــــــــ
1- أنظر كتابنا صلب عيسى عليه السلام التاريخ و الوهم و كتابنا :" يسوع ابن الله أم إبن الإنسان". لو لم تكن شبهة لإلصاق لقب ملك اليهود بعيسى عليه السلام لرفض الحاكم الروماني دعوة اليهود لعدم التأسيس. و هذه الشبهة وفّرها إسمه المسيح الذي تسمّى به.
78(1/83)
و الخطأ الذي قد يقع فيه أحدُنا هو إعتبار حياته عليه السلام وِحدَةَ وَاحِدَةَ . ففي حياته الأولى علّمه ربّه التوراة والإنجيل وكان رسولا إلى بني إسرائيل ؛ وفي حياته الثانية سيعلّمه الكتاب والحكمة وهما القرآن والسنّة ويأتي بصفته مسيحاً يعني حاكماً ملكاً،لا بصفته نبياً مرسلاً . وأنظر أخي إلى جمال وإعجاز القرآن الكريم ! بشّرها الله بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم ، ولمّا أرادت الآية أن تحدّد علاقته بشعبه إسرائيل جاءت الكلمة "رسولاً " لتقطع سياق النص حتى يعلم النّاس أنّ عيسى عليه السلام لم يكن مسيحاً على إسرائيل إنّما كان رسولا إلى إسرائيل .و لم يذكر القرآن و لو مرّة واحدة أنّ عيسى كان حاكما أو إضطلع بمهام سياسية وقد يتبادر إلى أذهان كثير من النّاس لماذا غابت فكرة تأويل " الكتاب والحكمة " إلى القرآن والسنة1 عن بال النّاس رغم أنّها وردت في كلّ آي القرآن بهذا المعني ؟ ومعلوم عند أصغر مسلم أنّ عيسى عليه السلام لا يأتي بصفته نبيا في مجيئه الثاني ، إنّما بصفته حاكماً مقسطاً ولن يحكم إلاّ بالقرآن والسنّة .
أعتقد أنّ الذين لم يروا هذا الرأي غفلوا عن البعد الزمني في هذه البشارة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- نذكر على سبيل المثال قوله تعالى : " لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب و الحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين "( آل عمران 164 ). ورد في تفسير القرطبي ما يلي: " ويعلمهم الكتاب " يعني القرآن "والحكمة " السنة ،قاله الحسن. و ورد في تفسير إبن كثير ما يلي: وقوله تعالى "ويعلمهم" الكتاب" يعني القرآن" والحكمة" يعني السنة قاله الحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك وغيرهم . وقد أجمع المفسرون في تفسير هذه الآ ية ومثيلاتها إن الله يعلم المؤمنين القرآن والسنة .
79(1/84)
وإحتاروا كيف يتعلّم عيسى عليه السلام القرآن والسنّة قبل نزولهما على سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ؟ ! ولو فحصوا القرآن الكريم بدقّة وإستحضروا البعد الزمني لهذه البشارة سيجدونها قيلت خارج الإطار الزمني الفعلي لرسالة عيسى عليه السلام . لقد قيلت قبل ميلاده كما في آية البشارة السابقة، و أخبرت أنّه سيتعلّمهما مستقبلا. وستُقَال له مرّة أخرى لمّا يجمع الله الرسل يوم القيامة على سبيل الإمتنان ، ويكون يومئذ قد تعلّمهما من قبل . قال تعالى : " يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنّك أنت علاّم الغيوب.إذ قال الله يا عيسى بن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتك بروح القدس تكلّم النّاس في المهد وكهلا وإذ علّمتُك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طائرا بإذني وتبرئ الأكمه و الأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلاّ سحر مبين"( المائدة110). فلا يوجد أبدا في القرآن الكريم ما يفيد أنّ عيسى عليه السلام تعلّم "الكتاب و الحكمة" في حياته الأولى، الحياة التي يفصلنا عنها أكثر من ألفي سنة.
وقد وردت كلمة " عيسى " في القرآن الكريم خمسا وثلاثين مرّة . ولم ترد كلمة " المسيح" ولو مرة واحدة في سياق الإخبار عن رسالته عليه السلام : فلم ترد أبداً
إنّا أنزلنا على المسيح ؛ أو أيدنا المسيح ؛ أو قفّينا على آثارهم بالمسيح ؛أو آمنوا بما أُنزل على المسيح ؛ أو أخذنا الميثاق على المسيح ؛أو شرّعنا للمسيح ؛أو أتينا المسيح .فالكلمات هذه،الكلمات المحورية في الرّسالة و الرسولية، أتت مقرونة دائما بكلمة " عيسى " دون المسيح . وإليك ، أخي القارئ ، هذه الآيات :
80
1-* " وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس "(البقرة7 8) .(1/85)
2-* " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى و عيسى وما أوتي النبيئون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " (البقرة 136).
3-* " وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس " (البقرة 253).
4-* " فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله"(آل عمران 52).
5-* " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي "( آل عمران 55 ).
6-* " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون "( آل عمران 59 – 63 ).
7-* " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى و عيسى و النبيئون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " ( آل عمران 84 ).
8-* " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيئين من بعده وأوحينا إلى
إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب والأسباط و عيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وأتينا داوود زبورا " ( النساء 163 ) .
9-* " وقفينا على أثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين " ( المائدة 46 ) .
81
10-* " لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ( المائدة 78 ).
11-* " إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علّمتك الكتاب والحكمة و التوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طائرا
بإذني وتبرئ الأكمه و الأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني
إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين . وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون(1/86)
إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال إتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين .قال عيسى ابن مريم اللهم
ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وأخرنا وأية منك وأرزقنا وأنت خير الرازقين " ( المائدة 110 ).
12-*" وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس إتخذوني وأمي
إلهين من دون الله."(المائدة 116).
13-* " وزكرياء ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين "( الأنعام 85 ).
14-* " ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون "( مريم 34–35).
15*-"وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار و معين".
82
(المؤمنون 50 ).
16-* "وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا "(الأحزاب7 ).
17-* " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى و عيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه"(الشورى13).
18-* " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " ( الزخرف 57 ).
19-* " ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض
الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " ( الزخرف 62 ) .
20-"ثم قفينا على أثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وأتيناه الإنجيل"(الحديد27 ) .
21-* " وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد"(الصف6)
22-* " يأيها الذين أمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من
بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين"(الصف 14) .(1/87)
أمّا الآيات الأخرى التي وردت فيها كلمة" المسيح" و عددها تسعة فلم تأت
83
إلا لتبيّن مكر اليهود في تأويلها المغرض و لتفنّد إعتقاد من ضلّ في أنّ عيسى إلهٌ أو ابنُ الإله1 .
و نستخلص من هذه الدراسة المقارنة أنّ عيسى عليه السلام أتى لشعبه إسرائيل بصفته نبيًّا مرسلا ،و سيعود في مجيئه الثاني بصفته مسيحا لا نبيًّا . و معلومٌ من الدّين بالضرورة بإجماع المسلمين أن لا نبيّ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،و أنّ القرآن الكريم وصفه بخاتم النبيئين2. وقد أكّد سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث التي تتكلّم عن نزول عيسى عليه السلام3. أنّه سيعود بصفته حكما عدلا مقسطا،وهذا هو معنى المسيح بالتمام. و لقد روى الإمام البخارى رضى الله عنه في كتاب " ذكر الأنبياء " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"والذي نفسي بيدِه لَيُوشِكَنّ أن ينزِلَ فيكم بن مريم حَكَماً عدلاً،فيكسر الصليب و يقتل الخنزير،ويضع الجزية ويفيض المال حتّى لا يقبلَه أحدٌ وحتّى تكون السجدة خيراً له من الدنيا وما فيها ". ثم يقول أبو هريرة إن شئتم فأ قرأوا : و إنَّ من أهلِ الكِتَاب إلاّ لَيُومِنَنَّ به قبلَ موتِه ويوم القِيَّامَة يَكون عَليهم شهيدا(النساء 159).
ـــــــــــــــــــ
1- غير آية البشارة في آل عمران 44-49 و آية الصلب في النساء 157 لم ترد كلمة المسيح إلا في سياق تفنيد ألوهيته أو بنوته لله سبحانه و تعالى. و آية البشارة أخبرتنا أنّ إسم عيسى الثاني هو المسيح. و في آية الصلب وردت المسيح لتفسّر مكر اليهود الذي مكروه لقتل عيسى مصلوبا. لأنّ المسيح يعني دينيا "إبن الله" و سيّاسيا تعني الملك. أنظر كتابينا :صلب عيسى عليه السلام التاريخ و الوهم ؛ و " يسوع ابن الله أم إبن الإنسان".
2- قال تعالى: " و إنّه لعلم للساعة" الزخرف61. و يعني أنّ نزول عيسى عليه السلام علامة من علامات الساعة الكبرى.
3- الأحزاب10
.(1/88)
84
و روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" الأنبياءُ إخوَةٌ لِعَلاّت أمّهاتُهم شتّى ودينُهم واحد .وأنّي أولى النّاس بعيسى بن مريم لأنّه لم يكن نبيٌّ بيني وبينَه وإنّه نازِلٌ ، فإذا رأيتموه فأعرِفُوه . رجلٌ مربوعٌ إلى الحُمرة والبَيَاض عليه ثوبان مُمَصّران كأنّ رأسَه يقطر وإن لم يُصبه بَلَلٌ،فيدُقّ الصليبَ ويقتُلُ الخنزيرَ ويضع الجِزية ويدعو النّاس إلى الإسلام ، ويهلكُ الله في زمانه المِلَل كلّها إلاّ الإسلام ،ويهلك الله في زمانه المسيح الدجّال .ثم تقعُ الأمَنَةُ على الأرض حتّى ترتَعَ الأسودُ مع الإبلِ والنِّمَارُ مع البَقَر والذِّئابُ مع الغَنَم ،ويلعبُ الصِبيانُ بالحَيّات لا تضُرّهُم فيمكُثُ أربعين سنة .ثم يُتَوفى ويُصَلّي عليه المسلمون".
ومن أراد حجة إضافية في أنّ البشارات في حقّ سيدنا عيسى لم تتحقق كلّها في حياته الأولى فحسبُه هذا الحديث .وهو نفس بشارة النبي أشعيا عليه السلام –الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد - بالمسيح بن داوود. وأخرج ابن ماجة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" فيكونُ عيسى بن مريم في أمَّتِي حَكَمًا عَدلا وإمَامًا مُقسِطًا، يَدقّ الصليب ويذبحُ الخنزير ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير، وتَرتَفِع الشّحْنَاءُ و التَّبَاغُضُ ، وتَنْزَاحُ حُمّة كلّ ذات حمُّة حتى يُدخل الوليد يده في الحيّة فلا تضرّه .وتفرّ الوليدة الأسدَ لا يَضُرُّها ، و يكون الذئبُ في الغنم كأنَّه كلبُها ، وتُملأ الأرضُ من السِلم كما يُمْلأ الإنَاء من الماء ، وتكونُ الكَلِمَةُ(1/89)
واحدَةٌ فلا يُعبدُ إلا اللّه وتضَعُ الحربُ أوزَارَها وتسلب قريش ملكها ، وتكون الأرض لها نور الفضّة،وتنبتُ نباتَها كعهد آدم حتّى يجتَمعُ النَّفَرُ على القِطفِ من العنبِ فيُشبِعُهُم ، ويجتمعُ النّفَرُ على الرُمَّانة فتُشبعَهم ، ويكونُ الثّورُ بكذا وكذا من المال ويكون الفرسُ بالدُرَيهِمَات " قيل يا رسول الله وما يرخّص الفرس؟ قال
85
: لا تُركب لحرب أبدا ، قيل فما يُغَلّي الثّورُ؟ قال يحرُثُ الأرضَ كُلّها "1.
فمن هذه الأحاديث الشريفة نتبيّن أنّ عيسى عليه السلام سيعود بصفته مسيحا يعني ملكا ،يحكم العالم ويؤسّس مملكة الله بشريعة سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - .
و لمزيد من التوضيح فقد ذكر الله تعالى في كتابه العزيز كلّ الأنبياء الذين أتاهم الملك و الحكم ولم يذكر من بينهم عيسى عليه السلام.
قال تعالى حاكيا عن طالوت وهو شاوول بن كيش البنياميني :" وقال لهم نبيُّهم إنّ الله قد بعث لكم طالوت ملكا " (البقرة 247) .
ـ وقال تعالى : عن داوود "وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك (البقرة251).
ــ وقال تعالى : عن سليمان عليه السلام "وأتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان "( البقرة 102 ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/90)
1-وهذه نبوة أشعيا 11/ 1-15 : " ويخرج قضيب من جذر يسّى و ينمى فرع من أصوله ويستقرّ عليه روح الربّ روح الحكمة والفهم والمشورة والقوة روح العلم وتقوى الربّ. ويتنعّم بمخافة الربّ ولا يقضي بحسب رؤية عينيه ولا يحكم بحسب سماع أذنيه بل يقضي للمساكين بعدل ويحكم لبائسي الأرض بإنصاف ويضرب الأرض بقضيب فيه ويهلك المنافق بنفس شفتيه ويكون العدل مِنطقة حقويه والحقّ حزام كشحيه .فيسكن الذئب مع الحمل ويربض النمر مع الجدي ويكون العجل والشبل والمعلوف معا وصبيّ صغير يسوقها .ترعى البقرة والدّب معا ويربض أولادهما معا والأسد يأكل التبن كالثور ويلعب المرضع على جحر الأفعى ،ويضع الفطيم يده في نفق الأرقم . لا يسيئون ولا يفسدون في كلّ جبل قدسي لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الربّ ".ويسى هو أبو سيدنا داوود عليه السلام . و أنظر أيضا النبوة أشعيا 2/4 التي تبشر بإبن داوود الذي يصنع السلام على الأرض و تتأخى به الأمم في دين الله :" فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل .لا ترفع أمة على أمة سيفا ولا يتعلمون الحربّ في ما بعد ".
.86
ــ قال تعالى : عن موسى عليه السلام " ولما بلغ أشده و استوى أتيناه حكما وعلما و كذلك نجزي المحسنين " (القصص 14).
ــ وقال تعالى :عن يوسف عليه السلام " ربّ قد آتيتني من الملك وعلمتني من تاويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض"(يوسف101).
ولم يأت ذكر عيسى و لو لمرّة واحدة أنّ الله أتاه الملك ،رغم أنه تسمّى بالمسيح .فهذا يؤكد أنّ عيسى عليه السلام لم يكن مسيحا ،وإنما تسمّى فقط بإسم المسيح ، لِمَا سيكون له في شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من مُلك .
4- عيسى يبشر بالمسيح(1/91)
كان اليهود و لا زالوا يعتقدون بالإجماع أنّ المسيح سيكون من نسل داوود.فأنكر صاحبُ البشارة أنّه المسيح و لم ينكر أبدا أنّه ابن داوود، و علّم أنّ المسيح لن يكون من ذرّية داوود1.و هذه المسألة أحد أبرز و أهمّ أوجه الصدام بين تعاليم المعلّم عليه السلام و علماء اليهود .
وهذه المشكلة اعترضت سيدنا عيسى عليه السلام كما اعترضت سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبل اليهود أنّ يكون المسيح النبيّ العظيم من نسلٍ غير نسل داوود .ولهذا لمّا سألهم سيّدنا عيسى من أي نسل سيكون المسيح قالوا كأنّهم رجلٌ واحدٌ هو من
ـــــــــــــــــــــــ
1-من الأشياء التي يسلّم بها اليهود هي أنّ المسيح من ذرية داوود. حتى التلاميذ عليهم السلام كانوا يعتقدون هذا الإعتقاد( انظر مر8/27-30؛ متى16/13-20؛ لو9/18-21). و في إجابة الفريسيين على سؤال عيسى عليه السلام ما ظنّكم بالمسيح؟ من نسل من هو؟ أجابوا كأنّهم رجلٌ واحدٌ :هو من نسل داوود.( مر 12 / 35-36 ؛ متى 22/41-46؛ لو 20/41-44).
87
وَلَدِ داوود. لكن كما قال المرّنم عليه السلام :" الحجرُ الذي رَذَلَه البَنَّاؤون هو صَارَ حجَرًا لِلزَّاوية"( مز 118/22 – 23)،و كما تنبأ أشعيا النبي :" مَنْ أرشَدَ رُوحَ الرَبّ أو كانَ لَه مُشيًرا مَنْ دَلّه على رجُل مَشُورَتِه "( أش 40 / 13)، فإنّ المسيح متواضعٌ من أمّة متواضعة لا يؤبه لها و لا يعبأ بها النّاس.
ومن مفهوم النبوّتين السّالفتين فإنّ مقياس الله تعالى غير مقياس البشر. معايير البشر واحدة و إن اختلفت تقديراتهم،لهذا تشابهت قلوبهم .وقد إستعظم على أهل الشرك من العرب أيضا أن تعُطى هذه الرسالة ليتيم فقير أميّ :" وقالوا لولا نُزّلَ هذا القرءانُ على رجُلِ من القريتين عظيم.أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا" (الزخرف 31).(1/92)
و في الأناجيل المتشابهة يُنبأ المعلّم عن خبر ما تعوّد اليهود على سماعه. و مع هذا فقد تحمّل عليه السلام المسؤولية عن التبشير به رغم أنّه من شأنه أن يجرح كبرياء إسرائيل،شعب الله المختار. فقال :" لماذا يقول الكتبة إنّ المسيح من نسل داوود ؟ لأنّ داوود مُلهَمٌ من الرّوح القدس قال :" قال الرَبّ1 لِرَبّي اجلِسْ عَن يَمِينِي حتّى أجعَلَ أعدَاءَكَ مَوْطِىء قَدَمَيك"2. وفي رواية الإنجيل متىّ يتوجّه للفرّيسيين قائلا: " مِنْ نَسْلِ مَنْ يكونُ المسيح؟ قالوا مِن نسل داوود ! و هذه الأسئلة إستنكارية.و ككلّ سؤال أو نقاش أو حِوارٍ بين أطراف،يجب ألا نغفل أنّ المتحاورين يتقاسمون مُسلّمات ينبغي تحصيلُها أوّلا لفهمهم.
ــــــــــــــــــــ
1- قرأت الكنيسة الأولى :" قال يهوه لربي " أنظر بحث الجنس البشري عن اللّه ص 259
2- مر 12 / 35-36 ؛ متى 22/41-46؛ لو 20/41-44.
88(1/93)
فبنو إسرائيل في زمانه كانوا مُجمِعين بما فيهم تلاميذه أنّ المسيح ينحدر من ذريّة داوود1 و الكلّ كان يعلم أنّ المسيح،بناءً على بشارة المزمور 110 2، نبيٌ ملكٌ يضطلع بمهام سيّاسية عظيمة. و بسؤاله عليه السلام علماء زمانه كأنّه يقول أنا ابن داوود الموعود و لا أحد غيري لكنّي لستُ المسيح لأنّ المسيح، كما يعلمُ الخّاص و العّام، متسلّطٌ بإسم الله على جميع الشعوب و قد بات يقينا و واضحا لكم أنّ أيّ شيء من شأنه أن يجعلني في شُبهة أنّني المسيح إبتعدت عنه.و من سؤال سيّدنا عيسى عليه السلام يتّضح أنّه أنكر أن يكون المسيح من نسل داوود؛ و أنّ زمانه لم يأت بعد. وإن لم يكن المسيح من نسل داوود فلن يكون من نسل يهوذا، وإن لم يكن من نسل يهوذا فلن يكون من آل إسرائيل .لأنّ الله اختار آل إسرائيل على العالمين واختار من إسرائيل آل يهوذا،و من آل يهوذا اختار آل داوود. فلن يكون المسيح إلاّ من اخوة بني إسرائيل من نسل إبراهيم عليه السلام. ونطرحُ السؤال نفسه الذي طرحناه من قبل فكيف وصلنا نصّ مثل هذا يعترف فيه يسوع أنّ المسيح ليس من آل داوود ؟ و نجيب وصلنا لأنّ النّصارى تأوّلوه تأويلا باطلا.
ــــــــــــــــــــــ
1- و هذا ما كان عليه السلام يعنيه، من أنّ المسيح ليس من ذرية داوود، لمّا حرّم على أصحابه حمل السيوف و العصي و رفض أن يحكم بين المتخاصمين و أمر بدفع الجزية لقيصر. ففي هذا تأكيد على أنّه ليس المسيح و إن لم ينكر أبدا أنّه ينحدر من ذرية داوود.
فلو تكلّم جزائريان عن المنظمّة السرية و مؤتمر الصومام ،لا يمكن أن تفهم شيئا ما لم تعلم سلفا أنّهم قاموا بثورة تحريرية مسلحة ضد فرنسا الإستعمارية. فلا يمكن للمتحاورين أن يقولا لبعضهما إنّنا نتكلّم عن الثورة ، فالمسألة مسلمة لهما.(1/94)
2- المزمور 110 أهمّ مزمور في ذُكر في الإنجيل. و يتنبّأ داوود فيه بالنبيّ الذي يؤسّس مملكة الله على الأرض:" قال الربّ لربّي إجلس عن يميني حتّى أجعل أعداءك موطئا لقدميك"
89
التأويلات الباطلة: عيسى إبن داوود و إلهه!
و تأويلُ النصّ هو الذي أمدّه بأسباب البقاء.إذ لو سلّموا به لكان الأمر مختلفا.
فتعالى لنرى كيف تفهمُ كنيسة بولس هذا النصّ ؟ فحسب الترجمات العربية فإنّ
يسوع أعلَنَ عن أُلُوهِيَتِه في هذا المزمور .فتقول أنّه إلهُ داوود،وأمّا من حيث الجسّد فَهو ابنُه! ولم يقل بهذا التأويل السخيف غير المتأخرين من أتباع بولس.
وإن كان النصّ كما يتأوّلون،فلأول مرّة يستحيي الله و يخجل أنّ يُعلن للنّاس عن سخافته أنهّ الله المتجسّد ويتكلّم على سبيل التلميح لا التصريح، لأنّه يعلم سلفا أن لا أحداً يُصدّقه. و يستحيل مطلقا في كلّ الكتب المقدّسة أن يكون الله عزّ و جلّ خائبا؛ يتكلّم عن ألوهيته و ربوبيته بخجل و إستحياء أو بنصوص متشابهة حمّالة لأوجهٍ من التأويل. فهذا لم يحدث أبدا في نصوص الكتاب المقدّس1 .وقد بّينا أنّ هذا المنطق باطل في كتابنا رسالة التوحيد عند عيسى.
ــــــــــــــــــــ
1- الله تعالى كما تصفه التوراة عظيم متجبّر غيور هو الأول و الآخر ، يجرح و يشفي و لا أحد
يخلّص من يده. مطالبٌ بألا يعبد معه غيره. و إليك النصوص الدّالة على ذلك:
( 1 )* " فَاحتَرِسُوا لأَنفُسِكُم ، إِنَّكُم لم تَرَوا صُورةً في يومِ خِطَابِ الرَبّ لَكُم في حُورِيب ،مِنْ وَسَطِ النَّارِ،لِئَلاَ تَفْسُدُوا و تَعمَلُوا لَكُم تِمثَالاً مَنحُوتًا على شَكْلِ صُورَةِ رَجُلٍ أو إمرأةٍ،أو شكلِ شَيءٍ من البَهَائمِ التي على الأرضِ،أو شَكلِ طَائِرٍ يَطِيرُ في السَّمَاءِ،أو شَكلِ شَيءٍ مِمَّا يَدِبُّ على الأرضِ،أو شَيءٍ مِنَ السَّمَك مِمَّا في الماءِ تَحتَ الأرضِ" ( تث 4/15 – 18).
((1/95)
2 )* " إِنَّنِي أَنَا هُوَ وَ لاَ إِلَهَ غَيْرِي ، أَنَا أُمِيتُ و أُحيِي و أَجْرَحُ و أَشْفِي ، وَ ليس مَنْ يُنقِذُ مِنْ يَدِي " ( تث 32/39 –42 ).
( 3 )* " لاَ شَبيه بِاللهِ ، هُوَ الذِي يَأْتِي لِنُصرَتِكَ يَا يَشُورُون " (تث 33/26 ) .
( 4 ) *" لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخرَى تُجَاهي ، لا تَصْنعْ لَكَ مَنْحُوتاً ، و لا صُورَة شَيءٍ مِمَّا في السَّمَاء مِن فَوق،و لا مِمَّا في الأرضِ مِنْ أسفلِ،ولا مِمّا في المياه مِن تحت الأرضِ " (خر 20/3 – 4).
90
وأمّا من حيث العقل و المنطق ، فكيف يكون المخلوق عِلّةً للخالق الأزلي ؟ وكيف يستقيم عند العقلاء أنّ داوود جدُّ ربّ العالمين ؟
وأمّا الترجمات الأوروبية فتنأى بنفسها عن هذا الكلام القبيح الذي نقلته شقيقاتها العربية؛ وتُعَنوِنُ هذا النص ب"المسيح و داوود ".ويُفهم منها أنّ يسوع رغم أنه من أولاد داوود إلاّ أنه أعظم منه ! وإن كان هذا التأويل متساغا فإنه لا يُقنعُ .
ــــــــــــــــــــ
(5)*" بِمَنْ تُشَبِّهُونَني و تُعادِلونَني و بِمَنْ تُمَثِّلُونَني بِهِ فَنَتَشَابَه (أش 46/5).
(6)*" أمَّا الرَبّ فَهُوَ الإِلَهُ الحَقُّ ، الإِلَهُ الحَيُّ و المَلِكُ الأَزَلي (إر 10/10).
(7)*" مَلعُونٌ الرَّجُلُ الذي يَتَوَكَّلُ على البَشَر" ( إر 17/5 ).
(8)*"أَفَتَقُولُ أَنِّي إِلَهٌ أمَامَ الذي يَذْبَحُكَ وَ أَنتَ بَشَرٌ لاَ إِلَهَ في يَدِ قَاتِلِكَ " ( حز28/9 ).
(9) *" الرَبّ حَيٌّ " (مز 84 /3) .
(10)*" وَ أَنتَ سِنُوكَ لَنْ تَفْنَى "مز ( 102/27 ).
(11)*" إِنَّ حَافِظَ إسرائيلَ لاَ يَنَامُ و لاَ يَسْهُو " (مز 121/4).
(12)*"أيُّ إنسَانٍ يَحْيَا ولاَ يَرَى المَوْتَ، وَمَنْ يُنَجِّي نَفْسَهُ مِنَ الجَحيم" (مز89/49).
(13)*" أَنَّهُ لاَ شَيءٌ يُعَادِلُكَ " ( مز 40/6 ) .
(14)*" فَمَنْ مِثْلَكَ يَا الله " ( مز 71/19 ).
((1/96)
15)*" أَيُّهَا الرَبّ إِلَه الجُنُودِ مَنْ مِثْلَكَ "( مز 89/49).
(16)*" أَيُّها الرَبّ الإِلَهُ لاَ نِدّ لَكَ ، وَ لاَ إِلَهَ سِوَاك ً ( 1أخ17/20).
(17)*" و السَّمَاواتُ وسَمَواتُ السَّمَاواتُ لا تَسَعْهُ ( الله ) (2 أخ 2/5).
( 18 )*" فَهَلْ يَسْكُنُ اللهُ حَقًّا مع الإنسانِ على الأرضِ . فإِنَّ السَّمَاواتِ وسَمَاواتِ السَّمَواتِ لاَ تَسَعْكَ فَكَيفَ هذا البيتُ الذي إِبْتَنَيْتَهُ " (2أخ6/18 ).
(19)*" يَا مَنْ هُوَ رَبّ الجميعِ الغَنِّيُ عن كُلِّ شَيءٍ ، لَقَد حَسُن لَدَيكَ أنْ يَكُون هَيكَلُ سُكْنَاكَ فِيمَا بَينَنَا " ( 2مكا 14/35 ).
(20)*"عَلِمَ الرَبّ كُلّ عِلمٍ و اطّلَعَ على عَلامَة الدَّهرِ مُخبراً بالماضي و المستقبل و كَاشِفا عن آثَارِ الخَفَايَا
91
فداوود نفسُه خيرٌ من أبيه يسّى،وإبراهيم خير من أبيه تارح ؛وموسى خير من أبيه عمرام ومعظم النّاس خير من ءآبائهم .فكثير من رؤساء الدول و الوزراء و العلماء و الفنّانين و الرياضيين خرجوا من أباء فقراء بائسين.
و بولس و لوقا مؤسّسا هذا الدّين لم يقولا بألوهية عيسى إستنادا على نصّ المزمور 110 فقد تأوّلا هذا النصّ على أنّ يسوع صَعِد إلى السماء و جَلَس عن يمين أبيه. و استناداً على هذا النصّ راحت الأيقونات النصرانية في القرون الوسطى تصوّر الآب كأنّه شيخٌ هرمٌ بلحية بيضاء طاعنِ في السنّ، وعن يمينيه شاب وسيم في عنفوان شبابه كأنّه ولي العهد ، وبينهما حمامة ترمز للرّوح القدس .واخترنا نص لوقا من سفر الأعمال لندللّ على هذا التأويل. قال:" لأنّ داوود لم يَصعَدْ إلى السّمَاء وهو نفسُه يقول قال الرَبّ لرَبّي اجلِسْ عن يَمِيني حتّى اجعَلَ أعدَائَك مَوْطِئ قَدَمَيكَ " (أع 2/34 –35).2
ـــــــــــــــــــــــ
،(1/97)
لاَ يَفُوتُه فِكرٌ ، و لا يَخفَى عليه كَلاَمٌ ، وَ قد زَيَّنَ عَظَائِمَ حِكمَتِه و هو الدَّائمُ مُنذ الدَّهرِ إلى الدَّهرِ ، و لمْ يُزَدْ شَيئًا ، و لَمْ يُنقَصْ و لا يَحْتَاجُ إلى مُشيٍر " ( يش بن شيراخ42/19 – 22 ).
(21)*" بَالِغوا في رَفْعِه قَدرَ طَاقَتِكُم . لاَ تَكِلُّوا فَإِنَّكُم لَنْ تُدرِكُوه . مَنْ رَآهُ فَيُخْبِرُ و مَنْ يُكبِرُه كَمَا هُو ؟" (يش بن شيراخ43/31 ).
(22)*"هذه الأَلِهَة التي مِن ذَهَبٍ وفِضّةٍ أوخَشَبٍ يُلبِسُونَها ألبِسَةً كالإِنسانِ"(رسالة إ ر 3 ).
(23)*"هذا الإِلَهُ يَحمِلُ خِنجَراً في يَدِهِ اليُمنَى و سَاطُوراً لَكنّه لاَ يَقي نَفسَه مِنَ الحَربِ و لاَ مِنَ اللُصُّوصِ ( رسالة إر14 ).
(24)*"كَيفَ يَكُونون ألهةً مَنْ لَيسَ لَهُ قُدرَةً على أَنْ يُخَلِّصَ نَفسَه مِن الحروب و الكَوَارِثِ "(رسالة إر49 ).
2- و أنظر أيضا عب 10/12:" و أمّا هذا فبعدما قدّم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد عن يمين الله، منتظرا بعد ذلك أن توضع أعداؤه موطئا لقدميه" ...
.92
معنى يمين الله و الجلوس عن يمينه
وإذا أردنا فهم ما معنى "يمين الله" و "الجلوس عن يمينه" فعلينا أن ننهل من تراث إسرائيل، لأنّ النصّ الذي إستشهد به عيسىعليه السلام من الزبور. فما معنى يمين الله"؟ لم يفهمْ أبدا بنو إسرائيل أنّ لله يمينا ويسار،وله مكانٌ على بعد لست أدري كم من سنة ضوئية. فالتوراة و عقيدةُ الأنبياء راسِخةٌ في أنّ الله ليس كمثله شيء،ومهما تصوّرت في ذهنك الله،فهو جلّ وعلا ليس كذلك.(1/98)
" لا كُفْء لله "( تث33/26) .كما قال سفر التثنية . وحذّر موسى عليه السلام شعبه من أن يصنعوا صورة رجل أو امرأة أو طائر في السماء أو دبّابة من دبّابات الأرض أو سمك من أسماك البحر لأنّه قال:"إنّكُم لَم تَرَوا صُورةً في يوم خِطاب الرَبّ لكُم في حُوريبَ مِن وَسَطِ النّارِ"( تث4/16-18) . ولمزيد من التفصيل نحيلك إلى كتابنا "عقيدة التوحيد عند عيسى عليه السلام".
وكلمة "يمين الله" وردت في معظم أسفار الكتاب المقدس و تعني في بعض معانيها ما عنته في القرآن الكريم: " وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَينَا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين "( الحاقة45-46).قال سفر الخروج:" يمينُك ياربّ تَحطُم العدُّو"(خر15/6).و أتت بمعنى التدبير:"يدي أسَّسَت الأرض و يميني شَبِرَتِ السموات"( أش48/13). ووردت الكلمة في المزامير في أكثر من تسعة و عشرين موضعاً ، أتت بمعان مختلفة:التثبيت؛العطاء؛ الحفظ؛ النصرة ؛ القوة؛ العدل؛ التأييد. ونختار المزمور الموالي الذي جاءت فيه الكلمة بمعنى التأييد و النصرة: "لِتَكُن يَدُك على رَجُلِ يَمِينِك، على إبن البشَرِ الذي أيّدْتَه
93
لأجْلِكَ"( مز80/18). و واضحٌ أنّ المزمورين 110 و 80 يفسّرُ أحدُهما الآخر. إذ وردت في الأوّل العبارة :" إجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطىء قدميك" و الثاني وردت فيه : رجل يمينك الذي أيّدته لأجلك". و اليمين وردت هنا بمعنى التأييد و النصرة و التسلّط بإسم الله تعالى. و يقول المرنّم عليه السلام عن الله تعالى : " إنّه واقفٌ عن يمين المسكينِ لِيُخَلِّصَه مِن القَابِضِينَ على نفسه"( مز109/31).
و إذا سَمَحنا لأنفُسِنا أن نَفهَمَ" الجلوس عن يمين الله"على جهة المكان فما الذي يمنعُنَا أن نتأوّل أيضا أنّ المسكينَ جالِسٌ عن يمين الله كما قال المزمور السابق. فالجلوس عن يمين الله ليس جُلوسَ مكان إنّما هو التسلّطُ باسم الله و الحُكمُ بما(1/99)
أنزل و استمداد القُوّة و النُصرَة منه. والعبارة :" أجلستُ فلاناً عن يميني" في لغة إسرائيل هي أعْطَيتُه مِن سُلطَاني و وَلّيتُه بإسمي على مُلكي.قال يشوع بن شيراخ الحكيم :" لا تَجْعَلْه (عدوّك) قَريباً مِنك لِئَلاَ يَقلَبَكَ و يُقيمُ في مكانك، لا تُجلِسهُ عن يمينك فَيَطمَعَ في كُرسيّك"1. وينصح يشوع بن شيراخ أن لا تُقرِّبْ عَدُوّكَ مِنْكَ، وينصح الملوك ألاّ يُوَلّوا أعداءهم في ممالكهم لئلا يطمعوا في عروشهم. وعلى هذا الأساس يجب أن نفهم قول سيّدنا عيسى عليه السلام كما يلي:إنّكم يا معشْرَ الفرّيسيين و الكَتَبَة تَقُولُون أنّ المسيحَ من نسْلِ داوود وهذا غير صحيح، لأنّه لا إبن داوود إلاّ أنا. وكما تَرَوْنَ أنتم فإنّي لستُ ملكاً. لَمْ أرُدّ لكم سُلطانَكم المغتصَب، ولم أحكم من النهر إلى أقاصي الأرض، ولم يجعل الله أعدائي موطىء قدميّ بل ها هي السلطة الرومانية الوثنية لا زالت هنا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1-يسوع بن شيراخ 12/12
94
و لم يعطني أحد الجزية، ولم آمركم بحمل السيف للإنتقام من الظالمين. إذن فالملك الموعود رحمة للعالمين لستُ أنا، و سيأتي بعدي. وقد عبّر عن نفس المضمون بشكل آخر، لأنّه كان يتعمّد التكلّم بالأمثال حتى يفهم من لديه مفاتيح ملكوت الله، ولا يفهم من أعمى الله بصره و أصمّ سمعه، قال هو و حواريوه وسيّدنا يحيى عليهم السلام:"توبوا إلى الله فإنّ ملكوت الله قد إقترب1. و ما انفكّ يبشّر بملكوت الله حتى في أيّامه الأخيرة.و لأجل هذا النبأ السّار تجشّم المشاق مع يحيى بن زكرياء عليهما السلام. و سُمّي الكتاب الذي أنزل عليه ب" الإنجيل" لأنّه يحمل البشارة بقرب ملكوت الله.
ما هو ملكوت الله إذن ؟(1/100)
ورد المفهوم ملكوت الله أو ملكوت السموات في الإنجيل بمعنيين رئيسين. الأوّل يعني الجنّة، دار المتّقين، و الثاني مملكة أرضية في هذه الدنيا يحكمها المسيح بتفويض من الله عز ّو جلّ.و إحتمال المعنيين لنفس العبارة يدلّل على أنّ المُلكَ لله وحد في الآخرة أمّا في الدنيا،بإستثناء مملكة المسيح، فيجوز أن تقوم ممالكٌ على غير هدى منه، للشيطان فيها حظٌّ كبيرٌ. و المعنى الذي يعنينا في هذا البحث هي المملكة التي يبنيهاالنبيُّ العظيم الذي تنبّأ به موسى و الأنبياء.
و لم يوجد و لن يوجد ملكٌ في الدنيا مثل هذا النبي الأميّ الأمين. ما حدّثنا التاريخ قط عن مَلِكٍ حاز ما حازَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ و لا أحبّ شعبٌ ملِكَه مثلما أحبّ هذا الشعبُ نَبيّه ... . ملكٌ جمَعَ بين يديه السلطات الثلاث: كان مشرّعاً ومنفّذاً و قاضياً ... ملكٌ جمع في مُلكه أعراقاً و شعوباً و لغات و عادات و تقاليد لا
ــــــــــــــــــــــ
1- متى3/2؛ 4/17؛ مر1/15؛ لو4/43؛ 9/6
95
تتّفق أبداً توحّدت تحت راية التوحيد.. ملكٌ إفتداه شعبُه بماله وولده و مهجه.
كم من صحابي، تخبرنا سيرته المعجزةُ، إعترض الرِّماح و النِّبَال و السِّهامَ لِيموتَ و يحيا وراءه مَن هَانت في سبيل نُصرته المساكن و التجارة و العشيرة و الأموال و البنين. قال تعالى :" قل إن كان ءاباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال إقترفتموها و تجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكُم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربّصوا حتى ياتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين"( التوبة24).
5 ــ النبي يحيى بن زكريا يبشّر بالمسيح(1/101)
كان علماء بني إسرائيل ينتظرون ثلاثة أنبياء زمن عيسى بن مريم عليه السلام : النّبِي المُهَيء للطريق وإيليا يتقدمان أمام المسيح ويبشّران به. وكان العلماء يرتكزون في هذا كلّه على بشارة النبي ملاخي عليه السلام الذي عاش في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد.إذ قال في نبوّته : " هآ أنذا مُرسِلٌ مَلاكي فَيُهَيء الطريق أمامي ولِلوَقت يأتي إلى هيكلِه السَيّدُ الذي تلتمِسُونه وملاكُ العهدِ الذي تَرتَضونَ به .هآ إنّه آتٍ قال رَبّ الجُنود . فَمَن يَحتَمل يوم مَجِيئه وَمَن يَقُوم عند ظُهُورِه فإنّه مِثلَ نَارِالمُمَحِّص وكَأُشنَان القَصّارين "( ملا3/1-4).وفي الترجمة المسكونية :" هآ أنذا مُرسِلٌ رَسُولي " .وقد وصفَ عيسى النّبيَ يحيى بأنّه المهيئ للطريق. سأل سيدُنا عيسى عليه السلام الجموعَ التي ذهبت لتَعتَمِد من يوحنا عليه السلام قائلاً : " مَاذَا خَرَجْتُم إلى البَرّيَة تَنظُرُون أَ قَصَبَةً تُحرّكُها الرّيحُ ؟ أم ماذا خَرَجْتُم تنظرونَ أإنسانًا لابسًا لباسًا ناعمًا .هُو ذَا الذين عليهم اللّبَاسُ النّاعِمُ في بُيوتِ المُلوك .أم مَاذَا خَرَجتُم تَنظُرون أنبيًا ؟ نعم أقولُ لكُم وأفضَلُ مِن
.96
نَبِيّ .لأنّ هذا الذي كُتِبَ عنه هآ أنذا مُرسِلٌ ملاكي أمام وجهِكَ يُهيئ طريقَك قُدّامك . الحقّ أقول لكم إنّه لم يَقُم في مواليد النساء أعظمَ من يوحنا المعمدان ولكنّ الأصغَرَ في ملكوت السماوات أعظمُ منه"1. ويعترف يوحنا عليه السلام ضمناً وصراحة بأنّه المُعِدّ للطريق بقوله : " أنا أعمّدُكم بماء للتوبة ولكنّ الذي يأتي من بعدي هو أقوى مِنيّ الذي لسْتُ أهلاً أن أحْمِلَ حِذَاءَه .هو سيعمّدُكم بالرُّوح القُدس والنّار. الذي رَفشُه في يده وسَيُنَقّي بَيدَرَه ،ويجمع قمحَه إلى المخزِنِ ،وأمّا التِّبن فيُحرِقُه بنارٍ لا تطفأ "2.وفي رواية مرقس:" لست أهلاً لأحلّ سيور نعليه" .(1/102)
وقول النبيّ يحيى عليه الصلاة والسلام إشارة إلى نبوة ملاخي ،لأنّه هو من يُهيئ الطريق أمام من هو مِثلَ نَار المُمَحّصِ وكأُشنَانِ القصّارين . وقول سيدنا عيسى عليه السلام :" الأصغرُ في ملكوت السماوات أعظم من يوحنا المعمدان يشير إلى نفسه هو. و إنّي لا أتّفق بهذا الخصوص مع ما ذهب إليه بعض الباحثين المسلمين الذين يرون أنّ الأصغر في ملكوت الله هو النبيّ محمد - صلى الله عليه وسلم - و ذلك لسبب يسهلُ إدراكه هو أنّ لا عيسى عليه السّلام و لا النبيّ يحيى إعتبر نفسه مؤسّسا لمملكة الله بل بشّر بها فقط. و مملكةُ الله مفهومٌ أرّق لوقا كثيرا و تردّد فيه و آخر ما إستقرّ عليه رأيُه هو أنّ مملكة الله لم تأت زمن عيسى عليه السلام. لذلك نرى أنّ مملكة الله هي الإسلام و أنّ مؤسّسها هو سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - و مُجدّدها في آخر الأيّام هو المسيح عيسى عليه السلام. وكأنّ عيسى يقولُ إن كان
يوحنا في شريعة العهد القديم أعظم منّي ففي شريعة رسول العهد الجديد،و أنا
ـــــــــــــــــ
1-متى11/7-11؛ لو7/24-28
2-متى 3/7-12 ؛ مر 1/1-8 ؛ لو 3/ 4 –17
97
الأصغرُ ،سأكونُ أعظمُ من يوحنا المعمدان ! وفي الشطر الثاني من نبوة ملاخي
مكتوب : " هآ أنذا أُرْسِل إليكم إيليا النبي قبل أن يَجِيء يومُ الرّب العَظيم الرّهيب ،فيَرُدّ قلوبَ الأباء إلى البَنين و قلوبَ البنينَ إلى الأبَاء لِئلا أتي وأضربُ(1/103)
الأرضَ بالابسال"1.ومن مقارنة الشطر الأول والثاني من نبوة ملاخي نستنتج أنّ النبي المهيئ للطريق وإيليا يجب أن يتقدّما أمام المسيح ــ و هذه المسألة مُسلّمٌ بها بإجماع أهل الكتاب يهودا و نصارى و هو ما فَصّلَتْه بشكل متواتر و مستفيض أدبيات إسرائيل. و قد تردّد كثيرا في أسئلة الحواريين لعيسى قولهم لماذا يقول الفرّيسيون أنّ إيليا يجب أن يسبق المسيح؟2 . ذلك لأنّ الأول يتقدم أمام من يُعمّد بالنار، والثاني يتقدّم أمام يوم الربّ العظيم و الرّهيب.و في كلتا الحالتين كناية عن الإنتقام الذي سيجريه الرّب عزّ و جلّ على يد مسيحه من الظالمين.
إذن فمن هو هذا النبي العظيم الذي سُمّي يومُه يوم الربّ ،وشُبّه مَجيئُه بنَار الفِتنة التي تُخلّصُ الذّهبَ من خَبَثِه؟الأناجيل المتشابهة لم تفصل مَن هو .والتردّد والحيرُة واضحين فيها .ولا توجد حجّةٌ واحدةٌ على أنّه يسوع .لكنّها تحاول إيهامنا أنّه يسوع،بسرد قصّة إعتماده من يوحنا بعد البشارة المذكورة أعلاه .ولم ينسب هذه البشارة ليسوع بشكل صريح إلا السفر الرابع وسنناقشه على حدى. ولدي خمسة اعتراضات على نسبة هذه النُبُوّة ليسوع .إنّ استطعت ،أخي الكتابي، أن تنقُضَ واحدةً منها فسَأكفّ حالا عن نسبتها لسيدّ الخلق - صلى الله عليه وسلم - .
ـــــــــــــــــــــ
1-ملا 3/ 23-24 ؛ وفي الترجمات العربية 4 /5
2-أنظر الصفحات 50-51 و بالخصوص النصوص الإنجيلية: لو 1 / 15 – 17 ؛ متى
17/10-13 ؛ مر 9/11-13 .
