وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا، {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ: فِي الْآخِرَةِ (1) .
ثُمَّ قَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: فِي مُخَالَطَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَمُعَاشَرَتِهِمْ لَهُمْ، أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي عَنْهُمْ شَيْئًا وَلَا يَنْفَعُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، إِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ حَاصِلًا فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ فَقَالَ: {اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أَيْ: نَبِيَّيْنِ رَسُولَيْنِ عِنْدَهُمَا فِي صُحْبَتِهَا (2) لَيْلًا وَنَهَارًا يُؤَاكِلَانِهِمَا وَيُضَاجِعَانِهِمَا وَيُعَاشِرَانِهِمَا أَشَدَّ الْعِشْرَةِ وَالِاخْتِلَاطِ {فَخَانَتَاهُمَا} أَيْ: فِي الْإِيمَانِ، لَمْ يُوَافِقَاهُمَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَا صَدَّقَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ، فَلَمْ يُجْد ذَلِكَ كلَه شَيْئًا، وَلَا دَفَعَ عَنْهُمَا مَحْذُورًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أَيْ: لِكُفْرِهِمَا، {وَقِيلَ} أَيْ: لِلْمَرْأَتَيْنِ: {ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ: {فَخَانَتَاهُمَا} فِي فَاحِشَةٍ، بَلْ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ نِسَاءَ الْأَنْبِيَاءِ معصوماتٌ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْفَاحِشَةِ؛ لِحُرْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النُّورِ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّةَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {فَخَانَتَاهُمَا} قَالَ: مَا زَنَتَا، أَمَّا امْرَأَةُ نُوحٍ فَكَانَتْ تُخْبِرُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، وَأَمَّا خِيَانَةُ امْرَأَةِ لُوطٍ فَكَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهَا عَلَى أَضْيَافِهِ.
وَقَالَ العَوفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا أَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى عَورتيهما فَكَانَتِ امْرَأَةُ نُوح تَطَلع عَلَى سِرِّ نُوح، فَإِذَا آمَنَ مَعَ نُوحٍ أَحَدٌ أَخْبَرَتِ الْجَبَابِرَةَ مَنْ قَوْمِ نُوحٍ بِهِ، وَأَمَّا امْرَأَةُ لُوطٍ فَكَانَتْ إِذَا أَضَافَ لُوطٌ أَحَدًا أَخْبَرَتْ بِهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِمَّنْ يَعْمَلُ السُّوءَ.
وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ.
[وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، إِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا فِي الدِّينِ] (3) .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بعضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الَّذِي يأثرُه كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: مَنْ أَكَلَ مَعَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا يُرْوَى هَذَا عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ قُلْتَ: مَنْ أَكَلَ مَعَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ؟ قَالَ: "لَا وَلَكِنِّي الْآنَ أَقُولُهُ" (4) .
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) }
__________
(1) في م: " في الأخرى".
(2) في م: "في صحبتاهما".
(3) زيادة من م.
(4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا ليس له إسناد عند أهل العلم ولا هو في شيء من كتب المسلمين، وإنما يروونه عن سنان، وليس معناه صحيحًا على الإطلاق، فقد يأكل مع المسلمين الكفار والمنافقون" أ. هـ نقله الألباني في الضعيفة (1/326) وذكره الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص 140) وقال: "موضوع، وغاية ما روي فيه أنه منام رآه بعض الناس".(8/171)
وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ لَا تَضُرُّهُمْ مُخَالَطَةُ الْكَافِرِينَ إِذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آلِ عِمْرَانَ: 28] .
قَالَ: قَتَادَةُ كَانَ فِرْعَوْنُ أَعْتَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَأَبْعَدَهُ فَوَاللَّهِ مَا ضَرَّ امْرَأَتَهُ كُفر زَوْجِهَا حِينَ أَطَاعَتْ رَبَّهَا لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ حَكَمٌ عَدْلٌ، لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا إِلَّا بِذَنْبِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَفْصٍ الأبُليّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ (1) عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّب فِي الشَّمْسِ، فَإِذَا انْصَرَفَ عَنْهَا أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، وَكَانَتْ تَرَى بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، بِهِ (2) .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائي، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّة قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تَسْأَلُ: مَنْ غَلَبَ؟ فَيُقَالُ: غَلَبَ مُوسَى وَهَارُونُ. فَتَقُولُ: آمَنْتُ بِرَبِّ موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون فقالت: انْظُرُوا أَعْظَمَ صَخْرَةٍ تَجِدُونَهَا، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى قَوْلِهَا فَأَلْقُوهَا عَلَيْهَا، وَإِنْ رَجَعَتْ عَنْ قَوْلِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا أَتَوْهَا رَفَعَتْ بَصَرَهَا إِلَى السَّمَاءِ فَأَبْصَرَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ، فَمَضَتْ عَلَى قَوْلِهَا، وَانْتُزِعَ رُوحُهَا، وَأُلْقِيَتِ الصَّخْرَةُ عَلَى جَسَدٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ (3) .
فَقَوْلُهَا: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} قَالَ الْعُلَمَاءُ: اخْتَارَتِ الْجَارَ قَبْلَ الدَّارِ. وَقَدْ وَرَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أَيْ: خَلِّصْنِي مِنْهُ، فَإِنِّي أَبْرَأُ [إِلَيْكَ] (4) مِنْ عَمَلِهِ، {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ إيمانُ امْرَأَةِ فرعونَ مِنْ قَبْلِ إِيمَانِ امْرَأَةِ خَازِنِ فِرْعَوْنَ، وَذَلِكَ أَنَّهَا جَلَسَتْ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ، فَوَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا، فَقَالَتْ تَعِسَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ؟ فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: وَلَكِ رَبٌّ غَيْرُ أَبِي؟ قَالَتْ: رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ اللهُ. فَلَطَمَتْهَا بنتُ فرعونَ وَضَرَبَتْهَا، وَأَخْبَرْتَ أَبَاهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فِرْعَوْنُ فَقَالَ: تَعْبُدِينَ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ اللَّهُ. وَإِيَّاهُ أَعْبُدُ فَعَذَّبَهَا فِرْعَوْنُ وَأَوْتَدَ لَهَا أَوْتَادًا فَشَدَّ رِجْلَيْهَا وَيَدَيْهَا وَأَرْسَلَ عَلَيْهَا الْحَيَّاتِ، وَكَانَتْ كَذَلِكَ، فَأَتَى عَلَيْهَا يَوْمًا فَقَالَ لَهَا: مَا أَنْتِ مُنْتَهِيَةٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ: رَبِّي وَرَبُّكَ وربُ كُلِّ شَيْءٍ اللَّهُ. فَقَالَ لَهَا: إِنِّي ذَابِحٌ ابْنَكِ فِي فِيكِ إِنْ لَمْ تَفْعَلِي. فَقَالَتْ لَهُ: اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ. فَذَبَحَ ابْنَهَا فِي فِيهَا، وَإِنَّ رُوحَ ابْنِهَا بَشَّرَهَا، فَقَالَ لَهَا: أَبْشِرِي يَا أُمَّهْ، فَإِنَّ لَكِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ كَذَا وَكَذَا. فَصَبَرَتْ ثُمَّ أَتَى [عَلَيْهَا] (5) فرعون يومًا آخر فقال لها
__________
(1) في أ: "الترمذي".
(2) تفسير الطبري (28/110) .
(3) تفسير الطبري (28/110) .
(4) زيادة من م، أ.
(5) زيادة من م.(8/172)
مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ، مِثْلَ ذَلِكَ، فَذَبَحَ ابْنَهَا الْآخَرَ فِي فِيهَا، فَبَشَّرَهَا رُوحُهُ أَيْضًا، وَقَالَ لَهَا. اصْبِرِي يَا أُمَّهْ فَإِنَّ لَكِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَسَمِعَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ كلامَ رُوحِ ابْنِهَا الْأَكْبَرِ ثُمَّ الْأَصْغَرِ، فَآمَنَتِ امرأةُ فرعونَ، وَقَبَضَ اللَّهُ رُوحَ امْرَأَةِ خَازِنِ فِرْعَوْنَ، وَكَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ ثَوْبِهَا وَمَنْزِلَتِهَا وَكَرَامَتِهَا فِي الْجَنَّةِ لِامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ حَتَّى رَأَتْ فَازْدَادَتْ إِيمَانًا وَيَقِينًا وَتَصْدِيقًا، فاطَّلع فِرْعَوْنُ عَلَى إِيمَانِهَا، فَقَالَ لِلْمَلَإِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ؟ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهَا تَعْبُدُ غَيْرِي. فَقَالُوا لَهُ: اقْتُلْهَا. فَأَوْتَدَ لَهَا أَوْتَادًا فَشَدَّ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، فَدَعَتْ آسِيَةُ رَبَّهَا فَقَالَتْ: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فَوَافَقَ ذَلِكَ أَنْ حَضَرَهَا، فِرْعَوْنُ فَضَحِكَتْ حِينَ رَأَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ جُنُونِهَا، إِنَّا نُعَذِّبُهَا وَهِيَ تَضْحَكُ، فَقَبَضَ اللَّهُ رُوحَهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (1) .
وَقَوْلُهُ: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أَيْ حَفِظَتْهُ وَصَانَتْهُ. وَالْإِحْصَانُ: هُوَ الْعَفَافُ وَالْحُرِّيَّةُ، {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} أَيْ: بِوَاسِطَةِ المَلَك، وَهُوَ جِبْرِيلُ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ إِلَيْهَا فَتَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ بَشَرٍ سَوي، وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَنْفُخَ بِفِيهِ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ فَوَلَجَتْ فِي فَرْجِهَا، فَكَانَ مِنْهُ الْحَمْلُ بِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلِهَذَا قَالَ: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} أَيْ: بِقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عِلْباء، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ، وَقَالَ: "أَتُدْرُونَ مَا هَذَا؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ" (2) .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَة، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيلد، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ" (3) .
وَقَدْ ذَكَرْنَا طُرُقَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَلْفَاظَهَا وَالْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي قِصَّةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فِي كِتَابِنَا "الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ (4) وَذَكَرْنَا مَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهَا تَكُونُ هِيَ وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، في الجنة عند قوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}
__________
(1) رواه الطبرى في تفسيره (28/10) .
(2) المسند (1/293) وقال الهيثمي في المجمع (9/223) : "رجاله رجال الصحيح".
(3) صحيح البخاري برقم (5418) وصحيح مسلم برقم (2431) .
(4) البداية والنهاية (2/55 - 85) .(8/173)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُلْكِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَابْنُ جَعْفَرٍ قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبَّاسٍ الجُشَمي، عَنْ أَبِي هُرَيرة، عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ سُورَةً فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثِينَ آيَةً شَفَعت لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفر لَهُ: " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ".
وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، بِهِ (1) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ، مِنْ طَرِيقِ سَلام بْنِ مِسْكِينٍ (2) عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سورة فِي الْقُرْآنِ خَاصَمت عَنْ صَاحِبِهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ: " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " (3) .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنِ مَالِكٍ النُكري، عَنِ أَبِيهِ، عَنِ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَرَبَ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ، وَهُوَ لَا يَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرُ إِنْسَانٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا، فَأَتَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ وَأَنَا لَا أَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْمُلْكِ " تَبَارَكَ " حَتَّى خَتَمَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هِيَ الْمَانِعَةُ، هِيَ الْمُنْجِيَةُ، تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" (4) ثُمَّ قَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ثُمَّ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ " الم تَنزيلُ " [سُورَةَ السَّجْدَةِ] ، وَ " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ". وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ طَاوُسٍ: يَفْضُلَانِ كُلَّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ بِسَبْعِينَ حَسَنَةً (5) .
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَجْلَانَ (6) الْأَصْبَهَانِيِّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوَدِدْتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي" يَعْنِي: " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " (7) .
__________
(1) المسند (2/321) وسنن أبي داود برقم (1400) وسنن الترمذي برقم (2891) وسنن النسائي الكبرى برقم (11612) وسنن ابن ماجة برقم (3786) .
(2) في أ: "سليمان".
(3) المعجم الصغير للطبراني (1/176) والمختارة للضياء المقدس برقم (1738، 1739) .
(4) سنن الترمذي برقم (2890) وفي إسناده يحيى النكري ضعيف وذكر الذهبي هذا الحديث من مناكيره في الميزان.
(5) سنن الترمذي برقم (2892) .
(6) في م، أ، هـ: "محمد بن الحسن بن علاف" وهو خطأ والمثبت من المعجم الكبير للطبراني ومن تاريخ أصبهان.
(7) المعجم الكبير (11/242) ورواه الحاكم في المستدرك (1/565) من طريق حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ به، وقال الحاكم: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي بقوله: "فيه حفص العدني وهو واه".(8/174)
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِبْرَاهِيمُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي سُورَةِ "يس" وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ بْنُ حُمَيد فِي مَسْنَدِهِ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا، فَقَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: أَلَا أُتْحِفُكَ بِحَدِيثٍ تَفْرَحُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ اقْرَأْ: " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ " وَعَلِّمْهَا أَهْلَكَ وَجَمِيعَ وَلَدِكَ وَصِبْيَانَ بَيْتِكَ وَجِيرَانَكَ، فَإِنَّهَا الْمُنْجِيَةُ وَالْمُجَادِلَةُ، تُجَادِلُ -أَوْ تُخَاصِمُ-يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّهَا لِقَارِئِهَا، وَتَطْلُبُ لَهُ أَنْ [يُنْجِيَهُ] (1) مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَيُنْجِي بِهَا صَاحِبَهَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لوددتُ أَنَّهَا فِي قَلْبِ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ أُمَّتِي" (2) .
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرِ بْنِ زِيَادٍ، أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ النَّيْسَابُورِيِّ الْمُقْرِئِ الزَّاهِدِ الْفَقِيهِ، أَحَدِ الثِّقَاتِ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَلَكِنْ فِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ. وَعَلَيْهِ تَفَقَّهَ فِي مَذْهَبِ أَبِي عُبَيد بْنِ حَرْبَويه، وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، سَاقَ بِسَنَدِهِ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ فُرَاتِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مَاتَ، وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا " تَبَارَكَ "، فَلَمَّا وُضِعَ فِي حُفْرَتِهِ أَتَاهُ المَلَك فَثَارَتِ السُّورَةُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّكِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَكِ، وَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ وَلَا لَهُ وَلَا لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَإِنْ أَرَدْتِ هَذَا بِهِ فَانْطَلِقِي إِلَى الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَاشْفَعِي لَهُ. فَتَنْطَلِقُ إِلَى الرَّبِّ فَتَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ فُلَانًا عَمَد إليَّ مِنْ بَيْنِ كِتَابِكَ فتَعَلَّمني وَتَلَانِي أَفَتُحَرِّقُهُ (3) أَنْتَ بِالنَّارِ وَتُعَذِّبُهُ وَأَنَا فِي جَوْفِهِ؟ فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا ذَاكَ بِهِ فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ. فَيَقُولُ: أَلَا أَرَاكِ غَضِبْتِ؟ فَتَقُولُ: وحُقّ لِي أَنْ أَغْضَبَ. فَيَقُولُ: اذْهَبِي فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَكِ، وشَفّعتك فِيهِ. قَالَ: فَتَجِيءُ فَيَخْرُجُ الْمَلَكُ، فَيَخْرُجُ كَاسِفَ الْبَالِ لَمْ يَحْلَ مِنْهُ بِشَيْءٍ. قَالَ: فَتَجِيءُ فَتَضَعُ فَاهَا عَلَى فِيهِ، فَتَقُولُ مَرْحَبًا بِهَذَا الْفَمِ، فَرُبَّمَا تَلَانِي، وَمَرْحَبًا بِهَذَا الصَّدْرِ، فَرُبَّمَا وَعَانِي، وَمَرْحَبًا بِهَاتَيْنِ الْقَدَمَيْنِ، فَرُبَّمَا قَامَتَا بِي. وَتُؤْنِسُهُ فِي قَبْرِهِ مَخَافَةَ الْوَحْشَةِ عَلَيْهِ". قَالَ: فَلَمَّا حَدّث بِهَذَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْقَ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ وَلَا حُرّ وَلَا عَبْدٌ، إِلَّا تَعَلَّمَهَا، وَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْجِيَةَ (4) .
قُلْتُ: وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَفُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ هَذَا ضَعَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، مِنْ قَوْلِهِ مُخْتَصَرًا. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ "إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ" عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا مَا يَشْهَدُ لِهَذَا (5) وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ من الأحكام الكبرى، ولله الحمد (6) .
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) ذكره البوصيري في إتحاف المهرة (ق 214 سليمانية) من مسند عبد بن حميد.
(3) في أ: "أفتجزيه".
(4) تاريخ دمشق (2/256 "المخطوط") .
(5) إثبات عذاب القبر للبيهقي برقم (99) وقد فصل الكلام عليه الفاضل محمد طرهوني في موسوعة فضائل القرآن (2/193) .
(6) في أ: "ولله الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل".(8/175)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) }
يُمَجِّدُ تَعَالَى نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ، وَيُخْبِرُ أَنَّهُ بِيَدِهِ الْمُلْكُ، أَيْ: هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ بِمَا يَشَاءُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لِقَهْرِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ. وَلِهَذَا قَالَ: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
ثُمَّ قَالَ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَوْتَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ أَوْجَدَ الْخَلَائِقَ مِنَ الْعَدَمِ، لِيَبْلُوَهُمْ وَيَخْتَبِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؟ كَمَا قَالَ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 28] فَسَمَّى الْحَالَ الْأَوَّلَ -وَهُوَ الْعَدَمُ-مَوْتًا، وَسَمَّى هَذِهِ النَّشْأَةَ حَيَاةً. وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 28] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا خُلَيْد، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إِنَّ اللَّهَ أَذَلَّ بَنِي آدَمَ بِالْمَوْتِ، وَجَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ ثُمَّ دَارَ بَقَاءٍ".
وَرَوَاهُ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ (1) .
وَقَوْلُهُ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} أَيْ: خَيْرٌ عَمَلًا كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلان: وَلَمْ يَقُلْ أَكْثَرُ عَمَلًا.
ثُمَّ قَالَ: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} أَيْ: هُوَ الْعَزِيزُ الْعَظِيمُ الْمَنِيعُ الْجَنَابِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ غَفُورٌ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ، بَعْدَمَا عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى عَزِيزًا، هُوَ مَعَ ذَلِكَ يَغْفِرُ وَيَرْحَمُ وَيَصْفَحُ وَيَتَجَاوَزُ.
ثُمَّ قَالَ: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} أَيْ: طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، وَهَلْ هُنَّ مُتَوَاصِلَاتٌ بِمَعْنَى أَنَّهُنَّ عَلَوِيَّاتٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ مُتَفَاصِلَاتٌ بَيْنَهُنَّ خَلَاءٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا الثَّانِي، كَمَا دَلَّ على ذلك حديث الإسراء وغيره.
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (29/2) من طريق معمر، عن قتادة، ومن طريق سعيد، عن قتادة به مرسلاً.(8/176)
وَقَوْلُهُ: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} أَيْ: بَلْ هُوَ مُصْطَحِبٌ مُسْتَوٍ، لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَافُرٌ وَلَا مُخَالَفَةٌ، وَلَا نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ وَلَا خَلَلٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أي: انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَأَمَّلْهَا، هَلْ تَرَى فِيهَا عَيْبًا أَوْ نَقْصًا أَوْ خَلَلًا؛ أَوْ فُطُورًا؟.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أَيْ: شُقُوقٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أَيْ: مِنْ خُروق. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: {مِنْ فُطُورٍ} أَيْ: مِنْ وُهِيّ (1) وَقَالَ قَتَادَةُ: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أَيْ: هَلْ تَرَى خَلَلا يَا ابْنَ آدَمَ؟.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} قَالَ: مَرَّتَيْنِ. {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَلِيلًا؟ وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ: صَاغِرًا.
{وَهُوَ حَسِيرٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: وَهُوَ كَلِيلٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: الْحَسِيرُ: الْمُنْقَطِعُ مِنَ الْإِعْيَاءِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّكَ لَوْ كَرَّرْتَ الْبَصَرَ، مَهْمَا كَرَّرْتَ، لَانْقَلَبَ إِلَيْكَ، أَيْ: لَرَجَعَ إِلَيْكَ الْبَصَرُ، {خَاسِئًا} عَنْ أَنْ يَرَى عَيْبًا أَوْ خَلَلًا {وَهُوَ حَسِيرٌ} أَيْ: كَلِيلٌ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ الْإِعْيَاءِ مِنْ كَثْرَةِ التَّكَرُّرِ، وَلَا يَرَى نَقْصًا.
وَلَمَّا نَفَى عَنْهَا فِي خَلْقِهَا النَّقْصَ بَيَّنَ كَمَالَهَا وَزِينَتَهَا فَقَالَ: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} وَهِيَ الْكَوَاكِبُ الَّتِي وُضِعَتْ فِيهَا مِنَ السَّيَّارَاتِ وَالثَّوَابِتِ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} عَادَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَاهَا} عَلَى جِنْسِ الْمَصَابِيحِ لَا عَلَى عَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْمِي بِالْكَوَاكِبِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ، بَلْ بِشُهُبٍ مِنْ دُونِهَا، وَقَدْ تَكُونُ مُسْتَمَدَّةً مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} أَيْ: جَعَلْنَا (2) لِلشَّيَاطِينِ هَذَا الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ فِي الْأُخْرَى، كَمَا قَالَ: فِي أَوَّلِ الصَّافَّاتِ: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصَّافَّاتِ: 6 -10] .
قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا خُلِقَتْ هَذِهِ النُّجُومُ لِثَلَاثِ خِصَالٍ: خَلَقَهَا اللَّهُ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ وَأَخْطَأَ حَظَّهُ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. رَوَاهُ ابْنُ جرير، وابن أبي حاتم.
__________
(1) في هـ، أ: "من وهاء" والمثبت من تفسير الطبري. مستفادا من هوامش ط. الشعب.
(2) في م: "أي: جعلناها".(8/177)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ (11) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَ} أَعْتَدْنَا {لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ: بِئْسَ الْمَآلُ وَالْمُنْقَلَبُ. {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي الصِّيَاحَ.
{وَهِيَ تَفُورُ} قَالَ الثَّوْرِيُّ: تَغْلِي بِهِمْ كَمَا يَغْلِي الحَبّ الْقَلِيلُ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ.
وَقَوْلُهُ: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} أَيْ: يَكَادُ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، مِنْ شِدَّةِ غَيْظِهَا عَلَيْهِمْ وَحَنَقِهَا بِهِمْ، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} يَذْكُرُ تَعَالَى عَدْلَهُ فِي خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الْإِسْرَاءِ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزُّمَرِ: 71] . وَهَكَذَا عَادُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ، وَنَدِمُوا حَيْثُ لَا تَنْفَعُهُمُ النَّدَامَةُ، فَقَالُوا: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أَيْ: لَوْ كَانَتْ لَنَا عُقُولٌ نَنْتَفِعُ بِهَا أَوْ نَسْمَعُ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنَ الْحَقِّ، لَمَا كُنَّا عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالِاغْتِرَارِ بِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا فَهْمٌ نَعِي بِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَا كَانَ لَنَا عَقْلٌ يُرْشِدُنَا إِلَى اتِّبَاعِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ}
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ أَبِي البَخْتَريّ الطَّائِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يُعذِروا مِنْ أَنْفُسِهِمْ" (1) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ النَّارَ، إِلَّا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ النَّارَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ" (2) .
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) }
__________
(1) المسند (4/260) .
(2) في المسند (2/541) من حديث أبي هريرة مرفوعا: "لا يدخل أحد النار إلا أرى مقعده من الجنة" وهو في الصحيح.(8/178)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) }(8/178)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّنْ يَخَافُ مَقَامَ رَبِّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِذَا كَانَ غَائِبًا عَنِ النَّاسِ، فَيَنْكَفُّ عَنِ الْمَعَاصِي وَيَقُومُ بِالطَّاعَاتِ، حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، بِأَنَّهُ لَهُ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، أَيْ: يُكَفِّرُ عَنْهُ ذُنُوبَهُ، وَيُجَازَى بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّهِ"، فَذَكَرَ مِنْهُمْ: "رَجُلًا دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلًا تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ" (1) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا طَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَكُونُ عِنْدَكَ عَلَى حَالٍ، فَإِذَا فَارَقْنَاكَ كُنَّا عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ: "كَيْفَ أَنْتُمْ وَرَبُّكُمْ؟ " قَالُوا: اللَّهُ رَبُّنَا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. قَالَ: "لَيْسَ ذَلِكُمُ النِّفَاقُ" (2) .
لَمْ يَرْوِهِ عَنْ ثَابِتٍ إِلَّا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيد فِيمَا نَعْلَمُهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالسَّرَائِرِ: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ: بِمَا خَطَرَ فِي الْقُلُوبِ.
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} ؟ أَيْ: أَلَا يَعْلَمُ الْخَالِقُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مَخْلُوقَهُ؟ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
ثُمَّ ذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى خَلْقِهِ فِي تَسْخِيرِهِ لَهُمُ الْأَرْضَ وَتَذْلِيلِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ، بِأَنْ جَعَلَهَا قَارَّةً سَاكِنَةً لَا تَمْتَدُّ (3) وَلَا تَضْطَرِبُ (4) بِمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ، وَأَنْبَعَ فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ، وَسَلَكَ فِيهَا مِنَ السُّبُلِ، وَهَيَّأَهَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَمَوَاضِعِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَقَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أَيْ: فَسَافِرُوا حَيْثُ شِئْتُمْ مِنْ أَقْطَارِهَا، وَتَرَدَّدُوا فِي أَقَالِيمِهَا وَأَرْجَائِهَا فِي أَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ وَالتِّجَارَاتِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ سَعْيَكُمْ لَا يُجْدِي عَلَيْكُمْ شَيْئًا، إِلَّا أَنْ يُيَسِّرَهُ اللَّهُ لَكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} فَالسَّعْيُ فِي السَّبَبِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَيْوَة، أَخْبَرَنِي بَكْرُ بْنُ عَمْرٍو، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هُبَيْرة يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ أَبَا تَمِيمٍ الجَيشاني يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوح بِطَانًا".
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ هُبَيْرَةَ (5) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَأَثْبَتَ لَهَا رَوَاحًا وَغُدُوًّا لِطَلَبِ الرِّزْقِ، مَعَ تَوَكُّلِهَا عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ المسَخِّر الْمُسَيِّرُ الْمُسَبِّبُ. {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أَيِ: الْمَرْجِعُ يَوْمَ القيامة.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (660) وصحيح مسلم برقم (1031) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(2) مسند البزار برقم (52) "كشف الأستار" وقال الحافظ ابن حجر في مختصر الزوائد (1/67) : "الحارث له مناكير وإن أخرج له في الصحيح".
(3) في أ: "لا تميد".
(4) في م: "لا تضطرب ولا تميد".
(5) المسند (1/30) وسنن الترمذي برقم (2344) وسنن ابن ماجة برقم (4164) .(8/179)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: {مَنَاكِبِهَا} أَطْرَافُهَا وَفِجَاجُهَا وَنَوَاحِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ: {مَنَاكِبِهَا} الْجِبَالُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَكَّامٍ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} فَقَالَ لِأُمِّ وَلَدٍ لَهُ: إِنْ عَلِمْتِ {مَنَاكِبِهَا} فَأَنْتِ عَتِيقَةٌ. فَقَالَتْ: هِيَ الْجِبَالُ. فَسَأَلَ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَقَالَ: هِيَ الْجِبَالُ.
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) }
وَهَذَا أَيْضًا مَنْ لُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ، بِسَبَبِ كُفْرِ بَعْضِهِمْ بِهِ وَعِبَادَتِهِمْ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَحْلُمُ وَيَصْفَحُ، وَيُؤَجِّلُ وَلَا يُعَجِّلُ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فَاطِرٍ: 45] .
وقال هاهنا: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أَيْ: تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَتَضْطَرِبُ، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} أَيْ: رِيحًا فِيهَا حَصْبَاءُ تَدْمَغُكُمْ، كَمَا قَالَ: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 68] . وَهَكَذَا تَوَعَّدَهُمْ هاهنا بِقَوْلِهِ: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ إِنْذَارِي وَعَاقِبَةُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ وَكَذَّبَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أَيْ: فَكَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ وَمُعَاقَبَتِي لَهُمْ؟ أَيْ: عَظِيمًا شَدِيدًا أَلِيمًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} أَيْ: تَارَةً يُصَفِّفْنَ أَجْنِحَتَهُنَّ فِي الْهَوَاءِ، وَتَارَةً تَجْمَعُ جَنَاحًا وَتَنْشُرُ جَنَاحًا {مَا يُمْسِكُهُنَّ} أَيْ: فِي الْجَوِّ {إِلا الرَّحْمَنُ} أَيْ: بِمَا سَخَّرَ لَهُنَّ مِنَ الْهَوَاءِ، مِنْ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} أَيْ: بِمَا يُصْلِحُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النَّحْلِ: 79] .
{أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) }(8/180)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) }(8/180)
يَقُولُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَهُ، يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ نَصْرًا وَرِزْقًا، مُنكرًا عَلَيْهِمْ فِيمَا اعْتَقَدُوهُ، ومُخبرا لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ مَا أَمَّلُوهُ، فَقَالَ: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ مَنْ دُونِهِ مَنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ، وَلَا نَاصِرَ لَكُمْ غَيْرُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ}
ثُمَّ قَالَ: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} ؟! أَيْ: مَنْ هَذَا الَّذِي إِذَا قَطَعَ اللَّهُ رِزْقَهُ عَنْكُمْ يَرْزُقُكُمْ بَعْدَهُ؟! أَيْ: لَا أَحَدَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيَنْصُرُ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَيْ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {بَلْ لَجُّوا} أَيِ: اسْتَمَرُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ وإفكهم وضلالهم {فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي: في مُعَانَدَةً وَاسْتِكْبَارًا وَنُفُورًا عَلَى أَدْبَارِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، [أَيْ] (1) لَا يَسْمَعُونَ لَهُ وَلَا يَتَّبِعُونَهُ.
ثُمَّ قَالَ: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ؟ : وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَالْكَافِرُ مَثَلُهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ كَمَثَلِ مَنْ يَمْشِي مُكبّا عَلَى وَجْهِهِ، أَيْ: يَمْشِي مُنْحَنِيًا لَا مُسْتَوِيًا عَلَى وَجْهِهِ، أَيْ: لَا يَدْرِي أَيْنَ يَسْلُكُ وَلَا كَيْفَ يَذْهَبُ؟ بَلْ تَائِهٌ حَائِرٌ ضَالٌّ، أَهَذَا أَهْدَى {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} أَيْ: مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ: عَلَى طَرِيقٍ وَاضِحٍ بَيِّنٍ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُسْتَقِيمٌ، وَطَرِيقُهُ مُسْتَقِيمَةٌ. هَذَا مَثَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ يَكُونُونَ فِي الْآخِرَةِ. فَالْمُؤْمِنُ يُحْشَرُ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صراط مستقيم، مُفض بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ الْفَيْحَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ، {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَير، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ نُفَيع قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ فَقَالَ: "أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ" (2) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ [يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ قتادة، عن
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (3/167) .(8/181)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
أَنَسٍ، بِهِ نَحْوُهُ] (1) (2) .
وَقَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} أَيِ: ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُونُوا شَيْئًا مَذْكُورًا، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ} أَيِ: الْعُقُولَ وَالْإِدْرَاكَ، {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أَيْ: مَا أَقَلَّ تَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ الْقُوَى الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فِي طَاعَتِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ.
{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ} أَيْ: بَثَّكُمْ وَنَشَرَكُمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَأَرْجَائِهَا، مَعَ اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ فِي لُغَاتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، وَحُلَاكُمْ وَأَشْكَالِكُمْ وَصُوَرِكُمْ، {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أَيْ: تُجْمَعُونَ بَعْدَ هَذَا التَّفَرُّقِ وَالشَّتَاتِ، يَجْمَعُكُمْ كَمَا فَرَّقَكُمْ وَيُعِيدُكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ.
ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنِ الْكُفَّارِ الْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ الْمُسْتَبْعِدِينَ وُقُوعَهُ: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ: مَتَى [يَقَعُ] (3) هَذَا الَّذِي تُخْبِرُنَا بِكَوْنِهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بَعْدَ هَذَا التَّفَرُّقِ؟ {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أَيْ: لَا يَعْلَمُ وَقْتَ ذَلِكَ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لَكِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أُخْبِرَكُمْ أَنَّ هَذَا كَائِنٌ وَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ فَاحْذَرُوهُ، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} وَإِنَّمَا عَلَيَّ الْبَلَاغُ، وَقَدْ أَدَّيْتُهُ إِلَيْكُمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: لَمَّا قَامَتِ الْقِيَامَةُ وَشَاهَدَهَا الْكُفَّارُ، وَرَأَوْا أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ قَرِيبًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ وَإِنْ طَالَ زَمَنُهُ، فَلَمَّا وَقَعَ مَا كَذَّبُوا بِهِ سَاءَهُمْ ذَلِكَ، لِمَا يَعْلَمُونَ مَا لَهُمْ هُنَاكَ مِنَ الشَّرِّ، أَيْ: فَأَحَاطَ بِهِمْ ذَلِكَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي بَالٍ وَلَا حِسَابٍ، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا (4) وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزُّمَرِ: 47، 48] ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ: {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أَيْ: تَسْتَعْجِلُونَ.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) }
يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْجَاحِدِينَ لِنِعَمِهِ: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ: خَلِّصوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّهُ لَا مُنْقِذَ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا التَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى دِينِهِ، وَلَا يَنْفَعُكُمْ وُقُوعُ مَا تَتَمَنَّوْنَ لَنَا مِنَ الْعَذَابِ والنَّكَال، فَسَوَاءٌ عَذَّبَنَا اللَّهُ أَوْ رَحِمَنَا، فَلَا مَنَاصَ لَكُمْ مِنْ نَكَالِهِ وَعَذَابِهِ الْأَلِيمِ الْوَاقِعِ بِكُمْ.
ثُمَّ قَالَ: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} أَيْ: آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4760) وصحيح مسلم برقم (2806) .
(3) زيادة من م.
(4) في م (ما عملوا) وهو خطأ.(8/182)
تَوَكَّلْنَا فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا، كَمَا قَالَ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هُودٍ: 123] . وَلِهَذَا قَالَ: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ؟ أَيْ: مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَلِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟.
ثُمَّ قَالَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} أَيْ: ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ إِلَى أَسْفَلَ، فَلَا يُنَال بِالْفُئُوسِ الْحِدَادِ، وَلَا السَّوَاعِدِ الشِّدَادِ، وَالْغَائِرُ: عَكْسُ النَّابِعِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} أَيْ: نَابِعٍ سَائِحٍ جَارٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَمِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ [أَنْ] (1) أَنْبَعَ لَكُمُ الْمِيَاهَ وَأَجْرَاهَا فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُ الْعِبَادُ إِلَيْهِ مِنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "تبارك" ولله الحمد] (2)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م، وفي أ: "آخر تفسير سورة الملك ولله الحمد والثناء الحسن الجميل".(8/183)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
تَفْسِيرُ سُورَةِ "ن"
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) }
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَّلِ "سُورَةِ الْبَقَرَةِ"، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {ن} كَقَوْلِهِ: {ص} {ق} وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَتَحْرِيرُ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {ن} حُوتٌ عَظِيمٌ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ الْعَظِيمِ الْمُحِيطِ، وَهُوَ حَامِلٌ (1) لِلْأَرَضِينَ السَّبْعِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ -هُوَ الثَّوْرِيُّ-حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -هُوَ الْأَعْمَشِ-عَنْ أَبِي ظَبْيان، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ القَدَر. فَجَرَى بِمَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ قِيَامِ السَّاعَةِ. ثُمَّ خَلَقَ "النُّونَ" وَرَفَعَ بُخَارَ الْمَاءِ، ففُتِقت مِنْهُ السَّمَاءُ، وَبُسِطَتِ الْأَرْضُ عَلَى ظَهْرِ النُّونِ، فَاضْطَرَبَ النُّونُ فَمَادَتِ الْأَرْضُ، فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ، فَإِنَّهَا لَتَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ (2) .
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سِنان، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيل، وَوَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ. وَزَادَ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ: ثُمَّ قَرَأَ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ -أَوْ مُجَاهِدٍ-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ مَعْمَر، عَنِ الْأَعْمَشِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ ... فَذَكَرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. ثُمَّ خَلَقَ "النُّونَ" فَوْقَ الْمَاءِ، ثُمَّ كَبَسَ الأرض عليه (3) .
__________
(1) في أ: "وهو الحامل".
(2) تفسير الطبري (29/9) .
(3) تفسير الطبري (29/10) .(8/184)
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَبِيبٍ (1) زَيْدُ بْنُ الْمُهْتَدِي الْمَرُّوذِيُّ (2) حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ الطَّالَقَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّل بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمِ بْنِ صَبِيح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ وَالْحُوتُ، قَالَ لِلْقَلَمِ: اكْتُبْ، قَالَ: مَا أَكْتُبُ، قَالَ: كُلَّ شَيْءٍ كَائِنٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". ثُمَّ قَرَأَ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} فَالنُّونُ: الْحُوتُ. وَالْقَلَمُ: الْقَلَمُ (3) .
حَدِيثٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ: رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ خَلَقَ "النُّونَ" وَهِيَ: الدَّوَاةُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا يَكُونُ -أَوْ: مَا هُوَ كَائِنٌ-مِنْ عَمَلٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَثَرٍ أَوْ أَجَلٍ. فَكَتَبَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} ثُمَّ خَتَمَ عَلَى الْقَلَمِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَقْلَ وَقَالَ: وَعِزَّتِي لَأُكَمِّلَنَّكَ فِيمَنْ أَحْبَبْتُ، وَلَأَنْقُصَنَّكَ مِمَّنْ أَبْغَضْتُ" (4) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: النُّونُ: الْحُوتُ [الْعَظِيمُ] (5) الَّذِي تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ.
وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ عَلَى ظَهْرِ هَذَا الْحُوتِ صَخْرَةً سمكها كغلظ السموات وَالْأَرْضِ، وَعَلَى ظَهْرِهَا ثَوْرٌ لَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ قَرْنٍ، وَعَلَى مَتْنِهِ الْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ (6) فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنَ الْعَجِيبِ (7) أَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا حُمَيد، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ بَلَغه مَقْدَم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ، قَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ، قَالَ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ؟ وَالْوَلَدُ يَنْزِعُ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: "أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا". قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: فَذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: "أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحشرهم (8) مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زيادةُ كَبِدِ حُوتٍ. وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتْ".
__________
(1) في أ: "أبو صهيب".
(2) في أ: "المهدى".
(3) المعجم الكبير (11/433) وقال: "لم يرفعه عن حماد بن زيد إلا مؤمل بن إسماعيل". ومؤمل كثير الخطأ، فلعله أخطأ في رفعه.
(4) تاريخ دمشق (17/492 "المخطوط") ورواه الحكيم الترمذي كما في إتحاف السادة المتقين (1/454) من طريق يحيى الغساني، عن أبي عبد الله، عن أبي صالح، به. ورواه ابن عدي في الكامل (6/269) من طريق محمد بن وهب، عن مسلم، عن مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بنحوه، قال: "هذا بهذا الإسناد باطل منكر" وآفته محمد بن وهب. قال الذهبي في الميزان: "صدق ابن عدي في أن هذا الحديث باطل".
(5) زيادة من م.
(6) معالم التنزيل (8/186) وهذا من الإسرائيليات كما ذكر ذلك الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه: "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" (ص305) وقال الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص76) في ذكر علامات الوضع: "أن يكون الحديث مما تشهد الشواهد الصحيحة على بطلانه، ومن هذا حديث: "إن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور، فإذا حرك الثور قرنه تحركت الصخرة، فتحركت الأرض، وهي الزلزلة" والعجب من مسود كتبه بهذه الهذيانات". أ. هـ.
(7) في أ: "ومن العجب".
(8) في أ: "تحشر الناس".(8/185)
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حُمَيد، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا (1) وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ -مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-نَحْوُ هَذَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحْبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ: أَنَّ حَبْرًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مَسَائِلَ، فَكَانَ مِنْهَا أَنْ قَالَ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ؟ -يَعْنِي أَهْلَ الْجَنَّةِ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ-قَالَ: "زِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ". قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى أَثَرِهَا؟ قَالَ: "يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا". قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا " (2) .
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {ن} لَوْحٌ مِنْ نُورٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ شَبِيبٍ الْمُكْتِبُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْجَزَرِيُّ، عَنْ فُرَاتِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرّة، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} لَوْحٌ مِنْ نُورٍ، وَقَلَمٌ مِنْ نُورٍ، يَجْرِي بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (3) وَهَذَا مُرْسَلٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيج (4) أُخْبِرْتُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَلَمَ مِنْ نُورٍ طُولُهُ مِائَةُ عَامٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {ن} دَوَاةٌ، وَالْقَلَمُ: الْقَلَمُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {ن} قَالَا هِيَ الدَّوَاةُ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ غَرِيبٌ جِدًّا فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "خَلَقَ اللَّهُ النُّونَ، وَهِيَ الدَّوَاةُ" (5) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَخِي عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الثُّمَالِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ النُّونَ -وَهِيَ الدَّوَاةُ-وَخَلَقَ الْقَلَمَ، فَقَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ مَعْمُولٍ، بِهِ بِرٍّ أَوْ فُجُورٍ، أَوْ رِزْقٍ مَقْسُومٍ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ. ثُمَّ أَلْزَمَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، شَأْنَهُ: دُخُولَهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَقَامَهُ فِيهَا كَمْ؟ وَخُرُوجَهُ مِنْهَا كَيْفَ؟ ثُمَّ جَعَلَ عَلَى الْعِبَادِ حَفَظَةً، وَلِلْكِتَابِ خُزَّانًا، فَالْحَفَظَةُ يَنْسَخُونَ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْخُزَّانِ عَمَلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِذَا فَنِيَ الرِّزْقُ وَانْقَطَعَ الْأَثَرُ وَانْقَضَى الْأَجَلُ، أَتَتِ الْحَفَظَةُ الْخَزَنَةَ يَطْلُبُونَ عَمَلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَتَقُولُ لَهُمُ الْخَزَنَةُ: مَا نَجِدُ لِصَاحِبِكُمْ عِنْدَنَا شَيْئًا فَتَرْجِعُ الْحَفَظَةُ فَيَجِدُونَهُمْ قَدْ مَاتُوا. قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَسْتُمْ قَوْمًا عَرَبا تَسْمَعُونَ الْحَفَظَةَ يَقُولُونَ: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 29] ؟ وَهَلْ يَكُونُ الاستنساخ إلا من أصل (6) .
__________
(1) المسند (3/189) وصحيح البخاري برقم (3938) ولم أقع عليه في صحيح مسلم.
(2) صحيح مسلم برقم (315) .
