مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا فَمَرَّ بِي، فَدَعَانِي فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّ بِعُمَرَ فَدَعَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى (1) حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: "أَطْعِمْنَا". فَجَاءَ بِعذْق فَوَضَعَهُ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ، وَقَالَ: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ العذْقَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، حَتَّى تَنَاثَرَ البُسرُ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَمَسْئُولٌ (2) عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: خِرْقَةٌ لَفَّ بِهَا الرَّجُلُ عَوْرَتَهُ، أَوْ كَسْرَةٌ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ، أَوْ جُحْرٌ تَدخَّل فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْقَرِّ" (3) تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا عَمَّارٌ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ رُطَبًا، وَشَرِبُوا مَاءً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ [عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ جَابِرٍ] (4) بِهِ (5) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ مَحْمُودِ (6) بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَنْ أَيِّ (7) نَعِيمٍ نُسأل؟ وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ، وَسُيُوفُنَا عَلَى رِقَابِنَا، وَالْعَدُوُّ حَاضِرٌ، فَعَنْ أَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ؟ قَالَ (8) أَمَا إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ" (9) .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا معاذ بن عبد الله بن حُبَيب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: كُنَّا فِي مَجْلِسٍ فَطَلَعَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَاكَ طَيِّبَ النَّفْسِ. قَالَ: "أَجَلْ". قَالَ: ثُمَّ خَاضَ النَّاسُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ".
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ (10) .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَمٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ -يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ-الْعَبْدُ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحّ لك جسمك، ونُرْوكَ من الماء البارد؟ ".
__________
(1) في أ: "حتى دخل".
(2) في م، أ: "إنا لمسئولون".
(3) المسند (5/81) .
(4) زيادة من أ.
(5) المسند (3/351) وسنن النسائي (6/246) .
(6) في أ: "عن محمد".
(7) في م: "أي يوم".
(8) في م: "فقال".
(9) المسند (5/429) .
(10) المسند (5/372) وسنن ابن ماجة برقم (2141) وقال البوصيري في الزوائد (2/158) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".(8/476)
تَفَرَّدَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ زَيْر، بِهِ (1) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا مُسَدَّد، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ يَحْيَى بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: لَمَّا نَزَلَتْ: { [ثُمَّ] (2) لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِأَيِّ نَعِيمٍ نُسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هُمَا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ؟ قَالَ: "إِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ". وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ -هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ-بِهِ (3) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْهُ (4) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، عَنِ الحكم ابن أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالَتِ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّ نَعِيمٍ نَحْنُ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَأْكُلُ فِي أَنْصَافِ بُطُونِنَا خُبْزَ الشَّعِيرِ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ: أَلَيْسَ تَحْتَذُونَ النِّعَالَ، وَتَشْرَبُونَ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى -أَظُنُّهُ عَنْ عَامِرٍ-عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: { [ثُمَّ] (5) لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالَ: "الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ" (6) .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} يَعْنِي: شِبَعَ الْبُطُونِ، وَبَارِدَ الشَّرَابِ، وَظِلَالَ الْمَسَاكِنِ، وَاعْتِدَالَ الْخَلْقِ، وَلَذَّةَ النَّوْمِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ، عَنْهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: حَتَّى عَنْ شَرْبَةِ عَسَلٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَنْ كُلِّ لَذَّةٍ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: نَعِيمُ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ، وَقَالَ أَبُو قِلابة: مِنَ النَّعِيمِ أَكْلُ الْعَسَلِ وَالسَّمْنِ بِالْخَبْزِ النَّقِيِّ. وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ هَذَا أَشْمَلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قَالَ: النَّعِيمُ: صِحَّةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، يَسْأَلُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيمَا اسْتَعْمَلُوهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الْإِسْرَاءِ: 36] .
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَسُنَنِ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سعيد ابن أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم:
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3358) وصحيح ابن حبان برقم (7320) "الإحسان".
(2) زيادة من أ.
(3) سنن الترمذي برقم (3356) وسنن ابن ماجة برقم (4158) .
(4) المسند (1/174) .
(5) زيادة من أ.
(6) ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد برقم (855) من طريق محمد بن سليمان الأصبهاني، به.(8/477)
"نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ" (1) .
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ فِي شُكْرِ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ، لَا يَقُومُونَ بِوَاجِبِهِمَا، وَمَنْ لَا يَقُومُ بِحَقِّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَغْبُونٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن الحسن ابن شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ أَبِي فَزَارَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا فَوْقَ الْإِزَارِ، وَظِلُّ الْحَائِطِ، وخُبْز، يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ يُسْأَلُ عَنْهُ" (2) ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ وَعَفَّانُ قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -قَالَ عَفَّانُ في حديثه: قال إسحاق ابن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ -قَالَ عَفَّانُ: يوم القيامة-: يا بن آدَمَ، حَمَلْتُكَ عَلَى الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، وَزَوَّجْتُكَ النِّسَاءَ، وَجَعَلْتُكَ تَرْبَع (3) وَتَرْأَسُ، فَأَيْنَ شُكْرُ ذَلِكَ؟ " (4) تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "التكاثر" (5) [ولله الحمد والمنة] (6)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6412) وسنن الترمذي برقم (2304) وسنن ابن ماجة برقم (4170) .
(2) مسند البزار برقم (3643) "كشف الأستار" وليث بن أبي سليم ضعيف.
(3) في أ: "ترتع".
(4) المسند (2/492) .
(5) في م: "ألهاكم".
(6) زيادة من أ.(8/478)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْعَصْرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
ذَكَرُوا أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَفَدَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ [لَعَنَهُ اللَّهُ] (1) وَذَلِكَ بَعْدَ مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَمْرٌو، فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: مَاذَا أُنْزِلَ عَلَى صَاحِبِكُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ؟ قَالَ (2) لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ سُورَةٌ وَجِيزَةٌ بَلِيغَةٌ. فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: " وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " فَفَكَّرَ مُسَيْلِمَةُ هُنَيهة ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ أُنْزِلَ عَلِيَّ مِثْلُهَا. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: يَا وَبْر يَا وَبْر، إِنَّمَا أَنْتِ أُذُنَانِ وصَدْر، وَسَائِرُكِ حَفْزُ نَقْز. ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ تَرَى يَا عَمْرُو؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ تَكْذِبُ (3)
وَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الْخَرَائِطِيَّ أَسْنَدَ (4) فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِ "مَسَاوِي الْأَخْلَاقِ"، فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْهُ، شَيْئًا مِنْ هَذَا أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ (5) .
والوبْر: دُوَيْبَةٌ تُشْبِهُ الْهِرَّ، أَعْظَمُ شَيْءٍ فِيهِ أُذُنَاهُ، وَصَدْرُهُ وَبَاقِيهِ دَمِيمٌ. فَأَرَادَ مُسَيْلِمَةُ أَنَّ يَرَكِّبَ مِنْ هَذَا الْهَذَيَانِ مَا يُعَارِضُ بِهِ الْقُرْآنَ، فَلَمْ يَرُجْ ذَلِكَ عَلَى عَابِدِ الْأَوْثَانِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.
وَذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَصْنٍ [أَبِي مَدِينَةَ] ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا الْتَقَيَا، لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا عَلَى أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ "سُورَةَ الْعَصْرِ" إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ (6) .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ، لَوَسِعَتْهُمْ.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م: "فقال".
(3) وفي صحة هذه القصة نظر؛ فإن إسلام عمرو بن العاص متقدم على تنبئ مسيلمة، فإن مسيلمة الكذاب تنبأ سنة عشر من الهجرة، وكان قد وفد عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قومه سنة عشرة من الهجرة، كما في السيرة النبوية لابن هشام (3/74) . وعمرو بن العاص أسلم سنة ثمان على الأصح كما في الإصابة للحافظ ابن حجر (3/2) . ثم وقفت على ما نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة (3/225) : أن عمرا بن العاص أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البحرين وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو هناك وأنه مر على مسيلمة وأنه أعطاه الأمان ثم قال له: إن محمدا أرسل في جسيم الأمر وأرسلت في المحقرات.. فذكر نحو القصة، وعزاه لابن شاهين في الصحابة، فعلى هذا يكون ما جاء هنا بعد إسلام عمرو بن العاص وليس قبل إسلامه، والله أعلم.
(4) في أ: "استدل".
(5) لم أقف عليه في المطبوع من مساوئ الأخلاق، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن ابن شاهين وصل هذه القصة من طريق اللَّيْثِ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بن أبي هلال: "أن قرة بن هبيرة قدم على رسول الله ... ثم ذكر أن رسول الله أرسل عمرا إلى البحرين، فذكر نحو القصة". انظر: الإصابة (3/225) .
(6) المعجم الأوسط برقم (5097) "مجمع البحرين".(8/479)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) }
الْعَصْرُ: الزَّمَانُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ حَرَكَاتُ بَنِي آدَمَ، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ الْعَشِيُّ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.
فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، أَيْ: فِي خَسَارَةٍ وَهَلَاكٍ، {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فَاسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ عَنِ الْخُسْرَانِ الَّذِينَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِجَوَارِحِهِمْ، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} وَهُوَ أَدَاءُ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} عَلَى الْمَصَائِبِ وَالْأَقْدَارِ، وَأَذَى مَنْ يُؤْذِي مِمَّنْ يَأْمُرُونَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الْعَصْرِ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ(8/480)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
تَفْسِيرُ سُورَةِ وَيْلٌ لِكُلِّ هَمْزَةٍ لُمَزَةٍ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) }
الْهَمَّازُ: بِالْقَوْلِ، وَاللَّمَّازُ: بِالْفِعْلِ. يَعْنِي: يَزْدَرِي بِالنَّاسِ (1) وَيَنْتَقِصُ بِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [الْقَلَمِ: 11] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} طَعَّانٍ مِعْيَابٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الهُمَزة، يَهْمِزُهُ فِي وَجْهٍ، وَاللُّمَزَةُ (2) مِنْ خَلْفِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَهْمِزُهُ وَيَلْمِزُهُ بِلِسَانِهِ وَعَيْنِهِ، وَيَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ، ويطعنُ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْهُمَزَةُ: بِالْيَدِ وَالْعَيْنِ، واللمزةُ: بِاللِّسَانِ. وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُمَزة لُحُومُ النَّاسِ.
ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ. وَقِيلَ غَيْرُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ عَامَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ} أَيْ: جَمَعَهُ (3) بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَحْصَى عَدَدَهُ كَقَوْلِهِ: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [الْمَعَارِجِ: 18] قَالَهُ السُّدِّيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ: {جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ} أَلْهَاهُ مَالُهُ بِالنَّهَارِ، هَذَا إِلَى (4) هَذَا، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ، نَامَ كَأَنَّهُ جِيفَةً.
وَقَوْلُهُ: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أَيْ: يَظُنُّ أَنَّ جَمْعَهُ الْمَالَ يُخْلِدُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ؟ {كَلا} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ وَلَا كَمَا حَسِبَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} أَيْ: لَيُلْقَيَنَّ هَذَا الَّذِي جَمَعَ مَالًا فَعَدَّدَهُ (5) فِي الْحُطْمَةِ وَهِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ صِفَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُحَطِّمُ مَنْ فِيهَا.
وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ} قَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: تَحْرِقُهُمْ إِلَى الْأَفْئِدَةِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، ثُمَّ يَقُولُ: لَقَدْ بَلَغَ مِنْهُمُ الْعَذَابُ، ثُمَّ يَبْكِي.
__________
(1) في م: "على الناس".
(2) في م: "ولمزه".
(3) في م: "أي جمع".
(4) في م: "في".
(5) في م: "فعده".(8/481)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ فُؤَادَهُ حَذْوَ حَلْقِهِ تَرْجِعُ عَلَى جَسَدِهِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} أَيْ: مُطْبَقَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَلَدِ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سِرَاجٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ خَرزَاذ، حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ أَشْرَسَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} قَالَ: "مُطْبَقَةٌ".
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسِيدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ خَالِدٍ (1) عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَوْلَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ.
{فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: عَمَدٍ مِنْ حَدِيدٍ. وَقَالَ السُّدِّي: مِنْ نَارٍ. وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} يَعْنِي: الْأَبْوَابُ هِيَ الْمَمْدُوةُ (2) .
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ بِعَمَدٍ مُمَدَّةٍ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَدْخَلَهُمْ فِي عَمَدٍ فَمُدَّتْ عَلَيْهِمْ بِعِمَادٍ، وَفِي أَعْنَاقِهِمُ السَّلَاسِلُ فَسَدَّتْ بِهَا الْأَبْوَابَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ بِعَمَدٍ فِي النَّارِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} يَعْنِي الْقُيُودَ الطِّوَالَ. آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "ويل لكل همزة لمزة"
__________
(1) في أ: "إسماعيل بن أبي خالد".
(2) في أ: "هي الممددة".(8/482)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْفِيلِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) }
هَذِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى قُرَيْشٍ، فِيمَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى هَدْمِ الْكَعْبَةِ وَمَحْوِ أَثَرِهَا مِنَ الْوُجُودِ، فَأَبَادَهُمُ اللَّهُ، وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ، وَخَيَّبَ سَعْيَهُمْ، وَأَضَلَّ عَمَلَهُمْ، وَرَدهم بِشَرِّ خَيْبَةٍ. وَكَانُوا قَوْمًا نَصَارَى، وَكَانَ دِينُهُمْ إِذْ ذَاكَ أَقْرَبَ حَالًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَلَكِنْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِرْهَاصِ وَالتَّوْطِئَةِ لِمَبْعَثِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وُلِدَ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَلِسَانُ حَالِ الْقَدَرِ يَقُولُ: لَمْ نَنْصُرْكُمْ -يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ-عَلَى الْحَبَشَةِ لِخَيْرِيَّتِكُمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ صِيَانَةً لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ الَّذِي سَنُشَرِّفُهُ وَنُعَظِّمُهُ وَنُوَقِّرُهُ بِبَعْثَةِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (1) خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَهَذِهِ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْفِيلِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ وَالتَّقْرِيبِ، قَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ (2) أَنَّ ذَا نُوَاس -وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وَكَانَ مُشْرِكًا -هُوَ الَّذِي قَتَلَ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ، وَكَانُوا نَصَارَى، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا دَوس ذُو ثَعْلَبَانِ، فَذَهَبَ فَاسْتَغَاثَ بِقَيْصَرَ مَلَكِ الشَّامِ -وَكَانَ نَصْرَانِيًّا-فَكَتَبَ لَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلَكِ الْحَبَشَةِ؛ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَيْهِمْ، فَبَعَثَ مَعَهُ أَمِيرَيْنِ: أَرِيَاطَ وَأَبْرَهَةَ بْنَ الصَّبَاحِ أَبَا يَكْسُومَ (3) فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَدَخَلُوا الْيَمَنَ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَاسْتَلَبُوا الْمُلْكَ مِنْ حِمْيَرَ، وَهَلَكَ ذُو نُوَاسٍ غَرِيقًا فِي الْبَحْرِ. وَاسْتَقَلَّ الْحَبَشَةُ بِمُلْكِ الْيَمَنِ وَعَلَيْهِمْ هَذَانَ الْأَمِيرَانِ: أَرِيَاطُ وَأَبْرَهَةُ، فَاخْتَلَفَا فِي أَمْرِهِمَا وَتَصَاوَلَا وَتَقَاتَلَا وَتَصَافَّا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى اصْطِدَامِ الْجَيْشَيْنِ بَيْنَنَا، وَلَكِنْ ابْرُزْ إِلَيَّ وَأَبْرُزُ إِلَيْكَ، فَأَيُّنَا قَتَلَ الْآخَرَ، اسْتَقَلَّ بَعْدَهُ بِالْمُلْكِ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ فَتَبَارَزَا، وخَلَفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَنَاةٌ، فَحَمَلَ أَرِيَاطُ عَلَى أَبَرْهَةَ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، فَشَرَمَ أَنْفَهُ وَفَمَهُ وَشَقَّ وَجْهَهُ، وَحَمَلَ عَتَوْدَة مَوْلَى أَبَرْهَةَ عَلَى أَرِيَاطَ فَقَتَلَهُ، وَرَجَعَ أَبَرْهَةُ جَرِيحًا، فَدَاوَى جُرْحَهُ فَبَرأ، وَاسْتَقَلَّ بِتَدْبِيرِ جَيْشِ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ. فَكَتَبَ (4) إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ يَلُومُهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَيَتَوَعَّدُهُ وَيَحْلِفُ لَيَطَأَنَّ بِلَادَهُ وَيَجِزَّنَّ نَاصِيَتَهُ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبَرْهَةُ يَتَرَقَّقُ لَهُ وَيُصَانِعُهُ، وَبَعَثَ مَعَ رَسُولِهِ بِهَدَايَا وَتُحَفٍ، وَبِجِرَابٍ فِيهَا مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ، وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ فَأَرْسَلَهَا مَعَهُ، وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ: لِيَطَأَ الْمَلِكُ عَلَى هَذَا الْجِرَابِ فَيَبِرُّ قَسَمَهُ،
__________
(1) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(2) عند تفسير الآية: 4 من سورة البروج.
(3) في أ: "أبا بكشوم".
(4) في أ: "فأرسل".(8/483)
وَهَذِهِ نَاصِيَتِي قَدْ بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ. فَلَمَّا وَصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَعْجَبَهُ مِنْهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ. وَأَرْسَلَ أَبَرْهَةُ يَقُولُ لِلنَّجَاشِيِّ: إِنِّي سَأَبْنِي لَكَ كَنِيسَةً بِأَرْضِ الْيَمَنِ لَمْ يُبْنَ قَبْلَهَا مِثْلُهَا. فَشَرَعَ فِي بِنَاءِ كَنِيسَةٍ هَائِلَةٍ بِصَنْعَاءَ، رَفِيعَةَ الْبِنَاءِ، عَالِيَةَ الْفِنَاءِ، مُزَخْرَفَةَ الْأَرْجَاءِ. سَمَّتْهَا الْعَرَبُ القُلَّيس؛ لِارْتِفَاعِهَا؛ لِأَنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهَا تَكَادُ تَسْقُطُ قُلُنْسُوَتُهُ عَنْ رَأْسِهِ مِنَ ارْتِفَاعِ بِنَائِهَا. وَعَزَمَ أَبَرْهَةُ الأشرمُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ حَجّ الْعَرَبِ إِلَيْهَا كَمَا يُحَج إِلَى الْكَعْبَةِ بِمَكَّةَ، وَنَادَى بِذَلِكَ فِي مَمْلَكَتِهِ، فَكَرِهَتِ الْعَرَبُ الْعَدْنَانِيَّةُ وَالْقَحْطَانِيَّةُ ذَلِكَ، وَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى قَصَدَهَا بَعْضُهُمْ، وَتَوَصَّلَ إِلَى أَنْ دَخْلَهَا لَيْلًا. فَأَحْدَثَ فِيهَا وَكَرَّ رَاجِعًا. فَلَمَّا رَأَى السَّدَنَةُ ذَلِكَ الْحَدَثَ، رَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى مَلِكِهِمْ أَبَرْهَةَ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّمَا صَنَعَ هَذَا بَعْضُ قُرَيْشٍ غَضَبًا لِبَيْتِهِمُ الَّذِي ضَاهَيْتَ هَذَا بِهِ، فَأَقْسَمَ أَبَرْهَةُ لَيَسِيرَنَّ إِلَى بَيْتِ مَكَّةَ، وَلَيُخَرِّبَنَّهُ حَجَرًا حَجَرًا.
وَذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ فِتْيَةً مِنْ قُرَيْشٍ دَخَلُوهَا فَأَجَّجُوا فِيهَا نَارًا، وَكَانَ يَوْمًا فِيهِ هَوَاءٌ شَدِيدٌ فَأَحْرَقَتْهُ، وَسَقَطَتْ إِلَى الْأَرْضِ.