.98
ا – الاعتراض الأول : لا أفهم أبداً قولُه عليه السلام :" الذي " إن كان يقصد يسوع .فلماذا الإسم الموصول بدلاً من الإفصاح عن اسم " يسوع " ؟ فقد(1/104)
كان من أبناء عمومته وكانا لهما نفس السنّ ،ولم يكن يحيى يكبر عيسى عليه السلام إلاّ بستة أشهر . وكان قطعا يعلم عنه من أبيه زكرياء وأمه أليصابات ميلاده المعجز،و بشارة الملائكة به للسيدة مريم .وكانت السيدة العذراء حاضرةً في ميلاد يحيى عليه السلام ،إذ لمّا إحتارت كيف تلِدُ ولم تَكُن تعرِفُ رَجُلا من قبل .قال لها الملاك لاشيء مستحيل على الله فها هي نَسيبَتُك أليصابات في شهرها السادس .وبقيت ثلاثة أشهر عندها وهو تمام التسعة وتمّ ميقات ميلاد الولد السّعيد .ولاشكّ أنّ الولدين الزكيين أكلا وشرِبا معا ،ولعِبَا معا إن جاز اللّعِبُ عليهما في الصبى1 .فإذا قال النبي يحيى" الذي " فإنّه يقصد آخر غير يسوع عليه السلام !
ب ) الإعتراض الثاني :" الذي يأتي بعدي " ولم يكن يسوع بعد يوحنا بل كانا معا في الزمان والمكان ،و كان يكرزان بنفس البشارة لنفس الشعب قالا :" توبوا إلى الله فإن ملكوت الله قد إقترب "2 . ويوحنا كان يهيء الطريق ويعُدُّ الشعب للمسيح بمعموديته ،لكن ما ثبت أنّه توقّف عنها بل إستمرّ فيها ويسوع حاضرٌ بين يديه. وهذا يدلّ على أنّ المسيح لم يأت بعد . و لتوضيح المسألة يحسن بنا أن نعرض موقف عيسى عليه السلام من معمودية يحيى عليه السلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لو 1/ 36 - 56
2- متى 3 / 2 ؛ 4 / 17 ؛ 9 / 35 ؛ 10 / 7 ؛ مر1 / 4 ؛ 1/ 14 ؛6 / 12 ؛ لو 3 / 3 ؛4 /43 ؛ 8 /1 ؛9 /2 ؛9/6 ؛ 9 / 60.
99(1/105)
قال يسوع للجموع التي أتت من عند يوحنا بعد إعتمادها منه : " أخرجتم تنظرون نبيا نعم ! أقول لكم وأفضل من نبي ! إنّ هذا هو المكتوب عنه هآ أنذا مرسل ملاكي أمام وجهك يهىء الطريق قدامك . فإنّي أقول لكم إنّه ليس في مواليد النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان . لكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه ! فلما سمعوا ،جميع الشعب والعشّارون برّروا الله وإعتمدوا بمعمودية يوحنا المعمدان ،أمّا الفريسيون ومعلمو النّاموس فرفضوا مشيئة الله فيهم إذ لم يعتمدوا منه" (لوقا7/24-30 ).
فهذا النص صريح في أنّ يوحنا عليه السلام لم يكُفّ عن التعميد ،والأكثر من هذا
أنّ النبي عيسى عليه السلام كان يدعو النّاس للاعتماد منه !
جـ – الاعتراض الثالث : كيف يكونُ المسيحُ تلميذا للذي ليس أهلا لأن يَحُلّ سيورَ نَعْلَيْه،ويَعتَمِدُ منه. والمُعَمدُّ مِنه أعظمُ من المُعتِمِدِ1.
د- الاعتراض الرابع : لقد ضيّع يوحنا المعمدان فرصة عظيمة لتعريف شعب إسرائيل بالمسيح لمّا أتى يسوع لِيَعْتَمِدَ مِن يوحنا .فلم يَقُل هذا هو الذي قُلتُ عنه :" الذي يأتي من بعدي يعمدكم بالنار وبالروح القدس " . وإن لمْ يَقُلْهَا فهذا دليلٌ آخرٌ على أنّ صاحِبَ البشارةِ هذه لَمْ يَأتِ بعدُ .
هـ – الاعتراض الخامس:وجود تلاميذ يوحنا في استقلال كامل عن يسوع
عليه السلام،ولم ينكر عليهم،ولم يُلزِمُهم بإتّباعه دليلٌ آخر على أنّه ليس المسيح.
هب أخي الكتابي، أنّك تلميذ من تلاميذ يوحنا، مع أنّه أعظم نبي في إسرائيل،
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1-متى3/13-16؛ مر1/9؛ لو3/21.
100
كما أقرّ بذلك يسوع عليه السلام، وسمعتَه يقول :" يسوع هو المسيح ولست أهلا(1/106)
لأن أحلّ سيور نعليك " فماذا تعمل ؟ أعتقد، أخي،أنّني أستطيع أن أجيب مكانك .ستترك يوحنا وتتّبع يسوع المسيح . لكن لم يحصل هذا أبدا !. فقد ثبت في الإنجيل أنّ الحواريين طلبوا من يسوع أن يعلمَّهم الصلاة كما علّم يوحنا تلاميذه الصلاة(لو11/1). ومرّة أخرى جاء إلى يسوع قومٌ وقالوا له :" لماذا تلاميذُ الفرّيسيين يصومون وتلاميذ يوحنا يصومون وتلاميذك لا يصومون"1.و في نص متّى تلاميذ يوحنا هم أنفسُهم من طرحوا هذا السؤال على يسوع. فنفهم أنّه كانت جماعة تتّبع يوحنا ولم تترك تعاليمه لتنضّم إلى يسوع . ولما أستشهد نبي الله يوحنا أتى تلاميذُه لِيُعلِمُوا يسوع 2.
فنستخلص ممّا سبق أنّ تلاميذ يوحنا كانوا في استقلال تام عن يسوع وفي كلّ هذا لم يُنكِر عليهم ولم يُجْبِرْهُم على التخلّي عن يوحنا المعمدان لِيَتّبِعُوه .و لو كان عيسى هو المسيح المنتظر لنسخ كلّ شيء قبله و لرفض الإستنان بغيره. و ذلك لأنّ نهاية كلّ شيء في المسيح كما يقول إخواننا أهل الكتاب. لكنّ هذا النبي الأميّ لما وجد صحيفة توراة في يد عمر بن الخطاب غضب وقال :"والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم "3 . وفي حديث آخر عن جابر قال :" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان موسى حيا بين أظهركم ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-متى 9/14 ؛ مر 2/18 ؛ لو 5/33
2- متى 14/ 12 ؛ مر 6/29
3- رواه الإمام أحمد . تفسير إبن كثير المجلد 1 ص 296
.
.101
حلّ له إلاّ أن يتّبعني "1 .و في بعض الأحاديث :" لو كان موسى وعيسى حَيَّين لما وسِعَهُما إلاّ إتّباعي. "2(1/107)
و إستكمالا لمناقشة نصّ بشارة يحيى عليه السلام ،فقد ورد فيها ذكر نعل هذا النبيّ العظيم . و ها هو،أخي الكتابي، أمامك الإنجيل فأرِنَا فيه مرّة واحدة ذكرَ نَعْلِ يسوع عليه السلام! لا تشغل نفسك، لن تجده أبدا ! هل من العبث أن تصلنا الأوصاف الدقيقة لنعل سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ، نعرفُ شكلَها وصانعَها وحاملَها وقد وردت أخبارها بشكل مستفيض في كتب الشمائل .وقد اختصرت لك ما جاء في وصف نعله - صلى الله عليه وسلم - .ولمزيد من التفصيل نحيلك إلى كتب الشمائل وهي كثيرة . كان لنعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَالان ، مُثني شِراكهما ،أيّ لكلّ منهما قبالان .و القبال : هو زِمَامٌ يوضَعُ بين الأصبع الوسطى والتي تليها،ويسمى شِسعًا .وكان - صلى الله عليه وسلم - يضع أحد القبالين بين الإبهام والتي تليها،والآخر بين الوسطى والتي تليها ،والشِراك هو السَيرُ . وعن ابن عمر رضى الله عنه أنّه كان يلبس النعال السَبتِية ،وهي التي لا شعر عليها .وقال : إنيّ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال التي ليس فيها شعر ، ويتوضأ فيها ،فأنا أحبّ أن ألبسها .وعن عمرو بن حريث رضى الله عنه أنّه قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي في نعلين مخصوفتين ،أي مغروزتين ، ضُمّ فيها طاق إلى طاقٍ . قال الباجوري : كانت نعله - صلى الله عليه وسلم - مخصّرة ،معقّبة ،ملسّنة كما رواه ابن سعد في الطبقات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رواه الحافظ أبو يعلى . نفس المصدر السابق ص 296
2- نفس المصدر السابق ص 296
102
وثبت أنّ حاملها كان ابن مسعود وأنس بن مالك رضى الله عنهما1 .
6- ارتباك الأناجيل(1/108)
و هذه حجّة أخرى.في كثير من حالات الإجرام ،كما نسمع ونقرأ، يحاولُ المجرم طمسَ أثار جريمتِه فيفشل .وتكون محاولتُه الفاشلةُ حُجّة حاسِمة ضدّه في إثبات الجريمة.و تطبيقا لهذا المبدأ على نصوص الإنجيل فإنّنا سنلحظ فشلها و تناقضها في اثبات أنّ عيسى هو المسيح. و قبل أن نستعرض الإضطرابات في الأناجيل يجدرُ بنا أن نعرف تسلسلها الزمني.إذ بمعرفته نستطيع تحسّس المشاكل العقدية التي اعترضت كتبتُها. فمن مقارنة سرد الأحداث التي عاشها نبيّ النّاصرة عليه السّلام في الأناجيل المتتالية، و من تحوير الأقوال و تعديل الإطار التاريخي أو الجغرافي و إدخال عناصر غريبة عن الواقعة بين روايات السابقين و اللاحقين نستطيع تحسّس المشاكل العقدية و إبرازها بشكل جلّيٍ.
إبتداءً من القرن التاسع عشر ميلادي إستقطب إنجيل مرقس إهتمام النُقّاد و الدّارسين. و لأسلوبه الواقعي البعيد عن الإثارة و إعتداله و روايته المباشرة التي تفرضُ نفسها على أنّها من شاهد عيان يعتبرُه جمهورُ النُقّاد مصدر إنجيلَي متّى و لوقا، بل الوثيقة المتينة لإعادة كتابة حياة يسوع بشكل علمي2. لذا أعتُبرَ أوّل الأناجيل كتابةً. و الرأي السائد بشأن تدوينه و الأكثر قبولا بين علماء المسيحية أنّه دُوّن ما بين 65م-70م، و عند آخرين و بخاصّة الكاثوليك منهم قبل السنة63م3. كما يتّفقون على أنّ إنجيلي متّى و لوقا كُتبا بعد خمس عشرة سنة أو
ــــــــــــــــــــــــــ
1-شمائل الرسول ص 76
2-Introduction à la Bible p 197.
3-Introduction à la Bible p227.
103
عشرين من كتابة الإنجيل الأوّل1. أمّا الإنجيل الرّابع فلم تظهر تأثيراته في كتابات المسيحيين ـ مثل الشهيد يوستين (150م) و راعي هرماس (140-145م)2 و ترانيم سليمان3 ـ إلا في منتصف القرن الثاني .و بناءً على جميع هذه الحقائق(1/109)
التاريخية و من عزوف المسيحيين عنه أو عدم معرفتهم له في القرنين الأوّلين للميلاد4 فإنّ الكنيسة تعتبرُه آخر الأناجيل تدوينا. و أقدم شهادة حول تاريخ كتابته وصلتنا من طرف كليمنص الإسكندراني(211-216م)5.لذا أقتُرحِت كتابته حوالي سنة 100م6. لكنّ الإشكالية، التي يُبرزها إتّفاق متّى مع لوقا ضدّ مرقس، لا زالت قائمة: هل تأثرا متّى و لوقا ببعضهما أو أحدهما بالآخر أم تأثّرا معا بوثيقة مشتركة سابقة لهما؟ و رأيُنا أنّ لوقا متأثّرٌ بمتّى لأسباب كثيرةٍ لسنا بصدد عرضها في كتابنا هذا ، تتلخّص في أنّ لوقا يتخذّ دوما موقفا وسطا من نصّي مرقس و متّى. و خروجه من المآزق التي وقع فيها متّى تجعلنا نطمئن بدون تردّد أنّ لوقا كتب بعد متّى7. و على هذا فسيكون ترتيب الأناجيل كما يلي: مرقس كتب ما بين 65م-70 م و في عقد الثمانينات للميلاد كتب متّى و تبعه لوقا و آخر الأناجيل كتابة هو يوحنا اللاهوتي حوالي السنة 100م.و هآ إنّي أعطيك ثلاثة اضطرابات خطيرة في الإنجيل تثبت أنّ يسوع لم يأت إلاّ لِيُبشّرَ بالمسيح .
_____
1- voir La TOB p 2294.
2-Introduction à la Bible p645
3- كاتب مسيحي من منتصف القرن الثاني ميلاد
4-Introduction p615.
5-Introduction p648.
6-Introduction à la Bible p662. voir TOB p 2544.
7- لنقارن كمثال هذه النصوص و نحكم: مر8/29: بطرس قال"و قال أنت المسيح " ، متى16/ 16 :" و قال أنت المسيح إبن الله" ؛ لو9/20: " و أنت مسيح الله". فتلاحظ أن نصّ لوقا نصّ توفيقي
104
أ ) الاضطراب الأول :(1/110)
كيف نقلت الأناجيل بشارة يوحنا ؟ ينقل إنجيل مرقس خبر البشارة بشكل بسيط ساذج لا تُشتمّ منه رائحة أيّ خلفية غير كتابة التاريخ . يقول نص مرقس وهو أوّل إنجيل في الترتيب الزمني،أنّ يسوع أتى كسائر شعب إسرائيل ليعتمد من يوحنا(مر 1/9 ). نص مترجم متى وهو ثاني إنجيل من حيث الترتيب الزمني ، يبدو أنّه احتار من اعتماد يسوع ممن ليس أهلاً لاّن يحلّ سيور نعليه فجعل في فم يوحنا قوله : " ولكن يوحنا منعه قائلاً أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي .فأجاب يسوع : وقال له إسمح الآن .لأنّه هكذا يليق بنا أن نكمّل كلّ برّ .حينئذ سمح له"1 .وهذا أوّل اضطراب .نص لوقا يذهب أبعد من هذا، يذكر أنّ يوحنا دخل السجن وأنّ يسوع اعتمد بعد،ولم يذكر أنّ يوحنا عمّده 2. نص يوحنا اللاهوتي صاحب السفر الرابع يتجاهل تماما خبر اعتماد يسوع من يوحنا رغم أنّه كان يعرف القصّة .ولم يذكر إلاّ نزول روح القدس على يسوع ( أنظر يو 1/ 32 – 33).
ـــــــــــــــــــــــ
بين مرقس و متى. بكاء يسوع على أورشليم كان حسب متّى في أورشليم نفسها. لكن هذا هو الدخول الأخير و ثبت أن يسوع قال: لن ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك القادم بإسم الربّ"( أنظر متى23/37-39).أمّا لوقا يخرج من هذا المأزق بجعل بكاء يسوع على أورشليم في الجليل( لو 13/34-35) و يكلّمها: لن ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك القادم بإسم الربّ" ثم بعد ذلك يدخل
يسوع إلى أورشليم و يبكي من أجلها( لو19/38) و تستقبله الجموع: مبارك القادم بإسم الرب".
1- متى 3/ 14 – 15
2- أنظر لو 3 / 20 – 21 و لمزيد من الإيضاح إرجع إلى الهامش 1 في الصفحة 116.
105
فارتباك الأناجيل في هذه الحادثة يدلّ على أنّ المؤمنين في الرعيل الأول كانوا ينكرون مطلقاً أن يكون يسوع هو المسيح إذ كيف يكون المسيح تلميذاً ليوحنا الذي هو ليس أهلاً لحمل حذائه .(1/111)
والاعتراضات الخمسة التي ذكرتُها في الباب السابق، على نسبة بشارة يوحنا إلى يسوع كانت تدور في خلد كلّ مؤمن في الكنيسة الأولى وهي من بين الأسباب الحاسمة التي دعت يوحنا اللاهوتي لتأليف سفره في نهاية القرن الأول للميلاد.
و لحلّ الإشكاليات يتجاهل يوحنا اللاهوتي بالمرّة أنّ يسوع اعتمد من يوحنا، وهذا التجاهل يوفرّ عليه الحرج من الإجابة كيف يكون المسيح تلميذا لمن هو أدنى منه .و لمعالجة الإعتراض الثاني يُقوّل يحيى بن زكريا، لمّا جاءه يهود أورشليم، ليسألوه من هو : " أنا عمّدتكم بالماء لكن يوجد بينكم من لا تعرفوه ،يأتي من بعدي و لست أهلاً أن أحلّ سيور نعليه"(يو1/26-27). ولم يُثبِت صاحب السفر الرابع أنّ يسوع أتى بعد يوحنا ،ففي اليوم الموالي أتى يسوع ،ويعترف أنّ النبيين كانا معاً في الزمان والمكان؛ إذ كتب ناسيا :"و في الغد نظر يوحنّا يسوع مُقبلا إليه فقال هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم"( يو1/29). و هذا التناقض1 الذي وقع فيه و في نفس السطر ثمنٌ لمعالجة الإعتراض الرّابع2. و هذا النّص قاطعٌ في أنّ يسوع عاصر يوحنا و لم
ـــــــــــــــــــــــ
1- الإنجيل الرّابع مبعثر،مفكّك و أكثر رواياته هشّة. هذا ما يتفق عليه علماء المسيحية.
2-الإعتراض الرابع هو أنّ النبيّ يحيى، في الأناجيل المتشابهة التي سبقت يوحنا اللاهوتي، ضيّع فرصة تقديم يسوع للشعب على أنّه المسيح المنتظر. أنظر الصفحة 99 لمزيد من الإيضاح.
106
يكن بعده.والخطأ الأكثر فحشاً،و لن يرتكبه أصغر مسيحي، هو أنّ يسوع حسب صاحب السفر الرابع من اورشليم لمّا قال ليهود أورشليم : "يوجد فيما بينكم من لا تعرفوه" . وقد أجمعت كلّ أسفار الإنجيل على أنّه جليلي من النّاصرة،(1/112)
حتّى هذا السفر يناقضُ نفسَه ويعترف بهذا1. أمّا الإعتراض الأوّل فيجيب عنه بنسبة هذا القول ليوحنا : "إنّي قد رأيت الرّوح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقّر عليه .وأنا لم أكن أعرفه،لكن الذي أرسلني لأعمّد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمّد بالروح القدس2 .والفرية من فحشها لا تحتاج إلى مزيد توضيح.! و يعني بكلامه أنّ يوحنا ،رأى الروح القدس نازلاً على يسوع وإستقر عليه بالأمس،يوم التعميد، لكنّه لم يقل للناس أنّه هو الذي يعمّد بالنار والروح القدس لأنّه لم يكن يعرفه ،أمّا اليوم فعرف! فكيف لا يعرفه و هو من أبناء عمومته ؟ولا شبهة في أنّه كان يعرف عنه من أبيه وأمه الكثير .وقد فصلنا هذا في الباب السابق . وما أثبت السفر الرابع أنّ يسوع كان يعمّد بالروح القدس .بل قال كان يعمّد بالماء3 ، ثم يتراجع عمّا قاله وقرّره من قبل ليقول أنّ يسوع ،في الحقيقة،لم يعمّد أحداً(يو 4/2 ). و يجيب عن الإعتراض الخامس بفرية تطنّ لها الأذان .يقول إنّ
ــــــــــــــــــــ
1-يو 7 / 41 :" و قالوا ألعلّ المسيح من الجليل يأتي "؛ يو 1 /45:" وجدنا الذي كتب عنه موسى في النّاموس و الأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من النّاصرة".
2 - يو 1 /33
3-يو 3 /22 ؛ 3 / 26 ؛ 4 /1
107.
بطرس وأخاه كانا من تلاميذ يوحنا المعمدان ثم تركاه ليلتحقا بيسوع (أنظر يو 1/40-41). وتجمع الأناجيل المتشابهة وسفر الأعمال وحتى بولس على أنّ سمعان بطرس وأخاه إندراوس إبنا يونا عليهما السلام كانا جليليين،صيّادي أسماك في بحيرة طبرية .وكانا أوّل من تتلمذ على يد سيدنا عيسى عليه السلام1 . قال بولس :"ولأيام عديدة ترآءى يسوع للذين تبعوه من الجليل إلى اورشليم وهم الآن شهودُه أمام الشعب "2. فنسبة بشارة يوحنا بن زكرياء ليسوع لم يبتدعها إلاّ يوحنا اللاهوتي متأثراً ببولس3 . وهذا النصّ هو محور البشارة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/113)
1-مر 1 /16 ؛ متى 4 / 18 ؛ لو 5 / 1 –5 ؛ أع 1 / 11 ؛ 2 / 7
2-( أع13 / 31 )
3- بولس هو شاؤول من سبط بنيامين . ولد في طرسوس في مقاطعة كليكية ( في تركيا حاليا).وقد يكون ميلاده متزامنا مع ميلاد عيسى عليه السلام أو قريبا منه. لكنّه لم يلتقي به، بل عاصر تلاميذه عليهم السلام و إلتقى بهم مثل الحواريين بطرس و يعقوب إلخ. درس علم الشريعة في أورشليم على يد أحد مشاهير علماء الشريعة هو غمالائيل . أمّا من حيث مذهبه الدّيني فكان فرّيسيا إبن فريسى كما قال عن نفسه . وهذا مذهب غالب بني إسرائيل زمان عيسى عليه السلام.تميّز عن المذهب الصدوقي المنافس له بالتمسّك حرفيا بتقاليد الأباء ، وتضيّيق سبل الاجتهاد ورفض الاندماج والذوبان في الثقافة الهلنستية.
بالإضافة إلى موروثه الدّيني ، كان شاؤول هلينستي الثقافة . وكان عالما متشبّعا بالفكر والثقافة اليونانيين ، عارفا بأشعار العالم الإغريقي الروماني وبمعتقداتهم الوثنية التي سيكون لها الأثر البالغ في إعادة صياغة دين المسيح ليكيّفه حسب مزاج الوثنيين .
وحتى أسلوبه الخطابي كان قريبا من اليوناني أكثر منه إلى أدبيات الكتاب المقدس وهو ما عرف باسم " الدياتريبا " . وقد أجاد رسول الأمم التكلّم باليونانية والعبرانية و الآرامية . وتشرّف بحمل المواطنة الرومانية -وهي مزية ولم تكن حقّا لكافّة رعايا الإمبراطورية الرومانية – مما سهّل مهمته الدعوية.
.108
ومركزها ،وهو أول نص حُرّف .فلمّا حُرّف معناه بتأويله على يسوع حُرّف كلّ الإنجيل تبعاً له.
أوّل نصّ حرّف في الإنجيل و مصلحة المحرّف.(1/114)
وظروف وملابسات القضية تعود إلى قدوم رجل يهودي إسكندراني في السنة 54 م أو 55 م إلى مدينتي أفسس وكورينتس ،إسمه أبلّس ، وكان رجلاً تقياً ،عالماً بالكتب ،فصيح اللسان .وقد تصادف وجوده في المدينتين المذكورتين بغياب بولس الطرسوسي منهما ،لأنّه كان في هذه الأيام في اورشليم .وإستطاع هذا الرجل الصالح،في زمن قياسي أن يصنع لنفسه أتباعاً .فلمّا عاد بولس إلى أفسس في بداية سفريته الدعوية الثالثة وجد البساط قد سُحِب من تحت رجليه .وكان قد خاف على مركزه الريادي في الكنيسة .فتوجّه إلى تلاميذ أبلّس وكان قد غادر المدينة وقال لهم :" هل قبلتم الروح القدس لمّا آمنتم .قالوا له ولا سمعنا أنّه يوجد الروح القدس .فقال لهم و بماذا إعتمدتم ؟ فقالوا بمعمودية يوحنا .فقال بولس إنّ يوحنا عمّد بمعموديةالتوبة قائلاً للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي من بعده أي المسيح يسوع1. فواضحٌ جدّا من هذا النصّ أنّ بولس هو أوّلُ من تأوّل نصّ البشارة على يسوع و لم يكن هذا معروفا من قبل لأتباع يسوع عليه السلام، كما شهد تلاميذ أبلّس الإسكندراني. ويقول سفر الأعمال أنّ أبلّس لم يكن يعرف إلاّ معمودية يوحنا2 . وتعلق الترجمة المسكونية على هذا النص بقولها ـــــــــــــــ
1- أع 18 / 24 – 19 / 1 - 4
2- أع 18 / 25
109
:" نفهم من هذا أنّ العقيدة المسيحية وصلت إلى مصر في زمن متقدم .لكن عقيدة(1/115)
أبلّس عقيدة عتيدة التي نستطيع أن نصفها بأنّها ما قبل عيد الحصاد ،لأنّه لا يعرف التعميد المسيحي"1.وتعال أخي! لنعرف متى جاء أبلّس ومتى قال بولس قوله هذا .ثم نستطيع أن نحكم بعد .كانت هذه الواقعة التاريخية في سنة 54 م على أدنى تقدير لأنّها تصادفت مع السفر الدعوي الثالث لبولس .ورُفِعَ سيدنا عيسى عليه السلام إلى السماء سنة 33 م بعد حادثة الصلب .ونزل الرُّوح القُدس على شكل ألْسِنَة من نَارٍ على الحواريين كما يزعم لوقا – ناقلاً معلوماته من أستاذه بولس – بعد خمسين يوماً من الصعود إلى السماء ، في عيد العنصرة .فهل يصحّ أن يصل كلُّ الإنجيل إلى مصر ،لدرجة أنّه كان هنالك أتقياء مؤمنون بعمق مثل أبلّس ،ولم يصل خبرُ التعميد بالرُّوح القدس الذي تمّ بعد خمسين يوماً فقط من حادثة الصلب .وقد مرّ من زمن وقوع التعميد بالروح القدس المزعوم إثنتان وعشرون سنة على الأقل !؟
فنفهم ممّا سبق أنّ المؤمنين من أتباع سيدنا عيسى عليه السلام،في كل الأزمنة لم يعرفوا إلاّ تعميد يوحنا ،وحتى بولس لم يذكر هذا التعميد بالرّوح القدس من قبل في سفريتيه الدعويتين السابقتين مع الحواريين بارنابا وسيلا .وقد ثبت في رسائله أنّه هو أيضاً كان يعمّد بالماء فقط ، كما سنرى في الفصول اللاحقة .إنمّا إبتدع هذا التعميد حتى يمسك بزمام الأمور التي كادت أن تفلت من يديه بسبب أبلّس. ثمّ تصل الهيستيريا ببولس إلى درجة أنّه أنكر ما فعل وعلّم .فلمّا مرّ أَبُلّسُ بكورينتُس ، وخاف بولس أن يخسر أتباعه في هذه المدينة اليونانية،إضطرّ أن
ـــــــــــــــــــ
1-TOB P 2665
110(1/116)
يكتب لمريديه رسالة يبيّن لهم فيها عدم جدوى التعميد الذي يكونون قد تلقوه أو سمعوه من أبلّس. قال:" كلّ واحد منكم يقول أنا لبولس وأنا لأبلّس وأنا لصفا وأنا للمسيح .هل إنقسم المسيح ألعلّ بولس صُلب لأجلكم ،أم باسم بولس إعتمدتم . أشكُرُ الله أنّي لم أعمّد أحداً منكم إلاّ كريسبس وغايس حتى لا يقول أحدٌ إنّي
عمّدتُ بإسمي .وعمّدت أيضاً بيت إستفانس.عدا ذلك لست أعلم هل عمّدت آخر.لأنّ المسيح لم يرسلني لأعمّد بل لأبشّر"(1 كو1/14- 17).
لكنّ سفر الأعمال يذكر أنّه عمّد ليدية بفليبي وعائلتها وحارس سجن فيليبي وعائلته وكثيراً من الكورينثيين وحتى هو إعتمد بالماء على يد حنانيا في دمشق1 . أمّا هذه البدعة فقد إبتدعها هنا فقط للذي قد علمت . وسنكون ظالمين إن لم نُوَفّ الموضوع حقّه .ولهذا يتوجّب علينا أن نعود إلىخبر التعميد بالرّوح القدس كما نقله لوقا في سفر الأعمال .قال : " ولمّا حضر يوم الخمسين كان الجميع (الحواريون) معاً بنفس واحدة .وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كلّ البيت حيث كانوا جالسين .وظهرت
ألسنة منقسمة كأنّها من نار واستقرّت على كلّ واحد منهم وإمتلأ الجميع من الرّوح القدس وإبتدأوا يتكلّمون بألسنة آخرى "(أع2/1–4).وبهذه القصة يريد لوقا أن يوصل لنا أنّ الذي يعمّد بالروح القدس والنار هو يسوع ولدينا عدة إعتراضات وطعون في تاريخية الحادثة .
1 – يوحنا اللاهوتي الذي كتب إنجيله على أعتاب القرن الثاني،و هو الوحيد
ــــــــــــــــ
1-أع 16 / 15 ؛ 16 / 33 ؛ 18 / 8 ؛ 22 / 16 .
111
الذي نسب بشارة يوحنا ليسوع ، وكان شديد الحرص على أنّ يسوع هو المسيح
لم يرو هذه القصّة، و لو علم بها لرواها1 .لكن لم يروها وإكتفى بالقول أنّ يسوع لمّا ترآءى لتلاميذه بعد قيامته :" نفخ وقال لهم إقبلوا الروح القدس"(يو20/22).فلا وجود لنار نزلت ولا شيء من هذا كلّه .(1/117)
2- لو صحّ هذا الخبر الذي تمّ بعد خمسين يوماً فقط من الصلب لوصل إلى مصر وقد تبيّن يقيناً أنّ هذا الخبر لم يصل إلى مصر إلى غاية السنة 54 م أيّ بعد مرور إثنتين وعشرين سنة من الحادثة المزعومة .فكيف يصل الإنجيل كلّه ما عدا أجلّ بشارة فيه وهي التعميد بالروح القدس .ومن جهة أخرى أنّ يسوع عليه السلام لم يخطر بباله لحظة أنّه هو الذي يعمّد بالروح وبالنار .فلقد ثبت في الأناجيل أنّه كان تلميذاً من تلاميذ يوحنا وداعياً للإيمان به وبمعموديته(لو7/18–30).2
3-إنّ التعميد الذي ذكره لوقا وهو نزول النّار لم يستفد منه إلاّ أحد عشر مِمّن آمنوا به .لكنّ المبشّر به سيعمّد النّاس كلّهم إمّا بالنار وإمّا بالرّوح القدس .وهذا يتضح من سؤال علماء بني إسرائيل لمّا ذهبوا إلى يوحنا .ولم يقل لهم أحد عشر فقط سيعتمدون هذا التعميد .
4- يقول لوقا أنّ التلاميذ بدأوا يتكلّمون لغاتا أجنبية بعد الحادثة.ولم يثبت هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لا تظنّ أخي القارىء أنّ كتبة الإنجيل كان يعرف بعضهم البعض أو أنّهم كتبوا بعد التشاور. لم يكن إنجيلي يعرف الآخر. قد يتأثر المتأخر بكتاب سلفه ،لكن لا أحد يعرف الآخر. بل لكلّ واحد كان
له أسلوبه الخاص و إنشغالاته الخاصة و جمهوره الذي يكتب له. بإستثناء إنجيل مرقس لم يكن أحدا
يحترم الآخر أو يعتبره مقدّسا. و بمقارنة نص نزول الرّوح القدس بين لوقا في سفر الأعمال و نص يوحنا يتبيّن أنّ يوحنا اللاهوتي لا يعترف بلوقا الذي كتب قبله. إذ لو كان يحترمه ما أورد نصّا مغايرا تماما.
2-أنظر صفحة 99
112
في التاريخ .فلو تكلّم التلاميذ لغاتا أجنبية لما وُصِف إنجيل مرقس بأنّه غثّ ضعيف اللغة،والكلّ يعلم أنّه من إملاء الحواري بطرس؛ولمَا إعترض أجلّ علماء النصارى على نسبة رسائل بطرس لبطرس لسبب لُغَتها الإغريقية الراقية1.(1/118)
5- تَصُوّر النّار بشكلها المادّي تصوّرُ من ليس له علمٌ بالكتاب2 .فقد وردت النّارفي كلّ الكتاب المقدس بمعنى الِمحن والبلاء التي تُصفّي إيمان المؤمن كما تفتن النّار الذّهب والفضة وتُنقيهما من الخبث .قال أشعيا : " قد مَحّصتُكَ لا كالفِضّة المنصهِرة بل في كورِ الضِّعَة"3. وقال زكرياء :" فأدخِلُ الثلُثَ في النار وأحمِيَهُ إحمَاء الفِضَّة وأمتحِنُه إمتحان الذّهَب هو يَدعو باسمي وأنا أستجيبُ له أنا أقول هُو شعبي وهو يقول الربّ إلهي"( زكا13/9). وقال ملاخي:" فَمَن يحتَمِلُ مَجيئَه ومَن يَقومُ عندَ ظُهورِه فإنّه مِثلَ نارِ المُمَحِّص وكأُشنانَ القَصّارين"(ملا3 /1-3). وعلى أساس نبوة ملاخي عليه السلام قال النبي يوحنا بن زكرياء أنّ الذي يأتي بعده هوالذي يعمّد بالنار . وتقول الحكمة : " مَحَّصتُهم كالذَّهب في البَوتَقَة وقَبِلتُهم كذَبيحةِ مُحرَقَة "(حك3/6). ويقول يشوع:" فإنّ الذّهَب يُمَحّصُ في النّار ؛ المؤمنين من النّاس يُمحّصُون في أَتُونِ الإتِّضاع "4 . وبهذا المعنى أتت كلمة الفتنة في القرآن الكريم . ونقول في اللغة فَتَنتُ الذهب في النار يعنى أذهبتُ خَبَثَه
ــــــــــــــــــــــــــ
1- TOB P 2966
2- لاتنس أخي القارىء أنّ لوقا رجلٌ يوناني من أصول وثنية إغريقية. تتلمذ على يد أستاذه بولس الطرسوسي. لهذا نجد كتابه يتجنّب تمجيد اليهود و إحتقار الأمم. لهذا فلا غرو إذا قلنا أنّه كثيرا ما يترجم نصوص الكتاب المقدّس العبراني ترجمة مادّية لا تأخذ بعين إعتبار لغة إسرائيل أو ثقافتهم.
3- أش 48/10
4-يش بن شيراخ2 / 5
113.
وجعلتُه خالصا .ولهذا وردت كلمة الفتنة في القرآن الكريم بمعنى البلاء والإمتحان لتصفية إيمان المؤمن .
كيف عمّد سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - بالنار والرّوح القدس ؟(1/119)
فكما سبق وأن ذكرت في منهج البحث يجب أن نفهم الكلمات ومدلولاتها في إطارها الديني والتاريخي .ويجب أن نفهم أوّلا معاني التعميد،النّار، والرّوح القدس .فالتعميد الذي أعطاه سيدنا يحيى بن زكرياء في نهر الأردن لشعب إسرائيل يتلخّص في غطسهم في الماء ، معترفين بخطاياهم،عازمين على الإقلاع عنها حالاً،تهيئة لهم للدخول في مملكة الله التي بشّر بها وعيسى عليه السلام .فالتعميد شكلٌ ومضمونٌ .أمّا الشكل فهو الغطس في الماء وأمّا المضمون فهو التوبة والإقلاع عن الذنب والإنتقال من حياة الخطيئة إلى حياة البرّ .وهذا المعنى لا يختلف في شيء عن الغُسل والوضوء في رسالة سيّد الأنام - صلى الله عليه وسلم - .والأدلّة على ذلك هو ما ذكره الإنجيل : " وإعتَمَدُوا مِنه في الأردن "(متى3/6). ويقول عن الشعب لمّا أتى إلى يوحنا للمعودية:" إصنَعُوا أثمارا تَليقُ بالتوبة"( متى 3 / 8 ). وقال يوحنا عليه السلام:" أنا أعمّدكم بماء للتوبة "1. أمّا النّار فكما علمتَ أعلاه أنّها الفتنة والبلاء والصبر على المكاره .وأمّا الرُّوح القدس فهو مَلَكُ الوحي لتثبيت القلوب .وهكذا ورد معناه في الإنجيل والقرآن . قال تعالى : " وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيّدناه بروح القدس "( البقرة 253 ). وقال تعالى أيضا :" يُنزّلُ الرّوح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق " . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نفث
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مر 1 / 4 – 5 ؛ لو 3 / 3 – 14
114
في روعي الرُّوح القُدس" . وعلى أساس فهم هذه المعاني قال يحيى بن زكرياء : إن أنا عمّدْتُكم وطلبتُ منكم التوبة بغطسِكُم في الماء ،فالذي يأتي من بعدي يُغيّر حَيَاتَكُم من الخطيئة إلى البرّ بالبلاء والإمتحان والروح القدس . والقرآن قد جعل الإيمان مُقترِنًا بالبلاء والإمتحان .
? قال تعالى : " آلم أحسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون(1/120)
ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " (العنكبوت1-3).
? وقال تعالى :" إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار
وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك أبتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا " (الأحزاب10-11).
? قال تعالى:"وليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ".( آل عمران141-142).
والآيات و الأحاديث كثيرة في هذا المعنى تركناها مخافة الإطالة.لكنّ فئة من المؤمنين لم تبلغ درجة الإيمان لا بعمل ولا بصبر بل قذف الله في قلبها نوراً من عنده ومنهم صدّيق هذه الأمة الذي قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معنى قوله:ما فاتكم أبوبكر بكثرة صيام ولا صلاة بل بنور قذفه الله في قلبه . ومن هؤلاء أيضا
أنّاس لا يكرهون إلاّ لله ولا يحبّون إلاّ لله ولو كان أباؤهم أو أبناؤهم أو إخوانهم .
? قال تعالى :" لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله
ورسوله ولو كانوا أباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولائك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه "( المجادلة22).
115
ب) – الاضطراب الثاني 1:(1/121)
يقول متى ولوقا أنّ يوحنا بعث تلميذين من سجنه ليسألا يسوع هل هو الآتي أم ينتظرون آخر .وهذا النص موضوعٌ لِيقطَعَ الطريق أمام من كانوا ينتظرون المسيح بعد يسوع .والسؤال هذا كما ورد في متّى لا معنى له،لأنّ يسوع إعتمد من يوحنا ونزل الرّوح القدس على شكل حمامة وسُمع صوتٌ من السماء يقول هذا إبني الحبيب الذي سُرّت به نفسي .وكان يوحنا يعرف المعجزات التي رافقت ميلاد يسوع .ألم تكن كلُّ هذه الدّلالات كافيةً حتّى يضعَ يوحنا نفسه في الشكّ و يبعث تلميذين له ليسأل يسوع هل هو من ينتظرون أم يوجد آخرٌ غيرُه؟ فما هي إذن مسوّغات سؤال مثل هذا؟ أمّا عند لوقا – وكما قلت كان يكتب بذكاء ويخرج من كثير من المآزق التي وقع فيها متّى – فمسوّغات هذا السؤال معقولة ،لأنّ في إنجيله لم يعترف أبداً أنّ يوحنا المعمدان إلتقى بيسوع ولو لمرة واحدة .وكما كتبت من قبل أنّه ذكر قصّةَ دخول يوحنا السجن هي الأولى ثم ذكر أنّ يسوع إعتمد ولم يذكر من عمّده .لكن لوقا يقع في خطإ فاحش يُدمّر كلّ النص السابق ولم أقف على أنّه نسي نسيانا بهذا الحجم إلاّ هنا . فقد ذكر على لسان يسوع للجموع :" أين ذهبتم أإلى إنسان بذخ مترف أم إلى قصبة يهزّها الريح أم إلى نبي .الحقّ أقول لكم إنّه أعظم من نبي لكنّ الأصغر في ملكوت الله أكبر منه .فلمّا سمع الشعب هذا ذهبوا إلى يوحنا ليعتمدوا منه وعرفوا برّ الربّ و أمّا الفرّيسيون وعلماء النّاموس فرفضوا".
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لا تنس أنّنا بصدد تفنيد نسبة بشارة يوحنا إلى يسوع ( أنظر الإضطراب الأول ص 103).
116
فكيف نصدّق أنّ الجموع ذهبت ليوحنا لتعتمد منه وهو في السجن1 ؟!! و إن كان لوقا حرّف الإطار التاريخي في الإنجيل حتى يجعل سؤال تلميذي يوحنا ليسوع مستساغاّ ، فإنّ ضرورة هذا التحريف لم تكن ملحّة في سفر الأعمال وهو كتابه الثاني فقد إعترف أنّ يوحنا إلتقى بيسوع وعمّده 1.
جـ) – الاضطراب الثالث :(1/122)
وهو أنّ كلّ الأناجيل علّمت أنّ يوحنا ويسوع وتلاميذهما عليهم السلام بشّروا بملكوت الله،و لأجل هذه الكرازة سُمّي الكتاب الذي أُنزِل على عيسى عليه السلام بالإنجيل لأنّه يحمل النبأ السّار بملكوت الله .لكنّ إنجيل يوحنا لا يذكر مرة واحدة أنّ يسوع أو حوارييه بشّروا بمملكة الله ... لماذا ؟
ـــــــــــــــــــــ
1- يقع لوقا في خطأ فظيع . لقد كان حريصا على التأكيد على أنّ يسوع لم يلتق مع يوحنا المعمدان و
لم يعتمد منه. ففي النص لو 3/18 يذكر ما يلي:" و لجميع الشرور التي كان هيروس يفعلها زاد هذا أيضا على الجميع أنّه حبس يوحنا في السّجن" . و في النص 3/21 يذكر أنّ يسوع اعتمد و لم يذكر من عمّده . و هو أكيدٌ يريد أن يتجنّب الإعتراف أنّ يسوع اعتمد من يوحنا لأنّ هذا الأمر من شأنه أن يشكّك في مسيحانية يسوع . ثم في النص لو 7/ 18-30 يذكر لوقا أنّ يوحنا بعث تلميذين له من
سجنه ليسألا عن يسوع هل هو القادم أم ينتظرون. لكنّ الأمر الذي يشكّك في رواية لوقا نهائيا و يفقدها مصداقيتها كيف يدعو يسوع شعب إسرائيل للإعتماد من يوحنا و هو في السّجن حيث قال:" أين ذهبتم أإلى إنسان بذخ مترف أم إلى قصبة يهزّها الريح أم إلى نبي .الحقّ أقول لكم إنّه أعظم من نبي لكنّ الأصغر في ملكوت الله أكبر منه .فلمّا سمع الشعب هذا ذهبوا إلى يوحنا ليعتمدوا منه وعرفوا برّ الربّ و أمّا الفرّيسيون وعلماء النّاموس فرفضوا " و هذا دليلٌ حاسمٌ أنّ كتبة الإنجيل كانوا يتعاملون مع النصوص بحرّية كاملة يفعلون فيها ما يشاءون.
1-أع 1/21–22 :" فينبغي أنّ الرجال الذين اجتمعوا معنا كلّ الزمان الذي فيه دخل إلينا الربّ
يسوع و خرج منذ معمودية يوحنّا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنّا".
117(1/123)
لأنّه كان يعلم يقيناً من كنيسة الحواريين – وهو الذي كتب سفره في نهاية القرن الأول للميلاد – أنّ البشارة بالملكوت تعنى البشارة بالملك،أي المسيح؛ وكان يعلم يقيناً من الأناجيل التي سبقته أنّ يسوع لم يزد دوره عن المبشّر .
7– بشارة الحواري بطرس بالمسيح
لاحظنا من قبل في فصل يسوع يُنكر أنّه المسيح أنّ الحواري بطرس، بصفته يهوديا يحملُ الثقافة و العقائد الإسرائيلية الرائجة في زمانه، أجاب يسوع، عن سؤاله ماذا يظنّ النّاس عنه، أنّه مسيح الله.
لِنَرَ الآن هل غيّر موقفه أم مازال مُصرّا عليه. قام الحواري بطرس خطيباً في شعب إسرائيل في الهيكل بعدما رُفع سيدنا عيسى عليه السلام إلى السماء مُوبّخا لهم على كفرهم و رَاجياً هدايتهم : " والآن أيّها الإخوة أنا أعْلَمُ أنّكُم بِجَهَالَة عَمِلْتُم هذا كَمَا رُؤسَاؤُكم . وأمّا الله فَمَا سَبَق وأنْبَأ به بِأفْواهِ جَميعِ أنْبيَائه أنْ يتألّمَ المسيحُ قد تَمّمَه هكذا .
تُوبُوا وإرجِعوا لِتُمْحَى خطَايَاكُم لكي تَأتِي أوقاتُ الفَرَجِ من وَجْهِ الربّ ،و يُرسِلُ المسيحُ المُبشّرُ بهِ لكُم مِن قَبلُ :يسوع الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة التي يتجدّد فيها كلّ شيء والتي تكلّم عنها الله بفَمِ جَميع أنبيائِه القِدِّيسِين منذ الدهر .فإنّ موسى قال للآباء إنّ نبياً مثلي سيُقيم لكم الربّ إلَهُكُم من بين إخوتِكُم له تسمعون في كلّ ما يكلّمُكُم به .ويكون أنّ كلّ نفسٍ لا تسمَعُ لذلك النبيّ تُبَادُ من الشعب "(أع3/17-24).