(3) تفسير الطبري (29/10) .
(4) في أ: "ابن جرير".
(5) ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (17/492 "المخطوط") من طريق الفريابي، عن هشام عن الحسن بن يحيى به مطولاً، وقد تقدم قريبًا في هذه السورة.
(6) تفسير الطبري (29/10) .(8/186)
وَقَوْلُهُ: {وَالْقَلَمِ} الظَّاهِرُ أَنَّهُ جِنْسُ الْقَلَمِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ كَقَوْلِهِ {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العاق: 3 -5] . فَهُوَ قَسَمٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَتَنْبِيهٌ لِخَلْقِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ الَّتِي بِهَا تُنَالُ الْعُلُومُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا يَسْطُرُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ: يَعْنِي: وَمَا يَكْتُبُونَ.
وَقَالَ أَبُو الضُّحى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَا يَسْطُرُونَ} أَيْ: وَمَا يَعْمَلُونَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَمَا يَسْطُرُونَ} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَمَا تَكْتُبُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ هاهنا بِالْقَلَمِ الَّذِي أَجْرَاهُ اللَّهُ بِالْقَدَرِ حِينَ كَتَبَ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات وَالْأَرَضِينَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَأَوْرَدُوا فِي ذَلِكَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذِكْرِ الْقَلَمِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ سُليم السُّلَمِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ -هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ-حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: دَعَانِي أَبِي حِينِ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ [مَا كَانَ] (1) وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ (2) وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، بِهِ (3) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ "السُّنَّةِ" مِنْ سُنَنِهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ رَبَاحٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ (4) عَنْ أَبِي حَفْصَةَ -وَاسْمُهُ حُبَيش بْنُ شُريح الحَبشي الشَّامِيُّ-عَنْ عُبَادَةَ، فَذَكَرَهُ (5) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا رَبَاحُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزة (6) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ فَأَمَرَهُ فَكَتَبَ كُلَّ شَيْءٍ". غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ (7)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالْقَلَمِ} يَعْنِي: الَّذِي كُتِبَ بِهِ الذِّكْرُ. .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَسْطُرُونَ} أَيْ: يَكْتُبُونَ كَمَا تقدم.
__________
(1) زيادة من منحة المعبود. مستفادًا من هامش ط - الشعب.
(2) المسند (5/317) .
(3) سنن الترمذي برقم (3319) .
(4) في أ: "عن ابن أبي عبلة".
(5) سنن أبي داود برقم (4700) .
(6) في أ: "بن أبي مرة".
(7) تفسير الطبري (29/11) .(8/187)
وَقَوْلُهُ: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} أَيْ: لَسْتَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، بِمَجْنُونٍ، كَمَا قَدْ يَقُولُهُ الْجَهَلَةُ مَنْ قَوْمِكَ، الْمُكَذِّبُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ الْمُبِينِ، فَنَسَبُوكَ فِيهِ إِلَى الْجُنُونِ، {وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أَيْ: بَلْ لَكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَبِيدُ، عَلَى إِبْلَاغِكَ رِسَالَةَ رَبِّكَ إِلَى الْخَلْقِ، وَصَبْرِكَ عَلَى أَذَاهُمْ. وَمَعْنَى {غَيْرُ مَمْنُونٍ} أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ كَقَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هُودٍ: 108] {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التِّينِ: 6] أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ عَنْهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} أَيْ: غَيْرُ مَحْسُوبٍ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: وَإِنَّكَ لَعَلَى دِينٍ (1) عَظِيمٍ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ: لَعَلَى أَدَبٍ عَظِيمٍ. وَقَالَ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: سُئلت عائشةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتِ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، تَقُولُ كَمَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ذُكِرَ لَنَا أَنَّ سَعْدَ (2) بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرارة بْنِ أَوْفَى (3) عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَخْبِرِينِي يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ -عَنْ خُلُق رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ فقلتُ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ (4) .
هَذَا حَدِيثٌ طَوِيلٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِطُولِهِ (5) وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ "الْمُزَّمِّلِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ (6) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَوَادٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ؟ قَالَ: قُلْتُ: حَدِّثِينِي عَنْ ذَاكَ. قَالَتْ: صَنَعْتُ لَهُ طَعَامًا، وَصَنَعَتْ لَهُ حَفْصَةُ طَعَامًا، فَقُلْتُ لِجَارِيَتِي: اذْهَبِي فَإِنْ جَاءَتْ هِيَ بِالطَّعَامِ فَوَضَعَتْهُ قبلُ فَاطْرَحِي الطَّعَامَ! قَالَتْ: فَجَاءَتْ بِالطَّعَامِ. قَالَتْ: فَأَلْقَتِ (7) الْجَارِيَةُ، فَوَقَعَتِ الْقَصْعَةُ فَانْكَسَرَتْ -وَكَانَ نِطْعًا (8) -قالت: فجمعه رسول الله
__________
(1) في أ: "لعلى خلق".
(2) في أ: "أ، سعيد".
(3) في أ: "زرارة بن أبي أوفي".
(4) تفسير عبد الرزاق (2/245) .
(5) صحيح مسلم برقم (746) .
(6) المسند (6/216) .
(7) في أ: "فالتفتت".
(8) في هـ، م، أ: "نطع"، والمثبت من المسند.(8/188)
وَقَالَ: "اقْتَضُوا -أَوِ: اقْتَضِي-شَكَّ أَسْوَدُ -ظَرفًا مَكَانَ ظَرفِك". قَالَتْ: فَمَا قَالَ شَيْئًا (1) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ (2) بْنِ هِشَامٍ: قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْتُ لَهَا: أَخْبِرِينِي بخلُق النَّبِيِّ (3) صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. أَمَا تَقْرَأُ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، نَحْوَهُ (4)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، وَأَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَير بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: حججتُ فدخلتُ عَلَى عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَسَأَلْتُهَا عَنْ خُلُق رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقالت: كَانَ خُلُق رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، بِهِ (5)
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، صَارَ امتثالُ الْقُرْآنِ، أَمْرًا وَنَهْيًا، سَجِيَّةً لَهُ، وَخُلُقًا تَطَبَّعَه، وَتَرَكَ طَبْعَهُ الجِبِلِّي، فَمَهْمَا أَمَرَهُ الْقُرْآنُ فَعَلَهُ، وَمَهْمَا نَهَاهُ عَنْهُ تَرَكَهُ. هَذَا مَعَ مَا جَبَله اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، مِنَ الْحَيَاءِ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ، وَكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خدمتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرٌ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: "أُفٍّ" قَطُّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَهُ؟ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَلَا مَسسْتُ خَزًّا وَلَا حَرِيرًا وَلَا شَيْئًا كَانَ أَلْيَنَ مِنْ كَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَق رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: [حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ] (7) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَ النَّاسِ خَلْقًا، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ (8)
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِأَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ فِي هَذَا كِتَابُ "الشَّمَائِلِ".
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا لَهُ قَطُّ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شيئًا قط، إلا أن
__________
(1) المسند (6/11) .
(2) في هـ، أ: "سعيد"، والمثبت من م وتفسير الطبري.
(3) في م: "رسول الله".
(4) تفسير الطبري (29/13) وسنن أبي داود برقم (1352) وسنن النسائي (3/220) .
(5) تفسير الطبري (29/13) والمسند (6/188) وسنن النسائي الكبرى برقم (11138) .
(6) صحيح البخاري برقم (6038) وصحيح مسلم برقم (2309) .
(7) زيادة من م، أ، وصحيح البخاري.
(8) صحيح البخاري برقم (3549) .(8/189)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَا خُيِّر بَيْنَ شَيْئَيْنِ قَطُّ إِلَّا كَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَيْهِ أَيْسَرَهُمَا حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْإِثْمِ، وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَكُونُ هُوَ يَنْتَقِمُ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ (1)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلان، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا بُعِثتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ". تَفَرَّدَ بِهِ (2)
وقوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} أَيْ: فَسَتَعْلَمُ يَا مُحَمَّدُ، وَسَيَعْلَمُ مُخَالِفُوكَ وَمُكَذِّبُوكَ: مَنِ الْمَفْتُونُ الضَّالُّ مِنْكَ وَمِنْهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ} [الْقَمَرِ: 26] ، وَكَقَوْلِهِ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سَبَإٍ: 24] .
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: سَتَعْلَمُ وَيَعْلَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابن عباس: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} أَيِ: الْجُنُونُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُ. وقال قتادة وغيره: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} أَيْ: أَوْلَى بِالشَّيْطَانِ.
وَمَعْنَى الْمَفْتُونِ ظَاهِرٌ، أَيِ: الَّذِي قَدِ افْتُتِنَ عَنِ الْحَقِّ وَضَلَّ عنه، وإنما دخلت الباء في قوله: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} لِتَدُلَّ عَلَى تَضْمِينِ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} وَتَقْدِيرُهُ: فَسَتَعْلَمُ وَيَعْلَمُونَ، أَوْ: فستُخْبَر ويُخْبَرون بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أَيْ: هُوَ يَعْلَمُ تَعَالَى أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ هُوَ الْمُهْتَدِي، وَيَعْلَمُ الْحِزْبَ الضَّالَّ عَنِ الْحَقِّ.
{فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (15) }
__________
(1) المسند (6/232) .
(2) المسند (2/381) .(8/190)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) }
يَقُولُ تَعَالَى: كَمَا أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ وَأَعْطَيْنَاكَ الشَّرْعَ الْمُسْتَقِيمَ وَالْخُلُقَ الْعَظِيمَ {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ تُرَخِّص لَهُمْ فَيُرَخِّصون.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَدُّوا لَوْ تَرْكَنُ إِلَى آلِهَتِهِمْ وَتَتْرُكُ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ} وَذَلِكَ أَنَّ الْكَاذِبَ لِضَعْفِهِ وَمَهَانَتِهِ إِنَّمَا يَتَّقِي بِأَيْمَانِهِ الْكَاذِبَةِ الَّتِي يَجْتَرِئُ بِهَا عَلَى أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتِعْمَالِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فِي غَيْرِ محلها.(8/190)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَهِينُ الْكَاذِبُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الضَّعِيفُ الْقَلْبِ. قَالَ الْحَسَنُ: كُلَّ حَلَّافٍ مُكَابِرٍ مَهِينٍ ضَعِيفٍ.
وَقَوْلُهُ {هَمَّازٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ: يَعْنِي الِاغْتِيَابَ.
{مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} يَعْنِي: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ، وَيُحَرِّشُ بَيْنَهُمْ وَيَنْقُلُ الْحَدِيثَ لِفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَهِيَ الْحَالِقَةُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: "إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ (1) مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ" الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ فِي كُتُبِهِمْ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، بِهِ (2) .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمّام؛ أَنَّ حُذَيفة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّات".
رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ -إِلَّا ابْنُ مَاجَهْ-مِنْ طُرُقٍ، عَنِ إِبْرَاهِيمَ، بِهِ (3) .
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ" يَعْنِي: نَمَّامًا (4) .
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ أَبُو سَعِيدٍ الْأَحْوَلُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ -مُنْذُ نَحْوِ سِتِّينَ سَنَةً-عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى حُذَيْفَةَ فَقِيلَ: إِنَّ هَذَا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى الْأُمَرَاءِ. فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ -أَوْ: قَالَ-: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ" (5) .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ، عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: بَلَغَ حُذَيْفَةَ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ يَنُمُّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ" (6) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَر، عَنِ ابْنِ خُثَيم، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟ ". قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "الذين إذا رُؤوا ذُكر اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ". ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، وَالْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ العَنَت".
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، عن ابن خُثَيم، به (7) .
__________
(1) في أ: "لا يستبرئ".
(2) صحيح البخاري برقم (218) وصحيح مسلم برقم (292) وسنن أبي داود برقم (20) وسنن الترمذي برقم (70) وسنن النسائي (1/28) وسنن ابن ماجة برقم (347) .
(3) المسند (5/382) وصحيح البخاري برقم (6506) وصحيح مسلم برقم (105) وسنن أبي داود برقم (4871) وسنن الترمذي برقم (2026) وسنن النسائي الكبري برقم (1164) .
(4) المسند (5/389) .
(5) المسند (5/389) .
(6) المسند (5/391) .
(7) المسند (6/459) وسنن ابن ماجة برقم (4119) وقال البوصيري في الزوائد (3/273) : "هذا إسناد حسن، شهر وسويد مختلف فيهما، وباقي رجال الإسناد ثقات".(8/191)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَين، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْم -يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الذين إذا رؤوا ذكر الله، وشرار عباد الله المشاؤون بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ" (1)
وَقَوْلُهُ {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أَيْ: يَمْنَعُ ما عليه وما لديه من الخير {ِ مُعْتَدٍ} فِي مُتَنَاوَلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ، يَتَجَاوَزُ فِيهَا الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ {أَثِيمٍ} أَيْ: يَتَنَاوَلُ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَقَوْلُهُ: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} أَمَّا الْعُتُلُّ: فَهُوَ الْفَظُّ الْغَلِيظُ الصَّحِيحُ، الْجَمُوعُ المَنُوعُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَعْبَد (2) بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَّا أُنَبِّئُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّف لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَّا أُنَبِّئُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتل جَوّاظ مُسْتَكْبِرٍ". وَقَالَ وَكِيع: "كُلُّ جَوَّاظ جعظري مستكبر".
أخرجاه في الصحيحين بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ، إِلَّا أَبَا دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، بِهِ (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن علي قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يحدِّث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عِنْدَ ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ: "كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ جَمَّاعٍ مَنَّاعٍ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (4) .
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْجَعْظَرِيُّ: الفَظُّ الغَليظ، والجَوّاظ: الجَمُوع المَنُوع.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشب، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْم، قَالَ: سُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ العُتلِّ الزَّنِيمِ، فَقَالَ: "هُوَ الشَّدِيدُ الخَلْق الْمُصَحَّحُ، الْأَكُولُ الشَّرُوبُ، الْوَاجِدُ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، الظَّلُومُ لِلنَّاسِ، رَحِيبُ الْجَوْفِ" (5) .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الجَواظ الْجَعْظَرِيُّ، الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ" (6) وَقَدْ أَرْسَلَهُ أَيْضًا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمر، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَبْكِي السَّمَاءُ مِنْ عَبْدٍ أَصَحَّ اللَّهُ جِسْمَهُ، وَأَرْحَبَ جَوْفَهُ، وَأَعْطَاهُ مِنَ الدُّنْيَا مِقضَمًا فَكَانَ لِلنَّاسِ ظَلُومًا. قَالَ: فَذَلِكَ العُتُل (7) الزنيم" (8) .
__________
(1) المسند (4/227) .
(2) في أ: "سعيد".
(3) المسند (4/306) وصحيح البخاري برقم (4918) وصحيح مسلم برقم (2853) وسنن الترمذي برقم (2605) وسنن النسائي الكبرى برقم (11615) وسنن ابن ماجة برقم (4116) .
(4) المسند (2/169) وقال الهيثمي في المجمع (10/393) : "رجاله رجال الصحيح".
(5) المسند (4/227) وقال الهيثمي في المجمع (10/393) : "إسناده حسن، إلا أن ابن غنم لم يسمع مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وَقَالَ في موضع آخر (7/128) : "فيه شهر بن حوشب وثقه جماعة وفيه ضعف، وعبد الرحمن بن غنم ليس له صحبة على الصحيح".
(6) المسند (4/227) .
(7) في م، أ: "العبد".
(8) تفسير الطبري (19/16) وهو مرسل.(8/192)
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ مُرْسَلَيْنِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ الْعُتُلَّ هُوَ: المُصحَّح الخَلْق، الشَّدِيدُ الْقَوِيُّ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الزَّنِيمُ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عُبَيد اللَّهِ، عَنْ (1) إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي حَصِين، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قَالَ: رجلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ زَنمة مِثْلُ زَنَمة الشَّاةِ.
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهُ كَانَ مَشْهُورًا بِالشَّرِّ (2) كَشُهْرَةِ الشَّاةِ ذَاتِ الزَّنَمَةِ مِنْ بَيْنِ أَخَوَاتِهَا. وَإِنَّمَا الزَّنِيمُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: هُوَ الدّعِيُّ فِي الْقَوْمِ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، يَعْنِي يَذُمُّ بَعْضَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ:
وأنتَ زَنيم نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرّاكِب القَدَحُ الفَرْدُ (3)
وَقَالَ آخَرُ:
زَنيمٌ لَيْسَ يُعرَفُ مَن أبوهُ ... بَغيُّ الْأُمِّ ذُو حَسَب لَئيم ...
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {زَنِيمٍ} قَالَ: الدعيُّ الْفَاحِشُ اللَّئِيمُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
زَنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادَةً ... كَما زيدَ فِي عَرضِ الْأَدِيمِ الأكَارعُ (4)
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الزَّنِيمُ: الدَّعِيُّ. وَيُقَالُ: الزَّنِيمُ: رَجُلٌ كَانَتْ بِهِ زَنَمَةٌ، يُعْرَفُ بِهَا. وَيُقَالُ: هُوَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَريق الثَّقَفِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ. وَزَعَمَ أُنَاسٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ أَنَّ الزَّنِيمَ الأسودُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ، وَلَيْسَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الزَّنِيمَ المُلحَق النَّسَبِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسيَّب، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قَالَ سَعِيدٌ: هُوَ الْمُلْصَقُ بِالْقَوْمِ، لَيْسَ مِنْهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ قُدَامَةَ قَالَ: سُئِلَ عِكْرِمَةُ عَنِ الزَّنِيمِ، قَالَ: هُوَ وَلَدُ الزِّنَا.
وَقَالَ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} قَالَ: يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ مِثْلُ الشَّاةِ الزَّنْمَاءِ. وَالزَّنْمَاءُ مِنَ الشِّيَاهِ: الَّتِي فِي عُنُقِهَا هَنتان مُعَلَّقَتَانِ فِي حَلْقِهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الزَّنِيمُ: الَّذِي يُعْرَفُ بِالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا. وَالزَّنِيمُ: الملصق. رواه ابن جرير.
__________
(1) في أ: "بن".
(2) في أ: "بالسوء".
(3) تفسير الطبري (19/17) .
(4) البيت في اللسان، مادة "زنم" منسوبًا إلى الخطيم التميمي.(8/193)
وَرَوَى أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الزَّنِيمِ: قَالَ: نُعِتَ فَلَمْ يُعْرَفْ حَتَّى قِيلَ: زَنِيمٌ. قَالَ: وَكَانَتْ لَهُ زَنَمَةٌ فِي عُنُقِهِ يُعرَف بِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ دَعيًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَصْحَابِ التَّفْسِيرِ قَالُوا (1) هُوَ الَّذِي تَكُونُ لَهُ زَنَمَة مِثْلُ زَنَمَةِ الشَّاةِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتْ لَهُ زَنَمَة فِي أَصْلِ أُذُنِهِ، وَيُقَالُ: هُوَ اللَّئِيمُ الْمُلْصَقُ فِي النَّسَبِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمُرِيبُ الَّذِي يُعْرَفُ بِالشَّرِّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الزَّنِيمُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهَذَا الْوَصْفِ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ. وَقَالَ أَبُو رَزِين: الزَّنِيمُ عَلَامَةُ الْكُفْرِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الزَّنِيمُ الَّذِي يُعْرَفُ بِاللُّؤْمِ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا.
وَالْأَقْوَالُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَتَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ الزَّنِيمَ هُوَ: الْمَشْهُورُ بِالشَّرِّ، الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مِنْ بَيْنِ الناس، وغالبًا يكون دعيًا وله زِنًا، فَإِنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَتَسَلَّطُ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ مَا لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنًا" (2) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ إِذَا عَمِلَ بِعَمَلِ أَبَوَيْهِ" (3) .
وَقَوْلُهُ: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا مُقَابَلَةُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ، كَفَرَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَعْرَضَ عَنْهَا، وَزَعَمَ أَنَّهَا كَذب مَأْخُوذٌ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، كَقَوْلِهِ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 11 -26] . قال تعالى هاهنا: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: سَنَبِينُ أَمْرَهُ بَيَانًا وَاضِحًا، حَتَّى يَعْرِفُوهُ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ، كَمَا لَا تَخْفَى السِّمَةُ عَلَى الْخَرَاطِيمِ (4) وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} شَيْنٌ لا يفارقه آخر ما عليه.
__________
(1) في أ: "قال".
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (2/203) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رَضِيَ الله عنه، ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (4925، 4926) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (3/111) قال: "وفيه مخالفة للأصول وأعظمها قوله تعالى: "ولا تزر وازرة أخرى". قال الإمام ابن القيم متعقبًا على ابن الجوزي في المنارالمنيف (ص133) : "ليست معرضة بها إن صحت، فإنه لم يحرم الجنة بفعل والديه، بل لأن النطفة الخبيثة لا يتخلق منها طيب في الغالب، ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة، فإن كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة، وكان الحديث من العام المخصوص، وقد ورد في ذمة: "أنه شر الثلاثة" وهو حديث حسن ومعناه صحيح بهذا الاعتبار، فإن شر الأبوين عارض، وهذه نطفة خبيثة فشره في أصله وشر الأبوين في فعلهما". قلت: ويوجه أيضًا بالتقييد الذي في حديث عائشة الآتي بأنه شر الثلاثة إذا عمل عمل أبويه، وكلام ابن الجوزي منطبق على حديث: "ولد الزنا في النار إلى سبعة أبناء". وهو موضوع.
(3) رواه الإمام أحمد (6/109) من حديث عائشة، رضي الله عنها، و (2/311) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(4) في م: "على الخرطوم".(8/194)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: سِيمَا (1) عَلَى أَنْفِهِ. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} يُقَاتِلُ يَوْمَ بَدْرٍ، فيُخطم بِالسَّيْفِ فِي الْقِتَالِ. وَقَالَ آخَرُونَ: {سَنَسِمُهُ} سِمَةَ أَهْلِ النَّارِ، يَعْنِي نُسَوِّدُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْوَجْهِ بِالْخُرْطُومِ. حَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ أبو جعفر ابن جَرِيرٍ، وَمَالَ إِلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ اجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ مُتّجه.
وَقَدْ (2) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي سُورَةِ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي خَالِدٌ عَنْ (3) سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ يُكْتَبُ مُؤْمِنًا أَحْقَابًا ثُمَّ أَحْقَابًا (4) ثُمَّ يَمُوتُ وَاللَّهُ عَلَيْهِ سَاخِطٌ. وَإِنَّ الْعَبْدَ يُكْتَبُ كَافِرًا أَحْقَابًا ثُمَّ أَحْقَابًا، ثُمَّ يَمُوتُ وَاللَّهُ عَلَيْهِ (5) رَاضٍ. وَمَنْ مَاتَ هَمَّازًا لمَّازًا مُلَقَّبا للناس، كان علامته يوم القيامة أن يسميه اللَّهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، مِنْ كِلَا الشَّفَتَيْنِ" (6) .
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) }
هَذَا مَثَل ضَرَبه اللَّهُ تَعَالَى لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ فِيمَا أَهْدَى إِلَيْهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَأَعْطَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ الْجَسِيمَةِ، وَهُوَ بَعْثُهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَابَلُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالرَّدِّ وَالْمُحَارَبَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} أَيِ: اخْتَبَرْنَاهُمْ، {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} وَهِيَ الْبُسْتَانُ الْمُشْتَمِلُ على أنواع الثمار
__________
(1) في م: "سنسمه سيما".
(2) في م: "ولهذا".
(3) في م، أ، هـ: " بن" والصواب ما أثبتناه من المعجم الكبير للطبراني.
(4) في أ: "أحيانا ثم أحيانا".
(5) في م: "عنه".
(6) ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (60) "القطعة المفقودة" والمعجم الأوسط برقم (3234) "مجمع البحرين" عن المطلب الأزدى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ بِهِ. وَقَالَ في الأوسط: "لا يروى عن عبد الله بن عمرو إلا بهذا الإسناد، تفرد به الليث".(8/195)
وَالْفَوَاكِهِ {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أَيْ: حَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ لَيجُذَّنَ ثَمرها لَيْلًا لِئَلَّا يَعْلَمَ بِهِمْ فَقِيرٌ وَلَا سَائِلٌ، لِيَتَوَفَّرَ ثَمَرُهَا عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَصَدَّقُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أَيْ: فِيمَا حَلَفُوا بِهِ. وَلِهَذَا حَنَّثَهُمُ اللَّهُ فِي أَيْمَانِهِمْ، فَقَالَ: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} أَيْ: أَصَابَتْهَا آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ، {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ كَاللَّيْلِ الْأَسْوَدِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ: مِثْلَ الزَّرْعِ إِذَا حُصِد، أَيْ هَشِيمًا يَبَسًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الصَّبَّاحِ: أَنْبَأَنَا بِشْرُ بْنُ زَاذَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ صُبْحٍ (1) عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِيَّاكُمْ وَالْمَعَاصِيَ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ بِهِ رِزْقًا قَدْ كَانَ هُيِّئ لَهُ"، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قَدْ حُرِمُوا خَير جَنّتهم بِذَنْبِهِمْ (2) .
{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} أَيْ: لَمَّا كَانَ وَقْتُ الصُّبْحِ نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَذْهَبُوا إِلَى الجَذَاذ،
{أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} أَيْ: تُرِيدُونَ الصِرَامَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ حَرْثُهُمْ عِنَبًا.
{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} أَيْ: يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِحَيْثُ لَا يُسمعون أَحَدًا كَلَامَهُمْ. ثُمَّ فَسَّرَ اللَّهُ عَالِمُ السِّرِّ وَالنَّجْوَى مَا كَانُوا يَتَخَافَتُونَ بِهِ، فَقَالَ: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} أَيْ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تُمَكِّنُوا الْيَوْمَ فَقِيرًا يَدْخُلُهَا عَلَيْكُمْ!
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} أَيْ: قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} أَيْ: جِدٍّ وَقَالَ عِكْرِمَةُ: غَيْظٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: {عَلَى حَرْدٍ} عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: {عَلَى حَرْدٍ} أي: كان اسم قريتهم حرد. فَأَبْعَدَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ هَذَا!
{قَادِرِينَ} أَيْ: عَلَيْهَا فِيمَا يَزْعُمُونَ ويَرومون.
{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أَيْ: فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا وَأَشْرَفُوا عَلَيْهَا، وَهِيَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدِ اسْتَحَالَتْ عَنْ تِلْكَ النَّضَارَةِ وَالزَّهْرَةِ وَكَثْرَةِ الثِّمَارِ إِلَى أَنْ صَارَتْ سَوْدَاءَ مُدْلَهِمَّة، لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَخْطَئُوا الطَّرِيقَ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {إِنَّا لَضَالُّونَ} أَيْ: قَدْ سَلَكْنَا إِلَيْهَا غَيْرَ الطَّرِيقِ فتُهنا عَنْهَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ رَجَعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّهَا هِيَ فَقَالُوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أَيْ: بَلْ هَذِهِ هِيَ، وَلَكِنْ نَحْنُ لَا حَظّ لَنَا وَلَا نَصِيبَ.
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ: أَيْ: أَعْدَلُهُمْ وَخَيْرُهُمْ: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} ! قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ: {لَوْلا تُسَبِّحُونَ} أَيْ: لَوْلَا تَسْتَثْنُونَ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ الزمان تسبيحًا.
__________
(1) في أ: "بن صبيح".
(2) وفي إسناد عمر بن صبح قال ابن حيان: كان ممن يضع الحديث. وقال الدارقطنى: متروك. وقال الأذي: كذاب. وله شاهد من حديث ثوبان، رضي الله عنه، رواه الإمام أحمد في المسند (5/277) .(8/196)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} أَيْ: هَلَّا تُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أَتَوْا بِالطَّاعَةِ حَيْثُ لَا تَنْفَعُ، وَنَدِمُوا وَاعْتَرَفُوا حَيْثُ لَا يَنْجَعُ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} أَيْ: يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى مَا كَانُوا أَصَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ مِنْ حَقِّ الْجُذَاذِ، فَمَا كَانَ جَوَابُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِالْخَطِيئَةِ وَالذَّنْبِ، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أَيِ: اعْتَدَيْنَا وبَغَينا وَطَغَيْنَا وَجَاوَزْنَا الْحَدَّ حَتَّى أَصَابَنَا مَا أَصَابَنَا، {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} قِيلَ: رَغِبُوا فِي بَذْلِهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: احْتَسَبُوا ثَوَابَهَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ -قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا ضَرَوَانُ (1) عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ صَنْعَاءَ. وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ-وَكَانَ أَبُوهُمْ قَدْ خَلَّفَ لَهُمْ هَذِهِ الْجَنَّةَ، وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُمْ يَسِيرُ فِيهَا سِيرَةً حَسَنَةً، فَكَانَ مَا اسْتَغَلَّهُ مِنْهَا يَرُدُّ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا وَيَدَّخِرُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَاضِلِ. فَلَمَّا مَاتَ وَرِثَهُ بَنُوهُ، قَالُوا: لَقَدْ كَانَ أَبُونَا أحمقَ إِذْ كَانَ يَصْرِفُ مِنْ هَذِهِ شَيْئًا لِلْفُقَرَاءِ، وَلَوْ أنَّا مَنَعْنَاهُمْ لَتَوَفَّرَ ذَلِكَ عَلَيْنَا. فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ عُوقِبوا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا بأيديهم بالكلية، رأس المال الربح وَالصَّدَقَةَ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أَيْ: هَكَذَا عَذَابُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ، وَبَخِلَ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ حَقَّ الْمِسْكِينِ وَالْفُقَرَاءِ (2) وَذَوِي الْحَاجَاتِ، وَبَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أَيْ: هَذِهِ عُقُوبَةُ الدُّنْيَا كَمَا سَمِعْتُمْ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْجِدَادِ (3) بِاللَّيْلِ، وَالْحَصَادِ بِاللَّيْلِ (4) .
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) }
__________
(1) في أ: "جردان".
(2) في أ: "حق المسكين والفقير".
(3) في م، أ، هـ: "الجذاذ" بالذال وهو خطأ والمثبت من سنن البيهقي.
(4) سنن البيهقي الكبرى (4/133) والجداد -بالدال بالفتح والكسر- قال ابن الأثير في النهاية (1/244) : "هي صرام النخل، وهو قطع ثمرتها، يقال: جد الثمرة يجدها جدا، وإنما نهى عن ذلك لأجل المساكين حتى يحضروا في النهار فيتصدق عليهم منه".(8/197)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
لَمَّا ذَكَرَ [اللَّهُ] (1) تَعَالَى حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَمَا أَصَابَهُمْ فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ حِينَ عَصَوُا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَخَالَفُوا أَمْرَهُ، بَيَّنَ أَنَّ لِمَنِ اتَّقَاهُ وَأَطَاعَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ الَّتِي لَا تَبيد وَلَا تَفْرَغُ وَلَا يَنْقَضِي نَعِيمُهَا.
ثُمَّ قَالَ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} ؟ أَيْ: أَفَنُسَاوِي بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْجَزَاءِ؟ كَلَّا وَرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ! أَيْ: كَيْفَ تَظُنُّونَ ذَلِكَ؟.
ثُمَّ قَالَ: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} يَقُولُ: أَفَبِأَيْدِيكُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ تَدْرُسُونَهُ وَتَحْفَظُونَهُ وَتَتَدَاوَلُونَهُ بِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنِ السَّلَفِ، مُتضمن حُكْمًا مُؤَكَّدًا كَمَا تَدَّعُونَهُ؟ {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أَيْ: أَمَعَكُمْ عُهُودٌ مِنَّا وَمَوَاثِيقُ مُؤَكَّدَةٌ، {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أَيْ: إِنَّهُ سَيَحْصُلُ لَكُمْ مَا تُرِيدُونَ وَتَشْتَهُونَ، {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} ؟ أَيْ: قُلْ لَهُمْ: مَنْ هُوَ الْمُتَضَمِّنُ الْمُتَكَفِّلُ بِهَذَا؟
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) }
__________
(1) زياده من م.(8/198)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) }
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَهُ (1) جَنَّاتِ النَّعِيمِ، بَيَّنَ مَتَى ذَلِكَ كَائِنٌ وَوَاقِعٌ، فَقَالَ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالزَّلَازِلِ وَالْبَلَاءِ وَالِامْتِحَانِ وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ هاهنا:
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَكشِفُ رَبّنا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا" (2) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي غَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ (3) وَلَهُ أَلْفَاظٌ، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ مَشْهُورٌ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابن عباس: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}
__________
(1) في م: "عند ربهم".
(2) صحيح البخاري برقم (4919) .
(3) وهو حديث الشفاعة وقد سبق سياقه بطريقه وألفاظه عند تفسير أول سورة الإسراء.(8/198)
قَالَ: هُوَ يَوْمُ كَرْب وَشِدَّةٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْران، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -أَوِ: ابْنِ عَبَّاسٍ، الشَّكُّ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ-: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قَالَ: عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَقَامَتِ الْحَرْبُ بِنَا عَنْ سَاقٍ (1)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قَالَ: شِدَّةُ الْأَمْرِ (2)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أَوَّلُ (3) سَاعَةٍ تَكُونُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابن جُرَيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قَالَ: شِدَّةُ الْأَمْرِ وَجِدُّهُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} هُوَ الْأَمْرُ الشَّدِيدُ المُفظِع مِنَ الْهَوْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} يَقُولُ: حِينَ يُكْشَفُ الْأَمْرُ وَتَبْدُو الْأَعْمَالُ. وَكَشْفُهُ دُخُولُ الْآخِرَةِ، وَكَشْفُ الْأَمْرِ عَنْهُ. وَكَذَا رَوَى الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أَوْرَدَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ عُمَرُ بْنُ شَبَّة، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عُمَرَ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ رَوْحُ بْنِ جَنَاحٍ، عَنْ مَوْلًى لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قَالَ: "عَنْ نُورٍ عَظِيمٍ، يَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا".
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيَى، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، به (4) وفيه رجل مبهم (5) والله أعلم.
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (29/24) .
(2) في أ: "الأمر وجده".
(3) في م: "هي أشد".
(4) تفسير الطبري (29/27) ومسند أبي يعلى (13/269) .
تنبيه: ظن بعض الناس أن الحافظ ابن كثير سلك هنا مسلك التأويل لصفة الساق، وهذا فهم خاطئ؛ وذلك لأن الحافظ ابن كثير فسر هذه الآية بحديث أبي سعيد، رضي الله عنه، ثم ذكر ما قيل في هذه الآية، وقد تكلم الإمام ابن القيم عن هذه الآية كلامًا بديعًا قال، رحمه الله، في الصواعق المرسلة (1/252، 253) : "والصحابة متنازعون في تفسير هذه الآية: هل المراد الكشف عن الشدة؟ أو المراد بها أن الرب تعالى يكشف عن ساقه؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيها يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضوع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة لله؛ لأنه سبحانه لم يضف الساق إليه، وإنما ذكره مجردًا عن الإضافة منكرًا، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والأصبع لم يأخذ ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل وفيه: "فيكشف الرب عن ساقه فيخرون له سجدًا". ومن حمل الآية على ذلك قال: قوله تَعَالَى: "يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ" القلم: 42: مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيكشف عن ساقة فيخرون له سجدًا". وتنكيره للتعظيم والتفخيم كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة، جلت عظمتها وتعالى شأنها أن يكون لها نظير أو مثل أو شبيه، قالوا: وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كشف الشدة عن القوم لا كشف عنها كما قال تعالى: "فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون" الزخرف: 50، وقال "ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر" المؤمنون: 75، فالعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه، وأيضًا فهناك تحدث الشدة وتشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود، وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة" انتهى نقلا عن التحذير من مختصرات الصابوني، وانظر: عقيدة الحافظ ابن كثير للشيخ عبد الآخر الغنيمي (ص48، 49) والتحذير للشيخ بكر أبو زيد (ص350 - 353) .
(5) في أ: "رجل متهم".(8/199)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
وَقَوْلُهُ: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِإِجْرَامِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَعُوقِبُوا بِنَقِيضِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ. وَلَمَّا دُعُوا إِلَى السُّجُودِ فِي الدُّنْيَا فَامْتَنَعُوا مِنْهُ مَعَ صِحَّتِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ كَذَلِكَ عُوقِبُوا بِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، إِذَا تَجَلَّى الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسْجُدُ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ الْكَافِرِينَ وَلَا الْمُنَافِقِينَ أَنْ يسجُد، بَلْ يَعُودُ ظَهْرُ أَحَدِهِمْ طَبَقًا وَاحِدًا، كُلَّمَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَسْجُدَ خَرّ لِقَفَاهُ، عَكْسَ السُّجُودِ، كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، أَيْ: دَعْنِي وَإِيَّاهُ مِنِّي وَمِنْهُ، أَنَا أَعْلَمُ بِهِ كَيْفَ أَسْتَدْرِجُهُ، وَأَمُدُّهُ فِي غَيِّهِ وَأَنْظُرُ (1) ثُمَّ آخُذُهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} أَيْ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ كَرَامَةٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِهَانَةٌ، كَمَا قَالَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 55، 56] ، وَقَالَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] . ولهذا قال هاهنا: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أَيْ: وَأُؤَخِّرُهُمْ وَأُنْظِرُهُمْ وَأَمُدُّهُمْ (2) وَذَلِكَ مِنْ كَيْدِي وَمَكْرِي بِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أَيْ: عَظِيمٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَكَذَّبَ رُسُلِي، وَاجْتَرَأَ عَلَى مَعْصِيَتِي.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ليُمْلي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْه". ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هُودٍ: 102] (3) .
وَقَوْلُهُ: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي سُورَةِ "الطُّورِ" (4) (5) وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: أَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ تَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِلَا أَجْرٍ تَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، بَلْ تَرْجُو ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ يُكَذِّبُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، بِمُجَرَّدِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) }
__________
(1) في أ: "وأنظره".
(2) في أ: "وأمد لهم".
(3) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عنه.
(4) في م: "في سورة النور".
(5) عند تفسير الآيتين: 40، 41.(8/200)
يَقُولُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ} يَا مُحَمَّدُ عَلَى أَذَى قَوْمِكَ لَكَ وَتَكْذِيبِهِمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَيَحْكُمُ لَكَ عَلَيْهِمْ، وَيَجْعَلُ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِأَتْبَاعِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} يَعْنِي: ذَا النُّونِ، وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ ذَهَبَ مُغَاضِبًا عَلَى قَوْمِهِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ مِنْ رُكُوبِهِ فِي الْبَحْرِ وَالْتِقَامِ الْحُوتِ لَهُ، وَشُرُودِ الْحُوتِ بِهِ فِي الْبِحَارِ وَظُلُمَاتِ غَمَرَاتِ الْيَمِّ، وَسَمَاعِهِ تَسْبِيحَ الْبَحْرِ بِمَا فِيهِ لِلْعَلِيِّ الْقَدِيرِ، الَّذِي لَا يُرَدّ مَا أَنْفَذَهُ مِنَ التَّقْدِيرِ، فَحِينَئِذٍ نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ. {أَنْ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 87] . قَالَ اللَّهُ {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 88] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصَّافَّاتِ: 143، 144] وَقَالَ هَاهُنَا: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: وَهُوَ مَغْمُومٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَأَبُو مَالِكٍ: مَكْرُوبٌ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: {لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} خَرَجَتِ الْكَلِمَةُ تَحُفّ حَوْلَ الْعَرْشِ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، هَذَا صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ غَرِيبَةٍ. فَقَالَ اللَّهُ: أَمَا تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: هَذَا يُونُسُ. قَالُوا: يَا رَبُّ، عَبْدُكُ الَّذِي لَا يَزَالُ يُرْفَعُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَدَعْوَةٌ مُجَابَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: أَفَلَا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الرَّخَاءِ فَتُنْجِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ؟ فَأَمَرَ اللَّهُ الْحُوتَ فَأَلْقَاهُ بِالْعَرَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حديث سفيان الثَّوْرِيِّ (1) وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هريرة (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمَا: {لَيُزْلِقُونَكَ} لَيُنْفِذُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ، أَيْ: لَيُعِينُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ، بِمَعْنَى: يَحْسُدُونَكَ لِبُغْضِهِمْ إِيَّاكَ لَوْلَا وِقَايَةُ اللَّهِ لَكَ، وَحِمَايَتُهُ إِيَّاكَ مِنْهُمْ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ إِصَابَتُهَا وَتَأْثِيرُهَا حَقٌّ، بِأَمْرِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَثِيرَةٍ.
حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ العَتَكي، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ (ح) ، وَحَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ العَنْبَريّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ، عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ ذَرِيح، عَنِ الشَّعْبِيِّ -قَالَ الْعَبَّاسُ: عَنْ أَنَسٍ-قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمة أَوْ دَمٍ لَا يُرْقَأُ". لَمْ يَذْكُرِ الْعَبَّاسُ الْعَيْنَ. وَهَذَا لَفْظُ سُلَيْمَانَ (3) .
حَدِيثُ بُرَيدة بْنِ الحُصَيب، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَير، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ حُصَين، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
__________
(1) المسند (1/390) وصحيح البخاري برقم (4603) .
(2) صحيح البخاري برقم (4631) وصحيح مسلم برقم (2376) .
(3) سنن أبي داود برقم (3889) .(8/201)
بُرَيدة بْنِ الْحُصَيْبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمة" (1) .
هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَين بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ بُرَيْدَةَ مَوْقُوفًا، وَفِيهِ قِصَّةٌ (2) وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ بُرَيْدَةَ. قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ (3) وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ مِغْول، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَامِرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عِمَرَانَ بْنِ حُصَين مَوْقُوفًا (4) .
حَدِيثُ أَبِي جُنْدُبِ بْنِ جُنَادَةَ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ بْنِ البِرِند السَّامِيُّ، حَدَّثَنَا دَيْلَمُ بْنُ غَزوان، حَدَّثَنَا وهْب بْنُ أَبِي دُبَيٍّ، عَنْ أَبِي حَرْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْعَيْنَ لَتُولِعُ الرجلَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَيَتَصَاعَدُ حَالِقًا، ثُمَّ يَتَرَدَّى مِنْهُ" إِسْنَادُهُ غَرِيبٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ (5) .
حَدِيثُ حَابِسٍ التَّمِيمِيِّ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَرْبٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي حَيَّة بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ: أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا شَيْءَ فِي الْهَامِّ، وَالْعَيْنُ حَقٌّ، وَأَصْدَقُ الطيَرَة (6) الفَألُ" (7) .
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِهِ (8) ثُمَّ قَالَ غَرِيبٌ. قَالَ وَرَوَى شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ حَيَّة بْنِ حَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: كَذَلِكَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى وحُسَين بن محمد، عن شيبان، يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ حَيَّة، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا بَأْسَ فِي الْهَامِّ، وَالْعَيْنُ حَقٌّ، وَأَصْدَقُ الطِّيرَةِ الْفَأْلُ " (9) .
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ دُوَيد، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ ثَوْبَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "العين
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (3513) .
(2) صحيح مسلم برقم (220) .