فَتَأَهَّبَ أَبَرْهَةُ لِذَلِكَ، وَصَارَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ عَرَمرم؛ لِئَلَّا يَصُدَّهُ أَحَدٌ عَنْهُ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ فِيلًا عَظِيمًا كَبِيرَ الْجُثَّةِ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، يُقَالُ لَهُ: مَحْمُودٌ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ لِذَلِكَ. وَيُقَالُ: كَانَ مَعَهُ أَيْضًا ثَمَانِيَةُ أَفْيَالٍ. وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ فِيلًا. وَقِيلَ غَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. يَعْنِي لِيَهْدِمَ بِهِ الْكَعْبَةَ، بِأَنْ يَجْعَلَ السَّلَاسِلَ فِي الْأَرْكَانِ، وَتُوضَعَ فِي عُنُق الْفِيلِ، ثُمَّ يُزْجَرَ لِيُلْقِيَ الْحَائِطَ جُمْلَةً وَاحِدَةً. فَلَمَّا سَمِعَتِ الْعَرَبُ بِمَسِيرِهِ أَعْظَمُوا ذَلِكَ جِدًّا، وَرَأَوْا أَنَّ حَقًا عَلَيْهِمُ الْمُحَاجَبَةُ (1) دُونَ الْبَيْتِ، وَرَد مَنْ أَرَادَهُ بِكَيْدٍ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ [كَانَ] (2) مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ، يُقَالُ لَهُ "ذُو نَفْر" فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إِلَى حَرْبِ أَبَرْهَةَ، وَجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ، وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَخَرَابِهِ. فَأَجَابُوهُ وَقَاتَلُوا أَبَرْهَةَ، فَهَزَمَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ كَرَامَةِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ، وَأُسِرَ "ذُو نُفْر" فَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ. ثُمَّ مَضَى لِوَجْهِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمٍ، عَرَض لَهُ نُفَيل بْنُ حَبيب الخَشْعمي فِي قَوْمِهِ: شَهْرَانُ وَنَاهِسُ، فَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمَهُمْ أَبَرْهَةُ، وَأُسِرَ نُفَيل بْنُ حَبِيبٍ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ لِيَدُلَّهُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ. فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرْضِ الطَّائِفِ، خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا ثَقِيفٌ وَصَانَعُوهُ خِيفَةً عَلَى بَيْتِهِمْ، الَّذِي عِنْدَهُمْ، الَّذِي يُسَمُّونَهُ اللَّاتَ. فَأَكْرَمَهُمْ وَبَعَثُوا مَعَهُ "أَبَا رغَال" دَلِيلًا. فَلَمَّا انْتَهَى أَبَرْهَةُ إِلَى المُغَمْس -وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ-نَزَلَ بِهِ وَأَغَارَ جَيْشُهُ عَلَى سَرْح أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، فَأَخَذُوهُ. وَكَانَ فِي السَّرْحِ (3) مِائَتَا بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَكَانَ الَّذِي أَغَارَ عَلَى السَّرْحِ بِأَمْرِ أَبَرْهَةَ أَمِيرِ الْمُقَدِّمَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: "الْأَسْوَدُ بْنُ مَفْصُودٍ" فَهَجَاهُ بَعْضُ الْعَرَبِ -فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ (4) -وَبَعَثَ أَبَرْهَةُ حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِأَشْرَفِ قُرَيْشٍ، وَأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَجِئْ لِقِتَالِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصُدوه عَنِ الْبَيْتِ. فَجَاءَ حُنَاطَةُ فَدُل عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَبَلَّغَهُ عَنْ أَبَرْهَةَ مَا قَالَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ، وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ
__________
(1) في أ: "المحاجة".
(2) زيادة من م، أ.
(3) في أ: "في السراح".
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/51) .(8/484)
وَحَرَمُهُ، وَإِنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْع عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ: فَاذْهَبْ مَعِي إِلَيْهِ. فَذَهَبَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ أَبَرْهَةُ أَجَلَّهُ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَجُلًا جَمِيلًا حَسَنَ الْمَنْظَرِ، وَنَزَلَ أَبَرْهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ، وَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى الْبِسَاطِ، وَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ: إِنَّ حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي. فَقَالَ أَبَرْهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدت فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكِ قَدْ جئتُ لِهَدْمِهِ، لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رِبًّا سَيَمْنَعُهُ. قَالَ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي! قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَعَرَضُوا عَلَى أَبَرْهَةَ ثُلْثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَرَدَّ أَبَرْهَةُ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِبِلَهُ، وَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، وَالتَّحَصُّنِ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ. ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخْذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبَرْهَةَ وَجُنْدِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ:
لاهُمَّ (1) إنَّ المرء يمـ ... نَعُ رَحْلَه فامْنع حِلالَك ...
لَا يغلبنَّ صَلِيبُهم ... ومحَالُهم غَدْوًا مِحَالك ...
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقة الْبَابِ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ (2) .
وَذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا عِنْدَ الْبَيْتِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدة، لَعَلَّ بَعْضُ الْجَيْشِ (3) يَنَالُ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبَرْهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ -وَكَانَ اسْمُهُ مَحْمُودًا-وَعَبَّأَ جَيْشَهُ، فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ نَحْوَ مَكَّةَ أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حَتَّى قَامَ إِلَى.
جَنْبِهِ ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ وَقَالَ ابْرُكْ مَحْمُودُ وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ". ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ، فَبَرَكَ الْفِيلُ. وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشتد حَتَّى أُصْعِدَ فِي الْجَبَلِ. وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى. فَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بالطْبرزين (4) وَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مَرَاقه فَبَزَغُوهُ بِهَا لِيَقُومَ، فَأَبَى؛ فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ. وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ.
مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، أَمْثَالُ الْحُمُّصِ وَالْعَدَسِ، لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ. وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ هَذَا. وَنُفَيْلٌ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ مَعَ قُرَيْشٍ وَعَرَبِ الْحِجَازِ، يَنْظُرُونَ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ النِّقْمَةِ، وَجَعَلَ نُفَيْلٌ يقول:
__________
(1) في أ: "اللهم".
(2) انظر: السيرة النبوية لبن هشام (1/52) .
(3) في م، أ: "بعض الحبشة".
(4) في أ: "بالطورين من الآلات".(8/485)
أينَ المَفَرُّ? والإلهُ الطَّالب (1) والأشرمُ المغلوبُ غَيْرُ الْغَالِبْ (2)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ نُفَيل فِي ذَلِكَ أَيْضًا:
أَلَا حُييت عَنا يَا رُدَينا ... نَعمْنا كُم مَعَ الأصبَاح عَينَا ...
رُدَينةُ لَوْ رَأَيْتِ -وَلَا تَرَيْه ... لَدَى جَنْب الْمُحَصَّبِ -مَا رَأينَا ...
إِذًا لَعَذَرتني وَحَمَدت أمْري ... وَلَم تَأْسَيْ عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا ...
حَمِدتُ اللَّهَ إِذْ أبصَرتُ طَيْرًا ... وَخفْتُ حَجارة تُلقَى عَلَينا ...
فَكُلّ الْقَوْمِ يَسألُ عَن نُفَيل ... كَأنَّ عليَ للحُبْشَان دَينَا! ...
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا تَعْبَئُوا لِدُخُولِ الْحَرَمِ وَهَيَّئُوا الْفِيلَ، جَعَلُوا لَا يَصْرِفُونَهُ إِلَى جِهَةٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ إِلَّا ذَهَبَ [فِيهَا] (3) فَإِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْحَرَمِ رَبَض وَصَاحَ. وَجَعَلَ أَبَرْهَةُ يَحْمِلُ عَلَى سَائِسِ الْفِيلِ وَيَنْهَرُهُ وَيَضْرِبُهُ، لِيَقْهَرَ الْفِيلَ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ. وَطَالَ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ. هَذَا وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ مَكَّةَ، مِنْهُمُ (4) الْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعَمْرُو بْنُ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَمَسْعُودُ [بْنُ عَمْرٍو] (5) الثَّقَفِيُّ، عَلَى حِرَاءَ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا الْحَبَشَةُ يَصْنَعُونَ، وَمَاذَا يَلْقُونَ مِنْ أَمْرِ الْفِيلِ، وَهُوَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، أَيْ قَطَعًا قِطَعًا صُفْرًا دُونَ الْحَمَامِ، وَأَرْجُلُهَا حُمْرٌ، وَمَعَ كُلِّ طَائِرٍ ثَلَاثُ أَحْجَارٍ، وَجَاءَتْ فَحَلَّقَتْ عَلَيْهِمْ، وَأَرْسَلَتْ تِلْكَ الْأَحْجَارَ عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: جَاءُوا بِفِيلَيْنِ فَأَمَّا مَحْمُودٌ فَرَبض، وَأَمَّا الْآخَرُ فَشَجُع (6) فحُصِب.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه: كَانَ مَعَهُمْ فِيَلَةٌ، فَأَمَّا مَحْمُودٌ -وَهُوَ فِيلُ الْمَلِكِ-فَرَبَضَ، لِيَقْتَدِيَ بِهِ بَقِيَّةُ الْفِيَلَةِ، وَكَانَ فِيهَا فِيلٌ تَشَجَّع فَحُصِبَ، فَهَرَبَتْ بَقِيَّةُ الْفِيَلَةِ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَار، وَغَيْرُهُ: لَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ هَلَكَ سَرِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ يَتَسَاقَطُ عُضْوًا عُضْوًا وَهُمْ هَارِبُونَ، وَكَانَ أَبَرْهَةُ مِمَّنْ يَتَسَاقَطُ عُضْوًا عُضْوًا، حَتَّى مَاتَ بِبِلَادِ خَثْعَمٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَيَهْلَكُونَ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ (7) وَأُصِيبَ أَبَرْهَةُ فِي جَسَدِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ يَسْقُطُ أنْمُلة أنْمُلة، حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ، فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ (8) قَلْبِهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
وَذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابُوا مَالًا جَزِيلًا مِنْ أَسْلَابِهِمْ، وَمَا كَانَ مَعَهُمْ، وَأَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَصَابَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الذَّهَبِ مَا مَلَأَ حُفْرَةً.
__________
(1) في م: "الغالب".
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/53) وتفسير الطبري (30/196) .
(3) زيادة من م، أ.
(4) في م، أ: "فيهم".
(5) زيادة من م، أ.
(6) في أ: "فخشع".
(7) في م: "كل سهل".
(8) في أ: "من".(8/486)
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَة: أَنَّهُ حُدِّثَ (1) أَنَّ أَوَّلَ مَا رُؤِيَتِ الحَصبة والجُدري بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَا رُؤِيَ بِهِ مَرائر الشَّجَرِ الحَرْمل، وَالْحَنْظَلِ والعُشر، ذَلِكَ الْعَامُ (2) .
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، مِنْ طَرِيقٍ جَيِّدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيمَا يَعُد بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نعْمتَه (3) عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ، مَا رَدَّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ، لِبَقَاءِ أَمْرِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ، فَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} {لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [سُورَةُ قُرَيْشٍ] أَيْ: لِئَلَّا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ لَوْ قَبِلُوهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَبَابِيلُ الْجَمَاعَاتُ، وَلَمْ تَتَكَلَّمُ الْعَرَبُ بِوَاحِدَةٍ. قَالَ: وَأَمَّا السِّجِّيلُ، فَأَخْبَرَنِي يُونُسُ النَّحْوِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الشَّدِيدُ الصُّلْبُ. قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ بِالْفَارِسِيَّةِ، جَعَلَتْهُمَا الْعَرَبُ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ سَنْجُ وَجِلُّ يَعْنِي بِالسَّنْجِ: الْحَجَرَ، وَالْجِلِّ: الطِّينُ. يَقُولُ: الْحِجَارَةُ مِنْ هَذَيْنَ الْجِنْسَيْنِ: الْحَجَرِ وَالطِّينِ. قَالَ: والعصفُ: ورقُ الزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُقضب، وَاحِدَتُهُ عَصْفَةٌ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ (4) .
وَقَدْ قَالَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ-: {طَيْرًا أَبَابِيلَ} قَالَ: الْفَرَقُ (5) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ: أَبَابِيلُ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ: الْأَبَابِيلُ: الْكَثِيرَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَبَابِيلُ: شَتَّى مُتَتَابِعَةٌ مُجْتَمِعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَبَابِيلُ: الْمُخْتَلِفَةُ، تَأْتِي مِنْ هَاهُنَا، وَمِنْ هَاهُنَا، أَتَتْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ [النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ: أُبُولُ مِثْلُ الْعُجُولِ. قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ] (6) بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُ: وَاحِدُ الْأَبَابِيلِ: إِبِّيلٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: [حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى] (7) حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنِي دَاوُدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ؛ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} هي: الأقاطيع، كالإبل المؤبلة.
__________
(1) في أ: "أنه حدثه".
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/54) .
(3) في أ: "من بعثه".
(4) السيرة النبوية لابن هشام (1/55) .
(5) في أ: "الغرق".
(6) زيادة من تفسير الطبري (30/191) .
(7) زيادة من تفسير الطبري (30/191) .(8/487)
وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} قَالَ: لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ، وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ.
وَحَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {طَيْرًا أَبَابِيلَ} قَالَ: كَانَتْ طَيْرًا خُضْرًا خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، لَهَا رُءُوسٌ كَرُءُوسِ السِّبَاعِ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عبيد ابن عُمَيْرٍ: {طَيْرًا أَبَابِيلَ} قَالَ: هِيَ طَيْرٌ (1) سُودٌ بَحْرِيَّةٌ، فِي مِنْقَارِهَا (2) وَأَظَافِيرِهَا الْحِجَارَةُ.
وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ طَيْرًا خُضْرًا لَهَا مَنَاقِيرُ صُفْرٌ، تَخْتَلِفُ عَلَيْهِمْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ: كَانَتِ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ مِثْلَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا عَنْقَاءُ مُغْرب. رَوَاهُ عَنْهُمُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ، بَعَثَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أُنْشِئَتْ مِنَ الْبَحْرِ، أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ. كُلُّ طَيْرٍ مِنْهَا تَحْمِلُ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ مُجَزَّعَةٍ: حَجَرَيْنِ فِي رِجْلَيْهِ وَحَجَرًا فِي مِنْقَارِهِ. قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى صُفَّتْ عَلَى رُءُوسِهِمْ، ثُمَّ صَاحَتْ وَأَلْقَتْ مَا فِي أَرْجُلِهَا وَمَنَاقِيرِهَا، فَمَا يَقَعُ حَجَرٌ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَلَا يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ إِلَّا وَخَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ. وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا شَدِيدَةً فَضَرَبَتِ الْحِجَارَةَ فَزَادَتْهَا شِدَّةً فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا.
وَقَالَ السُّدِّي، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} قَالَ: طِينٌ فِي حِجَارَةٍ: "سَنْكُ -وَكِلُّ" وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي التِّبْنَ الَّذِي تسميه العامة: هبور. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَعِيدٍ: وَرَقُ الْحِنْطَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْعَصْفُ: التِّبْنُ. وَالْمَأْكُولُ: الْقَصِيلُ يُجَزُّ لِلدَّوَابِّ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَصْفُ: الْقِشْرَةُ الَّتِي عَلَى الْحَبَّةِ، كَالْغُلَافِ عَلَى الْحِنْطَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ، وَوَرَقُ الْبَقْلِ، إِذَا أَكَلَتْهُ الْبَهَائِمُ فَرَاثَتْهُ، فَصَارَ دَرِينًا (3) .
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَهْلَكَهُمْ وَدَمَّرَهُمْ، وَرَدَّهُمْ بِكَيْدِهِمْ وَغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَأَهْلَكَ عَامَّتَهُمْ، وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ بِخَيْرٍ إِلَّا وَهُوَ جَرِيحٌ، كَمَا جَرَى لِمَلِكِهِمْ أَبْرَهَةَ، فَإِنَّهُ انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ حِينَ وَصَلَ إِلَى بَلَدِهِ صَنْعَاءَ، وَأَخْبَرَهُمْ بِهَا (4) جَرَى لَهُمْ، ثُمَّ مات. فملك بعده ابنه
__________
(1) في م: "هي طيور".
(2) في أ: "في مناقيرها".
(3) في م: "دوثا".
(4) في م: "بما".(8/488)
يَكْسُومُ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبَرْهَةَ (1) ثُمَّ خَرَجَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَن الْحِمْيَرِيُّ إِلَى كِسْرَى فَاسْتَغَاثَهُ (2) عَلَى الْحَبَشَةِ، فَأَنْفَذَ مَعَهُ مِنْ جُيُوشِهِ فَقَاتَلُوا مَعَهُ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ، وَمَا كَانَ فِي آبَائِهِمْ مِنَ الْمُلْكِ، وَجَاءَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ لِلتَّهْنِئَةِ.
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ بِمَكَّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَين، يَسْتَطْعِمَانِ (3) وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَا مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ، عِنْدَ إِسَافٍ وَنَائِلَةَ، حَيْثُ يَذْبَحُ الْمُشْرِكُونَ ذَبَائِحَهُمْ.
قُلْتُ: كَانَ اسْمُ قَائِدِ الْفِيلِ: أُنَيْسًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ "دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ" مِنْ طَرِيقِ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعة عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ أَبَرْهَةَ قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ، وَإِنَّمَا بَعَثَ عَلَى الْجَيْشِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: شَمَرُ بْنُ مَفْصُودٍ، وَكَانَ الْجَيْشُ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَذَكَرَ أَنَّ الطَّيْرَ طَرَقَتْهُمْ لَيْلًا فَأَصْبَحُوا صَرْعَى.
وَهَذَا السِّيَاقُ غَرِيبٌ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ قَدْ قَوَّاهُ وَرَجَّحَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ الْحَبَشِيَّ قَدِمَ مَكَّةَ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ السِّيَاقَاتُ وَالْأَشْعَارُ. وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ لَهِيعة، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَة: أَنَّ أَبَرْهَةَ بَعْثَ الْأَسْوَدَ بْنَ مَفْصُودٍ عَلَى كَتِيبَةٍ مَعَهُمُ الْفِيلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قُدُومَ أَبَرْهَةَ نَفْسِهِ، وَالصَّحِيحُ قُدُومُهُ، وَلَعَلَّ ابن مقصود كَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ شَيْئًا مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ، فِيمَا كَانَ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ، فَمِنْ ذَلِكَ شِعْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزَّبْعَرِيِّ:
تَنَكَّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ إِنَّهَا ... كانتْ قَدِيمًا لَا يُرَام حَريمها ...
لَمْ تُخلَق الشِّعرَى لَيَالِيَ حُرّمتْ ... إِذْ لَا عزيزَ مِنَ الْأَنَامِ يَرُومها ...
سَائِلْ أميرَ الْجَيْشِ عَنْهَا مَا رَأى? ... فلسوفَ يُنبي الْجَاهِلِينَ عَلَيْمُهَا ...
ستونَ أَلْفًا لَمْ يَؤُوبُوا أرَضهم ... بَلْ لَمْ يَعِشْ بَعْدَ الِإْيَابِ سَقِيمُهَا ...
كانتْ بِهَا عادٌ وجُرْهُم قَبْلَهَمُ ... واللهُ مِنْ فَوْقِ الْعِبَادِ يُقيمها (4)
وَقَالَ أَبُو قَيْسِ (5) بْنُ الْأَسْلَتِ الأنصاري المري: (6)
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/61، 62) .
(2) في م: "فاستعانه".
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/57) .
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/58) .
(5) في م: "أبو القيس".
(6) في م، أ: "المدني".(8/489)
وَمِنْ صُنْعه يَوْمَ فِيلِ الحُبُو ... شِ، إِذْ كُلُّ مَا بَعَثُوه رَزَمْ ...
مَحَاجِنُهُمْ تَحْتَ أَقْرَابِهِ ... وَقَدْ شَرَموا أَنْفَهُ فَانْخَرَمْ ...
وَقَدْ جَعَلُوا سَوْطَهُ مِغْوَلًا ... إِذَا يَمَّمُوه قَفَاه كُليم ...
فَسوَّل (1) أَدْبَرَ أَدْرَاجِهِ ... وَقَدْ بَاءَ بِالظُّلْمِ مَنْ كَانَ ثمَّ ...
فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْقِهِمْ حَاصِبًا ... يَلُفهُم مثْلَ لَفُ القزُم ...
تَحُثُّ عَلَى الصَّبر أحبارُهم ... وَقَد ثأجُوا كَثؤاج الغَنَم ...
وَقَالَ أَبُو الصَّلْتِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الثَّقَفِيُّ، وَيُرْوَى لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
إِنَّ آيَاتِ رَبِّنا بَاقياتٌ ... مَا يُمَاري فيهنَّ إِلَّا الكفورُ ...
خُلِقَ الليلُ والنهارُ فَكُلّ ... مستبينٌ حسابُه مَقْدُورُ ...
ثمَّ يَجْلُو النَّهارَ ربٌ رحيمٌ ... بِمَهَاةٍ شُعَاعها منشورُ ...
حُبِسَ الفيلُ بالمُغمَّس حَتَّى ... صَارَ يَحْبُو، كَأَنَّهُ معقورُ ...
لَازِمًا حلقُه الجرانَ كَمَا قُطِّر ... مِنْ ظَهْر كَبْكَب مَحدُورُ ...
حَوله مِنْ مُلُوك كِندةَ أبطالُ ... ملاويثُ فِي الحُرُوب صُقُورُ ...
خَلَّفُوه ثُمَّ ابذَعرّوا جَميعًا، ... كُلَّهم عَظْمُ سَاقِهِ مَكْسُورُ ...
كُلّ دِينٍ يَومَ القِيَامة عندَ الـ ... له إِلَّا دِينُ الحَنِيفَة بورُ ...