ومعظم الترجمات التي بين يدي تفصل بين كلمتي المسيح ويسوع بالجملة " المُبشَّرُ
.118(1/124)
بهِ لكم من قبلُ "،كما هو الحال في النص الذي بين يديك . والنص الأكثر لفتا للإنتباه هو نص الترجمة بالفرنسية العامية للعهد الجديد التي أعدّتها الرابطة العالمية للكتاب المقدس قال :" فتوبوا وإرجعوا إلى الله حتى تُمحى خطاياكم والربّ يستطيع أن يأتي بأزمنة الراحة ويُرسِلُ لكُم المسيح المختارُ لكُم من قبل ، يعنى يسوع .لكنّ يسوع المسيح الآن يجب أن يبقى في السماء ".و للذين يقرأون الفرنسية أحيلهم في الهامش على النّص كما ورد في نسخته الأصلية حتّى يطّلع عليه بنفسه1. فإن كانت هذه الترجمة وفيةٌ للأصل اليوناني أو اللاتيني فلا
شبهة في أنّ كاتب النصّ واع و مدرك تمام الإدراك بأنّ كلمة "المسيح" وحدها دون إضافة " يعني يسوع" لا تَفِ بالغرض المأمول. و لا شكّ أنّ العبارة يكون قد زادها لوقا عن وعي كامل و إصرار لضبط المعنى و تقييده حتّى لا يترك باب التأويل قائما في أنّ المسيح قد يكون آخر غير يسوع،أو كانت كلمةً شارحةً في الحاشية ثم دخلت إلى متن النصّ بتعاقب أعمال النُسّاخ على مرّ القرون. و هذا النّص يتطلّب فُحصا للمخطوطات القديمة و مجهودا مشتركا بين المسلمين و المسيحيين من أهل الإختصاص خاصة في اللغات القديمة من إغريقية و لاتينة لتسليط الضوء عليه.
ــــــــــــــــــــــ
1-Changez donc de vie et tournez –vous vers Dieu. Pourqu'il éfface vos péchés. Alors le Seigneur pourra faire venir des temps de repos et vous envoyer le Messie qu'il avait choisi d'avance pour vous. C'est-à-dire Jésus. Pour le moment ,Jésus –Christ doit rester au ciel jusqu'à ce que vinne le temps où tout sera renouvelé, comme Dieu l'a annoncé par ses saint prophètes depuis longtemps déjà. Moise a dit en effet:' Le Seigneur votre Dieu vous enverra un prophète comme moi, qui sera un membre de votre(1/125)
peuple". Le Nouveau Testament illustré en français courant.
119
وخطبة الحواري نستطيع أن نجزئها إلى ثلاثة أجزاء : صدر الخطبة فيه توبيخ
لليهود على كُفرهم،ثمّ محاولتُه إيجاد مبرّرٍ لهم و هو الجهالة ،ثم في الجزء الثاني يدعوهم للتوبة لِتُمحى خطاياهم. ثم يبشّرُهم بالمسيح الموعود لهم الذي تأتي معه أزمنة الراحة1 .
لكن قبل مناقشة النص وظروفه يحسُنُ بنا أن نبيّن كيف يفهمُه إخواننا النصارى .لقد فهموه أنّ المسيح صعد إلى السماء وسيعود ثانية إلى الأرض لِيُؤسّسَ مملكة الله تعالى .وهذا الإعتقاد نتقاسمه معهم،نحن كمسلمين .لكنّ النص واضح في أنّ عودة المسيح يسوع الذي هو الآن في السماء تتمّ بعد بعثة من بشّر به موسى عليه السلام .و سَمّى الحواريُ زمانَه زَمَن تَجَدّدِ كلّ شيء،لأنّه تُنسخ في زمانه شريعة موسى العتيدة بشريعة جديدة . ولفهم محتوى الخطبة يجب أن نفصّل الظروف التي قيلت فيها .
فالحواري بطرس هو أوّل تلميذ ليسوع عليه السلام ،ولم يفارقه أبداً حتى رُفع إلى السماء،وهو شاهدٌ على المحاكمة وعلى قيامة يسوع من بين الأموات كما تزعم الأناجيل .ومقامُه من عيسى عليه السلام بمثل مقام سيدنا أبي بكر من سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - .فلن نفترض عليه أبداً أن يكون أحمقا!.والمخاطبون هم اليهود ،وقولنا اليهود في هذا السياق له دلالة عميقة .فيهود تعني أنهم لم يؤمنوا بعيسى عليه السلام على الأقل إلى زمن الخطبة هذه .ومكان الخطبة هو الهيكل في أورشليم التي صُلب فيها المسيح – كما يعتقد اليهود وكنيسة بولس –وحوكم على أيدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1- يجب أن نسجل أنّه لم يقل لهم أمنوا بموت المسيح الخلاصي لتمحى خطاياكم .إنما قال توبوا .وهذا يقطع بأن الحواري بطرس كان يفهم التوبة على أنّها مسؤولية فردية .
120(1/126)
الكهنة وبيلاطس البنطي . و زمان الخطبة في عيد الحصاد يعني على أكثر تقدير خمسون يوماً بعد حادثة الصلب .فهل يُعقل من رَجُلٍ راجح العقل مثل الحواري
بطرس أن يدعوهم للإيمان برجل لازالت أيديهم لِطّخةٌ من دمه وقد كانوا يتّهمونه
بالكفر و التجديف على الله 1 و إعتقدوه مشعوذا ضالاّ،وكانوا يسمونه بالعام بن باعور ،وقالوا عنه و عن أمّه عليها السلام بهتانا عظيما و قد تحقّقَ لهم بالدليل المادي أنّه ملعون2 .فلم يؤمنوا به حتى لمّا كان حياً يعملُ المعجزات الباهرات فكيف يؤمنون ـ حسب ما كانوا يرون ـ بمُجرمٍ ملعونٍ؟ وقد تبيّن لهم أنّه لم يغرّر بتلاميذه فحسب بل غرّر حتّى بنفسه! .فمن أين تأتي الراحة من هذا المصلوب الملعون ؟ ! فيجب أن نفهم أنّ النصّ الأول كان كالتالي " ويُرسِلُ لكُم المسيحُ المُبشّرُ به لكُم من قبل.و يسوع يجب أن تقبله السماء إلى زمن تجدد كل شيء" .ومن جهة ثانية وقع في خطبة بطرس :" المبشّر به لكم من قبل "
ــــــــــــــــــــ
1- أنظر يو 10 / 24 – 33 :" لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف"؛ 19/ 7:" و حسب ناموسنا يجب أن يموت لأنّه جعل نفسه ابن الله"؛ 5 / 18 :"فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه لأنه لم ينقض السبت فقط بل قال أيضا إنّ الله أبوه معادلا نفسه بالله"؛ متى 26/65 :" فمزّق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه و قال قد جدّف .ما حاجتنا بعد إلى شهود .ها قد سمعتم تجديفه"؛ أنظر ايضا النصوص الموازية مر14/63 –64 ؛ لو22/71 . فمسألة تكفير عيسى عليه السلام من طرف اليهود مسألة تاريخية لا غبار عليها، لكن مبرّرات تكفيره مكرٌ و كذبٌ منهم و ذلك لتبرير قتله و تعليقه على خشبة كما يُقتل المجرمون الملاعين. لمزيد من التفصيل نحيلك إلى كتابنا " يسوع ابن الله أم ابن الإنسان".(1/127)
2- عامّة اليهود كانوا يعتقدون أنّ يسوع هو المصلوب. و المعلّق على خشبة ملعونٌ في التوراة. و لا تقتل التوراة رجلا بهذه الطريقة إلا إذا كان لصّا كبيرا أو كافرا بالله تعالى. و لقد ألصق اليهود بيسوع أنّه كان يدّعي أنّه إبن الله. و الإدّعاء هذا كفرٌ صريح .أنظر كتابنا: صلب عيسى عليه السلام التاريخ و الوهم.
121
والبشارة عبارة عن نبأ سّار لا يزال تحت طيّ الغيب ،ولمّا يتحقّق يصبح من عالم الشهادة .ويسوع لم يكن من عالم الغيب بل كان من عالم الشهادة،ورأوا معجزاته وسمعوا تعاليمه..إلخ .فلا يصحّ أن نقول أنّ يسوع مبشّر به في زمان الخطبة .
ومن جهة ثالثة قال الحواري بطرس : " أنّ يسوع يجب أن تقبَلَه السماء إلى الأزمنة التي يَتَجَدّدُ فيها كلّ شيء .الشيء الذي تكلّم عنه الله بفَمِ جميع أنبيائه القدّيسين منذ الدهر فإنّ موسى قال للآباء أنّ نبياً مثلي سيُقيم لكم الربّ إلهُكم من بين إخوتكم له تسمعون " . والنص هنا واضح اللهم إلاّ من عَمِي وضلّ ضلالاً مبيناً .فيسوع يبقى في السماء إلى غاية ما يتجدّد كلّ شيء .والتجدّد يفسره الحواري ببعثة النبي العظيم الذي بشّر به موسى عليه السلام .وسمّي زمنَه زمن تجدّد لأنّه هو صاحب الشريعة الجديدة التي تنسخ التوراة1 كما كان معروفاً عند علماء بني إسرائيل كما سنبيّنه فيما بعد. ولو كان النبي المبشّر به في التوراة هو يسوع لكان قول بطرس غليظاً ولقال لليهود : إنّكم قتلتم من بشّر به موسى .ولا يصحّ أن يكون عيسى عليه السلام غير مبشّر به قبل موته ،ثم لمّا مات أصبح مبشّراً به . والتوراة كما يعلم الخاص والعام قبل عيسى عليه السلام بألف وخمس مئة سنة. وها هو الإنجيل أمامك ، أخي الكتابي، من
ـــــــــــــــ(1/128)
1-وقد تنبأ بذلك النبي ملاخي قائلا:"و للوقت يأتي إلى هيكله السيد الذي تلتمسون ورسول العهد الذي تتنتظرون" (ملا3/1–4). .وقد كان سيدنا عيسى عليه السلام يقول عن أهل الكتاب الذين يؤمنون بسيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - :" كُلّ مُعلّم شريعةٍ يصبح تلميذاً في ملكوت السماوات فهو مِثلَ ربّ بيت يُخرِجُ مِن كَنزِه أشيَاء جديدَة وأشيَاء عَتيقَة " (متى13/51–52). وهذا هو مصداق ما جاء به القرآن عن أهل الكتاب الذين آمنوا قال : " أولئك يؤتيهم الله أجرهم مرتين "( القصص54).
122
سفر متّى إلى سفر الرؤيا فأرنا أين نسب يسوع هذه البشارة لنفسه وقد كان عالماً مُتبحّراً في علوم الشريعة وكان كثير الإستشهاد بالأنبياء والتوراة والمزامير. وقد ثبت أنّه كان يُبِكّتُ علماء الشريعة وهو في سن الثانية عشرة من عمره .
ونص البشارة هو أشهر نصّ في التوراة بعد نص التوحيد ، ولا نتوقع أنّ إسرائيليا
واحداً لا يعلمُه .وقد كان شعب إسرائيل زمن عيسى عليه السلام يغتلي شوقاً لإنجاز ما وعد به يَهْوَهْ1 إله إسرائيل في بعثة النبي الذي أتاه الله الملك .وسيدنا عيسىعليه السلام لم ينس أن ينسب أصغر البشارات في الأنبياء لنفسه فكيف ينسى أعظم بشارة في التوراة أن ينسبها لنفسه2! !
و نص بشارة موسى عليه السلام لم يَرِدْ ذكرُه إلاّ مرتين و في سِفْرٍ واحِدٍ من الإنجيل وهو سفر الأعمال : المرة الأولى على لسان الحواري بطرس عليه السلام وقد بيّنا أنّها لا تعني يسوع إنمّا الذي يأتي بعد يسوع؛والنص الثاني على لسان الشهيد إستفانُس لمّا كان يُرجم من جَلاّديه، واستشهاده بالبشارة كان حياديا .فلم يذكر في معرض ذكره تاريخ بني إسرائيل من إبراهيم عليه السلام إلى زمن موسى
ـــــــــــــــــــــ(1/129)
1-إسم الله تعالى في التوراة. و هو مشتّقُ من العبارة : "أنا هو الكائن". و منذ القرن الرابع قبل الميلاد إنتهى بنو إسرائيل عن تسمية الله تعالى بهذا الإسم تأويلا لقوله في التوراة : لا تحلف بإسم الربّ إلهك باطلا. و استعاضوا عنه بالإسم أدوناي إلوهيم.
2-فيحدثنا الإنجيل أنّه عليه السلام دخل مجمع الناصرة في يوم سبت ودُفِعَ إليه سفر أشعيا فقرأ: " إنّ روح السيّد الربّ عليّ لأنّ الربّ مَسَحَنِي لأبَشِّرَ المَسَاكينَ ولأجْبُرَ مُنكَسِري القُلوب وأُنَادي بعِتقٍ لِلْمَسْبِيينَ وبِتَخليةٍ للمَأسُورِينَ،لأنَادِي بِسَنَة الرّبّ المقبولة ويَوم إنتِقَام إلَهِنَا وأُعَزّي جميعَ النائحينَ "(لو4/17–21). وقد بيّن دورُه في هذه البشارة أنّه يُبشّر بالنبأ السّارِ وبيوم الخَلاص وبإنتقام الربّ من
أعدائه بخاتم الأنبياء وسيد المرسلين .
123.
إلاّ أنّ موسى قال :" سيُقيم لكم الربّ إلهُكُم نبياً من بين إخوتكم له تسمعون"
( أع 7 /37 – 38). و لو كان المراد به يسوع لذكره ، وإن لم يذكره فإنّه يعني نبياً آخر غير يسوع .
ويجب أن نستكمل الموضوع بمناقشة البشارة في التوراة .وردت هذه البشارة في سفر التثنية،ويُعرض هذا السِفرُ على أنّه خطبة موسى عليه السلام في عِبْرِ الأردن في البّرية،قبيل دخول الشعب إلى الأرض المقدسة،في أول يوم من الشهر الحادي عشر من السنة الأربعين لخروج بني إسرائيل من مصر1.ونص البشارة في سفر التثنية ورد بروايتين : الرواية الأولى على شكل خطبة من موسى للشعب قال : " يُقيم لك الرَبُّ إلهُكَ نبيّاً مِن وَسَطِك من إخْوَتِكُم له تسمَعون "2. و الرواية الثانية على شكل خطاب مباشر من الله تعالى للشعب لم يتوسّط فيه موسى بشرحه أو تفسيره قال موسى : "قال لي الربّ قد أحسنوا فيما تكلّموا .أُقِيمُ لهم نبياً مِن وَسَطِ إخوَتِهِم مثلك " .(1/130)
ونصّ الحواريين بُطرس3 وإستفانُس يؤيد الرواية الثانية .قال بطرس :"فإنّ موسى قال للآباء إنّ نبياً مِثلِي سَيُقيم لكُم الرَبّ إلهُكُم من وَسط إخوَتِكُم له تَسْمَعُون في كلّ ما يُكّلِمُكم به "( تث18/18). ومن مقارنة نص بطرس وإستفانس والرواية الثانية من جهة مع الرواية الأولى للبشارة نجد أنّ الكلمة " من وسطك" زائدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تث 1/ 1-3
2- تث 18 / 15
3-بطرس كلمة يونانية تعني الصخر و منها تشتق بترا و بترولوجيا ، و سمي كذلك لأنّ النبي عيسى سمّاه الصخر الذي أسّس عليه كنيسته. و إسمه بالأرامية "كيفا"، و بالعربية الصفا.
124.
ومن عادة التوراة حينما يتعلّق الأمر بالفرز داخل شعب إسرائيل أن تستعمل الصيغ التالية :في وسطك ، من وسطك ، من وسط إسرائيل، من وسط الشعب ، من وسطكم ، منكم ، في بني إسرائيل ، عندكم ، عندك ، عنك .
و قد وردت هذه الصيغ في سفر التثنية وحده سبعاً وسبعين مرة ، ووردت الصيغتان :" من وسطك "،" في وسطكم " أو ما يؤدّي معناهما في سفر التثنية تسعا و ثلاثين مرة 1ولم نجد أنّها كانت مصحوبة بكلمة " من إخوتكم " إلاّ في نصّ البشارة بالرواية الأولى .شيء غيرُ معهود! .لماذا ؟ لأنّ مُضيف الكلمة2 يريد أن يكون النبيّ العظيم من بني إسرائيل ،من وسطهم ، لا من إخوة
ـــــــــــــــــــــ
1-تث 1/23؛1/42؛2/16؛4/3؛6/15؛7/21؛ 11/6؛12/5؛13/2؛13/6؛13/12؛ 13/14؛ 13/15؛16/11؛17/2؛17/7؛17/15؛17/20؛18/2؛ 18/15؛ 18/16؛ 19/19؛19/20؛21/8؛21/9؛21/21؛22/21؛22/24؛23/11؛23/18؛ 23/18؛ 24/7؛24/7؛26/11؛28/43؛31/17؛31/27؛32/51؛32/51؛34/12؛ 33/16؛ 33/24.( ملاحظة هذه الدراسة أجريت على الترجمة المسكونية بالفرنسيةTOB .و إذا وجد أنّ العدد مكرّر فيعني أنّ العبارة وردت مرّتين في نفس النصّ).(1/131)
2- بخصوص التحريف، في غالب الأحيان مضيف الكلمة لم يقصد التحريف. بل في الأصل كانت هذه الكلمات شروحا على الحواشي ثم أدخلت في متن النصّ لاحقا.و لم يكن لديهم القصد .و أمثلة كثيرة أيضا في الإنجيل حيث نجد مترجم متّى يكثرُ من هذه العبارة:" كان هذا ليتمّ ما قيل بالنبيّ" أنظر كأمثلة متى2/15؛2/17؛ 2/23؛3/3؛4/14؛8/17؛12/17؛ 13/14؛13/35؛ 21/4؛ و هذا الكلام يعكس فهمه للنبوات و لا يعكس ما علّمه عيسى عليه السلام. أنظر أيضا متى 16/12؛17/13؛.أو قوله أيضا :" ففهموا أنّه يتكلّم عن يوحنا"متى 17/13. أو قول لوقا :" إنتهرهم لأنّهم عرفوه" لو 4/41 و كلّ هذه شروح و ليست نصوصا مقدّسة. و هكذا إختلط الوحي الإلهي بكلام البشر. و من هنا نرى عظمة سيّد الخلق الذي حرّم في باديء الأمر أن يكتب غير القرآن
.125
بني إسرائيل .وقد كان بالإمكان أن تقول التوراة و تقطع الشكّ : يُقيم لكم الربّ إلهُكم نبيّاً من وَسَطِك أو في وَسَطك أو مِنكم أو في بني إسرائيل أو عندك أو عندكم أو في الشعب.وهذه هي عادة التوراة لمّا يكون الفرزُ يعني شعب إسرائيل(1/132)
مثل قوله :" وأقطَعِ الشَرَّ مِن وَسَطِك".لكنّ التوراة آثرت أن تقول من وسط إخوتِكم أو من وسط إخوتِك.وكلمة "أخ" دار حولها نقاش بين اليهود والمسلمين و النصارى. فمن هم إخوة بني إسرائيل ؟ فكلمة " أخ " بصيغة الجمع أو المفرد متصلة بضمير المخاطب المفرد أو الجمع وردت في سفر التثنية سبعا و أربعين مرة تقريباً 1،كلّها تعبّر عن علاقات داخلية في شعب إسرائيل تتوجّه مثلاً للقضاة وتأمرهم بالعدل تجاه إخوتهم كقوله:" و أمرتُ قُضاتَكم في ذلك الوقت قائلا:إسمعوا بين إخوتكم و اقضوا بالحقّ بين الإنسان و أخيه و نزيله" (تث1/16). ،أو لكلّ الشعب عدا الجواسيس الذين إجتسّوا أرض كنعان من برية قادش :"لقد أذاب إخوتُنا قلوبَنا من الكنعانين" (تث 1/28)؛ أو تتوجه لبعض القبائل من بني إسرائيل مثل قوله:"و أمرتُكم في ذلك الوقت قائلا الرّب إلهُكم قد أعطاكم هذه الأرض لتمتلكوها متجرّدين تعبرون أمام إخوتكم بني إسرائيل كلُّ ذوي بأس.أمّا نساؤكم و أطفالكم و مواشيكم.قد عرفت أنّ لكم مواشي كثيرة. ــــــــــــــــــــــ
1-تث 1/16؛ 1/16؛1/28؛2/4؛2/8؛3/18؛3/20؛ 10/9؛13/7؛15/2؛15/3؛ 15/7؛15/7؛15/9؛15/11؛15/12؛17/15؛17/20؛18/2؛18/15؛18/18؛19/18 ؛19/19؛20/8؛22/1؛22/1؛22/2؛22/2؛22/3؛22/4؛22/4؛23/8؛23/20 ؛23/21؛24/7؛24/14؛25/3؛25/5؛25/6؛25/7؛25/9؛25/11؛28/54؛ 32/50؛ 33/9؛33/16؛ 33/24.( الدراسة من الترجمة المسكونية باللغة الفرنسية TOB)
126(1/133)
فتمكث في مدنكم التي أعطيتكم حتى يريحُ الرّب إخوتَكم مثلكم و يمتلكوا هم أيضا الأرض التي الرّب إلهكم يعطيهم في عبر الأردن" (تث 3/18-20). و الخطاب في هذا النّص يتوجّه به موسى عليه السلام للقبائل الأولى التي إستوطنت أرض جلعاد و باشان و هم أولاد جاد و رأوبين و نصف قبيلة منسّى. أو كقوله:" لأجل ذلك لم يكن للآوي قسمٌ و لا نصيبٌ مع إخوته.الرّب هو نصيبه كما كلّمه الرّب إلهك" (تث10/9).، و كلمة إخوة في النصّ الثاني تعني جميع قبائل إسرائيل بإستثناء قبيلة لآوي. أو تتوجه لفرد واحد تجاه إخوته كقوله :"و إذا أغواك سرّا أخوك إبن أمّك أو إبنك أو ابنتك أو امرأة حضنك أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلا نذهب نعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت و لا آباؤك من آلهة الشعوب الذين من حولك القريبين منك أو البعيدين عنك من أقصاء الأرض إلى أقصائها فلا ترض منه و لا تسمع و لا تشفق عينك عليه و لا تَرِقَّ له" (تث13/7) ، أو كقوله:" في آخر سبع سنين تعمل إبراء. و هذا هو حكم الإبراء. يبرىء كلّ صاحب دَيْنَ يده ممّا أقرض صاحبه. لا يطالبُ صاحبه و لا أخاه لأنّه قد نُودي بإبراءٍ للرّب" (تث15/2).وخلاصة القول أنّها وردت لتربط علاقات داخلية بين الفرد والشعب أو بين طائفتين من الشعب أو بين فردين من الشعب.ولم تتوجه التوراة بهذه الكلمة إلى كلّ الشعب إلاّ ست مرات في إصحاحات خمسة:تث 2/4:" و أوص الشعب قائلا إنّكم مارّون بتخم إخوتكم بني عيسو السّاكنين في سعير"؛ تث 2/8:" فعبرنا عن إخوتنا بني عيسو السّاكنين في سعير على طريق العربة".و تتوجه في هذين النصيّن إلى عموم
127
شعب إسرائيل و تؤكّد أنّ بني أدوم إخوة لهم .و هذان النصّان حاسمان في أنّه لمّا تستعمل التوراة كلمة" إخوتهم" أو " إخوتك" في خطابها لكلّ الشعب فإنّها تعني شعبا آخر غير إسرائيل. و ترد أيضا الكلمة أربع مرّات في النصوص الموالية1 تث17/15 ؛ تث18/15؛ تث18/18 وكلّها مبشّرة بالمسيح .(1/134)
ونعيد صياغة السؤال كالتالي : من هم إخوة كلّ شعب إسرائيل ؟ فعلاقة الأخوة ليست علاقة عكسية .فلست أخا نفسي ؛ لكنّي أخو غيري .وعندما نقول :إخوة العرب ،حتماً لا نقصُدُ العرب،إنما نقصُد الشعوب الشقيقة للعرب مثل العيلاميين ، والحبشيين والإسرائيليين إلخ ... ... وكانت ردود إخواننا أهل الكتاب دوماً أنّ بني إسماعيل ليسوا إخوة لبني إسرائيل إنمّا بنو عمومتهم. وهذا الكلام صحيح .لكن يجب أن نتكلّم لغة التوراة ونستعمل مفرداتها لأنّ النصّ ورد في التوراة لا في غيره . فما ثبت في التوراة وجود كلمة عمّ أو خال إلاّ ثلاث مرات أو قريباً منها .وإنّ من عادتها تسمية الخال أخاً؛والعمّ أخاً ؛ وأبناء العمومة إخوة وها هي الأدلة أمامك .
? قال إبراهيم لإبن أخيه لوط أخي (تك 13/8) .
? قال ملاك الربّ لهاجر في شأن إسماعيل عليه السلام :"يكون رجلاً
وَحشياً يَدُهُ على الكلّ،وَيَدُ الكلّ عليه وأمام جميع إخوته يسكُنْ "(تك16/12).
ـــــــــــــــــ
1-أنظر تث 17/15:" فإن قلت أجعل عليّ ملكا كجميع الأمم الذين حولي .فإنّك تجعل عليك ملكا الذي يختاره الرّب إلهك. من وسط إخوتك تجعل عليك ملكا. لا يحلّ لك أن تجعل عليك رجلا أجنبيا ليس هو أخاك"؛ تث 18/15:" يقيم لك الرّب إلهك نبيّا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون"؛
تث18/18:" أقيم لهم نبيّا من وسط إخوتهم مثلك".
128
وإخوته تعني أبناء أخيه إسحاق.
? وسمّى لوطٌ قومَه إخوتَه (تك19/7).
? وسمّى خادمُ إبراهيم إبنَ أخِ إبراهيم بأخي مولاي (تك24/27).
? وقال يعقوب لراعيين :"من أين أنتما يا أخوان " ( تك 29/4).
? وسمّى لابان إبنَ أخته يعقوب بأخي (تك29/15) .
? وسمّت التوراة خدمَ لابان إخوته (تك31/25) .
? وسمّى موسى أبناء عمّ هارون وأولاد هارون ناداب وأبيهو إخوة( لاو10/4).
? وأنفذ موسى رُسُلاّ من قادش إلى ملك أدوم قائلاً :" هكذا قال أخوك(1/135)
إسرائيل" (عد 20/14) . وأولاد أدوم وأولاد إسرائيل أبناء عمّ وليسوا إخوة .
? و وردت : " ولا تَكرَه الأدومي فإنّه أخوكَ " (تث23/8) .
وتقول الترجمة المسكونية في تعليقها على العدد 14/14 من سفر التكوين :" أنّ الساميين مثل شعوب أخرى تسمّي أخاً كلّ من تربطه بهم قرابة دم".ومن سياق نص البشارة يتبّين أنّ شعب إسرائيل هو الذي طلب من الربّ أن يعفيه من سماع صوته وألاّ يُرِيَه هذه النّار العظيمة لِئَلا يمُوتَ .فإستحسن الربّ كلام بني إسرائيل قائلاً لعبده موسى :" نِعمَ مَا قالوا ! " .إذن فما هو الحلّ ؟ يجيب الربّ عبده :" أقيمُ لهُم نبيّاً من وسطِ إخوَتِهم مثلَك ". إذن فلا يُمكن أن يكون من بني إسرائيل.وتعترف الترجمة المسكونية بمضمون هذا التوجّه فقد كتبت:"رغم أنّ التقليد اليهودي المتأخر يرى في هذه البشارة الإعلان عن نبيٍّ ذي مكانة خاصة
تقرّبه من المسيح؛و في إستفسارات الشعب حول يسوع (يو1/21؛6/14؛7/40)
129
إشارة لهذا التقليد،لكنّ يسوع لم ينسبْها إليه أبدا بشكل صريح"1. فهذا التردّد دليلٌ على أنّ أهل الكتاب يعرفون جيداً من هو المبشّر به .
7 – المؤمنون بيسوع ينتظرون المسيح
يحكي الإنجيل أنّه لمّا دخل يسوع إلى الهيكل آمن به كثيرون وقالوا : " ألعلّ
المسيحُ مَتَى جَاء يَعمَلُ آياتٍ أكثَرُ مِن هَذِه التي عَمِلَهَا هَذَا الرَّجُلُ "2 . فالمؤمنون بعيسى عليه السلام آمنوا يقيناً أنّ يسوع ليس المسيح ، ولم يتساءلوا إلاّ عن قدرة المسيح لمّا يأتي هل يفعل معجزات أكثر من تلك التي فعلها هذا الرجل ويعنُون به يسوع . وأخيراً نلخّص رسالة سيدينا يحي بن زكرياء وعيسى بن مريم عليهما السلام في كلمة واحدة :هي البشارة بالملك الموعود رحمة للعالمين وبمملكة الله تعالى ، لم يزيدا عن هذا شيئاً آخر .فَمَنْ قَبِلَ أنّ المسيحَ من نسل إسماعيل آمن بعيسى عليه السلام ؛ ومن كفر بأنّ المسيحَ من نسل إسماعيل كفر بعيسى عليه السلام .(1/136)
معنى المسيح
لوسألت مسلما من العامة : من هو المسيح ؟ يجيبك بشكل آلي هو عيسى بن مريم رسول الله. وقد حاول المسلمون تفسير هذه الكلمة منذ القدم:بعضهم قال سُمّى عيسى مسيحا من السِّيَاحَةِ يعني أنّه كثير السيّاحة،وبعضُهم قال لأنّه كان يمسَحُ المرضى ويَشفيهم، و آخرون قالوا هو الصدّيق و عند آخرين سُمّي كذلك لأنّه طُهّرَ من الذنوب .و أقبَحُ تَفسِيرٍ هو قولُ بعضهم سُمي مسيحا لأنّه كان
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1-TOB P 384
2-يو 7 / 27 – 31
130
مَسِيحَ الرِّجلَينِ يعني أخمص القدمين . ويكون حينئذ سيدنا عيسى عليه السلام سُمي بعيب في رجليه ؛ ويكون القرءان الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه عابثا.و كلّ هذه التأويلات نقلها الإمام القرطبي و فخر الدّين الرّازي و الإمام ابن كثير و الزمخشري و البيضاوي في تفاسيرهم1 .و لا يوجد لأي قول من هذه الأقوال مستند من القرآن الكريم أو ممّا صحّ في سنّة رسول الله أو حتىّ من أصول اللّغة العربية.و لا تعدو أن تكون ضربا من التخمين و الحدس. وأعتقد أنّ المسلمين لم تتبلور لديهم الفكرة القوية في تفسير هذه الكلمة تفسيرا صحيحا، مستندين إلى سيّاقها الدّيني الإسرائيلي إلا في القرن العشرين، كما في "قصص الأنبياء" للشيخ عبد الوهّاب النجّار أو في تفسير مصطفى المراغي رحمهما الله.
فكما يمكن أن نلاحظ من التفاسير السّالفة الذكر بخصوص هذه الكلمة أنّ القول بأنّ المسيح هو الملك لم يورده أحدٌ غير فخر الدّين الرّازي. و لم ينقله إلاّ عن شخص واحد هو أبو عمر بن العلاء، ممّا يدلّل على أنّ هذا الرأي كان شاذّا غير معتدٍّ به في القرون الأولى للإسلام. و ذلك لأنّ الكلمة لم ترِدْ في القرآن الكريم الا
ـــــــــــــــــــــ(1/137)
1-ورد في تفسير القرطبي لمعنى كلمة المسيح في قوله تعالى:"إن الله يبشّرُك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم" ما يلي: والمسيح لقب لعيسى ومعناه الصديق ، قاله إبراهيم النخعي . وهو فيما يقال معرب وأصله الشين وهو مشترك . وقال ابن قارس : والمسيح العرق نوالمسيح الصديق ، والمسيح الدرهم الأطلس لا نقش فيه . والمسح الجماع ، يقال مسحها ، والأمسح : المكان الأملس . والمسحاء المراة الرسحاء التي لا است لها ,. وبفلان مسحة من جمال . والمسائح قسي جياد ، واحدتها مسيحة . قال : لها مسائح زور في مراكضها لين وليس بها وهن ولا رقق واختلف في المسيح ابن مريم مماذا أخذ ، فقيل : لأنه مسح الأرض ، أي ذهب فيها فلم يستكن بكن . وروي عن ابن عباس أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بريء ح فكأنه سمي مسيحا لذلك ، فهو على هذا فعيل
131
كاسم علم، ولم تَرِدْ بمفهومها الأصلي كما تعارفت عليه الأسفار المقدّسة.
و بما أنّ إسم " المسيح" هو تعريب لكلمة مشيخا العبرانية كما يتّفق عليه جمهور المفسّرين فلا مناص من إستيضاح معناها إلاّ بالرّجوع إلى منبتها و سياقها الإسرائيليين.
و على هذا فإنّنا نرجّح أن يكون معنى المسيح هو الملك . لكن ليس أيّ ملك بل الملك الذي إصصفاه الله لِيحْكُمَ بين عباده بشريعته بالعدل والإنصاف ويُشتَرَطُ ـــــــــــــــــــ(1/138)
بمعنى فاعل . وقيل : ممسوح بدهن البركة و كانت الأنبياء تمسح به ، طيب الرائحة ، فإذا مسح به علم أنه نبي . وقيل : لأنّه كان ممسوح الأخمصين .وقيل لأن الجمال مسحه ، أي أصابه وظهر عليه . وقيل : إنما سمي بذلك لأنه مسح بالطهر من الذنوب . وقال أبو الهيثم : المسيح ضد المسيخ ، يقال : مسحه الله أي خلقه خلقا حسنا مباركا ، ومسخه أي خلقه خلقا ملعونا قبيحا . وقال ابن الأعرابي : المسيح الصديق ، والمسيخ الأعور ، وبه سمي الدجال . وقال أبو عبيد : المسيح أصله بالعبرانية مشيحا بالشين فعرب كما عرب موشى بموسى . ...وقد قيل : إن المسيح اسم لعيسى غير مشتق سماه الله به . فعلى هذا يكون عيسى بدلا من المسيح من البدل الذي هو هو . وعيسى اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة ، لان فيه ألف تأنيث .ويكون مشتقا من عاسه يعوسه إذا ساسه وقام عليه .
و ورد في تفسير الإمام بن كثير لنفس الآية ما يلي:" وسمي المسيح قال بعض السلف: لكثرة سياحته وقيل: لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما وقيل: لأنه كان إذا مسح أحدا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى ".
و ور في الرازي ما يلي: وأما قوله تعالى: "اسمه المسيح عيسى ابن مريم " ففيه سؤالات: السؤال الأول: المسيح: هل هو اسم مشتق، أو موضوع؟. والجواب: فيه قولان الأول: قال أبو عبيدة والليث: أصله بالعبرانية مشيحا، فعربته العرب وغيروا لفظه، وعيسى: أصله يشوع كما قالوا في موسى:
أصله موشى، أو ميشا بالعبرانية، وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق. والقول الثاني: أنه مشتق
.132
فيه صِحَّةُ الجَّسَدِ وغزارةُ العلم .(1/139)
وهذا التعريف هو ما استخلصناه من القرءان الكريم مؤيداً من نصوص التوراة .يقول سفر التثنية 17/14-20:" مَتَى أَتَيْتَ إلى الأرضِ التي يُعطيكَ الرَبّ إلَهُك ، وامْتَلَكْتَهَا وسَكَنْتَ فيها .فإنْ قُلتَ أجعَلُ عَلَيّ مَلِكًا كجميع الأمَمِ الذين حولي .فإنَّكَ تَجعَلُ عَلَيكَ مَلِكًا الذي يختَارُهُ الرَبّ إلَهُكَ .مِنْ وَسَطِ اخوَتِك تجعَلُ عَلَيْكَ مَلِكًا .لا يَحَلُّ لَكَ أن تجعَلَ عَلَيْكَ رَجُلاً أجنَبيا ليس أخَاك . ولكن لا يُكَثِّرْ له الخيلَ ولا يَرُدَّ الشَعْبَ إلى مِصْرَ لِكَي يُكَثِّرِ الخيْلَ ؛والرَبّ قَدْ قَالَ لَكُمْ لا تَعُودوا ترجِعون في هذه الطريق أيضا. ولا يُكثّر له نِساءً.لئلا يزيغَ قَلْبُه ،وفِضَّةً وذَهَبا لا يُكثِّرُ لَهُ كثيراً. وعندما يجلِسُ على كُرْسي مَمْلَكَتِه يَكتُبُ لنفسِه نُسخَةً من هذه الشريعة في كتابٍ مِن عِند الكَهَنَةِ اللاويين فتكون مَعَه ويَقْرَأُ فيها كلّ أيّامَ حَيَاتِهِ لِكَي يَتَعَلّمَ أن يتّقي الرَبَّ إلَهَه ويَحْفَظْ جميع كلماتِ هذه الشريعة وهذه الفرائض ليعمَلَ بها.لئلا يرتفِعَ قلبُه على إخوته.
ـــــــــــــــــــــــــــــ(1/140)
وعليه الأكثرون، ثم ذكروا فيه وجوها الأول: قال ابن عباس: إنما سمي عيسى عليه السلام مسيحا، لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة، إلا برىء من مرضه الثاني: قال أحمد بن يحيى: سمي مسيحا لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها، ومنه مساحة أقسام الأرض، وعلى هذا المعنى يجوز أن يقال: لعيسى مسيح بالتشديد على المبالغة كما يقال للرجل فسيق وشريب الثالث: أنه كان مسيحا، لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى، فعلى هذه الأقوال: هو فعيل بمعنى: فاعل، كرحيم بمعنى: راحم الرابع: أنه مسح من الأوزار والآثام والخامس: سمي مسيحا لأنه ما كان في قدمه خمص، فكان ممسوح القدمين والسادس: سمي مسيحا لأنه كان ممسوحا بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء، ولا يمسح به غيرهم، ثم قالوا: وهذا الدهن يجوز أن يكون الله تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبيا السابع: سمي مسيحا لأنه مسحه جبريل صلى الله عليه
133
ولئلا يَحيدَ عن الوَصِيَةِ يَمينا وشِمَالا لكي يُطيلَ الأيامَ على مملكتِه هو وبَنُوه في وسط إسرائيل". فمن النص يتبيّن أنّ الملك يجب:
? أن يختارَه الله،لا الشعبُ .
? أن يكون مِن اخوة بني إسرائيل1.
? أن يكون عَالما بالشريعة .
? أن يكون تَقِيًّا،خائفا من الله،حافظا لوصياه .
أما الشّرط ألاّ يُكثّر النِّساءَ و الخيلَ و الذَّهب و الفضة فهو نصٌ زِيدَ لاحقا،وهو نص يتّهم سليمان عليه السلام ، لأنّه في كتابهم كَفَرَ وعَبَد البَعْلِيمَ
ــــــــــــــــــــ
وسلم بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صونا له عن مس الشيطان الثامن: سمي مسيحا لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وعلى هذه الأقوال يكون المسيح، بمعنى: الممسوح، فعيل بمعنى: مفعول. قال أبو عمرو بن العلاء المسيح: الملك. وقال النخعي: المسيح الصديق والله أعلم.(1/141)
قال الزمخشري: " المسيح " لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله مشيحاً بالعبرانية ومعناه المبارك كقوله : " وجعلني مباركاً أينما كنت " مريم : 31 وكذلك " عيسى " معرب من أيشوع .... فإن قلت : لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم وهذه ثلاثة أشياء : الاسم منها عيسى وأما المسيح والابن فلقب وصفة قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز مممن سواه مجموع هذه الثلاثة.
و ورد في تفسير البيضاوي بشأن هذه الآية:" يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم المسيح لقبه وهو من الألقاب المشرفة كالصديق وأصله بالعبرية مشيحا معناه المبارك وعيسى معرب ايشوع واشتقاقهما من المسح لأنهما مسح بالبركة أو بما طهره من الذنوب أو مسح الأرض ولم يقم في موضع أو مسحه جبريل ومن العيس وهو بياض يعلوه حمرة تكلف لا طائل تحته.
1- و هذا الشرط قد توفر في الملك هيرودس الأكبر و بنيه . إذ أنّهم كانوا من سلالة أدومية و لم يكونوا إسرائيليين. و أدوم عيسو هو أخو يعقوب بن إسحاق عليهم السلام. و التوراة تعترف أنّ أهل أدوم و أبناء
.134
والعَشْتَارُوتَ،وزاغ قلبُه لمّا تزوّج نساء كثيرات،وكثّر لنفسه من الفضّة و الذ ّهب. وكلام مثل هذا لا يصحُّ لأنّ داوود عليه السلام كثّر النساء و الخيل و الذهب و الفضة ولم يزغ قلبه،وتقول الترجمة المسكونية :"إنّ تَرَدُّدَ هذا النص فيما يخصُّ المُلك يُبيّن أنّ صاحب النصّ يعرفُ الأخطار التي هدّدت ملوك إسرائيل من قوة وغنى وإستعلاء"1.
لماذا سُمي المَلكُ مَسيحًا ؟(1/142)
سُمّي كذلك في شريعة التوراة لأنّ الله تعالى كان إذا إصطفى عبدا ليكون مَلِكاً على شَعْبِه يوحي إلى نبيٍّ من أنبيائه أنّي قد إصطفيت فلانا ليكون مَلِكًا على شعبي؛فأمسحه بالزيت المقدّس . فيأتي النبيُّ ويدعو الشعب لحضور مراسم المِسْحِ فيُمسحُ.و من ذلك الوقت يُدعى الرّجُلُ الذي مُسِح بالزّيت المقدّس مَسيحا2. و المسحاء كثيرون في إسرائيل .
وهذه المسألة لا تطرح أيّ إشكالية عند اخواننا أهل الكتاب.وأشهر مُسحاء إسرائيل هم شاوول بن كيش البنياميني وقد ورد ذكره في القرآن الكريم بإسم
طالوت . وكان قد أرسل الربّ صموئيل ليمسح شاوول ملكا(1 صم 9/16). فأخذ
ــــــــــــــــــــــ
لوط و بنو إسماعيل إخوةٌ من سلالة واحدة كما أشرنا إليه أعلاه. و هذا حلٌّ ممكنٌ تقترحه التوراة نفسها لحلّ الصراع العربي الإسرائيلي. فالتوراة تقبل أن يتملّك على إسرائيل إسماعيلي أو أدوميٌ أو عمّونيّ ( الأردن حاليا) بإعتبارهم إخوة.
1- 383 TOB P.
2- زيت المسوح ذكر في سفر الخروج 30/23-30."مرّاً قاطرا خمس مئة شاقل وقرفة عطرة نصف ذلك مئتين وخمسين وقصب الذريرة مئتين وخمسين وسليخة خمس مئة بشاقل القدس.ومن زيت الزيتون هينا . وتصنعه دهنا مقدّسا للمسحة "
135
فأخذ صموئيل قارورة الدُهن المقدّس و صَبّ على رأس شاوول وقبّله وقال إنّ الربّ قد مَسَحَكَ قائداً على ميراثه(1 صم 10/1)، ثم مَسَحَ بعدَه داوود النبيّ مَلِكًا على إسرائيل1. و مُسح بعد داوود سليمانُ ومَسَحَاه الكاهنُ صادوق و النبيُّ ناتان2.(1/143)
? وقد ورد هذا المعنى بالذات في القرآن الكريم قال تعالى :" ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم إبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله .قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألاّ تقاتلوا قالوا ومالنا ألاّ نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا . فلما كتب عليهم القتال تولوا إلاّ قليلاً منهم و الله عليم بالظالمين . وقال لهم نبيهم إنّ الله بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يوت سعة من المال . قال إنّ الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم و الجسم و الله يوتي ملكه من يشاء و الله واسع عليم "( البقرة246-247).
? وفي شأن سيدنا داوود قال تعالى:" وقتل داوود جالوت وأتاه الله الملك و
الحكمة وعلّمه مما يشاء" ( البقرة251).
? وقال تعالى:"وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " (ص 19).
? وقال تعالى في شأن داوود أيضا :" ياداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض
فأحكم بين الناس بالحق " (ص26).
وذكر الله تعالى في كتابه أيضا أنه أتى سليمان الملك :" قال ربّ إغفر لي وهب
ــــــــــــ
1-1صم 16/13
2-1 مل 1/34
.136
لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي " (ص35).
? وقال تعالى:"وأتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان"( البقرة 102).
فمن نصوص القرآن يتّضِح أنّ الملك يجب أن يصطفِيه الله تعالى بدليل قوله :"
إن الله بعثَ لكم طالوت ملكا " .ولمّا إحتجّ بنو إسرائيل على نبيهم قال :" إنّ(1/144)
الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم و الجسم " .ويجب أن يكون صحيح الجسم ليضطلع بمهام الملك ، وعالما بشريعة الله ليحكم بالعدل و الإنصاف .إذن فمن مقابلة نصوص التوراة و القرءان نجد أن المسيح هو الملك .و يؤيّدُ ما استخلصناه أيضا مقابلة نصّي الإنجيل و القرآن الكريم في صدد ذكره لنهاية النبيّ عيسى على الأرض .قال تعالى حاكيا عن بني إسرائيل :" وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله "وقد كان مكتوباً على خشبة الصليب :" يسوع الناصري ملك اليهود " . وشهاداتٌ كثيرةٌ ومستفيضةٌ في الإنجيل تؤكّد أنّ المسيح هو الملك .
إذن نخلُصُ للقول أنّ المسيح عَرَضٌ وجَوهَرٌ . فأمّا العرض فهو عملية الِمسْحِ بالزيت المقدّس وقد نُسِخَت من شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو السرّ الذي لأجله لم يذكر الله تعالى أنّ طالوت و داوود وسليمان كانوا مسحاء.و هو جوهرٌ وهو الملك و الحاكم بما انزل الله ، و هذا ما ذكره القرآن وأكّده في شأن طالوت و داوود وسليمان .