(3) سنن الترمذي (4/345) .
(4) صحيح البخاري برقم (5705) وسنن أبي داود برقم (3884) وسنن التلامذي برقم (2075) .
(5) ورواه ابن عدي في الكامل (3/104) من طريق أبي يعلى لكنه وقع فيه: إبراهيم، عن ديلم، عن وهب بن أبي دبي، عن محجن، عن أبي زر به، فأسقط أبو حرب، وسيأتي توجيه ذلك من كلام ابن عدى، ورواه الإمام أحمد في المسند (5/146) من طريق يونس بن محمد، وابن عدى في الكامل (3/104) من طريق الصلت بن مسعود كلاهما عن ديلم بن غزوان عن وهب عن أبي حرب عن محجن عن أبي ذر به، قال ابن عدي: وهذا حديث يرويه ديلم عن وهب بن أبي دبي، وأظن أنه وهم من رواية الصلت حيث قال: عن وَهْبُ بْنُ أَبِي دُبَيٍّ، عَنْ أَبِي حَرْبٍ، عن محجن، ولعل أبا حرب هو محجن".
(6) في م: "الطير"، وفي أ: "الظن".
(7) المسند (5/70) .
(8) سنن الترمذي برقم (2061) .
(9) المسند (5/70) .(8/202)
حَقٌّ، الْعَيْنُ حَقٌّ، تَسْتَنْزِلُ الْحَالِقَ" (1) غَرِيبٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا وُهَيب، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ القَدَرَ سَبَقَت الْعَيْنُ، وَإِذَا اغْتُسلتم فَاغْسِلُوا". انْفَرَدَ بِهِ دُونَ الْبُخَارِيِّ (2) .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ المِنْهال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، يَقُولُ: "أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مَنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وهَامَّة، وَمَنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّة"، وَيَقُولُ هَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يُعَوِّذ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ".
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ الْمِنْهَالِ، بِهِ (3)
حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ابْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيف قَالَ: مَرَّ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بِسَهْلِ بْنِ حُنَيف، وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ وَلَا جلدَ مُخَبَّأَةٍ. فَمَا لَبِثَ أَنْ لُبِطَ بِهِ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: أَدْرِكْ سَهْلًا صَرِيعًا. قَالَ: "مَنْ تَتَّهِمُونَ بِهِ؟ ". قَالُوا: عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ. قَالَ: "عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ إِذَا رَأَى أَحَدَكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعجبه فَلْيَدعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ". ثُم دَعَا بِمَاءٍ فَأَمَرَ عَامِرًا أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفِقَيْنِ، وَرُكْبَتَيْهِ، ودَاخِلة إِزَارِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ.
قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَأَمَرَ أَنْ يكفَأ الْإِنَاءُ مِنْ خَلْفِهِ (4) .
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ. وَمِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: ويكفَأ الْإِنَاءُ مِنْ خَلْفِهِ. وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيف، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ. وَمِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ أَيْضًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ (5) .
حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ أَعْيُنِ (6) الْجَانِّ وَأَعْيُنِ الْإِنْسِ. فَلَمَّا نَزَلَ (7) الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بهما وترك ما سوى ذلك.
__________
(1) المسند (1/274) .
(2) صحيح مسلم برقم (2188) .
(3) صحيح البخاري برقم (3371) وسنن أبي داود برقم (4737) وسنن النرمذي برقم (2060) وسنن النسائي الكبرى برقم (10844) وسنن ابن ماجة برقم (3525) .
(4) سنن ابن ماجة برقم (3509) .
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (7617 - 7619) .
(6) في م: "من عين".
(7) في م: "فلما نزلت".(8/203)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ (1) أَبِي مَسْعُودٍ الجُرَيري، بِهِ (2) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهيب، حَدَّثَنِي أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اشْتَكَيْتَ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، من شر كل نفس وعين يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ (3) .
وَرَوَاهُ عَنْ عَفَّانَ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، مِثْلَهُ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ -إِلَّا أَبَا دَاوُدَ-مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ، بِهِ (4) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي نَضرة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -أَوْ: جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَكَى، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ كل حاسد وعين والله يُشفيك (5) .
وَرَوَاهُ أَيْضًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّفَاوِيِّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي نَضرة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِهِ (6) .
قَالَ أَبُو زُرْعَة الرَّازِيُّ: رَوَى عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، فِي معناه، وكلاهما صحيح.
حديث أبى هُرَيرة: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَر، عَنْ هَمَّام بْنِ مُنَبِّه قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيرة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ" (7) .
أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ (8) .
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّة، عَنِ الجُرَيري، عَنْ مُضَارب بْنِ حَزن، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ".تَفَرَّدَ بِهِ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّة، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، بِهِ (9) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا ثَوْرٌ -يَعْنِي ابْنَ يزيد-عن مكحول، عن أبي
__________
(1) في م: "سعيد بن أبي إياس".
(2) سنن ابن ماجة برقم (3511) وسنن الترمذي برقم (2058) وسنن النسائي (8/271) .
(3) المسند (3/28) .
(4) المسند (3/56) وصحيح مسلم برقم (2186) وسنن الترمذي برقم (975) وسنن النسائي الكبري برقم (10843) وسنن ابن ماجة برقم (3523) .
(5) المسند (3/75) .
(6) المسند (3/58) .
(7) المسند (2/318) .
(8) صحيح البخاري برقم (5740) وصحيح مسلم برقم (2187) .
(9) سنن ابن ماجة برقم (3507) والمسند (2/487) .(8/204)
هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "الْعَيْنُ حَقٌّ، ويحضُرها الشيطانُ، وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ" (1)
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قيس: سُئل أبو هُرَيرة: هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: الطِّيرَةُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَسْكَنِ وَالْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: إِذًا أَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَقُلْ! وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَصْدَقُ الطِّيرَةِ الفألُ، وَالْعَيْنُ حَقٌّ" (2) .
حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيس: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ عُروةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عُبَيد بْنِ رَفَاعَةَ الزُرقي قَالَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي جَعْفَرٍ تُصِيبُهُمُ الْعَيْنُ، أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: "نَعَمْ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ القدرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ".
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ (3) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عُرْوَة بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عُبَيد بْنِ رَفَاعَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، بِهِ (4) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
حَدِيثُ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي الخَصِيب، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ سُفْيَانَ، ومِسْعَر، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّاد، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَسْتَرِقِيَ مِنَ الْعَيْنِ (5) .
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، بِهِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفيانَ ومِسْعَر، كِلَاهُمَا عَنْ مَعْبَدٍ، بِهِ (6) ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَاجَهْ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا وُهَيب، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ فَإِنَّ النَّفْسَ حَقٌّ". تَفَرَّدَ بِهِ (7)
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضَّأُ وَيَغْسِلُ مِنْهُ المَعين (8) .
حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ حُنَيف: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَين بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ (9) حَدَّثَنَا الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهل بْنِ حُنَيف: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ
__________
(1) المسند (2/439) .
(2) المسند (2/289) .
(3) المسند (6/438) وسنن الترمذي برقم (2059) وسنن ابن ماجة برقم (3510) .
(4) سنن الترمذي برقم (2059) وسنن النسائي الكبرى برقم (7537) .
(5) سنن ابن ماجة برقم (3510) .
(6) صحيح البخاري برقم (5738) وصحيح مسلم برقم (2195) .
(7) سنن ابن ماجة برقم (3508) وقال البوصيري في الزوائد (3/134) ك "هذا إسناد فيه مقال".
(8) سنن أبي داود برقم (3880) .
(9) في م: "أبو إدريس".(8/205)
نَحْوَ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الخَرَار -مِنَ الْجُحْفَةِ-اغْتَسَلَ سهلُ بْنُ حُنَيف -وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسن الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ-فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأة. فلُبِطَ سَهْلٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ. وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَلَا يُفيق. قَالَ: "هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؟ ". قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِرًا، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: "عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، هَلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَركت؟ ". ثُمَّ قَالَ لَهُ: "اغْتَسِلْ لَهُ" -فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَرْفِقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ ودَاخلَة إِزَارِهِ فِي قَدح-ثُمَّ صُب ذَلِكَ الْمَاءَ عَلَيْهِ. يَصُبَه رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ يُكْفَأُ (1) . الْقَدَحُ وَرَاءَهُ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ، لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ (2) .
حَدِيثُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: "قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِ عَامِرٍ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، عَنْ أمَيّة بْنِ هِنْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْف، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: انْطَلَقَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَسَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ يُرِيدَانِ الْغُسْلَ، قَالَ: فَانْطَلَقَا يَلْتَمِسَانِ الخمرَ -قَالَ: فَوَضْعَ عَامِرٌ جُبَّة كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ صُوفٍ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَأَصَبْتُهُ بِعَيْنِي فَنَزَلَ الْمَاءَ يَغْتَسِلُ. قَالَ: فَسَمِعْتُ لَهُ فِي الْمَاءِ فَرْقَعَةً، فَأَتَيْتُهُ فَنَادَيْتُهُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُجِبْنِي. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ: فَجَاءَ يَمْشِي فَخَاضَ الْمَاءَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ، قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اصْرِفْ عَنْهُ حَرَّهَا وَبَرْدَهَا وَوَصَبَهَا". قَالَ: فَقَامَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ، أَوْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ مَالِهِ، مَا يُعْجِبُهُ، فَليُبَرِّك، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ" (3) .
حَدِيثُ جَابِرٍ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَر، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا طَالِبُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ -وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ الضَجِيع، ضَجِيعِ حَمْزَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْثَرُ مَنْ يَمُوتُ مِنْ أُمَّتِي بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدْرِهِ بِالْأَنْفُسِ" (4) .
قَالَ الْبَزَّارُ: يَعْنِي الْعَيْنَ. قَالَ وَلَا نَعْلَمُ يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
قُلْتُ: بَلْ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ؛ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْهَرَوِيُّ -الْمَعْرُوفُ بشَكَّر-فِي كِتَابِ الْعَجَائِبِ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ جَلِيلَةٍ وَغَرِيبَةٍ: حَدَّثَنَا الرَّهَاوِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُنكَدر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْعَيْنُ حَقٌّ، لتُورِد الرَّجُلَ الْقَبْرَ، وَالْجَمَلَ القِدر، وَإِنَّ أَكْثَرَ هَلَاكِ أمتي في العين" (5) .
__________
(1) في أ: "ثم يلقي".
(2) المسند (3/486) .
(3) المسند (3/486) .
(4) مسند البزار برقم (3052) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (5/106) : "رجاله رجال الصحيح، خلا طالب بن حبيب ابن عمرو، وهو ثقة".
(5) ورواه ابن عدي في الكامل (5/185) من طريق رحيم عن ابن أبي فديك عن علي بن أبي علي اللهبي، به. وقال [غير محفوظ] وعلي بن أبي علي هو آفنه، قال أحمد: يروي أحاديث مناكير عن جابر.(8/206)
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ تُدخل الرجلَ العينُ فِي الْقَبْرِ، وَتُدْخِلُ الْجَمَلَ الْقِدْرَ" (1) .
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: "قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي رُقية، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا عَدْوَى وَلَا طيرةَ، وَلَا هَامة وَلَا حَسَد، وَالْعَيْنُ حَقٌّ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (2) .
حَدِيثٌ عَنْ عَلِيٍّ: رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ خَيْثمة بْنِ سُلَيْمَانَ الْحَافِظِ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الكَشَوري، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْبَصْرِيُّ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ؛ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَقَهُ مُغْتَمًّا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا هَذَا الْغَمُّ الَّذِي أَرَاهُ فِي وَجْهِكَ؟ قَالَ: "الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ أَصَابَتْهُمَا عَيْنٌ". قَالَ: صَدَق بِالْعَيْنِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ، أَفَلَا عَوَّذْتَهُمَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: "وَمَا هُنَّ يَا جِبْرِيلُ؟ ". قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ ذَا السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ، ذَا الْمَنِّ (3) الْقَدِيمِ، ذَا الْوَجْهِ الْكَرِيمِ، وَلِيَّ الْكَلِمَاتِ التَّامَّاتِ، وَالدَّعَوَاتِ الْمُسْتَجَابَاتِ، عَافِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ أَنْفُسِ الْجِنِّ، وَأَعْيُنِ الْإِنْسِ. فَقَالَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَا يَلْعَبَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَوِّذوا أَنْفُسَكُمْ وَنِسَاءَكُمْ وَأَوْلَادَكُمْ بِهَذَا التَّعْوِيذِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَوَّذِ الْمُتَعَوِّذُونَ بِمِثْلِهِ".
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ أَبُو رَجَاءٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الحَيَطي (4) مِنْ أَهْلِ تُسْتَر. ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ "طَرَّادِ بْنِ الْحُسَيْنِ"، مِنْ تَارِيخِهِ (5) .
وَقَوْلُهُ: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أَيْ: يَزْدَرُونَهُ بِأَعْيُنِهِمْ وَيُؤْذُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَقُولُونَ: {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أَيْ: لِمَجِيئِهِ بِالْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}
__________
(1) ورواه ابن عدى في الكامل (6/408) وأبو نعيم في الحلية (7/90) من طرق عن شعيب بن أيوب به، وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الثوري، تفرد به معاويه" وكذا قال ابن عدى.
(2) المسند (2/222) .
(3) في م: "والمن".
(4) وقع في تاريخ دمشق: "محمد بن عبد الله الحنظلى" وفي كنز العمال: "محمد بن عبد الله الخطيبى" ولم يتبين لى الصواب، والله أعلم.
(5) تاريخ دمشق (8/503 "المخطوط") .(8/207)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحَاقَّةِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) }(8/208)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) }
الحاقةُ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَتَحقَّقُ الوَعدُ والوَعيد؛ وَلِهَذَا عَظَّم تَعَالَى أمرَها فَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} ؟
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى إِهْلَاكَهُ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا فَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} وَهِيَ الصَّيْحَةُ الَّتِي أَسْكَتَتْهُمْ، وَالزَّلْزَلَةُ الَّتِي أَسْكَنَتْهُمْ. هَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ: الطَّاغِيَةُ الصَّيْحَةُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطَّاغِيَةُ الذُّنُوبُ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا الطُّغْيَانُ، وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشَّمْسِ: 11] .
وَقَالَ السُّدِّي: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} قَالَ: يَعْنِي: عَاقِرَ النَّاقَةِ.
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أَيْ: بَارِدَةٍ. قَالَ قَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: {عَاتِيَةٍ} أَيْ: شَدِيدَةِ الْهُبُوبِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَتَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَقَّبت عَنْ أَفْئِدَتِهِمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {صَرْصَرٍ} بَارِدَةٍ {عَاتِيَةٍ} عَتَتْ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ رَحْمَةٍ وَلَا بَرَكَةٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ: عَتَتْ عَلَى الْخَزَنَةِ فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} أَيْ: سَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} أي: كوامل متتابعات مشائيم.
__________
(1) تفسير الطبري (29/31) .(8/208)
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ {حُسُومًا} مُتَتَابِعَاتٍ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ وَالرَّبِيعِ: مَشَائِيمَ عَلَيْهِمْ، كَقَوْلِهِ: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فُصِّلَتْ: 16] قَالَ الرَّبِيعُ: وَكَانَ أَوَّلُهَا الْجُمْعَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ الْأَرْبِعَاءَ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّاسُ الْأَعْجَازَ؛ وَكَأَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي عَجُزِ الشِّتَاءِ، وَيُقَالُ: أَيَّامُ الْعَجُوزِ؛ لِأَنَّ عَجُوزًا مِنْ قَوْمِ عَادٍ دَخَلَتْ سَرَبا فَقَتَلَهَا الرِّيحُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ. حَكَاهُ الْبَغْوَيُّ (1) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {خَاوِيَةٍ} خَرِبَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَالِيَةٍ، أَيْ: جَعَلَتِ الرِّيحُ تَضْرِبُ بِأَحَدِهِمُ الْأَرْضَ فَيَخِرُّ مَيِّتًا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَيَنْشَدِخُ رَأْسُهُ وَتَبْقَى جُثَّتُهُ هَامِدَةً كَأَنَّهَا قَائِمَةُ النَّخْلَةِ إِذَا خَرَّتْ بِلَا أَغْصَانٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قَالَ: "نُصِرْتُ بالصَّبا، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور" (2) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الضِّريس الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيل، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي أُهْلِكُوا فِيهَا إِلَّا مِثْلَ مَوْضِعِ الْخَاتَمِ، فَمرّت بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ فَحَمْلَتْهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَجَعَلَتْهُمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الْحَاضِرَةِ الرِّيحَ (3) وَمَا فِيهَا قَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا. فَأَلْقَتْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَمَوَاشِيَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ" (4) .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: الرِّيحُ لَهَا جَنَاحَانِ وَذَنَبٌ.
{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} ؟ أَيْ: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَقَايَاهُمْ أَنَّهُ (5) مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِمْ؟ بَلْ بَادُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُمْ خَلفَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} قُرئ بِكَسْرِ الْقَافِ، أَيْ: وَمِنْ عِنْدِهِ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ مِنْ كُفَّارِ الْقِبْطِ. وَقَرَأَ آخَرُونَ بِفَتْحِهَا، أَيْ: وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الْمُشْبِهِينَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} وَهُمُ الْمُكَذِّبُونَ بِالرُّسُلِ. {بِالْخَاطِئَةِ} أَيْ بِالْفِعْلَةِ الْخَاطِئَةِ، وَهِيَ التَّكْذِيبُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
قَالَ الرَّبِيعُ: {بِالْخَاطِئَةِ} أَيْ: بِالْمَعْصِيَةِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْخَطَايَا.
__________
(1) معالم التنزيل للبغوي (208) .
(2) صحيح البخاري برقم (1035) وصحيح مسلم برقم (900) .
(3) في م: "فلما رأى أهل الحاضر من عاد الريح".
(4) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/421) وأبو الشيخ في العظمة برقم (806) من طريق محمد بن فضيل عن مسلم، به. وقال الهيثمي في المجمع (7/113) : "فيه مسلم الملائي وهو ضعيف".
(5) في م: "أو".(8/209)
وَلِهَذَا قَالَ: تَعَالَى {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} وَهَذَا جِنْسٌ، أَيْ: كُلّ كذّبَ رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ. كَمَا قَالَ: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14] . (1) وَمَنْ كَذَّبَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْجَمِيعِ، كَمَا قَالَ: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 105] ، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 123] . {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 141] وَإِنَّمَا جَاءَ إِلَى كُلِّ أُمَّةٍ رسول واحد؛ ولهذا قال هاهنا: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أَيْ: عَظِيمَةً شَدِيدَةً أَلِيمَةً.
قَالَ مُجَاهِدٌ: {رَابِيَةً} شَدِيدَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُهْلِكَةً.
ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} أَيْ: زَادَ عَلَى الْحَدِّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَارْتَفَعَ عَلَى الْوُجُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: {طَغَى الْمَاءُ} كَثُرَ -وَذَلِكَ بِسَبَبِ دَعْوَةِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى قَوْمِهِ حِينَ كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، فَعَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وعَمّ أَهْلَ الْأَرْضَ بِالطُّوفَانِ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ سُلَالَةِ نُوحٍ وَذُرِّيَّتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَان، عَنْ أَبِي سِنَانٍ سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمْ تَنْزِلْ قَطْرَةٌ مِنْ مَاءٍ إِلَّا بِكَيْلٍ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ نُوحٍ أُذِنَ لِلْمَاءِ دُونَ الْخَزَّانِ، فَطَغَى الْمَاءُ عَلَى الْخَزَّانِ فَخَرَجَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وَلَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا بِكَيْلٍ عَلَى يَدَيْ مَلَكٍ، إِلَّا يَوْمَ عَادٍ، فَإِنَّهُ أُذِنَ لَهَا دُونَ الْخَزَّانِ فَخَرَجَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} عَتَتْ عَلَى الْخَزَّانِ (2) .
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى النَّاسِ: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وَهِيَ السَّفِينَةُ الْجَارِيَةُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} عَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْجِنْسِ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، أَيْ: وَأَبْقَيْنَا لَكُمْ مِنْ جِنْسِهَا مَا تَرْكَبُونَ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ فِي الْبِحَارِ، كَمَا قَالَ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه} [الزُّخْرُفِ: 12، 13] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 41، 42] .
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَى اللَّهُ السَّفِينَةَ حَتَّى أَدْرَكَهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أَيْ: وَتَفْهَمَ هَذِهِ النِّعْمَةَ، وَتَذْكُرَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَافِظَةٌ سَامِعَةٌ (3) وَقَالَ قَتَادَةُ: {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} عَقَلَتْ (4) عَنِ اللَّهِ فَانْتَفَعَتْ بِمَا سَمِعَتْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} سَمِعَتْهَا أُذُنٌ وَوَعَتْ. أَيْ: مَنْ لَهُ سَمْعٌ صَحِيحٌ وَعَقْلٌ رَجِيحٌ. وَهَذَا عام فيمن فهم، ووعى.
__________
(1) في م، أ، هـ: "إن كل إلا".
(2) تفسير الطبري (29/32) .
(3) في م: "سامعة حافظة".
(4) في م: "تحفظت"، وفي أ: "حفظت".(8/210)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعة الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ صُبْحٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَوْشَبٍ، سَمِعْتُ مَكْحُولًا يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَ (1) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَهَا أذُنَ عَلِيّ". [قَالَ مَكْحُولٌ] (2) فَكَانَ عَلِيّ يَقُولُ: مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ فَنَسِيتُهُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ مَكْحُولٍ (3) بِهِ. وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ (4) بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَبُو مُحَمَّدٍ -يَعْنِي وَالِدَ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ-حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ الْهَيْثَمِ، سَمِعْتُ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ: "إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُدْنِيَكَ وَلَا أُقْصِيَكَ، وَأَنْ أُعْلِمَكَ وَأَنْ تَعِيَ، وحُقّ لَكَ أَنْ تَعِيَ". قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ آدَمَ، بِهِ (5) ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ دَاوُدَ الْأَعْمَى، عَنْ بُرَيدة، بِهِ. وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ نَفْخَةُ الْفَزَعِ، ثُمَّ يَعْقُبُهَا نَفْخَةُ الصَّعْقِ حِينَ يُصعق مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ بَعْدَهَا نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَهِيَ هَذِهِ النَّفْخَةُ. وَقَدْ أَكَّدَهَا هَاهُنَا بِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكْرَارٍ وَتَأْكِيدٍ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ: هِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ. وَالظَّاهِرُ مَا قُلْنَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} أَيْ: فَمُدَّتْ مَدّ الْأَدِيمِ العُكَاظي، وتَبَدّلت الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ، {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أَيْ: قَامَتِ الْقِيَامَةُ. {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} قَالَ سِماك، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: تَنْشَقُّ السَّمَاءُ مِنَ الْمَجَرَّةِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هِيَ كَقَوْلِهِ: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19] .
__________
(1) في م، أ: "لما نزلت".
(2) زيادة من م، أ.
(3) تفسير الطبري (29/35) .
(4) في أ: "حدثنا بشير".
(5) تفسير الطبري (29/36) ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في الكنز برقم (36426) وقال ابن عساكر: "هذا إسناد لا يعرف والحديث شاذ".(8/211)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُنْخَرِقَةٌ، وَالْعَرْشُ بِحِذَائِهَا.
{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} الْمَلَكُ: اسْمُ جِنْسٍ، أَيِ: الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى مَا لَمْ يَهِ مِنْهَا، أَيْ: حَافَّتِهَا. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَطْرَافُهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَبْوَابُهَا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} يَقُولُ: عَلَى مَا اسْتَدَقَّ مِنَ السَّمَاءِ، يَنْظُرُونَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْعَرْشِ الْعَرْشَ الْعَظِيمَ، أَوِ: الْعَرْشَ الَّذِي يُوضَعُ فِي الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَميرة، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فِي ذِكْرِ حَمَلة الْعَرْشِ أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ (1) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ يحيى بن سَعِيدٍ (2) حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي أَبُو السَّمْحِ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو قَبيل حُيَي بْنُ هَانِئٍ: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: حَمَلَةُ الْعَرْشُ ثَمَانِيَةٌ، مَا بَيْنَ مُوق أَحَدِهِمْ إِلَى مُؤَخَّرِ عَيْنِهِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أذنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حَمَلة الْعَرْشِ: بُعْدُ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَعُنُقِهِ بِخَفْقِ الطَّيْرِ سَبْعُمِائَةِ عَامٍ".
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ "السُّنَّةِ" مِنْ سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ: أَنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ". هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} قَالَ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: ورُوي عَنِ الشَّعْبِيِّ [وَعِكْرِمَةَ] (4) وَالضَّحَّاكِ. وَابْنِ جُرَيْج، مِثْلُ ذَلِكَ. وَكَذَا رَوَى السُّدِّي عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ. وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنْهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الكَرُوبيّون ثَمَانِيَةُ أَجْزَاءٍ، كُلُّ جِنْسٍ (5) مِنْهُمْ بِقَدْرِ (6) الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَالْمَلَائِكَةِ.
وَقَوْلُهُ: (7) أَيْ تُعْرَضُونَ على عالم السر والنجوى الذي
__________
(1) حديث الأوعال رواه أبو داود في السنن برقم (4723) وتقدم عند تفسير الآية: 7 من سورة غافر.
(2) في م: "حدثنا أبو سعيد عن ابن سعيد".
(3) سنن أبي داود برقم (4727) .
(4) زيادة من م، أ.
(5) في م: "كل جزء".
(6) في أ: "بعدة".
(7) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية(8/212)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِكُمْ، بَلْ هُوَ عَالِمٌ بِالظَّوَاهِرِ وَالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقان، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنوا، فَإِنَّهُ أَخَفُّ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (1) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَفَاعَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فجدالٌ ومعاذيرُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ".
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيع، بِهِ (2) وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيْب عَنْ وَكِيعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الحسن، عن أبي هريرة، بِهِ (3) .
وَقَدْ رَوَى ابنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدِ بن موسى، عن يزيد، بن سليم بْنِ حَيَّانَ، عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْغَرِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ: عَرْضَتَانِ، مَعَاذِيرُ وَخُصُومَاتٌ، وَالْعَرْضَةُ الثَّالِثَةُ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي. وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَروبة، عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا مِثْلَهُ (4) .
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ سَعَادَةِ مَنْ أَوُتِيَ كِتَابَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِيَمِينِهِ، وَفَرَحِهِ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ يَقُولُ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَهُ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} أَيْ: خُذُوا اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي فِيهِ خَيْرٌ وَحَسَنَاتٌ مَحْضَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ بَدل اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} أَيْ: هَا اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ، وَ "ؤُمْ" زَائِدَةٌ. كَذَا قَالَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا بِمَعْنَى: هَاكُمْ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبَى حَاتِمٍ حَدَّثَنَا: بِشْرُ بْنُ مَطَرٍ (5) الْوَاسِطِيُّ، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا
__________
(1) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا برقم (2) وذكره المؤلف في مسند عمر (2/618) وقال: "أثر مشهور وفيه انقطاع، وثابت بن الحجاج هذا جزري تابعي صغير لم يدرك، ولم يرو عنه سوى جعفر بن برقان، وله عند أبي داود في السنن حديثان".
(2) المسند (14/414) وسنن ابن ماجة برقم (4277) وقال البوصيري في الزوائد (3/315) : "هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع، الحسن لم يسمح من أبي موسي. قاله علي لن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة".
(3) سنن الترمذي برقم (2425) .
(4) تفسير الطبري (29/38) .
(5) في أ: "بشر بن مطير".(8/213)
عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: الْمُؤْمِنُ يُعْطَى كِتَابَهُ [بِيَمِينِهِ] (1) فِي سِتْرٍ مِنَ اللَّهِ، فَيَقْرَأُ سَيِّئَاتِهِ، فَكُلَّمَا قَرَأَ سَيِّئَةً تَغَيَّرَ لَوْنُهُ حَتَّى يَمُرَّ بِحَسَنَاتِهِ فَيَقْرَؤُهَا، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ لَوْنُهُ. ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِذَا سَيِّئَاتُهُ قَدْ بُدِّلَتْ حَسَنَاتٍ، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ (2) أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ -غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ-قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَقِفُ عَبْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُبْدِي سَيِّئَاتِهِ فِي ظَهْرِ صَحِيفَتِهِ، فَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ عَمِلْتَ هَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ لَهُ إِنِّي لَمْ أَفْضَحْكَ بِهِ، وَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ. فَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} حِينَ نَجَا مِنْ فَضْحه يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحِ حديثُ ابْنِ عُمَرَ حِينَ سُئِلَ عَنِ النجوى، فقال: سمعت النبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يُدْنِي اللهُ العبدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فيُقَرِّره بِذُنُوبِهِ كُلِّهَا، حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ اللَّهُ: إِنِّي سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. ثُمَّ يُعطَى كتابَ حَسَنَاتِهِ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادِ: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هُودٍ: 18] (3) .
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} أَيْ: قَدْ كُنْتُ مُوقِنًا فِي الدُّنْيَا أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، كَمَا قَالَ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [الْبَقَرَةِ: 46] .
قَالَ اللَّهُ: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أَيْ: مُرْضِيَّةٍ، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أَيْ: رَفِيعَةٌ قُصُورُهَا، حِسَانٌ حُورُهَا، نَعِيمَةٌ دُورُهَا، دَائِمٌ حُبُورُهَا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عُتْبَةَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ السَّكُوني، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْأَسْوَدِ قَالَ: سمعتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ: سَأَلَ رجلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ يَتَزَاوَرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِنَّهُ لَيَهْبِطُ أَهْلُ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا إِلَى أَهْلِ الدَّرَجَةِ السُّفْلَى، فَيُحَيُّونَهُمْ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَهْلُ الدَّرَجَةِ السُّفْلَى يَصْعَدُونَ إِلَى الْأَعْلَيْنَ، تَقْصُرُ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ" (4)
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "إِنَّ الْجَنَّةَ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (5) .
وَقَوْلُهُ: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: أَيْ قَرِيبَةٌ، يَتَنَاوَلُهَا أَحَدُهُمْ، وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى سَرِيرِهِ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: [حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدُّبُرِيُّ] (6) عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سفيان الثوري،
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ: "موسى بن أبي عبيدة".
(3) انظر: تفسير الآية: 18 من سورة هود وتخريجه هناك.
(4) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (421) من طريق جعفر بن الزبير وبشر بن نمير، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعًا بنحوه، وجعفر بن الزبير وبشر بن نمير متروكان واتهما بالوضع.
(5) صحيح البخاري برقم (2790) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(6) زيادة من المعجم الكبير للطبراني (6/272) .(8/214)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أنْعُمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا بِجَوَازٍ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، أَدْخِلُوهُ جَنَّةً عَالِيَةً، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ" (1) .
وَكَذَا رَوَاهُ الضِّيَاءُ فِي صِفَةِ الجنة من طريق سعدان بن سعيد، بن سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنِ سَلْمَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُعْطَى الْمُؤْمِنُ جَوَازا عَلَى الصِّرَاطِ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِفُلَانٍ، أَدْخِلُوهُ جَنَّةً عَالِيَةً، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ" (2) .
وَقَوْلُهُ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ؛ تَفَضُّلًا عَلَيْهِمْ، وَامْتِنَانًا وَإِنْعَامًا وَإِحْسَانًا. وَإِلَّا فَقَدَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اعْمَلُوا وَسَدِّدوا وقَاربُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يدخلَه عملُه الجنةَ". قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدني اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ" (3) .
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) }
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (6/272) وعبد الرحمن بن زياد ضعيف، ورواه ابن عدى في الكامل (1/344) من طريق إسحاق الدبري، به. وقال: "حدث عن عبد الرزاق بحديث منكر" ثم ذكر هذا الحديث.
(2) ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/446) من طريق أبي بكر -محمد بن خشام- عن العباس البلخي، عن سعدان بن سعيد الحكمي عن سليمان التيمي به. وقال ابن الجوززي: "هذا حديث لا يصح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما الطريق الأول -أي طريق عبد الرزاق- ففيه عبد الرحمن بن زياد قال أحمد بن حنبل: نحن لا نروى عن عبد الرحمن. وقال ابن حبان: يروى الموضوعات عن الثقات ويدلس. وأما الطريق الثاني، فقال الدارقطني: تفرد به سعدان عن التيمي. قال ابن الجوزي: سعدان مجهول، وكذلك محمد بن خشام".
(3) صحيح البخاري برقم (5673) وصحيح مسلم برقم (2816) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه(8/215)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ (37) }
وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ إِذَا أُعْطِيَ أَحَدُهُمْ كِتَابَهُ فِي العَرَصات بِشَمَالِهِ، فَحِينَئِذٍ يَنْدَمُ غَايَةَ النَّدَمِ، فَيَقُولُ: {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}
قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي مَوْتَةً لَا حَيَاةَ بَعْدَهَا. وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالرَّبِيعُ، وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: تَمَنَّى (1) الْمَوْتَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ فِي الدُّنْيَا أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِنْهُ.
{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أَيْ: لَمْ يَدْفَعْ عَنِّي مَالِي وَلَا جَاهِي عذابَ اللَّهِ وبَأسه، بَلْ خَلَص الْأَمْرُ إليَّ وَحْدِي، فَلَا مُعِينَ لِي وَلَا مُجِيرَ. فَعِنْدَهَا يَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}
__________
(1) في م: "يعني".(8/215)
أَيْ: يَأْمُرُ الزَّبَانِيَةَ أَنْ تَأْخُذَهُ عنْفًا مِنَ الْمَحْشَرِ، فَتَغُله، أَيْ: تَضَعُ الْأَغْلَالَ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ تُورده إِلَى جَهَنَّمَ فَتُصِلِيهِ إِيَّاهَا، أَيْ: تَغْمُرُهُ فِيهَا.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا: أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنِ المِنْهَال بْنِ عَمْرٍو قَالَ: إِذَا قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ {خُذُوهُ} ابْتَدَرَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِنَّ الْمَلَكَ مِنْهُمْ لَيَقُولُ هَكَذَا، فَيُلْقِي سَبْعِينَ أَلْفًا فِي النَّارِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي "الْأَهْوَالِ": أَنَّهُ يَبْتَدِرُهُ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ، وَلَا يَبْقَى شَيْءٌ إِلَّا دَقَه، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلَكَ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ الرَّبَّ عَلَيْكَ غَضْبَانُ، فَكُلُّ شَيْءٍ غَضْبَانٌ عَلَيْكَ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ -هُوَ ابْنُ عِيَاضٍ-: إِذَا قَالَ الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} ابْتَدَرَهُ سَبْعُونَ ألفا مَلَكٍ، أَيُّهُمْ يَجْعَلُ الْغُلَّ فِي عُنُقِهِ.
{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أَيِ: اغْمُرُوهُ فِيهَا.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارُ: كُلُّ حَلْقَةٍ مِنْهَا قَدْرُ حَدِيدِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ العَوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ: بِذِرَاعِ الْمَلَكِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَاسْلُكُوهُ} تَدَخُلُ فِي اسْتِهِ ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، ثُمَّ يُنْظَمُونَ فِيهَا كَمَا يُنَظَمُ الْجَرَادُ فِي الْعُودِ حِينَ يُشْوَى.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُسْلَكُ فِي دُبُرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ مَنْخِرَيْهِ، حَتَّى لَا يَقُومَ عَلَى رِجْلَيْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهُ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ رَصَاصة مِثْلَ هَذِهِ -وَأَشَارَ إِلَى [مِثْلِ] (1) جُمْجُمة-أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ، لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا الليلَ والنهارَ، قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ قَعْرَهَا أَوْ أَصْلَهَا".
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ سُوَيْد بْنِ نَصْرٍ (2) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، بِهِ (3) قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أَيْ: لَا يَقُومُ بِحَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَلَا يَنْفَعُ خَلْقَهُ وَيُؤَدِّي حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَلِلْعِبَادِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَقُّ الْإِحْسَانِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَقُبِضَ النَّبَيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: "الصَّلَاةَ، وما ملكت أيمانكم" (4) .
__________
(1) زيادة من المسند والترمذي.
(2) في أ: "سويد بن سعيد".
(3) المسند (2/197) وسنن الترمذي برقم (2588) .
(4) جاء من حديث أنس، وعلي وأم سلمة، وسفينة، رضي الله عنهم، وحديث علي، رضي الله عنه: "كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم ... " فذكره، رواه الإمام أحمد في المسند (1/78) وأبو داود في السنن برقم (5154) .(8/216)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
وقوله: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ} أَيْ: لَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ مَنْ يُنْقِذُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، لَا حَمِيمٌ -وَهُوَ الْقَرِيبُ-وَلَا شَفِيعٌ يُطَاعُ، وَلَا طَعَامٌ له هاهنا إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ شَرُّ طَعَامِ أَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ: هُوَ شَجَرَةٌ فِي جَهَنَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدَّبُ، عَنْ خُصَيف، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أَدْرِي مَا الْغِسْلِينُ، وَلَكِنِّي أَظُنُّهُ الزَّقُّومَ.
وَقَالَ شَبِيب بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْغِسْلِينُ: الدَّمُ وَالْمَاءُ يَسِيلُ مِنْ لُحُومِهِمْ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ: الْغِسْلِينُ: صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) }
يَقُولُ تَعَالَى مُقسمًا لِخَلْقِهِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا غَابَ عَنْهُمْ مِمَّا لَا يُشَاهِدُونَهُ مِنَ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْهُمْ: إِنَّ الْقُرْآنَ كلامُه وَوَحْيُهُ وتنزيلُه عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ لِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَقَالَ: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا، أَضَافَهُ إِلَيْهِ عَلَى مَعْنَى التَّبْلِيغِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَلِّغَ عَنِ الْمُرْسِلِ؛ وَلِهَذَا أَضَافَهُ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ إِلَى الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} وَهَذَا جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ} يَعْنِي: أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أَيْ: بِمُتَّهَمٍ {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التَّكْوِيرِ: 19 -25] ، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} ، فَأَضَافَهُ تَارَةً إِلَى قَوْلٍ الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ، وَتَارَةً إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ مَا اسْتَأْمَنَهُ عَلَيْهِ مِنْ وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا شُرَيح بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: خَرَجْتُ أَتَعَرَّضُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ، قَالَ: فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ. قَالَ: فَقَرَأَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} قَالَ: فَقُلْتُ: كَاهِنٌ. قَالَ فَقَرَأَ: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}(8/217)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. قَالَ: فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ (1) .
فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُؤَثِّرَةً فِي هِدَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، كَمَا أَوْرَدْنَا كَيْفِيَّةَ إِسْلَامِهِ فِي سِيرَتِهِ الْمُفْرَدَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ (2) .
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ (44) لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} أَيْ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ كَمَا يَزْعُمُونَ مُفْتَرِيًا عَلَيْنَا، فَزَادَ فِي الرِّسَالَةِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا، أَوْ قَالَ شَيْئًا مِنْ عِنْدِهِ فَنَسَبَهُ إِلَيْنَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَعَاجَلْنَاهُ بِالْعُقُوبَةِ. وَلِهَذَا قَالَ {لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} قِيلَ: مَعْنَاهُ لَانْتَقَمْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا أَشَدُّ فِي الْبَطْشِ، وَقِيلَ: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِيَمِينِهِ.
{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ نِيَاطُ الْقَلْبِ، وَهُوَ العِرْقُ الَّذِي الْقَلْبُ مُعَلَّقٌ فِيهِ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَكَمُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُسْلِمٌ البَطِين، وَأَبُو صَخْرٍ حُميد بْنُ زِيَادٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ الْقَلْبُ ومَرَاقَّه وَمَا يَلِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} أَيْ: فَمَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ يَحْجِزَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ إِذَا أَرَدْنَا بِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى فِي هَذَا (3) بَلْ هُوَ صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، مُقَرِّرٌ لَهُ مَا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ، وَمُؤَيِّدٌ لَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ (4) وَالدَّلَالَاتِ الْقَاطِعَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فُصِّلَتْ: 44] .
ثُمَّ قَالَ (5) {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} أَيْ: مَعَ هَذَا الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ، سَيُوجَدُ مِنْكُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِالْقُرْآنِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّ التَّكْذِيبَ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ يَوْمَ القيامة وحكاه عن قتادة بمثله.
__________
(1) المسند (1/17) .
(2) في أ: "ولله الحمد والمنة".
(3) في م: "في ذلك".
(4) في م: "القاهرات".
(5) في م: "كما قال"(8/218)
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} يَقُولُ: لَنَدَامَةٌ. وَيُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْقُرْآنِ، أَيْ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ بِهِ لَحَسْرَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الشُّعَرَاءِ: 200، 201] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] ولهذا قال ها هنا: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} أَيِ: الْخَبَرُ الصِّدْقُ الْحَقُّ الذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ.
ثُمَّ قَالَ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أَيِ: الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. [آخِرُ تفسير سورة "الحاقة"، ولله الحمد (1) ] (2)
__________
(1) في أ: "ولله الحمد والمنة والثناء والحمد الجميل".
(2) زيادة من م، أ.(8/219)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
تَفْسِيرُ سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) }
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} فِيهِ تَضْمِينٌ دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ "الْبَاءِ"، كَأَنَّهُ مُقَدر: يَسْتَعْجِلُ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. كَقَوْلِهِ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أَيْ: وَعَذَابُهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ المِنْهَال بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قَالَ: النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَة.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قَالَ: ذَلِكَ سُؤَالُ الْكُفَّارِ عَنْ عَذَابِ اللَّهِ وَهُوَ وَاقِعٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: تَعَالَى {سَأَلَ سَائِلٌ} دَعَا دَاعٍ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُهُمْ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الْأَنْفَالِ: 32] .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أَيْ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، يَسِيلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَذَابِ. وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، بَعِيدٌ عَنِ الْمُرَادِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ} أَيْ: مُرصد مُعَدّ لِلْكَافِرِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَاقِعٍ} جَاءٍ {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} أَيْ: لَا دَافِعَ لَهُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ كَوْنَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشُ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {ذِي الْمَعَارِجِ} قَالَ: ذُو الدَّرَجَاتِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ذِي الْمَعَارِجِ} يَعْنِي: الْعُلُوُّ وَالْفَوَاضِلُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {ذِي الْمَعَارِجِ} مَعَارِجِ السَّمَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذِي الْفَوَاضِلِ وَالنِّعَمِ.(8/220)
وَقَوْلُهُ: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: {تَعْرُجُ} تَصْعَدُ.
وَأَمَّا الرُّوحُ فَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. يُشْبِهُونَ النَّاسَ، وَلَيْسُوا أُنَاسًا.
قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلَ، وَيَكُونَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جِنْسٍ لِأَرْوَاحِ بَنِي آدَمَ، فَإِنَّهَا إِذَا قُبِضَتْ يُصعد بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَرَاءِ. وَفِي الحديث الذي رواه الإمام أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ المِنْهَال، عَنْ زَاذَانَ، عَنِ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا -الْحَدِيثُ بِطُولِهِ فِي قَبْضِ الرُّوحِ الطَّيِّبَةِ-قَالَ فِيهِ: "فَلَا يَزَالُ يُصْعَدُ بِهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ (1) السَّابِعَةِ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، فَقَدْ تُكلم فِي بَعْضِ رُوَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ مَشْهُورٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْهُ وَهَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ عَلَى شَرْطِ الْجَمَاعَةِ، وَقَدْ بَسَطْنَا لَفْظَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إِبْرَاهِيمَ: 27] .
وَقَوْلُهُ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَسَافَةُ مَا بَيْنَ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، وَهُوَ قَرَارُ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَذَلِكَ مَسِيرَةُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، هَذَا ارْتِفَاعُ الْعَرْشِ عَنِ الْمَرْكَزِ الَّذِي فِي وَسَطِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَذَلِكَ اتِّسَاعُ الْعَرْشِ مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ مَسِيرَةُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ صِفَةِ الْعَرْشِ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا حَكَّام، عَنْ عُمَر بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: مُنْتَهَى أَمْرِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْأَرَضِينَ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِ من فوق السموات مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَيَوْمٌ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ. يَعْنِي بِذَلِكَ: تَنزل الْأَمْرِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَذَلِكَ مِقْدَارُهُ أَلْفُ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِقْدَارُ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ حَكَّام بْنِ سَلْمٍ، عَنْ عُمَر بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ، لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ (2) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّنافِسيّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا نُوحٌ الْمُؤَدَّبُ، عَنْ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: غِلَظُ كُلِّ أَرْضٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، فَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافِ عام. وغلظ كل سماء
__________
(1) في م: "السماء التي فيها الله".
(2) تفسير الطبري (29/44) .(8/221)
خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى السَّمَاءِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، فَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ عَامٍ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَبَيْنَ الْعَرْشِ مَسِيرَةُ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ عَامٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مُدَّةُ بَقَاءِ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ هَذَا الْعَالَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: الدُّنْيَا عُمْرُهَا خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَذَلِكَ عُمْرُهَا يَوْمَ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ} قَالَ: الْيَوْمُ: الدُّنْيَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ -وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، لَا يَدْرِي أحدٌ كَمْ مَضَى، وَلَا كَمْ بَقِيَ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ (1) .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْيَوْمُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٍ جِدًّا. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، حَدَّثَنَا بُهلول بْنُ الْمُورِقِ (2) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: هُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. هَذَا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: فَهَذَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكَافِرِينَ مِقْدَارَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا دَرّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لِيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يصليها في الدنيا".
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (2/253) .
(2) في أ: "بهلول بن معروف".(8/222)
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، بِهِ (1) إِلَّا أَنَّ دَرّاجا وَشَيْخَهُ ضَعِيفَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الغُداني قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي هُرَيرة فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا أَكْثَرُ عَامِرِيٍّ مَالًا. فَقَالَ أبو هريرة: رُدُّوهُ (2) فَقَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّكَ ذُو مَالٍ كَثِيرٍ؟ فَقَالَ الْعَامِرِيُّ: إِيْ وَاللَّهِ، إِنَّ لِي لَمِائَةً حُمْرًا ومائة أُدْمًا، حَتَّى عَدَّ مِنْ أَلْوَانِ الْإِبِلِ، وَأَفْنَانِ الرقيق، ورباط الخيل فقال أبو هريرة: إِيَّاكَ وَأَخْفَافَ الْإِبِلِ وأظلافَ النَّعَمِ (3) -يُرَدّد ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّى جَعَلَ لونُ الْعَامِرِيُّ يَتَغَيَّرُ-فَقَالَ: مَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيرة؟ قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يقول: "مَنْ كَانَتْ لَهُ إبلٌ لَا يُعْطِي حَقَّهَا فِي نَجْدَتِهَا ورِسْلها -قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا نجدتُها ورِسْلُها؟ قَالَ: "فِي عُسرها وَيُسْرِهَا-" فَإِنَّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغَذِّ مَا كَانَتْ وَأَكْثَرِهِ وَأَسْمَنِهِ وَآشَرِهِ، حَتَّى يُبْطَحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرقَر، فَتَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا، فَإِذَا جَاوَزَتْهُ أُخْرَاهَا أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فَيَرَى سَبِيلَهُ، وَإِذَا كَانَتْ لَهُ بَقَرٌ لَا يُعْطِي حَقَّهَا فِي نَجْدَتِهَا وَرِسْلِهَا، فَإِنَّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغَذِّ مَا كَانَتْ وَأَكْثَرِهِ وَأَسْمَنِهِ وَآشَرِهِ ثم يُبْطَحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرقَر فَتَطَؤُهُ كُلُّ ذَاتِ ظِلْفٍ بِظِلْفِهَا، وَتَنْطَحُهُ كُلُّ ذَاتِ قَرْنٍ بِقَرْنِهَا، إِذَا جَاوَزَتْهُ أُخْرَاهَا أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فَيَرَى سَبِيلَهُ. وَإِذَا كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ لَا يُعْطِي حَقَّهَا فِي نَجْدَتِهَا وَرِسْلِهَا، فَإِنَّهَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغَذِّ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنِهِ وَآشَرِهِ، حَتَّى يُبْطَحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرقَر، فَتَطَؤُهُ كُلُّ ذَاتِ ظِلْفٍ بِظِلْفِهَا وَتَنْطَحُهُ كُلُّ ذَاتِ قَرْنٍ بِقَرْنِهَا، لَيْسَ فِيهَا عَقصاء وَلَا عَضْبَاءُ، إِذَا جَاوَزَتْهُ أُخْرَاهَا أُعِيدَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ". قَالَ الْعَامِرِيُّ: وَمَا حَقُّ الْإِبِلِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: أَنْ تُعْطِيَ الْكَرِيمَةَ، وَتَمْنَحَ الغَزيرَة، وَتُفْقِرَ الظَّهْرَ، وتَسقيَ اللَّبَنَ (4) وتُطرقَ الْفَحْلَ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبة، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، بِهِ (5) .
طَرِيقٌ أُخْرَى لِهَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، عَنْ سُهَيل (6) بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ صَاحِبٍ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ إِلَّا جُعِلَ صَفَائِحَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَتُكْوَى بِهَا بجهته وَجَنْبُهُ وَظَهْرُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تُعِدُّونَ، ثُمَّ يُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ". وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ فِي الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ: "الْخَيْلُ الثلاثة؛ لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى
__________
(1) المسند (3/75) وتفسير الطبري (29/45) ودراج عن أب الهيثم ضعيف.
(2) في أ: "ردوه إلى".
(3) في م: "الغنم".
(4) في م: "وتسقي الإبل".
(5) المسند (2/489) وسنن أبي داود برقم (1660) وسنن النسائي (5/12) .
(6) في أ: "عن سهل".(8/223)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
رَجُلٍ وِزْرٌ" إِلَى آخِرِهِ (1) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِتَمَامِهِ مُنْفَرِدًا بِهِ دُونَ الْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ سُهَيل (2) عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيرة (3) وَمَوْضِعُ اسْتِقْصَاءِ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي "الْأَحْكَامِ"، وَالْغَرَضُ مِنْ إِيرَادِهِ هَاهُنَا قَوْلُهُ: "حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ".
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يَعْقُوبَ (4) عَنِ ابْنِ عُلَيَّة وَعَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكة قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قَالَ: فَاتَّهَمَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِيهِ، فَقَالَ: مَا يَوْمٌ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا سَأَلْتُكَ لِتُحَدِّثَنِي. قَالَ: هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِمَا لَا أَعْلَمُ (5) .
وَقَوْلُهُ: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا} أَيِ: اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ، وَاسْتِعْجَالِهِمُ الْعَذَابَ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِهِ، كَقَوْلِهِ: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشُّورَى: 18] قَالَ: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} أَيْ: وُقُوعَ الْعَذَابِ وَقِيَامَ السَّاعَةِ يَرَاهُ الْكَفَرَةُ بَعِيدَ الْوُقُوعِ، بِمَعْنَى مُسْتَحِيلَ الْوُقُوعِ، {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ قَرِيبًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَمَدٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لَكِنْ كُلُّ مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ قَرِيبٌ وَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) }
__________
(1) المسند (2/262) .
(2) في أ: "سهل".
(3) صحيح مسلم برقم (987) .
(4) في أ: "عن منصور".
(5) تفسير الطبري (29/45) .(8/224)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
{يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلا إِنَّهَا لَظَى (15) نزاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) }
يَقُولُ تَعَالَى: العذابُ وَاقِعٌ بِالْكَافِرِينَ {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، كدرْديّ الزَّيْتِ، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} أَيْ: كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [الْقَارِعَةِ: 5] .
وَقَوْلُهُ: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ} أَيْ: لَا يَسْأَلُ الْقَرِيبُ عَنْ حَالِهِ، وَهُوَ يَرَاهُ فِي أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ، فَتَشْغَلُهُ نَفْسُهُ عَنْ غَيْرِهِ.
قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَفِرُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ(8/224)
بَعْدَ ذَلِكَ، يَقُولُ: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لُقْمَانَ: 33] . وَكَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فَاطِرَ: 18] . وَكَقَوْلِهِ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 101] . وَكَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عَبَسَ: 34 -37] .
وَقَوْلُهُ: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلا} أَيْ: لَا يَقْبَلُ مِنْهُ فِدَاءً وَلَوْ جَاءَ بِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَبِأَعَزِّ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْمَالِ، وَلَوْ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، أَوْ مِنْ وَلَدِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا حُشَاشة كَبِدِهِ، يَوَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا رَأَى الْأَهْوَالَ أَنْ يَفْتَدِيَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِهِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: {فَصِيلَتِهِ} قَبِيلَتِهِ وَعَشِيرَتِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَخذه الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَشْهَبُ، عَنْ مَالِكٍ: {فَصِيلَتِهِ} أُمِّهِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهَا لَظَى} يَصِفُ النَّارَ وَشِدَّةَ حَرِّهَا {نزاعَةً لِلشَّوَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: جِلْدَةُ الرَّأْسِ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {نزاعَةً لِلشَّوَى} الْجُلُودِ وَالْهَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا دُونَ الْعَظْمِ مِنَ اللَّحْمِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْعَصَبُ. وَالْعَقِبُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: {نزاعَةً لِلشَّوَى} يَعْنِي: أَطْرَافَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. وَقَالَ أَيْضًا: نَزَّاعَةً لَحْمَ السَّاقَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: {نزاعَةً لِلشَّوَى} أَيْ: مَكَارِمَ وَجْهِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: تَحْرِقُ كُلَّ شَيْءٍ فِيهِ، وَيَبْقَى فُؤَادُهُ يَصِيحُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: {نزاعَةً لِلشَّوَى} أَيْ: نَزَّاعَةً لِهَامَتِهِ وَمَكَارِمِ وَجهه وخَلْقَه وَأَطْرَافِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَبْرِي اللَّحْمَ وَالْجِلْدَ عَنِ الْعَظْمِ، حَتَّى لَا تَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشَّوَى: الْآرَابُ الْعِظَامُ. فَقَوْلُهُ: نَزَّاعَةً، قَالَ: تَقْطَعُ عِظَامَهُمْ، ثُمَّ يُجَدد خَلْقُهُمْ وَتُبَدَّلُ جُلُودُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أَيْ: تَدْعُو النَّارُ إِلَيْهَا أَبْنَاءَهَا الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللَّهُ لَهَا، وَقَدَّرَ لَهُمْ أَنَّهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا يَعْمَلُونَ عَمَلَهَا، فَتَدْعُوهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِسَانٍ طَلق ذَلِق، ثُمَّ تَلْتَقِطُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ كَمَا يَلْتَقِطُ الطَّيْرُ الْحَبَّ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ -كَمَا قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ-كَانُوا مِمَّنْ {أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} أَيْ: كَذَّبَ بِقَلْبِهِ، وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِجَوَارِحِهِ {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أَيْ: جَمَعَ الْمَالَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَأَوْعَاهُ، أَيْ: أَوْكَاهُ وَمَنَعَ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَاتِ وَمِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: "وَلَا تُوعي فَيُوعي اللَّهُ عَلَيْكِ" (1) وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكيم لَا يَرْبُطُ لَهُ كِيسًا وَيَقُولُ: سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى}
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَا ابْنَ آدَمَ، سمعتَ وعيدَ اللَّهِ ثُمَّ أوعيتَ الدُّنْيَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} قال: كان جَمُوعًا قمُومًا للخَبيث.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (1434) ومسلم في صحيحه برقم (1029) من حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عنهما.(8/225)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
{إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْإِنْسَانِ وَمَا هُوَ مَجْبُولٌ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ: {إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} أَيْ: إِذَا أَصَابَهُ الضُّرُّ فَزِعَ وَجَزِعَ وَانْخَلَعَ قَلْبُهُ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ، وَأَيِسَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَيْرٌ.
{وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} أَيْ: إِذَا حَصَلَتْ لَهُ (1) نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ بَخِلَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمَنَعَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُلَيّ بنُ رَباح: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بن الحكم قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيرة يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شَرُّ مَا فِي رَجُلٍ شُحٌ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي، بِهِ (2) وَلَيْسَ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ عِنْدَهُ سِوَاهُ.
ثُمَّ قَالَ: {إِلا الْمُصَلِّينَ} أَيِ: الْإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الذَّمِّ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ، وَهَدَاهُ إِلَى الْخَيْرِ وَيَسَّرَ لَهُ أَسْبَابَهُ، وَهُمُ الْمُصَلُّونَ {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ يُحَافِظُونَ عَلَى أَوْقَاتِهِمْ وَوَاجِبَاتِهِمْ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالدَّوَامِ هَاهُنَا السُّكُونُ وَالْخُشُوعُ، كَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1، 2] . قَالَهُ عُتْبَةُ بْنُ عَامِرٍ. وَمِنْهُ الْمَاءُ الدَّائِمُ، أَيِ: السَّاكِنُ الرَّاكِدُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الَّذِينَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا دَاوَمُوا عَلَيْهِ وَأَثْبَتُوهُ، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحُ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلّ". وَفِي لَفْظٍ: "مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ"، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا داوم عليه. وفي لفظ: أثبته (3) .
__________
(1) في م: "عنده".
(2) المسند (2/320) وسنن أبي داود برقم (2511) .
(3) صحيح البخاري برقم (43، 6465) وصحيح مسلم برقم (785) من حديث عائشة، رضي الله عنها.(8/226)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} ذُكر لَنَا أَنَّ دَانْيَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَعَتَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يُصَلُّونَ صَلَاةً لَوْ صَلَّاهَا قَوْمُ نُوحٍ مَا غَرِقُوا، أَوْ قَوْمُ عَادٍ مَا أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الرِّيحُ الْعَقِيمُ، أَوْ ثَمُودُ مَا أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ. فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهَا خُلُق لِلْمُؤْمِنِينَ حَسَنٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أَيْ: فِي أَمْوَالِهِمْ نَصِيبٌ مُقَرِّرٌ لِذَوِي الْحَاجَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي "سُورَةِ الذَّارِيَاتِ".
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أَيْ: يُوقِنُونَ بِالْمَعَادِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ عَمَلَ مَنْ يَرْجُو الثَّوَابَ وَيَخَافُ الْعِقَابَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أَيْ: خَائِفُونَ وَجِلُونَ، {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} أَيْ: لَا يَأْمَنُهُ أَحَدٌ مِمَّنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ إِلَّا بِأَمَانٍ مِنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أَيْ: يَكُفُّونَهَا عَنِ الْحَرَامِ وَيَمْنَعُونَهَا أَنْ تُوضَعَ فِي غَيْرِ مَا أَذِنَ اللَّهُ [فِيهِ] (1) وَلِهَذَا قَالَ: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أَيْ: مِنَ الْإِمَاءِ، {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ (2) {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} بِمَا أَغْنَى عَنِّي إعادته هاهنا.
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أَيْ: إِذَا اؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، وَإِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَغْدِرُوا. وَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، وَضِدُّهَا صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، كَمَا وَرَدَ فِي (3) الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ". وَفِي رِوَايَةٍ: "إِذَا حَدَّث كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَر، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ" (4) .
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} أَيْ: مُحَافِظُونَ عَلَيْهَا لَا يَزِيدُونَ فِيهَا، وَلَا يَنْقُصُونَ مِنْهَا، وَلَا يَكْتُمُونَهَا، {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [الْبَقَرَةِ: 283] .
ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (5) أَيْ: عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَمُسْتَحِبَّاتِهَا، فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ وَاخْتَتَمَهُ بِذِكْرِهَا، فَدَلَّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِهَا وَالتَّنْوِيهِ بِشَرَفِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ؛ سَوَاءٌ لِهَذَا قَالَ هُنَاكَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 10، 11] وَقَالَ هَاهُنَا: {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} أَيْ: مُكْرَمُونَ بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ وَالْمَسَارِّ.
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) }
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م: "سورة المؤمنون".
(3) في م: "كما ورد به".
(4) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية: 8 من سورة المؤمنون.
(5) في أ: "على صلاتهم".(8/227)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) }(8/227)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ (1) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ مُشَاهِدُونَ لَهُ، وَلِمَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَمَا أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَاتِ، ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ فَارُّونَ مِنْهُ، مُتَفَرِّقُونَ عَنْهُ، شَارِدُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا فِرَقًا فِرَقًا، وشِيعًا شِيعًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [الْمُدَّثِّرِ: 49، 51] الْآيَةَ وَهَذِهِ مِثْلُهَا؛ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} أَيْ: فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ عِنْدَكَ يَا مُحَمَّدُ {مُهْطِعِينَ} أَيْ مُسْرِعِينَ نَافِرِينَ مِنْكَ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {مُهْطِعِينَ} أَيْ: مُنْطَلِقِينَ، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} وَاحِدُهَا عزَةٌ، أَيْ: مُتَفَرِّقِينَ. وَهُوَ حَالٌ مِنْ مُهْطِعِينَ، أَيْ: فِي حَالِ تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ: فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ، مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ، مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} قَالَ: قَبِلَكَ يَنْظُرُونَ، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} قَالَ: الْعِزِينُ: العُصَب مِنَ النَّاسِ، عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ مُعْرِضِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ. حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، عَنِ الْحَسَنِ (2) فِي قَوْلِهِ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} مُتَفَرِّقِينَ، يَأْخُذُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا يَقُولُونَ: مَا قَالُ هَذَا الرَّجُلُ؟
وَقَالَ قَتَادَةُ: {مُهْطِعِينَ} عَامِدِينَ، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} أَيْ: فِرَقًا حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرْغَبُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ وعَبْثَر بْنُ الْقَاسِمِ (3) وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، ووَكِيع، وَيَحْيَى الْقَطَّانُ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَيْهِمْ (4) وَهُمْ حِلَقٌ، فَقَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟ "
رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، به (5)
__________
(1) في أ: "في زمان".
(2) في م: "عن الحسين".
(3) في م: "وعبثر بن القاسم وعيسى بن يونس".
(4) في م: "خرج على أصحابه".
(5) المسند (5/93) وصحيح مسلم برقم (430) وسنن أبي داود برقم (4823) وسنن النسائي الكبرى برقم (11622) وتفسير الطبري (29/54) .(8/228)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّل، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ حِلَق حِلق، فَقَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟ " (1) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَوْلُهُ: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} أَيْ: أَيُطْمِعُ هَؤُلَاءِ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ-مِنْ فِرَارِهِمْ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِفَارِهِمْ عَنِ الْحَقِّ -أَنْ يَدْخُلُوا جَنَّاتِ النَّعِيمِ؟ كَلَّا بَلْ مَأْوَاهُمُ الْجَحِيمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُقَرِّرًا لِوُقُوعِ الْمَعَادِ وَالْعَذَابِ بِهِمُ الَّذِي أَنْكَرُوا كَوْنَهُ وَاسْتَبْعَدُوا وُجُودَهُ، مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِمْ بِالْبُدَاءَةِ الَّتِي الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنْهَا وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَا، فَقَالَ {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} أَيْ: مِنَ الْمَنِيِّ الضَّعِيفِ، كَمَا قَالَ: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [الْمُرْسَلَاتِ: 20] . وَقَالَ: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطَّارِقِ: 5 -10] .
ثُمَّ قَالَ: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} أي: الذي خلق السموات وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا، وَسَخَّرَ الْكَوَاكِبَ تَبْدُو مِنْ مَشَارِقِهَا وَتَغِيبُ فِي مَغَارِبِهَا. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنْ لَا مَعَادَ وَلَا حِسَابَ، وَلَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ وَاقِعٌ وَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَلِهَذَا أَتَى بِ "لَا" فِي ابْتِدَاءِ الْقَسَمِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ نَفْيٌ، وَهُوَ مَضْمُونُ الْكَلَامِ، وَهُوَ الرَّدُّ عَلَى زَعْمِهِمُ الْفَاسِدِ فِي نَفْيِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ إقامة القيامة، وهو خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَتَسْخِيرُ مَا فِيهِمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَسَائِرِ صُنُوفِ الْمَوْجُودَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غَافِرٍ: 57] وَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَحْقَافِ: 33] . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 81، 82] . وَقَالَ هَاهُنَا: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُعِيدُهُمْ بِأَبْدَانٍ خَيْرٍ مِنْ هَذِهِ، فَإِنَّ قُدْرَتَهُ صَالِحَةٌ لِذَلِكَ، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أَيْ: بِعَاجِزِينَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: 3، 4] . وَقَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 6، 61] .
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} أَيْ: أُمَّةً تُطِيعُنَا وَلَا تَعْصِينَا وَجَعَلَهَا، كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 38] . والمعنى الأول أظهر لدلالة
__________
(1) تفسير الطبري (29/54) .(8/229)
الْآيَاتِ الْأُخَرِ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَذَرْهُمْ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} أَيْ: دَعْهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أَيْ: فَسَيَعْلَمُونَ غِبَّ ذَلِكَ وَيَذُوقُونَ وَبَالَهُ {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} أَيْ: يَقُومُونَ مِنَ الْقُبُورِ إِذَا دَعَاهُمُ الرَّبُّ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ، يَنْهَضُونَ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوْفِضُونَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: إِلَى عَلَم يَسْعَوْنَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: إِلَى غَايَةٍ يَسْعَوْنَ إِلَيْهَا.
وَقَدْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ: "نَصْب" بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَنْصُوبِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {نُصُبٍ} بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِّ، وَهُوَ الصَّنَمُ، أَيْ: كَأَنَّهُمْ فِي إِسْرَاعِهِمْ إِلَى الْمَوْقِفِ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُهَرْوِلُونَ إِلَى النُّصُبِ إِذَا عَايَنُوهُ يُوْفِضُونَ، يَبْتَدِرُونَ، أَيُّهُمْ يَسْتَلِمُهُ أَوَّلَ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَمُسْلِمٍ البَطين (1) وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَعَاصِمِ بْنِ بَهْدَلة، وَابْنِ زَيْدٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أَيْ: خَاضِعَةً {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ مَا اسْتَكْبَرُوا فِي الدُّنْيَا عَنِ الطَّاعَةِ، {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "سَأَلَ سَائِلٌ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.
__________
(1) في م: "وأبو مسلم البطين".(8/230)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)
تَفْسِيرُ سُورَةِ نُوحٍ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَى قَوْمِهِ آمِرًا لَهُ أَنْ يُنْذِرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ قَبْلَ حُلُولِهِ بِهِمْ، فَإِنْ تَابُوا وَأَنَابُوا رَفْعَ عَنْهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أَيْ: بَيِّنُ النِّذَارَةِ، ظَاهِرُ الْأَمْرِ وَاضِحُهُ.
{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أَيِ: اتْرُكُوا مَحَارِمَهُ وَاجْتَنِبُوا مَآثِمَهُ {وَأَطِيعُونِ} فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُ.
{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أَيْ: إِذَا فَعَلْتُمْ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَصَدَّقْتُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.
وَ " مِنْ " هَاهُنَا قِيلَ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ. وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِزِيَادَتِهَا فِي الْإِثْبَاتِ قَلِيلٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِ الْعَرَبِ: "قَدْ كَانَ مِنْ مَطَرٍ". وَقِيلَ: إِنَّهَا بِمَعْنَى "عَنْ" تَقْدِيرُهُ: يَصْفَحُ لَكُمْ عَنْ ذُنُوبِكُمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ (1) وَقِيلَ: إِنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ يَغْفِرُ لَكُمُ الذُّنُوبَ الْعِظَامَ الَّتِي وَعَدَكُمْ عَلَى ارْتِكَابِكُمْ إِيَّاهَا الِانْتِقَامَ.
{وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ: يَمُدُّ فِي أَعْمَارِكُمْ وَيَدْرَأُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ الَّذِي إِنْ لَمْ تَنْزَجِرُوا عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ، أَوْقَعَهُ بِكُمْ. (2)
وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الطَّاعَةَ وَالْبِرَّ وَصِلَةَ الرَّحِمِ، يُزَادُ بِهَا فِي الْعُمْرِ حَقِيقَةً؛ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ: "صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ".
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَيْ: بَادِرُوا بِالطَّاعَةِ قَبْلَ حُلُولِ النِّقْمَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَمَرَ [اللَّهُ] (3) تَعَالَى بِكَوْنِ ذَلِكَ لَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ، فَإِنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، الْعَزِيزُ الَّذِي دَانَتْ لِعِزَّتِهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) }
__________
(1) تفسير الطبري (29/57) .
(2) في أ: "أو يعذبكم".
(3) زيادة من أ.(8/231)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا (20) }(8/231)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ اشْتَكَى إِلَى رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَا صَبَرَ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي هِيَ أَلْفُ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَمَا بَيَّنَ لِقَوْمِهِ وَوَضَّحَ لَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الرُّشْدِ وَالسَّبِيلِ الْأَقْوَمِ، فَقَالَ: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا} أَيْ: لَمْ أَتْرُكْ دُعَاءَهُمْ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، امْتِثَالًا لِأَمْرِكَ وَابْتِغَاءً لِطَاعَتِكَ، {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا} أَيْ: كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِيَقْتَرِبُوا مِنَ الْحَقِّ فَروا مِنْهُ وحَادُوا عَنْهُ،. {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أَيْ: سَدُّوا آذَانَهُمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا مَا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] .
{وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} قال ابن جريح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَنَكَّرُوا لَهُ لِئَلَّا يَعْرِفَهُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ: غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ لِئَلَّا يَسْمَعُوا مَا يَقُولُ.
{وَأَصَرُّوا} أَيْ: اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ (1) مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ الْعَظِيمِ الْفَظِيعِ، {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} أَيْ: وَاسْتَنْكَفُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ.
{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} أَيْ: جَهْرَةً بَيْنَ النَّاسِ.
{ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} أَيْ: كَلَامًا ظَاهِرًا بِصَوْتٍ عَالٍ، {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} أَيْ: فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ لِتَكُونَ أَنْجَعَ فِيهِمْ.
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} أَيِ: ارْجِعُوا إِلَيْهِ وَارْجِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ وَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ، فَإِنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ (2) مَهْمَا كَانَتْ فِي الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ. وَلِهَذَا قَالَ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} أَيْ: مُتَوَاصِلَةَ الْأَمْطَارِ. وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ لِأَجْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ لِيَسْتَسْقِيَ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الاستغفار، وقرأ الآيات في الاستغفار. ومنها
__________
(1) في م: "ما هم عليه".
(2) في أ: "ولو كان ذنبه".(8/232)
هَذِهِ الْآيَةُ {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْغَيْثَ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ (1) الَّتِي سَتُنْزِلُ بِهَا الْمَطَرَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا.
وَقَوْلُهُ: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} أَيْ: إِذَا تُبْتُمْ إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفَرْتُمُوهُ وَأَطَعْتُمُوهُ، كَثُرَ الرِّزْقُ عَلَيْكُمْ، وَأَسْقَاكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْبَتَ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، وَأَنْبَتَ لَكُمُ الزَّرْعَ، وَأَدَرَّ لَكُمُ الضَّرْعَ، وَأَمَدَّكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ، أَيْ: أَعْطَاكُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، وَجَعَلَ لَكُمْ جَنَّاتٍ فِيهَا أَنْوَاعَ الثِّمَارِ، وَخَلَّلَهَا بِالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهَا.
هَذَا مَقَامُ الدَّعْوَةِ بِالتَّرْغِيبِ. ثُمَّ عَدَلَ بِهِمْ إِلَى دَعْوَتِهِمْ بِالتَّرْهِيبِ فَقَالَ: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} أَيْ: عَظْمَةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُعَظِّمُونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ، أَيْ: لَا تَخَافُونَ مِنْ بَأْسِهِ وَنِقْمَتِهِ.
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} قِيلَ: مَعْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَيَحْيَى بْنُ رَافِعٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ.
وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} ؟ أَيْ: وَاحِدَةً فَوْقَ وَاحِدَةٍ، وَهَلْ هَذَا يُتَلَقَّى مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ فَقَطْ؟ أَوْ هِيَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُدْرَكَةِ بِالْحِسِّ، مِمَّا عُلِمَ مِنَ التَّسْيِيرِ وَالْكُسُوفَاتِ، فَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ السَّيَّارَةَ يَكْسِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَأَدْنَاهَا الْقَمَرُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَهُوَ يَكْسِفُ مَا فَوْقَهُ، وَعُطَارِدُ فِي الثَّانِيَةِ، وَالزُّهَرَةُ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمَرِّيخُ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرِي فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّابِعَةِ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْكَوَاكِبِ -وَهِيَ الثَّوَابِتُ-فَفِي فَلَك ثَامِنٍ يُسَمُّونَهُ فَلَكَ الثَّوَابِتِ. وَالْمُتَشَرِّعُونَ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ الْكُرْسِيُّ، وَالْفَلَكُ التَّاسِعُ، وَهُوَ الْأَطْلَسُ. وَالْأَثِيرُ عِنْدَهُمُ الَّذِي حَرَكَتُهُ عَلَى خِلَافِ حَرَكَةِ سَائِرِ الْأَفْلَاكِ، وَذَلِكَ أَنَّ حَرَكَتَهُ مَبْدَأُ الْحَرَكَاتِ، وَهِيَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ؛ وَسَائِرُ الْأَفْلَاكِ عَكْسُهُ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَمَعَهَا يَدُورُ سَائِرُ الْكَوَاكِبِ تَبَعًا، وَلَكِنْ لِلسَّيَّارَةِ حَرَكَةٌ مُعَاكِسَةٌ لِحَرَكَةِ أَفْلَاكِهَا، فَإِنَّهَا تَسِيرُ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ. وَكُّلٌ يَقْطَعُ فَلَكَهُ بِحَسْبِهِ، فَالْقَمَرُ يَقْطَعُ فَلَكَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، وَالشَّمْسُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَزُحَلُ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ سَنَةً مَرَّةً، وَذَلِكَ بِحَسْبِ اتِّسَاعِ أَفْلَاكِهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرَكَةُ الْجَمْعِ فِي السُّرْعَةِ مُتَنَاسِبَةً. هَذَا مُلَخَّصُ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، لَسْنَا بِصَدَدِ بَيَانِهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ: {خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} أَيْ: فَاوَتَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِنَارَةِ فَجَعَلَ كُلًّا مِنْهُمَا أُنْمُوذَجًا عَلَى حِدَةٍ، لِيُعْرَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ بِمَطْلَعِ الشَّمْسِ وَمَغِيبِهَا، وَقَدَّرَ الْقَمَرَ مَنَازِلَ وَبُرُوجًا، وَفَاوَتَ نُورَهُ، فَتَارَةً يَزْدَادُ حَتَّى يَتَنَاهَى ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ حَتَّى يَسْتَسِرَّ، لِيَدُلَّ عَلَى مُضِيِّ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، كَمَا قَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5] .
__________
(1) في م: "بمجادح"، وفي أ: "بمخارج".(8/233)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا} هَذَا اسم مصدر، والإتيان به هاهنا أَحْسَنُ، {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} أَيْ: إِذَا مُتُّمْ {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعِيدُكُمْ كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا} أَيْ: بَسَطَهَا وَمَهَّدَهَا وَقَرَّرَهَا وثَبتها بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ الشُّمِّ الشَّامِخَاتِ.
{لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا} أَيْ: خَلَقَهَا لَكُمْ لِتَسْتَقِرُّوا عَلَيْهَا وَتَسْلُكُوا فِيهَا (1) أَيْنَ شِئْتُمْ، مِنْ نَوَاحِيهَا وَأَرْجَائِهَا وَأَقْطَارِهَا، وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُنَبِّهُهُمْ بِهِ نُوحٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ على قدرة الله وعظمته في خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ الْمَنَافِعِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ، جَعَلَ السَّمَاءَ بِنَاءً، وَالْأَرْضَ مِهَادًا، وَأَوْسَعَ (2) عَلَى خَلْقِهِ مِنْ رِزْقِهِ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَيُوَحَّدَ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا عَديل (3) لَهُ، وَلَا نِدَّ وَلَا كُفْءَ، وَلَا صَاحِبَةَ وَلَا وَلَدَ، وَلَا وَزِيرَ وَلَا مُشِيرَ، بَلْ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا (24) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَنْهَى إِلَيْهِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ، أَنَّهُ مَعَ الْبَيَانِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَالدَّعْوَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الْمُتَشَمِّلَةِ عَلَى التَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى: أَنَّهُمْ عَصَوْهُ وَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، وَاتَّبَعُوا أَبْنَاءَ الدُّنْيَا مِمَّنْ غَفَلَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَمُتِّعَ بِمَالٍ وَأَوْلَادٍ، وَهِيَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ اسْتِدْرَاجٌ وَإِنْظَارٌ لَا إِكْرَامٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا} قُرئ {وَوُلْدُهُ} بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ، وَكِلَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: {كُبَّارًا} أَيْ عَظِيمًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {كُبَّارًا} أَيْ: كَبِيرًا. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَمْرٌ عَجِيبٌ وعُجَاب وعُجَّاب. وَرَجُلٌ حُسَان. وحُسَّان: وجُمَال وجُمَّال، بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} أَيْ: بِاتِّبَاعِهِمْ فِي تَسْوِيلِهِمْ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى، كَمَا يَقُولُونَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} [سَبَأٍ:33] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} وَهَذِهِ أَسْمَاءُ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَالَ عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ: أَمَّا وَد: فَكَانَتْ لكلب بدومة الجندل؛ وأما
__________
(1) في م: "منها".
(2) في م: "ووسع".
(3) في م، أ: "ولا عدل".(8/234)
سُوَاعٌ: فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادَ، ثُمَّ لِبَنِي غُطَيف بالجُرُف عِنْدَ سَبَأٍ، أَمَّا يُعوقُ: فَكَانَتْ لهَمْدان، وَأَمَّا نَسْرٌ: فَكَانَتْ لِحَمِيرَ لِآلِ ذِي كَلاع، وَهِيَ (1) أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ. فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وتَنَسَّخَ (2) الْعِلْمُ عُبِدت (3)
وَكَذَا رُوي عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ إِسْحَاقَ، نَحْوُ هَذَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَذِهِ أَصْنَامٌ كَانَتْ (4) تُعْبَدُ فِي زَمَنِ نُوحٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ { [يَغُوثَ] وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (5) قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَرناهم كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى الْعِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ. فَصَوَّرُوهُمْ، فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ، فَعَبَدُوهُمْ. (6)
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ شِيثَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي جُويبر وَمُقَاتِلٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَرْبَعُونَ وَلَدًا، عِشْرُونَ غُلَامًا وَعِشْرُونَ جَارِيَةً، فَكَانَ مِمَّنْ عَاشَ مِنْهُمْ: هَابِيلُ، وَقَابِيلُ، وَصَالِحٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ -وَالَّذِي كَانَ سَمَّاهُ عَبْدَ الْحَارِثِ-ووَدّ، وَكَانَ وَدّ يُقَالُ لَهُ "شِيثَ" وَيُقَالُ لَهُ: "هِبَةُ اللَّهِ" وَكَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ سَوّدوه، وَوُلِدَ لَهُ سَوَاع وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسْرٌ. (7)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَر الدّوريُّ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدَّبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرمز عَنْ أَبِي حزْرَة، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: اشْتَكَى آدَمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِنْدَهُ بَنُوهُ: وَدٌّ، وَيَغُوثُ، [وَيَعُوقُ] (8) وَسُوَاعٌ، وَنَسْرٌ -قَالَ وَكَانَ وَدّ أكبَرهم وَأَبَرَّهُمْ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي الْمُطَهِّرِ قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ -وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي-يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، قَالَ: فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: ذَكَرْتُمْ يزيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، أَمَا إِنَّهُ قُتِلَ فِي أَوَّلِ أَرْضٍ عُبد فِيهَا غيرُ اللَّهِ. قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ وَدًّا -قَالَ: وَكَانَ وَدٌّ رَجُلًا مُسْلِمًا وَكَانَ مُحَبَّبًا فِي قَوْمِهِ، فَلَمَّا مَاتَ عَسْكَرُوا حَوْلَ قَبْرِهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ وَجَزِعُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ جَزَعهم عَلَيْهِ، تَشَبَّهَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَرَى جَزَعَكُمْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ أُصَوِّرَ لَكُمْ مثله، فيكونَ في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا:
__________
(1) في أ: "ونسرا وهي".
(2) في م: "ونسخ".
(3) صحيح البخاري برقم (4920) .
(4) في م: "كانت هذه أصنام".
(5) زيادة من م.
(6) تفسير الطبري (29/62) .
(7) تاريخ دمشق (8/165) "المخطوط") .
(8) زيادة من م، أ.(8/235)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
نَعَمْ. فصُوِّر لَهُمْ مَثَلُهُ، قَالَ: وَوَضَعُوهُ فِي نَادِيهِمْ وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ. فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ قَالَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَجْعَلَ فِي مَنْزِلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَيَكُونَ (1) لَهُ فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَمَثَّلَ لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ، قَالَ: وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ، قَالَ وَتَنَاسَلُوا ودَرَس أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ، حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا عُبِدَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ: الصَّنَمُ الَّذِي سَمَّوْهُ وَدّا.
وَقَوْلُهُ: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} يَعْنِي: الْأَصْنَامَ الَّتِي اتَّخَذُوهَا أَضَلُّوا بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، فَإِنَّهُ اسْتَمَرَّتْ عِبَادَتُهَا فِي الْقُرُونِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا فِي الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَسَائِرِ صُنُوفِ بَنِي آدَمَ. وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي دُعَائِهِ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إِبْرَاهِيمَ: 35، 36] .
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا} دُعَاءٌ مِنْهُ عَلَى قَوْمِهِ لِتَمَرُّدِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، كَمَا دَعَا مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَثَلِهِ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يُونُسَ: 88] وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنَ النَّبِيَّيْنِ فِي قَوْمِهِ، وَأَغْرَقَ أُمَّتَهُ بِتَكْذِيبِهِمْ لِمَا جَاءَهُمْ بِهِ.
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا (28) }
يَقُولُ تَعَالَى: {مِمَّا خَطايَاهُمْ} وَقُرِئَ: {خَطِيئَاتِهِمْ} {أُغْرِقُوا} أَيْ: مِنْ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} أَيْ: نُقِلُوا مِنْ تَيَّارِ الْبِحَارِ (2) إِلَى حَرَارَةِ النَّارِ، {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُعِينٌ وَلَا مُغيث وَلَا مُجير يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ} [هُودٍ: 43] .
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} أَيْ: لَا تَتْرُكْ عَلَى [وَجْهِ] (3) الْأَرْضِ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا تُومُريَّا (4) وَهَذِهِ مِنْ صِيَغِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: {دَيَّارًا} وَاحِدًا. وَقَالَ السُّدِّي: الدَّيَّارُ: الَّذِي يَسْكُنُ الدَّارَ.
فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَأَهْلَكَ جَمِيعَ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ حَتَّى وَلَدَ نُوحٍ لِصُلْبِهِ الَّذِي اعْتَزَلَ عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] .
__________
(1) في م: "ليكون".
(2) في م: "البحر".
(3) زيادة من م، أ.
(4) في م: "ولادومريا".(8/236)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُرِئَ (1) عَلَى يُونُسَ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي شَبيب بْنُ سَعْدٍ، عَنِ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا، لَرَحِمَ امْرَأَةً، لَمَّا رَأَتِ الْمَاءَ حَمَلَتْ وَلَدَهَا ثُمَّ صَعِدَتِ الْجَبَلَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ صَعِدَتْ (2) بِهِ مَنْكِبَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ مَنْكِبَهَا وَضَعَتْ وَلَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَأْسَهَا رَفَعَتْ وَلَدَهَا بِيَدِهَا. فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لِرَحِمِ هَذِهِ الْمَرْأَةَ". (3)
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَنَجَّى اللَّهُ أَصْحَابَ السَّفِينَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُمُ الَّذِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِحَمْلِهِمْ مَعَهُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} أَيْ: إِنَّكَ إِنْ أَبْقَيْتَ مِنْهُمْ أَحَدًا أَضَلُّوا عِبَادَكَ، أَيِ: الَّذِينَ تَخْلُقُهُمْ بَعْدَهُمْ {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} أَيْ: فَاجِرًا فِي الْأَعْمَالِ كَافِرَ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ لِخِبْرَتِهِ بِهِمْ وَمُكْثِهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا.
ثُمَّ قَالَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي: مَسْجِدِي، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهُوَ أَنَّهُ دَعَا لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَيْوَة، أَنْبَأَنَا سَالِمُ بْنُ غَيْلَانَ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ التُّجِيبِيّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -أَوْ: عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ:-أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، بِهِ (4) ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دُعَاءٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَذَلِكَ يَعُم الأحياءَ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ؛ وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ مِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ، اقْتِدَاءً بِنُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِمَا جَاءَ فِي الْآثَارِ، وَالْأَدْعِيَةِ [الْمَشْهُورَةِ] (5) الْمَشْرُوعَةِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا} قَالَ السُّدِّيُّ: إِلَّا هَلَاكًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا خَسَارًا، أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "نُوحٍ" [عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِلَّهِ الحمد والمنة] (6) .
__________
(1) في هـ: "لما قرئ" والمثبت من م، أ.
(2) في م: "فلما بلغ الماء رأسها صعدت".
(3) وله شاهد من حديث عائشة رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3591) والحاكم في المستدرك (2/342) من طريق سعيد بن أبي مريم، عن موسى بن يعقوب، عن فائد مولى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أخبريه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لرحم أم الصبي" وذكره نَحْوِهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: "صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ" وتعقبه الذهبي بقوله: "إسناد مظلم، وموسى بن يعقوب المذكور في إسناده ليس بذاك".
(4) المسند (3/38) وسنن أبي داود برقم (4832) وسنن الترمذي برقم (2395) .