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَفْسِيرِ "سُورَةِ الْفَتْحِ" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَطَلَّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى الثَّنِيَّةِ الَّتِي تَهْبِطُ بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ، بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَزَجَرُوهَا فألحَّت، فَقَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، أَيْ: حَرَنت. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ" ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ خُطَّةً يُعَظمون فِيهَا حُرُمات اللَّهِ، إِلَّا أَجَبْتُهُمْ إِلَيْهَا". ثُمَّ زَجَرَهَا فَقَامَتْ. وَالْحَدِيثُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ (2) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إِنَّ اللَّهَ حَبْسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وسَلَّط عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ قَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب" (3) . آخر تفسير سورة "الفيل".
__________
(1) في م، أ: "فولى و".
(2) تقدم تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: 26 من سورة الفتح، وهو في صحيح البخاري برقم (2731،2732) .
(3) صحيح البخاري برقم (112) وصحيح مسلم برقم (1355) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.(8/490)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
تَفْسِيرُ سُورَةِ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
ذِكْرُ حَدِيثٍ غَرِيبٍ فِي فَضْلِهَا: قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ "الْخِلَافِيَّاتِ": حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ الصَّيْرَفِيُّ بِمَرْوَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيد اللَّهِ النَّرْسِيُّ (1) حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ] (2) أَبِي عَتِيقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَضَّلَ اللَّهُ قُرَيْشًا بِسَبْعِ خِلَالٍ: أَنِّي مِنْهُمْ (3) وَأَنَّ النُّبُوَّةَ فِيهِمْ، وَالْحِجَابَةَ، وَالسِّقَايَةَ فِيهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ نَصَرَهُمْ عَلَى الْفِيلِ، وَأَنَّهُمْ عَبَدُوا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، عَشْرَ سِنِينَ لَا يَعْبُدُهُ غَيْرُهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِيهِمْ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ" ثُمَّ تَلَاهَا رَسُولُ اللَّهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ". (4)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{لإيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) }
هَذِهِ السُّورَةُ مَفْصُولَةٌ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، كَتَبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِمَا قَبْلَهَا. كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَهُمَا: حَبَسْنَا عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَأَهْلَكْنَا أَهْلَهُ {لإيلافِ قُرَيْشٍ} أَيْ: لِائْتِلَافِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ فِي بَلَدِهِمْ آمِنِينَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا كَانُوا يَأْلَفُونَهُ مِنَ الرِّحْلَةِ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ، وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ فِي الْمَتَاجِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى بَلَدِهِمْ آمِنِينَ فِي أَسْفَارِهِمْ؛ لِعَظَمَتِهِمْ عِنْدَ النَّاسِ، لِكَوْنِهِمْ سُكَّانَ حَرَمِ اللَّهِ، فَمَنْ عَرَفهم احْتَرَمَهُمْ، بَلْ مَنْ صُوفِيَ إِلَيْهِمْ وَسَارَ مَعَهُمْ أَمِنَ بِهِمْ. هَذَا (5) حَالُهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ وَرِحْلَتِهِمْ فِي شِتَائِهِمْ وَصَيْفِهِمْ. وَأَمَّا فِي حَالِ إِقَامَتِهِمْ فِي الْبَلَدِ، فَكَمَا قَالَ اللَّهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [الْعَنْكَبُوتِ:67] وَلِهَذَا قَالَ: {لإيلافِ قُرَيْشٍ} بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَمُفَسِّرٌ لَهُ. ولهذا قال: {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}
__________
(1) في م، أ، هـ: "الزينبي" وهو خطأ.
(2) زيادة من م، أ.
(3) في أ: "أني فيهم".
(4) ورواه البيهقي في مناقب الشافعي (1/34) وهو في المستدرك (2/536) وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي فقال: "فيه يعقوب بن محمد الزهري ضعيف، وإبراهيم صاحب مناكير هذا أنكرها" وقد حسن الحافظ العراقي هذا الحديث. وللشيخ ناصر الدين الألباني مبحث حول هذا الحديث في السلسلة الصحيحة برقم (1944) ذهب إلى تحسينه، والله أعلم.
(5) في م: "وهذا".(8/491)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصَّوَابُ أَنَّ "اللَّامَ" لَامُ التَّعَجُّبِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ وَنِعْمَتِي عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. قَالَ: وَذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُمَا سُورَتَانِ مُنْفَصِلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ. (1)
ثُمَّ أَرْشَدَهُمْ إِلَى شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فَقَالَ: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} أَيْ: فَلْيُوَحِّدُوهُ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا جَعَلَ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا وَبَيْتًا مُحَرَّمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النَّمْلِ:91]
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} أَيْ: هُوَ رَبُّ الْبَيْتِ، وَهُوَ " الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ " أَيْ: تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْأَمْنِ وَالرُّخْصِ (2) فَلْيُفْرِدُوهُ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يَعْبُدُوا مِنْ دُونِهِ صَنَمًا وَلَا نِدًّا وَلَا وَثَنًا. وَلِهَذَا مَنِ اسْتَجَابَ لِهَذَا الْأَمْرِ جَمَع اللَّهُ لَهُ بَيْنَ أَمْنِ الدُّنْيَا وَأَمْنِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ عَصَاهُ سَلَبَهُمَا مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النَّحْلِ:112-113]
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو العَدَني، حَدَّثَنَا قَبِيصة، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "وَيْلُ أُمِّكُمْ، قُرَيْشٍ، لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ" (3) ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا المؤَمَّل بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى -يعني ابن يونس-عن عُبَيد الله ابن أَبِي زِيَادٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَيَحْكُمُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَكُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَكُمْ مِنْ خَوْفٍ".
هَكَذَا رَأَيْتُهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَصَوَابُهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، أُمِّ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (4) فَلَعَلَّهُ وَقَعَ غَلَطٌ فِي النُّسْخَةِ أَوْ فِي أَصْلِ الرِّوَايَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
آخر تفسير سورة "لإيلاف قريش".
__________
(1) تفسير الطبري (30/198) .
(2) في أ: "والترخص".
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (24/177،178) من طريق قبيصة بن عقبة، عن سفيان، به.
(4) وكذا في رواية الإمام أحمد في المسند (6/460) عن علي بن يحيى، عن عيسى بن يونس، عن عبد اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.(8/492)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
تَفْسِيرُ السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْمَاعُونُ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) }
يَقُولُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ -يَا مُحَمَّدُ- (1) الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟ وَهُوَ: الْمَعَادُ وَالْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ، {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} أَيْ: هُوَ الَّذِي يَقْهَرُ الْيَتِيمَ وَيَظْلِمُهُ حَقَّهُ، وَلَا يُطْعِمُهُ وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ، {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَلا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الْفَجْرِ: 17، 18] يَعْنِي: الْفَقِيرَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ يَقُومُ بِأَوْدِهِ وَكِفَايَتِهِ.
ثُمَّ قَالَ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ، الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي الْعَلَانِيَةِ وَلَا يُصَلُّونَ فِي السِّرِّ.
وَلِهَذَا قَالَ: {لِلْمُصَلِّينَ} أَيْ: الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَقَدِ الْتَزَمُوا بِهَا، ثُمَّ هُمْ عَنْهَا سَاهُونَ، إِمَّا عَنْ فِعْلِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِمَّا عَنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ لَهَا شَرْعًا، فَيُخْرِجُهَا عَنْ وَقْتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا قَالَهُ مَسْرُوقٌ، وَأَبُو الضُّحَى.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: {عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} وَلَمْ يَقِلْ: فِي صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ.
وَإِمَّا عَنْ وَقْتِهَا الْأَوَّلِ فَيُؤَخِّرُونَهَا إِلَى آخِرِهِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا. وَإِمَّا عَنْ أَدَائِهَا بِأَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَإِمَّا عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل هذا كله، ولكن مَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قِسْطٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَمَنِ اتَّصَفَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، فَقَدْ تَمَّ نَصِيبُهُ مِنْهَا، وَكَمُلَ لَهُ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُب الشَّمْسَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهُ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا" (2) فَهَذَا آخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ الَّتِي هِيَ الْوُسْطَى، كَمَا ثَبَتَ بِهِ النَّصُّ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَهُوَ وَقْتُ كَرَاهَةٍ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَنَقَرَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ، لَمْ يَطْمَئِنَّ وَلَا خَشَعَ فِيهَا أَيْضًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: "لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ". وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْقِيَامِ إِلَيْهَا مُرَاءَاةَ النَّاسِ، لا ابتغاء وجه
__________
(1) في م: "يا محمد أرأيت".
(2) صحيح مسلم برقم (622) ولم أقع عليه في صحيح البخاري، ولم يعزه المزى له في تحفة الأشراف.(8/493)
اللَّهِ، فَهُوَ إِذًا لَمْ يُصَلِّ بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النِّسَاءِ: 142] . وَقَالَ هَاهُنَا: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبْدَوَيْهِ (1) الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ فِي جَهَنَّمَ لَوَادِيًا (2) تَسْتَعِيذُ جَهَنَّمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ، أُعِدَّ ذَلِكَ الْوَادِيَ لِلْمُرَائِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ: لِحَامِلِ كِتَابِ اللَّهِ. وَلِلْمُصَّدِّقِ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ، وَلِلْحَاجِّ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلِلْخَارِجِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". (3)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيم، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ فَذَكَّرُوا الرِّيَاءَ، فَقَالَ رَجُلٌ يُكَنَّى بِأَبِي يَزِيدَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "مَنْ سَمَّع النَّاسَ بِعَمَلِهِ، سَمَّع اللَّهُ بِهِ سامعَ خَلْقِهِ، وحَقَّره وصَغَّره". (4)
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ غُنْدَر وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مرة، عن رجل، عن عبد الله ابن عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ. (5)
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِلَّهِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، أَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ رِيَاءً، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَصَلِّي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ، فَأَعْجَبَنِي ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "كُتِبَ لَكَ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ، وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ". (6)
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَالَ: نِعْمَ الحديثُ لِلْمُرَائِينَ.
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ مُتَوَسِّطٌ، وَرِوَايَتُهُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَزِيزَةٌ وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْهُ.
قَالَ أَبُو يَعْلَى أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو سِنان، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ يَسُرُّه، فَإِذَا اطُّلعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ السر
__________
(1) في م، أ: "عبد ربه".
(2) في م، أ: "لواد".
(3) المعجم الكبير (12/175) ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 67) : "رفع حديث ابن عباس غريب، ولعله موقوف، والله أعلم".
(4) المسند (2/212) .
(5) المسند (2/162) .
(6) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4949) "مجمع البحرين"، وقال الطبراني: "لم يروه عن سعيد إلا محمد بن معاذ، ومحمد بن بكار". وقال الهيثمي في المجمع (10/290) : "رجاله ثقات". قلت: سعيد بن بشير ضعفه الأئمة.(8/494)
وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ". (1)
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ بُنْدَار، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ الشَّيْبَانِيِّ (2) - وَاسْمُهُ: ضِرَارُ بْنُ مُرَّةَ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ. عَنْ حَبِيبٍ عَنِ [النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (3) مُرْسَلًا.
وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ شَيْبَانَ النَّحْوِيِّ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لما نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} قَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ لَوْ أُعْطِيَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ مِثْلَ جَمِيعِ الدُّنْيَا، هُوَ الَّذِي إِنْ صَلَّى لَمْ يَرْجُ خَيْرَ صِلَاتِهِ، وَإِنْ تَرَكَهَا لَمْ يَخَفْ رَبَّهُ". (4)
فِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَشَيْخُهُ مُبْهَمٌ لَمْ يُسَم، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ أَبَانٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ طَارِقٍ، حَدَّثَنَا عِكْرمِة بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ (5) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} قَالَ: "هُمُ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا". (6)
وَتَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا يَحْتَمِلُ تَرْكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ صَلَاتَهَا بَعْدَ وَقْتِهَا شَرْعًا، أَوْ تَأْخِيرَهَا عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ [سَهْوًا حَتَّى ضَاعَ] (7) الْوَقْتُ.
وَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِيهِ مَوْقُوفًا (8) وَهَذَا أَصَحُّ إِسْنَادًا، وَقَدْ ضَعَّفَ الْبَيْهَقِيُّ (9) رَفْعَهُ، وَصَحَّحَ وَقْفَهُ، وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أَيْ: لَا أَحْسَنُوا عِبَادَةَ رَبِّهِمْ، وَلَا أَحْسَنُوا إِلَى خَلْقِهِ حَتَّى وَلَا بِإِعَارَةِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَيُسْتَعَانُ بِهِ، مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ وَرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ. فَهَؤُلَاءِ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ وَأَنْوَاعِ القُرُبات أُولَى وَأُولَى. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: قَالَ عَلِيٌّ: الْمَاعُونُ: الزَّكَاةُ. وَكَذَا رَوَاهُ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ. وَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَبِهِ يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وعِكْرِمة، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالزَّهْرِيُّ، وَالْحُسْنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ.
__________
(1) الحديث في مسند الطيالسي برقم (2430) .
(2) سنن الترمذي برقم (2385) ، وسنن ابن ماجة برقم (4226) .
(3) في م، أ، هـ: "عن أبي صالح"، والمثبت من تحفة الأحوذي، مستفادا من هامش. ط الشعب.
(4) تفسير الطبري (30/202) .
(5) في أ: "بن عمر".
(6) تفسير الطبري (30/202) .
(7) زيادة من م، أ.
(8) مسند أبي يعلى (2/63) .
(9) السنن الكبرى (2/214) .(8/495)
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ صَلَّى رَاءَى، وَإِنْ فَاتَتْهُ لِمَ يَأْسَ عَلَيْهَا، وَيَمْنَعُ زَكَاةَ مَالِهِ وَفِي لَفْظٍ: صَدَقَةَ مَالِهِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ ظَهَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّوْهَا، وضَمنَت الزَّكَاةُ فَمَنَعُوهَا.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ وَشُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ: أَنَّ أَبَا الْعُبَيْدَيْنِ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنِ الْمَاعُونِ، فَقَالَ: هُوَ مَا يَتَعَاوَرُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَأْسِ، وَالْقِدْرِ، [وَالدَّلْوِ] . (1)
[وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْل، عَنْ أَبِي العُبَيدين: أَنَّهُ سُئِل ابنُ مَسْعُودٍ عَنِ الْمَاعُونِ، فَقَالَ: هُوَ مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ، مِنَ الْفَأْسِ وَالْقِدْرِ] (2) وَالدَّلْوِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ أَبِي العُبَيدين وَسَعْدِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْمَاعُونَ الدَّلْوُ، وَالْفَأْسُ، وَالْقِدْرُ، لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُنَّ.
وَحَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْل، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عِيَاضٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. (4)
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَاعُونِ، فَقَالَ: مَا يَتَعَاوَرُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ: الْفَأْسُ وَالدَّلْوُ وَشَبَهُهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ -هُوَ الطَّيَالِسِيُّ-حَدَّثَنَا أَبُو عَوانَة، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلة، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمَاعُونُ: مَنْعُ الدَّلْوِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. (5)
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ بِإِسْنَادِهِ، نَحْوَهُ (6) وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُلٌّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَكُنَّا (7) نَعُدُّ الْمَاعُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاريَّة الدَّلْوِ وَالْقِدْرِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الْمَاعُونُ: العَواري: الْقِدْرُ، وَالْمِيزَانُ، وَالدَّلْوُ.
وَقَالَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} يَعْنِي: مَتَاعَ الْبَيْتِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخعي، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهَا العاريَّة لِلْأَمْتِعَةِ.
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (8) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قَالَ: لَمْ يَجِئْ أهلها بعد.
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م: "كنا أصحاب محمد".
(4) تفسير الطبري (30/205) .
(5) تفسير الطبري (30 /206) .
(6) سنن أبي داود برقم (1657) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (11701) .
(7) في م: "وكنا".
(8) في م: "ومجاهد".(8/496)
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَمْنَعُونَ الطَّاعَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَمْنَعُونَ الْعَارِيَّةَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَة، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ: الْمَاعُونُ: مَنْعُ النَّاسِ الْفَأْسَ، وَالْقِدْرَ، وَالدَّلْوَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: رَأْسُ الْمَاعُونِ زَكَاةُ الْمَالِ، وَأَدْنَاهُ.
الْمُنْخُلُ وَالدَّلْوُ، وَالْإِبْرَةُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبَى حَاتِمٍ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِكْرِمَةُ حَسَنٌ؛ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا، وَتَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ تَرْكُ الْمُعَاوَنَةِ بِمَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ. وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قَالَ: الْمَعْرُوفُ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قَالَ: بِلِسَانِ قُرَيْشٍ: الْمَالُ.
وَرَوَى هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا عَجِيبًا فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، وأبو زُرْعَة قالا حدثنا قيس ابن حَفْصٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا دُلْهَمُ بْنُ دَهْثَمٍ الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَائِذُ بْنُ رَبِيعَةَ النَميري، حَدَّثَنِي قُرَّةُ بْنُ دُعْمُوصٍ النُّمَيْرِيُّ: أَنَّهُمْ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: "لَا تَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْمَاعُونُ؟ قَالَ: "فِي الحَجَر، وَفِي الْحَدِيدَةِ، وَفِي الْمَاءِ". قَالُوا: فَأَيُّ حَدِيدَةٍ؟ قَالَ: "قُدُورُكُمُ النُّحَاسُ، وَحَدِيدُ الْفَأْسِ الَّذِي تَمْتَهِنُونَ بِهِ". قَالُوا: وَمَا الْحَجَرُ؟ قَالَ: "قُدُورُكُمُ الْحِجَارَةُ". (1)
غَرِيبٌ جِدًّا، وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابنُ الْأَثِيرِ فِي الصَّحَابَةِ تَرْجَمَةَ "عَلِيٍّ النُّمَيْرِيِّ"، فَقَالَ: رَوَى ابْنُ قَانِعٍ بسنده إلى عائذ ابن رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسٍ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ فُلَانٍ النُّمَيْرِيِّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ. إِذَا لَقِيَهُ حَيَّاه بِالسَّلَامِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، لَا يَمْنَعُ الْمَاعُونَ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمَاعُونُ؟ قَالَ: "الحَجَر، وَالْحَدِيدُ، وأشباه ذلك". (2)
آخر تفسير سورة "الماعون".
__________
(1) ورواه ابن مردويه أيضا، كما في الدر المنثور (644) .
(2) أسد الغابة (3/624) .(8/497)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْكَوْثَرِ
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَقِيلَ: مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ (3) }
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُل، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا، إِمَّا قَالَ لَهُمْ وَإِمَّا قَالُوا لَهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ أُنْزِلَتْ عليَّ آنِفًا سُورَةٌ". فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} حَتَّى خَتَمَهَا، قَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ "، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تردُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدَ الْكَوَاكِبِ، يُخْتَلَج الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ". (1)
هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ الثُّلَاثِيِّ، وَهَذَا السِّيَاقِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ يَشْخَب فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ السَّمَاءِ عَنْ نَهْرِ الْكَوْثَرِ، وَأَنَّ عَلَيْهِ آنِيَةً عددَ نُجُومِ السَّمَاءِ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ مُسْهِر، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُل، عَنْ أَنَسٍ. وَلَفَظُ مُسْلِمٍ قَالَ: "بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا، قُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أُنْزِلَتْ عَلِيَّ آنِفًا سُورَةٌ"، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ} ثُمَّ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدنيه رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النُّجُومِ (2) فَيختلجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي. فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ". (3)
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنَ السُّورَةِ، وَأَنَّهَا مُنَزَّلَةٌ مَعَهَا.
فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أَنَسٍ فَقَالَ: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا ثابت،
__________
(1) المسند (3/102)
(2) في م، أ: "عدد نجوم السماء".
(3) صحيح مسلم برقم (400) وسنن أبي داود برقم (4747) وسنن النسائي الكبرى برقم (11702) .(8/498)
عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (1) {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أعطيتُ الْكَوْثَرَ، فَإِذَا هُوَ نَهَرٌ يَجْرِي، وَلَمْ يُشق شَقًّا، وَإِذَا حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ، فَضَرَبْتُ بِيَدِي فِي تُرْبَتِهِ، فَإِذَا مِسْكُهُ ذَفَرة، وَإِذَا حَصَاهُ اللُّؤْلُؤُ" (2)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ، حَافَّتَاهُ خِيَامُ اللُّؤْلُؤِ، فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى مَا يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ، فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ. قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ". (3)
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا عُرجَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: "أتيتُ عَلَى نَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ (4) فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ". وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيُّ (5) رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُنَا قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَضَى بِهِ جِبْرِيلُ فِي (6) السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ، فَذَهَبَ يُشمَ تُرَابه، فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ. قَالَ: "يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذَا النَّهْرُ؟ قَالَ: هُوَ الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأ لَكَ رَبُّكَ". (7)
وَقَدْ تَقَدَّمَ [فِي] (8) حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي سُورَةِ "سُبْحَانَ"، مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ [عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (9) وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ. (10)
وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذْ عَرَضَ لِي نَهْرٌ، حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ مُجَوف، فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي مَعَهُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ. وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى أَرْضِهِ، فَأَخْرَجَ مِنْ طِينِهِ الْمِسْكَ" (11) وَكَذَا رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ طِرْخان، وَمَعْمَرٌ وهَمَام وَغَيْرُهُمْ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيج (12) حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ الْعَبَّاسِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسٍ قال: سُئل رسول
__________
(1) في م: "هذه السورة".