لكن الذي يلفت إنتباهنا في القرآن الكريم هو أنّه أكّد أنّ طالوت ملكٌ، إصطفاه الله ولم يذكر أنّ داوود وسليمان إصطفاهما الله للملك .فنقول وبالله التوفيق
.137
،يدل كلام القرآن الكريم على أنّ طالوت لم يكن نبيا ولهذا إحتاج للاصطفاء من الله لهذه المُهمّة أماّ داوود وسليمان فأصطفيا من جهة كونهما نبييّن . قال تعالى
:" الله يصطفي من الملائكة رُسُلا ومن النّاس"(الحج75).
هل كان سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ملكاً؟(1/145)
لم يثبت في سُنّته أنّه قال أنّه ملكٌ لكنّه كان واعيا أنّه ليس نبيًّا فحسب بل أيضا حاكما بالمفهوم السياسي للكلمة. وهذا ما يفرّق جوهريا بينه وبين الأنبياء الذين سبقوه. وكم من مرّة أكّد على هذا الجانب من رسالته بقوله:"انّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". و الذين عاصروه أيقنوا أنّه كان يتمتّع بكلّ صلاحيات الملك. و أوّل من اعترف بذلك هو عروة بن مسعود الثقفي و كان يومئذ مشركا بعثته قريش ليتجسّس على جيش المسلمين فعاد و قال : و الله لقد أتيت كسرى في ملكه وقيصر و ما رأيت مَلِكًا أحبّ الى شعبه من محمد في قومه. وقال هرقل لأبي سفيان:"ان صدقتموني فانّ مُلكَ صاحبِكُم سيصل الى ما تحت
رجلي".و تجلّت سلطته التنفيذية بتعييّن القضاة) معاذ بن جبل الى اليمن ( ،و قادة الجيش)عقد الألوية لجعفر بن أبي طالب و خالد بن الوليد(، و أرسل السفراء الى كسرى و المقوقس و هرقل. و عيّن الولاة و الجباة و قسّم الفيء و عقد الصلح و المعاهدات الدولية )معاهدة صلح الحديبية ومع يوحنا صاحب دمشق(.و أعلن الحرب و أعلن السلم وأصدر العفو. و كان حكمه غير قابل للنقض وهكذا فهم عمر رضي الله عنه لمّا استلّ سيفه و أراد ضرب عنق منافق لم يرض بحكم رسول الله. و بهذا كان يمثّل ما تمثّله اليوم المحكمة العليا. أمّا المال و بهارج الدنيا فقد رفضها و جبل أحُدٍ من ذهب.
138(1/146)
و قد جُمعت له السلطات الثلاثة: التشريعية و القضائية و التنفيذية .وأسّس مملكة فوق الأعراق و الشعوب و اللّغات و التاريخ و الجغرافيا .فقد توحّد في مملكته العربي و العبراني والآشوري والآرامي و الكنعاني و الفلسطيني و العمّوني و الموآبي و العيلامي و البابلي و القبطي و الأمازيغي و المديني و الأدومي و الحبشي و الطوراني لايجمعهم عرق ولا لغة ولا تاريخ ولاجغرافيا ؛ وحدّهم حبّ الله ورسوله وجهاد في سبيله . ولانعلم في التاريخ ملكا أحبّه شعبه وإفتداه بالأباء و الأبناء والأزواج و العشيرة و الأموال و الأرواح مثلما أحبّ شعب سيد الخلق نبيّه ولازال يحتملُ أن يُعلّق على أعواد المشانق حبّا فيه ... ملكٌ أعطَته الأمم الجزية وهي صاغرة ، وقاد العمي في طريق لم يعرفوه ،وأباد ممالك الشيطان .ووُحّدَ في زمانه الربّ؛ وإستحيى المنافق بنفاقه و الكافر بكفره .
و العبرة بالواقع ليس بالأقوال فان كنت أخي تتّفق معي على التعريف التالي: انّ الملك هو كلّ رجل يؤسّس أمّة على رُقعة من الأرض تتميّز بالوحدة
السياسية و تحكمها نفس القوانين و تدين بالولاء و السمع والطاعة لمؤسّسها
الذي يستطيع اتخاذ قرارات و ينفّذها فانّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مَلِكًا يستمدّ سلطانه من الله تعالى. و لقد كان يتمتّع بكلّ صلاحيات الملوك و رؤساء الجمهورية كما هي في دساتير العالم. وقد شهد له القرآن أنّ الله أتاه الكتاب و الحكم و النبوة .
? قال تعالى :" ما كان لبشر أن يوتيه الله الكتاب و الحكم و النبوءة ثم يقول
للناس كونوا عبادا لي من دون الله " (آل عمران79) .
? قال تعالى : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك
139
الله ولا تكن للخائنين خصيما "( النساء 105).
? وقال تعالى :" فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا(1/147)
يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"(النساء65). فهذه الآيات القرآنية و السنة النبوية تبيّن أنّ سيد الخلق كان نبيًا ملكًا. لكن لماذا لم يسمّ نفسه المسيح ؟ نجيب عن هذا السؤال بسؤال آخر .لماذا لم يسمّ القرآن الكريم طالوت وداوود وسليمان مسحاء ؟ و نجيب لأنّ المِسْحَ و المُسُوح وزيت المسوح نُسخَت من شريعته وبقي الجوهر .
هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنّه المسيح؟
لا أعتقد بوجود مسلم جادّ لا يسأل هذا السؤال بعد قراءة هذا الكتاب . و هو سؤال وجيه. و نجيب عنه بالايجاب، نعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم في الجوهر أنّه المسيح. لأنّه سمّى نفسه ب" المختار" وهي كلمة مرادفة لكلمة "المسيح".
حيث وردت في الأسفار المقدسة بهذا المعنى:
أولا-" فان قلت أجعل عليّ ملكا كجميع الأمم الذين من حولي.فإنّك تجعلُ عليك ملكا الذي يختاره الربّ الاهك" )تث17/15(.وهذا النصّ الرئيسي الذي على أساسه انتظر بنو اسرائيل المسيح.
ثانيا- قال اليهود للمصلوب على سبيل النِكَايَةِ و التَشَّفي و هم أعلم بالتوراة "ان كنت أنت المسيح مختار الله فأنزل عن الصليب") لو23/35(.
ثالثا- ورد في نص أشعيا المبشر بالمسيح:" هوذا عبدي الذي أعضُدُه مختاري الذي سُرَّتْ به نفسي")42/1(.
140
رابعا- ورد في سفر أخانوخ أنّه من بين أسماء المسيح المختار. أنظر الترجمة المسكونية)أنظر TOB p2529 note a.(1.
خامسا- ورد في القاموس اللاهوتي الذي أعدّه إيتيان شاربونتييه ما يلي :"المسيح لقبٌ ( و يعني الذي إختارَه الله) أُعطِي للمُخلّص الذي تنبّأت به أسفار العهد القديم. و هي كلمةٌ عبرانية تعني بالضبط ما تعنيه الكلمة "كريستوس"في اللغة اليونانية". و إليكم النصّ بأمانة في نُسخته الفرنسية و التي توضّح أنّ المسيح وظيفة و ليس اسما كما يعتقد عامّة النّاس2.
بنو إسرائيل كانوا ينتظرون من الثلاثة أنبياء مسيحين(1/148)
فلعلّك قد فهمت أخي القارئ أنّ المسيح هو سيّد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - . فلماذا إذن
سمّى الله عزّ و جلّ عبده عيسى مسيحا؟ و نجيب لأنّه سيعود في مجيئه الثاني بصفته مسيحا يعني حاكما بشريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - . إذن فهما مسيحان ! فهل كان بنو إسرائيل ينتظرون مسيحا واحدا أم مسيحين ؟
لقد ثبت من نبوات الأنبياء و التلمود و وثائق قُمْرَان ومن تعاليم الأحبار و أبحاث الباحثين و أدبيات إسرائيل، و هذا من طرق متواترة و مستفضية أنّ إسرائيل كان ينتظر مسيحين:المسيح الرئيس و المسيح التّابع له.
______________
1- "Ce titre ( L'Elu) est aussi un des noms du Messie dans les paraboles d'Hénoch." Voir TOB p 2529 note a.
2-"Le Messie: Titre ( signifiant " oint" ,c'est à dire choisi par Dieu) donné au sauveur dont la venue avait été annoncée par les prophètes de l'Ancien Testament. Le mot Messie vient de l'hébreu et a le meme sens que le mot Christ qui vient du Grec."Le Nouveau Testament illustré en Français courant p 610. Alliance Biblique universelle.
.141(1/149)
و إعتقدت جماعة الأسينيين1 أنّ المسيح العظيم سيكون من نسل هارون و الثاني من نسل داوود. و ربّما وقعت الجماعة في خطأ في التأويل ذلك لأنّ المسيح حسب المزمور 110 سيكون نبيّا ملكا و كاهنا على درجة ملكي صادق. و معروفٌ عند بني إسرائيل أنّ الكاهن يجب أن ينحدر نسبه من هارون، و هذا، أعتقد سبب تأويلهم أنّ المسيح الأوّل سيكون من ذرية هارون. لقد تنبأ أوّلا النبيّ زكرياء بن برخيا، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، بمسيحين . قال حاكيا رؤيته التي رآها :" و الملاكُ الذي كَلَّمَني رَجعَ و أَيْقَظَني كَمَا يُوقَظُ رَجُلٌ مِنْ نَوْمِهِ .و قال لي ماذا تَرَى؟ فأجبتُ:"رأيتُ شَمْعَدانٌ كُلّه مِن ذَ هَبٍ، مُزَوّدٌ بخَزَّانٍ على رأسِه و على رأسِ الخَزَّانِ سبعَةُ سُرُجٍ وسبعَة مَسَاكِبَ لِلسُرُجِ و بِجَانِبِه زَيتونَتَان إحدَاهُما عن اليمين والثانية عن الشِمَال . فأَعَدْتُ و سألتُ المَلاَكَ الذي كَلّمَني:"ماذَا تمُثِّلُ هذه ياسيدي ".الملاكُ الذي كَلَّمَني أجَابني:"ألاَ تعلَمُ ماذا تمثِّلُ هَذه؟ فقلتُ:"لا ! يا سيّدي" فأجابني قائلا:"هذه السرُجُ السَبع ُتمثِّلُ أعْيُنُ الرَبِّ التي تُراقِبُ الأرضَ كلّها". فأعَدْتُ وسألتُ :"ماذَا تمُثِّلُ هَاتان الزيتونَتَان عن يمين و شمال الشَمعدانِ؟".أعدْتُ وسألتُ:"ماذا يمثِّلُ غُصْنَا الزيتونة هذان اللذان يَسْكُبَان زيتَهُما الذّهَبي في قَنَاتَيْنِ من ذهبٍ " قال لي :"ألا تَعْلَمْ ماذَا يُمَثِّلان؟"قلتُ:لا! يا سيّدي" فَقَال لي:"هُمَا الرَّجُلان المَفْرُوزَانِ للزَيتِ"2(زكا4/1-14).
ــــــــــــــــــ
1- الأسينيين جماعة من متصوفة اليهود عاشت قبل الميلاد قريبا من البحر الميّت.و بخصوص المزمور
110 أنظر ص 188.
2- رجلٌ مفروزٌ للزيت، يعني مسيح. رجلان مفروزان للزيت يعني أنّ النبيّ زكريا يتنبأ بمسيحين.
142(1/150)
ويوجد في نص هذهّ البشارة نصّ يخصّ زربابل حذفته الترجمة المسكونية و وضعته في ذيل البشارة لأنّه يقطع الرؤيا الخاصة بالشمعدان1.والترجمات العربية تدمج نص زربابل في البشارة وتوحي بأنّه هو المبشّر به.ولم يكن زربابل ملكا ولا عمل أيّ شيء يستحقّ ذكره، إنّما هما المسيحان المؤيّدان بسلطان الله تعالى:النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - و يأتي بعده الملك عيسى بن مريم عليه الصلاة و السلام. و ينقل ويليام كامبل في كتابه عن يهودي تنصّر قوله:"ليس عجيبا أنّ جمعا من العلماء السابقين أعلنوا في تلمود اليهود مجيء مسيحين ".ويعلّق هذا اليهودي على المسيحين الموعودين بقوله:أحدهما يكون ملكا من نسل داوود ولهذا سمّي المسيح بن داوود؛و الثاني يكون متألّما من نسل يوسف.ويقترح ويليام كامبل رأيا آخر فقال: " فهو المسيح يسوع في مرحلتين من حياته،لكن يتوهّم البعض في مجيء مسيحين. ففي حياته الأولى تألّم حسب نبوة أشعيا و في حياته الثانية سيكون ملكا مؤسّسا لمملكة الله2.و هذه التفسيرات و التأويلات باطلة.إذ لايوجد مسيح من نسل يوسف. و كتب الأنبياء واضحة في هذا الشأن. فالأنبياء تنبّأوا بالمسيح الذي يبعث من بلاد العرب و الذي تتبارك في نسله قبائل الأرض، كما تنبّأوا بمسيح آخر من ذرية داوود3 الذي يخرج من بيت لحم اليهودية(ميخا 5/1)،و هو عيسى بن مريم عليه السلام.
ـــــــــــــــــ
1-TOBp1245
2-Le Coran et la Bible à la lumière de l’histoire et de la science p 288.
3-عيسى عليه السلام من نسل داوود ، لم تتلعثم أسفار الإنجيل مطلقا في هذا .ويوجد عشرون شهادة على انه من نسل داوود في الإنجيل . أنظر النصوص التالية:متى1/1؛ 9/27؛ 12/23؛ 15/22؛ 20/30؛20/31؛ 21/9؛ 21/15. أنظر ايضا مر10/47؛ 10/48؛ 11/10.
143(1/151)
ولقد وصلنا من آثار بني اسرائيل خبران يبدوان متناقضين: الأول كانوا ينتظرون النبي المهيء للطريق، و الياس و المسيح، و الثاني: مسيحان ونبي. و لا يوجد تناقض بينهما ان شاء الله. فأحد الثلاثة جاء في حياته الأولى نبيا مُرسلا تسري فيه قُوّةُ و رُوح الياس و في حياته الثانية سيعود بصفته مسيحا لا رسولا. و لقد كشفت الحفريات كنزًا ثمينا يتمثّل في دُرُجٍ فيها نصوص من الكتاب المقدّس في مغارة قمران سُمّيت فيما بعد بوثائق البحر الميت.
ــــــــــــــــــــ
و أنظر أيضا لو 1/32؛ 1/69؛ 3/32؛ 18/38؛18/39. أنظر سفر الأعمال 2/30؛ 13/23. أنظر الرسالة إلى أهل رومية 1/3؛ الرسالة إلى العبرانيين 7/14. إلا أنّ أصدق شهادة في كون عيسى عليه السلام من ذرية داوود هي شهادتا المرأة الفنيقية(متى15/22) و أعمى أريحا( مر10/48؛متى20/29-34). ذلك لأنّه لا يمكن للرواية أن تكون ملفّقة و يستحيل أن نفترض مبدئيا الكذب من رجل مؤمنٍ و هو واعٍ أنّه يكذب ليثبت أنّ يسوع من ذرية داوود. و لو فرضنا جدلاً أنّ كاتب الإنجيل كاذبٌ فلا معنى لكذبه إن جعل هذا الإعتراف على لسان إمرأة أجنبية ضعيفة مثل المرأة الكنعانية. فإنّ الكذبَ ،في رأينا، يخضع لقانون الكلّ أو اللاشيء. بمعنى آخر فالكاذب إمّا أن يكذب كذبة توصله إلى هدفه أو لا يكذب مطلقا. و من جهة أخرى فإن كاتب الإنجيل كان يركز في روايته على معجزات يسوع . و هذه الشهادات غير المباشرة أقوى عندنا من شهادة لوقا أو متى حين يكتبان شجرة نسب يسوع ؛ ففي هذا الموقف هما مدركان لحقيقةٍ يريدا أن يثبتاها و هي إنحدار نسب يسوع من داوود. و رغم خلافهما الكبير في شجرة النسب إلا أنّهما متّفقان على أنّه يتصل نسبه بداوود عليه السلام.
وزواج يوسف النجار من السيدة مريم عليه السلام ونزولهما إلى بيت لحم اليهودية للإحصاء( أنظر لو2/1-6) دليل آخر على أنه من نسل داوود ... لأن السلطات الرومانية طلبت من بني إسرائيل أن(1/152)
يسجل كل واحد في قبيلته و عشيرتة و بيت لحم ميراث لأهل يهودا الذين خرج منهم النبي داوود عليه السلام . و المرأة في إسرائيل كانت تتزوج من سبطها و هذه أيضاً حجة أخرى مدعمة . لأن يوسف النجار من آل داوود . أما إحتجاج بعض الناس أن عيسى عليه السلام كان من نسل هارون بدليل أنّ الناس قالوا لسيدة مريم : " يا أخت هارون " فهو احتجاج ضعيف. فلقد قيل لها هكذا من قبيل
144
و لقد تمّ إكتشافها من قبل أعرابي سنة 1948 و يعود تاريخها إلى ما بين القرنين الأول و الثالث قبل الميلاد،و كانت تُمثّل مرجعا دينيا لجماعات من متصوّفة اليهود عُرِفوا بإسم الأسينيين.و كانت هذه الجماعات المؤمنة تنتظر مسيحين1.
أسئلة هامّة
هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنّه المسيح ؟
كلمةُ المسيح عبرانية تُرادفها في اللغة العربية المصطفى أو المختار.و لا يخفى على مسلمٍ أنّ رسول الله إسمه المختار أو المصطفى. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - بالإضافة إلى ذلك واعيًا أنّه خاتم الأنبياء و امام المرسلين، وكان يعلم أنّه أول الأنبياء خلقا و آخرهم بعثا، وأوّل من تنشقّ عنه الأرض و أول شافع ومشفّع و حامل لواء الحمد. و أنّه سيّد ولد آدم، و أنّه نبيٌّ لأهل الكتاب و الأميين على حدّ سواء. كما كان يعلم أنّ شريعته ناسخةٌ لمن قبلها من الشرائع، و أنّه تتحول في زمانه القبلة من بيت المقدس الى قبلة ابراهيم عليه السلام،و أنّه النبي الذي يتشرّف و
ــــــــــــــــــــــــــــ
التيمن، لأنه من قبيل الصدفة كان إسمها مريم و أبوها عمران و كانت تقية ناذرة نفسها لخدمة بيت الله .فشبهوها بمريم الصديقة بنت عمران أخت هارون و موسى عليهما السلام. كما يقول أحدنا لرجل غيور على دينيه و وطنه اسمه طارق يا طارق بن زياد من قبيل التيمن و التبرك .(1/153)
1-TOB p 2539:" Le role de Jésus est bien différent de celui du Maitre de justice ou des deux messies de la secte( de Qumran). . Voir encore Introduction à la Bible (Robert& Feuillet) pp44;123: "La théologie des écrits de Qumran est essentiellement la théologie de la Bible ... attachement au calendrier traditionnel jusqu'à bouder les cérémonies du temple parce qu'elles sont régleés par un nouveau calendrier; attente d'un Messie issue d'Aaron à coté du Messie davidique, pour respecter la prééminence du sacerdoce.".
145
أمّته بتحرير الأرض المقدسة، ويَذِّلُ في زمانه الشِرْكُ و يُزهِرُ التوحيد. وهذه كلّها صفات المسيح كما وردت في الأسفار المقدسة.أما من حيث الجوهر فقد كان - صلى الله عليه وسلم - بالاضافة الى أنّه نبي-حاكما بالمفهوم السيّاسي للكلمة مؤسسا لمملكة الله على الأرض.
لماذا لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال أنّه المسيح؟
بإيجاز كلمة " المسيح" ليست عربية،و لم ترد في القرآن الكريم بمفهومها المتعارف عليه في الكتاب المقدّس، إنّما وردت كإسم شخصي لعيسى عليه السلام. فلو فرضنا أنّ رجلا فرنسيا إلتقى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - و سأله بلغته قائلا:
Es tu le prophète annoncé dans la Bible , par les saints prophètes de Dieu?
فإنّنا نتوقع منه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لا أفهم ما يقول هذا الرّجل،ترجموا لي ما يقول. ثم لمّا نترجم له فسنتوقع أن يقول نعم أنا هو!. نفس الشيء لو ترجمنا له كلمة المسيح أنّها تعني المختار أو المصطفى سيزول الإشكال. و قد قال تعالى :"وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبيّن لهم" )ابراهيم4(.(1/154)
فالاشكال اصطلاحي فقط . ولا يخفى على أحد أنّه كثيرا ما تختلف التسميات، في نفس الأمّة، و يبقى المسمى واحد. فكيف بأمم تختلف عن بعضها في اللغة و التاريخ و التشريع.و إنّنا دوما نضربُ أمثلة عن هذا الاختلاف بالاسماء المختلفة للمنتخب على رأس البلدية في الوطن العربي فاسمه في البلاد المغاربية "مير" و اسمه في مصر"عمدة" وفي بلاد الشام اسمه "المختار" و قد يكون اسمه في تركيا "باشا" .
146
لماذا لم يكتشف المسلمون أنّ رسول الله هو المسيح من قبل؟
لم يكتشف المسلم هذا الأمر من قبل لأن لديه ثلاث مُعيقات هي:
أولا- لأنّ المسلمين لم يعرفوا أبدا معنى كلمة المسيح .و لايوجد مفسّر أو محدّث نجح في ايجاد تفسير مُقنع لها،رغم أنهم حاولوا ذلك مرارا، و لم يبدأ المسلمون في معرفة مدلولها إلا في القرن العشرين1. و لم ترد الكلمة في القرآن بمعناها الأصلي الذي تعارفت عليه أسفار الكتاب المقدّس بل وردت كاسم علم.
ثانيا-عُزُوف عامّة المسلمين عن دراسة الكتاب المقدّس لأنهم يرون أنّ كلّ اصحاح
و عدد وحرف محرّف،ذلك لأنّه ثبت لديهم من القرآن أنّه على الأقلّ بعض نصوصه محرّفة. فانتهوا الى الاجراء التحفظي لا الحكم النهائي:انّ كلّ نصّ في الكتاب المقدّس مُحرّف حتى يثبُتَ العكس2.
ثالثا- لم تكن دراسة الكتاب المقدس ميسّرة قبل القرن التاسع عشر3.ذلك لأنّه لم
ـــــــــــــــــــ(1/155)
1- مجمع البحوث و الدّراسات الإسلامية بالأزهر الشريف إعترض على الفكرة هذه بقوله:"و لا شكّ أنّ هذا الكلام غير صحيح، فالمسلمون على مدار التاريخ قد عرفوا معنى هذه الكلمة قبله، و عليه أن يراجع كتب الأديان و المذاهب". و لا شكّ أنّهم على صواب و أنا الذي أخطأت. لكن على كلّ حال لم يكن الرأي القائل بأنّ المسيح هو الملك إلا شاذّا و هامشيا. فسبع تفاسير من أمّهات التفسير لدى المسلمين لم يقل بهذا القول أحد غير فخر الدّين الرّازي ناقلا رأي عمرو بن العلاء ( لمزيد من الوضوح أنظر أراء المفسّرين في الصفحات 130- 133).
2- إعترض الأزهر الشريف على هذا القول كما يلي:" لا شكّ أنّ هذا الكلام غير صحيح أيضا، لأنّ علماء الإسلام قد درسوا الكتاب المقدّس قبله، و بيّنوا ما فيه من تحريف و ما فيه من حقّ، و خير دليل على ذلك كتابات الإمام ابن حزم الأندلسي و القرطبي و الشهرستاني، و رحمة الله الهندي...و غيرهم كثير". و الحقّ كما قال الأزهر لكنّ عامّة المسلمين لا يفهمون ما فهمه العلماء.
3- إعترض مجمع البحوث و الدّراسات الإسلامية بالأزهر الشريف على هذه الفكرة بقوله:" إنّ هذا
147
تتوفّر لدى علماء أهل الكتاب الارادة في نقد الوحي الاهي من جهة و من جهة
أخرى لم تكن الدراسات الأثرية و التاريخية التي من شأنها أن تلقي الضوء على أحداث الكتاب المقدّس الا في مرحلة جنينية .و أهم علم في الكتاب المقدّس
الذي من دونه لن يستطيع الباحث أن يخوض غمار هذا البحر هو علم المتشابهات (Les synopses).(1/156)
ففي الترجمات العظيمة للكتاب المقدّس مثل الترجمة المسكونية أو ترجمة أورشليم سيجد الباحث مبتغاه، لأنّه بجانب كل نص ستجد الاشارة الى النصوص الموازية له في كلّ الأسفار . و بمعرفة الترتيب التاريخي لكتبة الأسفار المقدّسة ستعرف ما زيد و ما نقص و ما عُدّل. ولو لم يقم بهذا العمل الجبّار علماء الكتاب المقدّس خلال قرن و نصف من الزمان ما يستطيع أحدُنا أن يتصوّر مسلما يهدر طاقات هائلة في دراسة كُتُب يؤمنُ سلفا أنّها مُحرّفة.
هل القول بأن رسول الله هو المسيح عقيدة جديدة؟
لا يوجد شيء جديدٌ في هذا القول الا الشكل.و المسلم يؤمن بأنّ رسول الله تحقّقت
فيه كلّ الصفات التي ذكرناها آنفا و هي الصفات التي يختزلها أهل الكتاب في كلمة" المسيح".
هل كان أهل الكتاب الذين أسلموا واعين بهذه الحقيقة؟
ــــــــــــــــــــــــ
الكلام غير صحيح أيضا، فقد كانت دراسة الكتاب المقدّس ميسّرة قبل القرن التاسع عشر، و خير دليل
على ذلك المجادلات التي كانت بين أهل الكتاب و المسلمين". و لا ريب أنّ هذا الكلام صحيحٌ غير أنّي لم أقصد ذلك. إنّما قصدتُ علم المتشابهات في الكتاب المقدّس الذي ساهم بقسط كبير في تسهيل الدّراسة. و معلوم أنّ هذا العلم لا زال حبره لم يجفّ بعد و ذلك لحداثته.
.148
أجيب بنعم.لأنّ عبد الله بن سلام و كعب الأحبار رضي الله عنهما- وكانا حبرين عظيمين من أحبار بني اسرائيل-قد استدلاّ على صدق الدعوى المحمدية بالأصحاح 42 من نبوة أشعياء. حيث روى الامام البخاري في أحاديث مرفوعة الى
كعب الأحبار:" محمد عبدي المختار لابفظ و لاغليظ ولا صخّاب في الأسواق و لايجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو و يغفر، مولده مكة ومهاجره المدينة و ملكه بالشام" والرواية المأثورة عن عبد الله بن سلام هي :"يأيها النبي انا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا و حرزا للأميين. أنت عبدي و رسولي سميتك المتوكل،(1/157)
ليس بفظ و لا غليظ و لا صخّاب في الأسواق، و لا يجزي السيئة بالسيئة و لكن يعفو و يصفح و لن أقبضه حتى أقيم الملة العوجاء بأن يقولوا لا اله الا الله.فيفتح أعينا عمياء وآذانا صماء وقلوبا غلفا". طبعا هذه ترجمات شخصية من الحبرين لنص أشعيا المذكور سابقا. إذ أنّ الكتاب المقدس لم يترجم الى العربية الا في القرن الثامن الميلادي .و للأمانة لا يوجد ذكرٌ صريحٌ في النُبُوّة لِمكّة أو المدينة و الشام ،إنّما ذُكرَ شعبُ قيدار وهو شعب اسماعيل عليه السلام و ذُكِرت جزيرة العرب و حُدّدت معالمُها في ثلاث نقاط:أقاصي الأرض، و هي اليمن كما هو جليُ في مفهوم النبيّ عيسى عليه السلام لمّا ذكر ملكة الجنوب، و القرى التي يسكنها قيدار ) بنو اسماعيل ( و هي وسط الجزيرة مكّة و يثرب، و سكان الصخرة و هي بترا شمال الجزيرة العربية و كان يسكنها الغساسنة . فيجب ألا نغفل أنّ رواية الحبرين رضي الله عنهما لنبوة أشعيا كانت تعكس إيمانهما بالعقيدة الجديدة زد على ذلك متطلّبات التواصل و التبسيط الملحّة لديهما لأنّهما كانا يكلّمان أمّة أميّةً لا علم لها بالأسفار المقدّسة.
.149
ولايوجد يهودي واحدٌ و لانصراني في كلّ زمان و مكان لا يعترف أنّ هذا الأصحاح مبشّرٌ بالمسيح.
كيف نطمئن نحن كمسلمين لقول مثل هذا ولم يرد في الكتاب و السنة؟
أولا يستحيل عقلا أن تكون البشارة بسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - في القرآن أو السُنّة.لأنّ
البشارة تقتضي أن تسبق المبشّر به، و يجب أن تكون شهادةً مستقلّةً عن القرآن تمام الاستقلال حتى تكون محلّ ثقة من طرف أهل الكتاب. و لو افترضنا أنّ القرآن أشار بوضوح الى النصوص المبشرّة بخاتم الأنبياء و إمام المرسلين في الكتاب المقدّس لفَقَدَتْ مصداقيتها منذ الوهلة الأولى في نظر أهل الكتاب.وسيقولون هذا الرجل عليم بالكتاب المقدّس، و ليس هو أول و لا آخر من ادعى هذه الدعوى.(1/158)
و أمّا الدليل النقلي فلا يوجد نصّ في القرآن أو السنة تكلّم عن خبر البشارة الا و اقترن بذكر علماء أهل الكتاب مما يدلّ على أنّ الاحاطة بالبشارة و المبشّر به يقتضي العلم الراسخ في الكتاب المقدس.قال تعالى:"و يقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب".و قال:"الذين
آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم". فالعلم الوحيد الذي لا يؤخذ من الكتاب و السنّة هو علم البشارات.
هل يصح الاستدلال بنصوص الكتاب المقدس؟
يرى عموم المسلمين أنّ كل سطر و كلمة و حرف في الكتاب المقدّس محرّف.و هذا أمر خاطىء يكذّبه القرآن و السنّة. ويقف القرآن الكريم ازاء نصوص الكتاب المقدّس ثلاثة مواقف:
.
150
الموقف الأول: ماكذّبه القرآن صراحة أو ضمنا. مثل تكذيب ألوهية عيسى عليه
السلام، وبُنُوته لله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، و صلبه.وتكذيب أنّ الله مَسّه نصَبٌ لمّا خلق السماوات و الأرض، و انّ سليمان عليه السلام كفر.و واجبنا أن نكذّب بما كذّبه الله و رسوله.
الموقف الثاني:ما سَكَت عنه القرآن وهو كثير. وأعتقد أنّه لا حرج على من صَدَّقَه
و لا اثم على مَنْ كَذَّبَه.مثل التفاصيل الجغرافية و التاريخية و السير الذاتية التي وردت في الكتاب المقدّس.كالقول أنّ الأرض المقدسة هي فلسطين، و أنّ البحر الذي غرق فيه فرعون هو البحر الأحمر، وأنّ فتى موسى عليه السلام هو يوشع، و أنّ الذي نَصّبَ طالوت ملكا هو النبي صموئيل ألخ ...
الموقف الثالث:ما صدّقه القرآن اما صراحة أو ضمنا.و أعتقد أنّه يَكفر من كذّب بما صدّق عليه الله و رسوله. و الواجب الايمان و التسليم به.كنزول النار من السماء لتأكل القرابين التي يتقبّلها الله.أو ثبوت البشارة بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة و الانجيل و زبر الأولين.(1/159)
وعلى هذا الأساس فاننا نصدّق ما صدّقه الله و رسوله، ونكذّب ما كذّبه الله و رسوله ونجتهد في المسكوت عنه.و الاستدلال بنصوص الكتاب المقدس لاقامة الحجّة على اليهود و النصارى قضية تقتضيها عدالة الله و قوّته.فلن تستطيع أن تقيم حجّة على الكتابي الا بالكتاب الذي يؤمن به. وقد تخاصم سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود و تنزّل الوحي الإلهي من فوق سبع سموات ليبكّت اليهود بنصّ التوراة.قال تعالى:"قل فاتوا بالتوراة فاتلوها ان كنتم صادقين"(آل عمران93).
ما الدليل النقلي و العقلي أنّ البشارة بسيد الخلق سلمت من التحريف؟
151
الدليل هو نصوص الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.فلقد خاطب الله تعالى بني اسرائيل و النصارى زمن نزول القرآن على سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - و لم يقل مرة واحدة أنّهم حرّفوا صفاته. و معلوم أنّ هذا الخطاب كان بعد ألفين و مئة سنة من نزول التوراة و ما يقارب من ست مئة سنة من نزول الانجيل.و هذا اقرار من الله تعالى أنّ التوراة و الانجيل زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانا لا يزالا صالحين للبشارة.و قد يقول قائل لعلّ الله تعالى يقصد توراة و انجيلا كانا موجودين زمان بعثة خاتم الأنبياء لكنهما ضاعا اليوم. و أجيب لا أحد يستطيع اثبات ذلك. فالتوراة و الانجيل عند عامّة الناس زمن سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - هما الموجودان في زماننا اليوم. ولقد وصلتنا الترجمة السبعينية منذ القرن الثالث قبل الميلاد والفولغاظة للقديس ايرونيمس في القرن الرابع بعد الميلاد و لايختلفان عن نصوص الترجمات الأخرى الموجودة حاليا الا في زيادة بعض الأسفار أو بعض الكلمات أو الحروف أو تصريف بعض الأفعال .(1/160)
أما الدليل العقلي فهو يستحيل مطلقا أن يُحرّف اليهود و النصارى البشارة بسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - لسبب جدّ بسيط هو اعتقادهم أنّ النبي العظيم)أي المسيح( سيكون من نسل داوود وهو ما كذّبه عيسى عليه السلام تكذيبا قاطعا. و كلّ ما فعل النصارى هو اسقاط النصوص المبشّرة بالمسيح على عيسى عليه السلام وهو بريء من هذا الكلام .
أين هي حجّة الله تعالى على اليهود و النصارى اذا كان هذا الاكتشاف لم يتم الا اليوم؟
.152
القرآن الكريم يفرّق بين مسؤولية العلماء و العوام. فالعوام من اليهود و النصارى
معذورون، أما العلماء فلا عذر لهم. لقوله تعالى:" ومنهم أميون لايعلمون الكتاب الا أماني و إن هم إلا يظنّون فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا"( البقرة78) .فالعلماء يعرفون يقينا أن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو المسيح.قال تعالى :" وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به"(البقرة89).
فإن كنت من المنكرين، أنت يا مسلم، أنّ رسول الله هو المسيح فأنت ملزمٌ بإخبارنا من هو في الكتاب المقدّس؟(1/161)
فإن أجبت أنّه غير موجود مطلقا فأنت أحد الأربعة الذين ذكرناهم في المقدّمة:إمّا قائلا بكذب الله أو بعجزه أو ضعف حجّته أو جهله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. و واحدة منها تخرجك من الملّة. و إن قلت لا ألج هذا الأمر و لا أسأل عنه فأنت هاربٌ من مواجهة التحدّي الذي يطرحه أهل الكتاب. و ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجبٌ، و العرفُ الذي جرى و يجري بين النّاس أنّ الحجّة لا تُنقضُ إلا بحجّة مثلها أو أقوى منها. و الأولى بك ألا تعترض علينا لأنّك إعترفت بجهلك و عجزك. فإن قلت أنّ رسول الله ليس المسيح إنّما هو النبيّ الذي أشارت إليه التوراة في سفر التثنية 15/18؛18/18 و نبوة أشعيا 42 فنجيبك هذا ما يسمّيه بالإجماع أهل الكتاب بالمسيح، و قد إعترفت ضمنا أنّ المشكل اصطلاحي لغوي . و إن كنت محتارا فنقول لك لا تشغل نفسك كثيرا فالإشكال إصطلاحي لا غير. و لحلّ هذا الإشكال إنّي أدعوك لمقارنة معنى كلمة
.
153
كاهن في القرآن و الكتاب المقدّس فسترى بنفسك أنّ الكلمة يتحوّر معناها تحوّرا
جذريا من أمّة إلى أمّة بل من مصر لآخر بل و من عصر لآخر.
هل يصعب عليك أن تعترف أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المسيح؟ فإن قلت نعم ، نقول لك أنّ جمهور المسلمين قبلوا بمثل هذا،قبلوا أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو البارقليطس و على رأسهم إبن هشام صاحب السيرة الشهيرة. و لم يثبت من سنّة رسول الله و لا من صحابته أنّه سمّى نفسه بذلك. و اعلم أنّ الإجتهاد و القياس مصدر من مصادر التشريع في الإسلام.
صفات النبي المسيح
لقد قرّر القرءان الكريم أنّ أهل الكتاب يعرفون سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبنائهم .وها إنّي أقترح عليك صفاته عليه الصلاة والسلام في التوراة والأنبياء والمزامير والإنجيل والتلمود .
1-شريعته ناسخة لشريعة التوراة(1/162)
شهد الله تعالى في كتابه العزيز أنّ أهل الكتاب يعرفون أنّ القرآن منزل من الله .قال تعالى : " أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين أتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزلٌ من ربك بالحقّ فلا تكوننّ من الممترين " ( الأنعام 114 ) .و ورد في التوراة أنّ النبي الذي يخرج من بين إخوة بني إسرائيل يجعلُ الربّ كلامُه في فيه ؛وتجب طاعتُهم له في كلّ ما يُكلِّمُهم به(تث18/18).
وكلام موسى عليه السلام جاء مجملاً و فصّله الأنبياء من بعده .وأحببت أن
154
أقدّم لك نصا من الرسالة إلى العبرانيين،أخي القارئ،لتعلم يقينا ماذا كان ينتظر علماء بني إسرائيل .و كاتب النص إمّا يهودي تنصّر على مذهب بولس ،أو نصراني من أصول وثنية كان على إطلاع كبير لتعاليم الأحبار .ولا نتّفق مع التأويل، إنمّا نتّفق فيما كان ينتظره شعب إسرائيل .قال صاحب الرسالة :"لأنّه لو كان العهدُ الأوّلُ بلا عيبٍ لما أستُبدِل بالثاني .لأنّ الرَبَّ يقُول لهُم لائما هو ذا أيامٌ تأتي يَقُولُ الربّ فأقطَعُ مع بيتِ إسرائيل ومع بيتِ يهوذا عَهدًا جديدًا لا كالعَهدِ الذي قَطعْتُه مع آبائهم يوم أخَذْتُ بِيَدِهِم لأُخرِجَهُم من أرضِ(1/163)
مِصرَ ،لأنّهم لم يَثبُتوا في عَهدي وأنا أهمَلْتُهم يقول الربّ .لأنّ هذا هو العهدُ الذي أعهده مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام ،أجعلُ شريعتي في أذهانِهم وأكتُبُها في قُلُوبِهم وأنا أكونُ لهُم إلَهًا و هُم يَكُونون لي شعبًا .ولا يُعلّمِون كلّ واحِدٍ قريبَه وكُلّ واحِدٍ أخاهُ قائلا إعرَفِ الرَبّ لأنّ الجميعَ سَيَعرِفُونَنِي من صَغيرهم إلى كَبيرِهم "( عب8/7-12). وكاتبُ الرّسَالة يشرَحُ و يُعَلّقُ على نُبُوة هامّة من نبوات إرميا عليه السلام (إر31/31-34).ونريد من عرضها من الرسالة إلى العبرانيين لا من مصدرها الأصلى سفر أرميا لنكون على دراية كيف فهمِهَا بنو إسرائيل .ولعلّ الكلمة المحورية في النُبوّة وشرحها في الرسالة هي كلمة " عهد " .نحن كمسلمين وعرب لا تعني في ثقافتنا هذه الكلمة ما تعنيه في التوراة فالكلمة لا تتجاوز عندنا في معناها الإلتزام بفعل شيء أو قوله أو الإعتقاد فيه أو
الإمتناع عنه. لكن الكلمة هذه تعني في الأسفار المقدسة " شريعة التوراة " . وقد وردت بهذا المعني إثنتين وعشرين مرة في الكتاب المقدس .وأول ذكر لها بهذا المعنى جاء في سفر الخروج :" فَأخَذَ كتابَ العَهْدِ فَتَلا على مَسامِع الشعب
155
فقالوا كلّ ما تكلم به الربّ نفعله ونأتمر به "(خر24/7؛34/27). كما وردت أيضاً في أسفار التوراة والأسفار الأخرى .وإليك بعضا منها :
ــ " لقد أبلغَكُم عهَدَه ،الكلمات العشر الذي آمركم أن تعملوا به،الكلمات التي كتبها على لوحين من حجر"(تث4/13).
ــ" ويقول موسى عليه السلام : " عندما صعِدتُ للجبل لأستلم لوحي الحجر لوحي العهد" (تث9/9). كما نسجل أنها وردت بمعنى الإلتزام بالشيء لكن بوتيرة أقلّ كقول المزمور 105/10 :" الميثاق (العهد) الذي بتّه مع إبراهيم و يمينه إلى إسحاق والذي جعله رسما ليعقوب وميثاقا دهريا لإسرائيل قائلا لك أعطي أرض كنعان جبل ميراث لكم1 " .(1/164)
ومن الرسالة إلى العبرانيين يتبيّن أنّ العهد الأول سيُستبدَلُ بعهدٍ ثانٍ أي بشريعة ثانية جديدة. لكن للأمانة يجب أن ننقل فهم النصارى لهذا النصّ في سفر ارميا. تقول الترجمة المسكونية: "العهدُ الجديدُ الذي يقطعُه الربّ بعدما نَقَضُوا عهدَهُم لا يتمثّلُ في تَغْييرِ أو تَعدِيلِ التعاليم التي أُعْطِيت لهُم عن طريق موسى في جبل سيناء و لا في طُقوس تَعبّدية رُوحية جديدة؛ لكن تتمثّل في كَونِ التعاليم ستكون مغروسة في عمق الإنسان"( أنظر TOB p 974).
و هذا الشرح لم يطلُبْه منهم أحدٌ.و لكنّهم يعلمون أنّ القرآن – يقول المسلم – نسخ التوراة و لهذا سارعوا إلى تفسير النُبُوّة هكذا حتى لا يستغلّها مسلمٌٌ ضدّهم و
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1- و للمزيد من التأكد من ورود الكلمة بمعنى التوراة إليك هذه النصوص:تث5/2؛ 9/11؛ 9/15؛ 28/69؛1 مل8/9؛ 8/21؛2مل23/2؛23/21؛ إر11/3؛ 11/10؛ 2اخ5/10؛ 34/30؛ 34/32؛ 1مك1/15؛1/57؛ 2/20؛ 2/50؛ يش بن شيراخ 24/23.
156
التفسير الذي قدّمته الترجمة المذكورة لا يتماشى مع النصّ و لا حتّى مع التعاليم العملية لكنيسة بولس . فإن كان المراد من النُبوّة هو تعميق تعاليم التوراة فقط في نفوس المؤمنين فما معنى : » أقطع معهم عهداً جديداً ، لا كالعهد الذي قطعته مع آبائهم في جبل حوريب « و ما معنى أيضاً : » أقطع معهم عهداً لأنهم نقضوا عهدي فأهملتهم «. فالتوفيق بين تعميق تعاليم التوراة في نفوس الإسرائليين و نقضهم العهد و إهمال الربّ لهم مستحيل و غير ممكن.(1/165)
و بولس العالم المتبحر في الشريعة – إننا لسنا ضدّ علمه لكنّ ضدّ تأويلاته و تفاسيره الباطلة - لم يفهم النصّ مثلما فهِمَته الترجمة المسكونية . فقد ضرب مثالاً، عن الشريعة العتيدة شريعة التوراة و الشريعة الجديدة التي بالموعد و التي تنقض الأولى و تحلُّ محلها ، بزوجتي إبراهيم عليه السلام سارة الحُرّة و هاجر الأمة . قال بولس لأهل غلاطيه : » قولوا لي أنتم الذين تريدون أن تكونوا تحت الناموس ،ألستم تسمعون الناموس . فإنّه مَكتوبٌ أنّه كان لإبراهيم إبْنَانِ واحِدٌ من الجَارِية و الآخرُ من الحُرّة ، لكنَّ الذي من الجَارية وُلِدَ حَسْبَ الجَسّدِ و أمّا الذي من الحُرّة فَبِالمَوعِد . وكلُّ ذلِكَ رَمزٌ لأنّ هَاتَيْن هُمَا العَهْدَانِ أحدهما من جبل سيناء الوالدُ للعبودية الذي هو هاجر (غلا4/21–24). و يريد بولس بقوله أنّ شريعة موسى التي نزلت في سيناء يُمثّلها ولدُ هاجر إسماعيل،و لا ميراث له مع إبراهيم كما يزعمون . و أمّا الشريعة الجديدة فيمثّلها إسحاق وَلدُ سارة ، و هو الولد الذي يرث العهد الأبدي . و هذه الشريعة الجديدة يجب أن تنسخ القديمة. و في موضع آخر يقول بولس
157
مؤكّداً هذا الاعتقاد الراسخ بأسلوب أكثر وضوحا في رسالته إلى أهل رومية قال
: » لأنّ نهاية شريعة موسى في المسيح حتى يُعطى البرُّ لكلّ من يؤمن « .(رو10/4) . ويعكس لوقا و مترجم متىّ هذا الاعتقاد بقولهما : » بَقِيَ النّامُوس و الأنْبياء إلى يُوحنا و مُنذئذ يُبشّرُ بملكوت الله «1. و هذا يعني –حسبهما - أنّ آخر أنبياء العهد القديم الذي كان تحت سلطان الناموس و الأنبياء هو يوحنا المعمدان و بعده انتهت شريعة موسى و نُسخت . من هنا نستنتج أنّ الأحبار كانوا يعلمون يقينا لا يرقى إليه شكّ أنّ شريعة موسى ينسخُها المسيحُ بشريعته.(1/166)
و تقول الرسالة إلى العبرانيين واصفة الشريعة الجديدة بقولها :" على قَدَرِ ذلك قد صَار يسوعُ ضَامِنًا لِعهدٍ أفضَلَ "(عب07/22) .ويقول أيضا :
? " وإلَهُ السّلاَم الذي أقَامَ مِن الأموَاتِ رَاعِيَ الخِرَافِ العَظيم رَبِّنا يسوعَ بدم
العهد الأبدي"2(عب13/20) .