(5) زيادة من م.
(6) زيادة من أ.(8/237)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْجِنِّ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) }
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبَرَ قَوْمَهُ: أَنَّ الْجِنَّ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَانْقَادُوا لَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} أَيْ: إِلَى السَّدَادِ وَالنَّجَاحِ، {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} وَهَذَا الْمَقَامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الْأَحْقَافِ: 29] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَدُّ رَبِّنَا} أَيْ: فِعْلُهُ وَأَمْرُهُ وَقُدْرَتُهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَدُّ اللَّهِ: آلَاؤُهُ وَقُدْرَتُهُ وَنِعْمَتُهُ عَلَى خَلْقِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ: جَلَالُ رَبِّنَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَعَالَى جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ وَأَمْرُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَعَالَى أَمْرُ رَبِّنَا. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا وَابْنُ جُرَيْجٍ: تَعَالَى ذِكْرُهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} أَيْ: تَعَالَى رَبُّنَا.
فَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ (1) حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْجَدُّ: أَبٌ. وَلَوْ عَلِمَتِ الْجِنُّ أَنَّ فِي الْإِنْسِ جِدًّا مَا قَالُوا: تَعَالَى جَدّ رَبِّنَا.
فَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلَكِنْ لَسْتُ أَفْهَمُ مَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ؛ وَلَعَلَّهُ قَدْ سَقَطَ شَيْءٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} أَيْ: تَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ، أَيْ: قالت
__________
(1) في م: "عبد الله بن سويد الكوفي".(8/237)
الْجِنُّ: تَنَزَّهَ الرَّبُّ تَعَالَى جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ، حِينَ أَسْلَمُوا وَآمَنُوا بِالْقُرْآنِ، عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ.
ثُمَّ قَالُوا: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: {سَفِيهُنَا} يَعْنُونَ: إِبْلِيسَ، {شَطَطًا} قَالَ السُّدِّي، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: {شَطَطًا} أَيْ: جَوْرًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ظُلْمًا كَبِيرًا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: {سَفِيهُنَا} اسْمَ جِنْسٍ لِكُلِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لِلَّهِ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا. وَلِهَذَا قَالُوا: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} أَيْ: قَبْلَ إِسْلَامِهِ {عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} أَيْ: بَاطِلًا وَزُورًا؛ {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أَيْ: مَا حَسِبْنَا أَنَّ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ يَتَمَالَئُونَ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ فِي نِسْبَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ إِلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَآمَنَّا بِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أَيْ: كُنَّا نَرَى أَنَّ لَنَا فَضْلًا عَلَى الْإِنْسِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُوذُونَ بِنَا، أَيْ: إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا أَوْ مَكَانًا مُوحِشًا مِنَ الْبَرَارِي وَغَيْرِهَا كَمَا كَانَ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا. يَعُوذُونَ بِعَظِيمِ ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنَ الْجَانِّ، أَنْ يُصِيبَهُمْ بِشَيْءٍ يَسُوؤُهُمْ كَمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَدْخُلُ بِلَادَ أَعْدَائِهِ فِي جِوَارِ رَجُلٍ كَبِيرٍ وَذِمَامِهِ وَخَفَارَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِنُّ أَنَّ الْإِنْسَ يَعُوذُونَ (1) بِهِمْ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْهُمْ، {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أَيْ: خَوْفًا وَإِرْهَابًا وَذُعْرًا، حَتَّى تَبْقَوْا أَشَدَّ مِنْهُمْ مَخَافَةً وَأَكْثَرَ تَعَوُّذًا بِهِمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أَيْ: إِثْمًا، وَازْدَادَتِ الْجِنُّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ جَرَاءَةً.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أَيِ: ازْدَادَتِ الْجِنُّ عَلَيْهِمْ جُرْأَةً.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الرَّجُلُ يَخْرُجُ بِأَهْلِهِ فَيَأْتِي الْأَرْضَ فَيَنْزِلُهَا فَيَقُولُ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنَ الْجِنِّ أَنْ أضَرّ أَنَا فِيهِ أَوْ مَالِي أَوْ وَلَدِي أَوْ مَاشِيَتِي، قَالَ: فَإِذَا عَاذَ بِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، رَهقَتهم الْجِنُّ الْأَذَى عِنْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سعيد يحيى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ الخرِّيت، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ الْجِنُّ يَفْرَقُون مِنَ الْإِنْسِ كَمَا يفرَق الْإِنْسُ مِنْهُمْ أَوْ أَشَدَّ، وَكَانَ الْإِنْسُ إِذَا نَزَلُوا وَادِيًا هَرَبَ الْجِنُّ، فَيَقُولُ سَيِّدُ الْقَوْمِ: نَعُوذُ بِسَيِّدِ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي.
فَقَالَ الْجِنُّ: نَرَاهُمْ يَفْرَقُونَ مِنَّا كَمَا نَفْرَقُ مِنْهُمْ. فَدَنَوْا مِنَ الْإِنْسِ فَأَصَابُوهُمْ بِالْخَبَلِ وَالْجُنُونِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: {رَهَقًا} أَيْ: خَوْفًا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أَيْ: إِثْمًا. وَكَذَا قَالَ قتادة. وقال مجاهد: زاد الكفار طغيانا.
__________
(1) في م: "سيعوذون".(8/239)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ الْمَغْرَاءِ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ -يَعْنِي الْمُزَنِيَّ-عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَردم بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي مِنَ الْمَدِينَةِ فِي حَاجَةٍ، وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَآوَانَا الْمَبِيتُ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ. فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ جَاءَ ذِئْبٌ فَأَخَذَ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَوَثَبَ الرَّاعِي فَقَالَ: يَا عَامِرَ الْوَادِي، جَارَكَ. فَنَادَى مُنَادٍ لَا نَرَاهُ، يَقُولُ: يَا سِرْحَانُ، أَرْسِلْهُ. فَأَتَى الحملَ يَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَ فِي الْغَنَمِ لَمْ تُصِبْهُ كَدْمَةٌ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ بِمَكَّةَ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}
ثُمَّ قَالَ: ورُوي عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعي، نَحْوُهُ.
وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الذِّئْبُ الَّذِي أَخَذَ الْحَمَلَ -وَهُوَ وَلَدُ الشَّاةِ-وَكَانَ جِنِّيًّا حَتَّى يُرهب الْإِنْسِيَّ وَيَخَافُ مِنْهُ، ثُمَّ رَدَّه عَلَيْهِ لَمَّا اسْتَجَارَ بِهِ، لِيُضِلَّهُ وَيُهِينَهُ، وَيُخْرِجَهُ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} أَيْ: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ رَسُولًا. قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ.
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْجِنِّ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ مِنْ حِفْظِهِ لَهُ أَنَّ السَّمَاءَ مُلئَت حَرَسًا شَدِيدًا، وَحُفِظَتْ مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا، وَطُرِدَتِ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَقَاعِدِهَا الَّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَسْتَرِقُوا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ. فَيُلْقُوهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكَهَنَةِ، فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ وَيَخْتَلِطُ وَلَا يُدْرَى مَنِ الصَّادِقُ. وَهَذَا (1) مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِخَلْقِهِ (2) وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَحِفْظِهِ لِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَلِهَذَا قَالَ الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} أَيْ: مَنْ يَرُومُ أَنْ يَسْتَرِقَ السَّمْعَ الْيَوْمَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا مُرْصِدًا لَهُ، لَا يَتَخَطَّاهُ وَلَا يَتَعَدَّاهُ، بَلْ يَمْحَقُهُ وَيُهْلِكُهُ، {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} أَيْ: مَا نَدْرِي هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي قَدْ حَدَثَ فِي السَّمَاءِ، لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا؟ وَهَذَا مِنْ أَدَبِهِمْ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ أَسْنَدُوا الشَّرَّ إِلَى غَيْرِ فَاعِلٍ، وَالْخَيْرَ أَضَافُوهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: "وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ". وَقَدْ كَانَتِ الْكَوَاكِبُ يُرمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِكَثِيرٍ بَلْ فِي الْأَحْيَانِ بَعْدَ الْأَحْيَانِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (3) بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: "مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ
__________
(1) في م: "فكان هذا".
(2) في م: "عليه".
(3) في م: "كما في حديث العباس".(8/240)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
فِي هَذَا؟ فَقُلْنَا: كُنَّا نَقُولُ: يُولَدُ عَظِيمٌ، يَمُوتُ عَظِيمٌ، فَقَالَ: "لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ"، وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي سُورَةِ "سَبَأٍ" بِتَمَامِهِ (1) وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى تَطَلُّبِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ، فَأَخَذُوا يَضْرِبُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِأَصْحَابِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَعَرَفُوا أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي حُفِظَتْ مِنْ أَجْلِهِ السَّمَاءُ، فَآمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَتَمَرَّدَ فِي طُغْيَانِهِ مَنْ بَقِيَ، كَمَا تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، عِنْدَ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ "الْأَحْقَافِ": {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الْآيَةَ 29. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمَّا حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ وَهُوَ كَثْرَةُ الشُّهُبِ فِي السَّمَاءِ وَالرَّمْيُ بِهَا، هَالَ ذَلِكَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَانْزَعَجُوا لَهُ وَارْتَاعُوا لِذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ لِخَرَابِ الْعَالَمِ -كَمَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ أَوْ دِينٌ لِلَّهِ ظَاهِرٌ، فَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اتَّخَذَتِ الْمَقَاعِدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، يَسْتَمِعُونَ مَا يَحْدُثُ فِي السَّمَاءِ مِنْ أَمْرٍ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا نَبِيًّا، رُجموا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَفَزِعَ لِذَلِكَ أَهْلُ الطَّائِفِ، فَقَالُوا: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ، لَمَّا رَأَوْا مِنْ شِدَّةِ النَّارِ فِي السَّمَاءِ وَاخْتِلَافِ الشُّهُبِ. فَجَعَلُوا يُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ ويُسَيِّبون مَوَاشِيَهُمْ، فقال لهم عبد يا ليل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ: وَيْحَكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الطَّائِفِ. أَمْسِكُوا عَنْ أَمْوَالِكُمْ، وَانْظُرُوا إِلَى مَعَالِمِ النُّجُومِ فَإِنْ رَأَيْتُمُوهَا مُسْتَقِرَّةً فِي أَمْكِنَتِهَا فَلَمْ يَهْلِكْ أَهْلُ السَّمَاءِ، إِنَّمَا هَذَا مِنْ أَجْلِ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ -يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَرَوْهَا فَقَدْ هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ. فَنَظَرُوا فَرَأَوْهَا، فَكَفُّوا عَنْ أَمْوَالِهِمْ. وَفَزِعَتِ الشَّيَاطِينُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَأَتَوْا إِبْلِيسَ فَحَدَّثُوهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: ائْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ أَشُمُّهَا. فَأَتَوْهُ فَشَم فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ. فَبَعَثَ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نُصَيْبِينَ، فَقَدِمُوا مَكَّةَ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَنَوْا مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى كَادَتْ كَلَاكِلُهُمْ تُصِيبُهُ، ثُمَّ أَسْلَمُوا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَهُمْ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ مُسْتَقْصًى فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ مِنْ (كِتَابِ السِّيرَةِ) الْمُطَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا (13) }
__________
(1) عند تفسير الآية: 23.
(2) في م: "نبي الله".(8/241)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) }
يَقُولُ مُخْبِرًا عَنِ الْجِنِّ: أَنَّهُمْ قَالُوا مُخْبِرِينَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أَيْ: غَيْرُ ذَلِكَ، {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أَيْ: طَرَائِقَ مُتَعَدِّدَةً مُخْتَلِفَةً وَآرَاءَ مُتَفَرِّقَةً.(8/241)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أَيْ: مِنَّا الْمُؤْمِنُ وَمِنَّا الْكَافِرُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَادُ فِي أَمَالِيهِ، حَدَّثَنَا أَسْلَمُ بْنُ سَهْلٍ بَحْشَلُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ سُلَيْمَانَ -هُوَ أَبُو الشَّعْثَاءِ الْحَضْرَمِيُّ، شَيْخُ مُسْلِمٍ-حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (1) قَالَ: سمعتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ: تَرَوَّحَ إِلَيْنَا جِنِّيٌّ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالَ الْأُرْزَ. قَالَ: فَأَتَيْنَاهُمْ بِهِ، فَجَعَلْتُ أَرَى اللُّقَمَ تُرْفَعُ وَلَا أَرَى أَحَدًا. فَقُلْتُ: فِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي فِينَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا الرَّافِضَةُ فِيكُمْ (2) ؟ قَالَ (3) شَرُّنَا. عَرَضْتُ هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَى شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ المِزِّي فَقَالَ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى الْأَعْمَشِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَحْمَدَ الدِّمَشْقِيِّ قَالَ (4) سمعتُ بَعْضَ الجَنّ وَأَنَا فِي مَنَزَلٍ لِي بِاللَّيْلِ يُنْشِدُ:
قُلوبٌ بَرَاها الْحُبُّ حَتى تعلَّقت ... مَذَاهبُها فِي كُلّ غَرب وشَارقِ ...
تَهيم بِحُبِّ اللَّهِ، واللهُ رَبُّها ... مُعَلَّقةٌ بِاللَّهِ دُونَ الخَلائقِ (5)
وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} أَيْ: نَعْلَمُ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ حَاكِمَةٌ عَلَيْنَا وَأَنَّا لَا نُعْجِزُهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ أَمْعَنَّا فِي الْهَرَبِ، فَإِنَّهُ عَلَيْنَا قَادِرٌ (6) لَا يُعْجِزُهُ أَحَدٌ مِنَّا.
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} يَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَفْخَرٌ (7) لَهُمْ، وَشَرَفٌ رَفِيعٌ وَصِفَةٌ حَسَنَةٌ.
وَقَوْلُهُمْ: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا: فَلَا يَخَافُ أَنْ يُنقص مِنْ حَسَنَاتِهِ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ غَيْرَ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طَهَ: 112]
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} أَيْ: مِنَّا الْمُسْلِمُ وَمِنَّا الْقَاسِطُ، وَهُوَ: الْجَائِرُ عَنِ الْحَقِّ النَّاكِبُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْمُقْسِطِ فَإِنَّهُ الْعَادِلُ، {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} أَيْ: طَلَبُوا لِأَنْفُسِهِمُ النَّجَاةَ،
{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} أَيْ: وَقُودًا تُسَعَّرُ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامَ الْقَاسِطُونَ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَعَدَلُوا إِلَيْهَا وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهَا، {لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} أَيْ: كَثِيرًا. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ سَعَة الرِّزْقِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [الْمَائِدَةِ: 66] وكقوله:
__________
(1) في أ: "أبو عوانة".
(2) في أ: "منكم".
(3) في م: "قالوا".
(4) في م: "أنه قال".
(5) تاريخ دمشق (8/887 "المخطوط") .
(6) في م: "فإنه قادر علينا.
(7) في أ: "وهو مفتخر".(8/242)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} [الْأَعْرَافِ: 96] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أَيْ: لِنَخْتَبِرَهُمْ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {لِنَفْتِنَهُمْ} لِنَبْتَلِيَهُمْ، مَنْ يَسْتَمِرُّ عَلَى الْهِدَايَةِ مِمَّنْ يَرْتَدُّ إِلَى الْغَوَايَةِ؟.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ: قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} يَعْنِي بِالِاسْتِقَامَةِ: الطَّاعَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} قَالَ: الْإِسْلَامُ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} يَقُولُ: لَوْ آمَنُوا كُلُّهُمْ لَأَوْسَعْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} أَيْ: طَرِيقَةِ الْحَقِّ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أَيْ لِنَبْتَلِيَهُمْ بِهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَنَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ حِينَ مُنعوا الْمَطَرَ سَبْعَ سِنِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} الضَّلَالَةِ {لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} أَيْ: لَأَوْسَعْنَا عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ اسْتِدْرَاجًا، كَمَا قَالَ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الْأَنْعَامِ: 44] وَكَقَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 55، 56] وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مِجلز لَاحِقِ بْنِ حُمَيد؛ فَإِنَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} أَيْ: طَرِيقَةِ الضَّلَالَةِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَزَيْدِ بْنِ أسلم، والكلبي، وابن كيسان. وله اتجاه، وتيأيد بِقَوْلِهِ: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} أَيْ: عَذَابًا شَاقًّا شَدِيدًا مُوجِعًا مُؤْلِمًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: {عَذَابًا صَعَدًا} أَيْ: مَشَقَّةً لَا رَاحَةَ مَعَهَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: بِئْرٌ فِيهَا.(8/243)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) }
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ أَنْ يُوَحِّدوه فِي مَجَالِ عِبَادَتِهِ، وَلَا يُدْعى مَعَهُ أَحَدٌ وَلَا يُشْرَكُ بِهِ (1) كَمَا قَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا دَخَلُوا كَنَائِسَهُمْ وبِيَعِهِم، أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَحْدَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: حدثنا إسماعيل بن بِنْتِ السُّدِّيِّ، أَخْبَرَنَا رَجُلٌ سَمَّاهُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ -أَوْ أَبِي صَالِحٍ-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَرْضِ مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَمَسْجِدَ إِيلِيَّا: بَيْتَ الْمَقْدِسِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: قَالَتِ الْجِنُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لَنَا نَشْهَدْ مَعَكَ الصَّلَوَاتِ فِي مَسْجِدِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} يَقُولُ: صَلُّوا، لَا تُخَالِطُوا النَّاسَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ مَحْمُودٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} قَالَ: قَالَتِ الْجِنُّ لِنَبِيِّ (2) اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَ الْمَسْجِدَ وَنَحْنُ نَاءُونَ [عَنْكَ] (3) ؟، وَكَيْفَ نَشْهَدُ الصَّلَاةَ وَنَحْنُ نَاءُونَ عَنْكَ؟ فَنَزَلَتْ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (4)
وَقَالَ سُفْيَانُ، عَنْ خُصَيْف، عَنْ عِكْرِمَةَ: نَزَلَتْ فِي الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. نَزَلَتْ فِي أَعْضَاءِ السُّجُودِ، أَيْ: هِيَ لِلَّهِ فَلَا تَسْجُدُوا بِهَا لِغَيْرِهِ. وَذَكَرُوا عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ، مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ -أَشَارَ (5) بِيَدَيْهِ إِلَى أَنْفِهِ-وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ" (6)
وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمَّا سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ كَادُوا يَرْكَبُونَهُ؛ مِنَ الْحِرْصِ، لَمَّا سَمِعُوهُ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَدَنَوْا مِنْهُ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ حَتَّى أَتَاهُ الرَّسُولُ فَجَعَلَ يُقْرِئُهُ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ.
هَذَا قَوْلٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ، عَنْ أبي عَوَانة، عن أبي بشر،
__________
(1) في م: "ولا يشرك به أحدًا".
(2) في م: "قالت الجن للنبي".
(3) زيادة من م.
(4) تفسير الطبري (29/73)
(5) في م: "وأشار".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (812) ، صحيح مسلم برقم (490) .(8/244)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْجِنُّ لِقَوْمِهِمْ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} قَالَ: لَمَّا رَأَوْهُ يُصَلِّي وَأَصْحَابُهُ، يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ، قَالُوا: عَجِبُوا مِنْ طَوَاعِيَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ، قَالَ: فَقَالُوا لِقَوْمِهِمْ: {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}
وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى رَبِّهِمْ، كَادَتِ الْعَرَبُ تَلْبُدُ عَلَيْهِ جَمِيعًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} قَالَ: تَلَبَّدت الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِيُطْفِئُوهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُمْضِيَهُ (1) وَيُظْهِرَهُ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ.
هَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ، وَاخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} أَيْ: قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ-لَمَّا آذَوْهُ (2) وَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِ، لِيُبْطِلُوا مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَاجْتَمَعُوا عَلَى عَدَاوَتِهِ: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} أَيْ: إِنَّمَا أَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَسْتَجِيرُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، {وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا}
وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} أَيْ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ، وَعَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فِي هِدَايَتِكُمْ وَلَا غَوَايَتِكُمْ، بَلِ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُجِيرُهُ مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، أَيْ: لَوْ عَصَيْتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِنْقَاذِي مِنْ عَذَابِهِ، {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: لَا مَلْجَأَ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أَيْ: لَا نَصِيرَ وَلَا مَلْجَأَ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَا وَلِيَّ وَلَا مَوْئِلَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ: {لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} {إِلا بَلاغًا} وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ: {لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} أَيْ: لَا يُجِيرُنِي مِنْهُ وَيُخَلِّصُنِي إِلَّا إِبْلَاغِي الرِّسَالَةَ الَّتِي أَوْجَبَ أَدَاءَهَا عَلَيَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [الْمَائِدَةِ: 67] (3)
وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أَيْ: أَنَمَا أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَةَ اللَّهِ، فَمَنْ يَعْصِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ جَزَاءٌ عَلَى ذَلِكَ نَارُ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، أَيْ لَا محيد لهم عنها، ولا خروج
__________
(1) في م: "ويعينه".
(2) في م: "لما نادوه.
(3) في م: "فإن" وهو خطأ.(8/245)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
لَهُمْ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} أَيْ: حَتَّى إِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَا يُوعِدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَسَيَعْلَمُونَ يَوْمَئِذٍ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا، هُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُوَحِّدُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ: بَلِ الْمُشْرِكِينَ لَا نَاصِرَ لَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُمْ أَقَلُّ عَدَدًا مِنْ جُنُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) }
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِوَقْتِ السَّاعَةِ، وَلَا يَدْرِي أَقَرِيبٌ وَقْتُهَا أَمْ بَعِيدٌ؟ {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} ؟ أَيْ: مُدَّةً طَوِيلَةً.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي يَتَدَاوَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يُؤَلِّفُ تَحْتَ الْأَرْضِ، كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ نَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ. وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ فَلَا يُجِيبُ عَنْهَا، وَلَمَّا تَبدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ كَانَ فِيمَا سَأَلَهُ أَنْ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ" (1) وَلَمَّا نَادَاهُ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيُّ بِصَوْتٍ جَهوريّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "وَيْحَكَ. إِنَّهَا كَائِنَةٌ، فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ ". قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُعِدَّ لَهَا كَثِيرَ (2) صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ، وَلَكِنِّي أَحَبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: "فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ (3)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصفَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ (4) حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا بَنِي آدَمَ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لِآتٍ" (5)
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي آخِرِ "كِتَابِ الْمَلَاحِمِ": حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سُهَيْلٍ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَير، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ثَعلبة الخُشني قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَنْ يُعْجِزَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ من نصف يوم" (6)
__________
(1) هو جزء من حديث جبريل الطويل، رواه مسلم في صحيحه برقم (8) من حديث عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) فِي م: "كبير".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2639) من حديث أنس، رضي الله عنه.
(4) في أ: "محمد بن جبير".
(5) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (10564) من طريق الحسن بن سفيان، عن محمد بن المصفي، به.
(6) سنن أبي داود برقم (4349) ،، ورواه الحاكم في المستدرك (4/424) من طريق ابن وهب، بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: "صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَلَمْ يخرجاه".(8/246)
انْفَرَدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ. حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ، عَنْ شُرَيح بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنِّي لَأَرْجُو أَلَّا تَعْجَزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ". قِيلَ لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ: خَمْسُمِائَةِ عَامٍ. انْفَرَدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ (1)
وَقَوْلُهُ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} هَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [الْبَقَرَةِ: 255] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَالشَّهَادَةَ، وَإِنَّهُ لَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا مِمَّا أَطْلَعَهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وَهَذَا يَعُمُّ الرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ وَالْبَشَرِيَّ.
ثُمَّ قَالَ: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} أَيْ: يَخْتَصُّهُ بِمَزِيدِ مُعَقِّبَاتٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَيُسَاوِقُونَهُ عَلَى مَا مَعَهُ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الضَّمِيرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {لِيَعْلَمَ} إِلَى مَنْ يَعُودُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقَمِّيَّ (2) عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} قَالَ: أَرْبَعَةُ حَفَظَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ جِبْرِيلَ، {لِيَعْلَمَ} مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ يَعْقُوبَ الْقَمِّيِّ (3) بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر عَنْ قَتَادَةَ: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} قَالَ: لِيَعْلَمَ نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْ عَنِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ حَفِظَتْهَا وَدَفَعَتْ عَنْهَا. وَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} قَالَ: هِيَ مُعَقِّبَاتٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَ النَّبِيَّ مِنَ الشَّيْطَانِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ، لِيَعْلَمَ أَهْلُ الشِّرْكِ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} قَالَ: لِيَعْلَمَ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4350) ، وشريح بن عبيد لم يدرك سعد بن أبي وقاص، فهو منقطع.
(2) في أ: "العمي".
(3) في أ: "العمي".(8/247)
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: قَرَأَ يَعْقُوبُ: "ليُعلَم" بِالضَّمِّ، أَيْ: لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الرُّسُلَ بُلّغوا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ قَوْلٌ حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "زَادِ الْمَسِيرِ" (1) وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يَحْفَظُ رُسُلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ أَدَاءِ رِسَالَاتِهِ، وَيَحْفَظُ مَا بُيِّن إِلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الْبَقَرَةِ: 143] وَكَقَوْلِهِ: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 11] إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ كَوْنِهَا قَطْعًا لَا مَحَالَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} .
__________
(1) زاد المسير (8/386) .(8/248)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ [أَحْمَدُ] (1) بْنُ عَمْرٍو بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فَقَالُوا: سَمُّوا هَذَا الرَّجُلَ اسْمًا تَصْدُرُ (2) النَّاسُ عَنْهُ. فَقَالُوا: كَاهِنٌ. قَالُوا: لَيْسَ بِكَاهِنٍ. قَالُوا: مَجْنُونٌ قَالُوا: لَيْسَ بِمَجْنُونٍ. قَالُوا: سَاحِرٌ. قَالُوا: لَيْسَ بِسَاحِرٍ. فَتَفَرَّقَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَزَمَّلَ فِي ثِيَابِهِ وَتَدَثَّرَ فِيهَا. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ " " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ".
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: مُعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: قَدْ حَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَمَلُوا حَدِيثَهُ، لَكِنْ تَفَرَّدَ بِأَحَادِيثَ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا. (3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا (9) }
يَأْمُرُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَ التَّزَمُّلَ، وَهُوَ: التَّغَطِّي فِي اللَّيْلِ، وَيَنْهَضَ إِلَى الْقِيَامِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السَّجْدَةِ: 16] وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْتَثِلًا مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 79] وَهَاهُنَا بَيَّنَ لَهُ مِقْدَارَ مَا يَقُومُ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} ء
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} يَعْنِي: يَا أَيُّهَا النَّائِمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُزَّمِّلُ فِي ثِيَابِهِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: نَزَلَتْ وَهُوَ مُتَزَمِّلٌ بِقَطِيفَةٍ.
وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ بِشر، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قال: يا محمد،
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) في أ: "فصدوا".
(3) مسند البزار برقم (2276) "كشف الأستار"، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3408) من طريق محمد بن موسى القطان به مثله، وقال الهيثمي في المجمع (7/130) : "وفيه معلى بن عبد الرحمن الواسطي وهو كذاب".(8/249)
زُمّلتَ الْقُرْآنَ.
وَقَوْلُهُ: {نِصْفَهُ} بَدَلٌ مِنَ اللَّيْلِ {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أَيْ: أَمَرْنَاكَ أَنْ تَقُومَ نِصْفَ اللَّيْلِ بِزِيَادَةٍ قَلِيلَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ قَلِيلٍ، لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} أَيِ: اقْرَأْهُ عَلَى تَمَهُّلٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَوْنًا عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ يَقْرَأُ السُّورَةَ فَيُرَتِّلُهَا، حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلِ مِنْهَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ الرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ الرَّحِيمِ. (1)
وَقَالَ ابْنُ جُرَيج، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيكة عَنِ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّهَا سُئلت عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً، {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. (2)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُقَالُ لِصَاحِبِ (3) الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وارْقَ، ورَتِّل كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ (4) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّرْتِيلِ وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "زَيِّنوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ"، وَ "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ"، وَ "لَقَدْ أُوتِيَ هذا مزمار مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ" يَعْنِي: أَبَا مُوسَى، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ كُنْتَ تَسْمَعُ قِرَاءَتِي لحبَّرْته لَكَ تَحْبِيرًا. (5)
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الرَّمْلِ (6) وَلَا تَهُذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ. رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ. (7)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ (8) اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ. فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ. لَقَدْ عرفت
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5046) .
(2) المسند (6/302) ، وسنن أبي داود برقم (4001) ، والشمائل للترمذي برقم (299) .
(3) في م: "لقارئ".
(4) المسند (2/192) وسنن أبي داود برقم (1464) ، وسنن الترمذي برقم (2914) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (8056) .
(5) انظر هذه الأحاديث في: فضائل القرآن في المقدمة.
(6) في أ: "الدقل".
(7) معالم التنزيل للبغوي (8/215) .
(8) في أ: "المعضل".(8/250)
النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ. فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ المُفَصّل سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ. (1)
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: أَيِ الْعَمَلُ بِهِ.
وَقِيلَ: ثقيلٌ وَقْتَ نُزُولِهِ؛ مِنْ عَظَمَتِهِ. كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَكَادَتْ تُرض فَخذي. (2)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أسمعُ صَلاصيل، ثُمَّ أسكتُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تَفِيضُ"، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. (3)
وَفِي أَوَّلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ: "أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيت عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ". قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا هَذَا لَفْظُهُ. (4)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ ليوحَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَتَضْرِبُ بِجرَانها. (5)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابن ثور، عن مَعْمَر، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَضَعَتْ جِرَانَهَا، فَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحَرَّكَ حَتَّى يُسَرّى عَنْهُ. (6)
وَهَذَا مُرْسَلٌ. الْجِرَانُ: هُوَ بَاطِنُ الْعُنُقِ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ ثَقِيلٌ (7) مِنَ الْوَجْهَيْنِ مَعًا، كَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَمَا ثَقُلَ فِي الدُّنْيَا ثَقُلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَوَازِينِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَشَأَ: قَامَ بِالْحَبَشَةِ.
وَقَالَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ: اللَّيْلُ كُلُّهُ نَاشِئَةٌ. وَكَذَا قَالَ مجاهد، وغير واحد،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (775) .
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (4592) .
(3) المسند (2/222) .
(4) صحيح البخاري برقم (2) .
(5) المسند (6/118) .
(6) تفسير الطبري (29/82) .
(7) في أ: "أنه يقبل".(8/251)
يُقَالُ: نَشَأَ: إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَكَذَا قَالَ أَبُو مِجْلَز، وَقَتَادَةُ، وَسَالِمٌ وَأَبُو حَازِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرُ.
وَالْغَرَضُ أَنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ: سَاعَاتُهُ وَأَوْقَاتُهُ، وَكُلُّ سَاعَةٍ مِنْهُ تُسَمَّى نَاشِئَةً، وَهِيَ الْآنَّاتُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ هُوَ (1) أَشَدُّ مُوَاطَأَةً بَيْنَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَأَجْمَعُ عَلَى التِّلَاوَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} أَيْ: أَجْمَعُ لِلْخَاطِرِ فِي أَدَاءِ الْقِرَاءَةِ وَتَفَهُّمِهَا مِنْ قِيَامِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ انْتِشَارِ النَّاسِ ولَغَط الْأَصْوَاتِ وَأَوْقَاتُ الْمَعَاشِ.
[وَقَدْ] (2) قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: "إِنْ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَصْوَبُ قِيلًا" فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّمَا نَقْرَؤُهَا {وَأَقْوَمُ قِيلا} فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَصْوَبَ وَأَقْوَمَ وَأَهْيَأَ وَأَشْبَاهَ هَذَا وَاحِدٌ. (3)
وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ: الْفَرَاغُ وَالنَّوْمُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ مَالِكٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: فَرَاغًا طَوِيلًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: فَرَاغًا وَبُغْيَةً وَمُنْقَلَبًا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: {سَبْحًا طَوِيلا} تَطَوُّعًا كَثِيرًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: { [إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ] سَبْحًا طَوِيلا} (4) قَالَ: لِحَوَائِجِكَ، فَأفْرغ لِدِينِكَ اللَّيْلَ. قَالَ: وَهَذَا حِينَ كَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَى الْعِبَادِ فَخَفَّفَهَا وَوَضَعَهَا، وَقَرَأَ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} حَتَّى بَلَغَ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [اللَّيْلَ نِصْفَهُ أَوْ ثُلْثَهُ. ثُمَّ جَاءَ أَمْرٌ أُوْسَعُ وَأَفْسَحُ وَضَعَ الْفَرِيضَةَ عَنْهُ وَعَنْ أُمَّتِهِ] (5) فَقَالَ: قَالَ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 49] وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ كَمَا قَالَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حدثنا سعيد ابن أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرارة بْنِ أَوْفَى، عَنِ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبِيعَ عَقَارًا لَهُ بِهَا وَيَجْعَلَهُ فِي الكُرَاع وَالسِّلَاحِ، ثُمَّ يُجَاهِدُ الرُّومَ حَتَّى يَمُوتَ. فَلَقِيَ رَهْطًا مِنْ قَوْمِهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّ رَهْطًا مِنْ قَوْمِهِ سِتَّةً أَرَادُوا ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَلَيْسَ لَكُمْ فِيَّ أسوة (6) ؟ "
__________
(1) في م: "هي".
(2) زيادة من م.
(3) مسند أبي يعلى (7/88) ونقل النحقق في الحاشية عن أبي بكر بن الأنباري أنه قال: "حديث لا يصح عن أحد من أهل العلم، لأنه مبنى على رواية الأعمش عن أنس، فهو مقطوع ليس بمتصل، فيؤخذ من قبل أن الأعمش رأي أنسًا ولم يسمع منه".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من تفسير الطبري.
(6) في أ: "أسوة حسنة".(8/252)
فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَأَشْهَدَهُمْ عَلَى رَجعتها، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنِ الْوِتْرِ فَقَالَ: أَلَّا أُنَبِّئُكَ بِأَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِوِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: ائْتِ عَائِشَةَ فَاسْأَلْهَا ثُمَّ ارْجِعْ إِلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِرَدِّهَا عَلَيْكَ. قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى حَكِيمِ بْنِ أفلحَ فاستلحقتُه إِلَيْهَا، فَقَالَ: مَا أَنَا بِقَارِبِهَا؛ إِنِّي نَهَيْتُهَا أَنْ تَقُولَ فِي هَاتَيْنِ الشِّيعَتَيْنِ شَيْئًا، فَأَبَتْ فِيهِمَا إِلَّا مُضِيًا. فأقسمتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ مَعِي، فَدَخَلْنَا عَلَيْهَا فَقَالَتْ: حَكِيمٌ؟ وَعَرَفَتْهُ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ قَالَ: سَعِيدُ بْنُ هِشَامٍ. قَالَتْ: مَنْ هِشَامٌ؟ قَالَ: ابْنُ عَامِرٍ. قَالَ: فَتَرَحَّمَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ: نِعْمَ الْمَرْءُ كَانَ عَامِرٌ. قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ خلق رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى (1) قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ. فَهممت أَنْ أَقُومَ، ثُمَّ بَدَا لِي قيامُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. أَلَسْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا فِي السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا مِنْ بَعْدِ فَرِيضَةٍ. فَهَمَمْتُ (2) أَنْ أَقْوَمَ، ثُمَّ بَدَا لِي وِتْرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتِ: كُنَّا نَعُدُّ لَهُ سِواكه وطَهُوره، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ لِمَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يُصَلِّي ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهِنَّ إِلَّا عِنْدَ الثَّامِنَةِ، فَيَجْلِسُ وَيَذْكُرُ رَبَّهُ تَعَالَى وَيَدْعُو [وَيَسْتَغْفِرُ ثُمَّ يَنْهَضُ وَمَا يُسَلِّمُ. ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَةَ فَيَقْعُدُ فَيَحْمَدُ رَبَّهُ وَيَذْكُرُهُ وَيَدْعُو] (3) ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ. فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ. فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ، أَوْتَرَ بسبع، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يُسَلِّمُ، فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَكَانَ (4) إِذَا شَغَله عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ نَوْمٌ أَوْ وَجَع أَوْ مَرَضٌ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَلَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ.
فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِهَا، فَقَالَ: صَدَقَتْ، أَمَا لَوْ كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَيْهَا لَأَتَيْتُهَا حَتَّى تُشَافِهَنِي مُشَافَهَةً.
هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِتَمَامِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، بِنَحْوِهِ. (5)
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَاب -وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْران قَالَا جَمِيعًا، وَاللَّفْظُ لِابْنِ وَكِيعٍ: عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيدة، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ طَحْلاء، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَجْعَلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرًا يُصَلي عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَسَامَعَ النَّاسُ بِهِ فَاجْتَمَعُوا، فَخَرَجَ كَالْمُغْضَبِ -وَكَانَ بِهِمْ رَحِيمًا، فَخَشِيَ أن يكتب
__________
(1) في أ: "نعم".
(2) في م: "ثم هممت".
(3) زيادة من المسند.
(4) في أ: "وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
(5) المسند (6/54) ، وصحيح مسلم برقم (746) .(8/253)
عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ-فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، اكلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ، وَخَيْرُ الْأَعْمَالِ مَا ديمَ عَلَيْهِ". وَنَزَلَ الْقُرْآنُ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَرْبِطُ الْحَبْلَ وَيَتَعَلَّقُ، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، فَرَأَى اللَّهُ مَا يَبْتَغُونَ مِنْ رِضْوَانِهِ، فَرَحِمَهُمْ فَرَدَّهُمْ إِلَى الْفَرِيضَةِ، وَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ. (1)
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ (2) بِدُونِ زِيَادَةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذَا السِّيَاقُ قَدْ يُوهم أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَقَوْلُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ: إِنَّ بَيْنَ نُزُولِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ -غَرِيبٌ؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَر، عَنْ سِماك الْحَنَفِيِّ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ: أَوَّلُ الْمُزَّمِّلِ، كَانُوا يَقُومُونَ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا قَرِيبٌ مِنْ سَنَةٍ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، بِهِ. (3)
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ العَبدي، كِلَاهُمَا عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْرَان، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قَامُوا حَوْلًا حَتَّى وَرِمَتْ أَقْدَامُهُمْ وسُوقُهم، حَتَّى نَزَلَتْ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قَالَ: فَاسْتَرَاحَ النَّاسُ. (4)
وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: [حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا عُبَيد اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي] (5) عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرارة بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: فَقُلْتُ -يَعْنِي لِعَائِشَةَ-: أَخْبِرِينَا عَنْ قِيَامِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتِ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّهَا كَانَتْ قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، وحُبس آخِرُهَا فِي السَّمَاءِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ نَزَلَ.
وَقَالَ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} قَامُوا حَوْلًا أَوْ حَوْلَيْنِ، حَتَّى انتفخت سوقُهم
__________
(1) تفسير الطبري (29/79) .
(2) صحيح البخاري برقم (6465) ، وصحيح مسلم برقم (782) .
(3) تفسير الطبري (29/78) .
(4) تفسير الطبري (29/79) .
(5) زيادة من م، أ.(8/254)
وَأَقْدَامُهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَخْفِيفَهَا بَعْدُ فِي آخِرِ السُّورَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُميد، حَدَّثَنَا يعقوب القمي (1) عن جعفر، عن سعيد -هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ-قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قَالَ: مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ عَشْرَ سِنِينَ يَقُومُ اللَّيْلَ، كَمَا أَمَرَهُ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُومُونَ مَعَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فَخَفَّفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ. (2)
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ (3) بِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا [أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا] (4) فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَحِمَهُمْ، فَأَنْزَلَ بَعْدَ هَذَا: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فَوَسَّعَ اللَّهُ -وَلَهُ الْحَمْدُ-وَلَمْ يُضَيِّقْ.
وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} أَيْ: أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِهِ، وَانْقَطِعْ إِلَيْهِ، وَتَفَرَّغْ لِعِبَادَتِهِ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَشْغَالِكَ، وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاكَ، كَمَا قَالَ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشَّرْحِ:7] أَيْ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ مَهَامِّكَ فَانْصَبْ فِي طَاعَتِهِ وعبَادَته، لِتَكُونَ فَارِغَ الْبَالِ. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ بِمَعْنَاهُ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَعَطِيَّةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} أَيْ: أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: اجْتَهِدْ وَبَتِّلْ إِلَيْهِ نَفْسَكَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يُقَالُ لِلْعَابِدِ: مُتَبَتِّلٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ: أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّبتُّل، يَعْنِي: الِانْقِطَاعَ إِلَى الْعِبَادَةِ وَتَرْكَ التَّزَوُّجِ. (5)
وَقَوْلُهُ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} أَيْ: هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَكَمَا أَفْرَدْتَهُ بِالْعِبَادَةِ فَأَفْرِدْهُ بِالتَّوَكُّلِ، {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا} كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هُودٍ:123] وَكَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَآيَاتٌ (6) كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، فِيهَا الْأَمْرُ بِإِفْرَادِ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ، وَتَخْصِيصِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.
__________
(1) في أ: "العمى".
(2) تفسير الطبري (29/79) وهو مرسل.
(3) في أ: "العمى".
(4) زيادة من م، أ.
(5) في م: "التزويج".
(6) في م: "في آيات".(8/255)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا (18) }
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، وَأَنْ يَهْجُرَهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا وَهُوَ الَّذِي لَا عِتَابَ مَعَهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ مُتَوَعِّدًا لِكَفَّارِ قَوْمِهِ وَمُتَهَدِّدًا -وَهُوَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَقُومُ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ-:
{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} أَيْ: دَعْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ الْمُتْرَفِينَ أصحابَ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ أَقْدَرُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَهُمْ يُطَالِبُونَ مِنَ الْحُقُوقِ بِمَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا} أَيْ: رُوَيْدًا، كَمَا قَالَ: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لُقْمَانَ: 24] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا} وَهِيَ: الْقُيُودُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَطَاوُسٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، وَأَبُو مِجلَز، وَالضَّحَّاكُ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سَلْمَانَ، وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، {وَجَحِيمًا} وَهِيَ السَّعِيرُ الْمُضْطَرِمَةُ.
{وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْشَبُ فِي الْحَلْقِ فَلَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ.
{وَعَذَابًا أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ} أَيْ: تُزَلْزَلُ، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا} أَيْ: تَصِيرُ كَكُثْبَانِ الرَّمْلِ بَعْدَ مَا كَانَتْ حِجَارَةً صَمَّاءَ، ثُمَّ إِنَّهَا تُنْسَفُ نَسْفًا فَلَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا ذَهَبَ، حَتَّى تَصِيرَ الْأَرْضُ قَاعًا صَفْصَفًا، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا، أَيْ: وَادِيًا، وَلَا أَمْتًا، أَيْ: رَابِيَةً، وَمَعْنَاهُ: لَا شَيْءَ يَنْخَفِضُ وَلَا شَيْءَ يَرْتَفِعُ.
ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَالْمُرَادُ سَائِرُ النَّاسِ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} أَيْ: بِأَعْمَالِكُمْ، {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ: {أَخْذًا وَبِيلا} أَيْ: شَدِيدًا، أَيْ فَاحْذَرُوا أَنْتُمْ أَنْ تُكَذِّبُوا هَذَا الرَّسُولَ، فَيُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ فِرْعَوْنَ، حَيْثُ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى} [النَّازِعَاتِ: 25] وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ إِنْ كَذَّبْتُمْ؛ لِأَنَّ رَسُولَكُمْ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ. ويُروَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ.
وَقَوْلُهُ: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {يَوْمًا} مَعْمُولًا لِتَتَّقُونَ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَكَيْفَ تَخَافُونَ أَيُّهَا النَّاسُ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوَلَدَانَ شِيبًا إِنْ كَفَرْتُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ تُصَدِّقُوا بِهِ"؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِكَفَرْتُمْ، فَعَلَى الْأَوَّلِ: كَيْفَ(8/256)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
يحصلُ لَكُمْ أَمَانٌ مِنْ يَوْمِ هَذَا الْفَزَعِ الْعَظِيمِ إِنْ كَفَرْتُمْ؟ وَعَلَى الثَّانِي: كَيْفَ يَحْصُلُ لَكُمْ تَقْوَى إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَحَدْتُمُوهُ؟ وَكِلَاهُمَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} أَيْ: مِنْ شَدَّةِ أَهْوَالِهِ وَزَلَازِلِهِ وَبَلَابِلِهِ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. فَيَقُولُ مِن كَمْ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْعَلَّافُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} قَالَ: "ذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ لِآدَمَ: قُمْ فَابْعَثْ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعَثًا إِلَى النَّارِ. قَالَ: مِنْ كَمْ يَا رَبِّ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَيَنْجُو وَاحِدٌ". فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَرَفَ ذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قَالَ حِينَ أَبْصَرَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ: "إِنَّ بَنِي آدَمَ كَثِيرٌ، وَإِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، وَإِنَّهُ لَا يَمُوتُ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى يَرِثَهُ لِصُلْبِهِ أَلْفُ رَجُلٍ. فَفِيهِمْ وَفِي أَشْبَاهِهِمْ جُنَّةٌ لَكُمْ". (1)
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
وَقَوْلُهُ: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: أَيْ بِسَبَبِهِ مِنْ شِدَّتِهِ وَهَوْلِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِيدُ الضَّمِيرَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا} أَيْ: كَانَ وَعْدُ هَذَا الْيَوْمِ مَفْعُولًا أَيْ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ، وَكَائِنًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ.
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (19) }
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (11/366) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/130) : "وفيه عثمان بن عطاء الخراساني وهو ضعيف".(8/257)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) }
يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ} أَيِ: السُّورَةَ {تَذْكِرَةٌ} أَيْ: يَتَذَكَّرُ بِهَا أُولُو الْأَلْبَابِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} أَيْ: مِمَّنْ شَاءَ اللَّهُ هِدَايَتَهُ، كَمَا قَيَّدَهُ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30] .(8/257)
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} أَيْ: تَارَةً هَكَذَا، وَتَارَةً هَكَذَا، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْكُمْ، وَلَكِنْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَى مَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أَيْ: تَارَةً يَعْتَدِلَانِ، وَتَارَةً يَأْخُذُ هَذَا مِنْ هَذَا، أَوْ هَذَا مِنْ هَذَا، {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أَيِ: الْفَرْضَ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْكُمْ {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِوَقْتٍ، أَيْ: وَلَكِنْ قُومُوا مِنَ اللَّيْلِ مَا تَيَسَّرَ. وَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أَيْ: بِقِرَاءَتِكَ، {وَلا تُخَافِتْ بِهَا}
وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ لَوْ قَرَأَ بِهَا أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَوْ بِآيَةٍ، أَجْزَأَهُ؛ وَاعْتَضَدُوا بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ: "ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ".
وَقَدْ أَجَابَهُمُ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" (1) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاج، فَهِيَ خِدَاج، فَهِيَ خِدَاج، غَيْرُ تَمَامٍ". (2) وَفِي صَحِيحِ ابن خزيمة عن أبي هريرة مَرْفُوعًا: "لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ". (3)
وَقَوْلُهُ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ذَوُو أَعْذَارٍ فِي تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ، مِنْ مَرْضَى لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ، وَمُسَافِرِينَ (4) فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فِي الْمَكَاسِبِ وَالْمَتَاجِرِ، وَآخَرِينَ مَشْغُولِينَ (5) بِمَا هُوَ الْأَهَمُّ فِي حَقِّهِمْ مِنَ الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ -بَلِ السُّورَةُ كُلُّهَا-مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُنِ الْقِتَالُ شُرع بَعْدُ، فَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِالْمُغَيَّبَاتِ الْمُسْتَقْبِلَةِ. وَلِهَذَا قَالَ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (6) أَيْ: قُومُوا بِمَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَدِ اسْتَظْهَرَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، وَلَا يَقُومُ بِهِ، إِنَّمَا يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ؟ قَالَ: يتوسَّدُ الْقُرْآنَ، لَعَنَ اللَّهُ ذَاكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يُوسُفَ: 68]
__________
(1) صحيح البخاري برقم (756) ، وصحيح مسلم برقم (349) .
(2) صحيح مسلم برقم (395) .
(3) صحيح ابن خزيمة برقم (490) .
(4) في أ: "ومسافرون".
(5) في أ: "وآخرون مشغلون".
(6) في م: "من القرآن".(8/258)
{وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، قَالَ اللَّهُ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ خَمْسَ آيَاتٍ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ مَذْهَبِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَرَى حَقًّا وَاجِبًا عَلَى حَمَلة الْقُرْآنِ أَنْ يَقُومُوا وَلَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي اللَّيْلِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَامَ حَتَّى أَصْبَحَ، فَقَالَ: "ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ". (1) فَقِيلَ مَعْنَاهُ: نَامَ عَنِ الْمَكْتُوبَةِ. وَقِيلَ: عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَفِي السُّنَنِ: "أوتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ." (2) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا". (3)
وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ، مِنَ الْحَنَابِلَةِ، مِنْ إِيجَابِهِ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ فَرَقَدٍ الجُدّي، حَدَّثَنَا أَبُو [حُمَةَ] (4) مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الزُّبَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، [عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ] (5) بْنِ طَاوُسٍ -مِنْ وَلَدِ طَاوُسٍ-عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قَالَ: "مِائَةُ آيَةٍ". (6)
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا لَمْ أَرَهُ إِلَّا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أَيْ: أَقِيمُوا صَلَاتَكُمُ الْوَاجِبَةَ عَلَيْكُمْ، وَآتُوا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ. وَهَذَا يَدُلُّ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ، لَكِنَّ مَقَادِيرَ النُّصُبِ والمَخْرَج لَمْ تُبَين إِلَّا بِالْمَدِينَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخت الَّذِي كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا عَلَى أَقْوَالٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا إِلَّا أَنَّ تَطوّع". (7)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} يَعْنِي: مِنَ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُجَازِي عَلَى ذَلِكَ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ وَأَوْفَرَهُ، كَمَا قَالَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (1144) ، ومسلم في صحيحه برقم (774) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) جاء من حديث علي وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهما، أما حديث علي، فقد رواه أبو داود في السنن برقم (1416) ، والترمذي في السنن برقم (453) ، والنسائي في السنن (3/228) ، وابن ماجة في السنن برقم (1169) ، وقال الترمذي: "حديث علي حديث حسن"، وأما حديث ابن مسعود، فرواه أبو داود في السنن برقم (1417) ، وابن ماجة برقم (1170) .
(3) جاء من حديث بريدة وأبي هريرة، رضي الله عنهما، أما حديث بريدة، فرواه أحمد في المسند (5/357) ، وأبو داود في السنن برقم (1419) ، وأما حديث أبي هريرة، فرواه أحمد في المسند (3/443) .
(4) زيادة من المعجم الكبير للطبراني (11/29) .
(5) زيادة من م، أ.
(6) المعجم الكبير (11/29) .
(7) صحيح البخاري برقم (46) ، وصحيح مسلم برقم (11) من حديث طلحة رضي الله عنه.(8/259)
وَقَوْلُهُ: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} أَيْ: جَمِيعُ مَا تُقَدِّمُوهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَهُوَ [خَيْرٌ] (1) لَكُمْ حَاصِلٌ، وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّا أَبْقَيْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمة، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيد (2) قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّكُمْ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مَنْ مَالِ وَارِثِهِ؟ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ. قَالَ: "اعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ". قَالُوا: مَا نَعْلَمُ إِلَّا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "إِنَّمَا مَالُ أَحَدِكُمْ مَا قَدّم وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ (3) أَبِي مُعَاوِيَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ. (4)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أَيْ: أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ فِي أُمُورِكُمْ كُلِّهَا؛ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنِ اسْتَغْفَرَهُ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الْمُزَّمِّلِ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ: "الحارث بن يزيد".
(3) في م، أ: "من طريق".
(4) مسند أبي يعلى (9/97) ، وصحيح البخاري برقم (6442) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (6439) .(8/260)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) }
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ [مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ] (1) عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}
وَخَالَفَهُ (2) الْجُمْهُورُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ أَوَّلَ الْقُرْآنِ نُزُولًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} كَمَا سَيَأْتِي [بَيَانُ] (3) ذَلِكَ هُنَاكَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} قُلْتُ: يَقُولُونَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ؟ فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، وقلتُ لَهُ مِثْلَ مَا قلتَ لِي، فَقَالَ جَابِرٌ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَاوَرْتُ بحرَاء، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هبطتُ فنُوديت فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا. فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ شَيْئًا، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي. وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا. قَالَ: فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا قَالَ: فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (4)
هَكَذَا سَاقَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (5) مِنْ طَرِيقِ عُقَيل، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ: "فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بصري قبَلَ السماء، فإذا الملك الذي جاءني بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَثَثْتُ (6) مِنْهُ حَتَّى هَوَيتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ إِلَى أَهْلِي، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إِلَى: {فَاهْجُرْ} -
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م: "وخالف".
(3) زيادة من م.
(4) صحيح البخاري برقم (4922) .
(5) صحيح مسلم برقم (161) .
(6) في م: "فجثيت".(8/261)
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرُّجْزُ: الْأَوْثَانُ -ثُمَّ حَميَ الوحيُ وتَتَابع".
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ (1) وَهَذَا السِّيَاقُ هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ الْوَحْيُ قَبْلَ هَذَا، لِقَوْلِهِ: "فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي (2) بِحِرَاءٍ"، وَهُوَ جِبْرِيلُ حِينَ أَتَاهُ بِقَوْلِهِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ثُمَّ إِنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ هَذَا فَتْرَةٌ، ثُمَّ نَزَلَ الْمَلَكُ بَعْدَ هَذَا. وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ هَذِهِ السُّورَةُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا لَيْث، حَدَّثَنَا عُقَيل، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ (3) قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سمعتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَل السَّمَاءِ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي [بِحِرَاءٍ الْآنَ] (4) قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجُثت (5) مِنْهُ فَرَقًا، حَتَّى هَوَيت إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ لَهُمْ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ [بعدُ] (6) وَتَتَابَعَ". أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ (7) .
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبٍ السِّمْسَارُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ (8) البَجَلي، حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكة يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ صَنَعَ لِقُرَيْشٍ طَعَامًا، فَلَمَّا أَكَلُوا. قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَاحِرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِسَاحِرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَاهِنٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِكَاهِنٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَاعِرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِشَاعِرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: [بَلْ] (9) سِحْرٌ يُؤثر. فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّهُ سِحْرٌ يُؤْثَرُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحزنَ وقَنعَ رَأْسَهُ، وتَدَثَّر، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (10) .
فَقَوْلُهُ {قُمْ فَأَنْذِرْ} أَيْ: شَمِّرْ عَنْ سَاقِ الْعَزْمِ، وَأَنْذِرِ النَّاسَ. وَبِهَذَا حَصَلَ الْإِرْسَالُ، كَمَا حَصَلَ بِالْأَوَّلِ النُّبُوَّةُ.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أَيْ: عَظِّمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قَالَ الْأَجْلَحُ الْكِنْدِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الآية: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4926) .
(2) في م: "الذي كان".
(3) في أ: "ابن هشام".
(4) زيادة من م، أ، والمسند.
(5) في م: "فجثيت".
(6) زيادة من المسند.
(7) المسند (3/325) ، وصحيح البخاري برقم (4926) ، وصحيح مسلم برقم (161) .
(8) في أ: الحسن بن بشير".
(9) زيادة من م.
(10) المعجم الكبير للطبراني (11/125) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/131) : "وفيه إبراهيم بن يزيد الخوري وهو ضعيف".(8/262)
قَالَ: لَا تَلْبَسْهَا (1) عَلَى مَعْصِيَةٍ وَلَا عَلَى غَدْرَة. ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثَّقَفِيِّ:
فَإني بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثوبَ فَاجر ... لبستُ وَلَا مِنْ غَدْرَة أتَقَنَّعُ (2)
وَقَالَ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [فِي هَذِهِ الْآيَةِ] (3) {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قَالَ: فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: نَقِي الثِّيَابِ. وَفِي رِوَايَةٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: فَطَهِّرْ مِنَ الذُّنُوبِ. وَكَذَا قَالَ إبراهيم، الشعبي، وَعَطَاءٌ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قَالَ: مِنَ الْإِثْمِ. وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ.
وَقَالَ (4) مُجَاهِدٌ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قَالَ: نَفْسَكَ، لَيْسَ ثِيَابَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} عَمَلَكَ فَأَصْلِحْ، وَكَذَا قَالَ أَبُو رَزِين. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيْ: لَسْتَ بِكَاهِنٍ وَلَا سَاحِرٍ، فَأَعْرِضْ عَمَّا قَالُوا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيْ: طَهِّرْهَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي الرَّجُلَ إِذَا نَكَثَ وَلَمْ يَفِ بِعَهْدِ اللَّهِ إِنَّهُ لَمُدنَس (5) الثِّيَابِ. وَإِذَا وَفَّى وَأَصْلَحَ: إِنَّهُ لَمُطَهَّرُ الثِّيَابِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ: لَا تَلْبِسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ (6)
إِذَا المرءُ لَمْ يَدْنَس منَ اللُّؤْمِ عِرْضُه ... فَكُلّ ردَاء يَرْتَديه جَميلُ ...
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [يَعْنِي] (7) لَا تَكُ ثِيَابُكَ الَّتِي تَلْبَسُ مِنْ مَكْسَبٍ غَيْرِ طَائِبٍ، وَيُقَالُ: لَا تَلْبَسْ ثِيَابَكَ عَلَى مَعْصِيَةٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيِ: اغْسِلْهَا بِالْمَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَتَطَهَّرُونَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ، وَأَنْ يُطَهِّرَ ثِيَابَهُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَشْمَلُ الْآيَةُ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَ طَهَارَةِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الثِّيَابَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أفاطمَ مَهلا بَعْضَ هَذا التَدَلُّل ... وَإن كُنت قَد أزْمَعْت هَجْري فأجْمِلي ...
وَإن تَكُ قَد سَ ـاءتك مِنِّي خَليقَةٌ ... فَسُلّي ثِيَابي مِن ثِيَابِكِ تَنْسُلِ (8)
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وَقَلْبَكَ ونيتك فطهر.
__________
(1) في أ: "لا تسلبها".
(2) البيت في تفسير الطبري (29ظ91) .
(3) زيادة من م.
(4) في م: "وعن".
(5) في م: "لدنس".
(6) هو دكين بن رجاء، وانظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة (2/612) مستفادًا من حاشية الشعب.
(7) زيادة من م.
(8) ديوان امرئ القيس (ص37) مستفادًا من حاشية الشعب.(8/263)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وخُلقَك فَحسّن.
وَقَوْلُهُ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالرُّجْزَ} وَهُوَ الْأَصْنَامُ، فَاهْجُرْ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا الْأَوْثَانُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ، وَالضَّحَّاكُ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أَيِ: اتْرُكِ الْمَعْصِيَةَ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَلْزَمُ تَلَبُّسُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الْأَحْزَابِ: 1] {وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الْأَعْرَافِ: 142] .
وَقَوْلُهُ: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُعْطِ الْعَطِيَّةَ تَلْتَمِسُ أَكْثَرَ مِنْهَا. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: "وَلَا تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ".
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا تَمْنُنْ بِعَمَلِكَ عَلَى رَبِّكَ تَسْتَكْثِرُهُ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ خُصَيْفٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قَالَ: لَا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرِ، قَالَ تَمْنُنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: تَضْعُفُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا تَمْنُنْ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى النَّاسِ، تَسْتَكْثِرُهُمْ بِهَا، تَأْخُذُ عَلَيْهِ عِوَضًا مِنَ الدُّنْيَا.
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَالْأَظْهَرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أَيِ: اجْعَلْ صَبْرَكَ عَلَى أَذَاهُمْ لِوَجْهِ رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: اصْبِرْ عَطِيَّتَكَ لِلَّهِ تَعَالَى (1) .
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: {النَّاقُورِ} الصُّورِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ كَهَيْئَةِ الْقَرْنِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُطَرِّف، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ؟ " فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا".
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْبَاطٍ، بِهِ (2) وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ ابْنِ فُضَيْلٍ
__________
(1) في أ: "لله عز وجل".
(2) المسند (1/326) ، وقال الحافظ عند تفسير الآية: 173 من سورة آل عمران: "حديث جيد".(8/264)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
وَأَسْبَاطٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مُطَرِّفٍ، بِهِ. وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِهِ (1) .
وَقَوْلُهُ: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} أَيْ: شَدِيدٌ.
{عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} أَيْ: غَيْرُ سَهْلٍ عَلَيْهِمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [الْقَمَرِ: 8] .
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ زُرَارة بْنِ أَوْفَى -قَاضِي الْبَصْرَةِ-: أَنَّهُ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} شَهِقَ شَهْقَةً، ثُمَّ خَرَّ مَيِّتًا، رَحِمَهُ اللَّهُ (2) .
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) }
__________
(1) تفسير الطبري (29/95)
(2) رواه أبو نعيم في الحلية (2/258، 259) .(8/265)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) }
يَقُولُ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِهَذَا الْخَبِيثِ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعَمِ الدُّنْيَا، فَكَفَرَ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، وَبَدَّلَهَا كُفْرًا، وَقَابَلَهَا بِالْجُحُودِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهَا، وَجَعَلَهَا مِنْ قَوْلِ الْبَشَرِ. وَقَدْ عَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِ نعَمه حَيْثُ قَالَ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} أَيْ: خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَحْدَهُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، ثُمَّ رَزَقَهُ اللَّهُ،
{مَالا مَمْدُودًا} أَيْ: وَاسِعًا كَثِيرًا قِيلَ: أَلْفُ دِينَارٍ. وَقِيلَ: مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ. وَقِيلَ: أَرْضًا يَسْتَغِلُّهَا. وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَجَعَلَ لَهُ {وَبَنِينَ شُهُودًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَغِيبُونَ، أَيْ: حُضُورًا عِنْدَهُ لَا يُسَافِرُونَ فِي التِّجَارَاتِ، بَلْ مَواليهم وَأُجَرَاؤُهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَهُمْ قُعُودٌ عِنْدَ أَبِيهِمْ، يَتَمَتَّعُ بِهِمْ ويتَمَلَّى بِهِمْ. وَكَانُوا -فِيمَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ-ثَلَاثَةَ عَشَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: كَانُوا عَشْرَةً. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي النِّعْمَةِ [وَهُوَ إِقَامَتُهُمْ عِنْدَهُ] . (1)
{وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} أَيْ: مَكَّنْتُهُ مِنْ صُنُوفِ الْمَالِ وَالْأَثَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
{ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا} أَيْ: مُعَانِدًا، وَهُوَ الْكُفْرُ عَلَى نِعَمِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ.
قَالَ اللَّهُ: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ دَرَّاج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سعيد، عن رسول الله
__________
(1) زيادة من م، أ.(8/265)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَيْلٌ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ، والصَّعُود: جَبَلٌ مِنْ نَارٍ يَصْعَدُ فِيهِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، ثُمَّ يَهْوِي بِهِ كَذَلِكَ فِيهِ أَبَدًا".
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيد، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى الْأَشْيَبِ، بِهِ (1) ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعة عَنْ دَرَّاجٍ. كَذَا قَالَ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاج (2) وَفِيهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -الْمَعْرُوفِ بِعَلَّانَ الْمِصْرِيِّ (3) -قَالَ: حَدَّثَنَا مِنْجاب، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهَنِيّ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} قَالَ: "هُوَ جَبَلٌ فِي النَّارِ مِنْ نَارٍ يُكَلَّفُ أَنْ يَصْعَدَهُ، فَإِذَا وَضَعَ يَدَهُ ذَابَتْ، وَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ، فَإِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ ذَابَتْ، وَإِذَا رَفَعَهَا عَادَتْ".
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ، بِهِ (4) .
وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنِ (5) ابْنِ عَبَّاسٍ: صَعُودٌ: صَخْرَةٌ [فِي جَهَنَّمَ] (6) عَظِيمَةٌ يُسْحَبُ عَلَيْهَا الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: صَعُودًا: صَخْرَةً مَلْسَاءَ فِي جَهَنَّمَ، يُكَلَّفُ أَنْ يَصْعَدَهَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} أَيْ: مَشَقَّةً مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَذَابًا لَا رَاحَةَ فِيهِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} أَيْ: إِنَّمَا أَرْهَقْنَاهُ صُعُودًا، أَيْ: قَرَّبْنَاهُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّاقِّ؛ لِبُعْدِهِ عَنِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، أَيْ: تَرَوَّى مَاذَا يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ حِينَ سُئل عَنِ الْقُرْآنِ، فَفَكَّرَ مَاذَا يَخْتَلِقُ مِنَ الْمَقَالِ، {وَقَدَّرَ} أَيْ: تَرَوَّى، {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} دُعَاءٌ عَلَيْهِ،
{ثُمَّ نَظَرَ} أَيْ: أَعَادَ النَّظْرَةَ (7) وَالتَّرَوِّيَ. {ثُمَّ عَبَسَ} أَيْ: قَبَضَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَطَّبَ، {وَبَسَرَ} أَيْ: كَلَحَ وَكَرِهَ، وَمِنْهُ قَوْلُ تَوْبَةَ بْنِ الحُمَير الشَّاعِرِ:
وَقَد رَابَني مِنْهَا صُدُودٌ رَأيتُه ... وَإعرَاضُها عَن حاجَتي وبُسُورُها ...
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} أَيْ: صُرف عَنِ الْحَقِّ، وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى مُسْتَكْبِرًا عَنِ الِانْقِيَادِ لِلْقُرْآنِ،
{فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أَيْ: هَذَا سِحْرٌ يَنْقُلُهُ مُحَمَّدٌ عَنْ غَيْرِهِ عَمَّنْ قَبْلَهُ وَيَحْكِيهِ عَنْهُمْ؛
وَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} أَيْ: لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ.
__________
(1) المسند (3/75) ، وسنن الترمذي برقم (3164) .
(2) تفسير الطبري (29/97) .
(3) في م: "البصري".
(4) تفسير الطبري (29/97) ، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3409) "مجمع البحرين" من طريق منجاب بن الحارث به مرفوعًا. وقال الطبراني: "لم يرفع هذا الحديث عن عمار الدهني إلا شريك، ورواه سفيان بن عيينة عن عمار الدهني فوافقه".
(5) في م: "وقال".
(6) زيادة من م.
(7) في م: "النظر".(8/266)
وَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي هَذَا السِّيَاقِ هُوَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، أَحَدُ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ -لَعَنَهُ اللَّهُ-وَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَسَأَلَهُ (1) عَنِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا عَجَبًا لِمَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ. فَوَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا بِسَحْرٍ وَلَا بهذْي مِنَ الْجُنُونِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ لِمَنْ كَلَامِ اللَّهِ. فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ النفرُ مِنْ قُرَيْشٍ ائْتَمَرُوا فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ صَبَا الْوَلِيدُ لتصْبُوَنَّ قُرَيْشٌ. فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَنَا وَاللَّهِ أَكْفِيكُمْ شَأْنَهُ. فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ لِلْوَلِيدِ: أَلَمْ تَرَ قَوْمَكَ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الصَّدَقَةَ؟ فَقَالَ: ألستُ أَكْثَرَهُمْ مَالًا وَوَلَدًا. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ لِتُصِيبَ مِنْ طَعَامِهِ. فَقَالَ الْوَلِيدُ: أَقَدْ (2) تَحَدَّثَ بِهِ عَشِيرَتِي؟! فَلَا وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَا عُمَرَ، وَلَا ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ، وَمَا قَوْلُهُ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إِلَى قَوْلِهِ: {لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}
وَقَالَ قَتَادَةُ: زَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ نَظَرْتُ فِيمَا قَالَ الرَّجُلُ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَإِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةٌ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُوَ وَمَا يَعْلَى، وَمَا أَشُكُّ أَنَّهُ سِحْرٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} الْآيَةَ، {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} قَبَضَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَكَلَحَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ عَبَّاد بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأ عليه الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَيْ عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: يُعْطُونَكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا تَتَعَرض لِمَا قِبَلَهُ. قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي أَكْثَرُهَا مَالًا. قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يُعْلِمُ قَوْمَكَ أَنَّكَ (3) مُنْكِرٌ لِمَا قَالَ، وَأَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ. قَالَ: فَمَاذَا أَقُولُ فِيهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يَعْلَى. وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ. فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: إِنَّ هَذَا سِحْرٌ يَأْثِرُهُ عَنْ غَيْرِهِ. فَنَزَلَتْ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [قَالَ قَتَادَةُ: خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَحِيدًا] (4) حَتَّى بَلَغَ: {تِسْعَةَ عَشَرَ} (5)
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ نَحْوًا مِنْ هَذَا. وَقَدْ زَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ لِيُجْمِعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى قَوْلٍ يَقُولُونَهُ فِيهِ، قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِمْ وفودُ الْعَرَبِ لِلْحَجِّ ليصدّوهُم عَنْهُ، فَقَالَ قَائِلُونَ: شَاعِرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: سَاحِرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَاهِنٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَجْنُونٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 48] كُلُّ هَذَا وَالْوَلِيدُ يُفَكِّرُ فِيمَا يَقُولُهُ فِيهِ، فَفَكَّرَ وَقَدَّرَ، وَنَظَرَ وَعَبَسَ وَبَسَرَ، فَقَالَ: {إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ}
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أَيْ: سَأَغْمُرُهُ فِيهَا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ.
__________
(1) في م، أ: "يسأله".
(2) في أ: "أوقد".
(3) في م: "أنه".
(4) زيادة من تفسير الطبري
(5) تفسير الطبري (29/98) .(8/267)
ثُمَّ قَالَ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} ؟ وَهَذَا تَهْوِيلٌ لِأَمْرِهَا وَتَفْخِيمٌ.
ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} أَيْ: تَأْكُلُ لُحُومَهُمْ وَعُرُوقَهُمْ وعَصَبهم وَجُلُودَهُمْ، ثُمَّ تُبَدَّلُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يَحْيَوْنَ، قَالَهُ ابْنُ بُرَيْدَةَ وَأَبُو سِنَانٍ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَوْلُهُ: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لِلْجِلْدِ، وَقَالَ أَبُو رَزين: تَلْفَحُ الْجِلْدَ لَفْحَةً فَتَدَعُهُ أَسْوَدَ مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: تَلُوحُ أَجْسَادُهُمْ عَلَيْهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} أَيْ: حَرَّاقَةٌ لِلْجِلْدِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَحْرِقُ بَشْرَةَ الْإِنْسَانِ.
وَقَوْلُهُ: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أَيْ: مِنْ مُقَدِّمِي الزَّبَانِيَةِ، عَظِيمٌ خَلْقُهُمْ، غَلِيظٌ خُلُقُهُمْ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرَنِي حُرَيْثٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ الْبَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قَالَ إِنَّ رَهْطًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن خَزَنَةِ جَهَنَّمَ. فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ عَلَيْهِ سَاعَتَئِذٍ: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} فَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: "ادْعُهُمْ، أَمَا إِنِّي سَائِلُهُمْ عَنْ تُربَة الْجَنَّةِ إِنْ أَتَوْنِي، أَمَا إِنَّهَا (1) دَرْمكة بيضاء". فجاؤوه فَسَأَلُوهُ عَنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، فَأَهْوَى بِأَصَابِعِ كَفَّيْهِ مَرَّتَيْنِ وَأَمْسَكَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ قَالَ: "أَخْبِرُونِي عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ". فَقَالُوا: أَخْبِرْهُمْ يَا ابْنَ سَلَامٍ. فَقَالَ: كَأَنَّهَا خُبزَة بَيْضَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما إِنَّ الْخُبْزَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الدّرمَك". (2)
هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مِنْدَهْ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبدَة، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ وَيَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، غلبَ أَصْحَابُكَ الْيَوْمَ. فَقَالَ: "بِأَيِّ شَيْءٍ؟ " قَالَ: سَأَلَتْهُمْ يَهُود هَلْ أَعْلَمَكُمْ نَبِيُّكُمْ عِدَّةَ خَزَنَةِ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالُوا: لَا نَعْلَمُ حَتَّى نَسْأَلَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفَغُلِبَ قَوْمٌ سُئلوا عَمَّا لَا يَدْرُونَ فَقَالُوا: لَا نَدْرِي (3) حَتَّى نَسْأَلَ نَبِيَّنَا؟ عليَّ بِأَعْدَاءِ اللَّهِ، لَكِنْ سَأَلُوا (4) نَبِيَّهُمْ أَنْ يُرِيَهُمُ اللَّهَ جَهْرَةً". فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَدَعَاهُمْ. قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، كَمْ عَدَدُ خَزَنَةِ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: "هَكَذَا"، وَطَبَّقَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ طَبَّقَ كَفَّيْهِ، مَرَّتَيْنِ، وَعَقَدَ وَاحِدَةً، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "إِنْ سُئِلْتُمْ عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ فَهِيَ الدَّرمك". فَلَمَّا سَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِعِدَّةِ خَزَنَةِ أَهْلِ النَّارِ، قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ؟ " فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: خُبْزَةٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ: "الْخُبْزُ مِنَ الدَّرمك".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، به (5) وقال هو والبزار:
__________
(1) في م: "إنها كأنها".
(2) ورواه البيهقي في البعث برقم (509) من طريق مسروق بن المرزبان، عن ابن أبي زائدة به، وقال: "حديث ابن أبي مطر -أي حريث- ليس بالقوى، وحديث جابر أصح" وهو الآتي بعده.
(3) في م: "قالوا لا نعلم".
(4) في م، أ: "لكنهم قد سألوا".
(5) سنن الترمذي برقم (3327) .(8/268)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
لَا نَعْرِفُهُ (1) إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُجَالِدٍ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، فَقَصَّ الدَّرْمَكَ فَقَطْ. (2)
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) }
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ} أَيْ: خُزَّانها، {إِلا مَلائِكَةً} أَيْ: [زَبَانِيَةً] (3) غِلَاظًا شِدَادًا. وَذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ حِينَ ذَكَرَ عَدَدَ الْخَزَنَةِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا يَسْتَطِيعُ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْكُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَتَغْلِبُونَهُمْ (4) ؟ فَقَالَ اللَّهُ: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً} أَيْ: شَدِيدِي الخَلْق لَا يُقَاوَمُونَ وَلَا يُغَالَبُونَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا الْأَشُدَّيْنِ -وَاسْمُهُ: كَلَدَة بْنُ أُسَيْدِ بْنِ خَلَفٍ-قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اكْفُونِي مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَأَنَا أَكْفِيكُمْ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ، إِعْجَابًا مِنْهُ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْقُوَّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى جِلْدِ الْبَقَرَةِ وَيُجَاذِبُهُ عَشْرَةٌ لِيَنْتَزِعُوهُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، فَيَتَمَزَّقُ الْجِلْدُ وَلَا يَتَزَحْزَحُ عَنْهُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهُوَ الَّذِي دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مُصَارَعَتِهِ وَقَالَ: إِنْ صَرَعْتَنِي آمَنْتُ بِكَ، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا، فَلَمْ يُؤْمِنْ. قَالَ: وَقَدْ نَسَب ابنُ إِسْحَاقَ خَبَرَ الْمُصَارَعَةِ إِلَى رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ (5) .
قُلْتُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَا ذَكَرَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: إِنَّمَا ذَكَرْنَا عِدَّتَهُمْ أَنَّهُمْ تسعةَ عشرَ اخْتِبَارًا منَّا لِلنَّاسِ، {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أَيْ: يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ نَطَقَ بِمُطَابَقَةِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ.
{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} أَيْ: إِلَى إِيمَانِهِمْ. بِمَا يَشْهَدُونَ مِنْ صِدْقِ إِخْبَارِ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أَيْ: مِنَ الْمُنَافِقِينَ {وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا} ؟ أَيْ: يَقُولُونَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا هَاهُنَا؟ قَالَ اللَّهُ
__________
(1) في م: "لا يعرف".
(2) المسند (3/361) .
(3) زيادة من م.
(4) في أ: "فتغلبوهم".
(5) الروض الأنف للسهيلي (1/200) .(8/269)
تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أَيْ: مِنْ مِثْلِ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ يَتَأَكَّدُ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ أَقْوَامٍ، وَيَتَزَلْزَلُ عِنْدَ آخَرِينَ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} أَيْ: مَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ وَكَثْرَتَهُمْ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ فَقَطْ، كَمَا قَدْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ وَمِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِيِّينَ. وَمَنْ تَابَعَهُمْ (1) مِنَ الْمِلَّتَيْنِ الَّذِينَ سَمِعُوا هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَرَادُوا تَنْزِيلَهَا عَلَى الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ وَالنُّفُوسِ التِّسْعَةِ، الَّتِي اخْتَرَعُوا دَعْوَاهَا وَعَجَزُوا عَنْ إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى مُقْتَضَاهَا، فَأُفْهِمُوا (2) صَدْرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِآخِرِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ}
وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الْمَرْوِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ: "فَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ فِي كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ" (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ مُورِقٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وحُقَّ لَهَا أَنْ تَئط، مَا فيها موضع أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَا تَلَذّذتم بِالنِّسَاءِ عَلَى (4) الفُرُشات، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَاللَّهِ لوددتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعضد.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ (5) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَوْقُوفًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا خَيْرُ (6) بْنُ عَرَفَةَ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عُرْوَة بْنُ مَرْوَانَ الرُّقِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "ما في السموات السَّبْعِ مَوْضِعُ قَدَمٍ وَلَا شِبْرٍ وَلَا كَفٍّ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ، أَوْ مَلَكٌ سَاجِدٌ، أَوْ مَلَكٌ رَاكِعٌ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا جَمِيعًا: سُبْحَانَكَ! مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، إِلَّا أَنَّا لَمْ نُشْرِكْ بِكَ شَيْئًا". (7) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي "كِتَابِ الصَّلَاةِ": حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانِ بْنِ مُحْرِز، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ قَالَ لَهُمْ: "هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟ " قَالُوا: مَا نَسْمَعُ مِنْ شَيْءٍ. فَقَالَ
__________
(1) في م: "ومن شايعهم".
(2) في أ: "فما فهموا".
(3) هذا جزء من حديث أنس الطويل في الإسراء، وهو في صحيح البخاري برقم (7517) ، وصحيح مسلم برقم (162) . وهذا القدر قد وقع لمسلم من هذا الوجه، وانظر أحاديث الإسراء عند تفسير أول سورة الإسراء.
(4) في أ: "في".
(5) المسند (5/173) ، وسنن الترمذي برقم (2312) ، وسنن ابن ماجة برقم (4190) .
(6) في م: "حدثنا حسين".
(7) المعجم الكبير (2/184) ، وقال الهيثمي في المجمع (1/52) : "وفيه عروة بن مروان". قلت: قال الدارقطني: ليس بالقوى.(8/270)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَسْمَعُ أَطِيطَ السَّمَاءِ وَمَا تُلَامُ أَنْ تَئطّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ" (1) .
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَهْزَاذَ (2) حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاذٍ الْفَضْلُ بْنُ خَالِدٍ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَاهِلِيُّ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ، يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ قَائِمٌ، وَذَلِكَ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصاقات: 164-166] . (3) .
وَهَذَا مَرْفُوعٌ (4) غَرِيبٌ جِدًّا ثُمَّ رَوَاهُ (5) عَنْ مَحْمُودِ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنَ السَّمَاوَاتِ سَمَاءً مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ أَوْ قَدَمَاهُ قَائِمًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (6) .
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أُمِّهِ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ (7) بْنِ عَطِيَّةَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ [مِنْ بَنِي] (8) سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ. حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ زَيْدِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ بَنِي الْحُبُلِيِّ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الرَّبِيعِ، مَنْ بَنِي سَالِمٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَلَاءِ، مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، عَنْ أَبِيهِ الْعَلَاءِ بْنِ سَعْدٍ -وَقَدْ شَهِدَ الْفَتْحَ وَمَا بَعْدَهُ-أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا لِجُلَسَائِهِ: "هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ؟ " قَالُوا: وَمَا تَسَمَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئط، إِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَوْضِعُ قَدَم إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ، وقالَ الْمَلَائِكَةُ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (9) وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا [مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا] (10) إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الفَروي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُدَامَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ديناره، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ جَاءَ وَالصَّلَاةُ قَائِمَةٌ، وَنَفَرٌ ثَلَاثَةٌ جُلُوسٌ، أَحَدُهُمْ أَبُو جَحْشٍ اللَّيْثِيُّ، فَقَالَ: قُومُوا فَصَلُّوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَامَ اثْنَانِ وَأَبَى أَبُو جَحْشٍ أَنْ يَقُومَ، وَقَالَ: لَا أَقُومُ حَتَّى يَأْتِيَ رَجُلٌ هُوَ أَقْوَى مِنِّي ذِرَاعَيْنِ، وَأَشَدُّ مِنِّي بَطْشًا فَيَصْرَعُنِي، ثُمَّ يَدس وَجْهِي فِي التُّرَابِ. قَالَ عُمَرُ: فَصَرَعْتُهُ وَدَسَسْتُ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَحَجَزَنِي عَنْهُ، فَخَرَجَ عُمَرُ مُغْضَبًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: "مَا رَأيَكَ يَا أَبَا حَفْصٍ؟ ". فَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن رضى
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة للمروزي برقم (248) .
(2) في م: "مهزاذ".
(3) تعظيم قدر الصلاة برقم (253) .
(4) في أ: "وهذا مرفوعا" وهو خطأ.
(5) في م: "ثم رواه".
(6) تعظيم قدر الصلاة برقم (254) .
(7) في هـ: "عمر".
(8) زيادة من م.
(9) تعظيم قدر الصلاة برقم (255) .
(10) زيادة من تعظيم قدر الصلاة (256) .(8/271)
عُمَرَ رحمةٌ، وَاللَّهِ لوددْتُ أَنَّكَ جِئْتَنِي بِرَأْسِ الْخَبِيثِ"، فَقَامَ عُمَرُ يُوجّهُ نَحْوَهُ، فَلَمَّا أَبْعَدَ نَادَاهُ فَقَالَ: "اجْلِسْ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِغِنَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ صَلَاةِ أَبِي جَحْشٍ، إِنَّ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا مَلَائِكَةً خُشُوعًا (1) لَا يرفعون رءوسهم حتى تقوم الساعة. فإذا قامت رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ ثُمَّ قَالُوا: رَبَّنَا، مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَإِنَّ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ مَلَائِكَةً سُجُودًا لَا يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، وَقَالُوا: سُبْحَانَكَ! مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ" فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَمَا يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " أَمَّا أَهْلُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ. وَأَمَّا أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَ ذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ. وَأَمَّا أَهْلُ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ. فَقُلْهَا يَا عُمَرُ فِي صَلَاتِكَ". فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِالَّذِي كُنْتَ عَلَّمْتَنِي وَأَمَرْتَنِي أَنْ أَقُولَهُ فِي صَلَاتِي؟ فَقَالَ: "قُلْ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً". وَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ أَنْ يَقُولَ: "أَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عِقَابِكَ، وَأَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سخَطك، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، جَلَّ وَجْهُكَ" (2) وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، بَلْ مُنْكَرٌ نَكَارَةً شَدِيدَةً، وَإِسْحَاقُ الْفَرَوِيُّ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْعُقَيْلِيُّ وَالدَّارُقُطْنِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: كَانَ صَدُوقًا إِلَّا أَنَّهُ ذَهَبَ بَصَرُهُ فرُبما لُقِّنَ، وَكُتُبُهُ صَحِيحَةٌ. وَقَالَ مَرَّةً: هُوَ مُضْطَرِبٌ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُدَامَةَ أَبُو قَتَادَةَ الْجُمَحِيُّ: تُكَلِّمَ فِيهِ أَيْضًا. وَالْعَجَبُ مِنَ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ كَيْفَ رَوَاهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ، وَلَا عَرَّف بِحَالِهِ، وَلَا تَعَرَّضَ لِضَعْفِ بَعْضِ رِجَالِهِ؟! غَيْرَ أَنَّهُ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا بِنَحْوِهِ. وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا قَرِيبًا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَهْزَاذَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ وَهُوَ يَخْطُبُنَا عَلَى مِنْبَرِ الْمَدَائِنِ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً تُرعَد فَرَائِصُهُمْ مِنْ خِيفَتِهِ، مَا مِنْهُمْ مَلَكٌ تَقْطُرُ مِنْهُ دَمْعَةٌ مِنْ عَيْنِهِ إِلَّا وَقَعَتْ عَلَى مَلَكٍ يُصَلِّي، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ مِنْهُمْ مَلَائِكَةً رُكُوعًا لَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ نَظَرُوا إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالُوا: سُبْحَانَكَ! مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ" (3) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: {وَمَا هِيَ} أَيِ: النَّارُ الَّتِي وصفت، {إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}
__________
(1) في م، أ: "خشوع".
(2) تعظيم قدر الصلاة برقم (256) ، ورواه الحاكم في المستدرك (3/87) من طريق إسحاق الفروي به، وقال: "حديث صحيح الإسناد على شريط البخاري ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي. قلت: "منكر غريب، وما هو على شرط البخاري، وفيه عبد الملك بن قدامة الجحمي ضعيف، تفرد به".
(3) تعظيم قدر الصلاة برقم (260) .(8/272)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
ثُمَّ قَالَ: {كَلا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} أَيْ: وَلَّى، {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أَيْ: أَشْرَقَ، {إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ} أَيِ: الْعَظَائِمِ، يَعْنِي: النَّارَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ. {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} أَيْ: لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَقْبَلَ النِّذَارَةَ وَيَهْتَدِيَ لِلْحَقِّ، أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا وَيُوَلِّيَ وَيَرُدَّهَا.