(2) المسند (2/247) .
(3) المسند (3/103) .
(4) في م، أ: "المجوفة".
(5) صحيح البخاري برقم (4946) .
(6) في م: "إلى".
(7) تفسير الطبري (30/207) .
(8) زيادة من م.
(9) زيادة من م.
(10) انظر: تفسير أول سورة الإسراء.
(11) رواه الطبري في تفسيره (30/208) عن بشر، عن يزيد، عن سعيد، به.
(12) في أ: "شريح".(8/499)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَوْثَرِ، فَقَالَ: "هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ، تُرَابُهُ مِسْكٌ، [مَاؤُهُ] (1) أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، تَرِدُهُ طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا مِثْلُ أَعْنَاقِ الجُزُر". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا لِنَاعِمَةٌ؟ قَالَ: "أَكْلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا". (2)
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالَ: "نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ أَعْطَانِيهِ رَبِّي، لَهُوَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، فِيهِ طُيُورٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ". قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا لَنَاعِمَةٌ؟ قَالَ: "أَكْلُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا يَا عُمَرُ". (3)
رَوَاهُ (4) ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الْكَوْثَرِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً. (5)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْكَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَتْ: نَهْرٌ [عَظِيمٌ] (6) أُعْطِيَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ. (7)
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَاهُ زَكَرِيَّا وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَمُطَرِّفٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طَرِيقِ مُطرّف، بِهِ. (8)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيب، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ سُفْيَانَ، وَإِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، شَاطِئَاهُ دُرٌّ مُجَوف. وَقَالَ إِسْرَائِيلُ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ مِنَ الْآنِيَةِ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيد، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ القُمي (9) عَنْ حَفْصِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ شَمِر بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ شَقِيقٍ (10) أَوْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، حَدِّثِينِي عَنِ الْكَوْثَرِ. قَالَتْ: نَهْرٌ فِي بُطْنَانِ الْجَنَّةِ. قُلْتُ: وَمَا بُطْنَانُ الْجَنَّةِ؟ قَالَتْ: وَسَطُهَا، حَافَّتَاهُ قُصُورُ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ، تُرَابُهُ الْمِسْكُ، وَحَصَاؤُهُ اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عن عائشة
__________
(1) زيادة من أ.
(2) تفسير الطبري (30/209) .
(3) المسند (3/220) .
(4) في م: "ورواه".
(5) تفسير الطبري (30/209) .
(6) زيادة من أ.
(7) صحيح البخاري برقم (4965) .
(8) المسند (6/81) وسنن النسائي الكبرى برقم (11705) .
(9) في أ: "العمى".
(10) في أ: "سفيان".(8/500)
قَالَتْ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ خَرِيرَ الْكَوْثَرِ، فَلْيَجعل أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. (1)
وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَعَائِشَةَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: "عَنْ رَجُلٍ، عَنْهَا". وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَسْمَعُ نَظِيرَ ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ يَسْمَعُهُ نَفْسَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعًا، مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَل (2) عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (3)
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيم، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمون أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. (4)
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَوْثَرُ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ. (5)
[وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَوْثَرُ: الْخَيْرُ الْكَثِيرُ] . (6)
وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَعُمُّ النَّهْرَ وَغَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْكَوْثَرَ مِنَ الْكَثْرَةِ، وَهُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَمِنْ ذَلِكَ النَّهْرُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَار، وَالْحُسْنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ. حَتَّى قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ النُّبُوَّةُ وَالْقُرْآنُ، وَثَوَابُ الْآخِرَةِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالنَّهْرِ أَيْضًا، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيب، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَوْثَرُ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، يَجْرِي عَلَى الْيَاقُوتِ وَالدُّرِّ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ.
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ ذَهَبٌ وفضة، يجري على الدر
__________
(1) تفسير الطبري (30/207) ، ورواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة برقم (67) من طريق محمد بن ربيعة، عن أبي جعفر الرازي، عن مجاهد، عن عائشة مرفوعا.
(2) في م: "يزيد بن مغول".
(3) الروض الأنف للسهيلي (1/241) .
(4) صحيح البخاري برقم (4966) .
(5) صحيح البخاري برقم (6578) .
(6) زيادة من تفسير الطبري (30/207) .(8/501)
وَالْيَاقُوتِ، مَاؤُهُ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ.
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ بْنِ السَّائِبِ، بِهِ مِثْلَهُ (1) مَوْقُوفًا. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ قَالَ ... وَقَالَ عَطَاءُ [بْنُ السَّائِبِ] (2) عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَالْمَاءُ يَجْرِي عَلَى اللُّؤْلُؤِ، وَمَاؤُهُ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، بِهِ مَرْفُوعًا (3) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُليَّة، أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ قَالَ: قَالَ لِي مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ: مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْكَوْثَرِ؟ قُلْتُ: حَدثَنا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ. فَقَالَ: صَدَقَ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لِلْخَيْرُ الْكَثِيرُ. وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، يَجْرِي عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ". (4)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْبَرْقِيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أَخْبَرَنِي حَرَام بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَوْمًا فَلَمْ يَجِدْهُ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ -وَكَانَتْ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ-فَقَالَتْ: خَرَجَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ آنِفًا عَامِدًا نَحْوَكَ، فَأَظُنُّهُ أَخْطَأَكَ فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ بَنِي النَّجَّارِ، أَوَلَا تدخلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَدَخَلَ، فَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ حَيْسًا، فَأَكَلَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَنِيئًا لَكَ وَمَرِيئًا، لَقَدْ جئتَ وَأَنَا أُرِيدَ أَنْ آتِيَكَ فأهْنيك وأمْريك؛ أَخْبَرَنِي أَبُو عُمَارَةَ أَنَّكَ أُعْطِيتَ نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ يُدْعَى الْكَوْثَرَ. فَقَالَ: "أَجَلْ، وَعَرَضُهُ -يَعْنِي أَرْضَهُ-يَاقُوتٌ وَمَرْجَانٌ، وَزَبَرْجَدٌ وَلُؤْلُؤٌ". (5)
حَرَام بْنُ عُثْمَانَ ضَعِيفٌ. وَلَكِنَّ هَذَا سِيَاقٌ حَسَنٌ، وَقَدْ صَحَّ أَصْلُ هَذَا، بَلْ قَدْ تَوَاتَرَ مِنْ طَرِيقٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ الْحَوْضِ [وَلْنَذْكُرْهَا هَاهُنَا] . (6)
وَهَكَذَا رُوي عَنْ أَنَسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِ واحدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَنَّ الْكَوْثَرَ: نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ حَوْضٌ فِي الْجَنَّةِ.
وَقَوْلُهُ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أَيْ: كَمَا أَعْطَيْنَاكَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ومن ذلك
__________
(1) تفسير الطبري (30/207) ولم يقع لي في سنن الترمذي من هذا الطريق ولا ذكره المزي في تحفة الأشراف.
(2) زيادة من م.
(3) المسند (2/158) وسنن الترمذي برقم (3361) وسنن ابن ماجة برقم (4334) وتفسير الطبري (30/210) .
(4) تفسير الطبري (30/210) .
(5) تفسير الطبري (30/210) .
(6) زيادة من أ، وكذا قال الحافظ، ولم يقع في النسخ ذكر أحاديث الحوض، وقد ذكرها الحافظ ابن كثير في كتابه (النهاية في الفتن والملاحم 1/374-412) ولولا خشية الإطالة لذكرناها هاهنا فلتراجع هناك.(8/502)
النهرُ الَّذِي تَقَدَّمَ صِفَتُهُ -فَأَخْلِصْ لِرَبِّكَ صَلَاتَكَ الْمَكْتُوبَةَ وَالنَّافِلَةَ ونَحْرَك، فَاعْبُدْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَانْحَرْ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الْأَنْعَامِ: 162، 163] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ: يَعْنِي بِذَلِكَ نَحْرَ البُدْن وَنَحْوِهَا. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، والربيع، وعطاء الخراساني، والحكم، وَإِسْمَاعِيلُ (1) بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ مِنَ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَالذَّبْحِ عَلَى غَيْرِ اسْمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ:121] .
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَانْحَرْ} وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى تَحْتَ النَّحْرِ. يُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ، وَلَا يَصِحُّ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ مِثْلَهُ.
وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ: {وَانْحَرْ} يَعْنِي: ارْفَعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ.
وَقِيلَ: {وَانْحَرْ} أَيْ: اسْتَقْبِلْ بِنَحْرِكَ الْقِبْلَةَ. ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا مُنْكَرًا جِدًّا فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَامِيُّ (2) -سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ-حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ حَاتِمٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نَبَاتَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ النَّحِيرَةُ الَّتِي أَمَرَنِي بِهَا رَبِّي؟ " فَقَالَ: لَيْسَتْ بِنَحِيرَةٍ، وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُكَ إِذَا تَحَرَّمْتَ لِلصَّلَاةِ، ارْفَعْ يَدَيْكَ إِذَا كَبَّرْتَ وَإِذَا رَكَعْتَ، وَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَإِذَا سَجَدْتَ، فَإِنَّهَا صَلَاتُنَا وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، وَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةً، وَزِينَةُ الصَّلَاةِ رَفَعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ.
وَهَكَذَا (3) رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ بْنِ حَاتِمٍ، بِهِ. (4)
وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: {وَانْحَرْ} أَيْ: ارْفَعْ صُلْبَكَ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَاعْتَدِلْ، وَأَبْرِزْ نَحْرَكَ، يَعْنِي بِهِ الِاعْتِدَالَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
[كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ غَرِيبَةٌ جِدًّا] (5) وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّحْرِ ذَبْحُ الْمَنَاسِكِ؛ وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الْعِيدَ (6) ثُمَّ يَنْحَرُ نُسُكَهُ وَيَقُولُ: "مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ. وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا نُسُكَ لَهُ". فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نَيَّارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
__________
(1) في م: "وسعيد".
(2) في أ: "العامي".
(3) في م: "وقد".
(4) المستدرك (2/537) ، ورواه من طريق البيهقي في السنن (2/75) ، ورواه ابن حبان في المجروحين (1/177) من طريق إسرائيل بن حاتم، به. وقال ابن حبان: "هذا متن باطل إلا ذكر رفع اليدين فيه، وهذا خبر رواه عمر بن صبح، عن مقاتل بن حيان، وعمر بن صبح يضع الحديث فطفر عليه إسرائيل بن حاتم فحدث به عن مقاتل".
(5) زيادة من م، أ.
(6) في م: "يصلي يوم العيد".(8/503)
اللَّهِ، إِنِّي نَسكتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ. قَالَ: "شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ". قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي عِنَاقًا هِيَ أَحَبُّ إليَّ مِنْ شَاتَيْنِ، أَفَتُجْزِئُ عَنِّي؟ قَالَ: "تُجْزِئُكَ، وَلَا تُجَزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ". (1)
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَاجْعَلْ صَلَاتَكَ كُلَّهَا لِرَبِّكَ خَالِصًا دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ (2) وَكَذَلِكَ نَحْرَكَ اجْعَلْهُ لَهُ دُونَ الْأَوْثَانِ؛ شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكَ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْخَيْرِ، الَّذِي لَا كِفَاء لَهُ، وَخَصَّكَ بِهِ. (3)
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى: مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَعَطَاءٌ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ} أَيْ: إِنَّ مُبْغِضَكَ -يَا مُحَمَّدُ-وَمُبْغِضَ مَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ وَالْبُرْهَانِ السَّاطِعِ وَالنُّورِ الْمُبِينِ، هُوَ الْأَبْتَرُ الْأَقَلُّ الْأَذَلُّ الْمُنْقَطِعُ ذكْرُه.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ قَالَ: كَانَ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ إِذَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: دَعُوهُ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَبْتَرُ لَا عَقِبَ لَهُ، فَإِذَا هَلَكَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ.
وَقَالَ شَمِر بْنُ عَطِيَّةَ: نَزَلَتْ فِي عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيط.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الحَسَّاني، حَدَّثَنَا بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: أَنْتَ سَيِّدُهُمْ أَلَّا تَرَى إِلَى هَذَا المُصَنْبر (4) الْمُنْبَتِرَ مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا، وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ، وَأَهْلُ السِّدَانَةِ وَأَهْلُ السِّقَايَةِ؟ فَقَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ: فَنَزَلَتْ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ}
هَكَذَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ (5) وَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَعَنْ (6) عَطَاءٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لَهَبٍ، وَذَلِكَ حِينَ مَاتَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ أَبُو لَهَبٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ: بُتِرَ مُحَمَّدٌ اللَّيْلَةَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ}
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ. وَعَنْهُ: {إِنَّ شَانِئَكَ} يَعْنِي: عَدُّوَّكَ. وَهَذَا يَعُمُّ جميعَ مَنِ اتصفَ بِذَلِكَ ممن ذكر، وغيرهم.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (983) من حديث البراء، رضي الله عنه.
(2) في م: "والأولاد".
(3) تفسير الطبري (30/212) .
(4) في م: "هذا الضبر".
(5) مسند البزار برقم (2293) "كشف الأستار" ووقع فيه: "حدثنا الحسن بن علي الواسطي، حدثنا يحيى بن راشد، عن داود فذكر مثله، ورواه أيضا النسائي في السنن الكبرى برقم (11707) .
(6) في م: "وقال".(8/504)
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْأَبْتَرُ: الْفَرْدُ. وَقَالَ السُّدِّي: كَانُوا إِذَا مَاتَ ذكورُ الرَّجُلِ قَالُوا: بُتر. فَلَمَّا مَاتَ أَبْنَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: بُتِرَ مُحَمَّدٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ}
وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْأَبْتَرَ الَّذِي إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ، فَتَوَهَّمُوا لِجَهْلِهِمْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ بَنُوهُ يَنْقَطِعُ ذِكْرُهُ، وَحَاشَا وَكَلَّا بَلْ قَدْ أَبْقَى اللَّهُ ذِكْرَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَأَوْجَبَ شَرْعَهُ عَلَى رِقَابِ الْعِبَادِ، مُسْتَمِرًّا عَلَى دَوَامِ الْآبَادِ، إِلَى يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْمَعَادِ (1) صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ التَّنَادِّ.
آخِرُ تفسير سورة "الكوثر"، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في م: "والتناد".(8/505)
تَفْسِيرُ سُورَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ (1) .
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهَذِهِ السُّورَةِ، وَبِـ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فِي رَكْعَتِي الطَّوَافِ. (2)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا فِي رَكْعَتِي الْفَجْرِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، بِضْعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً -أَوْ: بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً- " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " وَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ". (3)
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَمَقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ -أَوْ: خَمْسًا وَعِشْرِينَ-مَرَّةً، يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " وَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ". (4)
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ -هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الزُّبَيْرِيُّ-حَدَّثَنَا سُفْيَانُ -هُوَ الثَّوْرِيُّ-عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَمقتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ بِـ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " وَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ".
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ (5) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، بِهِ (6) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ، وَ " إِذَا زُلْزِلَتِ " تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ (7) بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ فروةَ ابْنِ نَوفل -هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ-عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "هَلْ لَكَ فِي رَبِيبَةٍ لَنَا تَكْفُلُهَا؟ " قَالَ: أَرَاهَا زَيْنَبَ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، قَالَ: "مَا فَعَلَتِ الْجَارِيَةُ؟ " قَالَ: تَرَكْتُهَا عِنْدَ أُمِّهَا. قَالَ: "فَمَجِيءُ مَا جَاءَ بِكَ؟ " قَالَ: جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي. قَالَ: "اقْرَأْ: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا، فَإِنَّهَا براءة من الشرك". تفرد به أحمد. (8)
__________
(1) بعدها في م: البسملة.
(2) صحيح مسلم برقم (1218) من حديث طويل وهو منسك جابر المشهور.
(3) المسند (2/24) .
(4) المسند (2/99) .
(5) المسند (2/94) وسنن الترمذي برقم (417) وسنن ابن ماجة برقم (1149) .
(6) سنن النسائي (2/170) .
(7) في أ: "هشيم".
(8) لم أقع عليه في المطبوع من المسند، وذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (5/425) .(8/506)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمرو الْقَطْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الطُّفَيْلِ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ حَارِثَةَ -وَهُوَ أَخُو زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ-أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إذا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " حَتَّى تَمُرَّ بِآخِرِهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشَّرَكِ" (1) [وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] . (2)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ جَبَلَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ عِنْدَ مَنَامِي. قَالَ: "إِذَا أَخَذْتَ مضجعَك مِنَ اللَّيْلِ فَاقْرَأْ: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ". (3)
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ جَابِرٍ (4) عَنْ مَعْقِلٍ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ [عَبَّادٍ أَبِي الْأَخْضَرِ عَنْ خَبَّابٍ] (5) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ قَرَأَ: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " حَتَّى يَخْتِمَهَا (6) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) }
هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ الْمُشْرِكُونَ، وَهِيَ آمِرَةٌ بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ، فَقَوْلُهُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} شَمِلَ كُلَّ كَافِرٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ الْمُوَاجَهِينَ (7) بِهَذَا الْخِطَابِ هُمْ كفارُ قُرَيْشٍ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنْ جَهْلِهِمْ دَعَوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عِبَادَةِ أَوْثَانِهِمْ سَنَةً، وَيَعْبُدُونَ مَعْبُودَهُ سَنَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ، وَأَمَرَ رَسُولَهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَقَالَ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} يَعْنِي: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. فَ "مَا" هَاهُنَا بِمَعْنَى "مَنْ".
ثُمَّ قَالَ: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أَيْ: وَلَا أَعْبُدُ عِبَادَتَكُمْ، أَيْ: لَا أَسْلُكُهَا وَلَا أَقْتَدِي بِهَا، وَإِنَّمَا أَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أَيْ: لَا تَقْتَدُونَ بِأَوَامِرَ اللَّهِ وَشَرْعِهِ فِي عِبَادَتِهِ، بَلْ قَدِ اخْتَرَعْتُمْ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَالَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النَّجْمِ: 23] فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ مَا هُمْ فِيهِ، فَإِنَّ الْعَابِدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْبُودٍ يَعْبُدُهُ، وعبادة (8)
__________
(1) المعجم الكبير (2/287) ، وقال الهيثمي في المجمع (10/121) : "رجاله وثقوا".
(2) زيادة من أ.
(3) لم أقع عليه في المطبوع من المسند، وذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (2/220) .
(4) وقع في المعجم الكبير: "عن شريك وجابر" مقرونا وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
(5) زيادة من المعجم الكبير (4/81) .
(6) المعجم الكبير (4/81) ورواه البزار في مسنده برقم (3113) "كشف الأستار"، وقال الهيثمي في المجمع (10/121) : "وفيه جابر الجعفي، وهو ضعيف".
(7) في أ: "ولكن المواجهون".
(8) في م: "وعبادته".(8/507)
يَسْلُكُهَا إِلَيْهِ، فَالرَّسُولُ وَأَتْبَاعُهُ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِمَا شَرَعَهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ" أَيْ: لَا مَعْبُودَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا طَرِيقَ إِلَيْهِ إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ عِبَادَةً لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللَّهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يُونُسَ:41] وَقَالَ: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [الْقَصَصِ: 55] .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: يُقَالُ: {لَكُمْ دِينَكُمْ} الْكَفْرُ، {وَلِيَ دِينِ} الْإِسْلَامُ. وَلَمْ يَقُلْ: "دِينِي" لِأَنَّ الْآيَاتِ بِالنُّونِ، فَحُذِفَ الْيَاءُ، كَمَا قَالَ: {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشُّعَرَاءِ: 78] وَ {يَشْفِينِ} [الشُّعَرَاءِ:80] وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْآنَ، وَلَا أُجِيبُكُمْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الْمَائِدَةِ: 64] .
انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ. (1)
وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشَّرْحِ: 5، 6] وَكَقَوْلِهِ: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التَّكَاثُرِ: 6، 7] وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ -كَابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَغَيْرِهِ-عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَوَّلُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. الثَّانِي: مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فِي الْمَاضِي، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فِي الْمُسْتَقْبَلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ تَأْكِيدٌ مَحْضٌ.