? ولكنّه الآن قد حصَلَ ( يسوع ) على خِدمَة أفضَلَ بمقدَارِ ما هو وَسِيطٌ أيضا لعَهْدٍ أعظَمَ قد ثُبّتَ على مواعيد أفضل"(عب8/6).
فنستخلص من كلام بولس إلى أهل غلاطية ورومية و من نصوص الرسالة إلى العبرانيين ومن إنجيلي لوقا و مترجم متّى أنّ بني إسرائيل كانوا ينتظرون شريعة جديدة سمّوها العهد الجديد التي تنسخ الشريعة التي نزلت على موسى في جبل سيناء والتي تسمّى بعدئذ القديمة أو العهد القديم .ووصفوا العهد الجديد بأنّه أفضل وأعظم وأبدي . و هذا ما نتّفق فيه معهم غير أنّهم يعتقدون
ـــــــــــــــــــ
1-لو 16 / 16 ؛ متى 11 / 13
2- أنظر أيضا 2 كو 3 / 6 ؛ عب 8 / 13 ؛ 9 / 15 ؛ 12 / 24
158
أنّ صاحب العهد الجديد هو يسوع،لأجل هذا يسمّون الإنجيل بالعهد الجديد، و هذه الجزئية نختلف معهم فيها.
هل صحيح أنّ يسوع نسخ التوراة بشريعة جديدة ؟(1/167)
القائلُ بهذا الكلام مُفترٍ، بقصد أو غير قصد، على الله ورسوله يسوع . فلقد أكدّ عيسى عليه السلام أنّه لم يَنْقُض أصغرَ حرفٍ في التوراة حتى يتمّ الكلّ. و علّم أنّ الكبير في ملكوت الله هو الذي يلتزم بشريعة التوراة وحتى بأصغرِ حَرفٍ منها،أمّا الأصغَرُ في ملكوت الله هو الذي يُعلّم النّاس الإبتعَادَ عنها ويعمَلُ هكذا .وقال لتلاميذه إن لَمْ يزِدْ بِِرُّكُم عن بِرِّ الكَتَبَة والفِرِّيسِيين فلَن تَدخُلُوا ملكوت الله(متى5 /17 – 20). وكان آخرُ عَمَلٍ له عليه السلام على الأرض هو الإحتفال بعيد الفصح وهو رسمٌ من رُسُوم التوراة.وحتّى بولس يعترف أنّ عيسى عليه السلام لم يحد قيدَ شعرة عن تعاليم التوراة و و عقائدها و جميع وصاياها1..
و أحبار بني إسرائيل كانوا يعرفون أنّ الشريعة الجديدة يجعلُها الله في أذهانهم ويكتبُها في قلوبهم وهذا يعنى أنّها شريعةٌ محفوظةٌ في الصُّدور ولأجل هذا الكُلّ يعرِفُ الرَبّ، ليس كالشريعة الأولى التي كانت مَكتُوبَةً على الألوَاحِ والتي كانت حِكراً على الكَتَبة والعُلماء أمّا عامّة الشعب فكان لا يعرف الكتاب إلاّ أماني . وبولس كان عالماً بأنّ شريعة العهد الجديد ستكونُ محفوظةٌ في القلوب وهو ما يشير إليه بقوله : " أنتُمْ رِسالتُنا مكتوبةٌ في قُلوبنا معروفةٌ ومقروءةٌ من جميع النّاس ظَاهِرينَ أنّكُم رِسَالَةُ المسيحِ مَخدُومَةٌ مِناّ مَكتُوبَةٌ لا بِحِبْرٍ بَل بِرُوحِ الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1-قال بولس : " فلمّا بلغ ملء الزمان أرسل الله إبنه مولودا من إمرأة مولودا تحت الناموس ليفتدي
الذين تحت الناموس لننال التبني " ( غلا4/4).
159
الحَيّ. لا في ألوَاحٍ حَجَرِيَةٍ بل في ألوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَةٍ "1.وهذه المقابلة بين شريعتين الأولى مكتوبة في ألواح حجرية والثانية في ألواح قلبية لحمية استوحاها(1/168)
بولس من نبوة ارميا السابقة. غير أنّ بولس وكنسيته لم يستطيعا إثبات أنّ عيسى أتى بشريعة جديدة .وكلّ ما عمل حسب عادته هو التأويلات الفاسدة والباطلة وفي أحيان كثيرة مبتدعة ليخلو له السبيل أمام مبتغاه كقوله :" لمّا أسلَمَ
يسوعُ أخَذَ خُبزاً وكَسّرَ وشَكَرَ وأعْطَاهُم قَائلاً هَذا جَسَدي ،ثم أخَذَ الكَأسَ وشَرِبَ وقال لهُم هذا دَمِي للعهد الجديد الذي يُسفك لأجل كثيرين ". و لم ترد كلمة العهد الجديد إلا في رسالتي بولس إلى أهل كورينتس الأولى11/25 و كورينتس الثانية 3/6 أو لوقا 22/20 2. وعدا هذا لم تَرِدْ في الأناجيل الأخرى ولا
سفر الأعمال و لا الرسائل الأخرى بإستثناء الرسالة إلى العبرانيين .
وحتى في هذه النصوص التي ارتكزت عليها كنيسة بولس لم تأت كلمة " العهد " بالمفهوم الذي أعْطَتْهُ لها نُبُوة ارميا من أنّها شريعةٌ جديدةٌ ،إنّما أتَتْ بمفهوم قضائي .وهو أنّه كان من عادة بني إسرائيل كما تطلبُ التوراة إذا تعَاهَدَ طرفان ذبحا ذبيحةً وَ رَشّا مِن دمِها على العَقدِ حتى يصبحَ ساري المفعول .وهو ما فعله موسى عليه السلام في جبل سيناء لمّا أعطاه الربّ عز وجل التوراة في لوحين من حجر .فلماّ نزل قرّب بنو إسرائيل قرابين ،وقرأ موسى الشريعة على الشعب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-كو 3 / 1-3
2- أنظر 1 كو 11/25:" كذلك الكأس أيضا بعدما تعشّوا قائلا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي" ؛ 2 كو 3/6: " الذي جعلنا كفاة لأن نكون خدّام عهد جديد". لو 22/20:" و كذلك الكأس أيضا بعد العشاء قائلا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفكُ عنكم".
.160
وأخذ العهد والميثاق عليهم بأن يعملوا بما هو مكتوب .فأخذ موسى شيئاً من دم القرابين ورشّ الشعب وقال:"هذا هو دمُ العَهْدِ الذِي قَطَعَه الرَبّ معكُم على جميع هذه الأقوال"(خر24/1–8).(1/169)
و القرآن الكريم يقابل دوماً بين التوراة والقرآن مُعلناً أنّ القرآن هو العهد الجديد الذي نسخ العهد القديم .
? قال تعالى : " قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقّا لما بين يديه يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم"(الأحقا ف 30(.
? " وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن وإستكبرتم "(الأحقاف10)
? " قل فآتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعه إن كنتم صادقين"( القصص 48 ).
? " و من قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وهذا كتابٌ مصدّقٌ لسانًا عربيًا لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين "(الأحقاف12).
وسمّى الله تعالى كتابَه العزيزَ جديدا مُحدَثا في موضعين من القرآن الكريم :
? " ما يأتيهم من ذكر من ربهم مُحدث إلاّ إستمعوه وهم يلعبون"(الأنبياء2).
? " وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلاّ كانوا عنه معرضين"(الشعراء5).
ولأجل هذه الشريعة الجديدة العظيمة تنبأ أيضا ملاخي عليه السلام قائلاً:" و لِلوَقْتِ يَأتِي السَيّدُ إلى هَيْكَلِه الذي تَلْتَمِسُون و رَسُول العَهْدِ الذي تنتظرون " . و بَيّنَ أشعيا أنّ العهد الجديد سيكون بلُغَةٍ أعْجَمِيةٍ ولسانٍ غريبٍ عن بني إسرائيل .قال في نبوته : "وهؤلاء غَوَوْا بالخَمْرِ و تَاهُوا بالمُسْكِرِ ،الكاهِنُ والنّبِيُ
161
غَوَيَا بالمُسْكِرِ و غَرِقَا في الخَمْرِ .تَاهَا مِن المُسْكِرِ وَ غَوِيَا في الرُؤيَا وَ عَثَرَا في الحُكمِ.
كُلّ الموائِدِ إمتَلأتْ منَ القَيء القَذِرِ فلَمْ يَبْقَ مَوضِعٌ،لِمَن تُرى يُعلّم العِلم و لِمن يُفقّه في الخطاب ألِمَفطومِين عن الثّديي صاولصاو صاولصاو كاولكاو كاولكاو زييرشم زييرشم.إنّ الربّ سيُكلّمُ هذا الشعبَ بشِفَاهٍ أعجَمية وبلسانٍ غريبٍ.ولمّا أنّه قد قال لهُم هذه الرّاحَة فَأرِيحُوا التَّعِبَ ! وهذه هي الرّفَاهِية فَأبَوْا أن يسمعوا،(1/170)
لذلك سَيَكُونُ كلامُ الرَبّ لهُم صولصاو صولصاو كاولكاو كاولكاو زييرشم زييرشم لكي يَذهَبُوا ويَسْقُطُوا إلى الوَرَاء فيُحْطَمُوا ويُصْطَادُوا فَيُؤخَذُوا "1. أمّا الترجمة اليسوعية فأوردت في مكان "صولصاو صولصاو كولكاو كولكاو" الجملة التالية "وَصِيّةٌ على وَصِيَة ثم وَصِيّةٌ على وَصِيّةٌ،فَرْضًا على فَرْضٍ ثم فَرْضًا على فَرْضٍ،شَيئا مِن هُنَا وشيئا من هُناك " . والترجمة المسكونية كتبت معلّقة على اختلاف الترجمات ما يلي: "رغم علمنا بأنّ بعض الترجمات ترجمت النصّ بشكل مُختلف مُحتمل ،فإنه من جانبنا نرى أنه لا داعي لها ولذا حافظنا على هذه الجملة التي تبدو غير مفهومة وغير متناسقة "2 ؛ وتُفسِّرُ النُبُوة كالتالي : أنّ السِكِّرين يَسْخرون منَ النَبّي الذي يُمَثِّلُونَه بِمُعَلّمِ صِبيَانٍ " . و في رأينا،سياق النصّ لا يتّفق مع هذا التفسير لأنّ الجملة الغريبة أتى بعدها مباشرة :" إنّ الربّ سيُكَلِّمُ هذا الشعبَ بِشِفَاهٍ أعْجَمِيَة ولِسَانٍ غَرِيبٍ " وأتت مرّة أخرى أنّ كلام الربّ هو نفسه سيكون لهم " صولصاو صولصاو كولكاو كولكاو " وسيكون تأويل هذه النبوة حسب منظورنا : أنّ بني إسرائيل بعدما غفلوا عن كلام الله تعالى ووصياه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-أش 28/7-13. وهو نصّ الترجمة المسكونية.
2-TOB p 824
162
،وأصبح وقتُهم لَهوًا ومُجُونا ،وأصمّوا أذانهم عن كلام رسل الله ،سيختار الله أمّة أخرى تتكلّم لسانا أعجميا عن بني إسرائيل ليستودعها كتابَه وحكمتَه وملكوتَه . وسيوبّخ الربّ في هذا الكتاب بني إسرائيل .ولا نعلم كتابا بلسان غريب عن بني إسرائيل توجّه الربّ فيه بالخطاب المباشر لإسرائيل إلاّ في القرآن الكريم .
? قال تعالى : " يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا
بعهدي أوف بعدكم وإياي فارهبون "(البقرة 40).
? وقال أيضا : " يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني(1/171)
فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبّحون أبنائكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون "(البقرة 47 – 50).
? "يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزّلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات مارزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى "(طه 80 – 81).
وهذه الإستشهادات قليل من كثير . وهكذا فهم بولس أيضا من علوم الشريعة التي تعلّمها على يد أحد مشاهير الفقهاء في علم الكتاب هو جمالئيل .قال بولس :" مَكتوبٌ في النّاموسِ إنّي بذَوِي ألسِنَةٍ أخرَى و بشِفَاهٍ أُخرَى سَأُكَلِّمُ هَذا الشّعبَ ،ولا هَكَذَا يَسمَعُونَ لِي يقُولُ الرَبُّ(Iكو14/21). إلاّ أن بولس كَعادَتِه يُريدُ إسقَاطَ كُلّ شيء على يسوعَ لِيُبَرّرَ كِرَازَتَه بين الأمَم .فهو يتأوّل هذا النص على أنّ المؤمنين في كنيسته لمّا يمتلأون من الرُّوح القُدس فإنّهُم يَتَكلّمُون كَلامًا غَير مَفهُوم
163
،لا معنى له دلالةً على أنَّهُم مَسُوقُونَ بإلْهَامِ الرُّوحِ . وهو يعترف في رسالة أخرى أن لا يتفاخروا بهذا الكلام غير المفهوم لأنّه لو دخَلَ عليهم أحدٌ لَقال عنهم مَجَانين.و يعني أنّ كَلاَمَهُم بدون معنى. لكنّ كلامَ الربّ بالشفاه الأعجمية سيكون له معنى و هو يحمل رسالة واضحة بلُغَةِ أُمّةٍ أعْطِيَت ملكُوت الله لِتُثْمِرَ أثماره. و أخيراً قد يحتجّ محتجّ أنّ العهد الذي ذكره النبي إرميا يقطعه الربّ مع آل إسرائيل و آل يهوذا.و نجيبه أنّ المفروض أن يكون أوّل من يؤمن بالقرآن هم بنو إسرائيل وهو كتابهم قبل أن يكون كتاب بني إسماعيل. قال تعالى: "و آمنوا بما(1/172)
أنزلت مصدّقا لما معكم ولا تكونوا أوّل كافر به و لا تشتروا بأياتي ثمنا قليلا و إيّاي فاتقون"(البقرة41).
2- مبعثه من بلاد العرب و يومه يوم الربّ العظيم.
تتفق نبوات الأنبياء و تعاليم الأحبار و ما تواتر عن يهود يثرب في أنّ النبي العظيم يخرج من الجنوب من بلاد العرب. و إتّفاقٌ مثلَ هذا بين أنبياء و علماء و مؤمنين بسطاء لا يجمعهم مكان و لازمان أقوى و أقطعُ في الحجّة1.
و جميع كتب الأوّلين تتعاضدُ في خروج المسيح من موضع واحد لكن بأسماء متعدّدة: بريّة فاران ؛ آدوم ؛ الجنوب ؛ الصحراء؛ جزيرة العرب أو من الأرض البعيدة، و سَمّت يومَه يومُ الربّ. و لايوجد أيّ تناقض بين هذه النبوات، فبعضها يلقي الضوء على بعض و يُكمّلها لِرَسمِ مَسَارسيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - .
ـــــــــــــــــــــ
1- أنظر قصّة سلمة بن سلامة مع يهودي من بني عبد الأشهل حيث ذكر قرب خروج نبيّ و أشار إلى مكّة و اليمن. سيرة بن كثير المجلد I ص 293. أنظر ص 35 .
164
و هو ما شدّد عليه الأحبار في التلمود و هو ما يفسّر هجرة بني إسرائيل إلى بلاد العرب ليتشرّفوا بخروج النبي المسيح منهم.
يقول النبي أشعياء: "أنا أوّلُ جاعلٍ لِصِهيون مَنْ يُنَادي هِي تِلك هي تِلكَ و أوّلُ مُعطٍ لأورشليم بَشيراً.لكنّي نظرتُ فلم يكن أحدٌ ولم يوجدْ منهم مشيٌر إذا سألتَه
يجيبُ بكلمةٍ، ها إنّ جميعَهم باطلٌ و أعمالَهم لا شيء و مسبوكاتِهم ريحٌ و خواءٌ.هو ذا عبدي الذي أعضُدُه ،مختاري الذي سُرَّتْ به نفسي.قد جعلتُ روحي عليه فهو يُبدي الحُكم للأممِ، لا يصيحُ و لايُجلّبُ و لايُسمِع صوتَه في الشوارع، قصبةً مرضوضةً لا يكسِرُ وكَتّاناً مُدّخِنا لا يُطفىء.يُبرز الحُكمَ بحسب الحقّ، لا يَنِي و لا يَنكَسِر إلى أن يجعَلَ الحُكمَ في الأرض فَلِشَريعَتِه تنظُرُ الأمم.هكذا قال الله الربّ خَالِقُ السّمَاوات، و ناشِرُها، باسِطُ الأرض مع مَا ينبتُ منها.الذي يُعطي(1/173)
الشعبَ عليها نسمةً و السّالِكِين فيها رُوحًا. أنا الربّ دعوتُك لأجل البِرّ و أخذتُ بِيَدِكَ و جَعلتُك عَهداً لِلشّعبِ و نوراً للأمَم لِكي تفتَحَ العُيُونَ العَمْيَاء و تُخرجَ الأسيرَ من السّجنِ؛ و الجَالِسين في الظُلمة من بَيتِ الحَبسِ. أنا الربّ و هذا إسمي و لا أعْطِي لآخَرَ مَجْدِي و لا لِلْمَنحُوتَاتِ حَمْدي. الأوائل قد أتتْ فأنا أُخبركم بالمُحدَثات و أُسمِعكم بها قبل أن تَنبتَ. أنشِدوا للربّ نشيداً جديداً تسبيحةً له من أقاصي الأرض يا هابطي البحر و يا ملأه و يا أيّتها الجزائر و سكّانها.لِتُشِدِ البرّيةُ و مدنُها و الحظائرُ التي يسكنُها قيدار و ليرنِمّ سكانُ الصخرة و ليهتِفوا من رؤوس الجبال.ليُؤدّوا المجد لله و يُخبروا بحَمده في الجزائر. الربّ كجبّار يبرزُ و كرجلِ قتالٍ يُثيرُ غيرَته و يهتِفُ و يصرُخ و يظفَرُ على أعدائه.طالما
سَكَتُّ و صَمَتُّ و ضَبَطتُ نفسي، فالآن أصيحُ كالتي تلِدُ، و أنفُخ و أزفُر، أخرِّب
.
165
التلال و أيبُّسُ عشبَها و أجعل الأنهارَ يبسًا و أجفّفُ الغدرانَ. و أُسّيُر العُمي في
طريق لم يعرفوه و أُسلِكُهم مسالك لم يعهَدوها و أجعلُ الظلمةَ نوراً أمامهم و المتأوّداتَ مستقيمةً.هذه الأمور سأصنعُها و لاأخذُلهم قد إرتدّ إلى الوراء المتوكّلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات أنتن آلهتنا و خزوا خزياً. أيّها الصمّ إسمعوا
أيّها العُمي أُنظروا و أَبصِروا من كان أعمى كعبدي أو أصمّ كرسولي الذي سأرسله1، من كان أعمى كالخَلَفِ2، أو أصمّ من عبد الربّ.تنظرُ أموراً كثيرة و لا تلاحظها، يفتح أذنيه و لا يسمع. كانت مرضاةُ الربِّ ببِرّه و بأن يعظِّمَ الشريعةَ و(1/174)
يُكرِمها، لكنّه شعبٌ منهوبٌ مسلوبٌ قد أُصطِيدوا كلّهم في الحُفر و خُبّئوا في بيوت الحبس. صاروا نهباً و ليس من يُنقذْ و سَلباً و ليس من يقول أُرددْ. من منكم يصيخُ لذلك و يصغي و يستمع لما سيأتي. من جعل يعقوب سلباً و إسرائيل
نهباً، أليس الربّ الذي خطِئنَا إليه لأنّهم أبَوْا أن يسلُكُوا في طَريقه و يَسمعوا لِشريعته فصَبّ عليهم ضِرام غضبه من شدّةِ القتالِ فألهبَه من كلّ جهةٍ و لم يعلمْ و أحرقَه و لم يخطرْ له ببالٍ" (أش41/27-42/25). وهذه البشارة العظيمة هي أوّل نصّ من الكتاب المقدس يُستشهد بها على نبوة سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - .و كان المستشهدُ بهذا النص هما كعب الأحبار و عبد الله بن سلام و كانا حبرينً من أحبار بني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- في كل الترجمات الفرنسية و أعتقد في كل الترجمات الأوروبية نقلت:" سأرسله" على صيغة المستقبل القريب. إلا الترجمات العربية فتصرّف الفعل في الماضي و تضع:" الذي أرسلته".
2- الكلمة العبرانية الأصلية هي " ماشولام" و تعني الطفل الصغير الذي يخلف أخاه المتوفى. كناية عن
النبي العظيم صاحب الشريعة الجديدة الذي يخلف موسى و ينسخ شريعته. و الترجمات الفرنسية
تكتب: "من كان أعمى كالذي أعيد له الإ عتبار" وهي ترجمة مقبولة أما الترجمات العربية فكلامها معتم و تكتب :" من كان أعمى مثل مسالمي ".
166(1/175)
إسرائيل. و ينسِبُ اليهودُ هذه النبوة إلى قورش الفارسي1 و يعتبرونه مسيحا. و إسقاط النُبوة على وثني لا يتناغم مع منطق المؤمنين؛ إذ كيف يجعلُ الرّب روحَه على عابد الأوثان و تُسَرّ نفسه به ؟ و هو القائل في نفس الإصحاح:" قد إرتدّ إلى الوراء المتوكّلون على المنحوتات، القائلون للمسبوكات أنتن آلهتنا و خزوا خزياً". وهو القائل أيضا:" أنا الربّ و هذا إسمي و لا أعطي لآخر مجدي و لا للمنحوتات حمدي".و لا تفسير لهذا الإتّجاه الشّاذ عن منحى التوراة و تشديدها على توحيد الرّب إلا الضيق و الإضطهاد الذي انتشلهم منه قورش. و إسم قورش موجود صراحة في نصّي أشعيا2 44/28 و 45/1.ولا نَشُكّ أنّه أُلحِق بنصِّ النبوة بعد إعادة بناءِ أورشليم وبيتَ الربّ.إذ لو كان موجودا فما الذي صرف كاتبُ سفري عزرا و نحميا عن الاستشهاد به وأضطرّ أن يفسّر نبوة إرميا تفسيراً تعسفيًا ليطبّقها على قورش .ونص عزرا المستشهد به هو :" في السنة الأولى لقورش ملك فارس لكي يتمّ ما تكلّم به الربّ بفم إرميا النبي،نَبّهَ الربّ روح قورش ملك فارس"(عز1/1). و جديرٌ بالتنبيه أنّه لا توجد أيّ إشارة في كتاب إرميا إلى قورش. فلماذا لم يذكر نبوة أشعيا44 و45 إن كانت موجودة في زمانه؟
فما الذي دفع الكاتب ليزيد إسم قورش؟
ـــــــــــــــــــــــــــ
1-قورش هو ملك فارسي وثني العقيدة ملك من السنة 558ق م إلى السنة 525 ق م أذِنَ لليهود
بالرجوع إلى فلسطين و إعادة بناء هيكل النبيّ سليمان.و قد عاصر عزرا و نحميا،لهذا يعتبرونه مسيحا .
2-أنظر النص أش 44/28:" القائل عن أورشليم ستعمر و لمدن يهوذا ستبنين و خربها أقيم. القائل للّجّة انشفي و أنهارك أجفّف. القائل عن قورش راعيَّ" . أنظر أش 45/1:" هكذا يقول الرّب لمسيحه قورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمما"
167(1/176)
لابدّ لشعب في هاوية اليأس و القنوط ،ذاق البلاء العظيم بما كسبت يداه ،أن يرى في قورش ملك فارس الذي أذن لهم بالرجوع وأعترف لهم بحُرّية المعتقد ،أنّه المسيح. وليس غريبًا من شعب ضُربَت عليه الذِلّة و المسْكَنة و بَاء بغضب من الله
أن يتصرّف بهذا الشكل ويتملّق للحكام.ولقد كان يوسيفوس فلافيوس المؤرخ اليهودي الذي عاش في القرن الأول للميلاد،بعد هزيمة اليهود النكراء في السنين 66م و 130م على يد الرّومان، يرى أيضا في قيصر روما مسيح إسرائيل1.
و حتّى الكنيسة ،منذ فجر المسيحية، ترفض نسبة النبوّة إلى قورش. فلقد نسبها مترجم متّى(متى 12/18-21) إلى يسوع2.
و خروج مترجم متّى عن إجماع اليهود يطرح تساؤلا عظيما حول مصداقية كتب العهد القديم. فإن كانت نصوص أشعيا44/28 و 45/1 أمام عينيه و كان يعتبرها وحيا إلهيا فمن أين أتته الجرأة في أن يخالفها في أنّ المسيح ليس قورش إنّما يسوع. و رأيُنا، الذي نستخلصه من عدم وفاء مترجم متّى لهذين النصّين الحاسمين في وصف قورش بالمسيح، أنّه أحد الأدلّة على أنّ نصوص العهد القديم لم تكن تتمتّع في نظر الجيل الأوّل من المسيحيين بنفس القدر من المصداقية.
ــــــــــــــــ
1-Ce général juif termina la guère comme ami personnel de son vainqueur Vespasien, à qui, parait-il , il avait prédit qu'il serait un jour l'empereur. Il ajouta le nom de son maitre, Flavius, au sien propre, tout comme un esclave affranchi, et flagorneur jusqu'à l'abject, n'hésita pas à écrire que le vrai messie attendu par Israel était , incontestablement Vespasien. Voir Jésus en son temps p 15.
2- كتب مترجم متى ما يلي: لكي يتمّ ما قيل بأشعيا النبيّ القائل. هو ذا فتاي الذي اخترته. حبيبي
الذي سرّت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم بالحقّ. لا يخاصم و لا يصيح و لا يسمع أحد في
الشوارع صوته"
.
168(1/177)
و إن لم تكن موجودة فهذا دليلٌ على أنّ الكتاب المقدّس عبثت به أيدي الكتبة.
و يعلّق صاحب الترجمة اليسوعية علىنبوة أشعياء، مؤيّدا لمترجم متّى بقوله:
" هنا يَشرَع الربّ في وصف مسيحه ولكن بصفات أرقّ من صفات رجل فاتح. وهنا مثال قورش يغيب فلا يُرَى في هذا النصِّ إلاّ نبيّ ومعلّمٌ واسعُ الأناة كثيرُ الحكمة هَمّهُ أن يَبُثّ معرفة الله وشريعته في جميع الأمم. ثم يقول دونكم نبوةٌ محدثةٌ فكلّ أمّة إستضاءت بهذه الأنوار فلْتُشِدِ بحمد الله. إنّه هو ذا ينهض ليبيدَ
مملكة الضلال ويبدّد ظلمات الشعوب الخاضعة لهذه المملكة .إلاّ أنّ إسرائيل يتعامى وينبذُ مبّرَةَ الله فيُدفع فريسة بين أعدائه "1.
وهذه النبوة لا تصدُق على يسوع لأنّ هذا النبيّ الذي هو محلّ البشارة نُسبت له شريعةٌ جديدة تنظر إليها الأمم و عيسى ما نقض حرفا واحدا من التوراة، وهذا النبي هو لليهود وللأمم كما قال أشعياء:" جعلتك عهدًا للشعب ونورًا للأمم" أمّا رسالة عيسى عليه السلام فكانت خاصة ببني إسرائيل 2.
وهذا النبيّ حامل لسيف الانتقام، لأنّ الربّ يبرز كجبّار،كرجل قتال يثير غيرته. ولا نعلم نبيا قاتل في سبيل اللّه بعد داوود عليه السلام إلاّ هذا النبي الأمّي أمّا عيسى عليه السلام فوصف نفسه بالوديع(متى 11/29)، وحرّم على تلاميذه حتى حمل العصّي .وهذا النبي يقود أمة عمياء لم تكن تَعرِف الله من قبل و لا يصدق هذا الوصف على بني إسرائيل. وأخيرا هذا النبي يخرج من جزيرة العرب كما حدّد معالمها النبي أشعيا، أو من فاران أو من أقصى الجنوب و بهذا
ـــــــــــــــــــــــــــ
1- الترجمة اليسوعية ص 536
2- أنظر كتابنا رسالة عيسى رسالة إسرائيلية.
169(1/178)
تتعاضد جميع الأسفار المقدّسة1وما يؤكّد هذه الوجهة هو قول أشعيا في صدر النبوة :"و أوّل معطٍ لأورشليم بشيراً" وهو سيدنا عيسى عليه السلام المُبَشّرُ بنبّي الخلاص و النعمة و الإنتقام كما يقول بعد ذلك " نظرت لكن لم يكن أحدٌ ولم يوجد منهم مشيرٌ " و يعني أنّ إسرائيل سيُرفضُ ويُستبدلُ بشعب آخر ، كما أكّدت التوراة و الإنجيل و القرآن.
وقال أشعيا في موضع آخر في نفس الشأن:" من هو هذا القادم من آدوم ،بثيابٍ مُضَرّجَةٍ من بُصرة2. هذا الذي يتباهى بلباسه ويَختالُ بكثرةِ قُوّتِهِ ،أنا المتكلّمُ بالعدل الكثيُر الخلاص .ما بالُ لباسُك أحمرَ وثيابُك كدائسِ المعصرة " (أش63/1-3). وآدوم هي مملكة سعير وتسمى بالعبرانية سَلَع وسمّاها اليونانيون ببلاد العرب الصخرية . و النبي أشعيا في نُبُوّته يرسُم محطّة من محطّات مسار سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - .لأنّه من هنا قدم وأصحابه من بعده لغزو الروم وتخليص الأرض المقدسة. و الثياب الحمراء كأنّه دائس المعصرة كناية عن جهاده في سبيل الله بحدّ السيف وعن تحريضه للمؤمنين على القتال أو الاستشهاد فتتخضّب ثيابهم
ـــــــــــــــــــــــــ
1- من أقاصي الأرض- وتعني بلاد اليمن - في أقصى جنوب جزيرة العرب كما جاء في أسفار الكتاب المقدس حيث قال النبيّ عيسى حسب متى 12/42:"وملكة الجنوب ستقوم في الدينونة مع هذا الجيل لأنها أتت من أقاصى الأرض لتسمع حكمة سليمان". و معلوم أنّ ملكة الجنوب هي بلقيس ملكة سبأ في اليمن. ؛ ومدن قيدار وهي القرى التي سكنتها العرب العدنانية في وسط الجزيرة ،وقيدار هو ابن إسماعيل –وأخيرًا الصخرة في شمال الجزيرة وهي بترا مملكة الأنباط التي قامت عليها قديما مملكة آدم ، ويسميها اليونان بلاد العرب الصخرية .
2-بصرة ليست بصرى التي و ورد ذكرها في السيرة النبوية و كانت جنوب دمشق إنما هي مدينة قديمة
كانت عاصمة آدوم جنوب الأردن حاليا .
170(1/179)
بدمهم أو دم أعدائهم1.وكان علماء بني إسرائيل ،حسب الترجمة الأرامية للتلمود
يرون أنّ المبشّر به في أشعيا 63 و التكوين 49/11 هو المسيح2. ونحن في غنىً عن إجهاد أنفسنا أنّه لم يأت من بلاد العرب، آدوم ،نبّي غير هذا النبيّ الأميّ . وفد أشار سفر الرؤيا أيضا لهذه البشارة في الأصحاح 19/13-16. وحتى الترجمة المسكونية تعترف بأنّ المبشّر به في نبوة أشعياء هو المسيح لكنّها تتأوّلها تأويلا باطلا حتى تطبّقها على يسوع. قالت:"إنّ يسوع انتصر على قوى الشرّ ملطّخاّ ثيابه بدم نفسه لا بدم الآخرين"3. و نردّ عليهم بكلّ بساطة أنّ يسوع أتى من الناصرة، من شمال فلسطين؛ أمّا هذا المسيح فهو قادم من بلاد العرب. و لا نعلم مرّةً واحدة أنّ يسوع تجاوز أورشليم نحو الجنوب.
وقال أشعيا النبيّ مؤكّدًا بشكل آخر أنّ المسيح يأتي من البلد البعيد؛ و سمّاه
رجل مشروع الله الأزلي قال: "و أدعو من المشرق النّسر ومن الأرض البعيدة رجلَ مشروعي"(أش 46/11). و يتأوّل اليهود هذه البشارة أيضاً على قورش الفارسي. و كما أسلفنا يستحيل هذا التأويل.
و تنبّأ أشعيا في موضع آخر أنّ المسيح نبيّ الخلاص يأتي من الصحراء. قال: " صوتٌ صارخٌ في البرّية4 أن أعِدُّوا طريقَ الرَبِّ واجعَلُوا سُبُلَ إلَهِنَا في الصحراء
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-هكذا ورد وصف الهالكين بالسيف في الكتاب المقدس. وثياب خادم يهوه الحمراء كانّه دائس على
المعصرة كناية عن سحقه للوثنيين و الذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب.
2-Ce portrait du Dieu vigneron,soumettant les nations au pressoir de son jugement, deviendra un jour le portrait du Messie,selon les Targums juifs. Rédigés à propos de Gn 49,11 et de Es 63,1-3 (Voir TOB p 889).
3-TOB p889
4- و نُبُوّة أشعيا تتضمن البشارة بنبيّين الأول صوتٌ صارخ في البرّية و الثاني المسيح القادم من الصحراء.(1/180)
و النبيّ يحيى فسّر النبوة في هذا المعنى لمّا سأله اللاويون و الكتبة من أنت؟ قال:"أنا صوتٌ صارخٌ في
.171
قَويمَةً. كُلّ وَادٍ يَمْتَلئ و كُلّ جَبلٍ و تَلّ ينخَفِضُ و المُعوَجَّ يَتَقَوّمُ و وَعْرُ الطرِيقِ يصيرُ سَهْلا و يَتَجَلَّى مَجْدُ الرَبِّ و يُعَاينُه كُلّ ذي جَسَدٍ لأنَّ فَمَ الرَبَّ قد تَكَلَّم" ... .إلى أن يقول النبيّ: " مَنْ أرْشَدَ رُوحَ الرَبِّ أو كَانَ لهُ مُشِيراً مَنْ دَلّهُ على رَجُلِ مَشُورَتِه؟ "(أش40/3-14).
و نستخلص أنّ الصوت الصارخ في البرّية، و هو يحيى، يبشّرُ بالقادم من الصحراء. و في النُبوة ما يُشير إلى أنّ هذا النبيّ يَرفُضُه إسرائيلُ و المستكبرون من النّاس الذين لا يرون في هذا الفقير الأميّ أهلا لهذه الرسالة .قال :" من أرشد روح الربّ أو كان له مشيراً من دلّه على رجل مشورته ؟". و السؤال إستنكاري. بالطبع لا أحدا يرشد الله تعالى أو يشير عليه و يدلّه على رجل مشروعه. و لو سألنا أناسا من خلفيات ثقافية و عرقية مختلفة عمّن يتشرّف بأن يكون هذه الشخصية السّعيدة لأختلفت أجوبتهم حسب خلفياتهم. فحسب اليهود هو من ذرّية داوود، و حسب المشركين العرب لا يمكن أن يكون صاحب هذه الرسالة إلا رجلا عظيما من إحدى القريتين. و لو سُئل الإغريق و الرّومان لأجابوا سيكون رجلا فاتحا عظيما مثل أغسطس أوكتفيوس أو ألكسندر المقدوني، و حسب المصريين لا محالة سيكون أحدا من كبار الفلاسفة في الإسكندرية. و لا أحد تحدّثه نفسه أن يُوّلي وجهه نحو هذا الأرض القفر. لكنّ معايير البشر ليست معايير الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــ
البرّية أن أعدّوا طريق الربّ واجعلوا سبل إلهنا في الصحراء قويمة"(يو1/23-27). ثم أتبع قوله عليه السلام بهذا القول :" إن أنا عمّدتُكُم بالمّاء إلخ.." لمزيد من الإيضاح أنظر ص 96 .
.
172(1/181)
و قول أشعيا : " إجعلوا سبل إلهنا في الصحراء قويمة،كلّ وادٍ يمتلئ و كلّ جبل و تلّ ينخفض و المعوجّ يتقوّم ووعر الطريق يصير سهلا" يفسّره بقوله في النبوة السابقة: " و أُسَيّر العُمْيَ في طَريق لم يَعرِفوه و أُسْلِكُهم مَسَالِكَ لمْ يَعهَدُوها و أجعلُ الظُلمةَ نوراً أمَامَهم و المُتأوّداتُ مُستقيمة" و هذا يُدلّلُ على أنّ الصِّعاب تذلّل أمام أمّة سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - . وقد يحتجّ أحد أنّ النبوة فيها الإعداد للربّ الإله و ليس للنبيّ .نقول أنّ مجيء الربّ كناية عن مجيء مسيحه.
و تنبّأ النبي حبقوق بعد ما هاله ما رأى من الشرّ الذي أحاط بشعب إسرائيل
أيّام حملة آشور ومن المحتمل أيضاً حملة نبوخذ نصّر البابلي على إسرائيل و يهوذا. فيتساءل في الفصل الأوّل و الثاني من نبوته قائلا :" إلى مَتَى يا ربّ أستغيثُ و لاتستجيبُ؛ أصْرُخُ إليك من الظُلم و لا تُخلِّص. لماذا تُرِينِي الإثْمَ و تُشهِدُنِي الإصْرَ و يَجْرِي قُدّامي الإغتِصَابُ و الظُلمُ و يَحدُثُ الخِصَامُ و يَقَعُ النِّزَاعُ ... . إلى أن قال :" عَينَاك أطهَرُ مِن أن تَرى الشَرّ و لسْتَ تُطيق النظرَ إلى
الإصرِ فَلِمَا تنظُر إلى الغادرين ولما تصمُت عندما يبتلِعُ المنافِقُ مَن هُو أبَرّ مِنهُ".(1/182)
فيجيبُه الربّ تعالى: "فإنّ الرُؤيا لِلْمِيقَات و في الإنقِضَاء تظهَر ولا تَكذِبْ.إن أبطَأتْ فَانتَظرْها فإنّها سَتَأتي إتياناً و لاتَتَأخّر".و يعني هذا أنّ الرؤيا التي ستراها يا حبقوق ستتحقّق في أجل معلوم و إن أبطأت. ثم يَقُصّ عليه الرؤيا: "أمّا الربّ فهو في هَيكَل قُدسِه فاسْكُتي أمام وجهِهِ يا جميع الأرضِ. الربّ يَأتي مِن الجَنُوب و القُدّوس من جَبَل فَارَان.سلاه.غَطّى حَمدُه السموات و إمتلأت الأرضُ من تسبيحَتِه .ضياؤُه يكونُ كالنّور و لَهُ مِن يَدِه قَرْنَان و هُناك إستِتَارُ عزّته. قدّام وَجْهِه يَسيرُ الوَبَاء و أمَامَ قَدَمَيه تبرُزُ الحُمّى الملهبة". ثم يصف الربّ عزّ و جلّ
173
جنود سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - : " رَأتْكَ الجبَالُ فارْتَعَدَت و اجتَازَ طُمُوّ المياه، و أطلق الغَمْرُ صوتَه و رفَع يديه إلى العَلاء.الشمسُ و القمرُ وَقَفَا في مَنَازِلِهما لِنُورِ سِهَامِك المتطَايِرَة و لِضِيَاء بَريقِ رُمحك. إنّك بِسُخطٍ تطَأ الأرضَ و بغَضَبٍ تدُوس الأمم. لقد
خرجْتَ لِخَلاص شَعبِكَ لِلْخلاص مع مَسِيحِك"( حب2/20-3/13). و في هذه النبوة العظيمة يعد الربّ عبده حبقّوق بأنّ الامم التي فعلت بإسرائيل هذا الخراب سيفعل بها مثله لمّا يجيئ المسيح من الجنوب،من برّية فاران . وبرية فاران ثار حولها جدلٌ كبيرٌ بين علماء الإسلام و أهل الكتاب. و موقعها الجغرافي يحتاج إلى
إلمام بالموضوع و تجميع الحجج من مصادرها المختلفة ثمّ تمحيصها. و الحقيقة هي جزيرة العرب1 التي سكنها أبونا إسماعيل عليه السلام كما ورد في سفر التكوين (تك 21/21).(1/183)
وسمعت مرّة في برنامج "عبر الكتاب " القسّ رضا عدلي يشرح هذه النبوة بأنّها تخبر عن إنتقام الله تعالى من آشور ببابل . ويغيب هذا التأويل هنا إذا أخذنا بسياق النّص و بالإشارات الى المواقع الجغرافية .فجيوش المسيح تنطلق من برّية فاران؛وبابل خرجت من بلاد ما بين النهرين. والجيوش يقودها المسيح والمسيح يقوده الربّ عز وجلّ،أمّا بابل فكانت وثنية.فكيف يكون المسيح قائدا على الوثنيين؟أمّا صاحب الترجمة اليسوعية فيعترف أنّ نبوة حبقوق تصف مجيء
ــــــــــــــــــــ
1-لا يوجد شيء صلب نستند إليه في القول أنّ فاران هي مكّة. إذ لو كان موجودا لذكرته أشعار العرب أو نثرهم. و بعض الباحثين المسلمين يستندون في قولهم إلى ياقوت الحموي. و لا نعلم من أين أتى به. آخرون يقولون أنّ القدّيس إيرونيموس صاحب الفلغاظة يدعم هذا القول. و للأمانة يصعب تقبّله. لأنّ مكّة لم تكن معروفة خارج محيطها العربي و لم يوجد أيّ شيء اشتهرت به عدا آلهة العرب في الكعبة. فنسبة هذا القول إلى القدّيس اللاتيني يحتاج إلى دليل نحن في إنتظاره. و الحقيقة أنّ فاران هي شمال
174
المسيح من برّية فاران من بلاد العرب 1.ثم يضيف لهذه الحقيقة التي أقرّها وإعترف بها،كلاما لا معنى له لِيُلْبس الحقّ بالباطل.ويقول فإنّ في بلاد العرب ظهر مجد الله في سيناء. و إن كان تأويل النبوة على هذا الوجه جائزاً فلا نعرف
ما إذا كان حبقوق نبيّا،و كلامُه نُبُوات أو كان يخبر عن شئ من أخبار الماضي لاتخفى عن يهودي أو مسيحي أو مسلم و هو نزول التوراة في سيناء.ويكون من العبث وصف حبقّوق بالنبي،وكلامَه بالنُبُّوة.
وتنبأ زكرياء أيضا بعد عودة بني إسرائيل من الجلاء قال:"إنّ الربّ سيظهرُ عليهم،وسهمُه يخرج كالبرق ،و السيّدُ الربّ ينفخُ في البوق و ينطلق في زوابع الجنوب" (زكا9/14).
وإبتهجت الصِدّيقة دبّورة بإنشاد ما كان أحبار بني إسرائيل يعلّمونه من أنّ الربّ يخرج من بلاد العرب قائلة:(1/184)
? "يا رَبّ بِخُروجِكَ من سَعير،بصُعُودِكَ مِن صَحراء أدُوم
الأرضُ إرتَعَدَتْ.السَّمواتُ أيضا قَطِرَت .كذلك السُّحُب قَطِرت ماءً.تَزَلزَلَت الجبَالُ
من وجْه رَبّ سيناء مِن وجْه الرَبّ إلَه إسرائيل"(قض 5/4-5). ... ...
وتنبأ موسى كليم الله في التوراة أيضا أنّ الربّ خرج من سيناء ثم سيخرج مرّةً أخرى من جبل فاران ومن سعير قال: »أقبلَ الرَبّ مِن سِيناء و أشْرَقَ لهُم من
ـــــــــــــــــــــــ
الجزيرة العربية. هذا الكلام له ما يدعمه من التوراة و أسفار الملوك و من مصادر تاريخية مسقلة مثل كتاب الحروب اليهودية للمؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس الذي عاصر النبيّ عيسى. و قول أهل الكتاب أنّها في الجهة الشرقية لصحراء سيناء هو قولٌ أيضا متهافتٌ و متناقض.
1- الترجمة اليسوعية ص 549
175
سَعير و تَجلّى من جبل فاران و أتى من رُبَى القُدس و عن يمينه قَبَسُ شريعَةٍ لهُم « (تث 33/1-2 ).
وتعلّق الترجمة المسكونية على هذا النص بقولها:»إن هذا النص مطموس في المخطوطات.و كلّ المترجمين أو الترجمات اضطرت إلى ترجمة ظنّية «. إختلفت في هذا النصّ الترجمات العربية و الأوروبية إختلافا كبيرا. و تقترح الترجمة المسكونية ما يلي:» جاء الربّ من سيناء و أشرق لهم في الأفق من سعير و تلألأ من جبل فاران،وصل إلى مياه الخصومة بقادش؛ لأجلهم جاء من الجنوب
إلى سفوح الفِسْجَة «1. . و لقد وقفنا على تفاسير أصحاب الردود،التي رأت في(1/185)
البشارة : أن جبل سيناء يشير إلى شريعة التوراة. وسعير تشير إلى الإنجيل، و هي بلاد آل هارون الذين خرج منهم عيسى عليه السلام. و أخيراً فاران تشير إلى جبال مكة،التي نزل بها القرآن . و في رأينا أنّه لا معنى للبشارة بعيسى عليه السلام في التوراة،لأنّ عيسى كان نبيًا يندرج في عموم أنبياء إسرائيل . فلماذا يُبشّرُ به هو بالذات دون داوود أو اشعياء أو يحيى أو غيرهم عليهم السلام ؟ و من جهة أخرى أنّ أرض سعير مُحَرّمةٌ على بني إسرائيل و لم تكن أبدا من ملكهم2 .