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) }(8/273)
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلا بَلْ لَا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (53) كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا أَنَّ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أَيْ: مُعْتَقَلَةٌ بِعَمَلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: {إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} فَإِنَّهُمْ {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ} أَيْ: يَسْأَلُونَ الْمُجْرِمِينَ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ وَأُولَئِكَ فِي الدِّرْكَاتِ قَائِلِينَ لَهُمْ:
{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} أَيْ: مَا عَبَدَنَا رَبَّنَا وَلَا أَحْسَنَّا إِلَى خَلْقِهِ مِنْ جِنْسِنَا،
{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} أَيْ: نَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا نَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلَّمَا غَوِيَ غَاوٍ غَوَيْنَا مَعَهُ،
{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} يَعْنِي: الْمَوْتَ. كَقَوْلِهِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الْحِجْرِ: 99] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما هُوَ -يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ-فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ". (1)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أَيْ: مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ (2) الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفَاعَةُ شَافِعٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّفَاعَةَ إِنَّمَا تُنْجِعُ إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا فَأَمَّا مَنْ وَافَى اللَّهَ كَافِرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَهُ النَّارُ لَا مَحَالَةَ، خَالِدًا فِيهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} أَيْ: فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ قِبَلَكَ مِمَّا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَتُذَكِّرُهُمْ بِهِ مُعْرِضِينَ،
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أَيْ: كَأَنَّهُمْ فِي نِفَارِهِمْ عَنِ الْحَقِّ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ حُمُر مِنْ حُمُرِ الْوَحْشِ إِذَا فَرَّتْ مِمَّنْ يُرِيدُ صَيْدَهَا مِنْ أَسُدٍ، قاله أبو هريرة، وَابْنُ عَبَّاسٍ -فِي رِوَايَةٍ-عَنْهُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. أَوْ: رَامٍ، وَهُوَ رواية (3) عن
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (1243) من حديث أم العلاء رضي الله عنها.
(2) في م: "بمثل هذه".
(3) في م: "وهما روايتان".(8/273)
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ (1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَسَدُ، بِالْعَرَبِيَّةِ، وَيُقَالُ لَهُ بِالْحَبَشِيَّةِ: قَسْوَرَةٌ، وَبِالْفَارِسِيَّةِ: شير (2) وَبِالنَّبَطِيَّةِ: أويا.
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} أَيْ: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِ كِتَابًا كَمَا أَنْزَلَ عَلَى النَّبِيِّ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الْأَنْعَامِ: 124] ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ: يُرِيدُونَ أَنْ يُؤْتُوا بَرَاءَةً بِغَيْرِ عَمَلٍ.
فَقَوْلُهُ: {كَلا بَلْ لَا يَخَافُونَ الآخِرَةَ} أَيْ: إِنَّمَا أَفْسَدَهُمْ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ بِهَا، وَتَكْذِيبُهُمْ بِوُقُوعِهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} أَيْ: حَقًّا إِنَّ الْقُرْآنَ تَذْكِرَةٌ،
{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} كَقَوْلِهِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ} [الْإِنْسَانِ: 30] .
وَقَوْلُهُ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أَيْ: هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُخاف مِنْهُ، وَهُوَ أَهْلٌ أَنْ يَغفر ذَنْبَ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ. قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ (3) بْنُ الْحُبَابِ، أَخْبَرَنِي سُهَيْلٌ -أَخُو حَزْمٍ (4) -حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} وَقَالَ: "قَالَ رَبُّكُمْ: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى، فَلَا يُجْعَلْ مَعِي إِلَهٌ، فَمَنِ اتَّقَى أَنْ يَجْعَلَ مَعِي إِلَهًا كَانَ أَهْلًا أَنْ أَغْفِرَ لَهُ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيل بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَطْعِيِّ، بِهِ (5) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَسُهَيْلٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هُدْبَة بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سُهَيل، بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، والبَزار، والبَغَوي، وَغَيْرُهُمْ، مِنْ حَدِيثِ سُهَيل القُطَعي، بِهِ. (6)
آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الْمُدَّثِّرِ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة
[وحسبنا الله ونعم الوكيل] (7)
__________
(1) في أ: "يوسف بن ماهك".
(2) في أ: "بتار".
(3) في أ: "حدثنا يزيد".
(4) في م: "أخو حمزة".
(5) المسند (3/142) ، وسنن الترمذي برقم (3328) ، وسنن ابن ماجة برقم (4299) ، وتفسير النسائي (2/475) .
(6) مسند أبي يعلى (6/66) ، ومعالم التنزيل للبغوي (8/276) .
(7) زيادة من م.(8/274)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقِيَامَةِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) }
قَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُنْتَفِيًا، جَازَ الْإِتْيَانُ بِلَا قَبْلَ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَالْمَقْسُومُ عَلَيْهِ هَاهُنَا هُوَ إِثْبَاتُ الْمِيعَادِ، وَالرَّدُّ عَلَى مَا يَزْعُمُهُ الْجَهَلَةُ مِنَ الْعِبَادِ مِنْ عَدَمِ بَعث الْأَجْسَادِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قَالَ الْحَسَنُ: أَقْسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُقْسِمْ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلْ أَقْسَمَ بِهِمَا جَمِيعًا. هَكَذَا (1) حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ وَالْأَعْرَجِ أَنَّهُمَا قَرَآ: "لَأُقْسِمُ [بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ] (2) "، وَهَذَا يُوَجِّهُ قَوْلَ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْقَسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَفَى الْقَسَمَ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِهِمَا جَمِيعًا كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
فَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَمَعْرُوفٌ، وَأَمَّا النَّفْسُ اللَّوَّامَةُ، فَقَالَ قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ -وَاللَّهِ-مَا نَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ: مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِحَدِيثِ نَفْسِي؟ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قُدُما مَا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ.
وَقَالَ جُوَيْبر: بَلَغَنَا عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قَالَ: ليس أحد من أهل السموات وَالْأَرْضِ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحِ بْنِ (3) مُسْلِمٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِماك: أَنَّهُ سَأَلَ عِكْرِمة عَنْ قَوْلِهِ: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قَالَ: يَلُومُ (4) عَلَى الخير والشر: لو فعلت كذا وكذا.
__________
(1) في م: "كذا".
(2) زيادة من م.
(3) في م: "عن".
(4) في م: "تلوم".(8/275)
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ وَكِيع عَنْ إِسْرَائِيلَ. (1)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيج، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير فِي: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قَالَ: تَلُومُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ: فَقَالَ: هي النفس اللؤوم. (2)
وقال علي ابن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: تَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ وَتَلُومُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اللَّوَّامَةُ: الْمَذْمُومَةُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {اللَّوَّامَةِ} الْفَاجِرَةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، الْأَشْبَهُ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ أَنَّهَا الَّتِي تَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَتَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ.
وَقَوْلُهُ: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيُظَنُّ أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى إِعَادَةِ عِظَامِهِ وَجَمْعِهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا الْمُتَفَرِّقَةِ؟ {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} قَالَ سَعِيدِ بْنِ جُبَير والعَوفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْ نَجْعَلَهُ (3) خُفّا أَوْ حَافِرًا. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ جَرِيرٍ. ووجَّهه ابنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا.
وَالظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: {قَادِرِينَ} حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: {نَجْمَعَ} أَيْ: أَيُظَنُّ الْإِنْسَانُ أَنَا لَا نَجْمَعُ عِظَامَهُ؟ بَلَى سَنَجْمَعُهَا قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّي بَنَانَهُ، أَيْ: قُدْرَتُنَا صَالِحَةٌ لِجَمْعِهَا، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان، فتجعل بَنَانَهُ -وَهِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ-مُسْتَوِيَةً. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجِ.
وَقَوْلُهُ: {بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} قَالَ سَعِيدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي يَمْضِي قُدُمًا.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} يَعْنِي: الْأَمَلَ، يَقُولُ الْإِنْسَانُ: أَعْمَلُ ثُمَّ أَتُوبُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ: هُوَ الْكُفْرُ بِالْحَقِّ بَيْنَ يَدَيِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} لِيَمْضِيَ أَمَامَهُ رَاكِبًا رَأْسَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يُلْقَى ابْنُ آدَمَ إِلَّا تَنْزِعُ نَفْسَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ قُدُمًا قُدُمًا، إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ.
ورُوي عَنْ عكرِمة، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: هُوَ الَّذِي يَعجَل الذنوبَ ويُسوّف التَّوْبَةَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْكَافِرُ يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْمُرَادِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} ؟ أَيْ: يَقُولُ مَتَى يَكُونُ يوم
__________
(1) تفسير الطبري (29/109) .
(2) تفسير الطبري (29/109) .
(3) في أ: "أن نحوله".(8/276)
الْقِيَامَةِ؟ وَإِنَّمَا سُؤَالُهُ سُؤَالُ اسْتِبْعَادٍ لِوُقُوعِهِ، وَتَكْذِيبٌ لِوُجُودِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 29، 30] .
وقال تعالى ها هنا: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: {بَرِقَ} بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ: حَارَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إِبْرَاهِيمَ: 43] ، بَلْ يَنْظُرُونَ مِنَ الْفَزَعِ هَكَذَا وَهَكَذَا، لَا يَسْتَقِرُّ لَهُمْ بَصَرٌ عَلَى شَيْءٍ؛ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ.
وَقَرَأَ آخَرُونَ: "بَرَقَ" بِالْفَتْحِ، وَهُوَ قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى مِنَ الْأَوَّلِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَبْصَارَ تَنْبَهِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَخْشَعُ وَتَحَارُ وَتَذِلُّ مِنْ شِدَّةِ الْأَهْوَالِ، وَمَنْ عِظَمِ مَا تُشَاهِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأُمُورِ.
وَقَوْلُهُ: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} أَيْ: ذَهَبَ ضَوْءُهُ.
{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: كُوّرا. وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 1، 2] ورُوي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ: "وجُمع بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ".
وَقَوْلُهُ: {يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} أَيْ: إِذَا عَايَنَ ابنُ آدَمَ هَذِهِ الْأَهْوَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَئِذٍ يُرِيدُ أَنْ يَفِرَّ وَيَقُولُ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ أَيْ: هَلْ مِنْ مَلْجَأٍ أَوْ مَوْئِلٍ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَيْ لَا نَجَاةَ.
وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشُّورَى: 47] أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ مَكَانٌ تَتَنَكَّرُونَ فِيهِ، وَكَذَا قَالَ هَاهُنَا {لَا وَزَرَ} أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ مَكَانٌ تَعْتَصِمُونَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} أَيِ: الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} أَيْ: يُخْبَرُ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِ قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 49] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} أَيْ: هُوَ شَهِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، عَالِمٌ بِمَا فَعَلَهُ وَلَوِ اعْتَذَرَ وَأَنْكَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الْإِسْرَاءِ: 14] .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} يَقُولُ: سمعُه وبصرُه وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وجوارحُه.
وَقَالَ قَتَادَةُ: شَاهِدٌ عَلَى نَفْسِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: إِذَا شِئْتَ -وَاللَّهِ-رَأَيْتَهُ بَصِيرًا بِعُيُوبِ النَّاسِ وَذُنُوبِهِمْ غَافِلًا عَنْ ذُنُوبِهِ، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ فِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبًا: يَا ابْنَ آدَمَ، تُبصر القَذَاة فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَتَتْرُكُ الجِذْل (1) فِي عينك لا تبصره.
__________
(1) في م: "وتترك الجذع".(8/277)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} وَلَوْ جَادَلَ عَنْهَا فَهُوَ بَصِيرٌ عَلَيْهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} وَلَوِ اعْتَذَرَ يَوْمَئِذٍ بِبَاطِلٍ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} حُجَّتَهُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} يَقُولُ: لَوْ أَلْقَى ثِيَابَهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَلَوْ أَرْخَى سُتُورَهُ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمَّوْنَ السِّتْرَ: الْمِعْذَارَ.
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَصْحَابِهِ، كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَامِ: 23] وَكَقَوْلِهِ {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [الْمُجَادَلَةِ: 18] .
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} هِيَ الِاعْتِذَارُ (1) أَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّهُ قَالَ: {لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غَافِرٍ: 52] وَقَالَ {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} [النَّحْلِ: 87] {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النَّحْلِ: 28] وَقَوْلُهُمْ {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) }
__________
(1) في أ: "هي الأعذار".(8/278)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
{كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) }
هَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ تَلَقِّيهِ الْوَحْيِ مِنَ الْمَلَكِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُبَادِرُ إِلَى أَخْذِهِ، وَيُسَابِقُ الْمَلَكَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا جَاءَهُ الْمَلَكُ بِالْوَحْيِ أَنْ يَسْتَمِعَ لَهُ، وَتَكَفَّلَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَهُ فِي صَدْرِهِ، وَأَنْ يُيَسِّرَهُ لِأَدَائِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَلْقَاهُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُ وَيُفَسِّرَهُ وَيُوَضِّحَهُ. فَالْحَالَةُ (1) الْأُولَى جَمْعُهُ فِي صَدْرِهِ، وَالثَّانِيَةُ تِلَاوَتُهُ، وَالثَّالِثَةُ تَفْسِيرُهُ وَإِيضَاحُ مَعْنَاهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أَيْ: بِالْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] .
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أَيْ: فِي صَدْرِكَ، {وَقُرْآنَهُ} أَيْ: أَنْ تَقْرَأَهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أَيْ: إِذَا تَلَاهُ عَلَيْكَ الْمَلَكُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أَيْ: فَاسْتَمَعْ لَهُ، ثُمَّ اقْرَأْهُ كَمَا أَقْرَأَكَ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أَيْ: بَعْدَ حِفْظِهِ وَتِلَاوَتِهِ نُبَيِّنُهُ لَكَ وَنُوَضِّحُهُ، وَنُلْهِمُكَ مَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَدْنَا وَشَرَعْنَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي عَوَانة، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، فَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ -قَالَ: فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا أُحَرِّكُ شَفَتَيَّ (2) كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ. وَقَالَ
__________
(1) في م: "فالحال".
(2) في أ: "أنا أحركهما".(8/278)
لي سيعد: وَأَنَا أُحَرِّكُ شَفَتَيَّ كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ-فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ، ثُمَّ تَقْرَأُهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ كَمَا أَقْرَأَهُ. (1)
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، بِهِ (2) وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَلْقَى مِنْهُ شِدَّةٌ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ عُرِفَ فِي تَحْرِيكِهِ شَفَتَيْهِ، يَتَلَقَّى أَوَّلَهُ وَيُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ خَشْيَةَ أَنْ يَنْسَى أَوَّلَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ آخِرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
وَهَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ: كَانَ لَا يَفْتُرُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَخَافَةَ أَنْ يَنْسَاهُ، فَقَالَ اللَّهُ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا} أَنْ نَجْمَعَهُ لَكَ {وَقُرْآنَهُ} أَنْ نُقْرِئَكَ فَلَا تَنْسَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} تَبْيِينَ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ.
وَقَوْلُهُ: {كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} أَيْ: إِنَّمَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمُخَالَفَةِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الْحَقِّ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: إِنَّهُمْ إِنَّمَا هِمَّتُهُمْ إِلَى الدَّارِ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةِ، وَهُمْ لَاهُونَ مُتَشَاغِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} مِنَ النَّضَارَةِ، أَيْ حَسَنَةٌ بَهِيَّة مُشْرِقَةٌ مَسْرُورَةٌ، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أَيْ: تَرَاهُ عَيَانًا، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي صَحِيحِهِ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانا". (4) وَقَدْ ثَبَتَتْ رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا وَلَا مَنْعُهَا؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَة -وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ-: أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: "هَلْ تُضَارُّون فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْسَ دُونَهُمَا سَحَاب؟ " قَالُوا: لَا. قَالَ: "فَإِنَّكُمْ تَرَون رَبَّكُمْ كَذَلِكَ". (5) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ تَرَون رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَلَّا تُغلَبوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس ولا قبل
__________
(1) المسند (1/343) .
(2) صحيح البخاري برقم (4927، 4928) ، وصحيح مسلم برقم (448) .
(3) صحيح البخاري برقم (4929) .
(4) صحيح البخاري برقم (554، 573، 485) من حديث جرير رضي الله عنه.
(5) صحيح البخاري برقم (7437، 7438) ، وصحيح مسلم برقم (182) .(8/279)
غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا" (1) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جَنَّتان مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّة آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى اللَّهِ إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ". (2) وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، عَنْ صُهَيْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إذا دَخَلَ أهلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ" قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيض وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ " قَالَ: "فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ". ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يُونُسَ: 26] . (3)
وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، عَنْ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ: "إِنَّ اللَّهَ يَتَجلَّى لِلْمُؤْمِنِينَ يَضْحَكُ" (4) -يَعْنِي فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ-فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ (5) إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْعَرَصَاتِ، وَفِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ، حَدَّثَنَا ثُوَير (6) بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ أَلْفَيْ سَنَةٍ، يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، يَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ. وَإِنَّ أَفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً لَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ". (7)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ شَبابة، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ ثُوَير قَالَ: "سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ..". فَذَكَرَهُ، قَالَ: "وَرَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبْجَرَ، عَنْ ثُوَير، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَوْلُهُ". وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ ثُوَير، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، لَمْ يَرْفَعْهُ (8) وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَأَوْرَدْنَا الْأَحَادِيثَ بِطُرُقِهَا وَأَلْفَاظِهَا مِنَ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ، وَلَكِنْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُفَرَّقًا فِي مَواضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ (9) . وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ. وهُدَاة الْأَنَامِ.
وَمَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ {إِلَى} مُفْرَدُ الْآلَاءِ، وَهِيَ النِّعَمُ، كَمَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَقَالَ تَنْتَظِرُ الثَّوَابَ مِنْ رَبِّهَا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ مُجَاهِدٍ. وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ أَيْضًا -فَقَدْ أَبْعَدَ هَذَا الْقَائِلُ (10) النُّجْعَةَ، وَأَبْطَلَ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. وَأَيْنَ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ؟ [الْمُطَفِّفِينَ: 15] ، قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا حَجَب الْفُجَّارَ إِلَّا وَقَدْ عَلم أَنَّ الْأَبْرَارَ يَرَوْنَهُ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ قَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قَالَ ابن جرير:
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7434، 7436) ، وصحيح مسلم برقم (633) .
(2) صحيح البخاري برقم (7444) ، وصحيح مسلم برقم (180) .
(3) صحيح مسلم برقم (181) .
(4) صحيح مسلم برقم (191) .
(5) في م: "ينظروا".
(6) في م، أ: "حدثنا يزيد.
(7) المسند (2/13) .
(8) سنن الترمذي برقم (3330) .
(9) وانظر: كتاب النهاية في الفتن والملاحم للحافظ ابن كثير (2/300) فقد أطال قي ذكر أحاديث الرؤية.
(10) في م: "الناظر".(8/280)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ عَنِ الْحَسَنِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قَالَ: حَسَنَةٌ، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قَالَ تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ، وحُقّ لَهَا أَنْ تَنضُر وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ (1) .
وَقَوْلُهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} هَذِهِ وُجُوهُ الْفُجَّارِ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَاسِرَةٌ. قَالَ قَتَادَةُ: كَالِحَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَغَيَّرَ أَلْوَانُهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ {بَاسِرَةٌ} أَيْ: عَابِسَةٌ.
{تَظُنُّ} أَيْ: تَسْتَيْقِنُ، {أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: دَاهِيَةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: شَرٌّ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا هَالِكَةٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَظُنُّ أَنْ سَتَدْخُلُ النَّارَ.
وَهَذَا الْمَقَامُ كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 106] وَكَقَوْلِهِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عَبَسَ: 38 -42] وَكَقَوْلِهِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} إِلَى قَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الْغَاشِيَةِ: 2 -10] فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالسِّيَاقَاتِ.
{كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالَةِ الِاحْتِضَارِ وَمَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ -ثَبَّتَنَا اللَّهُ هُنَالِكَ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ-فَقَالَ تَعَالَى: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} إن جعلنا {كَلا} رداعة فَمَعْنَاهَا: لَسْتَ يَا ابْنَ آدَمَ تُكَذِّبُ هُنَاكَ بِمَا أُخْبِرْتَ بِهِ، بَلْ صَارَ ذَلِكَ عِنْدَكَ عَيَانًا. وَإِنْ جَعَلْنَاهَا بِمَعْنَى (حَقًّا) فَظَاهِرٌ، أَيْ: حَقًّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ، أَيِ: انْتُزِعَتْ رُوحُكَ مِنْ جَسَدِكَ وَبَلَغْتَ تَرَاقِيَكَ، وَالتَّرَاقِي: جَمْعُ تَرْقُوَةٍ، وَهِيَ الْعِظَامُ الَّتِي بَيْنَ ثَغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ، كَقَوْلِهِ: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا (2) إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الْوَاقِعَةِ: 83 -87] . وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} وَيُذْكَرُ هَاهُنَا حَدِيثُ بُسْر بْنِ جِحاش الَّذِي تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "يس" (3) . وَالتَّرَاقِي: جَمْعُ تَرْقُوَةٍ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الحلقوم.
__________
(1) تفسير الطبري (29/119) .
(2) في أ: "كلا" وهو خطأ.
(3) حديث بسر بن جحاش، رواه الإمام أحمد في المسند (4/310) من طريق جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ جِحَاشٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا أُصْبُعَهُ ثُمَّ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ أني تعجزني وقد خلقتك مِثْلِ هَذِهِ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ، مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْكَ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ؟! " وقد سبق عند تفسير الآية: 77 من سورة يس.(8/281)
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قَالَ: عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ مَنْ رَاقٍ يَرْقِي؟ وَكَذَا قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} أَيْ: مَنْ طَبِيبٌ شَافٍ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَبُو رَجَاءٍ الْكَلْبِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قَالَ: قِيلَ: مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ: مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ؟ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ.
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قَالَ: الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ. وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} يَقُولُ: آخِرُ يَوْمٍ فِي الدُّنْيَا، وَأَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، فَتَلْتَقِي الشِّدَّةُ بِالشِّدَّةِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} الْأَمْرُ الْعَظِيمُ بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلَاءٌ بِبَلَاءٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} هُمَّا سَاقَاكَ إِذَا الْتَفَّتَا (1) . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: مَاتَتْ رِجْلَاهُ فَلَمْ تَحْمِلَاهُ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهَا جَوَّالًا. وَكَذَا قَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَسَنِ: هُوَ لَفُّهُمَا فِي الْكَفَنِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: النَّاسُ يُجَهِّزُونَ جَسَدَهُ، وَالْمَلَائِكَةُ يُجَهِّزُونَ رُوحَهُ.
وَقَوْلُهُ: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} أَيِ: الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ تُرْفَعُ إِلَى السَّمَاوَاتِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: رُدُّوا عَبْدِي إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أَخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الطَّوِيلِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الْأَنْعَامِ: 61، 62] .
وَقَوْلُهُ: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} هَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْكَافِرِ الَّذِي كَانَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مُكَذِّبًا لِلْحَقِّ بِقَلْبِهِ، مُتَوَلِّيًا عَنِ الْعَمَلِ بِقَالَبِهِ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا، وَلِهَذَا قَالَ: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أَيْ: جَذلا (2) . أَشِرًا بَطرا كَسْلَانًا، لَا هِمَّةَ لَهُ وَلَا عَمَلَ، كَمَا قَالَ: {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [الْمُطَفِّفِينَ:34] . وَقَالَ {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أَيْ: يَرْجِعَ {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الِانْشِقَاقِ:13 -15] .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [أَيْ] (3) . يَخْتَالُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يَتَبَخْتَرُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلْكَافِرِ بِهِ الْمُتَبَخْتِرِ فِي مِشْيَتِهِ، أَيْ: يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَمْشِيَ هَكَذَا وَقَدْ كَفَرْتَ بِخَالِقِكَ وبارئك، كما يقال
__________
(1) في أ: "إذا التقيا".
(2) في م: "أي جزلان".
(3) زيادة من م.(8/282)
فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدُّخَانِ:49] . وكقوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [الْمُرْسَلَاتِ:46] ، وَكَقَوْلِهِ {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزُّمَرِ:15] ، وَكَقَوْلِهِ {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فُصِّلَتْ:40] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ-عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قُلْتُ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} ؟ قَالَ: قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جَهْلٍ، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ (1) . حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة - (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ (2) . حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ-عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} ؟ قَالَ: قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) ثُمَّ أَنْزَلَهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (4) .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} وَعِيدٌ عَلَى أَثَرِ وَعِيدٍ، كَمَا تَسْمَعُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ أَبَا جَهْلٍ أَخَذَ نَبيّ اللَّهِ بِمَجَامِعِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى". فَقَالَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ: أَتُوعِدُنِي يَا مُحَمَّدُ؟ وَاللَّهِ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ شَيْئًا، وَإِنِّي لَأَعَزُّ مَنْ مَشَى بَيْنَ جَبَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي: لَا يُبْعَثُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَعْنِي لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ الْحَالَيْنِ، أَيْ: لَيْسَ يُتْرَكُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مُهْمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَلَا يُتْرَكُ فِي قَبْرِهِ سُدًى لَا يُبْعَثُ، بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ فِي الدُّنْيَا، مَحْشُورٌ إِلَى اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا إِثْبَاتُ الْمَعَادِ، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْجَهْلِ وَالْعِنَادِ (5) ، وَلِهَذَا قَالَ مُسْتَدِلًّا عَلَى الْإِعَادَةِ بِالْبُدَاءَةِ فَقَالَ.
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} ؟ أَيْ: أَمَا كَانَ الْإِنْسَانُ نُطْفَةً ضَعِيفَةً مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، يُمْنَى يُرَاقُ مِنَ الْأَصْلَابِ فِي الْأَرْحَامِ. {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} أَيْ: فَصَارَ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ شُكّل وَنُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، فَصَارَ خَلْقًا آخَرَ سَويًا سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى}
ثُمَّ قَالَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أَيْ: أَمَا هَذَا الَّذِي أَنْشَأَ هَذَا الْخَلْقَ السَّوِيَّ مِنْ هَذِهِ النُّطْفَةِ الضَّعِيفَةِ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُعِيدَهُ كَمَا بَدَأَهُ؟ وتناولُ الْقُدْرَةِ لِلْإِعَادَةِ إِمَّا بِطْرِيقِ الْأُولَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبُدَاءَةِ، وَإِمَّا مُسَاوِيَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] .
__________
(1) في م، أ، هـ: "يعقوب بن إبراهيم" والمثبت من سنن النسائي الكبري (11638) .
(2) في م: "عن ابن سليمان".
(3) في م: "قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جهل".
(4) سنن النسائي الكبري برقم (11638) .
(5) في أ: "والفساد".(8/283)
وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "الرُّومِ" بَيَانُهُ وَتَقْرِيرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَاحِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ آخَرَ: أَنَّهُ كَانَ فَوْقَ سَطْحٍ يَقْرَأُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا قَرَأَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ؟ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ فَبَلَى. فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَوْقَ بَيْتِهِ، فَكَانَ إِذَا قَرَأَ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ؟ قَالَ (1) سُبْحَانَكَ، فَبَلَى، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ (2) وَلَمْ يُسَمِّ هَذَا الصَّحَابِيَّ، وَلَا يُضَرُّ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيرة يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ؟ فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ. وَمَنْ قَرَأَ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فَانْتَهَى إِلَى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ؟ فَلْيَقُلْ: بَلَى. وَمَنْ قَرَأَ: {وَالْمُرْسَلات} فَبَلَغَ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ؟ فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ".
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ (3) . وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ رَجُلُ صِدْقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة (4)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ذُكِر لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كَانَ إِذَا قَرَأَهَا قَالَ: "سُبْحَانَكَ وَبَلَى" (5) .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} ؟، قَالَ: سُبْحَانَكَ؛ فَبَلَى.
آخَرُ تفسير سورة "القيامة" ولله الحمد والمنة
__________
(1) في م: "فقال".
(2) سنن أبي داود برقم (884) ، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (2/310) .
(3) سنن أبي داود برقم (887) ، والمسند (2/249) ، وسنن الترمذي برقم (3347) . وقد جاء تسمية هذا الأعرابي في رواية الحاكم، فرواه في المستدرك (2/510) من طريق يزيد بن عياض، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي اليسع، عن أبي هريرة بنحوه وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". قلت: يزيد بن عياض كذاب.
(4) انظر: تحفة الأشراف للمزي (11/105) ، وقد ذكر له متابعات أخرى.
(5) تفسير الطبري (29/125) .(8/284)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْإِنْسَانِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " الم تَنزيلُ " السَّجْدَةَ، وَ " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ " (1)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ زَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ: " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ " وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ أَسْوَدُ، فَلَمَّا بَلَغَ صِفَةَ الْجِنَانِ، زَفَرَ زَفْرَةً فَخَرَجَتْ نَفْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَخْرَجَ نَفْسَ (2) صَاحِبِكُمْ -أَوْ قَالَ: أَخِيكُمْ-الشوقُ إِلَى الْجَنَّةِ". مُرْسَلٌ غَرِيبٌ (3) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ أَوْجَدَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يُذْكَرُ (4) لِحَقَارَتِهِ وَضَعْفِهِ، فَقَالَ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} ؟
ثُمَّ بَيْنَ ذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أَيْ: أَخْلَاطٍ. وَالْمَشْجُ وَالْمَشِيجُ: الشَّيْءُ الخَليط (5) ، بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} يَعْنِي: مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ إِذَا اجْتَمَعَا وَاخْتَلَطَا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، وَحَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَوْنٍ إِلَى لَوْنٍ. وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْأَمْشَاجُ: هُوَ اخْتِلَاطُ ماء الرجل بماء المرأة.
__________
(1) تقدم حديث أبي هريرة عند تفسير أول سورة السجدة وخرجناه هناك، أما حديث ابن عباس فلم يتقدم، وهو في صحيح مسلم برقم (879) .
(2) في أ: "روح".
(3) وقد جاء موصولا، فرواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4774) "مجمع البحرين" من طريق عُفَيْفُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عن عطاء، عن ابن عمر: أن رجلا من الحبشة، فذكر قصة طويلة وفيها: أن نزلت هذه السورة وهو عند الرسول فقال: يا رسول الله، هل ترى عيني في الجنة مثل ما ترى عينك؟ فقال النبي: "نعم" فبكى الحبشى حتى فاضت نفسه. وقال الطبراني: "لا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عفيف". وسيأتي الحديث عند آخر السورة من رواية الطبراني.
(4) في أ: "مذكورًا".
(5) في م: "المختلط".(8/285)
وَقَوْلُهُ: {نَبْتَلِيهِ} أَيْ: نَخْتَبِرُهُ، كَقَوْلِهِ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الْمُلْكِ: 2] . {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} أَيْ: جَعَلَنَا لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا يَتَمَكَّنُ بِهِمَا مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أَيْ: بَيَّنَّاهُ لَهُ وَوَضَّحْنَاهُ وَبَصَّرْنَاهُ بِهِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فُصِّلَتْ: 17] ، وَكَقَوْلِهِ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [الْبَلَدِ: 10] ، أَيْ: بَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ. وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَعَطِيَّةَ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٍ -فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ-وَالْجُمْهُورِ.
ورُوي عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} يَعْنِي خُرُوجَهُ مِنَ الرَّحِمِ. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.
وَقَوْلُهُ: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ "الْهَاءِ" فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} تَقْدِيرُهُ: فَهُوَ فِي ذَلِكَ إِمَّا شَقِيٌّ وَإِمَّا سَعِيدٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمَوْبِقُهَا أَوْ مُعْتقها" (1) . وَتَقَدَّمَ فِي سورة "الروم" عند قوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الرُّومِ: 30] مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعربَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ خَارِجٍ يَخْرُجُ إِلَّا بِبَابِهِ رَايَتَانِ: رايةٌ بِيَدِ مَلَك، وَرَايَةٌ بِيَدِ شَيطان، فَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُحِبّ اللهُ اتبعَه المَلَك بِرَايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الْمَلَكِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ. وَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُسخط اللَّهَ اتَّبَعَهُ الشَّيْطَانُ بِرَايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الشَّيْطَانِ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ" (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنِ ابْنِ خُثَيم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجرَة: "أَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ". قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ: "أُمَرَاءٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي، لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يستَنّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدّقهم بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَا يَردُون عَلَى حَوْضِي. وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنهم عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَسَيَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي. يَا كَعْبَ بْنَ عُجرَة، الصَّوْمُ جَنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَالصَّلَاةُ قُرْبَانٌ -أَوْ قَالَ: بُرْهَانٌ-يَا كعبَ بنَ عجرَة، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْت، النَّارُ أَوْلَى بِهِ. يَا كَعْبُ، النَّاسُ غَاديان، فمبتاعُ نفسَه فَمُعْتِقُهَا، وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمَوْبِقُهَا".
وَرَوَاهُ عَنْ عَفّان، عَنْ وُهَيب (3) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، بِهِ (4) .
__________
(1) صحيح مسلم برقم (223) .
(2) المسند (2/323) .
(3) في أ: "عن وهب".
(4) المسند (3/321) .(8/286)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) }(8/287)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَرْصَدَهُ لِلْكَافِرِينَ مِنْ خَلْقِهِ بِهِ مِنَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالسَّعِيرِ، وَهُوَ اللَّهَبُ وَالْحَرِيقُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، كَمَا قَالَ: {إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غَافِرٍ: 71، 72] .
وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ (1) لِهَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءِ مِنَ السَّعِيرِ قَالَ بَعْدَهُ: {إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي الْكَافُورِ مِنَ التَّبْرِيدِ وَالرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ، مَعَ مَا يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّذَاذَةِ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ الْحَسَنُ: بَرْدُ الْكَافُورِ فِي طِيبِ الزَّنْجَبِيلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} أَيْ: هَذَا الَّذِي مُزج لِهَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ مِنَ الْكَافُورِ هُوَ عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَرْفًا بِلَا مَزْجٍ ويَرْوَوْنَ بِهَا؛ وَلِهَذَا ضَمَّنَ يشرَب "يَرْوَى" حَتَّى عَدَّاهُ بِالْبَاءِ، وَنَصَبَ {عَيْنًا} عَلَى التَّمْيِيزِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الشَّرَابُ (2) فِي طِيبِهِ كَالْكَافُورِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ عَيْنٍ كَافُورٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِـ {يَشْرَبُ} حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ ابنُ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} أَيْ: يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا حَيْثُ شَاؤُوا وَأَيْنَ شَاؤُوا، مِنْ قُصُورِهِمْ وَدُورِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ.
وَالتَّفْجِيرُ هُوَ الْإِنْبَاعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا} [الْإِسْرَاءِ: 90] . وَقَالَ: {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} [الْكَهْفِ: 33] .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} يَقُودُونَهَا حَيْثُ شَاؤُوا، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَصْرِفُونَهَا حَيْثُ شَاؤُوا.
وَقَوْلُهُ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} أَيْ: يَتَعَبَّدُونَ لِلَّهِ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ [فِعْلِ] (3) الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَمَا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِطَرِيقِ النذر.
__________
(1) في أ: "أعده الله".
(2) في م: "الطعام".
(3) زيادة من م، أ.(8/287)
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأَيْلِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعصي اللَّهَ فَلَا يَعصِه"، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ (1) .
وَيَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي نَهَاهُمْ عَنْهَا خِيفَةً مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي شَرُهُ مُسْتَطِيرٌ، أَيْ: مُنْتَشِرٌ عَامٌّ عَلَى النَّاسِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاشِيًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَطَارَ -وَاللَّهِ-شَرُّ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى مَلأ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: اسْتَطَارَ الصَّدْعُ فِي الزُّجَاجَةِ وَاسْتَطَالَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
فَبَانَتْ وَقَد أسْأرت فِي الفُؤا ... دِ صَدْعًا، عَلَى نَأيها مُستَطيرًا (2)
يَعْنِي: مُمْتَدًّا فَاشِيًا.
وَقَوْلُهُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} قِيلَ: عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَجَعَلُوا الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الطَّعَامِ، أَيْ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي حَالِ مَحَبَّتِهِمْ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [الْبَقَرَةِ: 177] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 92] .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: مَرِضَ ابْنُ عُمَرَ فَاشْتَهَى عِنَبًا -أَوَّلَ مَا جَاءَ الْعِنَبُ-فَأَرْسَلَتْ صَفِيَّةُ -يَعْنِي امْرَأَتَهُ-فَاشْتَرَتْ عُنْقُودًا بِدِرْهَمٍ، فَاتَّبَعَ الرسولَ السَّائِلُ، فَلَمَّا دَخَلَ بِهِ قَالَ السَّائِلُ: السَّائِلَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطُوهُ إِيَّاهُ. فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهُ. ثُمَّ أَرْسَلَتْ بِدِرْهَمٍ آخَرَ فَاشْتَرَتْ عُنْقُودًا فَاتَّبَعَ الرسولَ السائلُ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ السَّائِلُ: السَّائِلَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطُوهُ إِيَّاهُ. فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهُ. فَأَرْسَلَتْ صَفِيَّةُ إِلَى السَّائِلِ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنْ عُدتَ لَا تصيبُ مِنْهُ خَيْرًا أَبَدًا. ثُمَّ أَرْسَلَتْ بِدِرْهَمٍ آخَرَ فَاشْتَرَتْ بِهِ (3) .
وَفِي الصَّحِيحِ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ، شَحِيحٌ، تَأْمَلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ" (4) أَيْ: فِي حَالِ مَحَبَّتِكَ لِلْمَالِ وَحِرْصِكَ عَلَيْهِ وَحَاجَتِكَ إِلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} أَمَّا الْمِسْكِينُ وَالْيَتِيمُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا وَصِفَتُهُمَا. وَأَمَّا الْأَسِيرُ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: الْأَسِيرُ: مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أُسَرَاؤُهُمْ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ يُكْرِمُوا الْأُسَارَى، فَكَانُوا يُقَدِّمُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْغَدَاءِ، وَهَكَذَا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحس، وقتادة.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6696، 6700) .
(2) تفسير الطبري (29/129) .
(3) السنن الكبرى للبيهقي (4/185) .
(4) صحيح مسلم برقم (1032) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(8/288)
وَقَدْ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حَدِيثٍ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ آخِرَ مَا أَوْصَى أَنْ جَعَلَ يَقُولُ: "الصلاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" (1) .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ الْعَبِيدُ -وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ-لِعُمُومِ الْآيَةِ لِلْمُسْلِمِ وَالْمُشْرِكِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمَحْبُوسُ، أَيْ: يُطْعِمُونَ لِهَؤُلَاءِ الطَّعَامَ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ، قَائِلِينَ بِلِسَانِ الْحَالِ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} أَيْ: رجاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَرِضَاهُ {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} أَيْ: لَا نَطْلُبُ مِنْكُمْ مُجَازَاةً تُكَافِئُونَا بِهَا وَلَا أَنْ تَشْكُرُونَا عِنْدَ النَّاسِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَمَا وَاللَّهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ.
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} أَيْ: إِنَّمَا نَفْعَلُ هَذَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَتَلَقَّانَا بِلُطْفِهِ، فِي الْيَوْمِ الْعَبُوسِ الْقَمْطَرِيرِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {عَبُوسًا} ضَيِّقًا، {قَمْطَرِيرًا} طَوِيلًا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ، عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} أَيْ: يَعْبَسُ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ عَرَق مِثْلُ القَطرَان.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {عَبُوسًا} الْعَابِسُ الشَّفَتَيْنِ، {قَمْطَرِيرًا} قَالَ: تَقْبِيضُ الوَجه بالبُسُور.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: تَعْبَسُ فِيهِ الْوُجُوهُ مِنَ الْهَوْلِ، {قَمْطَرِيرًا} تَقْلِيصُ الْجَبِينِ وَمَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ، مِنَ الْهَوْلِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعُبُوسُ: الشَّرُّ. وَالْقَمْطَرِيرُ: الشَّدِيدُ.
وَأَوْضَحُ الْعِبَارَاتِ وَأَجْلَاهَا وَأَحْلَاهَا، وَأَعْلَاهَا وَأَوْلَاهَا -قولُ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْقَمْطَرِيرُ هُوَ: الشَّدِيدُ؛ يُقَالُ: هُوَ يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُماطِر، وَيَوْمٌ عَصِيب وعَصَبْصَب، وَقَدِ اقْمَطَرَّ اليومُ يَقْمَطِرُّ اقْمِطْرَارًا، وَذَلِكَ أَشَدُّ الْأَيَّامِ وَأَطْوَلُهَا فِي الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
بنَي عَمّنا، هَلْ تَذكُرونَ بَلاءنَا ? ... عَلَيكم إذَا مَا كانَ يومُ قُمَاطرُ (2)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّجَانُسِ الْبَلِيغِ، {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} أَيْ: آمَنَهُمْ مِمَّا خَافُوا مِنْهُ، {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} أَيْ: فِي وُجُوهِهِمْ، {وَسُرُورًا} أَيْ: فِي قُلُوبِهِمْ. قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عَبَسَ: 38، 39] . وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ الْوَجْهُ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) رواه أحمد في المسند (1/78) من حديث على رضي الله عنه.
(2) البيت في تفسير الطبري (29/131) غير منسوب.(8/289)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
إِذَا سُرَّ، اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ (1) قَمَر (2) وَقَالَتْ عائشةُ: دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْرُورًا تَبرُقُ أسَاريرُ وَجْهه (3) . الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} أَيْ: بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ أَعْطَاهُمْ ونَوّلهم وَبَوَّأَهُمْ {جَنَّةً وَحَرِيرًا} أَيْ: مَنْزِلًا رَحْبًا، وَعَيْشًا رَغَدًا (4) وَلِبَاسًا حَسَنًا.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدّارَاني قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ سُورَةُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ} فَلَمَّا بَلَغَ الْقَارِئُ إِلَى قَوْلِهِ: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} قَالَ بِمَا صَبَرُوا عَلَى تَرْكِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَنْشَدَ:
كَم قَتيل بشَهوةٍ وَأَسِيرٌ ... أُفٍّ مِنْ مُشتَهِي خِلاف الجَميل ...
شَهوَاتُ الإنْسان تُوْرِثُهُ الذُّل ... وَتُلْقيه فِي البَلاء الطَّويل (5)
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ (15) قَوَارِيرَاَْ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) }
يُخْبَرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَمَا أُسْبِغَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَضْلِ العَميم فَقَالَ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ "الصَّافَّاتِ"، وَذَكَرَ الْخِلَافِ فِي الِاتِّكَاءِ: هَلْ هُوَ الِاضْطِجَاعُ، أَوِ التَّمَرْفُقُ، أَوِ التَّرَبُّعُ أَوِ التَّمَكُّنُ فِي الْجُلُوسِ؟ وَأَنَّ الْأَرَائِكَ هِيَ السُّرر تَحْتَ الْحِجَالِ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} أَيْ: لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَرّ مُزْعِجٌ، وَلَا بَرْدٌ مُؤْلِمٌ، بَلْ هِيَ مِزَاجٌ وَاحِدٌ دَائِمٌ سَرْمَدْيّ، {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} [الكهف: 108] .