وَثَمَّ قَوْلٌ رَابِعٌ، نَصَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيمية فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} نَفْيُ الْفِعْلِ لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} نَفْيُ قَبُولِهِ لِذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ آكَدُ فَكَأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ، وَكَوْنُهُ قَابِلًا لِذَلِكَ وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْوُقُوعِ وَنَفْيُ الْإِمْكَانِ الشَّرْعِيِّ أَيْضًا. وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ تُورِثُهُ (2) الْيَهُودُ مِنَ النَّصَارَى، وَبِالْعَكْسِ؛ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ أَوْ سَبَبٌ يُتَوَارَثُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَدْيَانَ -مَا عَدَا الْإِسْلَامِ-كُلَّهَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي الْبُطْلَانِ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى عَدَمِ تَوْرِيثِ النَّصَارَى مِنَ الْيَهُودِ وَبِالْعَكْسِ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى". (3)
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
__________
(1) صحيح البخاري (8/733) "فتح".
(2) في م: "فورت".
(3) رواه أحمد في المسند (2/195) وأبو داود في السنن برقم (2911) .(8/508)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
تفسير سورة إذا جاء نصر الله والفتح (1)
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ، وَ " إِذَا زُلْزِلَتِ " تَعْدِلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرٌ، عَنْ أَبِي العُمَيس (ح) وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو العُمَيس، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ (2) عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا ابْنَ عُتْبَةَ، أَتَعْلَمُ آخِرَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ (3) ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " قَالَ: صَدَقْتَ (4)
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبْذِيِّ (5) عَنْ صَدَقَةُ بْنُ يَسَار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ الْوَدَاعُ، فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرحَلت، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَذَكَرَ خُطْبَتَهُ الْمَشْهُورَةَ (6)
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَارُ، حَدَّثَنَا الْأَسْفَاطِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ (7) وَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ نُعِيت إِلَيَّ نَفْسِي"، فَبَكَتْ ثُمَّ ضَحِكَتْ، وَقَالَتْ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ نُعيت إِلَيْهِ نفسُه فَبَكَيْتُ، ثُمَّ قَالَ: "اصْبِرِي فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لِحَاقًا بِي" فَضَحِكْتُ (8)
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ -كَمَا سَيَأْتِي-بِدُونِ ذِكْرِ فَاطِمَةَ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) }
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوانة، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدخلني مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بعضهم وَجَد في نفسه، فقال:
__________
(1) في م: "تفسير سورة النصر".
(2) في أ: "سهل".
(3) في م: "نزلت من القرآن".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11713) ورواه مسلم في صحيحه برقم (3024) من طريق جعفر بن عون به.
(5) في أ: "الزبيري".
(6) سنن البيهقي الكبرى (5/152) ، وموسى بن عبيدة ضعيف.
(7) في أ: "فاطمة ابنته".
(8) دلائل النبوة للبيهقي (7/167) .(8/509)
لم يَْخل هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ (1) فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رُؤيتُ أَنَّهُ دَعَانِي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ليُريهم فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَنَا أَنْ نَحمد اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وفُتح عَلَيْنَا. وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقُلْتُ: هُوَ أجلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ (2)
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيد، عَنْ مِهْران، عَنِ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِين، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ مِثْلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، أَوْ نَحْوَهَا (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيل، حَدَّثَنَا عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُعِيَت إِلَيَّ نَفْسِي".. بِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (4) .
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهَا أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعِي إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى الْحَنَفِيُّ (5) عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ إِذْ قَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ! جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: "قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ طِبَاعُهُمْ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ" (6)
ثُمَّ رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، مُرْسَلًا.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الجَحْدَريّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة، عَنْ هِلَالُ بْنُ خَبَّاب، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، قَالَ: نُعِيت لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ حِينَ نَزَلَتْ، قَالَ: فَأَخَذَ بِأَشَدِّ مَا كَانَ قَطُّ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ: "جَاءَ الفتحُ وَنَصْرُ اللَّهِ، وَجَاءَ أَهْلُ اليَمن". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: "قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ قلوبهم، الإيمان يمان، والفقه يَمان" (7) .
__________
(1) في م: "ممن قد علمتم".
(2) صحيح البخاري برقم (4970) .
(3) تفسير الطبري (30/215) .
(4) المسند (1/217) .
(5) في أ: "الثقفي".
(6) تفسير الطبري (30/215) .
(7) المعجم الكبير (11/328) .(8/510)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكيع، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزين، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدْ نُعِيت إِلَيْهِ نَفْسُهُ، فَقِيلَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} السُّورَةُ كُلُّهَا (1) .
حَدَّثَنَا وَكيع، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِين: أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ نُعيت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ (2)
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَر الْوَكِيعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا جَعفر بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي العُمَيس، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ عَبد اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ جَمِيعًا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ أَبِي البَختُري الطَّائِيِّ (4) ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى خَتَمَهَا، فَقَالَ: "النَّاسُ حَيِّزٌ، وَأَنَا وَأَصْحَابِي حَيِّزٌّ". وَقَالَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ". فَقَالَ لَهُ مَرْوان: كَذَبْتَ -وَعِنْدَهُ رَافِعُ بْنُ خَديج، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، قَاعِدَانِ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ -فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَوْ شَاءَ هَذَانِ لَحَدَّثَاكَ، وَلَكِنَّ هَذَا يَخَافُ أَنْ تَنْزِعَهُ عَنْ عِرَافَةِ قَوْمِهِ، وَهَذَا يَخْشَى أَنْ تَنْزِعَهُ عَنِ الصَّدَقَةِ. فَرَفَعَ مَرْوَانُ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ لِيَضْرِبَهُ، فَلَمَّا رَأَيَا ذَلِكَ قَالَا صَدَقَ (5) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ مَرْوَانُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَلَكِنْ إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا (6) .
فَالَّذِي فَسَّرَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ جُلَسَاءِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَنَا إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْمَدَائِنَ وَالْحُصُونَ أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَشْكُرَهُ وَنُسَبِّحَهُ، يَعْنِي نُصَلِّي وَنَسْتَغْفِرَهُ -مَعْنَى مَلِيحٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ صَلَاةِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَقْتَ الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَقَالَ قَائِلُونَ: هِيَ صَلَاةُ الضُّحَى. وَأُجِيبُوا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ صَلَّاهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَقَدْ كَانَ مُسَافِرًا لَمْ يَنْو الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ؟ وَلِهَذَا أَقَامَ فِيهَا إِلَى آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ قَرِيبًا مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُقْصِرُ الصَّلَاةَ ويُفطر هُوَ وَجَمِيعُ الْجَيْشِ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ. قَالَ هَؤُلَاءِ: وَإِنَّمَا كَانَتْ صَلَاةُ الْفَتْحِ، قَالُوا: فَيُسْتَحَبُّ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ إِذَا فَتَحَ بَلَدًا أَنْ يُصَلِّيَ فيه أول ما يدخله ثماني ركعات.
__________
(1) المسند (1/344) .
(2) المسند (1/356) .
(3) المعجم الكبير (10/369) .
(4) في أ: "عن أبي البختري عن الطائي".
(5) المسند (3/22) .
(6) صحيح البخاري برقم (1834،1349) وصحيح مسلم برقم (1353) .(8/511)
وَهَكَذَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ فَتَحَ الْمَدَائِنَ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُصَلِّيهَا كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، كَمَا وَرَدَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كَانَ يُسَلِّمُ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَأَمَّا مَا فَسَّرَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مِنْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نُعِي فِيهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ (1) الْكَرِيمَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا فَتَحْتَ مَكَّةَ -وَهِيَ قَرْيَتُكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ-وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَقَدْ فَرَغَ شُغْلُنَا بِكَ فِي الدُّنْيَا، فَتَهَيَّأْ لِلْقُدُومِ عَلَيْنَا وَالْوُفُودِ إِلَيْنَا، فَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى، وَلِهَذَا قَالَ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} .
قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ هِلَالِ ابن خَبَّابٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ: نُعيت لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسُه حِينَ أُنْزِلَتْ، فَأَخَذَ فِي أَشَدِّ مَا كَانَ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ: "جَاءَ الْفَتْحُ، وَجَاءَ نَصْرُ اللَّهِ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟ قَالَ: "قوم رقيقة قلوبهم، لَيِّنة قلوبهم، الإيمان يَمانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ" (2) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرير، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.
وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورٍ، بِهِ (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ مِنْ قَوْلِ: "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ". وَقَالَ: "إِنَّ رَبِّي كَانَ أَخْبَرَنِي أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً فِي أُمَّتِي، وَأَمَرَنِي إِذَا رَأَيْتُهَا أَنْ أُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ وَأَسْتَغْفِرَهُ، إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا، فَقَدْ رَأَيْتُهَا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ-بِهِ (4) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ لَا يَقُومُ وَلَا يَقْعُدُ، وَلَا يَذْهَبُ وَلَا يَجِيءُ، إِلَّا قَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُكْثِرُ مِنْ سُبْحَانِ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، لَا تَذْهَبُ وَلَا تَجِيءُ، وَلَا تَقُومُ وَلَا تَقْعُدُ إِلَّا قُلْتَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده؟ قال: "إني أمرت بها"، فقال:
__________
(1) في م "روحه".
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11712) .
(3) صحيح البخاري برقم (4968) وصحيح مسلم برقم (484) وسنن أبي داود برقم (877) وسنن النسائي الكبرى برقم (11710) وسنن ابن ماجة برقم (889) .
(4) المسند (6/35) وصحيح مسلم برقم (484) .(8/512)
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ (1) .
غَرِيبٌ، وَقَدْ كَتَبْنَا حَدِيثَ كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي جُزْءٍ مُفرد، فَيُكْتَبُ هَاهُنَا (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكيع، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيدة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} كَانَ يُكْثِرُ إِذَا قَرَأَهَا -ورَكَعَ-أَنْ يَقُولَ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" ثَلَاثًا (3) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، بِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هَاهُنَا فَتْحُ مَكَّةَ قَوْلًا وَاحِدًا، فَإِنَّ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ كَانَتْ تَتَلَوّم بِإِسْلَامِهَا فَتْحَ مَكَّةَ، يَقُولُونَ: إِنْ ظَهَرَ عَلَى قَوْمِهِ فَهُوَ نَبِيٌّ. فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَلَمْ تَمْضِ سَنَتَانِ حَتَّى اسْتَوْسَقَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ إِيمَانًا، وَلَمْ يَبْقَ فِي سَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ إِلَّا مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ الْفَتْحُ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتِ الْأَحْيَاءُ تَتَلَوّمُ بِإِسْلَامِهَا فَتْحَ مَكَّةِ، يَقُولُونَ: دَعُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ. الْحَدِيثُ (4) وَقَدْ حَرّرنا غَزْوَةَ الْفَتْحِ فِي كِتَابِنَا: السِّيرَةِ، فَمَنْ أَرَادَ فَلْيُرَاجِعْهُ هُنَاكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي جَارٌ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ فَجَاءَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ (5) ، فَجَعَلْتُ أحدّثهُ عَنِ افْتِرَاقِ النَّاسِ وَمَا أَحْدَثُوا، فَجَعَلَ جَابِرٌ يَبْكِي، ثُمَّ قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَسَيَخْرُجُونَ مِنْهُ أَفْوَاجًا" (6) .
[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفتح" ولله الحمد والمنة] (7)
__________
(1) تفسير الطبري (30/216) .
(2) سبق ذكر أحاديث كفارة المجلس وذكر طرقها في آخر تفسير سورة الصافات.
(3) المسند (1/388) .
(4) صحيح البخاري برقم (4302) .
(5) في م: "يسلم على".
(6) المسند (3/343) .
(7) زيادة من أ.(8/513)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
تَفْسِيرُ سُورَةِ تَبَّتْ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) }
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَصَعِدَ الْجَبَلَ فَنَادَى: "يَا صَبَاحَاهَ". فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدثتكم أَنَّ الْعَدُوَّ مُصبحكم أَوْ مُمْسيكم، أَكَنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "فَإِنِّي نذيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٍ". فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ تَبًّا لَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إِلَى آخِرِهَا (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَامَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ. أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (2) .
الْأَوَّلُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي خَبَرٌ عَنْهُ. فَأَبُو لَهَبٍ هَذَا هُوَ أَحَدُ أَعْمَامِ رَسُولِ اللَّهِ (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْمُهُ: عَبْدُ العُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عُتبة. وَإِنَّمَا سُمِّيَ "أَبَا لَهَبٍ" لِإِشْرَاقِ وَجْهِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَذِيَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبُغْضَةِ لَهُ، وَالِازْدِرَاءِ بِهِ، وَالتَّنَقُّصِ لَهُ وَلِدِينِهِ. .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ -يُقَالُ لَهُ: رَبِيعَةُ بْنُ عَبَّادٍ، مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ -قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا" وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ أحولُ ذُو غَدِيرَتَيْنِ، يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ. يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ (4) .
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ سُرَيج، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَهُ -قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: قُلْتُ لِرَبِيعَةَ: كُنْتُ يَوْمَئِذٍ صَغِيرًا؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ إِنِّي يَوْمَئِذٍ لَأَعْقِلُ أَنِّي أَزَفْرُ الْقِرْبَةَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (5) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي حُسَين بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبيد اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ عَبَّادٍ الدِّيلِيَّ يَقُولُ: إِنِّي لَمَعَ أَبِي رَجُلٌ شَابٌّ، أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُ الْقَبَائِلَ -ووراءه
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4972) .
(2) صحيح البخاري برقم (1394، 4801،3525) .
(3) في م: "أعمام النبي".
(4) المسند (4/341) .
(5) المسند (4/341) .(8/514)
رَجُلٌ أَحْوَلُ وَضِيءٌ، ذُو جُمَّة -يَقِفُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَبِيلَةِ فَيَقُولُ: "يَا بَنِي فُلَانٍ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، آمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُصَدِّقُونِي وَتَمْنَعُونِي حَتَّى أنفِّذَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ". وَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ قَالَ الْآخَرُ مِنْ خَلْفِهِ: يَا بَنِي فُلَانٍ، هَذَا يُرِيدُ مِنْكُمْ أَنْ تسلُخوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَحُلَفَاءَكُمْ مِنَ الْجِنِّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْش، إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَلَا تَسْمَعُوا لَهُ وَلَا تَتَّبِعُوهُ. فَقُلْتُ لِأَبِي: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ (1) .
رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَالطَّبَرَانِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ (2) .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أَيْ: خَسِرَتْ وَخَابَتْ، وَضَلَّ عَمَلُهُ وَسَعْيُهُ، {وَتَبَّ} أَيْ: وَقَدْ تَبَّ تَحَقُّقُ خَسَارَتِهِ وَهَلَاكِهِ.
وَقَوْلُهُ: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: {وَمَا كَسَبَ} يَعْنِي: وَلَدَهُ. وَرُوي عَنْ عَائِشَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحُسْنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، مِثْلَهُ.
وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم لما دَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، قَالَ أَبُو لَهَبٍ: إِذَا كَانَ مَا يَقُولُ ابْنُ أَخِي حَقًّا، فَإِنِّي أَفْتَدِي نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ بِمَالِي وَوَلَدِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} .
وَقَوْلُهُ: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} أَيْ: ذَاتَ شَرَرٍ وَلَهِيبٍ وَإِحْرَاقٍ شَدِيدٍ.
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ سَادَاتِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، وَهِيَ: أُمُّ جَمِيلٍ، وَاسْمُهَا أَرْوَى بنتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ. وَكَانَتْ عَوْنًا لِزَوْجِهَا عَلَى كُفْرِهِ وَجُحُودِهِ وَعِنَادِهِ؛ فَلِهَذَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَونًا عَلَيْهِ فِي عَذَابِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وَلِهَذَا قَالَ: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} يَعْنِي: تَحْمِلُ الْحَطَبَ فَتُلْقِي عَلَى زَوْجِهَا، لِيَزْدَادَ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ، وَهِيَ مُهَيَّأة لِذَلِكَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ.
{فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعُرْوَةُ: مِنْ مَسد النَّارِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحُسْنِ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالسُّدِّيِّ: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، [وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ] (3) .
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطِيَّةَ الْجَدَلِيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ زَيْدٍ: كَانَتْ تَضَعُ الشَّوْكَ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقِيلَ: كَانَتْ تُعَيِّرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَقْرِ، وَكَانَتْ تَحْتَطِبُ، فَعُيِّرَتْ بِذَلِكَ.
كَذَا حَكَاهُ، وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى أَحَدٍ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَتْ لَهَا قِلَادَةٌ فَاخِرَةٌ فَقَالَتْ: لَأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ، يَعْنِي: فَأَعْقَبَهَا اللَّهُ بِهَا حَبْلًا فِي جِيدِهَا من مسد النار.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/423) .
(2) المسند (3/492) والمعجم الكبير (5/63) .
(3) زيادة من م.(8/515)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُلَيْمٍ (1) مَوْلَى الشَّعْبِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الْمَسَدُّ: اللِّيفُ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: الْمَسَدُّ: سِلْسِلَةٌ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا.
وَعَنِ الثَّوْرِيِّ: هُوَ قِلَادَةٌ مِنْ نَارٍ، طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: المَسَدُ: اللِّيفُ. والمَسَد أَيْضًا: حَبْلٌ مِنْ لِيفٍ أَوْ خُوصٍ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ أَوْ أَوْبَارِهَا، وَمَسَدْتُ الْحَبْلَ أمسدُهُ مَسْدًا: إِذَا أجْدتُ فَتله (2) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} أَيْ: طَوْقٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَلَّا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ يُسَمَّوْنَ البَكْرة مَسَدًا؟
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي وَأَبُو زُرْعة قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الحُمَيدي، حَدَّثَنَا سُفيان، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ ابْنِ تَدْرُسَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أَقْبَلَتِ الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَهِيَ تَقُولُ:
مُذَممًا أبَينَا ودينَه قَلَينا وَأمْرَه عَصَينا
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَنَا أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَرَاكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي". وَقَرَأَ قُرْآنًا اعْتَصَمَ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 45] . فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَلَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي؟ قَالَ: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ. فَوَلَّتْ وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي ابْنَةُ سَيِّدِهَا. قَالَ: وَقَالَ الْوَلِيدُ فِي حَدِيثِهِ أَوْ غَيْرِهِ: فعثَرَت أُمُّ جَمِيلٍ فِي مِرْطها وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقَالَتْ: تَعس مُذَمَّم. فَقَالَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي لحصانُ فَمَا أكلَّم، وثَقَافُ فَمَا أعلَّم، وَكُلُّنَا مِنْ بَنِي الْعَمِّ، وَقُرَيْشٌ بَعْدُ أَعْلَمُ (3) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ تَنَحَّيت لَا تُؤذيك بِشَيْءٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ سَيُحال بَيْنِي وَبَيْنِهَا". فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، هَجَانَا صَاحِبُكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَرَبِّ هَذِهِ الْبِنْيَةِ مَا نَطَق بِالشِّعْرِ وَلَا يَتَفَوَّهُ بِهِ. فَقَالَتْ: إِنَّكَ لَمُصَدِّقٌ، فَلَمَّا وَلَّتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا رَأَتْكَ؟ قَالَ: "لَا مَا زَالَ مَلَكٌ يَسْتُرُنِي حَتَّى ولت".
__________
(1) في أ: "سليمان".
(2) الصحاح للجوهري، مادة "مسد" (1/535) .
(3) مسند الحميدي (1/153) ورواه أبو يعلى في مسنده (1/53) من طريق سفيان به، وسبق تخريجه عند تفسير الآية: 45 من سورة الإسراء.(8/516)
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُروَى بأحسنَ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} أَيْ: فِي عُنُقِهَا حَبْلٌ فِي نَارِ [جَهَنَّمَ] (2) تُرفَع بِهِ إِلَى شَفِيرِهَا، ثُمَّ يُرْمَى بِهَا إِلَى أَسْفَلِهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ دَائِمًا.
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دَحْية فِي كِتَابِهِ التَّنْوِيرِ (3) -وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ-وعُبر بِالْمَسَدِ عَنْ حَبْلِ الدَّلْوِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدَّيْنُورِيُّ فِي كِتَابِ "النَّبَاتِ": كُلُّ مَسَد: رِشَاءٌ، وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ:
وَبَكْرَةً ومِحْوَرًا صِرَارًا ... وَمَسَدًا مِنْ أَبَقٍ مُغَارًا ...
قَالَ: والأبقُ: القنَّبُ.
وَقَالَ الْآخَرُ:
يَا مَسَدَ الخُوص تَعَوّذْ مِنِّي ... إنْ تَكُ لَدْنًا لَيّنا فَإِنِّي ...
مَا شئْتَ مِنْ أشْمَطَ مُقْسَئِنّ ...
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ وَدَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُ مُنْذُ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا بِالشَّقَاءِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، لَمْ يُقَيِّضْ لَهُمَا أَنْ يُؤْمِنَا، وَلَا وَاحِدَ مِنْهُمَا لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، لَا مُسِرًّا وَلَا مُعْلِنًا، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ الْبَاهِرَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ الظَّاهِرَةِ.