ــــــــــــــــ
1ـ هذه ترجمة شخصية؛ إذ لا توجد ترجمة مسكونية عربية. و إليكم النصّ كما هو في نسخته الأصلية الفرنسية:
"Le Seigneur est venu du Sinaï, pour eux il s'est levé à l'horizon, du côté de Séïr, il a resplendi depuis le mont de Parân; il est arrivé à Mériba de Qadesh; de son midi vers les Pentes pour eux.".
2-أنظر تث 2/5:" أنتم مارّون بتخم إخوتكم بني عيسو السّاكنين في سعير فيخافون منكم فاحترزوا
جدّا.لا تهجموا عليهم. لأنّي لا أعطيكم من أرضهم و لا وطأة قدم لأنّي لعيسو أعطيت جبل سعير
176
و آل هارون لم يُخصّصوا بأي ميراث بين أسباط آل إسرائيل إنّما كانوا لاويين و كهنة لهم مُدُن مُخصّصة في كلّ قبائل بني إسرائيل1 .
و عيسى عليه السلام ليس من نسل هارون إنّما كان من نسل داوود، ولم تضطرب أسفار الإنجيل في هذا مطلقاً. و المبشّر به في التوراة هو ناسخ التوراة ؛ و القادم من فاران هو نفسه القادم من سعير . و هما محطّتان في الطريق نفسه . فبرية فاران هي جزيرة العرب2 و آدوم أو سعير هي إلى شمال فاران و هي اليوم جنوب الأردن. و إليك النصوص التي تتنبأ بمجيء يوم الربّ،يوم الإنتقام .
ــــــــــــــــــــــــــــ(1/186)
ميراثا". أنظر2/9:" فقال لي الربّ لا تعاد موآب و لا تثرْ عليهم حربا لأنّي لا أعطيك من أرضهم ميراثا. لأني لبني لوط قد أعطيتُ عار ميراثا". أنظر تث2/19:" لأنّي لا أعطيك من أرض بني عمّون ميراثا. لأنّي لبني لوط أعطيتها ميراثا". و مؤآب و عمّون هم أبناء لوط في الأردن حاليا.
1- أنظر تث 10/9:" لأجل ذلك لم يكن للاوي قسمٌ و لا نصيبٌ مع إخوته". و من لاوي خرج هارون و موسى. أنظر أيضا عد35 أين يخصصوا بمدن في جميع قبائل إسرائيل و يشوع بن نون 21.أنظر عد26/62:"لأنّهم لم يُعدّوا بين بني إسرائيل إذ لم يُعط لهم نصيبٌ بين بني إسرائيل".
2-من العجيب أن أهل الكتاب يستندون إلى نصوص شاذة في تحديد موقع فاران . فحسب الخرائط المرفقة بالكتاب المقدس ، فاران توجد جنوب غرب فلسطين على الحدود المصرية الفلسطينية الحالية . و حتى الجغرافي العربي الإدريسي يبدو متأثراً بجغرافية هذه النصوص الهشة وهي(عد 10/12؛13/3 ) : » ارتحل الغمام و حلّ في برية فاران « . و النص عد 13/4 يذكر أن موسى انتدب رجالا لاجتساس أرض كنعان من برية فاران .و النص عد 13/26 يذكر أن المنتدبين رجعوا إلى فاران في قادش . و هذا النص حيّر علماء الترجمة المسكونية حيث كتبت ص 299 : » قادش في حقيقة الأمر في برية صين . لكن هذا النص هو توفيق بين النص اليهوهي الذي يجعل إجتساس الأرض من قادش ببرية صين و النص الكهنوتي الذي يجعل هذه المهمة من برية فاران «. و لا يخفى على أحد من علماء الكتاب أنّ النص اليهوهي هو أقدم نص ، و النص الكهنوتي هو من زمن الجلاء في بابل و هو أحدث نصوص التوراة . و النصوص الشاهدة على أنّ برية فاران هي في جزيرة العرب كثيرة . و بالمقابل فإن النصوص التي تؤكد أن إجتساس أرض كنعان من قادش ببرية صين قوية ووصلتنا من رواة لم يجمعهم زمان و لا مكان.و أول
177
? "ها أنذا أرسلُ إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الربّ العظيم و المخوّف.(1/187)
فيردّ قلوب الآباء إلى الأبناء و قلوب الأبناء إلى أبائهم لئلا آتي وأضرب الأرض بالإبسال"(ملا3/23).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شهادة من سفر العدد13/21:"فصعدوا و تجسسوا الأرض من برية صين إلى رحوب في مدخل حماة".والنص الثاني هو عد32/6-8:"فقال موسى لبني جاد وبني رأوبين أيخرج إخوتكم إلىالحرب وتقعدوا أنتم هاهنا.لماذا تصدون قلوب بني إسرائيل من العبور إلىالأرض التي وهبها الربّ لهم.هكذا صنع أباءكم حين أرسلتهم من قادش برنيع ليروا الأرض" .وتث1/19-22 وتث9/23 يكذبان النص الكهنوتي ويؤكدان أنّ إجتساس الأرض كان من قادش برنيع.وهذه أربعة شواهد.كما يوجد نصان آخران يبيّنان أنّ قادش برنيع في برية صين لا في برية فاران وهما تث32/51 و عد20/1. ويأتي التأكيد أيضا من سفر يشوع قال:"و كنت أنا إبن الأربعين سنة حين أرسلني موسى عبد الربّ من قادش برنيع لجسّ الأرض وعدت إليه بنبأ على ما كان في قلبي".(يش14/7). فتوجد خمسة نصوص شاهدة على أنّ إجتساس الأرض كانت من قادش برنيع ببرية صين.(1/188)
وهي حاليا توجد بين الجمهورية العربية المصرية و فلسطين في الشمال و الشرقي لجريرة سيناء. وقد ذكرت التوراة مراحل بني إسرائيل من خروجهم من مصر إلى الأرض المقدسة في ثلاثة مواضع:سفر الخروج12/37-19/2 وسفر العدد 10/12؛13/3؛13/26؛20/1؛33/36. و أخيراً جمعت التوراة كلّ مراحل بني إسرئيل في نص طويل يتميّز بالدقة،و ذكر حتى الحوادث البسيطة مستلهمة ذلك من سفري الخروج و العدد و وثيقة ثالثة لم تصلنا.و كان عدد محطات الشعب أربعة و أربعين موقعا بينما لم يذكر سفر الخروج سوى ثلاثة عشر محطة؛و سفر العدد ذكر في موضع خمسة مراحل و في موضع آخر ست عشرة محطة.و لم يذكر هذا النص المفصل برية فاران رغم أنّه لم ينس حتى عدد العيون والنخيل في إيليم؛وندرة الماء في رفيديم.فكيف ينسى برية فاران التي حلّ فيها مجد الله و إستقرت عليها الغمامة.و إليك النص:"فكتب موسى خروجهم بمراحلهم على حسب أمر الربّ.و هذه مراحلهم في خروجهم.رحلوا من رعمسيس في الشهر الأول في اليوم الخامس عشر منه في غد الفصح خرج بنو إسرائيل بيد سامية على مشهد جميع المصريين وهم يدفنون الذين ضربهم الرب منهم من الأبكار و قد صنع الرب أحكاماً بآلهتهم . فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس و نزلوا بسكّوت و ارتحلوا من سكّوت و نزلوا بإيتام التي هي في طرف البرية و ارتحلوا من إيتام و رجعوا على فم الحيروت التي تجاه بعل صفون . و
178
? "فإنّ يوم الربّ قريب على جميع الأمم"(عو15). و كلمة "أمم" لها بعدٌ عالمي ممّا يعني أنّ المبشّر به للعالمين جميعا. و صاحب هذه النبوّة هو عوبديا الذي عاش قليلا بعد 587 ق م. و لا يوجد نبيّ واحد قاتل في سبيل الله بعد داوود،الذي عاش حوالي السنة 1000 ق م، إلاّ النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ــــــــــــــــــــــــــــــ(1/189)
نزلوا أمام مجدول و إرتحلوا من أمام الحيروت و عبروا في وسط البحر إلى البرية و ساروا مسافة ثلاثة أيام في برية إيتام و نزلوا بمارّة ووافوا إيليم و في إيليم إثنا عشرة عين ماء و سبعون نخلة فنزلوا هناك و ارتحلوا من إيليم و نزلوا على بحر القلزم و ارتحلوا من بحر القلزم و نزلوا ببرية سين و ارتحلوا من برية سين و نزلوا بدفقة و ارتحلوا من دفقة و نزلوا بألوش و ارتحلوا من ألوش ونزلوا برفيديم و لم يكن ثمّ ماء للشعب يشربونه وارتحلوا من رفيديم ونزلوا ببرية سيناء و ارتحلوا من برية سيناء و نزلوا عند قبور الشهوة و ارتحلوا من عند قبور الشهوة و نزلوا بحصيروت . و ارتحلوا من حصيروت و نزلوا برتمة و ارتحلوا من رتمة و نزلوا برمّون فارص و ارتحلوا من رمون فارص و نزلوا بلبنة و ارتحلوا من لبنة و نزلوا برسّة و ارتحلوا من رسّة و نزلوا بقهيلاتا و ارتحلوا من قهيلاتا و نزلوا بجبل شافر و ارتحلوا من جبل
شافر و نزلوا بحرادة و ارتحلوا من حرادة و نزلوا بمقهيلوت و ارتحلوا من مقهيلوت و نزلوا بتاحت و(1/190)
ارتحلوا من تاحت و نزلوا بتارح و ارتحلوا من تارح و نزلوا بمتقة و ارتحلوا من متقة و نزلوا بحشمونة و ارتحلوا من حشمونة و نزلوا بموسيروت و ارتحلوا من موسيروت و نزلوا ببني يعقان و ارتحلوا من بني يعقان و نزلوا عند كهف الجدجاد و ارتحلوا من عند كهف الجدجاد و نزلوا بيطبات و ارتحلوا من يطبات و نزلوا بعبرونة و ارتحلوا من عبرونة و نزلوا بعصيون جابر و نزلوا ببرية صين و هي قادش و ارتحلوا من قادش و نزلوا بجبل هور في طرف أرض أدوم . فصعد هارون إلى جبل هور بأمر الرب و مات هناك في السن الأربعين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر في الشهر الخامس في اليوم الأول منه . و كان هارون إبن مائة و ثلاث و عشرين سنة حين مات في جبل هور . و سمع الكنعاني ملك عراد بمجيء بني إسرائيل و هو ساكن في الجنوب من أرض كنعان . و ارتحلوا من جبل هور و نزلوا بصلمونة وارتحلوا من صلمونة و نزلوا بفونون و ارتحلوا من فونون و نزلوا بأوبوت و ارتحلوا من أوبوت ونزلوا بتلال العباريم في حدود مؤاب . وارتحلوا من التلال و نزلوا بديبون جاد وارتحلوا من ديبون جاد و نزلوا بعلمون دبلا تائيم و ارتحلوا من علمون دبلا تائيم و نزلوا بجبل العباريم تجاه نبو وارتحلوا من
179
? "إضربوا بالبوق في صهيون،صوّتوا في جبل قدسي.ليرتعد سكان جميع الأرض لأنّ يوم الربّ قادم لأنّه قريب.يوم ظلام و قتام،يوم غيم و ضباب ،مثل الفجر مُمْتَداً على الجبال. شعبٌ كثيرٌ وقوي لم يكن نظيره منذ الأزل،و لا يكون أيضا بعدُه إلى سِني دور فدور. قُدّامه نار تأكل و خلفُه لهيب يحرق . الأرض قدّامه كجنّة عدن،و خلفه قفر خرب ،ولا تكون منه النجاة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
جبل العباريم و نزلوا بصحراء مؤاب على أردن أريحا ونزلوا على الأردن من بيت يشموت إلى آبل شطيم في صحراء مؤاب «.(عد 33/3-49).(1/191)
فلو كانت فاران مرحلة من المراحل لذكرت . و نستنتج أن الا سم أدمج لاحقا بعد السبي البابلي . ووجودها في موقعها الجغرافي الأصلي يعني التسليم بمجيء صاحب الشريعة الجديدة من بلاد العرب . و هو الشيء الذي لا يرضاه بنو إسرائيل .
وشهدت نصوص الكتاب المقدس على أن برية فاران هي جزيرة العرب أو شمالها . يذكر سفر التكوين برية فاران في سياق الحديث عن التحالف بين الملوك الذين ضربوا شعوباً في المشرق القديم أيام أبينا إبراهيم عليه السلام . قال السفر : »و في السنة الرابعة أقبل كدر لا عومر و الملوك الذين معه
فضربوا الرفائيين في عشتاروت قرنائيم و الزوزويين في هام و الإ يميين في شوى قريتائيم و الحوريين في
جبلهم سعير إلى سهل فاران الذي عند البرية ثم رجعوا إلى عين مشفاط و هي قادش فضربوا كل أرض العمالقة «. (تك 14/5 –7 ). وكدر لاعومر هو ملك عيلام (في أرض إيران حالياً) ، و عشتاروت قرنائيم في سوريا جنوب دمشق ، و قريتائيم في مؤاب (الأردن حالياً) . و جبل سعير هو جنوب الأردن الحالي و شمال جزيرة العرب و قد سكنه عيسو أخو إسحاق عليه السلام . فترى من النص أن التحالف قدم من الشمال نحو الجنوب إلى غاية سعير إلى سهل فاران . و يبدو أنه كان في حس الكاتب أن التحالف يتجه اتجاها واحدا من الشمال إلى الجنوب لهذا لم يتدخل بأي كلمة توحي أنهم غيروا الاتجاه إلا بعد ذكر برية فاران و قال : » ثم رجعوا إلى عين مشفاط و هي قادش « . يعني بعدما وصل التحالف إلى برية فاران غيّر اتجاهه نحوالشمال الغربي في قادش بصحراء سيناء . و تذكر التوراة برية فاران أنها مسكن أبينا إسماعيل عليه السلام أبو العرب المستعربة قال النص : » وأقام (إسماعيل ) في برية فاران و اتخذت له أمه امرأة من أرض مصر «(تك 21/21 ) .
180(1/192)
كمنظر الخيل منظره و مثل الأفراس يركضون.كصريف المركبات على رؤوس الجبال يثبون.كزفير لهيب نار تأكل قشّا.كقوم أقوياء مُصَطفّين للقتال،منه ترتعد الشعوب. كلّ الوجوه تجمع حمرةً.يجرون كالأبطال يصعدون السور كرجال حرب ويمشون كلّ واحد في طريقه ولا يغيّرون سبلهم.و لا يزاحم بعضهم بعضا يمشون كلّ واحد في سبيله وبين الأسلحة يقعون و لا ينكسرون .يتراكضون في المدينة يجرون على السور. يصعدون إلى البيوت يدخلون من الكوى كاللّص.قدّامه ترتعد الأرض وترجف السماء.الشمس و القمر يظلمان و النجوم تحجز لمعانها.
ـــــــــــــــــــــ
و من نص التكوين 14/05-07 المذكور سابقاً يتبين أن فاران جنوب سعير.و يقص سفر صموئيل الأول خبر هروب داوود عليه السلام من أمام شاؤول إلى برية فاران قال السفر : »و قام داوود و نزل إلى برية فاران و كان رجل في معون و أملاكه في الكرمل «(25/1).
و في النص اليوناني للسفر ورد اسم معون بدل فاران . و تقول الترجمة المسكونية : » برية فاران إلى الجنوب أكثر مما تعطي الانطباع عنه الإصحاحات 22-26 . و لهذا نعتقد بوجود موقعين يحملان نفس الاسم «(TOB p 569 ) . و نعتقد من جانبنا أن معون و فاران اسمان لموقع واحد هو شمال الجزيرة العربية كما يشير إليه النص في السفر 23/24 : » وانطلق شاؤول و رجاله في الطلب فأخبر
داوود فأتى الصخرة و أقام في برية معون « . و الصخرة معروفة و هي بترا .
و يذكر جورجي زيدان في كتابه تاريخ العرب ص 153 : ظهرت و أكتشفت حفريات عاصرت ملك داوود و سليمان لمملكة يمنية حكمت حتى إلى شمال الجزيرة العربية اسمها مملكة المعونيين .و ذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس في كتابه تاريخ الحروب اليهودية اسم برية فاران متفقا مع نصوص أسفار الملوك في أنها جنوب سعير) أنظر ما ورد في كلمة فاران في قاموس أندري ماري جيرار).(1/193)
Paran, après la mort de Samuel, David, persécuté par Saul, se réfugia < au désert de Paran> selon le texte Hébreux, mais le texte grec <le désert de Maon> où s'était déjà rendu David; c'est-à-dire dans la montagne de la Judée, au sud d'Hébron. Flavius Joseph cite, au sud de la Judée, " un désert de Paran" qui pourrait justufier le mot du texte hébreux. Voir (Dictionnaire de la Bible André Marie Gérard).
وورد ذكر برية فاران في سفر الملوك الأول و يستشف من النص أنها قريبة من سعير قال : »وذلك أنه لما
181
والربّ يعطي صوته أمام جيشه.إنّ عسكره كثير جدّا. فإنّ صانع قوله قوي لأنّ يوم الربّ عظيم و مخوّف فمن يطيقه"(ئيل2/1-12). و النبيّ يوئيل عاش حسب علماء أهل الكتاب إمّا في نهاية القرن السابع قبل الميلاد أو في بداية القرن السادس و هو يتنبأ بجيش عظيم يقوده الرّب عزّ و جلّ،ترتعد منه جميع الشعوب. إن كنت، أخي الكتابي، تعرف هذا الجيش فأخبرنا عنه.
"في يوم الربّ يمدّ الربّ يده على يهوذا وسكان اورشليم و يستأصل بقية البعل أسماء الهياكل و الذين يسجدون في السطوح لجند السماء،و الذين يسجدون للربّ و يحلفون به و يحلِفون بِمَلْكُومَ1،يوم بوق و هُتاف على المدن الحصينة،و على البروج الشّامخة،وأضايق البشر فيمشون كالعميّ لأنّهم خطئوا إلى الربّ.و تُهال دماؤهم كالتراب ولحومهم كالرّجيع، و ستكون غزّة مهجورة وأشقلون
ــــــــــــــــــــــــ(1/194)
كان داوود في أدوم صعد يوآب رئيس الجيش ليدفن القتلى . فقتل كل ذكر في أدوم لأن يوآب و كل إسرائيل مكثوا هنالك ستة أشهر حتى قرضوا كل ذكر من أدوم . فهرب هدد هو ورجال من أدوم من عبيد أبيهم ذاهبين إلى مصر و كان هدد صبيا صغيراً فنهض من مدين ووافى فاران و أخذ معه رجالا من فاران و صار إلى مصر « (1 مل 11/15-18 ) .و هذا التحالف بين أدوم و بني إسماعيل ذكره المزمور 83 /7 : » لأنهم تآمروا بالقلب معاً ، عليك تعاهدوا عهدا . خيام أدوم و الإسماعليين موآب و الهاجريون « . و أخير نص سفر التثنية 1/1-2 قاطع في أن برية فاران لا توجد أين يضعها جغرافيو الكتاب المقدس قال النص: » هذا هو الكلام الذي كلم به موسى جميع إسرائيل في عبر الأردن في البرية في العربة قبالة سوف بين فاران و توفل و لا بان و حصيروت و ذي ذهب «. و خطبة موسى معروفة في عبر نهر الأردن ، أسفل أريحا ، في سفح جبل نبو . و هذا المكان تحيط به مناطق وردت بأسمائها في النص من بينها فاران . فكيف تكون فاران من حدود جبل نبو إن كانت في الشمال الشرقي لجزيرة سيناء ؟
1- إله العمّونيين الذين سكنوا في الأردن حاليا.
182.
? مستوحشة وأشدود تُطرد عند الظهيرة و عقرون تُقلع و ويل لسكان الساحل لأمّة الكريتيين"(صف1/4-6؛1/16-18).
ثم يذكر النبي صفنيا أنّه بعد خراب هذه الأمم،تُقلع آلهتهم و الكلّ يسجد لله من مكانه البعيد.يعني أنّ كلّ الأمم تسلم لله، و هذا ما تمّ بالإسلام.فلقد أسلم العرب و الفلسطينيون و أشدود وعقرون و الكنعانيون والفنيقيون والأرآميون والأشوريون و البابليون و العيلاميون و العمونيون و الموآبيون و الأدوميون و المدينيون والأقباط و الأمازيغيون والطورانيون. كلّ الأمم التي صنعت أحداث الكتاب المقدس أسلمت،و سجدت لله.
? قال النبي صفنيا :" الربّ مخيف إليهم لأنّه يهزل جميع آلهة الأرض
وسيسجد له النّاس كلّ واحد من مكانه كلّ جزائر الأمم " ( صف2/11) .(1/195)
? وقال أيضا :" لأني حينئذ أجعل للشعوب شفة نقية ليدعوا جميعهم
بإسم الرب و ليعبدوه بكتف واحدّ " (صف 3/9). و النبيّ صفنيا عاش في الثلث الأخير من القرن السابع ق م. و في نبوته إشارات إلى أنّ الأمم تُغلب ثمّ تؤمن بالله وتستجيب له. فإن راودك شكٌّ في إمكانية تأويل نبوته عن الحروب بين الأشوريين و البابليين و الفراعنة إلخ، فلا تنس الضابط الثاني في البشارات هو أنّ هذه الأمم ستسجد لله و ستعبده بكتف واحد. فما حدث في التاريخ أنّ الأمم المشار إليها آمنت بالله تعالى أيّام هؤلاء الأنبياء. هل بمقدورك، أخي الكتابي،أن تعطيني إسم نبيّ واحد غير محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلّت له الملوك والسلاطين وإنتشرت مملكته شمالا وجنوبا شرقا وغربا .ولا تنس أنّه يفصل بين داوود، آخر
.
183
من قاتل في سبيل الله من أنبياء بني إسرائيل، وسيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - نحو ألف وخمس مئة وسبعون سنة. و لقد أخبر نبيّا البشارة بالرحمة والنعمة والإنتقام من الظالمين القادمين . قال يحيى عليه السلام لليهود الذين كفروا به :" يا سلالة الأفاعي ! من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي1 "(متى3/7) .
وعيسى عليه السلام أكّد على هذا المضمون من أنّه جاء ليبشّر المستضعفين بالملك الموعود الذي يخلّص الأرض المقدسة من أسرها ،و بالإنتقام الذي يجريه الربّ عز وجل على يديه. قال ناسبا بشارة أشعيا لنفسه: "روح السيّد الربّ عليّ مسحني : لأبشّر المساكين وأرسلني لأجبُرَ منكسري القلوب وأُنادي بعتقٍ للمَسبيين وبتخليةٍ للمأسورين ،لأنادي بسَنة الربِّ المقبولةِ ويومِ إنتقامِ إلهنَا وأُعَزّي النّائحين "(لو4/18–19). و قد أشار القرآن الكريم إلى هذا الإنتقام في كثير من آياته:
? "و قاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة " ( التوبة 36 ).
? " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرّمون ما حرّم الله(1/196)
ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (التوبة 29).
ــــــــــــــــــــــــ
1-و قال أيضا :" كلّ شجرة لا تصنع ثمارا جيدة تُقطع وتُلقى في النّار ،أنا أعمّدكم بماءٍ للتوبة ولكنّ الذي يأتي من بعدي هو أقوى منّي الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه . هو سيعمّدكم بالروح القدس والنار .الذي رفشُه بيده وسيُنقّي بيدرَه ويجمعُ قمحَه إلى المخزن وأمّا التبن فيحرقه بنار لا تطفأ "(متى3/7–12). فالنبي يحيى عليه السلام يتوعّد الكافرين بالغضب الآتي زمن المسيح الذي يفرز
الصالح من الطّالح أمّا الصالح فينمو وأمّا الطالح فيحرقه بناره كما تُحرق العُصافة التي لا تصلح لشيء .
184
? " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبيس
المصير " (التوبة 73).
? " فإذا إنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم
وأحصروهم وأقعدوا لهم كلّ مرصد "( التوبة 5 ).
? " يا أيها النبيّ حرّض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون
يغلبوا مئتين وإن تكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون " ( الأنفال 65 ).
? " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض
الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم "( الأنفال 67).
? " وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله
وعدُوّكم وأخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم " (الأنفال 60 ) .
? " وقال - صلى الله عليه وسلم - :" أمرت أن أقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ
محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة "1.
3 ـ مؤسس مملكة الله(1/197)
سُميّ الإنجيل إنجيلا، من الكلمة اليونانية،لأنّه جاء بخبر البشارة بمملكة الله تعالى. و لقد دعا آخر نبيّين في إسرائيل الشعب لتهيئة نفسه لها. و لم يزل عيسى يدعو هذه الدّعوة حتّى في آخر أيّامه .و صلاتُه التى علّمها لتلاميذه تختزل الغرض من رسالته. يقول فيها :" ليأت ملكوتك "2. أمّا الإنجيل الرابع الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-رواه البخارى ومسلم
2- متى 7 /1 2 ؛ 4 / 17 ؛ 9 / 35 ؛ 10 / 7 ؛ 6 / 10 ؛ لو 9 / 6 ؛ 11 / 2 ؛ 4 / 43 ؛ 8 / 1 ؛20/1
؛ مر 1 / 15 ؛ 6 / 12.
185
كتب على أعتاب القرن الثاني للميلاد فلم يذكر مرة واحدة أنّ يسوع بشّر بملكوت الله .وهذا دليلٌ أنّ يوحنا كان يعرف أنّ الملِكَ باني مملكة الله لم يأت بعد،و أنّ يسوع لم يزد دوره عن البشارة به.ومملكة الله تعالى مفهوم أرّق الإنجيلي لوقا وأقضّ مضجعه .ففي أحد عشر نصاً من إنجيله يجعل على لسان يسوع أنّ ملكوت الله لم يأت بعد وأنّه لم يزد دوره عن البشارة به .ثم يتراجع بعد ذلك ويقول إن ملكوت الله قد أتى في ثلاثة نصوص ويُفسِّر ذلك بأنّ يسوع فعل معجزات كثيرة .ثم يتراجع عن قوله الثاني مرة أخرى ليقول أنّ يسوع لم يصبح ملكا مؤسّسا لمملكة الله إلاّ على الصليب ثم موته وقيامته من بين الأموات. ثم أخيرا في المرة الرابعة يستقرّ رأيه النهائي على أنّ ملكوت الله لم يأت.
فلمّا ترآءى يسوع لتلاميذه حسب سفر الأعمال قالوا له متى تردّ مُلك إسرائيل ؟ فأجابهم : "ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات"1 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- وردت "ملكوت الله" في الإنجيل بمعنيين. الأوّل يعني يوم الدّين أين يجازى النّاس بأعمالهم(1/198)
إن شرّا فالنّار هي المأوى و إن خيرا فالجنّة هي المأوى و بهذا المعنى ورد في الأعداد الموالية: لو 14/15 ؛ لو 21/31 ؛لو22/16 ؛لو 22/18 ؛ لو 22/29 ؛ لو 22/30؛. و بإستثناء الأعداد الموالية و التي لا نستطيع معرفة بأيّ من المعنيين أتت و التي تعد المؤمنين بملكوت الله : لو 18/16؛ لو 18/17؛ لو 18/24 ؛ لو 18/25 ، لو 18/29. فإنّها وردت بمعنى مملكة أرضية يحكم فيها الله تعالى عباده و يسوسهم بمسيحه الموعود. و قد ضرب أمثالا كثيرة لتشبيه ملكوت الله بكنز مخفي و بحبة الخردل و بالؤلؤة الثمينة إلخ.. و يبدأ لوقا خبره بالبشارة بملكوت الله بالمفهوم الثاني في لو 4/43 :"ينبغي لي أن أبشّر المدن الأخرى أيضا بملكوت الله لأنّي لهذا قد أرسلت". واضحٌ من هذا النصّ أن يسوع ليس له إلا البشارة به... و في لو6/20:" طوباكم أيّها المساكين لأنّ لكم ملكوت الله" و هذا النصّ على سبيل التبشير. و في لو 8/1 يستمرّ في البشارة به. و في لو 8/10 لم يفصح لوقا عن أنّ ملكوت الله قد أتى إنّما قال:"لكم قد أعطي أن تعرفوا أسرار ملكوت الله".
186
وتؤكّد رسالة بطرس الثانية هذا الرأي لأنّ موضوعها هو إستبطاء الجيل الأول لظهور ملكوت الله .وأمّا قول يوحنا اللاهوتي في كتابه أنّ يسوع قال أمام بيلاطس
البنطي : "مملكتي ليست أرضية إنّما هي سماوية " ـ لم يقل هذا القول إنجيليٌ
ــــــــــــــــــــــ(1/199)
لو9/2:"و أرسلهم ليكرزوا بملكوت الله". لو 9/6:" في كلّ قرية يبشّرون و يشفون في كلّ موضع". لو9/11:" و كلّمهم عن ملكوت الله". لو 9/27:" حقّا أقول لكم إنّ من القيام هاهنا قوما لا يذوقون الموت حتّى يروا ملكوت الله". لو9/60:" أمّا أنت فأذهب و ناد بملكوت الله". لو 9/62:" ليس أحد يضع يده على المحراث و ينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله".لو10/9:" و قولوا لهم لقد إقترب منكم ملكوت الله". لو10/11:" قد إقترب منكم ملكوت الله". في نصّي لو 11/20 و لو 12/32 إستثناء فيذكر أنّ ملكوت الله قد حلّ على التلاميذ حيث قال على الترتيب:"و لكن إن كنت بأصبع الله أخرجُ الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله"، و قال أيضا : قال:" لأنّ أباكم قد سُرّ أن يعطيكم الملكوت".. ثم يتراجع مرّة أخرى عن هذه الفكرة في لو12/31:" أطلبوا ملكوت الله و هذه كلّها تزاد لكم". لو 16/16 :" كان الناموس و الأنبياء إلى يوحنا و من ذلك الوقت يبشّر بملكوت الله".و يستشكل على لوقا مرّة أخرى حلول ملكوت الله في لو 17/20 ، فيجعل هذه التطمينات على لسان يسوع:" و لمّا سأله الفرّيسيون متى يأتي ملكوت الله؟ أجابهم و قال لا يأتي ملكوت الله بمراقبة؟". و يعود مرّة أخرى لوقا للتأكيد أنّ ملكوت الله قد أتى في لو17/21:" لأنّ ها ملكوت الله داخلكم". ثم يتراجع عن هذه الفكرة مرّة أخرى .و في لو 19/11 يعترف لوقا أنّ ملكوت الله لم يأت بعد إذ جعل على لسان يسوع:" و كانوا يظنّون أنّ ملكوت الله عنيدٌ أن يظهر في الحال". في لو 20/1 يعترف لوقا أنّ يسوع في أيامه الأخيرة كان لا يزال يبشّر بملكوت الله، و هذا يعني أنّه لم يؤسّس ملكوت الله. لو 22/51:" و كان ينتظر ملكوت الله" و هذا يعني أنّ ملكوت اله لم يأت بعد. و إستقرّ رأي لوقا في إنجيله أنّ ملكوت الله لم يأت بعد.(1/200)
أمّا في كتابه الثاني في سفر الأعمال يؤكّد أن ملكوت الله لم يأت بعد حيث كتب في أع1/3:" و هو يتكلّم عن الأمور المختصّة بملكوت الله"، ثم يتراجع مرّة أخرى و يقول أنّ المسيح أسّس ملكوت الله بموته على الصليب و قيّامته في أع 2 / 36 ثم يتراجع عن رأيه و يستقرّ نهائيا في أع 1/6-7 أنّ يسوع لم يؤسّس ملكوت الله . إذ لمّا سأله التلاميذ هل في هذا الوقت تردّ ملك إسرائيل فقال لهم ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة و الأوقات التي جعلها الآب في سلطانه". ثم يؤكد لوقا أنّ
التلاميذ بعده إستمرّوا في البشارة في ملكوت الله .أع 5/42:" و كانوا لا يزالون كلّ يوم في الهيكل و في
187
آخر غير يوحنا ـ فهو محاولة بائسة و مفضوحة غرضها أن تجعل من يسوع مؤسّسا للمملكة الله. و زعمٌ كهذا يسهل دحضه إذ أنّ الأنبياء أخبروا أنّ ميدان المسيح الأرض و ليس السّماء1. و إليك النصوص:
? " قال الربّ لسيدي اجلس عن يميني حتّى أجعلَ أعداءَك مَوطِئ قدمَيك
عَصَا عِزّتِكَ يُرسِلُها الربُّ من صِهيونَ . تَسَلّط فيما بين أعدائِك.إنّ شعبَك مُتطوّعٌ يومَ قُدرَتِكَ بِبَهَاء قَدَاسَتِك ، مِن مَكَان مِيلادِ الفَجرِ يَأتيكَ نَدَى وِلادَتِكَ. الرّبُ أقسَمَ و لن يندمَ أنتَ كاهنٌ إلى الأبد على رُتبَة مَلْكِي صَادِق . السيّدُ عن يمينِك يَحطُمُ الملوكَ في يومِ غضبِه . يُدينُ بين الأممِ. مَلَأ جُثثاً أرضاً واسعة سَحَق رؤوسَها من النّهرِ يشرَبُ في الطريق لذلكَ يرفع الرأس " (مز110).
? " فاض قلبي بكلام صالح . إنّي أقول أعمالي للملك . لساني قلمُ كاتبٍ
سريعٍ. إنّك أبهى جمالا بين بني آدم، و قد انسكبت النِعمةُ على شفتَيكَ فلذلك باركَكَ الربُّ إلى الأبد . تقلّد سيفَك على فخذِك أيّها الجبّارُ جلالُك و بهاءُك .
ـــــــــــــــــــــــــــ(1/201)
البيوت معلّمين و معلنين بشارة يسوع المسيح" . كل مراجعي من الترجمات الفرنسية و الإنجليزية تكتب كما ذكرت، أمّا الترجمات العربية فتكتب:" معلّمين و مبشّرين بيسوع المسيح". و هذا يعني أنّ التلاميذ بعد يسوع كانوا مستمرّين بالبشارة بملكوت الله. أع8/12:" و لكن لمّا صدّقوا فليبس و هو يبشّر بالأمور المختصّة بملكوت الله".أع 8/35:" و أعلن له بشارة يسوع" ، أمّا الترجمات العربية فتكتب: " فبشّره بيسوع".أنظر الأعداد الموالية التي تبيّن بما لا يدع مجالا للشك أن التلميذ إستمروا في البشارة بملكوت الله و هذا قاطع في أنّ يسوع لم يزد دوره إلا عن البشارة به أع 8/40 ،10/36 ،11/20، 13/ 32،14/ 21 ،14/22 ،16/10 ، 19/8 ، 28/23 ؛28/31.
1-فكتب الأنبياء – وإن خطىء واحد لا يخطىء الكلّ – بشّرت بنبي ملك يحكم بشريعة ناسخة للتوراة، يتسلّط على أعدائه ويحكم من النهر إلى أقاصي الأرض.وتسقط جثث الكافرين والطغاة على الأرض أمامه كأنّها الرجيع، وتلحس الدنيا غبار نعليه ،وتعطي له الأمم الجزية عن يد وهي صاغرة
188
بجلالِكَ اقتَحِم و اركَبْ لأمْرِ الحَقّ و الدَّعَة و البِرّ فتُعلّمُك يمينُك المخاوفَ. نبالُك مسنونةٌ و شعوبٌ تحتَك يسقطون " و يقول في نفس المزمور :" لذلك مسحَك إلهُك بِدُهنِ البَهجَة أفضلَ من شُرَكَائِك " (مز45/1-8).
? " مباركٌ القادمُ باسم الربّ " (مز 118/26 )1.
و لقد أطنبت أسفار الأنبياء في وصف النبيّ العظيم و عمله السيّاسي على الأرض.(1/202)
ومن تحريف لوقا للإطار الزمني الذي قال فيه يسوع عليه السلام هذا المزمور يتبيّن أنّه لم يُقصد به يسوع.إذ ذكرت الأناجيل الأخرى هذا المزمور على لسان عيسى لمّا دخل إلى أورشليم دخوله الأخير إليها. و يكون التأويل حينئذ أنّ يسوع سيغيب حتّى يأتي من يقولون عنه:مباركٌ القادم بإسم الربّ. لوقا تفطّن لخطورة هذا النصّ على لسان يسوع و هو في أورشليم لآخر مرّة في حياته إذ يعني أنّ المبارك و القادم بإسم الربّ سيأتي بعد يسوع فاقترح حلاّ لهذا الإشكال و وضع نصّ المزمور هذا على لسان عيسى و هو لا يزال في الجليل2.
? " الّلهُمّ اجعلْ أحكامَك لِلمَلكِ و عَدْلَكَ لابنِ المَلِكِ . فيحْكُمُ لِشعبكَ بالعدْلِ
ـــــــــــــــــــــــــ
،ويزهر العدل في زمانه ويكسر نير الظالمين ، ويعمّ الرخاء ،وتمتلىء الأرض في زمانه من مخافة الربّ ،ويبيد مملكتي الظلم والطغيان :تنّين البحر ولاوياثان الحيّة المقومة .ويتزوّج بنات الأشراف والأعيان ،وبذكره تتبارك الأمم،ويقود أمّة عمياء .ولا يوجد شيء من هذا في السماء: لا أنهار ولا قتال ولا جزية ولا ظلم ولا ظالمين إلخ ...
1-وهذا المزمور ذكره عيسى عليه السلام بعد دخوله إلى أورشليم الأخير "هو ذا بيتُكم يُترَك لكم خَراباً فإني أقول لكم إنّكم من الآن لَن تَرَوْنَني حتّى تقولوا مُباركٌ القادمُ باسم الربّ."(انظر متى23/39؛ لو13/35) مما يعني أنّ المبشّر به آخرٌ يأتي بعد عيسى .
2- أنظر نص بكاء يسوع و كلامه معها و هو في االجليل لو13/31-35 و قارنه مع متى23/37-39.
.189
و لِبَائِسِيكَ بالإنصَافِ .تُثمِرُ الجبالُ سلامًا للشّعبِ و التِّلالُ بِرّاً . يَقضِي لِبَائِسِي(1/203)
الشَّعبِ و يُخَلِّصُ بَني المساكينَ و يحطُمُ الجَائرَ . فَيخْشَونَك مادَامَت الشَّمسُ و القمرُ إلى جِيل الأجيال . يَنزِلُ كالمَطَرِ على الجُزّة ، كالغُيوث التي تَسقي الأرضَ ينبتُ في أيّامِه الصِدِيّق و كثرةُ السّلامِ إلى أن يَضمَحِلّ القمرُ . و يملِكُ من البحرِ إلى البحر و من النَّهرِ إلى أقاصي الأرضِ . أمامَه يَجثُو أهلُ البَادِية و أعداؤُه يلحَسونَ التُّرَاب.ملوكُ ترشيشَ و الجزائرَ يحمِلُون إليه الهَدَايا . مُلوكُ شَبأ و سَبأ يُقرّبون لهُ العَطَايا . و يسجُدُ له جميعُ الملُوكِ و تَتَعبّد له كلّ الأمم . لأنّه يُنقِذُ المسكينَ المستغيثَ و البائسَ الذي لا ناصرَ لَهُ.يَرثي للكَسيرِ و المسكينِ ويُخلّصُ نفوسَ المساكينِ من الظُّلمِ و الغَصبِ، و يَفتَدي نفوسَهم و يكونُ دمُهم في عينَيه
ثمينًا.فيَحيَوْنَ و يُؤدّونَ إليه مِن ذَهَبِ شبَأ و يُدعونَ لَهُ في كُلّ حينٍ.النَّهَارُ كلُّه يُبَاركُونَهُ.يكونُ لِلبرّ توافرٌ في الأرضِ ،غَلّتُه في رؤوسِ الجِبال تَتَمَوّجُ كلُبنان، ويُزهِرُ
أهلُ المدُن مثلَ عُشبِ الأرضِ.يكونُ إسمُه إلى الأبَدِ ما دَامت الشَّمسُ يَنمُو إسمُه و يَتَبَارَكُ فيه جميعُ قبَائِلِ الأرضِ و تَغبِطُه كلُّ الأمَم.(مز72).
ومن المزامير التي سبقت يتبيّن أنّ هذا الملك ترعاه عين الله، وتؤيده عنايته فيكسرُ المتجبّرينَ وينصرُ المستضعفينَ، ودمُهم يكون حراما في شريعته لأنّه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا .وتُعطيه الأممُ الجِزية وتَغبِطه .ويتباركُ النّاس بإسمِه ،لأنّه البخيل في أمّتِه من ذُكر عنده ولم يصلّ عليه .ويكثرُ السّلامُ في زمانه والرخاءُ .وقد لخّص حديث عدي الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ما فعل الله به من خيرٍ . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم : " أما إنّي أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام ،تقول إ نمّا إتّبعه ضعفة الناس
190(1/204)
ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب .أتعرف الحيرة ؟قال : قلت لم أرها وقد سمعت بها قال :فوالذي نفسي بيده لَيُتِمَنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ،ولَتفتحُنّ كنوز كسرى بن هرمز .قال :" قلت كسرى بن هرمز ؟ قال : نعم كسرى بن هرمز ، ولَيُبذَلَنَّ المال حتى لا يقبله أحد .قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز . والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة لأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قالها .وهذا الحديث الشريف يبيّن ما تنبأت به المزامير .فخروج الظعينة وهي المرأة التي لاحول لها ولا قوة من الحيرة إلى الحرم دون جوار يدلّ على السّلام الذي صنعه سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - .وفتح كنوز كسرى وفي أحاديث أخرى قيصر يدلّ على أنّ الله يذلّ به المستكبرين ويرفع المستضعفين، فقد رفع الله بلالا و صهيبا وأذلّ أمية بن خلف والوليد بن المغيرة وأبا جهل وأبا لهب،وقرّر سيد الأنام ألا فضل لأحد على أحد إلاّ بتقوى الله .وأمّا الرخاء حتى يبذلّ المال ولا يقبله أحد فتمّ أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز .
لا نشكّ أنّ الدّارسين من أهل الكتاب يعرفون هذه الحقائق .لكن وردت كلمة في المزمور 110 لا نفهمها نحن كمسلمين وقد نستقبحها جداً .وهي"أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق " .فقد وعد المزمور أنّ النبي سيكون كاهنا.فالكاهن في لغة العرب هو العرّاف الذي يقول عرافته على شكل سجع .وقد وردت هذه الكلمة بهذا المعنى في السيرة النبوية :لمّا إجتمع صناديد قريش بالوليد بن المغيرة وكان ذا سنّ فيهم قال : إنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ،فأجمعوا فيه رأيا واحد ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعض ويردّ
191(1/205)
قول بعضكم بعض .فقال : أنتم قولوا وأنا أسمع .فقالوا : نقول كاهن .فقال :ما هو بكاهن،رأيت الكهّان فما هو بزمزمة الكهان1.وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم :" وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون "( الحاقة 41 - 42 ).لكن معنى الكلمة عظيم عند أهل الكتاب .فهو الرجل الذي إختاره الله ليؤمّ النّاس في صلواتهم ومناسكهم وذبائحهم ،وهو شفيع بإذن الله .فإذا تنجّس تنجّس الشعب كله وإذا طهُر طهُرَ الشعب كله2 .
و قد إختار الله تعالى في العهد القديم هارون النبي وأولاده ليكونوا كهنة له من بين آل إسرائيل .لكن معاني الكلمات تتحرّف بطول الزمن بإنحراف من تسمّوا بها .فلجشع الكهنة وأكلهم أموال النّاس بالباطل وقولهم الزور وحرصهم على الدنيا وبيعهم لصكوك الغفران ،أصبح معنى الكاهن هو الذي يتكسّب بالزور ويقول عرافته بكلام مسجوع .والأمثلة على هذا الإنحراف في المعنى كثيرة في لغات العالم وثقافاتهم .ففي الثقافة الفرنسية لمّا نقول " يهوذا " نعني به خائن؛و لمّا نقول " حدث له إنقلاب طريق دمشق " نعني أنّه تحوّل جذريا من عدو لدود إلى صديق حميم .وفي الجنوب الغربي للجزائر كلمة " راهب " تعني منافقٌ لا يُؤتَمن مَكرُه. وعلى هذا يجب إذا أردنا فهم نصوص الكتاب أن نفهمها بثقافة أهله .فكاهن في الكتاب المقدس تعني شفيع.
وقد ثبتت الشفاعة لسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - بالكتاب و السنة : ...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-سيرة ابن كثير المجلد I ص 500
2- أنظر أح 16/16:" فيكفّرُ عن القُدس من نجاسات بني إسرائيل و من سيّئاتهم مع كلّ خطاياهم". و أنظر أيضا أح 4/3 ؛ 16/21 ؛ عد 16/9 .
.192
? "إستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله
لهم( التوبة 80 ).
? " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم
الرسول لوجدوا الله توابا رحيما " (النساء 64).(1/206)
? وقال - صلى الله عليه وسلم - :" أنا أوّل شافع ومشفّع وحامل لواء الحمد ".
? وفي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام :" أعطيت خمسا لم يعطهنّ
أحد من الأنبياء قبلي : نُصرت بالرُّعب مسيرة شهر وجُعلت لي الأرض مسجدا و طهورا .وأُحِلّت لي الغنائم ولم تُحَلّ لأحد من قبلي . وأعطيت الشفاعة .وكان النبي يُبعث إلى قومه وبُعثت إلى الناس عامة ".
ولهذا جاء في الإنجيل على لسان عيسى عليه السلام:" إن كنتم تحبونني احفظوا وصاياي وأنا أطلب من الآب فيُعطيكُم شفيعا آخر لِيمكُثَ معكم إلى الأبد "1.
وتنبأ النبي دانيال عن الملك الذي لا نهاية لملكه قائلا :
? " إنّك أيّها الملك رأيتَ فإذا بتِمثالٍ عظيمٍ .كان هذا التمثالُ الكبيرُ والكثيرُ
البهاء واقفًا أمامَك وكان منظرُه هائلا .وكان رأسُ التمثال من ذهبٍ خالصٍ، وصدرُه وذراعَاه من فضّةٍ ،وبطنُه و فخِذَاه من نُحَاس ،وساقَاه من حديدٍ، وقدمَاهُ بعضُها من حديدِ والبعضُ من خَزَفٍ . وفيما أنتَ راءٍ ،إذ إنقطَعَ حجرٌ لا بِيَدَينِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-يو14/ 16 وقد ثار جدل كثير بين النصارى والمسلمين منذ أيام بن هشام صاحب السيرة الشهيرة حول من هو البارقليطس الآخر الذي وعد به يسوع عليه السلام .والحقيقة أنّ صفات البارقليطس في إنجيل يوحنا لا تجمع ولا تأتلف .فحجج النصارى في أنّ البارقليطس هو الروح القدس هي:
? سمي صراحة البارقليطس الروح القدس في الإنجيل .
? العالم لا يستطيع أن يقبله لأ نه لا يستطيع أن يراه أو يعرفه .
193
فضَرَبَ التِمثَالَ على قدمَيه اللتين من حديدٍ وخزفٍ وسحقَهُما فإنسَحَقَ الحديدُ والخزفُ والنحاسُ والفضّةُ والذهبُ معاً .وصارت كَغَفَى البَيْدَرِ في الصّيفِ فذَهَبَت بها الرّيحُ ولم يجِدْ لها مكانٌ .أمّا الحجرُ الذي ضربَ التِمثالَ فصَارَ جبَلا كبيرًا(1/207)
وملأ الأرض كلّها هذا هو الحِلمُ .أمّا تعبيرَه فنُخبِرُ به أمَام الملك .أنت أيُّهَا المَلكُ ملكُ الملُوكِ لأنّ إلَهَ السّمَاء أتاكَ المُلكَ و القُدرةَ و السُّلطانَ و المَجدَ، وكُلّ ما يسكنُه
البشرُ،و وحوشُ البرّ و طيورُ السَّماء جعلَه في يَدِكَ ،وسلّطَكَ على جميعه .
فأنت الرأسُ من ذهبٍ ،و بعدَك تقومُ مملكةٌ أخرى أصغرُ منك .ثم مملكةٌ أخرى ثالثة من نُحاس فتتسلّط على كلّ الأرض .ثم مملكةٌ رابعَةٌ تكون صلبةً كالحديد لأنّ الحديدَ يسحَقُ ويطحَنُ كُلّ شَيْءٍ .فكما أنَّ الحديدَ يحطُمُ كذلك هي تسحقُ وتحطمُ جميع تلك .وما رأيتَ مِنْ أنَّ القَدَمينَ والأصابعَ بعضُها من خزفِ الفخَّارِ
ــــــــــــــــــــــــ
? البارقليطس في نفوس الحواريين وهم ممتلؤون منه
? البارقليطس يأتي من الآب. و صفات مثل هذه لا تصحّ و لا تصدق على بشر.أمّا حجتنا نحن
فهي:
? قال يسوع عليه السلام:" يعطيكم بارقليطس آخر" و البارقليطس الأول هو يسوع نفسه كما ثبت في
رسالة يوحنا الأولى 2/1. فإطلاق هذااللقب على بشري والروح القدس في نفس الوقت غير مستساغ.وبخاصة ورد في كلام يسوع كلمة "آخر" و لا نقول آخر إلاّ إذا كان من نفس الجنس.
? البارقليطس يذكّر التلاميذ بكل ما قاله يسوع. ولم يثبت أنّ الحواريين نسوا حتى ذكّرهم الروح
القدس.
? من شروط مجيء البارقليطس ذهاب يسوع عليه السلام. أمّا الروح القدس فكان ممتلأ منه يسوع و
يحيى بن زكرياء و كل الأنبياء السابقين. (يو16/7)
? "البارقليطس يرشد إلى الحق لأنّه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به و يخبركم بأمور آتية"
و لا أحد من المسلمين او اليهود او النصارى يشك في أن الروح القدس قد يتكلم كذبا.
و إذا قال يسوع:" يرشدكم إلىحق لأنّه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به" يدلّ على أنّ
194(1/208)
وبعضُها من حَديدٍ .فهو إنّ المملكَةَ تكونُ منقسمَةً ويكون فيها مِن قُوّة الحديدِ فَلِذلك رأيتَ الحديدَ مُختلطًا بِخزَفٍ من الطِّين .فَكَمَا أنّ أصابعَ القَدَمين بعضُها من حديدٍ وبعضُها من خزفٍ فكذلك يكون بعضُ المَمْلَكة صَلبًا والبعضُ قصِفًا .وما رأيتَ من أنّ الحديدَ مُختلطٌ بخزَفِ الطِّينِ ،فهُو أنّهم يَختَلِطُون بذَرَارِي منَ البَشَرِ
،ولكن لا يَلتَحِمُ هذا بذاك ،كما أنّ الحديدَ لا يختلطُ بالخزفِ .و في أيام هؤلاء الملوك يُقيمُ إله السّماء مملكةً لا تُنقَضُ إلى الأبد وملكُه لا ينزلُ لشعبٍ آخر فتسحَقُ وتفنَى جميعُ تلك المَمَالِك وهي تثبُتُ إلى الأبد"(دا2/29–45) . وهذه الرؤيا رآها نبوخذ نصر ملك بابل،وفسّرها النبي دانيال .وتأويلها أنّه تتعاقب على مملكة بابل أربع ممالك وأخيرا يقيم إله السماء مملكة لا تنقضي أبدأ و التي تثبت إلى الأبد ،وهي مملكة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وتنبأ الأنبياء عن زوال ملك إسرائيل ليكون إلى الذي تجب طاعته على الأمم .
ـــــــــــــــــــــــــــ
البارقليطس بشر. و أنّه يتكلم و يسمع بأعضاء الكلام و السمع كما بين ذلك الدكتور موريس بوكاي على أساس الكلمتين اليونانيتين. و أنه يخبر بأمور آتية أي أنه يقول نبوات(يو16/13)
? " متى جاء البارقليطس يوبخ العالم على الخطية" (يو16/8).و ما وبخ الروح القدس العالم.ووبخ
سيّد الخلق الذين كفروا من أهل الكتب و المشركين.
? و البارقليطس يشهد ليسوع و التلاميذ يشهدون أيضا(يو15/26). ولقد نبه الشيخ رحمة الله
الهندي على الكلمة " أيضا". و يعني أن شهادة الحواريين مستقلة عن شهادة البارقليطس.و لا يعقل عند مؤمن أن المؤمن قد يشهد شهادة مستقلة عن إلهام الروح القدس.(1/209)
? قال يسوع :" لي أمور كثيرة أيضا لأ قول لكم و لكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. و أما متى جاء روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق" (يو16/12).يدل كلامه أن البارقليطس هو صاحب الشريعة الكاملة. وكلمة روح الحق لا تعني أنه الروح القدس.و قد شاعت هذه الكلمة" بارقليطس"في
الأوساط الأسينية التي كانت تنتظره كما بيّنت وثائق قمران.
195
? " وأجعَلُ إنقِلابًا على إنقلابٍ على إنقلابٍ ..هذه الحالُ لا تكونُ و ذلك
إلى أن يَأتي الذي له الحُكمُ فأجعَلُه له"(حز21/27-32).
? " لا يزولُ صَولجَانٌ من يهوذا و مُشتَرِعٌ من صُلبه حتّى يأتي شيلو وتُطِيعُه
الشُّعُوبُ " (تك 49/10).
أما الترجمة المسكونية فتقول :" لا ينفصل صولجان عن يهوذا ولا عَصَاةُ
الرُّسُوم من بين رِجْلَيه حتّى يَأتي الذي هُو لَه والذي تَجبُ طاعَتُه على قَبَائِلِ الأرضِ ".
ويُسقط أهلُ الكتاب هذه النصوص في سفري التكوين وحزقيال على المسيح الذي يخرجُ من نسل داوود كما يزعمون .وبعضهم أسقطها على ملك بابل :نبوخذ نصر. وعلى ضوء الحقائق التاريخية والسياق النصي فإن صاحب البشارة هو النبي المسيح الذي يكون من غير نسل يهوذا .و الملكُ البابلي لا تصدق عليه النبوّة ذلك لأنّه كان وثنيا لا يعرف الله. و قد وصف النبي حزقيال نبوخذ نصر بما يلي (21/27) :" فإنّ ملك بابل قد وقف عند أمّ الطريق في رأسِ الطَريقين لِيُبَاشِرَ عرافَةً .فأجَالَ السِّهَامَ وسَألَ التَرَافِيمَ و نَظَرَ في الكَبِدِ فإذا العِرَافَةُ في يَمينِه أورشليم لِيَنصِبَ الَمجَانِيق ". وهذا الوصف لا يليق إلا بوثني .وكان قد عصاه النبي دانيال وسّفه معبوداته .وكان الملك البابلي يُرغم الناس على عبادة الأوثان(دا3/6). فكيف تجب طاعته ؟(1/210)
ونبوة حزقيال تتنبّأ بخراب أورشليم على يد ملك بابل.ومن القرائن نتبيّن أنّ حزقيال عاصر الجلاء الأوّل لأورشليم سنة 598 ق م أيام الملك يوياكين .حيث إقتصر هذا الجلاء على الأغنياء ورؤساء الشعب والحِرَفِيينَ. و تَمّ خلاله نهبُ
.196
هيكل الربّ من كلّ الأدوات التي صنعها سليمان عليه السلام وكنوز بيت الملك .
ومَلّكَ نبوخذ نصر، على عامة الشعب ،صِدِقيَا عَمّ يُويَاكين .و ثَار صِدقيا على مملكة بابل وكانت ثورته سببا في الجلاء الثاني الذي كان دمارا مروّعا لأورشليم وهيكلها وشعبها والتي إنتهت سنة 587 ق م1 . وبعد هذه السنة لا نعلم أنّه قام لبني إسرائيل سلطان إلى غاية 1948م تاريخ قيام دولة إسرائيل .ولهذا قال حزقيال النبي :" هكذا قال السيّد الربّ إنّي أنزِعُ العِمَامَة وأرفَعُ التَّاجَ .هذه الحالُ لاتبقى بل أُعَلّي السَّافِلَ وأُسَفّلُ العَالي واجعَلُ انقلاباً على انقلابٍ على انقلابٍ حتى يأتي الذي له الحُكمُ فأجعلُه لَهُ " .
وتعاقبت إدارات وثنية على الأرض المقدسة من البابليين والفارسيين واليونانيين إلى الرومان حتى غزاهم سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأُعطيت له الأرضُ المقدّسة مُلكاً أبديا .
و قد نسمع لغطاً من اليهود حول ما يُسمّونه مملكة الحشمونيين التي أسّسها الإخوة المكابيون في القرن الثاني قبل الميلاد .وهذا الكلام غير صحيح .ففي أزهر تاريخ اليهود بعد خراب أورشليم لم تكن الأرض المقدسة تزيد عن كونها ولاية من ولايات اليونان والرومان ؛ ولم يزد سمعان المكابي عن كونه كاهنا تحت سلطة الإمبراطورية .يقول سفر المكابيين :" من ديميتريوس الملك إلى سِمعانِ الكَاهن الأعظَمِ وصَدِيق المَلك وعلى شُيوخ وشَعب اليَهُود سَلامٌ "( Iمك13/36). وأقصى ما وصله سمعان هو الولاية على اليهودية :" وإذ بلغهم أنّ سمعان أخاه قد تقلّد الكهنوت الأعظم مكانه ( يوناتان ) وصارت البلاد وما بها من مدن تحت سلطانه(1/211)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 -II مل 24 / 8 – 25 / 26
197
كتبوا له على ألواح من نحاس يُجدّدوا معه ما كانوا قد قررّوه مع يهوذا ويوناتان أخويه من الموالاة و المناصرة "( I مك 14/16-18).وقد كتب إنطوكيوس بن ديميتريوس إلى سمعان :" فالآن أقرّرُ لكَ كُلّ حَطيطَة حَطّهَا عنك المُلوكُ مِن قبلي وكُلَّ ما أعفَوكَ مِنه مِن تَقَادُمٍ "(مك15/5). أما قبل هذا التاريخ في زمن إنطكيوس الشهير في خريف 169 ق م فقد دنسّ مذبحَ الربّ ونجّس بيته و مُنعت الذبائحُ و السَّكيبُ1 ودنّس السبتَ والأعياد والإختتان .
وتنبأ زكرياء بالملك الموعود رحمة للعالمين قائلا :
? إبتهجي جداّ يابنت صهيون وأهتفي يابنت أورشليم .هو ذا مَلِكُك يأتيك
صدّيقا مُخلّصا وديعا راكبا على أتان وجحش ابن أتان.وأستأصلُ العَجلَة من أفرائيم1 والخيلَ من أورشليمَ ، وتُستأصَلُ قوسُ القتالِ و يَتَكلّم بالسَّلام لِلأمَم ويكونُ سلطانُه من البحرِ إلى البحرِ و من النّهرِ إلى أقَاصي الأرضِ"(زكا9/9 -10) . وهذه نبوة زكرياء .وأتت بعد البشارة التي تخصّ الأمم المجاورة لأورشليم التي
ستعبد الربّ الإله الواحد وتعرفه .وهي حدراك ودمشق وحماة وصور وصيدا وعشقلون وعقرون وأشدود والفلسطنيون .وهذه الأمم وصلتها كلمة الله تعالى في زمن الخليفة العادل عمر الفاروق التلميذ المباشر لسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - وخليفته .فقد ثبت في التاريخ أنّ هذه المدن سقطت عنوة وتحصنّت أورشليم وطلبت الصلح مباشرة مع أمير المؤمنين .فأتى إلى أورشليم راكبا حمارا وثوبه كلّه رُقعٌ3 .
ـــــــــــــــ
1-السكيب هو ما يسكب من خمر إلخ فوق القرابين التي تقدّم لله تعالى.
2-أفرائيم يقصد به إسرائيل.
3-أمّا ذكر هذه النبوة في الأناجيل لمّا دخل سيدنا عيسى عليه السلام إلى أورشليم فلا يصدق .لأنّ سيدنا
.198(1/212)
و كنّا قد بيّنا من قبل أنّ رسول الله يتميز عن جميع من سبقه من إخوانه الأنبياء أنّه كان،بالإضافة إلى كونه نبيّا، حاكما مشرّعا منفذّا و قاضيا. و أصحاب الذّمة من أهل الكتاب لهم كامل الخيار في أن يعترفوا برسالته لكنّهم ملزمين، بموجب عقد الذّمّة،بالإعتراف به كحاكم سيّاسي1.
4 ــ رسالته إلى كافة النّاس
من الأشياء المقطوع فيها يقينا عند علماء الكتاب المقدّس هو أنّه في زمن المسيح تشترك الأمم مع بني إسرائيل في عبادة الواحد الديّان .وهذه العقيدة المؤسّسة كان يتبجّح بها بولس ليبرّر نشر البشارة بين الأمم .قال بولس في رسالته إلى أهل رومية :" لأنّه لا فرق بين اليهودي واليوناني لأنّ ربّا واحدا للجميع غنيا لجميع الذين يدعون به"2 ( رو 10/12). و يريد أنّ عصر الدّيانات القومية3 قد ولّى و أتى دين العولمة. و قد تنبّأ بالرسالة العالمية سفر التكوين تك49/10؛ أش42/6؛ صف2/11؛ صف3/9. حيث ذكرت هذه النبوّات أنّه سيأتي زمانٌ تشترك فيه الأمم مع إسرائيل في عبادة الواحد الأحد و تسجد كلّها له من مكانها. و لا يوجد نبيٌّ جاء برسالة لجميع البشرية إلاّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ـــــــــــــــــــ
عيسى لم يدخل إلى أورشليم ملكا إنما دخلها ليبشر بملكوت الله وكان عليه السلام مضطهدا لهذا أصرّ
اليهود على محاكمته وصلبه. وكان في هذا الزمان قيصر هو الملك عن طريق واليه بيلاطس البنطي .
1-وثبت من القرآن ومن سنة رسول الله ومن التاريخ أنّ سيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - كان حاكما باسم الله .وحكمه لم يكن له مثيل من قبل ولا من بعد أنظر الصفحة 138 .
2 - رو 3 / 22 ؛ 3/29 ؛ غلا 3/ 28؛أع 10/34 ؛15/9 –11
3- الدين قبل رسالة الإسلام كان دوما ذا بعد قومي. و هذه وجهة نظر القرآنية. فما ذكر الله في كتابه
نبيّا إلا و ذكر أنّه أرسله إلى قومه بإستثناء حالات قليلة. و دين إسرائيل أيضا كان دينا قوميا.
199(1/213)
و في هذا الزمان يتسلّط الملك الموعود على جميع الأمم1.
وقد تنبأ - صلى الله عليه وسلم - أنّ دينه سيصل إلى ما وصل إليه الليل والنّهار .وقد أخرج الإمام
أحمد في مسنده عن تميم الداري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :" لَيبلُغَنّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهار،ولا يتركُ الله بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاّ أدخله هذا الدين يعزّ عزيزا ويذلّ ذليلاً،عزا يعزّ الله به الإسلام وذلا يذلّ الله به الكفر " .
وتنبأ زكرياء في هذا الأمر أيضا قال :
? " وكلمةُ الرَبّ وصلَتْ إلى أرض حَدرَاك وفي دمشق تَرَيّثَتِ،لأنّ لِلرَبِّ عينَ آرام
وكلَّ أسبَاط إسرائيلَ وأيضا حَمَاةَ جارتُها وصورَ وصيدونَ التي فيها الحُكماء. و بَنَتْ صُور حِصْنًا لها وإدّخَرَت فِضّةً كثيرةً كالتُّراب وذهبًا كَطِينِ الشّوَارِع .لكن هاهو ذا الربُّ يسلبُها ويحطِم سُورَها في البحر وتُؤكل بالنّار .لهذا المشْهَد ترتَعِبُ عشقلون ، وغزّة تتوّجعُ وعقرون يذهبُ سنَدُها .ويهلِكُ الملك في غزة ،وعشقلون لا
تُسكَن .والهَجينُ يسكنُ أشدود .وأكْسِرُ تكبّر الفلسطينيين و أزيلُ من فمهِم الدم
ومن بين أسنانهم الرجاسات فهم أيضا يكونون لإلهنا " (زكا9 /1 –10) .
فمتى وصلت كلمة الله إلى دمشق وحماه وحدراك وأصبح الفلسطينيون شعبا لله بعد سقوط مدنهم إن لم تكن زمن الخليفة العادل عمر بن الخطاب تلميذ2 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهذا النص يؤيده النص الموالي :
ـــــــــــــــــــــــ
1-لمزيد من الإيضاح أنظر ص163 في باب مبعثه من الجنوب و يومه يوم الرب و ص في باب مؤسس مملكة الله
2-الطريق إلى دمشق ص ص 511 ، 513 ، 515 .
200(1/214)
? " تَرَنّمي وإفْرَحي يابنتَ صِهيون لأنّي ها أنذا آتي وأسكُنُ في وسَطِك يقولُ الربُّ .فَيَتّصِلُ أممٌ كثيرةٌ بالربّ في ذلك اليوم ويكونُون لي شعبًا فأسكنُ في وسَطِك فَتَعْلَمينَ أنّ ربَّ الجُنودِ قد أرْسَلَني إليك .والربُّ يرِثُ يهوذا نصيبه في الأرض المقدسة ويختار أورشليم بعد "(زكا2/14–16).
وهذه النبوة تبشّر آل إسرائيل بالعودة إلى أورشليم وإعادة إعمارها وبناء بيت الربّ بعد السبي في بابل .ويبشّرها أيضا بأيام تأتي تعرف الأممُ فيه الربّ عز و جل وتكون له شعبا وسيختار أورشليم مرة أخرى.ولا يوجد نبي واحد – وها هي أسفار الكتاب المقدس أمامك – بُعث إلى إسرائيل وجميع الأمم إن لم يكن هذا النبي الأميّ عليه الصلاة والسلام .
? قال تعالى :" وقل للذين أوتوا الكتاب والأمّيين ءآسلمتم فإن أسلموا فقد
إهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ"(آل عمران20).
? وقال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين :" وكان النبي يُبعث إلى قومه وبُعثت إلى النّاس
كافّة ".
5 ــ المدينة والهيكل والجبل الجدد
قال تعالى :" قد نرى تقلُّب وجهك في السّماء فلنُولينّك قبلة ترضاها .فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره . وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنّه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون"(البقرة144).
ومن نص الآية الكريمة يتبيّن أنّ أهل الكتاب يعرفون أنّه سيكون هيكل آخر غير هيكل أورشليم .والأحبار هم أعرف بذلك .ولنسأل بولس هل يوجد هذا فعلا في
201(1/215)
فقه علماء بني إسرائيل .قال بولس لأهل غلاطية مخبرا لهم أنّ شريعة المسيح تنسخ شريعة موسى وأنّ المدينة المقدسة الجديدة تتحوّل إليها رحمة الله :" فإنّه مكتوب أنّه كان لإبراهيم إبنان . أحدهما من الأمَةِ والآخرُ من الحُرّة .غير أنّ الذي من الأمَةِ وُلِد بقوّة الجسد ،أمّا الذي من الحرّة فبقوّة الموعد وذلك إنما هو رمز لأنّ هاتين هما الوصيّتَان إحداهما من طور سيناء تَلِدُ للعبودية ، فهي هاجر .فإنّ سيناء هو جبلٌ في ديار العرب ويناسبُ أورشليم الحاليةِ لأنّ هذه حاصلةٌ في العبودية مع بنيها .أمّا أورشليم العليا فهي أمّنا لأنّه كُتِبَ :" إفرحي أيّتُهَا العاقرُ التي لم تلدْ .أَهتفي وأصرُخي أيّتُها التي لم تَتَمَخَضْ لأنّ أبناء المهجورةِ أكثرُ من أبناءِ ذاتِ البعلِ"(غلا4/21-27).
بعدما أخبر بولس أنّه توجد شريعةٌ قديمة نزلت بطور سيناء والتي شبّهها بإسماعيل بن الأمَةِ هاجر الذي وُلِدَ بحسب جسد العبودية، والتي تجعل النّاس عبيدا ،قال توجد شريعة جديدة رَمَزَ إليها بإسحاق المولود من الحرّة التي تُحرّرُ من عبودية النّاموس و أخبر أيضا أنّه توجد أورشليم الحالية والتي ترْمُز للعهد القديم وهي أمَةٌ مع بَنيها؛و أورشليم عُليا أو سماوية وهي المدينة المقدسة الجديدة التي تناسب العهد الجديد ( أو الشريعة الجديدة ) وهي حرّة مع بنيها.و إستشهد بولس بنُبُوّة أشعيا على وجود مدينة مقدسة جديدة تنتقل إليها رحمة الله وإليك نصها بالكامل :
? " رنّمي أيّتُها العاقرُ التي لم تلدْ .إنْدَفِعي بالترنيمِ وأصرُخي أيّتُها التي لم تَتَمَخّضُ فإنَّ بني المُستَوْحَشَةِ أكثرُ من بني ذاتِ البعلِ قال الربّ .وَسّعي موضعَ خِبائَك ولتُبسطْ شُقق مَساكِنك ولا تُمْسِكي .طَوّلي أطنابَك وثَبّتي أوتادَك.
202(1/216)
فإنَّك تَتَبسّطين إلى اليمين وإلى الشمال .ويرِثُ نسلُك الأممَ وُيعمّرُ المدنَ الخرِبةِ .لا تخافي فإنّكِ لا تَخْزَينَ ولا تخَجَلي فإنّكِ لا تَفْتَضِحين لأنّكِ ستَنْسَين خِزي صِباك ولا تَذكُرين عارَ إِرمَالِك من بعدُ .لأنّ بَعلَكِ هو صَانِعٌك الذي ربّ الجنود اسمُه وفَادِيكِ هو قُدّوسُ إسرائيل الذي يُدعى إلهُ الأرضِ كلّها .وقد دَعَاك الربّ كامرأةٍ مهجورةٍ مكروبةِ الرُّوحِ وكزوجة الصِباء إذا إِستَرذَلَت قال الربّ.هنيهةً هَجَرتُك وبمراحِمَ عظيمةٍ أَضُمّكِ ،في ثورةِ غضبٍ حَجبتُ وجهي عَنك لحظةً ،وبرأفةٍ أبديةٍ أرحَمُكِ قال فَاديكِ الربّ .فذلك يكونُ لَدَيّ كأيامِ نوح إذ أقسمتُ أن لا تَعبُرَ مياهُ نوح على الأرض فيما بعد وكذلك أقسمتُ أنّ لا أغضبُ عَليك ولا أَنتهِرُك .إنّ
الجبال تزولُ والتلالَ تتزعزعُ أمّا رأفتي فلا تزول عنك وعهدُ سلامي لا يتزعزعُ
قال راحمُك الربّ .أيّتُها البائسة المقلقة المُتعزّية ها أنذا أُرَصّصُ بالإثمدِ حجارتَك وأؤسّسُك باللازَوَرْدِ وأجعلُ شرفَك ياقوتًا وأبوابَك حجارةُ بَهْرَمانٍ وجميعُ حدودِك حجارةٌ أنيقةٌ .وكلُّ بَنيك يكونون تلامذةَ الربِّ وسلامُ بَنيك يكونُ عظيما .تُثَبّتينَ في البِرِّ وتُبعَدينَ عن الجَوْرِ فإنّكِ لا تَخَافينَ وعن الهَوْلِ فإنّه لا يَدنو منكِ .ها إنّهم يجتمعونَ إجتماعًا لا مِنْ عندي فمَنْ إجتَمَعَ عليكِ ينحازُ إليكِ .ها إنّي أنا خلقتُ الحدّادَ الذي ينفُخُ الجمرَ في النار ويخرِجُ أداةً لعملِه وأنا خلقتُ المُفسِدَ للتدميِر .(1/217)
كُلّ أداةٍ أُنشِئت عليكِ لا تَنجحُ .وكُلّ لسانٍ يقومُ عليكِ في القضاءِ تَرُدّينَه مُؤثّمًا .هذا ميراثُ عبيدِ الربّ وبِرّهم مِني يقولُ الربّ " (أش 54 /1–17) .ولم تكن هذه هفوة من بولس بل ذُكرت المدينة المقدسة الجديدة أيضا في الرسالة إلى العبرانيين وفي رؤيا يوحنا . تقول الرسالة إلى العبرانيين مشجّعة المؤمنين وتتحدّث عن نعمة الله لهم بالمسيح يسوع عاقدة المقارنة بين شعب إسرائيل الذي إنتظر موسى وهو
.203
على جبل سيناء والنارُ مضطرمةٌ على الجبل والضبابُ والظلامُ والزوابعُ وهتافُ
البوق وصوتُ الكلام يَشُدّ حَوَاسَّهم حتّى طلبوا أن لا تُزاد لهم كلمةٌ وبين شعب
العهد الجديد الذي أتى إلى جبل صِهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية
? " بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية "(
عب 12/22 ) .وتقول الرسالة عن أبينا إبراهيم عليه السلام أنّه أطاع ربّه وخرج من وطنه وتغرّب في أرض الموعد أرض كنعان ساكنا في خيام مع إسحاق ويعقوب لأنّه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله .
? " بالإيمان تغرّب ( إبراهيم ) في أرض الموعد كأنّها غريبة ساكنا في خيام مع
إسحاق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه .لأنّه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله "(عب11/9–10).
و تَعِدُ رؤيا يوحنا المؤمنين بكتابة إسم المدينة الجديدة النازلة من السماء عليهم.
? " من يغلب فسأجعله عمودا في هيكل إلهي ولا يعود يخرج إلى الخارج وأكتب عليه إسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة النازلة من السماء"( رؤ 3/12) .
? " وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله " ( رؤ21/2).
? " وذهب بي الروح إلى جبل عظيم عال وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله "(رؤ21/10).(1/218)
كلّ هذه النصوص تبيّن في لغة لا لبس فيها أنّ بني إسرائيل كانوا ينتظرون مدينة
204
مقدسة جديدة تتحوّل إليها رحمة الله في زمن المسيح .أمّا ما قاله بولس وصاحب الرسالة إلى العبرانيين وسفر الرؤيا من أنّها مدينة سماوية أو أنّها نزلت من السماء فهي تأويلات باطلة فاسدة ــ و مشكل ما يسمّى بالمسيحية هو إسقاط جميع البشارات بالمسيح على عيسى عليه السلام؛ فلا غرو إذا رأيناهم يتأوّلون بالباطل1 ـ لأنّه زمن عيسى عليه السلام لم تكن مدينة مقدسة غير أورشليم . ومن نبوة أشعيا التي إستشهد بها بولس على وجود مدينة مقدسة أخرى ،نلاحظ أنّ النبي يقابل بين مدينتين : المدينة ذات البعل والبنين وهي أورشليم حسب الإصحاحات 49/15 و 49/22 ،ومدينة مستوحشة عاقر لا بنين لها وهي مكة المكرمة التي كانت قفرا؛غابت عنها الرسالة والنبوة والأنبياء منذ أبينا إسماعيل عليه السلام .وقد جاء وصفها على لسان أبوينا إبراهيم و إسماعيل في القرآن الكريم هكذا :
? " ربَّنا إني أسكنْتُ من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من النّاس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " ( إبراهيم37) .
قال أشعيا :" فإنّ بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل قال الربّ " .كانت أورشليم البيت الوحيد للصلاة فباركها الله تعالى منذ أيام داوود إلى عيسى عليهما
ــــــــــــــــــ
1-تستطيع لوحدك و يدعمك جميع بني إسرائيل أنّ ما تدّعيه المسيحية من نبوات تحقّقت في شخص يسوع لم يتحقق منها شيء إلا بليّ النصّوص و تفسيرها تفسيرا معتسفا. و قد لا حظنا على طول هذا الكتاب كيف يتأوّلون باطلا. فالمسيح بشرت به الأنبياء أنّه يحمل سيف الإنتقام فقالوا عن يسوع أنّه
المسيح الذي تلطّخ بدمه، و نسخوا شريعة التوراة بلا شيء و ما نسخها عيسى عليه السلام ، و زعموا(1/219)
أنّ هناك أورشليم نازلة من السماء و ما نزلت، و ما شهد عيسى بذلك بل كان يعني أنّه ستكون مدينة و
205
السلام .فكانت ذات بعل وبنين يؤمها النّاس للحجّ ، وكانت مكة المكرمة مستوحشة وعاقرًا.فأصبحت المستوحشة العاقر أكثر من ذات البعل لأنّ ملايين البشر يؤمونها سنويا للحجّ و العمرة. والصلاة في الحرم بمئة ألف في غيره، وإنتشر الإسلام منها غربا وشرقا وشمالا وجنوبا،ونسلها ورث الأمم ،وأصبح الصحابة رضوان الله عليهم ولاة وقضاة وقادة وعلماء في كلّ البلاد التي فتحوها،و عمّروا المدن الخربة،و رضي عنهم ووعدهم الحسنى.
و جمّل الله عز وجل بيته بالإثمد واللازورد والياقوت والحجارة الأنيقة ، فلا يوجد بيت للصلاة في كلّ الدنيا أجمل ولا أرحب ولا أقدس من بيت الله الحرام .وأقسم عز وجل بجلاله أنّها ستكون مدينة سلام ، تُثبّتُ في البرّ ،بعيدةٌ عن الجُور ،لا تخافُ من الهَولِ ، ورأفة الله بها أبدية لأنّه جعلها حرماً آمنا قال تعالى :" والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين " (التين1-3).
ومن أراد بها سوءا أو فعل فيها سوءا سيُردّ عليه،و من أنشأ أداة عليها لا ينجح وكلّ لسان تطاول عليها يكون آثما لأنّه تعالى تعهّد :
? " و مَنْ يُرد فيه بإلحاد بظُلمٍ نُذِقْه من عذاب أليم " ( الحج25) .
وقد يقول قائل إنّ النبوة تعني دائما أورشليم قبل و بعد خرابها من بابل. فنقول أنّ بولس وصاحبا الرسالة إلى العبرانيين وسفر الرؤيا كانوا بعد خراب أورشليم بستة قرون أو ما يقاربها ومع هذا فإنّهم كانوا لا يزالون ينتظرون المدينة المقدسة الجديدة .ولا يصدق هذا الوصف على أورشليم لأنّه لم يرحمها الربّ بعد أشعيا ، ولم يعقد معها عهد سلام ، فقد خرّبت مرات كثيرة ولعلّ أشدّها خرابُها في
ــــــــــــــــــ
هيكل جديد يعبد فيه الله من دون هيكل جرزيم و أورشليم إلخ..
206(1/220)
السنين 70 م – 130 م بقيادة تيطس الروماني .ولم يكن أبدا أهلُها تلاميذًا للربّ ،بل في كلّ تاريخها كانوا ناقضين للعهد ، عابدين لآلهة الأمم،قاتلين للأنبياء والذين يأمرون بالقسط من النّاس .وافتح أيّ صفحة من سفر أيّ نبي ستجد ما نقول1، وكلّ أنبياء الله لعنوهم وحتّى في زمن عيسى ويحيى عليهما السلام كانوا أشقياء، أيديهم ماهرة في الشرّ، وقلوبهم مائلة عن الخير.قال يسوع عليه السلام عن أورشليم :" أورشليم ! أورشليم ! ياقاتلة الأنبياء و راجمة المرسلين " 2؛وسماهم بسلالة الأفاعي،قتلة الأنبياء؛و وصفهم بالنفاق والرياء وكذا وصفهم يحيى عليه السلام 3. و قد أفصح النبيُّ عيسى عليه السلام للمرأة السامرية عن جبل و مدينة جديدين بما يلي :" يا إمرأة صدّقيني إنّه تأتي ساعةٌ لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب " (يو4/21).ولا نعلم جبلا سُجد فيه لله وعُبد فيه زمن يسوع إلاّ جبل أورشليم،و لا بد أنّه كان المعلّم عليه السلام يقصد جبل عرفات الله ، الذي يقف فيه الحجاج يوم عرفة ذاكرين الله و شاكرينه،و الذي أكّد عليه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله :" الحج عرفة "
6 ــ نسب المسيح من غير آل إسرائيل
وعد الله تعالى إبراهيم بعد ابتلائه بذبح ابنه أن تتبارك في نسله قبائل الأرض4.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- ذكر في سفر إرميا وحده 27 مرة أن بني إسرائيل عبدوا آلهة الأمم ، ووصف الشعب بالسفيه والشرير والغادر والمرتد في 21موضعاً . وفي 15 موضع في حزقيال ، وفي 10 مواضع في هوشع ، وفي موضعين في عاموس إلخ ... ..
2- متى 23 / 37 – 38 ؛ لو 13 / 34 – 35 .
3-متى 23 / 13 – 36 ؛ لو 11 / 42 –51 ؛ متى 3 / 7 .
4ـ تك 22 / 15 – 18 :" إنّي من أجل أنّك فعلت هذا الأمر و لم تمسك ابنك وحيدك.. و يتبارك
في نسلك جميع أمم الأرض.
.207(1/221)
فلا يصحّ أن نبحث عن المسيح وشعبه إلاّ في نسل إبراهيم عليه السلام. و بنو إسرائيل يرون أنّ إسحاق هو الذي تتبارك فيه الأمم(تك 26/4). لكن كلّ نصوص الكتاب المقدس لا تسير في هذا الخط .و أوّل شيء يشدّ انتباهنا ونحن نقرأ سفر التكوين هو تركيزه على ولدين فقط من أولاد إبراهيم دون غيرهم : إسماعيل و إسحاق رغم أنّ له ستة أولاد من قَطّورَة زوجته الثالثة .وذكر السفر أنّ الله باركهما و وعد أن يكثّر نسلهما ويجعلُه كتُراب الأرض و يجعلُه أُمَََّةً عظيمة .ولم تستطع التوراة،رغم استنقاص شأن إسماعيل عليه السلام من قِبَل بني إسرائيل،أن تنكر أنّ نسل إسماعيل كنسل إسحاق على قدم المساواة .قال سفر التكوين :"لأنه بإسحاق يدعى لك نسلا ،وابن الأمة أيضا أجعله أُمَّة لأنّه من نسلك ".(تك21/12–13) . والنص17/17–21 من السفر نفسه كأنّه يريد حلا وسطا على شاكلة إرضاء التحالفات السياسية في تشكيل حكومة :" فقال الربّ إنّ سارة امرأتُك ستلِدُ لك ابنا وتُسَمّيه إسحاق وأقيمُ عهدي معه عهداً مؤبدا ولنسله من بعده .وأمّا إسماعيل فقد سمعت قولك فيه وهاأنذا أباركه و أنميّه و أكثّره جداً جدّا و يلد إثنى عشر رئيسا و أجعله أمّة عظيمة غير أنّ عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في مثل هذا الوقت من قابل."
و ممّا أُختُصّ به إسماعيل في التوراة أنّ الله كان معه،و بشّر الملاك أمّه أنّها ستلد إبنا إسمُه إسماعيل لأنّ الربّ سمع صوت شقائها، و أجرى له معجزات في البرّية لمّا خافت السيدة هاجر من العطش على ولدها( أنظر تك 21/12-20؛ تك 16/11).
ولم تذكر التوراة أحدا دفن إبراهيم عليه السلام من أولاده غير إسحاق وإسماعيل
والسؤال الذي يفرض نفسه لماذا لم يجد بنو إسرائيل من أولاد إبراهيم غير
208(1/222)
إسماعيل ليستصغروا شأنه،وقد تجلّت بوضوح مكانته في التوراة ؟ .ما السرّ وراء ذلك ؟ تجيب التوراة لأنه ابن أمة .قالت السيدة سارة لأبينا إبراهيم :" أطرد هذه الأمة وإبنها فإن ابن الأمة لا يرث مع ابني إسحاق "(تك21/10) . وهذا الجواب لا يزيدنا إلاّ حيرة فأبناء قطّورة الأمة ستة ! ولم تعنهم السيدة سارة من
هذا الطرد .ولو كان صحيحا أنّ أبناء الأمة لا يرثون،و لا يَقطع الربّ عهدَه معهم فلِمَ ختن إبراهيمُ1 نفسَه وإبنه إسماعيل في اليوم ذاته الذي أُمِرَ فيه من قبل الربّ ؟ والختان كما ورد في التوراة علامة العهد2 بين الربّ وإبراهيم ونسله من بعده. وبنو إسماعيل وحدهم الذين يختتنون مع بني إسرائيل وحتّى قبل الإسلام .ولو كان أبناء الأمة لا يُقطع معهم عهدٌ من قبل الربّ لكان العهد باطلا مع ثُلُثِ شعب إسرائيل لأنّ دان ونفتالي أولاد الأمة" بلها" ؛ وجاد و آشر أولاد الأمة "زلفة "3 . وما ثبت في التوراة أنّ قسمة أرض الميعاد كانت حكراً على أولاد الحرائر ؛ ولا ثبت أنّه لم يخرج من أبناء الإماء علماء وسياسيون وقادة عسكريون. و يبدو من نصوص الكتاب المقدس أنّ إستصغار شأن سيدنا إسماعيل عليه السلام بدعة محدثة من زمن الجلاء إلى بابل،لأنّ العائلات الملكية في إسرائيل كانت تتسمى بإسماعيل قبل حملة نبوخذ نصر4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تك 17/26:" في ذلك اليوم عينه ختن إبراهيم و إسماعيل إبنه"
2-تك 17/9:" و قال الله لإبراهيم و أمّا أنت فتحفظ عهدي. أنت و نسلك من بعدك في أجيالهم.هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني و بينكم و بين نسلك من بعدك. يختن منكم كل ذكر"
3- تك 30 / 6 ؛ 8 ؛ 11 ؛ 13
4- أنظر 2 مل 25 / 23 ؛ 25 :" و في الشهر السّابع جاء إسماعيل بن نثنيا بن أليشمع من النسل الملكي
و عشرة رجال معه".
209
فكما ترى أنّ استصغار شأن إسماعيل لا أساس له،ولا نستطيع أن نجد تفسيرا(1/223)
له سوى الحسد لأنّه هو الذبيح الذي في نسله تتبارك الأمم( تك 22 / 18 ). لأنّ الربّ أمر عبده إبراهيم أن يذبح إبنه وحيده الذي يحبه(تك 22 / 2 ). ولم يكن إسحاق وحيده ؛ فإسماعيل وُلد قبل إسحاق . والقرآن الكريم قاطع في أنّ الذبيح هو إسماعيل، ولا نلتفت لبعض المفسّرين الذين كانوا ينقلون عن أهل الكتاب دون
تمحيص .وأقطع آية هو قوله تعالى :" فبشّرنَاها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب "(هود71) فكيف يمتحنه الله أن يذبح إسحاق وهو لم يلد يعقوب بعدُ ؟ والذبيح في التوراة والقرآن كان لايزال غلاما لم يتزوج .وإليك النصوص المبشرة بالمسيح من غير نسل إسرائيل .
? " سيقيمُ لك الربّ إلهُك من بين إخوتك نبيا مثلي له تسمعون"(تث18/15).
واخوة بني إسرائيل هم العبرانيون(تث15/12). وبنو إسماعيل سلالة عبرانية.وكلمة عبراني تعني لدى بعض الناس إسرائيلي؛والدولة العبرية،يقولون ،هي دولة إسرائيل .وبعضهم ذهب إلى أنّ عبراني تعني يهودي من نسل يهوذا؛والسامري تعني بقية أسباط إسرائيل .وهذا خطأ . فالعائلة العبرية عائلة كبيرة تشمل بني إسرائيل وبني إسماعيل وبني عمون وموآب ومدين وأدوم وحتى الأراميين سكان سورية القدامى .ولو كان بنو إسرائيل هم وحدهم عبرانيون لما تسمى أبونا إبراهيم بالعبراني(تك14/13) و هو جدّ يعقوب إسرائيل،ولما قال يوسف عليه السلام:خُطِفتُ من أرض العبرانيين (تك 40/15). و لا يصحّ أن يسمي أباه و إخوته و هم إثنا عشر نفراً بهذا الإسم، و ينسب لهم أرض فلسطين
.
210(1/224)
كلّها.وهذه الرؤية تتّفق مع ما جاء عن المؤرخين اليونان القدامى الذين يصفون شعبا نزح من فلسطين إلى مصر إسمه "عبيرو" في زمن يوافق ملك يوسف في مصر.و يبدو من إشارات القرآن و التوراة أنّ هذا الشعب كان مؤمنا بالله1 . ويظهر من سفر الخروج أنّ موسى تردّد على فرعون عشر مرّات يقول فيها:"إنّ الربّ إله العبرانيين بعثني إليك قائلا إطلق شعبي ليعبدونني في البرّية"(خر7/16). .و لا توجد إلاّ مرة واحدة قال فيها:"إنّ الربّ إله إسرائيل". و سُمّي هذا الشعب عبراني لأنّه ينحدر من نسل عابر الجدّ الخامس لأبينا إبراهيم:عابر ولد فالج وفالج ولد رعو و رعو ولد ساروج وساروج ولد ناحور وناحور ولد آزر الملقّب بتارح وتارح ولد إبراهيم(تك11/15–25). وورد في سفر التثنية أنّ العبرانيين إخوة لبني إسرائيل(تث15/12).و سفر صموئيل الأوّل يميّز بوضوح بين الإسرائيليين و العبرانيين.قال السفر:" و إنضمّ إلى من كان مع شاؤول ويوناتان من إسرائيل العبرانيون الذين كانوا مع الفلسطينيين "(Iصم14/21) . وهذا التمييز بين العبراني و الإسرائيلي كان حاضرا حتى زمن بولس الطرسوسي قال :" أعبرانيون هم فأنا أيضا،أإسرائيليون هم فأنا إسرائيلي أيضا أهم نسل إبراهيم فأنا أيضا "2. و الترجمة المسكونية تعلّق على نصّ صموئيل بقولها : " كلمة عبراني لم يستعملها بنو إسرائيل لتسمية أنفسهم ويستعملونها لتعيين آخرين. والكلمة تقارب عبيرو أو أبيرو في أثار بلاد ما بين النهرين والمصريين القدامى في ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-بدليل أن إمرأة العزيز قالت :" الآن حصحص الحقّ أنا راودته عن نفسه و إنّه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين " ( يوسف 51 ).
2-II كو 11 / 22 ؛ فل 3 / 5
211(1/225)
الألفية الثانية قبل الميلاد. وفي الكتاب المقدس تدلّ على شعب يشمل بني إسرائيل دون أن يكون حكرا عليهم "1 . فنسب أبينا إسماعيل لا شكّ عبراني . وقد أجمع المؤرخون والنسّابة على أنّ بني إسماعيل عرب مستعربة وليسوا عربا عاربة . ونفهم ضمنا أنّهم ليسوا عربا أقحاحا إنّما تعرّبوا بإختلاطهم مع العرب القحطانية. و كلمة إسماعيل نفسها لها دلالة واضحة فهي ليست عربية ، وهي مكونة من مقطعين : "يشما" وتعني بالعبرية يسمع ؛ و "إيل" : وتعني الله أو الربّ . ومعنى الكلمة الربّ يسمع. وقد تقاسم العبرانيون وبنو إسرائيل على مرّ تاريخهمّ الألام و العهود.فقد كتبت لهم التوراة ميراثا وحرّمت على إسرائيل الإعتداء عليهم، وأعلنت أنّ سعير أعطيت لأدوم ؛ و الأردن لأولاد لوط.ولم ينفصل إسرائيل عن عائلته العبرانية إلاّ في أزمنة متأخرة مثلما إنفصل اليهود عرقيا و ثقافيا عن السّامريين بعد الجلاء البابلي.