[آخِرُ تَفْسِيرِ "تَبَّتْ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة] (4)
__________
(1) مسند البزار برقم (2294) "كشف الأستار"، ورواه أبو يعلى في مسنده (1/33) من طريق عبد السلام بن حرب به، وقال الهيثمي في المجمع (7/144) : "فيه عطاء بن السائب وقد اختلط".
(2) زيادة من م، أ.
(3) التنوير في مولد السراج المنير لابن دحية الكلبي، عمله لملك إربل. انظر: وفيات الأعيان (3/122) .
(4) زيادة من م، أ.(8/517)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا وَفَضِيلَتِهَا (1)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُيَسّر الصَّاغَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُو لَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " (2) .
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ -زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَحْمُودُ بْنُ خِدَاش -عَنْ أَبِي سَعْدٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُيَسّر بِهِ (3) -زَادَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالتِّرْمِذِيُّ-قَالَ: " الصَّمَدُ " الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُوَلَدُ إِلَّا سَيَمُوتُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إِلَّا سَيُورَثُ، وَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ، " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ " وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شِبْهٌ (4) وَلَا عَدْلٌ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعْدٍ (5) مُحَمَّدِ بْنِ مُيَسّر، بِهِ. ثُمَّ رواه الترمذي عن عبد ابن حُمَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا وَلَمْ يَذْكُرْ "أَخْبَرَنَا". ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعْدٍ (6) .
حَدِيثٌ آخَرُ فِي مَعْنَاهُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا سُرَيج (7) بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَالِدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " إِلَى آخِرِهَا. إِسْنَادُهُ مُقَارِبٌ (8) .
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سُرَيج (9) فَذَكَرَهُ (10) . وَقَدْ أَرْسَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَرَوَى عُبيد بْنُ إِسْحَاقَ الْعَطَّارُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "
__________
(1) في م، أ: "وفضلها".
(2) المسند (5/133) .
(3) سنن الترمذي برقم (3364) وتفسير الطبري (30/221،223) .
(4) في م، أ: "له شبيه".
(5) في م، أ: "سعيد".
(6) سنن الترمذي برقم (3365) .
(7) في أ: "شريح".
(8) في م: "إسناده متقارب".
(9) في أ: "شريح".
(10) مسند أبي يعلى (4/38،39) وتفسير الطبري (30/221) ، ومجالد ضعيف في روايته عن الشعبي عن جابر.(8/518)
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: رَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، مُرْسَلًا (1) .
ثُمَّ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الطَّائِفِيِّ، عَنِ الْوَازِعِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِكُلِّ شَيْءٍ نِسْبَةٌ، وَنِسْبَةُ اللَّهِ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ " وَالصَّمَدُ لَيْسَ بِأَجْوَفَ] (2) (3) .
حَدِيثٌ آخَرُ فِي فَضْلِهَا: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -هُوَ الذُهليّ-حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ: أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ مُحمد بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدثه، عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -وَكَانَتْ فِي حِجْر عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَريَّة، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "سَلُوهُ: لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ ". فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ".
هَكَذَا رَوَاهُ فِي كِتَابِ "التَّوْحِيدِ" (4) . وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْقِطُ ذِكْرَ "مُحَمَّدٍ الذُّهْلِيِّ". وَيَجْعَلُهُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، بِهِ (5) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ: "وَقَالَ عُبَيد اللَّهِ (6) عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَؤمَهم فِي مَسْجِدِ قُبَاء، فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " حَتَّى يَفرُغ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. فكلَّمه أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ لَا تَرَى أَنَّهَا تُجزئُك حَتَّى تَقْرَأَ بِالْأُخْرَى، فَإِمَّا أَنْ تَقْرَأَ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا وتَقرأ بِأُخْرَى. فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكَتْكُمْ. وَكَانُوا يَرَونَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤمهم غَيْرُهُ. فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: "يَا فُلَانُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ، وَمَا حَمَلَكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ ". قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا. قَالَ: "حُبك إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ" (7) .
هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ سَوَاءً (8) . ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ ثَابِتٍ. قَالَ: وروى
__________
(1) ورواه الطيالسي عن قيس، عن عاصم، عن أبي وائل مرسلا، ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (89) .
(2) زيادة من أ.
(3) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3423) "مجمع البحرين" من طريق عبد الرحمن بن نافع، عن علي بن ثابت، عن الوازع، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ، وقال: "لا يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تفرد به عبد الرحمن".
(4) صحيح البخاري برقم (7375) .
(5) صحيح مسلم برقم (813) ، وسنن النسائي (2/170) .
(6) في أ: "وقال عبد الله".
(7) صحيح البخاري برقم (774) .
(8) سنن الترمذي برقم (2901) .(8/519)
مُبَارك بْنِ فَضالة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " قَالَ: "إِنَّ حُبَّك إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ".
وَهَذَا الَّذِي عَلَّقَهُ التِّرْمِذِيُّ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مُتَّصِلًا فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حُبُّكَ (1) إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ" (2) .
حَدِيثٌ فِي كَوْنِهَا تَعْدِلُ ثُلْثَ الْقُرْآنِ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مالك، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالَّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لِتَعْدِلُ ثُلْثَ الْقُرْآنِ". زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، والقَعْنَبِيّ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ، بِهِ (5) . وَحَدِيثُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ أَسْنَدَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكٍ، بِهِ (6) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَر بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ وَالضَّحَّاكُ المَشْرِقيّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: "أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلْثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟ ". فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطيق ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلْثُ الْقُرْآنِ" (7) .
تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ النَّخعي وَالضَّحَّاكِ بْنِ شُرَحبيل الْهَمْدَانِيِّ الْمَشْرِقِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ القَرَبرِيّ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ وراقُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ مُرْسَلٌ، وَعَنِ الضَّحَّاكِ مُسْنَدٌ (8) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَة، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَاتَ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ يَقْرَأُ اللَّيْلَ كُلَّهُ بِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "
__________
(1) في م: "إن حبك".
(2) المسند (3/141) .
(3) في م: "فقال رسول الله".
(4) صحيح البخاري برقم (7374) .
(5) صحيح البخاري برقم (5013،6643) وسنن أبي داود برقم (1461) وسنن النسائي (2/171) .
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (8029) وبرقم (10536) .
(7) صحيح البخاري برقم (5015) .
(8) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (9/60) : "والمراد أن رواية إبراهيم النخعي عن أبي سعيد منقطعة، ورواية الضحاك عنه متصلة"(8/520)
فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَعدلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ، أَوْ ثُلْثَهُ" (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا حُييّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَهُوَ يَقُولُ: أَلَّا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُومَ بِثُلْثِ الْقُرْآنِ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ فَقَالُوا: وَهَلْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: فَإِنَّ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثُلْثُ الْقُرْآنِ. قَالَ: فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَسْمَعُ أَبَا أَيُّوبَ، فَقَالَ: "صَدَقَ أَبُو أَيُّوبَ" (2) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كيسَان، أَخْبَرَنِي أَبُو حَازم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "احشُدوا، فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلْثَ الْقُرْآنِ". فَحُشِدَ مَنْ حُشِدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلْثَ الْقُرْآنِ". إِنِّي لَأَرَى هَذَا خَبَرًا جَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "إِنِّي قُلْتُ: سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلْثَ الْقُرْآنِ، أَلَا وَإِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلْثَ الْقُرْآنِ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، بِهِ (3) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَاسْمُ أَبِي حَازِمٍ سَلْمَانُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ بْنِ قُدَامة، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَساف، عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيم (4) عَنْ عَمْرِو بْنِ ميمون، عن عبد الرحمن ابن أَبِي لَيْلَى، عَنِ امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلْثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟ فَإِنَّهُ مَنْ قَرَأَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ " فِي لَيْلَةٍ، فَقَدْ قَرَأَ لَيْلَتَئِذٍ ثُلْثَ الْقُرْآنِ".
هَذَا حَدِيثٌ تُسَاعيّ الْإِسْنَادِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ (5) بُنْدَارٍ -زَادَ التِّرْمِذِيُّ وَقُتَيْبَةُ-كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، بِهِ (6) . فَصَارَ لَهُمَا عُشَاريا. وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: "عَنِ امْرَأَةِ أَبَى أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ"، بِهِ [وَحَسَّنَهُ] (7) . ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَقَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي مَسْعُودٍ. وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَحْسَنَ مِنْ رِوَايَةِ "زَائِدَةَ". وَتَابَعَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ إِسْرَائِيلُ، وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ. وَقَدْ رَوَى شُعبةُ وغيرُ وَاحِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ هذا الحديث عن منصور واضطربوا فيه.
__________
(1) المسند (3/15) .
(2) المسند (2/173) .
(3) سنن الترمذي برقم (2900) وصحيح مسلم برقم (812) .
(4) في أ: "بن خيثم".
(5) في أ: "يسار".
(6) سنن الترمذي برقم (2896) وسنن النسائي (2/172) .
(7) زيادة من م، أ.(8/521)
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْم، عَنْ حُصَين، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَاف، عَنْ عَبْدِ الرحمن ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -أَوْ: رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ بِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فَكَأَنَّمَا قَرَأَ بِثُلْثِ الْقُرْآنِ" (1) .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، مِنْ حَدِيثِ هُشَيم، عَنْ حُصَين، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، بِهِ (2) . وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَتِهِ: هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكيع، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ (3) عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تعدُل ثلث الْقُرْآنِ" (4) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّنافسي، عَنْ وَكيع، بِهِ (5) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا (6) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْز، حَدَّثَنَا بُكَير بْنُ أَبِي السَّميط (7) حَدَّثَنَا قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أيعجزُ أحدُكم أَنْ يَقرأ كُلَّ يَوْمٍ ثُلْثَ الْقُرْآنِ؟ ". قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ أضعفُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْجَزُ. قَالَ: "فَإِنَّ اللَّهَ جَزأ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثُلْثُ الْقُرْآنِ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، بِهِ (8) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ -ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ -عَنْ عَمِّهِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -هُوَ ابْنُ عَوْفٍ-عَنْ أُمِّهِ -وَهِيَ: أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ (9) بْنِ أَبِي مُعَيط -قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعدلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ".
وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ، بِهِ (10) . ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَوْلَهُ (11) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا فِي "الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الفُضَيل الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدثوه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال:
__________
(1) المسند (5/141) .
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (10521) .
(3) في م: "إسحاق".
(4) المسند (4/122) .
(5) سنن ابن ماجة برقم (3789) .
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (10529،10525،10528) .
(7) في أ: "حدثنا بكر بن أبي السمط".
(8) المسند (1/447) وصحيح مسلم برقم (811) وسنن النسائي الكبرى برقم (10537) .
(9) في م: "عتبة".
(10) سنن النسائي الكبرى برقم (10531) .
(11) سنن النسائي الكبرى برقم (10533) .(8/522)
" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعدلُ ثُلُثَ القرآن لِمَنْ صَلَّى بِهَا" (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ فِي كَوْنِ قِرَاءَتِهَا تُوجِبُ الْجَنَّةَ: قَالَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبيد بْنِ حُنَين قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَقْبَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَجَبَتْ". قُلْتُ: وَمَا وَجَبت؟ قَالَ: "الْجَنَّةُ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ (2) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ.
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ: "حُبّك إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ".
حَدِيثٌ فِي تَكْرَارِ قِرَاءَتِهَا: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا قَطن بن نُسير، حدثنا عيسى ابن مَيْمُونٍ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَمَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي لَيْلَةٍ (4) فَإِنَّهَا تعدلُ ثُلْثَ الْقُرْآنِ؟ " (5)
هَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، وَأَجْوَدُ مِنْهُ حَدِيثٌ آخَرُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ المُقَدمي، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، حدثنا ابن أبي ذئب، عن أسيدُ ابن أَبِي أَسِيدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبيب، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَصَابَنَا طَش وَظُلْمَةٌ، فَانْتَظَرْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا، فَخَرَجَ فَأَخَذَ بِيَدِي، فَقَالَ: "قُلْ". فَسَكَتُّ. قَالَ: "قُلْ". قُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: " " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ ثَلَاثًا، تَكْفِكَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، بِهِ (6) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ مُعَاذِ بن عبد الله بن خبيب، عن أبيه، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، فَذَكَرَهُ [وَلَفْظُهُ: "يَكْفِكَ كُلَّ شَيْءٍ"] (7) (8) .
حَدِيثٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي الْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ، عَنِ الْأَزْهَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاحِدًا أَحَدًا صَمَدًا، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، ولم يكن له كفوا أحدا، عَشْرَ مَرَّاتٍ، كُتِب لَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (9) وَالْخَلِيلُ بْنُ مُرّة: ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ بمُرّة.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَة، حدثنا زَبَّان بن
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (10532) .
(2) الموطأ (2/208) وسنن الترمذي برقم (2897) وسنن النسائي (2/171) .
(3) في م: "سمعت نبي الله".
(4) في أ: "في كل ليلة".
(5) مسند أبي يعلى (8/150) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/147) : "فيه عبيس، وهو متروك".
(6) زوائد المسند (5/312) وسنن أبي داود برقم (5082) وسنن الترمذي برقم (3575) وسنن النسائي (8/250) .
(7) زيادة من م.
(8) سنن النسائي (8/251) .
(9) المسند (4/103) .(8/523)
فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَرَأَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " حَتَّى يَخْتِمَهَا، عَشْرَ مَرَّاتٍ، بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ". فَقَالَ عُمَرُ: إِذَنْ نَسْتَكْثِرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (1) .
وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عُقَيْلٍ زَهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ-قَالَ الدَّارِمَيُّ: وَكَانَ مِنَ الْأَبْدَالِ -أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَرَأَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " عَشْرَ مَرَّاتٍ، بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا عِشْرِينَ مَرَّةً بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثِينَ مَرَّةً بَنَى اللَّهُ لَهُ ثَلَاثَةَ قُصُورٍ فِي الْجَنَّةِ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِذَا لِتُكْثُرْ قُصُورُنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ" (2) . وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدٌ الْعَطَّارُ، أَخْبَرَتْنِي أُمُّ كَثِيرٍ الْأَنْصَارِيَّةُ، عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَرَأَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " خَمْسِينَ مَرَّةً غُفرت لَهُ (3) . ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً" (4) إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ فِي يَوْمٍ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " مِائَتَيْ مَرَّةٍ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ حَسَنَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ" (5) . إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، حَاتِمُ بْنُ مَيْمُونٍ: ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ الْبَصْرِيِّ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، بِهِ. وَلَفَظُهُ: "مَنْ قَرَأَ كُلَّ يَوْمٍ، مِائَتَيْ مَرَّةٍ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " مُحِيَ عَنْهُ ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَين".
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَنَامَ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " مِائَةَ مَرَّةٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لَهُ الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ: يَا عَبْدِي، ادخُل عَلَى يَمِينِكَ الْجَنَّةَ" (6) . ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ، وَقَدْ رُوي مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَحْرٍ، حَدَّثَنَا حَبّان بْنُ أَغْلَبَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "من قَرَأَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " مِائَتَيْ مَرَّةٍ، حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ ذُنُوبَ مِائَتَيْ سَنَةٍ" (7) . ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ ثَابِتٍ إِلَّا الحسن بن أبي جعفر، والأغلب بن
__________
(1) المسند (3/437) .
(2) سنن الدارمي برقم (3429) .
(3) في م، أ: "غفر الله له".
(4) ورواه الدارمي في السنن برقم (3438) : حدثنا نصر بن علي بمثله سواء.
(5) مسند أبي يعلى (6/103) .
(6) سنن الترمذي برقم (2898) .
(7) ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (267) والخطيب في تاريخ بغداد (6/187) من طريق الحسن بن أبي جعفر، عن ثابت به.(8/524)
تَمِيمٍ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي سُوءِ الْحِفْظِ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي الدُّعَاءِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ: قَالَ النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ مِغْول، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيدة، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي، يَدْعُو يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَأَلَهُ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمَ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ" (1) .
وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّة أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ طُرُق، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْول، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيدة، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ (2) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي قِرَاءَتِهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى [الْمُوصِلِيُّ] (3) : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ نَبْهَانَ (4) عَنْ أَبِي شَدَّادٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ مَنْ جَاءَ بِهِنّ مَعَ الْإِيمَانِ دَخَل مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ، وزُوّج مِنَ الْحَوَرِ الْعِينِ حَيْثُ شَاءَ: مَنْ عَفَا عَنْ قَاتِلِهِ، وَأَدَّى دَيْنًا خَفِيًّا، وَقَرَأَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ عَشْرَ مَرَّاتٍ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ". قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوْ إِحْدَاهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَوْ إِحْدَاهُنَّ" (5)
حَدِيثٌ فِي قِرَاءَتِهَا عِنْدَ دُخُولِ الْمَنْزِلِ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ السَّرَّاجُ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَة بْنِ (6) عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " حِينَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ، نَفَتِ الْفَقْرَ عَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ وَالْجِيرَانِ" (7) . إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
حَدِيثٌ فِي الْإِكْثَارِ مِنْ قِرَاءَتِهَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ (8) مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ، فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ بِضِيَاءٍ وَشُعَاعٍ وَنُورٍ لَمْ نرها طلعت فيما مضى
__________
(1) سنن النسائي الكبرى كما في تحفة الأشراف للمزي (2/90) .
(2) سنن أبي داود برقم (1493) وسنن الترمذي برقم (3475) وسنن ابن ماجة برقم (3857) .
(3) زيادة من م.
(4) في م، أ، هـ: "عمر بن شيبان".
(5) مسند أبي يعلى (3/332) ، وقال الهيثمي في المجمع (10/102) : "فيه عمر بن نبهان وهو متروك".
(6) في م، أ، هـ: "عن".
(7) المعجم الكبير (2/340) .
(8) كذا ترجمه البخاري في التاريخ (6/507) ، وابن حبان في المجروحين (2/181) ، وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح (6/355) ، والذهبي في الميزان (3/106) ، كذا: "العلاء بن يزيد، أبو محمد الثقفي" وكأن هذا هو الراجح، لكن أثبتنا الأول لكونه وقع في النسخ هكذا، وكذلك في مسند أبي يعلى، أما الدلائل فقد وقع فيه على الكنية فأثبتناه كما هو فيه.(8/525)
بِمِثْلِهِ، فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (1) يَا جِبْرِيلُ، مَا لِي أَرَى الشَّمْسَ طَلَعَتِ الْيَوْمَ (2) بِضِيَاءٍ وَنُورٍ وَشُعَاعٍ لَمْ أَرَهَا طَلَعَتْ بِمِثْلِهِ فِيمَا مَضَى؟ ". قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيُّ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ الْيَوْمَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ. قَالَ: "وَفِيمَ ذَلِكَ؟ " قَالَ: كَانَ يُكْثِرُ قِرَاءَةَ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فِي اللَّيْلِ وَفِي النَّهَارِ، وَفِي مَمْشَاهُ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، فَهَلْ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَقْبِضَ لَكَ الْأَرْضَ فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَصَلَّى عَلَيْهِ.
وَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي [كِتَابِ] (3) دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ" مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ الْعَلَاءِ أَبِي (4) مُحَمَّدٍ (5) -وَهُوَ مُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ -فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمِ الشَّامِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ -مُؤَذِّنُ مَسْجِدِ الْجَامِعِ بِالْبَصْرَةِ عِنْدِي-عَنْ مَحْمُودٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (6) عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيُّ، فَتُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ الْأَرْضَ، فَلَمْ تَبْقَ شَجَرَةٌ وَلَا أَكَمَةٌ إِلَّا تَضَعْضَعَتْ، فَرَفَعَ سَرِيرَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ وَخَلْفُهُ صَفَّانِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فِي كُلِّ صَفٍّ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا جِبْرِيلُ، بِمَ نَالَ هَذِهِ الْمَنِزَلَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؟ ". قَالَ بِحُبِّهِ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَقِرَاءَتِهِ إِيَّاهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا قَائِمًا (7) وَقَاعِدًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ (8) .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ الْهَيْثَمِ الْمُؤَذِّنِ، عَنْ مَحْبُوبِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ (9) ، وَمَحْبُوبُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: "لَيْسَ بِالْمَشْهُورِ" (10) . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ، تَرَكْنَاهَا (11) اخْتِصَارًا، وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي فَضْلِهَا مَعَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَابْتَدَأْتُهُ فأخذتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِمَ نَجَاةُ الْمُؤْمِنِ؟ قَالَ: "يَا عُقْبَةُ، احْرُسْ لِسَانَكَ وَلِيَسَعْكَ بيتُك، وابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ". قَالَ: ثُمَّ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَابْتَدَأَنِي فَأَخَذَ بِيَدِي، فَقَالَ: "يَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، أَلَّا أَعُلِّمُكَ خَيْرَ ثَلَاثِ سُوَر أُنْزِلَتْ فِي التوراة، والإنجيل،
__________
(1) في م: "فقال لي".