وتنبأت التوراة في تك49/10 أنّ الملك والحكم لا يزول من آل يهوذا،حتّى يأتي الذي تجب طاعته على أمم الأرض1.
و ضرب سيدنا عيسى عليه السلام مثلا بالكرّامين الأشقياء الذين لم يُحسنوا فيما وُلّوا من أمر، فأعطى صاحب الكرم كرمه لشعب آخر يثمر ثماره.قال عليه السلام متوجها لليهود:" إسمعوا مثلا آخر . إنسان سيّد بيت غرس كرما وحوّطه بسياج، و حفر فيه معصرة، وبنى برجا وسلّمه إلى عملة وسافر.فلمّا قرب أوان الثمر أرسل عبيده إلى العملة ليأخذوا ثمره.فأخذ العملة عبيده وجلدوا بعضا
ــــــــــــــــــــ
1-TOB p 143
1- كنّا قد فصّلنا هذه النبوة من قبل. أنظر ص 195
.212(1/226)
وقتلوا بعضا ورجموا بعضا.فأرسل عبيداً آخرين أكثر من الأوّلين فصنعوا بهم كذلك و في الآخر أرسل إليهم إبنه قائلا لعلّهم يهابون إبني.فلمّا رأى العملة الإبن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث تعالوا نقتله ونستولي على ميراثه.فأخذوه وطرحوه خارج الكرم وقتلوه. فإذا جاء ربّ الكرم ماذا يفعل بأولائك العملة.فقالوا إنّه يميت أولائك الأردياء أردأ ميتة ويسلّم الكرم إلى عملة آخرين يؤدّون إليه الثمر في أوانه. فقال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب إنّ الحجر الذي رذله البنّاؤون هو صار رأسا للزاوية.من عند الربّ كان ذلك وهو عجيب في أعيننا.لذلك أقول لكم إنّ ملكوت الله ينتزع منكم ويعطى لأمة تصنع ثمره"1. ومن المثل الذي ضربه المعلّم عليه السلام وفسّر به مضمون المزمور118 يتّضح أنّ الشعب المحقّر في عين إسرائيل هو الذي يرث ملكوت الله، يعني يخرج منه باني مملكة الله، ويكون شعبا أمينا ويثمر ثمارا طيّبة.ولا يوجد نصراني متديّن لا يفهم النبوة هذه هكذا،إلاّ إنّهم يعتبرون الشعب المعني بهذه البشارة هو شعب اليونان والرومان. وفَهْمٌ مثل هذا خاطىء.فالأمم مثل الإغريق والرومان لم يكونوا شعبا ليُثير غيرة إسرائيل كما بيّنت نصوص أخرى من التوراة أنّ الله يُغيرُهم بشعب أحمق و أعمى.فهذه الشعوب كانت في قمّة الحضارة وكانت متسلّطة على إسرائيل سياسيا وعسكريا وأدبيا و إقتصاديا.ومن جهة أخرى أنّ الشعب الذي تتبارك فيه الأمم يجب أن يكون من نسل إبراهيم. فبالتوفيق بين نصوص الكتاب المقدّس شعب المسيح من نسل إبراهيم لكن ليس
ـــــــــــــــــــــــــ
1-متى21/33-43؛ مر12/1-12؛ لو20/9-18.
.213
من نسل إسرائيل. ونحن في غنىً عن إثبات أنّ اليونان والرومان ليسوا من ولد إبراهيم.
7 ــ المسيح نبي أمي
لاحظنا من قبل أنّه ذُكرت في نبوّة أشعيا42،كلمة "ماشولاّم"،الكلمة بالعبرية تعني الطفل الصغير الذي يخلف أخاه بعد موته.،لكن هذا النبي المبشّر به أصمّ(1/227)
أعمى، وأغار به الربّ عز وجلّ شعبه إسرائيل قائلا: "أيّها الصُمّ إسمَعُوا ،أيّها العُمْي أنظروا وأبصُروا من كان أعْمَى كَعبْدي أو أصَمّ كَرسُولي الذي سأرسلُه.من كان أعمى ك"ماشولاّم" وأصمّ من عبد الربّ"(أش42/19).
فشعب إسرائيل كما وصفه النصّ أصمّ وأعمى،و رسول الله خادم يَهْوَهْ أصمّ و أعمى. والصمم والعمى معناه يتغيّر حسب السيّاق ،ضلالا أو أميّة.ففي حالة إسرائيل يجب أن نفهمه ضلالا لأنّه كان شعبا عارفا بالله ورسله وكتبه ملائكته لكنّه نقض العهد وغدر وقتّر لرجاسات الأمم، وسجد لِجُند السماء، وأكل الربا و سفك دماء الأنبياء و الصّالحين1. أمّا في حالة خادم يهوه فمن السفاهة أن نفهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- كثير من النّاس يرتاح لتعداد مساوىء إسرائيل.و إن كان هذا ما أقرّه القرآن و التوراة و الأ نبياء فيجب ألاّ ننس أنّ الله لم يكره إسرائيل لأنّهم من نسل يعقوب أو يهوذا لكن بغضهم للذي ذكرنا من قبل. ووالله لحالنا اليوم نحن المسلمين كحالهم أو أسوأ: التحاكم إلى الله و رسوله في الأنظمة الإسلامية و العربية رجعية و أصولية و ظلامية. و أكل الربا و تعاطيه ضرورة إقتصادية؛ و دور الزنا و القمار و الخمور يؤسّسها القانون و يحميها. و سفكنا دماء بعضنا البعض في أفغانستان و الجزائر و مصر و كل الأوطان. وصددنا عن سبيل الله بما نبثّه في وسائل الإعلام من جور و مجون. و إستعلى بعضنا على بعض. و بإسم الحرية فسحنا المجال للذين يتطاولون على الله و رسوله.
214
أنّه رسولٌ لله كافرٌ ناقضٌ للعهد.ويجب أن نفهم من الوصفين أنّه لم ير شيئا ولم يسمع،لأنّ البصر والسّمع هما أهمّ سبيل للعلم.قال تعالى:"والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلّكم تشكرون" (النحل78). وقد أكّد القرآن الكريم في آي كثيرة أنّ محمداً لم يكن شاهد عيان في القصص التي نزلت عليه.(1/228)
فلم ير شيئاً؛ و لم يتناقل قومه هذه الأخبار شفاهاً؛ فلم يسمع شيئا.
? قال تعالى:" وما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطُّه بيمينك"(العنكبوت48).
? " و كذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان" ( الشورى52).
? "ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون" ( آل عمران44).
? " تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لاقومك"( هود49).
8-فضائل المسيح و أمّته
لقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه بكلّ صفات المسيح و لم يصف نبيٌّ نفسه بها. المسيح أوّلُ خلق الله كما علّم الأنبياء.و قد ورد هذا الوصف صراحة في الإنجيل ــ غير أنّ كاتب الإنجيل الرّابع، الفاقد للمصداقية، الذي كتب كتابه لِيعلّم النّاس أنّ يسوع هو المسيح ابن الله، كتب: "هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجلٌ صار قدّامي لكنّه كان قبلي"(يو1/30)، جاعلا هذا الكلام في فم يوحنا
215
المعمدان، ناسبا إيّاه إلى يسوع1.و نحن ــ إذ نتّفق مع يوحنا اللاهوتي في أنّ المسيح أوّل خلق الله، نخالفه في أنّ يسوع هو المسيح ــ وما ثبت كما بيّنا من قبل أنّ يسوع كان المسيح، و لا كان بعد يوحنا المعمدان.(1/229)
و أوّل خلق الله،كما علّم الصادق المصدوق، هو خاتم الأنبياء و إمام المرسلين.و قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الآية الكريمة: "و إذا أخذ الله ميثاق النبيئين لما أتيناكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه قال آأقررتم و أخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين"( آل عمران 82). ما رواه البخاري عن إبن عباس قال :" ما بعث الله نبيا إلاّ أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمد و هو حيّ ليؤمننّ به و لينصرنّه. و أمره أن يأخذ على أمّته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمننّ به و لينصرنّه و ليتّبعنّه"2. وروى الإمام أحمد أيضا عن ميسرة الفجر قال قلت يا رسول الله متى كنت نبيا قال و آدم بين الروح و الجسد"3. و رواه أيضا الإمام أحمد عن طريق العرباض بن سارية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنّي عند الله خاتم النبيين و إنّ آدم لمنجدل في طينته.و سأنبّئكم بأوّل ذلك دعوة أبي إبراهيم و بشارة عيسى بي و رؤيا أمّي التي رأت و كذلك أمّهات المؤمنين"4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- شهادة يوحنا اللاهوتي و إنجيله ساقطة في هذا الشأن. ولقد خالف إجماع الأناجيل المتشابهة. و حوّر و زاد و نقص كلّه ليثبت للناس أنّ يسوع هو المسيح بن الله كما بيّنا من قبل. و من جهة أخرى ما إستطاع أن يثبت انّ يسوع كان بعد يوحنا المعمدان.
2- سيرة بن كثير الجزءII ص287
3- المصدر السابق ص288
4-نفس المصدر و الصفحة.
216(1/230)
و روى عمر بن أحمد بن شاهين في كتاب دلائل النبوة عن البغوي من حديث أبي هريرة مرفوعا في قوله تعالى: " و إذا أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك ومن نوح" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كنت أوّل النبيين في الخلق و آخرهم في البعث"1. و كان بنو إسرائيل يعلمون أيضا أنّ أوّل من يبعث من موته هو المسيح.قال بولس أثناء محاكمته أمام الملك أغريباس:" فبقيت إلى هذا اليوم شاهداً للصغير و الكبير لا أقول شيئاً إلاّ ما قاله الأنبياء و موسى إنّه سيكون من أنّ المسيح سيتألّم و يكون أوّل من يقوم من بين الأموات و يبشّر بالنور للشعب و للأمم"( أع 26/23). نلاحظ أنّ بولس يعترف أمام اليهود أنّ العقيدة بخصوص أوّل من يقوم من بين الأموات علّمها موسى و الأنبياء،لكنّه ينسبها ليسوع. وهذا التأويل غير صحيح.لأنّه إن كان المراد به القيامة من بين الأموات في هذه الدنيا فإنّ يسوع لم يكن أوّل من قام إذ سبقه أليعازر الذي أحياه بإذن الله و ابن المرأة الشونامية الذي أقامه ألياشاع،و سبقه ابن المرأة الصيدونية الذي أقامه إيليا النبي2. إذن فالمراد به البعث يوم الدينونة والحساب في الآخرة وقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة وأوّل من ينشقّ عنه القبر وأوّل شافع وأوّل مشفّع"3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-المصدر السابق ص289
2-و النبي إيليا أحيا الموتى فلقد أحيا إبن المرأة الصيدونية(I مل17/17-24)؛و ألياشاع أحيا ابن
المرأة الشونامية (II مل4/32-37). و عيسى عليه السلام أحيا أليعازر ( أنظر يو 11/1-45).
3- صحيح مسلم ص 310
.
217
9 – المسيح رحمة للعالمين(1/231)
بشّر عيسى عليه السلام المساكين ونادى بعتق للمسبيين،و تخلية المأسورين وبإنتقام الله.فقال:" لأنادى بسنة الربّ المقبولة "( لو 4 / 13 – 19) .وسنة الربّ بالعبرية هي اليوبيل .وسنة اليوبيل سنةٌ تتكرّر عند بني إسرائيل كلّ خمسين عاما.يتمّ فيها عتق العبيد و التنازل عن الديون لصالح اخوانهم 1. أمّا سنة اليوبيل التي تنبّأ بها أشعيا وبشّر بها عيسى عليه السلام فهي سنة منسوبة لله تعالى وتتكرّر حسب ما يوحيه النص كلّ سنة . و يوبيل الله تعالى للأمّة الإسلامية كثيرة .و رحماته كثيرة رحمة الله كلّ ليلة في الثلث الأخير منه،و من الجمعة إلى الجمعة وفيها سويعة لا يوافقها عبد مؤمن إلا إستجاب الله له .و رحمة الله لهذه الأمّة كلّ شهر رمضان، وإن لله فيه عتقاء من النار ، ومن صامه إيمانا وإحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه .وفيه أعطيت هذه الأمّة ليلة خير من ألف شهر .وتجاوز الله تعالى لهذه الأمّة عن الخطأ والنسيان وما أستكرهوا عليه . والسيئة تكتب سيئة واحدة والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف وكتب الله عليها خمس صلوات وهي في الأجر خمسون .
ووصف عيسى عليه السلام هذه الأمة أمّة ملكوت الله بقوله :" يشبه ملكوت السموات رجلا ربّ بيت خرج بالغداة يستأجر عملة لكرمه .فشَارَطَ العملةَ على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه .ثم خرج في الساعة الثالثة فرأى آخرين واقفين في السوق بطّالين فقال لهم أمضوا أنتم أيضا إلى كرمي وأنا أعطيكم ما يحقّ لكم
فمضوا .وخرج أيضا نحو الساعة السادسة ونحو التاسعة فصنع كذلك .
ـــــــــــــــــــــ
1- لاو 25 / 1 – 51 ؛ تث 15 / 1 – 18
218(1/232)
و خرج أيضا نحو الحادية عشرة فوجد آخرين واقفين فقال لهم ما بالكم واقفين ههنا النّهار كلّه بطّالين .فقالوا له إنّه لم يستأجرنا أحد .فقال لهم أمضوا أنتم أيضا إلى كرمي . فلمّا كان المساء قال ربّ الكرم لوكيله أدع العملة وأعطهم الأجرة مبتدئا من الآخرين إلى الأوّلين .فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة فأخذوا كلّ واحد دينارا . فلما جاء الأوّلون ظنّوا أنّهم يأخذون أكثر فأخذوا هم أيضا كلّ واحد دينارا.وفيما هم يأخذون تذّمروا على ربّ البيت قائلين إنّ هؤلاء الآخرين عملوا ساعة واحدة فجعلتهم مساوين لنا ونحن حملنا ثقل النهّار وحرّه .فأجاب وقال لواحد منهم يا صَاحِ ما ظلمتُك ألم أكن على دينار شارطتُك .خذ مالَك وأمضي فإنّي أريد أن أعطي هذا الآخر مثلك .أليس لي أن أفعل بمالي ما أريد أم عينك شرّيرة لأنّي صالح .فعَلَى هذا المثال يكون الآخيرون أوّلين والأوّلون آخرين لأنّ المدعووين كثيرون والمختارين قليلون "(متى20/1-16). وهذا مثل أمّة سيّد الخلق التي فضلّها على سائر الأمم كفضل سيّد الخلق على سائر الأنبياء .وهي آخر الأمم خلقاً وأوّلُها حساباً وأقلّها عملا وأكثرُها أجراً . والجنّة حرام على كلّ النّاس حتى تدخلها أمة سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - . ويتمنّى الأنبياء والصالحون لو كانوا منها .وفيها سبعون ألفاّ يدخلون الجنّة بغير حسابٍ ولا عقابٍ .
? قال تعالى :" وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون
الرسول عليكم شهيدا " ( البقرة 143 ).
? " كنتم خير أمّة أُخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون
بالله "(آل عمران110) .
? " وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" أنا وأمتي يوم القيّامة على كوم مشرفين على
219
الخلائق ما من الناس أحدٌ إلاّ وَدّ أنّه مِنّا ، وما من نبي كذّبه قومه إلا ونحن نشهد أنّه قد بلّغ رسالة ربّه عزّ وجل " 1.(1/233)
? و روى حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنتم
تُوّفوُن سبعين أمّة أنتم خيرُها وأكرمُها على الله عز وجل"2. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أعطيت سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وجوهُهُم كالقمر ليلة البدر ، قلوبُهم على قلب رجل واحد،فاستزدت فزادني مع كلّ واحد سبعين ألفاً"فقال أبو بكر رضي الله عنه:فرأيت أنّ ذلك آت على أهل القرى و مصيب من حافات البوادي "3.
وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبّرنا ثم قال :" أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة " فكبّرنا ثم قال:"إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة "4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" نحن الآخيرون الأوّلون يوم القيامة .نحن أوّل الناس دخولا الجنة ، بيد أنّهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا الله لما إختلفوا فيه من الحقّ فهذا اليوم الذي إختلفوا فيه،النّاس لنا فيه تبّع غدا لليهود وللنصارى بعد غد "5.
ـــــــــــــــــــــــــ
1-رواه بن مردوية عن جابر بن عبد الله .
2- في مسند أحمد وجامع الترميذي
3- رواه الإمام أحمد
4- رواه الشيخان
5 – رواه الحافظ أبو يعلى . قال ابن كثير إسناده جيد
220
لكن يجب أن تفهم أنّنا لسنا خير أمّة أخرجت للناس لأنّنا من نسل إبراهيم ، فإنّ النّاس أمام الله سواسية كأسنان المشط . لا نسب بيننا وبين الله ولا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي؛ ولا لأحمر على أسود إلاّ بالتقوى .وكان عمر رضي الله عنه في حجة حجّها و رأى من النّاس دعَة فقرأ الآية : كنتم خير أمة أخرجت للناس .ثم قال :" من سرّه أن يكون من هذه الأمة فلْيُؤَدّ شرط الله فيها "1.(1/234)
فمن إمتنع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس منها . وشبّه عيسى عليه السلام شريعة المصطفى وأُمّته بكنز مخفي في حقل ، لمّا إكتشفه رجلٌ باع ما عنده ليشري الحقل ؛ وبأحسن لؤلؤة باع التاجرُ كلّ ما لديه ليشتريها لأنّ شريعة المصطفى أفضل الشرائع وأمّته خير الأمم .قال عيسى عليه السلام .
? يُشبِه ملكوتُ السّموات كَنزاً مخفى في حقل وجده رجل فخبّأه ومن فرحِه به
مَضى وباع كلّ شيء له واشترى ذلك الحقل وأيضا يُشبه ملكوت السموات رجلا تاجر يطلب لآلىء حسنة . فوجد لؤلؤة كثيرة الثمن فمضى وباع كلّ ما له واشتراها "(متى13/44–45).
10 – أمة المسيح عمياء ترث ملكوت الله
تنبّأ موسى عليه السلام بأمّة غبيّة،ليست شعبا،ترث ملكوت الله . وتنبأ أشعيا بأنّ إسرائيل سيُرذَل ويخلُفُه شعبٌ أعمى، لم يسأل عن الله من قبل.
? قال موسى :" هم أغَارُوني بمن ليس إلهًا وأغضبوني بأباطيلِهم وأنا أُغيرهم
بمن ليسوا شعبا،بقوم أغبياء أغضبُهم "(تث32/21) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- رواه ابن جرير.
221
وهذا الفهم عينُه فهمَه بولس من هذين النصّين إذ قال :" لكني أقول ألعلّ إسرائيلَ لم يعلمْ وقد قال موسى أولا :إنّي أُغيركُم بمن ليسوا شعبا ، بقوم أغبياء أغضبُكم .أمّا أشعيا فأقدم وقال إنّي وُجدتُ ممّن لم يطلُبُوني، وإعتلنتُ لمن لم يسألوا عني .وقال لإسرائيل إنّي بسطتُ يديّ النهار كُلّه نحو شعبٍ كافرٍ ومُقاومٍ " (رو10 /19-20). وبولس كما يتّضح من تفسيره للنبوتين يقابل بين إسرائيل الذي بسطَ الربُّ ومَدّ إليه يدَه لكنّه كَفَرَ وبين شعبٍ غبيٍّ لم يسأل عن
الله ولم يعرفْه من قبل .لكن بولس وكنيسته تفهم هذه النصوص على أنّها تبشّر(1/235)
بأمّة اليونان والرومان . وكما بيّنا من قبل يستحيل هذا الفهم .فإسرائيل نفسُه كان سبّاقا للتودّد لهذه السلطات الوثنية التي حكمته بعقد العقود والمواثيق معها ، ليكسب رضاها .فكيف يُغيرهم بمَن هُم أرقى منهم ؟ وأنظر أسفار نحميا وعزرا والمكابيين الأول والثاني لتتحقّق مما نقول .ولا يُعقل أن يُوصف الرومان والإغريق بشعب غبيّ وبلا شعب . وإتّفق المؤرّخون أنّه لم يكن شعبٌ أعمى ولا أضلّ من بني إسماعيل؛ لكلّ قبيلة إلهُها ولكلّ منها وَلاؤُها .يأكلون الميتة ويأتون الفواحش ما ظهر منها وما بطن،يئدون بناتهم ، ويصنعون الحروب التي تدوم عشرات السنين لأتفه الأسباب . ولا إستطاعوا في تاريخِهم أن يكون لهم كيانٌ على أساس قومي ؛ ولا كان لهم سلطانٌ و لا ساسةٌ ولا قضاءٌ ولا جيشٌ ، ولا كان لهم دورٌ
للتعليم .وما استطاعوا حتى تدوين تاريخهم كما يقول جورجي زيدان . وأوّل يوم قرأت فيه الإنجيل عجبت شديد العجب للحياة السياسية والاجتماعية والعلمية الراقية التي وصل إليها الرومان والإغريق زمن عيسى عليه السلام .فكان مجلسٌ
.
222
للشيوخ و ولاة ٌوقضاةٌ وجباةٌ وشرطةٌ .وكان استقلال ما بين السلطات القضائية
والتنفيذية كما تشهد بذلك مراسلة بلين الصغير الذي أوكلت له مُهمّة إضطهاد النصارى وملاحقتهم .وكانت الحياة بوجه عام تكاد تكون بهذا النظام الذي نعرفه اليوم .وأعدّت الإمبراطورية الرومانية شبكة هائلة من الطرق التي تربط ما بين أطرافها المترامية ؛ وجامعات تدّرس فيها الفلسفة و الرياضيات والفلك والطب .وكانت تنظّم الألعاب الأولمبية سنويا في مختلف الرياضات كما تشهد بذلك رسائل بولس . وكانت المنظومة التشريعية جدّ متطورة ؛ فكانت هناك قوانين ومراسيم وسجون لمن إعتدى .فأين كان بنو إسماعيل من كلّ هذا ؟ كانوا(1/236)
بحقّ أمة عمياء ! وخلال خمس وعشرين سنة أسّسوا أعظم إمبراطورية في تاريخ الإنسان،وأسقطوا أعظم قوتي ذلك الزمان : فارس وروما ، ونوّروا الطريق وأطلقوا العنان للنظر والفكر على أساس أنّ كلّ شيء مُسخّرٌ للإنسان .ونشروا السلام والعدل بالقول و العمل،وقررّوا أنّ الإنسان أخو الإنسان يوم كانت ديانات النّاس الأخرى ترسّخ التفاوت العرقي والطبقي،يوم كان الإنسان يقتل أخاه ابن دينه ويذبحه ويحرقه لأجل خلافات مذهبية تافهة،أو يتسلّط عليه بإسم الحق الإلهي كانت هذه الأمة تعلّم أنّ الدين لله والوطن للجميع لأنّه لاإكراه في الدّين .وقد قال تعالى مبيّنا هذه الحقيقة في كتابه :" لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين "(آل عمران 164 ).
ويقابل أشعيا النبي في نُبُوّتِه بين شعب أميّ مبارك وشعب إسرائيل الذي يُخلّف إسمه لعنة قال : " إنيّ إعتلنت لمن لم يسألوا عنّي ، و وُجدتُ ممن
.223
لم يطلبونني .قلت هآ أنذا هآ أنذا لأمّة لم تُدعَ بإسمي .بسطتُ يديّ النهار كلّه نحو شعب عاصٍ يسلكون طريقا غير صالح وراء أفكارهم،شعبٌ يُغضبونني في وجهي كلّ حين .يذبحون في الجنّات ويقتّرون على الآجر، يجلسون في القبور ويبيتون في المدافن ،يأكلون لحم الخنزير وفي آنيتهم مرقُ أرجاس .يقولون قف عندك ! لا تَدْنُ منّي ! فإنيّ أقدسُ منك ! أولئك دخانٌ في أنفي نار متّقِدَة كلّ النهار "(أش 65/1–5) ويستثني الله تعالى ثلّة قليلة من بني إسرائيل لم تعبد الأوثان والطاغوت وشبّههم بالسُلاَف في العنقود .ثم يعود أشعيا للمقابلة بين الشعب المغضوب عليه والشعب الأمّي المبارك في الأعداد الموالية من النبوة :
? " وأنتم الذين تَركُوا الرَبّ ونسُوا جبَل قُدسي ،والذين يُهيئون المائدة لِجِدّ(1/237)
و يُعدّون الممزوج لِمَناة ،فأُعَيّنُكم للسّيف وتجُثونَ جمُيعكم لِلذَبح لأنّي دعوتُ ولم تُجيبوا،تكلّمتُ ولم تَسمَعوا، وصَنعتُم الشَرّ في عينيّ، وما لَمْ أشَأ إيّاه آثرتُم.لذلك هكذا قال الربّ ها إنّ عبيدي يأكلون وأنتم تجُوعون،عبيدي يشربُون وأنتم تعطشون،عبيدي يفرحون وأنتم تخْزَون؛عبيدي يُرنّمُون من طِيب القلب وأنتم تصرخُون من كآبة القَلب وتُوَلْوِلُون من إنكسَار الرُّوح وتُخلّفُون إسمَكُم لعنَةً لمختاريّ ، ويقتلُكَ السيّدُ الربّ ويدعُو عبيدَه باسم أخر .فالذي يتباركُ بهذا الإسم على الأرض يتباركُ بإله الحقّ والذي يُقسم به على الأرض يُقسم بإله الحَقّ "(أش65/11–16) . أمّا في نص الترجمة المسكونية :" ويُعطى لِعبيدي إسمٌ آخر " ( أو يدعونني بإسم أخر ) .وهذه من الأشياء التي حاولت الترجمة اليسوعية إخفاءها .فالإسم الجديد الذي يُعطى لهذه الأمة العمياء التي لم تسأل من قبل عن
.
224
الله ولم تُدع بإسمه هو " الله " الذي خَلَفَ إسمَ الرب عزّ وجلّ الذي دُعِي به في التوراة وشعب العهد القديم وهو " يَهْوَهْ ". وقد قابل النبي أشعيا بين شعب أميّ لم يعرف من قبل الكتاب ولا الإيمان،لكنه أثمر ثمارأ صالحة لهذا قال :" إعتلنت لمن لم يسألوا عنّي ووجدت ممن لم يطلبونني " وبين شعب أكرمه الله بالرسل والأنبياء وصنع معهم العجائب ، لكنّه شعبٌ صلبُ الرقبة ،نقّاضا للعهد ، عبد رجاسات الأمم من حوله لهذا قال :" بسطت يديّ النهار كلّه نحو شعب عاصٍ ... .يذبحون في الجنات و يقتّرون على الآجر ." ثم يعد الرب على لسان عبده أشعيا أنّ هذا الشعب الذي عرفني سيأكل ويشرب ويفرح ويبتهج أمّا الشعب الذي رفضني فسيجوع ويعطش ويولول من كآبة القلب وإنكسار الروح، وسأفرزه للسيف ويجثو على ركبته للذبح .وهو ما تمّ في زمان سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - لبني قريظة وبني قينقاع وبني النظير ويهود خيبر إلخ ... ..(1/238)
وقال النبي أشعيا أنّ إسرائيل يخلّف إسمه لعنة لهذه الأمة التي إصطفاها الله قال :" وتخلّفون إسمكم لعنة لمختاري " .وفي القرآن الكريم لا يُذكر إسم اليهود إلاّ ومعه اللعنة .
? قال تعالى:" لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن
مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبيس ما كانوا يفعلون " .( المائدة79) .
? "فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يُحرّفون الكلم عن مواضعه
" (المائدة 13).
? "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم ولُعِنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان
225
ينفق كيف يشاء " ( المائدة 64 ) .
ووصف أشعيا هذه الأمّة في الإصحاح الذي تنبّأ فيه بمسيح الله الخارج من بلاد العرب حاملا لسيف الإنتقام :
? " وأسيّر العمي في طريق لم يعرفوه وأسلكهم مسالك لم يعهدوها وأجعل الظلمة
نورا أمامهم والمتأوّدات مستقيمة "1 .وفسّر أشعيا هذه البشارة بالفتوحات التي يفتح الربّ عز وجل بها على هذه الأمة المباركة قال :
" وفي ذلك اليوم يُنشد هذا النشيد في أرض يهوذا .لَنَا مدينةٌ حصينةٌ خلاص جعل لنا أسوار ومترسة .إفتحوا الأبواب ولتدخل الأمّة الصدّيقة الحافظة للحقّ أيها الثابت الأفكار إنّك ترعى السلام السلام لأنّا عليك توكلناّ .توكلوا على الربّ إلى الأبد فإنّ الربّ هو صخرة الدهور.لقد خفّض الساكنين في علاء وحطّ المدينة الشامخة حَطَّها على الأرض وألصَقَها بالتُراب فتطَأها القدمُ قدَما البائس خَطواتِ المساكين "(أش26/1–6) .
? وقال أيضا :" هلّم يا شعبي أدخُلْ أخَاديرك وأغلقْ أبوابَك عليك .تَوارَ قليلا
إلى أن يجوز السخطُ فإنّه هو ذا الربّ يخرج من مكانه ليفتقد إثم سكان الأرض ضدّه .فتكشف الأرضُ عن دمائها ولا تسترُ قتلاها من بعد .في ذلك اليوم يفتقد الربّ بسيفه القاسي العظيم لاويثان الحيّة المقوّمة ولاويثان الملتوية ويقتل التنين الذي في البحر " (أش26/20–27/1) .(1/239)
وهاتان النبوتان يتكلّم فيهما أشعيا النبي عن أمّة صدّيقة تُفتح لها أبواب أورشليم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-أنظر نص البشارة كاملا في الباب : مبعثه من الجنوب و يومه يوم الرب ص 163
226
وتدخلها بسلام،أمّا المدن الشامخة المجاورة فتسقط وتُحطّ إلى الأرض وتلصق
بالتراب لتطأها أقدام المساكين .فمن هي الأمة الصدّيقة ؟ ومتى حصل هذا ؟
وفي النبوة الثانية يخرج الربّ مقاتلا سكان الأرض الآثمين – وكنا قد بيّنا أن يوم الربّ هو يوم الإنتقام الذي يأتي به المسيح – وبالخصوص لاويثان الحية وتنين البحر بسيفه الجباّر.فمن هي لاويثان وتنين البحر،وماذا يعني سيف الله الجبار ؟
نقول وبالله التوفيق أنّ أمَمًا عديدة دخلت أورشليم بعدما باركها الربّ عز وجل أيام داوود وسليمان عليهما السلام .وأوّل من دخل أورشليم هي أمّة بابل في بداية القرن السادس قبل الميلاد .وكانت أمّة وثنية دمرّت أورشليم ونهبت كنوز الهيكل وأجْلَتْ سُكّانَها .فلا تصدق عليها النبوة . ودخلت أمّة إسرائيل أورشليم أيام الملك الفارسى قورش بعدما أذن لهم بالرجوع .وكانت حينئذ أورشليم أنقاضا لا
أبواب ولا أسوار و لا متاريس فيها ولم تسقط المدن الشامخة حولها في هذا الزمن1
ودخل الإغريق المدينة وكانوا أمّة وثنية : عذّبوا الشعب وقتّروا لزيوس على مذبح الربّ ، وحرّموا الإحتكام إلى التوراة ومنعوا السبوت والأعياد والإختتان 2.فلا تصدق النبوة عليهم. ودخل الرومان الأرض المقدسة وأورشليم سنة 63 ق م وكانت أمّة وثنية فأجبرت الشعب على الخضوع لسلطتها وأخذت منهم الجزية ، ونكلّت بهم . فقد صُلِبَ قبل ميلاد عيسى عليه السلام ألفان من اليهود لمحاولتهم الثورة ضد روما و دمّرت أورشليم و بيت الربّ دماراً مروعاً بين 70 م – 130 م. فلا تصدق النبوة عليهم . و أخيراً دخلتها أمّة سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - على
ــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/240)
1- أنظر سفري نحميا و عزرا فإنهما يتكلمان عن هذه الحقبة من الزمن في تاريخ إسرائيل
2- أنظر سفري المكابيين الأول و الثاني .
227
أيام الخليفة العادل سيدنا عمر الفاروق بعدما سقطت كلّ المدن المجاورة لها في فتوحات الشام . و لم تستطع أي مدينة أن تتحصّن إلاّ أورشليم ، فامتنعت ثلاثة أشهر و أخيراً طلب أهلُها الصُلح مع أمير المؤمنين نفسه عمر بن الخطاب فدخلها و هو على حمار و ثيابه رقعٌ . و النبوة الثانية لها علاقة دائما بالأولى فهي تطلب من شعب إسرائيل أن يتوارى قليلا حتى يجوز سخط الله ، لأنّه خرج لمعاقبة الأمم على كفرها و ظلمها و على رأسها مملكتي الوثنية : لاويثان و تنّين البحر . فأمّا تواري اليهود حتى يجوز سخط الله فلأنّ السلطة الرومانية لم تجنّدهم في صفوف جيشها لأنّهم كانوا محلّ ريبتها و شكّها.و أمّا تنين البحر فهو روما . و يجمع اليهود و النصارى على هذا التأويل .
و نُسبَ إلى البحر لأنّ روما بنت إمبراطوريتها على كلّ البحر الأبيض المتوسط و كان زمن سيدنا رسول الله و المسلمين الأوّلين يسمّى البحر الأبيض المتوسط ببحر الروم . و أمّا لاويثان فتخبرنا الآثار أنّها عبارة عن حيّة عملاقة في أساطير الكنعانيين و البابليين . و وجودها و تنّين البحر غير قادرين على الإيذاء يجعل الناس قادرين على العيش بسلام . فالسلام الحقيقي يقتضي التخلص منهما1 .
فالقوتان العظمتان اللتان تمنعان الناس من السلام مع الله هما روما و فارس وريثة بابل . اللتان رمز لهما بتنّين البحر و لاويثان . و لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون هازم روما في معركة اليرموك المجيدة سيدنا خالد بن الوليد الذي سمّاه من لا ينطق عن الهوى : سيف الله المسلول كما تنبأ أشعيا : " و يفتقد الربّ
ـــــــــــــــــ
1- TOB p822
.228(1/241)
بسيفه القاسي الجبار لاويثان و تنين البحر " . و يروي التاريخ أنّ روما ألقت بكلّ ثقلها في معركة اليرموك حتى أنّ المسلمين احتاروا من انعدام المقاومة تماما في حمص و حلب و ما كان ذاك إلاّ أنّ الروم تجهّزوا لإستئصال المسلمين في ضربة قاضية شاء لها القدر أن تكون على نهر اليرموك . و كانت قوّات روما بين مئتي ألف إلى أربع مئة ألف و لم يتجاوز عدد جيش المسلمين في أحسن الأحوال أربعين ألفا . وتشاور المسلمون في أمرهم هذا فأشار بعضهم بالرجوع إلى المدينة و ردّ الجزية إلى أهل المدن المفتوحة، لأنّهم عجزوا أن يحموهم من الرومان. و أبى سيّدنا خالد بن الوليد الرجوع و ثبت في بلاد الأردن و خرج بخطّة عسكرية بهرت الأعداء و الأصدقاء و شتّت بها شمل روما في موقعة الياقوصة الشهيرة.
و كانت روما قد ألقت بكلّ ثقلها ،و قاتل الروم في استماتة منقطعة النظير و كانوا يومها مغلّلين بالسلاسل ثلاثين ثلاثين حتى لا يفرّوا. و ما إن غابت شمس النهار حتى كان عدد القتلى يفوق الخمسين ألفاً أكثرهم سقط في هاوية على ضفاف اليرموك1 .و في هذه الأيّام أيضاً سقطت فارس في معركة القادسية الشهيرة. و قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تنبّأ بسقوط الإمبراطوريتين .و قد نقل بن عساكر صاحب تاريخ دمشق أزيد عن ثلاثين حديثاً2 تتنبّأ بسقوط القوّتين العظميين.كنّا قد ذكرنا منها حديث عدي بن حاتم من قبل3 . و إليك حديثاّ آخر. أخرج الشيخان عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا هلك كسرى فلا
كسرى بعده، و إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، و الذي نفس بيده لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله"4
1- الطريق إلى دمشق ص ص471- 495
2- نفس المصدر السابق ص 127.
3- أنظر ص 185 في باب مؤسّس مملكة الله.
4- نقلا عن كتاب " الرسول " لسعيد حوى ص 351.
فهرست المصطلحات
? سفر الأخبار الأول: Iأخ سفر الأخبار الثاني: II أخ(1/242)
? سفر إرميا: إر رسالة إرميا: رسالة إر
? سفر أشعيا: أش سفر الأعمال: أع
? الرسالة إلى أهل أفسس: أف سفر الأمثال: أم
? رسالة بطرس الأولى: Iبط رسالة بطرس الثانية: II بط
? سفر التثنية: تث الرسالة الأولى لأهل تسالونيكي: I تسا
? الرسالة الثانية لأهل تسالونيكي: IIتسا الرسالة إلى تيطس: تط
? سفر التكوين: تك الرسالة الأولى إلى ثيماثاوس:
? الرسالة الثانية إلى ثيماثوس: IIثيما سفر الجامعة: جا
? سفر حبقوق: حب سفر حجاي: حج
? سفر الحكمة: حك سفر حزقيال: حز
? سفر الخروج: خر سفر دانيال" دا
? الرسالة الأولى إلى أهل رومية: رو سفر الرؤيا: رؤ
? سفر زكرياء: زكا سفر عزرا: عز
? سفرعاموس: عا الرسالة إلى العبرانيين: عب
? سفر العدد: عد سفر عوبديا: عو
? الرسالة إلى أهل غلاطية: غلا الرسالة إلى أهل فليبي: فل
? سفر القضاة: قض الرسالة الأولى إلى أهل كورينتس:Iكو
? الرسالة الثانية إلى أهل كورينتس: IIكو الرسالة إلى أهل كولوسي: كول
? إنجيل لوقا: لو إنجيل متى: متى
? سفر المكابيين الأول: مك I سفر المكابيين الثاني: مك II
? سفر ميخا: مي إنجيل مرقس: مر
? سفر المزامير: مز سفر الملوك الأول: I مل
? سفر الملوك الثاني:IIمل سفر ملاخي: ملا
? سفر اللاويين: "أح" أو " لاو سفر صفنيا: صف
? سفر صموئيل الأول: Iصم سفرصموئيل الثاني:IIصم
? سفر ناحوم: نا سفر نحميا: نح
? سفر هوشع: هو رسالة يعقوب: يع
? رسالة يهوذا: يه سفر يشوع بن نون: يش بن نون
? سفر يشوع بن شيراخ: يش بن شيراخ إنجيل يوحنا: يو
? الرسالة الأولى ليوحنا: Iيو الرسالة الثانية ليوحنا: IIيو
? الرسالة الثالثة ليوحنا: IIIيو سفر يوئيل: يؤ
مراجع البحث
? الترجمة اليسوعية . مطبعة المرسلين اليسوعيين سنة 1897
? ترجمة دار المشرق للكتاب المقدس
? ترجمة العهد الجديد للرابطة العالمية للمسيحيين المرموز له ب"LBI"
? تفسير إبن كثير
? تفسير بن جرير الطبري
? تفسير الجلالين
? تفسير القرطبي(1/243)
? سيرة بن كثير
? تفسر مفاتيح الغيب لفخر الدّين الرّازي
? تفسير البيضاوي
? تفسير الكشّاف للزمخشري
? محاضرات في النصرانية للشيخ محمد أبو زهرة. شركة الشهاب الجزائر.
? المسيحية نشأتها و تطورها لشارل جنيبير ترجمة د عبد الحليم محمود. المكتبة العصرية- صيدا- بيروت
? الفكر الإسلامي في الرد على النصارى د. عبد المجيد شرفي
? صلب عيسى عليه السلام التاريخ و الوهم . أ جبوري الشريف . طبعة دار الهدى 2006 – عين مليلة .الجزائر.
? يسوع ابن الله أم إبن الإنسان. الأستاذ جبوري الشريف . نشر على الإنترنت
http://www.arabicebook.com/Items/item-display.aspx?IID=689
? بحث الجنس البشري عن الله:
Watch Tower Bible and tract society of New york
? عصمة التوراة و الإنجيل إسكندر جديد
? و أكبر من نجار جوش ماكدويل ترجمة سمير شوملي
? المناظرة الحديثة في علم مقارنة الأديان د.أحمد حجازي السقا
? الإسلام و المسيحية أليسكي جورافسكي ترجمة د.خلق محمد الجراد
? المسيح في الإسلام الشيخ أحمد ديدات
? من وراء سلمان رشدي د. مأمون الشناوي
? الرسول سعيد حوى
? تاريخ العرب قبل الإسلام د. جورجي زيدان
? تاريخ العرب قبل الإسلام د.سعد زغلول
? الطريق إلى دمشق د. أحمد عادل كامل
? الطريق إلى المدائن د. أحمد عادل كامل
? وسائل الوصول إلى شمائل الرسول الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني
? صحيح مسلم
المراجع الأجنبية
??-Traduction oecuménique de la Bible. Editions du Cerf & société biblique française. 3eme édition ,1989
??Today's English Version. ABS
?? Authorized version of James King
?? Christian Community Bible catholic pastoral edition.
??La traduction du Nouveau Testament : Le Semeur
??La traduction du Nouveau Testament : Le Message
??Les Saintes écritures.traduction du nouveau monde.
??Le Nouveau Testament. Traduction de Louis Second.(1/244)
??Les synopses des quatres Evangiles. P.Benoit _ M. E.Boismard.
??Comparer, Considérer, Conclure. Gerhard Nehls.
??L’Atlas de la Bible.
??-La Bible de jérusalem
??-La traduction du Nouveau Testament de l’Alliance universelle de la Bible( en français courant). Bodard et Taupin, 24.8.1989
??-Introduction à la Bible. Nouveau Testament. A.Robert & A. Feuillet. Desclée & Cie, Editeurs. 25 Janvier 1959.
??-L’Eglise des Apotres et des martyrs. Daniel Rops. Petrus Brost, v.g. Lutetiae Parisorioum die xxxi Martii 1948.
??-Jésus en son temps. Daniel Rops. A. Leclerc, vie. Gén. Lutetiae Parisorium die aprilis 1944.
??-Le fondateur du christianisme. Charle. Dodd
??-La bible,le Coran et la science .Dr Maurice Bucaille .Editions Seghers, Paris , 1976
??-Le Coran et la Bible à la lumière de l’histoire et de la science. Dr Williame Campbell. Editions Farel, 2 édition , janvier 1994.
??-Le peuple du Coran .Anne Cooper. Traduction en langue française par Renée Rey et Paul Gesche. Edition Sator & Mena, septembre 1989.
??-La littérature polémique musulmane contre le Christianisme depuis ses origines jusqu’aux XIII Siècle. Ali Bouamama. Entreprise nationale du livre. Alger, 1988
.فهرست الكتاب
المقدمة..........................................................................3
منهج البحث ..................................................................10
الآيات القرآنية المبشرة بسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - .............................................24
البشارات بسيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب المقدس.........................................37(1/245)
أيّ شخص هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .........................................................40
اصدار الفرضية و طرح الإشكال.....................................................43
بداية حلّ الإشكال..................................................................45
إسرائيل ينتظر ثلاثة أنبياء زمن عيسى عليه السلام.................................47
إيليا سابق المسيح....................................................................48
تساؤل: لماذا لم يصرّح عيسى بأنّه إلياس؟..........................................54
عيسى ينكر أنه المسيح...............................................................56
كيف وردت كلمة المسيح في الإنجيل.................................................68
بدعة السرّ المسيحاني................................................................72
حجة التاريخ........................................................................75
حجة القرآن و السنة................................................................76
عيسى يبشّر بالمسيح.................................................................86
التأويلات الباطلة: عيسى ابن داوود و إلهه.......................................89
معنى يمين الله و الجلوس عن يمينه................................................92
ما معنى ملكوت الله؟...............................................................94
النبيّ يحيى بن زكريا يبشّر بالمسيح................................................95
إرتباك الأناجيل...................................................................102
أوّل نصّ حرّف في الإنجيل و مصلحة المحرّف....................................108(1/246)
كيف عمّد سيّد الخلق - صلى الله عليه وسلم - بالنّار و الرّوح القدس..................................113
بشارة الحواري بطرس بالمسيح....................................................117
المؤمنون بعيسى ينتظرون المسيح...................................................129
معنى المسيح......................................................................129
لماذا سمي الملك مسيحا؟..........................................................134
هل كان سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ملكا؟....................................................137
هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنّه المسيح؟.........................................130
إسرائيل كان ينتظر من الثلاثة مسيحين........................................140
أسئلة هامّة......................................................................144
صفات المسيح...................................................................153
شريعته ناسخة لشريعة التوراة.................................................153
هل صحيح أنّ عيسى نسخ التوراة بشريعة جديدة؟...........................158
مبعثه من بلاد العرب و يومه يوم الرّب.......................................163
ما الذي دفع الكاتب ليزيد إسم قورش؟.......................................166
مؤسّس مملكة الله تعالى........................................................184
رسالته إلى كافّة النّاس.........................................................198
المدينة و الهيكل و الجبل الجدد.............................................200
نسب المسيح من غير آل إسرائيل.............................................206
المسيح نبيّ أميّ...............................................................213(1/247)
فضائل المسيح و أمّته.........................................................214
المسيح رحمة للعالمين.........................................................217
أمّة المسيح عمياء ترث ملكوت الله...........................................220(1/248)