(2) في م: "يومئذ".
(3) زيادة من م.
(4) في أ: "العلاء بن محمد".
(5) مسند أبي يعلى (7/256) ودلائل النبوة (5/245) .
(6) وقع في أصل مسند أبي يعلى: "محمود بن عبد الله" ووقع هنا: "محمود أبي عبد الله" - كما ترى- والصواب: "محبوب ابن هلال" كما في رواية البيهقي، والله أعلم.
(7) في م: "وقائما".
(8) مسند أبي يعلى (7/258) .
(9) دلائل النبوة (5/246) ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن برقم (272) ، من طريق محبوب بن هلال به، وساقه المؤلف في البداية والنهاية من رواية البيهقي (5/14) ، وقال: "منكر من هذا الوجه".
(10) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/389) .
(11) في م: "تركنا ذكرها".(8/526)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
وَالزَّبُورِ، وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: فَأَقْرَأَنِي: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ثُمَّ قَالَ: "يَا عُقْبَةُ، لَا تَنْسَهُن وَلَا تُبتْ لَيْلَةً حَتَّى تَقْرَأَهُنَّ". قَالَ: فَمَا نَسِيتُهُنَّ مُنْذُ قَالَ: "لَا تَنْسَهُنَّ"، وَمَا بِتُّ لَيْلَةً قَطُّ حَتَّى أَقْرَأَهُنَّ. قَالَ عُقْبَةُ، ثُمَّ لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأْتُهُ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبَرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ. فَقَالَ: "يَا عُقْبَةُ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وأعْطِ مَنْ حَرَمَك، وَأَعْرِضْ (1) عَمَّنْ ظَلَمَكَ" (2)
رَوَى التِّرْمِذِيُّ بَعْضَهُ فِي "الزُّهْدِ"، مِنْ حَدِيثِ عُبيد اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ (3) . وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ:
حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَسَيِدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الخَثْعَمي، عَنْ فرْوَة بْنِ مُجَاهِدٍ اللَّخْمِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (4) .
حَدِيثٌ آخَرُ فِي الِاسْتِشْفَاءِ بِهِنَّ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ، عَنْ عُقَيل، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُل لَيْلَةٍ جَمَعَ (5) كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، مِنْ حَدِيثِ عُقَيل، بِهِ (6) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) }
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ: نَحْنُ نعبد عُزيرَ ابْنَ اللَّهِ. وَقَالَتِ النَّصَارَى: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ. وَقَالَتِ الْمَجُوسُ: نَحْنُ نَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ. وَقَالَتِ الْمُشْرِكُونَ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْأَوْثَانَ -أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
يَعْنِي: هُوَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا وَزِيرَ، وَلَا نَدِيدَ وَلَا شَبِيهَ وَلَا عَدِيلَ، وَلَا يُطلَق
__________
(1) في م: "واعف".
(2) المسند (4/148) .
(3) سنن الترمذي برقم (2406) ، وفي إسناده عبيد الله بن زحر وعلى بن يزيد والقاسم كلهم ضعفاء، قال ابن حبان في عبيد الله بن زحر: "يروي الموضوعات عن الأثبات، وإذا روي عن علي بن يزيد أتى الطامات، وإذا اجتمع في إسناده خبر عبيد الله، وعلي بن يزيد، والقاسم -أبو عبد الرحمن- لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم".
(4) المسند (4/158) .
(5) في م: "ليلة جمعة".
(6) صحيح البخاري برقم (5017) وسنن أبي داود برقم (5056) وسنن الترمذي برقم (3402) وسنن النسائي الكبرى برقم (10624) وسنن ابن ماجة برقم (3875) .(8/527)
هَذَا اللَّفْظُ عَلَى أَحَدٍ فِي الْإِثْبَاتِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهُ الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
وَقَوْلُهُ: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الَّذِي يَصْمُدُ الْخَلَائِقُ إِلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَسَائِلِهِمْ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ، وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ، وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظْمَتِهِ، وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ، وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ (1) وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ، لَيْسَ لَهُ كُفْءٌ، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ (2) عَنْ أَبِي وَائِلٍ: {الصَّمَدُ} السَّيِّدُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ، وَرَوَاهُ عاصم، بن أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مِثْلَهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {الصَّمَدُ} السَّيِّدُ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: {الصَّمَدُ} الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {الصَّمَدُ} الَّذِي لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُطْعَمُ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. كَأَنَّهُ جَعَلَ مَا بَعْدَهُ تَفْسِيرًا لَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وَهُوَ تَفْسِيرٌ جَيِّدٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُريدة، وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: {الصَّمَدُ} الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ.
قَالَ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {الصَّمَدُ} الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ الَّذِي لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيدة (3) أَيْضًا: {الصَّمَدُ} نُورٌ يَتَلَأْلَأُ.
رَوَى ذَلِكَ كلَّه وَحَكَاهُ: ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَكَذَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ سَاقَ أَكْثَرَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ، وَقَالَ:
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رُومِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ قَائِدِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ -لَا أَعْلَمُ إِلَّا قَدْ رَفَعَهُ-قَالَ: {الصَّمَدُ} الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ.
وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ على عبد الله بن بريدة.
__________
(1) في م: "في حكمه".
(2) في أ: "سفيان".
(3) في أ: "يزيد".(8/528)
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ لَهُ، بَعْدَ إِيرَادِهِ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ "الصَّمَدِ": وَكُلُّ هَذِهِ صَحِيحَةٌ، وَهِيَ صِفَاتُ رَبِّنَا، عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ الَّذِي يُصمَد إِلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ، وَهُوَ الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَهُوَ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ [أَيْضًا] (1) . (2)
وَقَوْلُهُ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} أَيْ: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ وَلَا صَاحِبَةٌ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} يَعْنِي: لَا صَاحِبَةَ لَهُ.
وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 101] أَيْ: هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ نَظِيرٌ يُسَامِيهِ، أَوْ قَرِيبٌ يُدَانِيهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مَرْيَمَ: 88 -95] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 26، 27] وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصَّافَّاتِ: 158، 159] وَفِي الصَّحِيحِ -صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ-: "لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ" (3) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعيدَني كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلِيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ. وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ".
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَرْفُوعًا بِمِثْلِهِ. تَفَرَّدَ بِهِمَا مِنْ هَذَيْنَ الْوَجْهَيْنِ (4) .
آخر تفسير سورة "الإخلاص"
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) وقد أطنب شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان معنى الصمد في الفتاوى (17/214) .
(3) صحيح البخاري برقم (6099) من حديث أبي موسى، رضي الله عنه.
(4) صحيح البخاري برقم (4974) وبرقم (4975) .(8/529)
تَفْسِيرُ سُورَتَيِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ
وَهُمَا مُدْنِيَّتَانِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلة، عَنْ زِرِّ بنُ حُبَيش قَالَ: قُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ [كَانَ] (1) لَا يَكْتُبُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ؟ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ لَهُ: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " فَقُلْتُهَا، قَالَ: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " فَقُلْتُهَا. فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) (3) .
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الحُميدي فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَبَدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابة وَعَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ قَالَ: سألتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَحُكهما مِنَ الْمُصْحَفِ. فَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "قِيلَ (4) لِي: قُلْ، فَقُلْتُ". فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ قَالَ: سألتُ ابنَ مَسْعُودٍ عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَالَ: سألتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا فَقَالَ: " قِيلَ لِي، فَقُلْتُ لَكُمْ، فَقُولُوا". قَالَ أَبِي: فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْنُ نَقُولُ (6) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابة، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيش -وَحَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ زِرٍّ-قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "قِيلَ لِي، فَقُلْتُ". فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) .
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبَدَةَ وَعَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، بِهِ (8) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا الْأَزْرَقُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الصَّلْت بْنُ بَهرَام، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَحُك المعوذتين من المصحف، ويقول: إنما
__________
(1) زيادة من المسند.
(2) في م: "عليه السلام".
(3) المسند (5/129) .
(4) في م: "قال".
(5) مسند الحميدي (1/185) .
(6) المسند (5/129) .
(7) صحيح البخاري برقم (4977) .
(8) صحيح البخاري برقم (4976) .(8/530)
أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَأُ بِهِمَا (1)
وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (2) بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَحُكُّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصَاحِفِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ -قَالَ الْأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَأَلَنَا عَنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "قِيلَ لِي، فَقُلْتُ" (3) .
وَهَذَا مَشْهُورٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لَا يَكْتُبُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُمَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَهُ، ثُمَّ لَعَلَّهُ قَدْ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، كَتَبُوهُمَا (4) فِي الْمَصَاحِفِ الْأَئِمَّةِ، وَنَفَّذُوهَا إِلَى سَائِرِ الْآفَاقِ كَذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازم، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُر مِثْلُهُنَّ قَطُّ: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " (5) .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ، بِهِ (6) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَقب مِنْ تِلْكَ النِّقَابِ، إِذْ قَالَ لِي: "يَا عُقْبَةُ، أَلَا تَركب؟ ". قَالَ: [فَأجْلَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْكَبَ مَرْكَبَهُ. ثُمَّ قَالَ: "يَا عُقيب، أَلَّا تَرْكَبُ؟ ". قَالَ] (7) فَأَشْفَقْتُ أَنْ تَكُونَ مَعْصِيَةً، قَالَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبْتُ هُنَيْهَةً، ثُمَّ رَكِبَ، ثُمَّ قَالَ: "يَا عُقَيْبُ، أَلَا أُعلمك سُورَتَيْنِ مِنْ خَيْرِ سُورَتَيْنِ قَرَأَ بِهِمَا النَّاسُ؟ ". قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَقْرَأَنِي: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَتَقَدَّمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ بِهِمَا، ثُمَّ مَرَّ بِي فَقَالَ: "كَيْفَ رَأَيْتَ يَا عُقَيْبُ (8) اقْرَأْ بِهِمَا كُلَّمَا نِمْتَ وَكُلَّمَا قُمْتَ".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، به (9) .
__________
(1) ورواه البزار في مسنده برقم (2301) ، من طريق محمد بن أبي يعقوب، عن حسان بن إبراهيم به، وقال البزار: "وهذا لم يتابع عبد الله عليه أحد من الصحابة، وقد صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قرأ بهما في الصلاة، وأثبتنا في المصحف".
(2) في م: "عن عبد الله".
(3) زوائد المسند (5/129) .
(4) في م: "أتبعوهما".
(5) صحيح مسلم برقم (814) .
(6) المسند (4/144) وصحيح مسلم برقم (814) ، وسنن الترمذي برقم (2902) وسنن النسائي (2/158) .
(7) زيادة من المسند.
(8) في م: "يا عقب".
(9) المسند (4/144) وسنن النسائي (8/253) .(8/531)
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُقْبَةَ، بِهِ (1) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عبد الرحمن، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني يزيد ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ الرُّعَيْنِيُّ وَأَبُو مَرْحُومٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ (2) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى (3) بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ مشَرح بْنِ هَاعَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَأْ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَقْرَأَ بِمِثْلِهِمَا". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (4) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْح، حَدَّثَنَا بَقِيَّة، حَدَّثَنَا بَحير بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدان، عَنْ جُبَير بْنِ نُفَير، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَتْ لَهُ بَغْلَةٌ شَهْبَاءُ، فَرَكِبَهَا فَأَخَذَ عُقْبَةُ يَقُودُهَا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) اقْرَأْ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ". فَأَعَادَهَا لَهُ حَتَّى قَرَأَهَا، فَعَرَفَ أَنِّي لَمْ أَفْرَحْ بِهَا جِدًّا، فَقَالَ: "لَعَلَّكَ تَهَاوَنْتَ بِهَا؟ فَمَا قُمْتَ تَصِلِي بِشَيْءٍ مِثْلِهَا".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ بَقِيَّةَ، بِهِ (6) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ (7) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ، عَنْ زِيَادٍ أَبِي الْأَسَدِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَعَوَّذُوا بِمِثْلِ هَذَيْنَ: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " (8) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ النَّسَائِيُّ: أخبرنا قتيبة، حدثنا الليث، عن أبي عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمُقْبِرِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا عُقْبَةُ، قُلْ". فَقُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ؟ فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: "قُلْ". قُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ عَنِّي، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ، ارْدُدْهُ عَلَيَّ. فَقَالَ: "يَا عُقْبَةُ، قُلْ". قُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يا رسول الله؟ فقال: "
__________
(1) سنن النسائي (8/252،253) وسنن أبي داود برقم (1462) .
(2) المسند (4/155) وسنن أبي داود برقم (1523) ، وسنن الترمذي برقم (2903) وسنن النسائي (3/68) .
(3) في م، أ: "حدثنا محمد".
(4) المسند (4/146) .
(5) في م، أ: "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعقبة".
(6) المسند (4/149) وسنن النسائي الكبرى برقم (7843،7844) .
(7) سنن النسائي (8/252) .
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (7856) .(8/532)
" قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ "، فَقَرَأْتُهَا حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: "قُلْ". قُلْتُ: مَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ "، فَقَرَأْتُهَا حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: "مَا سَأَلَ سَائِلٌ بِمِثْلِهِمَا، وَلَا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ بِمِثْلِهِمَا" (1) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَسَارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ بِهِمَا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ (2) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ أَسْلَمَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: اتَّبَعْتُ (3) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَوَضَعْتُ يَدَيْ عَلَى قَدَمِهِ (4) فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي سُورَةَ هُودٍ أَوْ سُورَةَ يُوسُفَ. فَقَالَ: "لَنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَنْفَعَ (5) عِنْدَ اللَّهِ مِنْ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق " (6) .
حَدِيثٌ (7) آخَرُ: قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَائِشٍ (8) الْجُهَنِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "يَا ابْنَ عَائِشٍ، أَلَا أَدُلُّكَ -أَوْ: أَلَا أُخْبِرُكَ -بِأَفْضَلِ مَا يَتَعَوَّذُ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ؟ ". قَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " هَاتَانِ السُّورَتَانِ" (9) .
فَهَذِهِ طُرُقٌ عَنْ عُقْبَةَ كَالْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ، تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ صُدَيّ بْنِ عَجْلَانَ، وفَرْوَةَ بْنِ مُجَاهد، عَنْهُ: "أَلَا أُعَلِّمُكَ ثلاثَ سُوَر لِمَ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ (10) مِثْلُهُنَّ؟ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ".
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سَفَرٍ، وَالنَّاسُ يَعْتَقِبُونَ، وَفِي الظَّهْرِ قِلَّةٌ، فَحَانَتْ نزلَة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزْلَتِي، فَلَحِقَنِي فَضَرَبَ [مِنْ بَعْدِي] (11) مَنْكِبِيَّ، فَقَالَ: " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ "، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأْتُهَا مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: " " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ "، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأْتُهَا مَعَهُ، فقال: "إذا صليت فاقرأ بهما" (12) .
__________
(1) سنن النسائي (8/253) .
(2) سنن النسائي (8/252) .
(3) في م: "أتيت".
(4) في م، أ: "على قدميه".
(5) في م: "أبلغ".
(6) سنن النسائي (8/254) .
(7) في أ: "طريق".
(8) في أ: "عباس".
(9) سنن النسائي (8/251) .
(10) في أ: "في القرآن".
(11) زيادة من المسند.
(12) المسند (5/24) .(8/533)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، بِهِ (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْلَمِيِّ -هُوَ ابْنُ أُنَيْسٍ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ قَالَ: "قُلْ". فَلَمْ أَدْرِ مَا أَقُولُ، ثُمَّ قَالَ لِي: "قُلْ". قُلْتُ: " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " ثُمَّ قَالَ لِي: "قُلْ". قُلْتُ: " أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ " حَتَّى فَرَغْتُ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ لِي: "قُلْ". قُلْتُ: " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ " حَتَّى فَرَغْتُ مِنْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَكَذَا فَتَعَوَذْ (2) مَا تعوذَ الْمُتَعَوِّذُونَ بِمِثْلِهِنَّ قَطُّ" (3) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَبُو حَفْصٍ، حَدَّثَنَا بَدَل، حَدَّثَنَا شَدَّادُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو طَلْحَةَ، عَنْ سَعِيدٍ الجُرَيري، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرة، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَأْ يَا جَابِرُ". قُلْتُ: وَمَا أَقْرَأُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: "اقْرَأْ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ " وَ " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس ". فَقَرَأْتُهُمَا، فَقَالَ: "اقْرَأْ بِهِمَا، وَلَنْ تَقْرَأَ بِمِثْلِهِمَا" (4) .
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يَقْرَأُ بِهِنَّ، وَيَنْفُثُ فِي كَفَّيْهِ، وَيَمْسَحُ بِهِمَا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ، رَجَاءَ بَرَكَتِهَا.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ -وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ -وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مَعْنٍ وَبِشْرِ بْنِ عُمَر، ثَمَانِيَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ، بِهِ (5) .
وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ: " ن " مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ أَعْيُنِ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا، وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) }
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (7859) .
(2) في م: "فتعوذوا".
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (7845) .
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (7854) .
(5) الموطأ (2/942) وصحيح البخاري برقم (5016) وصحيح مسلم برقم (3902) وسنن أبي داود برقم (3902) وسنن النسائي الكبرى برقم (7549،7544،10847) وسنن ابن ماجة برقم (3529) .(8/534)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: الْفَلَقُ: الصُّبْحُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {الْفَلَقِ} الصُّبْحُ. ورُوي عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، وَالْحُسْنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَمَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، مِثْلَ هَذَا.
قَالَ الْقُرَظِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ: وَهِيَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالِقُ الإصْبَاحِ} [الْأَنْعَامِ: 96] .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {الْفَلَقِ} الْخَلْقِ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَتَعَوَّذَ مِنَ الْخَلْقِ كُلِّهِ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: {الْفَلَقِ} بَيْتٌ فِي جَهَنَّمَ، إِذَا فُتِحَ صَاحَ جَمِيعُ أَهْلِ النَّارِ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ آبَائِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: {الْفَلَقِ} جُبٌّ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، عَلَيْهِ غِطَاءٌ، فَإِذَا كُشِفَ عَنْهُ خَرَجَتْ منا (1) نَارٌ تَصِيحُ مِنْهُ جَهَنَّمُ، مِنْ شِدَّةِ حَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ.
وَكَذَا رُوي عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ (2) وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حديثٌ مَرْفُوعٌ مُنْكَرٌ، فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بن موسى بن مشكان الواسطي، حدثنا نصر بْنُ خُزَيْمَةَ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {الْفَلَقِ} جُبّ فِي جَهَنَّمَ مُغَطَّى" (3) إِسْنَادُهُ (4) غَرِيبٌ وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيُّ: {الْفَلَقِ} مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، أَنَّهُ فَلَقُ الصُّبْحِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي صَحِيحِهِ (5) .
وَقَوْلُهُ: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} أَيْ: مِنْ شَرِّ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: جَهَنَّمُ وَإِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ مِمَّا خَلَقَ.
{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: غاسقُ الليلُ إِذَا وقبَ غُروبُ الشَّمْسِ. حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْهُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وخُصَيف، وَالْحُسْنُ، وقتادة: إنه الليل إذا أقبل بظلامه.
__________
(1) في م، أ: "خرجت منه".
(2) في أ: "عنبسة".
(3) تفسير الطبري (30/225) .
(4) في م: "إسناد".
(5) تفسير الطبري (30/225) وصحيح البخاري (8/741) "فتح".(8/535)
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ. وَعَنْ عَطِيَّةَ وَقَتَادَةَ: إِذَا وَقَبَ اللَّيْلُ: إِذَا ذَهَبَ. وَقَالَ أَبُو الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} كَوْكَبٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ: الْغَاسِقُ سُقُوطُ الثُّرَيَّا، وَكَانَ (1) الْأَسْقَامُ وَالطَّوَاعِينُ تَكْثُرُ عِنْدَ وُقُوعِهَا، وَتَرْتَفِعُ عِنْدَ طُلُوعِهَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلِهَؤُلَاءِ مِنَ الْأَثَرِ مَا حَدَّثَنِي: نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -ابْنُ أَخِي هَمَّامٍ -حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قَالَ: النَّجْمُ الْغَاسِقُ" (2) .
قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْقَمَرُ.
قُلْتُ: وَعُمْدَةُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الحَفري، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي، فَأَرَانِي الْقَمَرَ حِينَ يَطْلُعُ، وَقَالَ: "تَعوَّذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الْغَاسِقِ إِذَا وَقَبَ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، فِي كِتَابَيِ التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنَيْهِمَا، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ خَالِهِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بِهِ (3) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلَفَظُهُ: "تَعَوَّذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ". وَلَفَظُ النَّسَائِيِّ: "تعوَّذي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، هَذَا الْغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ".
قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ اللَّيْلُ إِذَا وَلَجَ -: هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَنَا؛ لِأَنَّ الْقَمَرَ آيةُ اللَّيْلِ، وَلَا يُوجَدُ لَهُ سُلْطَانٌ إِلَّا فِيهِ، وَكَذَلِكَ النُّجُومُ لَا تُضِيءُ، إِلَّا فِي اللَّيْلِ، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحُسْنُ، وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي: السَّوَاحِرَ -قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا رَقَيْنَ وَنَفَثْنَ فِي الْعُقْدِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ أَقْرَبُ مِنَ (4) الشِّرْكِ مِنْ رُقْيَةِ الْحَيَّةِ وَالْمَجَانِينِ (5) .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اشْتَكَيْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ". فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ أرْقِيك، مِنْ كُلِّ دَاءٍ يُؤْذِيكَ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ وعين، الله يشفيك (6) .
__________
(1) في م: "وكانت".
(2) تفسير الطبري (30/227) .
(3) المسند (6/61) وسنن الترمذي برقم (3366) وسنن النسائي الكبرى برقم (10138) .
(4) في أ: "إلى".
(5) تفسير الطبري (30/227) .
(6) رواه مسلم في صحيحه برقم (2186) من حديث أبي سعيد، رضي الله عنه.(8/536)
وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ مِنْ شَكْوَاهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ سُحِرَ، ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَشَفَاهُ، وَرَدَّ كَيْدَ السحرَة الحسَّاد مِنَ الْيَهُودِ فِي رُءُوسِهِمْ، وَجَعَلَ تَدْمِيرَهُمْ فِي تَدْبِيرِهِمْ، وَفَضَحَهُمْ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يُعَاتِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، بَلْ كَفَى اللَّهُ وَشَفَى وَعَافَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّان، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلٌ مَنْ الْيَهُودِ، فَاشْتَكَى لِذَلِكَ أَيَّامًا، قَالَ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ سَحَرَكَ، عَقْدَ لَكَ عُقَدًا فِي بِئْرِ كَذَا وَكَذَا، فَأرْسِل إِلَيْهَا مَنْ يَجِيءُ بِهَا. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ] (1) فَاسْتَخْرَجَهَا، فَجَاءَ بِهَا فَحَلَّلَهَا (2) قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا نَشط مِنْ عِقَالٍ، فَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِيِّ وَلَا رَآهُ فِي وَجْهِهِ [قَطُّ] (3) حَتَّى مَاتَ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ هَنَّاد، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدِ بْنِ حَازم الضَّرِيرِ (4) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي "كِتَابِ الطِّبِّ" مِنْ صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابنُ جُرَيْج، يَقُولُ: حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَة، عَنْ عُرْوَةَ، فَسَأَلْتُ هِشَامًا عَنْهُ، فحدثَنا عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحر، حَتَّى كَانَ يُرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ -قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ، إِذَا كَانَ كَذَا -فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، أَعْلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا استفتيتُه فِيهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيِّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلْآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّه؟ قَالَ: لَبيد بْنُ أَعْصَمَ -رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيق حَليف ليهُودَ، كَانَ مُنَافِقًا-وَقَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشط ومُشاقة. قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُف طَلْعَة ذَكَرٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَان". قَالَتْ: فَأَتَى [النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (5) الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ فَقَالَ: "هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعة الحنَّاء، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ". قَالَ: فَاسْتَخْرَجَ (6) . [قَالَتْ] (7) . فَقُلْتُ: أَفَلَا؟ أَيْ: تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ: "أمَّا اللهُ فَقَدْ شَفَانِي، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا" (8) .
وَأَسْنَدَهُ مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، وَأَبِي ضَمْرة أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، وَأَبِي أُسَامَةُ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ وَفِيهِ: "قَالَتْ: حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ". وَعِنْدَهُ: "فَأَمَرَ بِالْبِئْرِ فَدُفِنَتْ". وَذَكَرَ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ أَيْضًا ابْنُ أَبِي الزَّناد وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ (9) .
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ وَعَبْدِ الله بن نمير. ورواه أحمد، عن
__________
(1) زيادة من المسند.
(2) في م: "فحلها".
(3) زيادة من المسند.
(4) المسند (4/367) وسنن النسائي (7/112) .
(5) زيادة من صحيح البخاري.
(6) في أ: "فاستخرجه".
(7) زيادة من صحيح البخاري.
(8) صحيح البخاري برقم (5765) .
(9) صحيح البخاري برقم (5863، 6391، 5766) .(8/537)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)
عَفَّانَ، عَنْ وُهَيب (1) عَنْ هِشَامٍ، بِهِ (2) .
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ رَبَاحٍ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ هشَام، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يُرى أَنَّهُ يَأْتِي وَلَا يَأْتِي، فَأَتَاهُ مَلَكَانِ، فَجَلَسَ أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: مَا بَالُهُ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ (3) .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْمُفَسِّرُ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ غُلَامٌ مِنَ الْيَهُودِ يَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدبَّت إِلَيْهِ الْيَهُودُ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخَذَ مُشَاطة رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِدَّةَ أَسْنَانٍ مِنْ مُشطه، فَأَعْطَاهَا الْيَهُودَ، فَسَحَرُوهُ فِيهَا. وَكَانَ الَّذِي تُوَلَّى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْهُمْ -يُقَالُ لَهُ: [لَبِيَدُ] (4) بْنُ أَعْصَمَ-ثُمَّ دَسَّهَا فِي بِئْرٍ لِبَنِي زُرَيق، وَيُقَالُ لَهَا: ذَرْوان، فَمَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَثَرَ شَعْرُ رَأْسِهِ، وَلَبِثَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يُرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ، وَجَعَلَ يَذُوب وَلَا يَدْرِي مَا عَرَاهُ. فَبَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ إِذْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَقَعَد أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِهِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: طُبَ. قَالَ: وَمَا طُبَ؟ قَالَ: سُحِرَ. قَالَ: وَمَنْ سَحَرَهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ الْيَهُودِيُّ. قَالَ: وَبِمَ طَبَه؟ قَالَ: بِمُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ. قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي جُفَ طَلْعَةٍ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَان -وَالْجُفُّ: قِشْرُ الطَّلْعِ، وَالرَّاعُوفَةُ: حَجَرٌ فِي أَسْفَلِ الْبِئْرِ نَاتِئٌ يَقُومُ عَلَيْهِ الْمَاتِحُ -فَانْتَبَهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَذْعُورًا، وَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، أَمَا شَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَنِي بِدَائِي؟ ". ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَنَزَحُوا مَاءَ الْبِئْرِ كَأَنَّهُ نُقاعة الْحِنَّاءِ، ثُمَّ رَفَعُوا الصَّخْرَةَ، وَأَخْرَجُوا الْجُفَّ، فَإِذَا فِيهِ مُشَاطَةُ رَأْسِهِ وَأَسْنَانٌ مِنْ مُشْطِهِ، وَإِذَا فِيهِ وَتَرٌ مَعْقُودٌ، فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ (5) عُقْدَةً مَغْرُوزَةً بِالْإِبَرِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى السُّورَتَيْنِ، فَجَعَلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِفَّةً حِينَ انْحَلَّتِ الْعُقْدَةُ الْأَخِيرَةُ، فَقَامَ كَأَنَّمَا نَشطَ مِنْ عِقَالٍ، وَجَعَلَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَقُولُ: بِاسْمِ اللَّهِ أرْقِيك، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ حَاسِدٍ وَعَيْنٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَأْخُذُ الْخَبِيثَ نَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما أَنَا فَقَدَ شَفَانِي اللَّهُ، وَأَكْرَهُ أَنْ يُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا" (6) .
هَكَذَا أَوْرَدَهُ بِلَا إِسْنَادٍ، وَفِيهِ غَرَابَةٌ، وَفِي بَعْضِهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ، وَلِبَعْضِهِ شواهد مما تقدم، والله أعلم.
سورة الناس
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ
__________
(1) في م: "وهب".
(2) صحيح مسلم برقم (2189) والمسند (6/96) .
(3) المسند (6/63) .
(4) زيادة من م، أ.
(5) في م، أ: "فيه اثنا عشر".
(6) الكشف والبيان للثعلبي "ق 194 المحمودية".(8/538)
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) }
هَذِهِ ثَلَاثُ صِفَاتٍ (1) مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ؛ الرُّبُوبِيَّةُ، وَالْمُلْكُ، وَالْإِلَهِيَّةُ: فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ، فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ مَخْلُوقَةٌ لَهُ، مَمْلُوكَةٌ عَبِيدٌ لَهُ، فَأَمَرَ الْمُسْتَعِيذَ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِالْمُتَّصِفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ الْمُوَكَّلُ بِالْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا وَلَهُ قَرِينٌ يُزَين لَهُ الْفَوَاحِشَ، وَلَا يَأْلُوهُ جُهْدًا فِي الْخَبَالِ. وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَم اللَّهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا قَدْ وُكِل بِهِ قَرِينَةٌ". قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ" (2) وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ زِيَارَةِ صَفِيَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكَفٌ، وَخُرُوجِهِ مَعَهَا لَيْلًا لِيَرُدَّهَا إِلَى مَنْزِلِهَا، فَلَقِيَهُ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيي". فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ (3) مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا، أَوْ قَالَ: شَرًّا" (4) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ، حَدَّثَنَا عِدِيُّ بْنُ أبي عمَارة، حدثنا زيادًا (5) النُّمَيْرِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ (6) عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنْ ذَكَرَ (7) خَنَس، وَإِنْ نَسِيَ (8) الْتَقَمَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ" (9) غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شعبة، عن عَاصِمٍ، سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدث عَنْ رَديف رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: عَثَر بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمارهُ، فَقُلْتُ: تَعِس الشَّيْطَانُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقُلْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ؛ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، تعاظَم، وَقَالَ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ، وَإِذَا قَلْتَ: بِسْمِ اللَّهِ، تَصَاغَرَ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الذُّبَابِ" (10) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، إِسْنَادُهُ (11) جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ مَتَى ذَكَرَ اللَّهَ تَصَاغَرَ الشَّيْطَانُ وغُلِب، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ اللَّهَ تَعَاظَمَ وَغَلَبَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي المسجد، جاءه الشيطان فأبس
__________
(1) في هـ: "صفة" والمثبت من م، أ.
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2814) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(3) في أ: "من الإنسان".
(4) صحيح مسلم برقم (2174) هو في صحيح البخاري برقم (2035،6219،7171) من حديث صفية، رضي الله عنها.
(5) في م: "زياد" وهو الصواب.
(6) في أ: "خرطومه".
(7) في أ: "ذكر الله".
(8) في أ: "نسى الله".
(9) مسند أبي يعلى (7/278،279) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/742) : "إسناده ضعيف"؛ وذلك لضعف زياد النميري والكلام في عدي بن أبي عمارة.
(10) المسند (5/59) .
(11) في م: "إسناد".(8/539)
بِهِ كَمَا يُبَس الرَّجُلُ بِدَابَّتِهِ، فَإِذَا سَكَنَ لَهُ زَنَقَهُ -أَوْ: أَلْجَمَهُ". قَالَ أَبُو هُرَيرة: وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ ذَلِكَ، أَمَّا الْمَزْنُوقُ فَتَرَاهُ مَائِلًا-كَذَا-لَا يَذْكُرُ اللَّهَ، وَأَمَّا الْمُلْجَمُ فَفَاتِحٌ فَاهُ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (1) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} قَالَ: الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، فَإِذَا سَهَا وَغَفَلَ وَسْوَسَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ خَنَس. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ: ذُكرَ لِي أَنَّ الشَّيْطَانَ، أَوِ: الْوَسْوَاسَ يَنْفُثُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ عِنْدَ الْحُزْنِ وَعِنْدَ الْفَرَحِ، فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهُ خَنَسَ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الْوَسْوَاس} قَالَ: هُوَ الشَّيْطَانُ يَأْمُرُ، فَإِذَا أُطِيعَ خَنَسَ.
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} هَلْ يَخْتَصُّ هَذَا بِبَنِي آدَمَ -كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ -أَوْ يَعُمُّ بَنِي آدَمَ وَالْجِنَّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَيَكُونُونَ قَدْ دَخَلُوا فِي لَفْظِ النَّاسِ تَغْلِيبًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدِ اسْتَعْمَلَ فِيهِمْ (رجَالٌ منَ الجنَ) فَلَا بِدَعَ فِي إِطْلَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} هَلْ هُوَ تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} ثُمَّ بَيَّنَهُمْ فَقَالَ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وَهَذَا يُقَوِّي الْقَوْلَ الثَّانِيَ. وَقِيلَ قَوْلُهُ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} تَفْسِيرٌ لِلَّذِي يُوسوس فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الْأَنْعَامِ: 112] ، وَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَر الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدِ بْنِ الْخَشْخَاشِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسْتُ، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ صَلَّيْتَ؟ ". قُلْتُ: لَا. قَالَ: "قُمْ فَصَلِّ". قَالَ: فَقُمْتُ فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ جَلَسْتُ فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَوَّذْ بِالْلَّهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ".
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصَّلَاةُ؟ قَالَ: "خَيْرُ مَوْضُوعٍ، مَنْ شَاءَ أَقَلَّ، وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الصَّوْمُ؟ قَالَ: "فَرْضٌ يُجْزِئُ، وَعِنْدَ اللَّهِ مَزِيدٌ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَالصَّدَقَةُ؟ قَالَ: "أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّهَا (2) أَفْضَلُ؟ قَالَ: "جُهد مِنْ مُقل، أَوْ سِرٌّ إِلَى فَقِيرٍ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلَ؟ قَالَ: "آدَمُ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَنَبِيٌّ (3) كَانَ؟ قَالَ: "نَعِمَ، نَبِيٌّ مُكَلَّم". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ الْمُرْسَلُونَ؟ قَالَ: "ثَلَثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشْرَ، جَمًّا غَفيرًا". وَقَالَ مَرَّةً: "خَمْسَةَ عَشْرَ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ أعظم؟
__________
(1) المسند (2/230) ، وقال الهيثمي في المجمع (1/242) : "رجاله رجال الصحيح".
(2) في م: "فأيها".
(3) في م: "ونبيا".(8/540)
قَالَ: "آيَةُ الْكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُمَرَ الدِّمَشْقِيِّ، بِهِ (1) . وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا جِدًّا أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَلَفْظٍ آخَرَ مُطَوَّلٍ جِدًّا (2) فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ ذَرِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الهَمْداني، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُحَدِّثُ (3) نَفْسِي بِالشَّيْءِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورٍ -زَادَ النَّسَائِيُّ: وَالْأَعْمَشُ -كِلَاهُمَا عَنْ ذَرٍّ، بِهِ (4) .
آخِرُ التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (5) . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ (6) . وَرَضِيَ اللَّهُ عَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ (7) . حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ فِي الْعَاشِرِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِينَ. وَالْحَمْدُ لَهُ وَحْدَهُ (8) .
__________
(1) المسند (5/178) وسنن النسائي (8/275) .
(2) صحيح ابن حبان برقم (94) "موارد"، (1/287) "الإحسان" من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني، عن أبيه عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانَيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رضي الله عنه، وقد قال ابن عدي عن هذا الحديث: "هذا الحديث منكر من هذا الطريق".
(3) في م: "لأحدث".
(4) المسند (1/235) وسنن أبي داود برقم (5112) وسنن النسائي الكبرى برقم (10503) .
(5) في أ: "والحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى".
(6) في أ: "وسلم تسليما أبدا دائما إلى يوم الدين".
(7) في أ: "ورضي الله عن أصحاب رسول الله".
(8) في م: "آخر التفسير ويليه فضائل القرآن للمؤلف أيضا، وبه يتم الكتاب إن شاء الله، ولله الحمد والمنة على التمام، إنه ولي الإنعام".
وقد جاء في خاتمة النسخة "هـ" هذه الخاتمة للناسخ:
"الحمد لله الذي رفع السماء بغير عماد، وبسط الأرض وثبتها بالأطواد، ومنح معرفته ومحبته من شاء من العباد، وأقام لدينه أولياء ينصرونه ويقومون به، وجعل منهم النجباء والأقطاب والأوتاد، وأعلى منار الدين بالعلماء العاملين، وأوضح بهم طرق الرشاد، وقمع بهم أهل الزيغ والأهواء والبدع والفساد، وثبت لهم دينهم بالنقل عن نبيهم بصحيح الإسناد، ونفى عنهم التدليس والشذوذ والانفراد.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، المتعالي عن الشركاء والنظراء والأنداد، المنزه عن الحلول والاتحاد والإلحاد.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، سيد العباد، صلى الله عليه وعلى آله النجباء الأنجاد، وصحابته السادة الأبرار الأمجاد، صلاة تدوم وتقوم ما قامت السموات والأرض بأمره، وقابل البياض السواد.
وبعد، فقد أمرني السيد الجليل، من وصل الله له جناح الصنيع الجميل، وواصل عليه السول، وأوصل إليه المأمول، وعمر بحبه ربوع أنسي، وأمطر بفيضه ربيع نفسي، مولانا وسيدنا العبد الفقير إلى الله سبحانه الآمل الراجي عفوه الكريم وإحسانه، قاضي القضاة، حاكم الحكام، نجم الدين حجة الإسلام والمسلمين، سيد العلماء في العالمين، بهاء الملة، لسان الشريعة، عز السنة، حصن الأمة، خطيب الخطباء، إمام البلغاء، غرة الزمان، ناصر الإيمان شيخ شيوخ العارفين، أبو حفص عمر - ابن سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى - الشيخ الإمام العلامة، والحبر الفهامة، قدوة العلماء العاملين، أبي محمد حجي السعدي الشافعي - أمر - أعلى الله أمره، وأسد قدره، من لا يتقلب إلا في طاعته، ولا يتصرف إلا في مرضاته - أن يكتب برسم خزانة تفسير الإمام العالم الكبير، العلامة عماد الدين ابن كثير - رحمه الله وأرضاه، وجعل بحبوحة الجنة مقره ومثواه. فامتثلت أمره بالسمع والطاعة، وعددت هذا الأمر من أنفس البضاعة، مع أني في الكتابة قليل الصناعة. فكتبت قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه. فإن صادفت قبولا وبلغت مأمولا، فيكون سعدي سعيدا، ويقع سهمي سديدا.. فإن وقفت بي قدرتي دون همتي ... فمبلغ علمي والمعاذير تقبل
قد جمعت هذه الخزانة الشريفة أشتات العلوم على الإطلاق، من رام مثلها فهو مقصر عن روم أسباب اللحاق، خصوصا إذا كان بها هذا التفسير الذي مادته سنن المصطفى المنبه على جوامع ما يزداد اللبيب بها بصيرة في علمه النافع، إذ كان صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلام، وعلم فصل الخطاب. فلم يسمع الناس كلاما أعم نفعا، ولا أقصر لفظا، ولا أعدل وفرا، ولا أجمل مذهبا، ولا أكرم مطلبا، ولا أحسن موقعا، ولا أسهل مخرجا. ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه صلى الله عليه وسلم.
فلله در مولانا؛ إذا جمع الفضائل، ونظم آحاد العقائل، وحاز من العلم الذري والغوارب. فلا يخفى على ذي لب أنه أغرق في الفهم فصولا، وأعرق في العلم أصولا، فأقول مختصرا، وعما يليق بمدحه معتذرا، عسى يمر به من تضاعيف ثنائي عليه ما يبلغني به الزلفى في حبه، والقربى من قلبه، وتلك أمنيتي حين ألقى منيتي، لا أتعداها، ولا أتمنى سواها ولله در القائل: إذا ابن حجي حادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر
وإن أضاءت لنا أنوار غرته ... تضاءل الأنوران الشمس والقمر
وإن مضى رأيه أو جد عزمته ... تأخر الماضيان السيف والقدر
من لم يبت حذرا من خوف سطوته ... لم يدر ما المزعجان: الخوف والحذر?
كأنه الدهر في نعمي وفي نقم ... إذا تعاقب منه النفع والضرر
كأنه وزمام الدهر في يده ... يدا عواقب ما يأتي وما يذر
فالحمد لله الذي جعل جمال منظرك موازيا لكمال مخبرك، وشامخ فرعك مقارنا لراسخ عنصرك، والله حسبي فيك من كل ما يعوذ العبد به المولى: واسلم وعش لا زلت في نعمة ... أنت بها من غيرك الأولى
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه الفقير محمد بن علي الصوفي البواب، لمنعاه التضائية، بدمشق المحروسة، حامدا ومصليا، ومحسبلا ومحوقلا، والحمد لله وحده".
يقول الفقير إلى عفو ربه سامي بن محمد بن عبد الرحمن بن سلامة: وكان الانتهاء من تحقيق تفسير القرآن العظيم فجر يوم الأربعاء الثاني من شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية في مدينة الرياض، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(8/541)