__________
(1) في م: "كأنه فلقة".
(2) حديث توبه كعب بن مالك في صحيح البخاري برقم (3951، 4673) ، وفي صحيح مسلم برقم (2769) ، وتقدم عند تفسير الآية: 118 من سورة "التوبة".
(3) حديث عائشة في لحاق أسامة بأبيه زيد. رواه البخاري في صحيحه برقم (3555) ، ومسلم في صحيحه برقم (1459) .
(4) في م: "رغيدا".
(5) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/86) ووقع صدره فيه:
كم قتيل لشهوة وأسير(8/290)
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} أَيْ: قَرِيبَةٌ إِلَيْهِمْ أَغْصَانُهَا، {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} أَيْ: مَتَى تَعَاطَاهُ دَنَا القطْفُ إِلَيْهِ وَتَدَلَّى مِنْ أَعْلَى غُصْنِهِ، كَأَنَّهُ سَامِعٌ طَائِعٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرَّحْمَنِ: 54] وَقَالَ تَعَالَى {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الْحَاقَّةِ: 23]
قَالَ (1) مُجَاهِدٌ: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا} إِنْ قَامَ ارْتَفَعَتْ بقَدْره، وَإِنْ قَعَدَ تَدَلَّتْ (2) لَهُ حَتَّى يَنَالَهَا، وَإِنِ اضْطَجَعَ تَدَلَّت (3) لَهُ حَتَّى يَنَالَهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تَذْلِيلا}
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ عَنْهَا شوكٌ وَلَا بُعدُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرْضُ الْجَنَّةِ مِنْ وَرق، وَتُرَابُهَا الْمِسْكُ، وَأُصُولُ شَجَرِهَا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَأَفْنَانُهَا مِنَ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ، والوَرَق وَالثَّمَرِ بَيْنَ ذَلِكَ. فَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا قَائِمًا لَمْ يُؤْذِهِ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا قَاعِدًا لَمْ يُؤْذِهِ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا مُضْطَجِعًا لَمْ يُؤْذِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} أَيْ: يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الخَدَم بِأَوَانِي الطَّعَامِ، وَهِيَ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَكْوَابِ الشَّرَابِ وَهِيَ الْكِيزَانُ الَّتِي لَا عُرَى لَهَا وَلَا خَرَاطِيمَ.
وَقَوْلُهُ (4) : {قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} فَالْأَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِخَبَرِ "كَانَ" أَيْ: كَانَتْ قَوَارِيرَ. وَالثَّانِي مَنْصُوبٌ إِمَّا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ (5) أَوْ تَمْيِيزٌ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: بَيَاضُ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الزُّجَاجِ، وَالْقَوَارِيرُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ زُجَاجٍ. فَهَذِهِ الْأَكْوَابُ هِيَ مِنْ فِضَّةٍ، وَهِيَ مَعَ هَذَا شَفَّافَةٌ يُرَى مَا فِي بَاطِنِهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ إِلَّا قَدْ أُعْطِيتُمْ فِي الدُّنْيَا شَبَهُهُ إِلَّا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} أَيْ: عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ، لَا تَزِيدُ عَنْهُ وَلَا تَنْقُصُ، بَلْ هِيَ مُعَدّة لِذَلِكَ، مُقَدَّرَةٌ بِحَسْبِ رِيِّ صَاحِبِهَا. هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ أَبْزَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيد اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَتَادَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الِاعْتِنَاءِ وَالشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ.
وَقَالَ العَوفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} قُدِّرَتْ لِلْكَفِّ. وَهَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَلَى قَدْرِ أكُفّ الخُدّام. وَهَذَا لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ فِي القَدْر وَالرِّيِّ.
وَقَوْلُهُ: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا} (6) أَيْ: وَيُسْقَوْنَ -يَعْنِي الْأَبْرَارَ أَيْضًا-فِي هَذِهِ الْأَكْوَابِ {كَأْسًا} أَيْ: خَمْرًا، {كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا} فَتَارَةً يُمزَج لَهُمُ الشَّرَابُ بالكافور
__________
(1) في م: "وقال".
(2) في أ: "تذللت".
(3) في أ: "تذللت".
(4) في م، أ: "وهذه".
(5) في أ: "على البداية".
(6) في أ: "كان مزاجه" وهو خطأ.(8/291)
وَهُوَ بَارِدٌ، وَتَارَةً بِالزَّنْجَبِيلِ وَهُوَ حَارٌّ، لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ، وَهَؤُلَاءِ يُمْزَجُ لَهُمْ مِنْ هَذَا تَارَةً وَمِنْ هَذَا تَارَةً. وَأَمَّا الْمُقَرَّبُونَ فَإِنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا صِرْفًا، كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} وَقَالَ هَاهُنَا: {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا} أَيِ: الزَّنْجَبِيلُ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا.
قَالَ عِكْرِمَةُ: اسْمُ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَلَاسَةِ سَيْلِهَا وحِدّة جَريها.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا} عَيْنٌ سَلِسَة مُستَقِيد (1) مَاؤُهَا.
وَحَكَى ابنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَلَاسَتِهَا فِي الحَلْق. وَاخْتَارَ هُوَ أَنَّهَا تَعُمّ ذَلِكَ كلَّه، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} أَيْ: يَطُوفُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ للخدْمَة ولدانٌ مِنْ وِلْدَانِ الْجَنَّةِ {مُخَلَّدُونَ} أَيْ: عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُخَلَّدُونَ عَلَيْهَا، لَا يَتَغَيَّرُونَ عَنْهَا، لَا تَزِيدُ أَعْمَارُهُمْ عَنْ تِلْكَ السِّنِّ. وَمَنْ فَسَرَّهُمْ بِأَنَّهُمْ مُخَرّصُونَ فِي آذَانِهِمُ الْأَقْرِطَةَ، فَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْمَعْنَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ هُوَ الَّذِي يَلِيقُ لَهُ ذَلِكَ دُونَ الْكَبِيرِ.
وَقَوْلُهُ: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} أَيْ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي انْتِشَارِهِمْ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ السَّادَةِ، وَكَثْرَتِهِمْ، وَصَبَاحَةِ وُجُوهِهِمْ، وَحُسْنِ أَلْوَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَحُلِيِّهِمْ، حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا. وَلَا يَكُونُ فِي التَّشْبِيهِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، وَلَا فِي الْمَنْظَرِ أَحْسَنُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ عَلَى الْمَكَانِ الْحَسَنِ.
قَالَ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: مَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا يَسْعَى عَلَيْهِ أَلْفُ خَادِمٍ، كُلُّ خَادِمٍ عَلَى عَمَلٍ مَا عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا رَأَيْتَ} أَيْ: وَإِذَا رَأَيْتَ يَا مُحَمَّدُ، {ثَمَّ} أَيْ: هُنَاكَ (2) ، يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وسَعَتها وَارْتِفَاعِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الحَبْرَة وَالسُّرُورِ، {رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} أَيْ: مَمْلَكَةً لِلَّهِ هُناك عَظِيمَةً وَسُلْطَانًا بَاهِرًا.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِآخَرِ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا إِلَيْهَا: إِنَّ لَكَ مثلَ الدُّنْيَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهَا.
وَقَدْ قَدّمنا (3) فِي الْحَدِيثِ المَرويّ مِنْ طَرِيقِ ثُوَير بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ (4) سَنَةٍ يَنْظُرُ إِلَى أَقْصَاهُ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى أَدْنَاهُ". فَإِذَا كَانَ هَذَا عَطَاؤُهُ تَعَالَى لِأَدْنَى مَنْ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا هُوَ أَعْلَى مَنْزِلَةً، وَأَحْظَى عِنْدَهُ تَعَالَى.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن
__________
(1) في أ: "مستعذب".
(2) في أ: "أي هنالك".
(3) عند تفسير الآية: 23 من سورة "القيامة".
(4) في أ: "مسيرة ألف".(8/292)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)
عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا عُفَيْفُ (1) بْنُ سَالِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: "سَلْ وَاسْتَفْهِمْ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فُضّلْتُم عَلَيْنَا بِالصُّوَرِ وَالْأَلْوَانِ وَالنُّبُوَّةِ، أفرأيتَ إِنْ آمنتُ بِمَا آمنتَ بِهِ وعملتُ بِمِثْلِ مَا عملتَ بِهِ، إِنِّي لَكَائِنٌ معكَ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيُرَى بَيَاضُ الْأَسْوَدِ فِي الْجَنَّةِ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍّ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَانَ لَهُ بِهَا عَهدٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ". فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ نَهْلَكُ بَعْدَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْعَمَلِ لَوْ وُضِعَ عَلَى جَبَلٍ لَأَثْقَلَهُ، فَتَقُومُ النِّعْمَةُ -أَوْ: نعَم اللَّهِ-فَتَكَادُ تَسْتَنْفِذُ ذَلِكَ كُلَّهُ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمّده اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ". وَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمُلْكًا كَبِيرًا} فَقَالَ الْحَبَشِيُّ: وَإِنَّ عَيْنِي لَتَرَى مَا تَرَى عَيْنَاكَ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَاسْتَبْكَى حَتَّى فَاضَتْ نَفْسُهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدليه فِي حُفرَته بِيَدِهِ (2) .
وَقَوْلُهُ: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} أَيْ: لِبَاسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا الْحَرِيرُ، وَمِنْهُ سُنْدُسٌ، وَهُوَ رَفِيعُ الْحَرِيرِ كَالْقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَلِي أَبْدَانَهُمْ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مِنْهُ مَا فِيهِ بَرِيقٌ وَلَمَعَانٌ، وَهُوَ مِمَّا يَلِي الظَّاهِرَ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي اللِّبَاسِ (3) {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، وَأَمَّا الْمُقَرَّبُونَ فَكَمَا قَالَ: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الْحَجِّ: 23]
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى زِينَةَ الظَّاهِرِ بِالْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ قَالَ (4) بَعْدَهُ: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} أَيْ: طَهَّرَ بَوَاطِنَهُمْ مِنَ الحَسَد وَالْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْأَذَى وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الرّديَّة، كَمَا رَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا انْتَهَى أهلُ الْجَنَّةِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَجَدوا هُنَالِكَ عَيْنَيْنِ فَكَأَنَّمَا أُلْهِمُوا ذَلِكَ فَشَرِبُوا مِنْ إِحْدَاهُمَا [فَأَذْهَبَ اللَّهُ] (5) مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ أَذًى، ثُمَّ اغْتَسَلُوا مِنَ الْأُخْرَى فَجَرت عَلَيْهِمْ نضرةُ النَّعِيمِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَكْرِيمًا لَهُمْ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الْحَاقَّةِ: 24] وَكَقَوْلِهِ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الْأَعْرَافِ: 43]
وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} أَيْ: جَزَاكُمُ اللَّهُ عَلَى الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ.
{إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزيلا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا (25) }
__________
(1) في م، أ، هـ: "حدثنا عقبة" والمثبت من المعجم الأوسط للطبراني.
(2) المعجم الأوسط برقم (4774) "مجمع البحرين"، وقال: "لا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عفيف".
(3) في أ: "في الملبس".
(4) في أ: "فقال".
(5) مكانها في هـ، كلمة غير واضحة، والمثبت من م، أ.(8/293)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا (26) إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) }(8/293)
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا نَزَّلَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَنْزِيلًا {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أَيْ: كَمَا أكرمتُكَ بِمَا أنزلتُ عَلَيْكَ، فَاصْبِرْ عَلَى قَضَائِهِ وقَدَره، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَيُدَبرك بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} أَيْ: لَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنْ أَرَادُوا صَدّك عَمًّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ (1) بَلْ بَلّغ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. فَالْآثِمُ هُوَ الْفَاجِرُ فِي أَفْعَالِهِ، وَالْكَفُورُ هُوَ الْكَافِرُ بِقَلْبِهِ.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا} أَيْ: أولَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا} كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الْإِسْرَاءِ: 79] وَكَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [الْمُزَّمِّلِ: 1-4] .
ثُمَّ قَالَ: مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ فِي حُبّ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَالِانْصِبَابِ إِلَيْهَا، وَتَرْكِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ قَالَ: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي خَلْقَهم. {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا} أَيْ: وَإِذَا شِئْنَا بَعَثْنَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وبَدلناهم فَأَعَدْنَاهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْبُدَاءَةِ عَلَى الرَّجْعَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا} [أَيْ] (2) : وَإِذَا شِئْنَا أَتَيْنَا بِقَوْمٍ آخَرِينَ غَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ (3) قَدِيرًا} [النِّسَاءِ: 133] وَكَقَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 19، 20، وَفَاطِرٍ 16، 17] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ} يَعْنِي: هَذِهِ السُّورَةَ {تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} أَيْ طَرِيقًا وَمَسْلَكًا، أَيْ: مَنْ شَاءَ اهْتَدَى بِالْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} [النساء: 39] .
__________
(1) في أ: "عليك".
(2) زيادة من م.
(3) في أ: "وكان الله على كل شيء" وهو خطأ.(8/294)
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَهدي نَفْسَهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ (1) وَلَا يُجْرِ لِنَفْسِهِ نَفْعًا، {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أَيْ: عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ فَيُيَسّرها لَهُ، وَيُقَيِّضُ لَهُ أَسْبَابَهَا، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغَوَايَةَ فَيَصْرِفُهُ عَنِ الْهُدَى، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}
ثُمَّ قَالَ: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أَيْ: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يَهْدِهِ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
[آخِرُ سورة "الإنسان"] (2) [والله أعلم] (3)
__________
(1) في م: "في إيمان"
(2) زيادة من م، أ.
(3) زيادة من أ.(8/295)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، [حَدَّثَنَا أَبِي] (1) ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ-قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَارٍ بِمِنًى، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: " وَالْمُرْسَلاتِ " فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لِأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا، إِذْ وَثَبت عَلَيْنَا حَيَّة، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْتُلُوهَا". فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُم شرّهَا".
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة، عَنِ الزّهْري، عَنْ عُبَيد اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُمِّهِ: أَنَّهَا سَمعَت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلَاتِ عُرفًا (3) .
وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ يَقْرَأُ: " وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا "، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، ذكَّرتني بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، أَنَّهَا لَآخِرُ مَا سمعتُ مِنْ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ.
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، بِهِ (4) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) }
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ سَهْلٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} قال: الملائكة.
__________
(1) زيادة من م، أ، والبخاري.
(2) صحيح البخاري برقم (1830) ، وصحيح مسلم برقم (2234) .
(3) المسند (6/338)
(4) صحيح البخاري برقم (763) ، وصحيح مسلم برقم (462) .(8/296)
قَالَ: ورُوي عَنْ مَسْرُوقٍ، وَأَبِي الضُّحَى، وَمُجَاهِدٍ -فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ-وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، مثلُ ذَلِكَ.
ورُويَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الرُّسُلُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ. وَهَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ فِي " الْعَاصِفَاتِ" وَ " النَّاشِرَات " [وَ " الْفَارِقَاتِ "] (1) وَ " الْمُلْقِيَاتِ": أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيل، عَنْ مُسلم البَطين، عَنْ أَبِي العُبَيدَين قَالَ: سَأَلْتُ ابنَ مَسْعُودٍ عَنْ {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} قَالَ: الرِّيحُ. وَكَذَا قَالَ فِي: {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} إِنَّهَا الرِّيحُ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ -فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ-وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} هَلْ هِيَ الْمَلَائِكَةُ إِذَا أُرْسِلَتْ بالعُرْف، أَوْ كعُرْف الفَرَس يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟ أَوْ: هِيَ الرِّيَاحُ إِذَا هَبَّت شَيْئًا فَشَيْئًا؟ وَقَطَعَ بِأَنَّ الْعَاصِفَاتِ عَصْفًا هِيَ الرِّيَاحُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَابَعَهُ. وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ فِي الْعَاصِفَاتِ أَيْضًا: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (2) ، وَالسُّدِّيُّ، وَتَوَقَّفَ فِي {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} هَلْ هِيَ الْمَلَائِكَةُ أَوِ الرِّيحُ؟ كَمَا تَقَدَّمَ. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ: أَنَّ النَّاشِرَاتِ نَشْرًا: الْمَطَرُ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ: "الْمُرْسَلات" هِيَ الرِّيَاحُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الْحِجْرِ: 22] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الْأَعْرَافِ: 57] وَهَكَذَا الْعَاصِفَاتُ هِيَ: الرِّيَاحُ، يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ إِذَا هَبَّت بِتَصْوِيتٍ، وَكَذَا النَّاشِرَاتُ هِيَ: الرِّيَاحُ الَّتِي تَنْشُرُ السَّحَابَ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، كَمَا يَشَاءُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ. وَلَا خِلَافَ هَاهُنَا؛ فَإِنَّهَا تَنْزِلَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى الرُّسُلِ، تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالْغَيِّ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَتُلْقِي إِلَى الرُّسُلِ وَحْيًا فِيهِ إِعْذَارٌ إِلَى الْخَلْقِ، وإنذارٌ لَهُمْ عقابَ اللَّهِ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَهُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ، أَيْ: مَا وُعِدْتُمْ بِهِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالنَّفْخِ فِي الصُّوَرِ، وَبَعْثِ الْأَجْسَادِ وَجَمْعِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَمُجَازَاةِ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، إِنَّ هَذَا كُلَّهُ {لَوَاقِع} أَيْ: لَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} أَيْ: ذَهَبَ ضَوْؤُهَا، كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 2] وَكَقَوْلِهِ: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 2] .
{وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} أَيِ: انْفَطَرَتْ وَانْشَقَّتْ، وَتَدَلَّتْ أَرْجَاؤُهَا، وَوَهَت أَطْرَافُهَا.
{وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} أَيْ: ذُهِب بِهَا، فَلَا يَبْقَى لَهَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ، كَقَوْلِهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 105 -107]
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "علي بن أبي طلحة".(8/297)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الْكَهْفِ: 47]
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جُمِعَتْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [الْمَائِدَةِ: 109] . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أُقِّتَت} أُجِّلَتْ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {أُقِّتَت} أَوْعِدَتْ. وَكَأَنَّهُ يَجْعَلُهَا كَقَوْلِهِ: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزُّمَرِ: 69] .
ثُمَّ قَالَ: {لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} يَقُولُ تَعَالَى: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتِ الرُّسُلُ وَأُرْجِئَ أَمْرُهَا؟ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إِبْرَاهِيمَ: 47، 48] وَهُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ، كَمَا قَالَ {لِيَوْمِ الْفَصْلِ}
ثُمَّ قَالَ مُعَظِّمًا لِشَأْنِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أَيْ: وَيْلٌ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ غَدًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ "وَيْلٌ": وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَلَا يَصِحُّ.
{أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) }(8/298)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) }
يَقُولُ تَعَالَى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ} ؟ يَعْنِي: مِنَ الْمُكَذِّبِينَ للرسل المخالفين لما جاؤوهم بِهِ،
{ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ} أَيْ: مِمَّنْ أَشْبَهَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ (1) .
ثُمَّ قَالَ مُمْتَنًّا عَلَى خَلْقِهِ وَمُحْتَجًّا عَلَى الْإِعَادَةِ بالبَدَاءة: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ؟ أَيْ: ضَعِيفٍ حَقِيرٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدرَة الْبَارِئِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "يس" فِي حَدِيثِ بُسْر بْنِ جِحَاش: "ابنَ آدَمَ، أنَّى تُعجزُني وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مثل هذه؟ " (2) .
__________
(1) تفسير الطبري (29/144) .
(2) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية: 26 من سورة "القيامة".(8/298)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
{فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} يَعْنِي: جَمَعْنَاهُ فِي الرّحِم، وَهُوَ قَرَارُ الْمَاءِ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالرَّحِمِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ، حَافِظٌ لِمَا أُوْدِعَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} يَعْنِي: إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
ثُمَّ قَالَ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {كِفَاتًا} كنَّا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُكَفتُ الْمَيِّتُ فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: بَطْنُهَا لِأَمْوَاتِكُمْ، وَظَهْرُهَا لِأَحْيَائِكُمْ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} يَعْنِي: الْجِبَالَ، أَرْسَى بِهَا الْأَرْضَ لِئَلَّا تَمِيدَ وَتَضْطَرِبَ.
{وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} عَذْبًا زُلالا مِنَ السَّحَابِ، أَوْ مِمَّا أَنْبَعَهُ اللَّهُ مِنْ عُيُونِ الْأَرْضِ.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أَيْ: وَيْلٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يَسْتَمِرُّ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَكُفْرِهِ.
{انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِلْكُفَّارِ الْمُكَذِّبِينَ بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَنَّهُمْ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} يَعْنِي: لَهَبَ النَّارِ إِذَا ارْتَفَعَ وصَعِدَ مَعَهُ دُخَانٌ، فَمِنْ شِدَّتِهِ وَقُوَّتِهِ أَنَّ لَهُ ثَلَاثِ شُعَبٍ، {لَا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} أَيْ: ظِلُّ الدُّخَانِ الْمُقَابِلُ لِلَّهَبِ لَا ظَلِيلٌ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ، يَعْنِي: وَلَا يَقِيهِمْ حَرَّ اللَّهَبِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} أَيْ: يَتَطَايَرُ الشَّرَرُ مِنْ لَهَبِهَا كَالْقَصْرِ. قَالَ (1) ابْنُ مَسْعُودٍ: كَالْحُصُونِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرِهِمْ: يَعْنِي أُصُولَ الشَّجَرِ.
{كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} أَيْ: كَالْإِبِلِ السُّودِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {جِمَالَةٌ صُفْرٌ} يَعْنِي: حِبَالُ السفن. وعنه -
__________
(1) في م: "قاله".(8/299)
أَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ-: {جِمَالَةٌ صُفْرٌ} قِطَعُ نُحَاسٍ (1) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قَالَ: كُنَّا نَعْمِدُ إِلَى الْخَشَبَةِ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ وَفَوْقَ ذَلِكَ، فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتَاءِ، فَنُسَمِّيهِ القَصَرَ، {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} حِبَالُ السُّفُنِ، تُجْمَعُ حَتَّى تَكُونَ كَأَوْسَاطِ الرِّجَالِ (2) ، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} أَيْ: لَا يَتَكَلَّمُونَ.
{وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أَيْ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْكَلَامِ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِيهِ لِيَعْتَذِرُوا، بَلْ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَوَقَعَ القولُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ. وَعَرَصَاتُ الْقِيَامَةِ حَالَاتٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ تَارَةً، وَعَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ تَارَةً؛ لِيَدُلَّ عَلَى شِدَّةِ الْأَهْوَالِ وَالزَّلَازِلِ يَوْمَئِذٍ. وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْدَ كُلِّ فَصْلٍ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
وَقَوْلُهُ: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} وَهَذِهِ مُخَاطَبَةٌ مِنَ الْخَالِقِ لِعِبَادِهِ يَقُولُ لَهُمْ: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ} يَعْنِي: أَنَّهُ جَمَعَهُمْ بِقُدْرَتِهِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسمعُهم الدَّاعِي ويَنفُذهُم الْبَصَرُ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، أَيْ: إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَى أَنْ تَتَخَلَّصُوا مِنْ قَبْضَتِي، وتَنجُوا مِنْ حُكْمِي فَافْعَلُوا، فَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} [الرَّحْمَنِ: 33] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} [هُودٍ: 57] وَفِي الْحَدِيثِ: "يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبلُغوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي".
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الطَّرِيقِيُّ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا حُصيَن بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ (3) حَسَّانَ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الجَدَلي قَالَ: أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَإِذَا عُبادة بْنُ الصَّامِتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ عُبَادَةُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ بِصَعِيدٍ وَاحِدٍ، يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ ويُسمعهم الدَّاعِي، وَيَقُولُ اللَّهُ: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} الْيَوْمَ لَا يَنْجُو مِنِّي جَبَّارٌ عَنِيدٌ، وَلَا شَيْطَانٌ مَرِيدٌ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو (4) : فَإِنَّا نُحَدَّثُ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ يَخْرُجُ عُنُق مِنَ النَّارِ فَتَنْطَلِقُ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ ظَهَرَانَيِ النَّاسِ نَادَتْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي بُعثتُ إِلَى ثَلاثَة أَنَا أَعْرَفُ بِهِمْ مِنَ الْأَبِ بِوَلَدِهِ وَمِنَ الْأَخِ بِأَخِيهِ، لَا يُغَيّبهم عَنِّي وَزَر، وَلَا تُخفِيهم عَنِّي خَافِيَةٌ: الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَكُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَكُلُّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ. فَتَنْطَوِي عَلَيْهِمْ فَتَقْذِفُ بِهِمْ فِي النار قبل الحساب بأربعين سنة (5) .
__________
(1) في م: "النحاس".
(2) صحيح البخاري برقم (4933) .
(3) في م: "ابن".
(4) في م: "عمر".
(5) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (13/170) عن محمد بن فضيل به نحوه.(8/300)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُتَّقِينَ (1) الَّذِينَ عَبَدُوهُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ: إِنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُونَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، أَيْ: بِخِلَافِ مَا أُولَئِكَ الْأَشْقِيَاءُ فِيهِ، مِنْ ظِلِّ الْيَحْمُومِ، وَهُوَ الدُّخَانُ الْأَسْوَدُ الْمُنْتِنُ.
{وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أَيْ: مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ، مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا. {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا خَبَرًا مُسْتَأْنَفًا: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أَيْ: هَذَا حَزَّاؤُنَا لِمَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
وَقَوْلُهُ: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} خِطَابٌ لِلْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وأمَرَهم أَمْرَ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ فَقَالَ تَعَالَى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا} أَيْ: مُدَّةً قَلِيلَةً قَرِيبَةً قَصِيرَةً، {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} أَيْ: ثُمَّ تُسَاقُونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لُقْمَانَ: 24] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يُونُسَ: 69، 70]
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} أَيْ: إِذَا أَمَرَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةَ مِنَ الْكُفَّارِ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمَصَلِّينِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
ثُمَّ قَالَ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ؟ أَيْ: إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَبِأَيِّ كَلَامٍ يُؤْمِنُونَ بِهِ؟! كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الْجَاثِيَةِ: 6] .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ: سَمِعْتُ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا بَدَويا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ إِذَا قَرَأَ: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} فَقَرَأَ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ؟ فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي سُورَةِ "الْقِيَامَةِ" (2) .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "وَالْمُرْسَلَاتِ" [ولله الحمد والمنة] (3)
__________
(1) في أ: "المؤمنين".
(2) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية الأخيرة من سورة القيامة من رواية الترمذي وأبي داود.
(3) زيادة من م، أ.(8/301)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
تَفْسِيرُ سُورَةِ النَّبَأِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) }
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَسَاؤُلِهِمْ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْكَارًا لِوُقُوعِهَا: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} أَيْ: عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَتَسَاءَلُونَ؟ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ النَّبَأُ الْعَظِيمُ، يَعْنِي: الْخَبَرَ الْهَائِلَ الْمُفْظِعَ الْبَاهِرَ.
قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: النَّبَأُ الْعَظِيمُ: الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} يَعْنِي: النَّاسُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: مُؤْمِنٌ بِهِ وَكَافِرٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لِمُنْكِرِي الْقِيَامَةِ: {كَلا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ} وَهَذَا تهديدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ.
ثُمَّ شَرَعَ وَتَعَالَى يُبَيّن قُدْرَتَهُ الْعَظِيمَةَ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ وَالْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا} ؟ أَيْ: مُمَهَّدَةٌ لِلْخَلَائِقِ ذَلُولا لَهُمْ، قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً، {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} أَيْ: جَعَلَهَا لَهَا أَوْتَادًا أَرْسَاهَا بِهَا وَثَبَّتَهَا وَقَرَّرَهَا حَتَّى سَكَنَتْ وَلَمْ تَضْطَرِبْ بِمَنْ عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} يَعْنِي: ذَكَرًا وَأُنْثَى، يَسْتَمْتِعُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَيَحْصُلُ التَّنَاسُلُ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الرُّومِ: 21] .
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} أَيْ: قَطْعًا لِلْحَرَكَةِ لِتَحْصُلَ الراحة من كثرة الترداد (1) والسعي
__________
(1) في أ: "الاسترداد".(8/302)
فِي الْمَعَايِشِ (1) فِي عَرْضِ النَّهَارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ "الْفُرْقَانِ" (2) .
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} أَيْ: يَغْشَى النَّاسَ ظَلَامُهُ وَسَوَادُهُ، كَمَا قَالَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشَّمْسِ: 4] وَقَالَ الشَّاعِرُ (3) :
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ، أَوْ حِينَ نَصَّبتْ ... لَهُ مِن خَذا آذانِها وَهْوَ جَانِحُ ...
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} أَيْ: سَكَنًا.
وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} أَيْ: جَعَلْنَاهُ مُشْرِقًا مُنيرًا (4) مُضِيئًا، لِيَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَالذِّهَابِ وَالْمَجِيءِ لِلْمَعَاشِ وَالتَّكَسُّبِ وَالتِّجَارَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} يَعْنِي: السموات السَّبْعَ، فِي اتِّسَاعِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَإِحْكَامِهَا وَإِتْقَانِهَا، وَتَزْيِينِهَا بِالْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} يَعْنِي: الشَّمْسَ الْمُنِيرَةَ عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ الَّتِي يَتَوَهَّجُ ضَوْؤُهَا لِأَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {الْمُعْصِرَاتِ} الرِّيحُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الحَفَري (5) عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ المِنْهَال، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَأَنزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} قَالَ: الرِّيَاحُ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنَّهَا الرِّيَاحُ. وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهَا تَسْتَدِرُّ الْمَطَرَ مِنَ السَّحَابِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} أَيْ: مِنَ السَّحَابِ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ أَيْضًا، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالثَّوْرِيُّ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ السَّحَابُ الَّتِي تَتَحَلَّب بِالْمَطَرِ وَلَمْ تُمطر بعدُ، كَمَا يُقَالُ امْرَأَةٌ مُعْصِرٌ، إِذَا دَنَا حَيْضُهَا وَلَمْ تَحِضْ.
وَعَنِ الحسن، وقتادة: {مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} يعني: السموات. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُعْصِرَاتِ: السَّحَابُ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (6) تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الرُّومِ: 48] أَيْ: مِنْ بَيْنِهِ.
وَقَوْلُهُ: {مَاءً ثَجَّاجًا} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {ثَجَّاجًا} مُنْصَبًّا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: مُتَتَابِعًا. وَقَالَ ابن زيد: كثيرا.
__________
(1) في م: "في المعاش".
(2) عند تفسير الآية 47.
(3) هو ذو الرمة، والبيت في تفسير الطبري (30/3) .
(4) في أ: "نيرا".
(5) في أ: "الجوني".
(6) زيادة من م.(8/303)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي صِفَةِ الْكَثْرَةِ الثَّجُّ، وَإِنَّمَا الثَّجُّ: الصَّبُّ الْمُتَتَابِعُ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أفضلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ". يَعْنِي: صَبّ دِمَاءِ البُدْن (1) . هَكَذَا قَالَ. قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ الْمُسْتَحَاضَةِ حِينَ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْعَتُ لَكِ الكُرسُفَ" -يَعْنِي: أَنْ تَحْتَشِيَ بِالْقُطْنِ-: قَالَتْ (2) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا (3) . وَهَذَا فِيهِ دَلالة عَلَى اسْتِعْمَالِ الثَّج فِي الصَّبِّ الْمُتَتَابِعِ الْكَثِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} أَيْ: لنخرجَ بِهَذَا الْمَاءِ الْكَثِيرِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ المُبَارَك {حَبًّا} يُدَّخَرُ لِلْأَنَاسِيِّ وَالْأَنْعَامِ، {وَنَبَاتًا} أَيْ: خَضِرًا يُؤْكَلُ رَطْبًا، {وَجَنَّاتٍ} أَيْ: بَسَاتِينَ وحدائقَ مِنْ ثَمَرَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَأَلْوَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَطَعُومٍ وَرَوَائِحَ مُتَفَاوِتَةٍ، وَإِنْ كَانَ ذَهَلَكَ (4) فِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأَرْضِ مُجْتَمَعًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ: {أَلْفَافًا} مُجْتَمِعَةً. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ} الْآيَةَ [الرَّعْدِ:4] .
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24) إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا (30) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَوْمِ الْفَصْلِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِأَجَلٍ مَعْدُودٍ، لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، وَلَا يَعْلَمُ وَقْتَهُ عَلَى التَّعْيِينِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ} [هُودِ:104] .
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} قَالَ مُجَاهِدٌ: زُمَرًا (5) . قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي تَأْتِي كُلُّ أُمَّةٍ مَعَ رَسُولِهَا، كَقَوْلِهِ: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الْإِسْرَاءِ:31] (6) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "ما بين النفختين أربعون".
__________
(1) تفسير الطبري (30/5) ، وهذا الحديث جاء من حديث ابن عمر، وأبي بكر، وجابر، وابن مسعود رضي الله عنهم، وانظر تخريجها والكلام عليها في: نصب الراية للإمام الزيلعي (3/33-35) .
(2) في أ: "فقالت".
(3) حديث المستحاضة هو حديث حمنة بنت جحش، وقد رواه الإمام أحمد في المسند (6/439) ، وأبو داود في السنن برقم (287) ، والترمذي في السنن برقم (128) .
(4) في م، أ: "ذلك".
(5) في م: "زمرا زمرا".
(6) تفسير الطبري (30/60) .(8/304)
قَالُوا: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: "أبيتُ". قَالُوا: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: "أَبَيْتُ". قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: "أَبَيْتُ". قَالَ: "ثُمَّ يُنزلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فينبتُونَ كَمَا ينبتُ البقلُ، لَيْسَ مِنَ الْإِنْسَانِ شيءٌ إِلَّا يَبلَى، إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ عَجْبُ الذنَب، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يومَ الْقِيَامَةِ" (1) .
{وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} أَيْ: طُرُقًا وَمَسَالِكَ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} كَقَوْلِهِ: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النَّمْلِ:88] وَكَقَوْلِهِ: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [الْقَارِعَةِ:5] .
وَقَالَ هَاهُنَا: {فَكَانَتْ سَرَابًا} أَيْ: يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا شَيْءٌ، وَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ، بَعْدَ هَذَا تَذهب بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا عَيْنَ وَلَا أَثَرَ، كَمَا قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 -107] وقال: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} [الْكَهْفِ:47] .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} أَيْ: مُرْصَدَةً مُعَدّة، {للِطَّاغِينَ} وَهُمُ: المَرَدة الْعُصَاةُ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، {مَآبًا} أَيْ: مَرْجِعًا وَمُنْقَلَبًا وَمَصِيرًا وَنُزُلًا. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ حَتَّى يَجْتَازَ بِالنَّارِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَوَازٌ نَجَا، وَإِلَّا احْتَبَسَ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَلَيْهَا ثَلَاثُ قَنَاطِرَ.
وَقَوْلُهُ: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} أَيْ: مَاكِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا، وَهِيَ جَمْعُ "حقُب"، وَهُوَ: الْمُدَّةُ مِنَ الزَّمَانِ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ. فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مِهْران، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمَّار الدّهنِي، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِهِلَالٍ الهَجَري: مَا تجدونَ الحُقْبَ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ؟ قَالَ: نَجِدُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، كُلُّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا كُلُّ يَوْمٍ أَلْفَ سَنَةٍ (2) .
وَهَكَذَا رُويَ عَنْ أَبِي هُرَيرة، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَير، وعَمرو بْنِ مَيْمُونٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَالضَّحَّاكِ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ أَيْضًا: سَبْعُونَ سَنَةً كَذَلِكَ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: الحُقبُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ بُشَير (3) بْنُ كَعْبٍ: ذُكِر لِي أَنَّ الحُقب الْوَاحِدَ ثَلَاثُمِائَةُ سَنَةٍ، كُلُّ سَنَةٍ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا (4) ، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (5) ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ عُمَر بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الأسْفَذْنيّ (6) : حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الفَزَاري، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قوله: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4935) .
(2) تفسير الطبري (30/8) .
(3) في أ: "وقال بشر".
(4) في م: "كل سنة اثنا عشر شهرا، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما".
(5) تفسير الطبري (30/8) .
(6) في أ: "الأسعدي".(8/305)
قَالَ: فَالْحُقْبُ [أَلْفُ] (1) شَهْرٍ، الشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَالسَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا أَلْفُ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فَالْحُقْبُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ (2) . وَهَذَا حديثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَالْقَاسِمُ هُوَ وَالرَّاوِي عَنْهُ وَهُوَ جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ كِلَاهُمَا مَتْرُوكٌ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِرْدَاس، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو المُعَلَّى قَالَ: سَأَلْتُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ: هَلْ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَحَدٌ؟ فَقَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَاللَّهِ لَا يُخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَحَدٌ حَتَّى يَمْكُثَ فِيهَا أَحْقَابًا". قَالَ: والحُقْب: بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا مِمَّا تَعُدُّونَ (3) .
ثُمَّ قَالَ: سُلَيْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ بَصْرِيٌّ مَشْهُورٌ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} سَبْعُمِائَةُ حُقب، كُلُّ حُقْبٍ سَبْعُونَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
وَقَدْ قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيّان: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا}
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدان: هَذِهِ الْآيَةُ وَقَوْلُهُ: {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هُودٍ:107] فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ. رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} ثُمَّ يُحْدِثُ اللَّهُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَابًا مِنْ شَكْلٍ آخَرَ وَنَوْعٍ آخَرَ. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا انْقِضَاءَ لَهَا، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ البَرْقِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بن أبي سلمة، عن زُهَيْرٍ، عَنْ سَالِمٍ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} قَالَ: أَمَّا الْأَحْقَابُ فَلَيْسَ لَهَا عِدّة إِلَّا الْخُلُودَ فِي النَّارِ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا أَنَّ الحُقبَ سَبْعُونَ سَنَةً، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} وَهُوَ: مَا لَا انْقِطَاعَ لَهُ، كُلَّمَا مَضَى حُقب جَاءَ حُقْبٌ بَعْدَهُ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ الحُقْب ثَمَانُونَ سَنَةً.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} لَا يَعْلَمُ عِدَّةَ هَذِهِ الْأَحْقَابِ إِلَّا اللَّهُ، وَلَكِنَّ الحُقْب الْوَاحِدَ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَالسَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. رَوَاهُمَا أيضا ابن جرير (4) .
__________
(1) زيادة من إتحاف للبوصيري.
(2) ورواه ابن أبي عم العدني في مسنده كما في إتحاف المهرة للبوصيري (ق 218 سليمانية) عن مروان، عن جعفر بن الزبير بنحوه، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/292) من طريق يعقوب بن كعب، عن مروان، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مرفوعا: "الحقب الواحد: ثلاثون ألف سنة".
(3) مسند البزار برقم (2249) "كشف الأستار" ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (7029) من طريق زياد بن أبي زيد، عن سليمان بن مسلم به نحوه، وقال الهيثمي في المجمع (10/395) : "فيه سليمان بن مسلم الخشاب، وهو ضعيف جدًا".
(4) تفسير الطبري (30/9) .(8/306)
وَقَوْلُهُ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} أَيْ: لَا يَجِدُونَ فِي جَهنَّم بَرْدًا لِقُلُوبِهِمْ، وَلَا شَرَابًا طَيِّبًا يَتَغَذَّوْنَ بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ: {إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: اسْتَثْنَى مِنَ الْبَرْدِ الْحَمِيمَ وَمِنَ الشَّرَابِ الْغَسَاقَ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. فَأَمَّا الْحَمِيمُ: فَهُوَ الْحَارُّ الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ وحُموه. والغَسَّاق: هُوَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ وَعَرَقِهِمْ وَدُمُوعِهِمْ وَجُرُوحِهِمْ، فَهُوَ بَارِدٌ لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ بَرْدِهِ، وَلَا يُوَاجَهُ مَنْ نَتَنِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْغَسَّاقِ فِي سُورَةِ "ص" (1) بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا} يَعْنِي: النَّوْمَ، كَمَا قَالَ الْكِنْدِيُّ:
بَرَدت مَرَاشفها عَلَيّ فَصَدَّنِي ... عَنْهَا وَعَنْ قُبُلاتها، البَرْدُ ...
يَعْنِي بِالْبَرْدِ: النُّعَاسُ وَالنَّوْمُ (2) هَكَذَا ذَكَرَهُ وَلَمْ يَعزُه إِلَى أَحَدٍ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ. وَنَقَلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا. وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيدة، وَالْكِسَائِيُّ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: {جَزَاءً وِفَاقًا} أَيْ: هَذَا الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ وَفق أَعْمَالِهِمُ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي الدُّنْيَا. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} أَيْ: لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ثَمَّ دَارًا يُجَازَوْنَ فِيهَا وَيُحَاسَبُونَ، {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} أَيْ: وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَدَلَائِلِهِ عَلَى خَلْقِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، فَيُقَابِلُونَهَا بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُعَانَدَةِ.
وَقَوْلُهُ: {كِذَّابًا} أَيْ: تَكْذِيبًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ الْفِعْلِ. قَالُوا: وَقَدْ سُمع أَعْرَابِيٌّ يَسْتَفْتِي الفَرّاءَ عَلَى الْمَرْوَةِ: الحلقُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوِ القِصار؟ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ (3) :
لَقَد طالَ مَا ثَبَّطتنِي عَن صَحَابَتِي ... وَعَنْ حِوَجٍ قَضَاؤُهَا مِن شفَائيا ...
وَقَوْلُهُ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} أَيْ: وَقَدْ عَلِمنا أعمالَ العباد كلهم، وكتبناهم عَلَيْهِمْ، وَسَنَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
وَقَوْلُهُ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} أَيْ: يُقَالُ لِأَهْلِ النَّارِ: ذُوقُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ، فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا مِنْ جنسهِ، {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:58] .
قَالَ قَتَادَةُ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَهْلِ النَّارِ آيَةٌ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} قَالَ: فَهُمْ فِي مَزِيدٍ مِنَ الْعَذَابِ أَبَدًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مصعب الصوري، حدثنا خالد بن عبد
__________
(1) انظر تفسير الآية: 57 من سورة "ص".
(2) تفسير الطبري (30/9) .
(3) البيت في تفسير الطبري (30/11) .(8/307)
الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا جَسر (1) بْنُ فَرقد، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيَّ عَنْ أَشَدِّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ. قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} فَقَالَ: "هَلَكَ الْقَوْمُ بِمَعَاصِيهِمُ اللَّهَ عَزّ وَجَلَّ" (2) .
جسرُ (3) بن فَرقد: ضعيف الحديث بالكلية.
__________
(1) في أ: "حدثنا".
(2) ورواه البيهقي في البعث برقم (635) من طريق محمد بن غالب، عن مسلم بن إبراهيم، عن جسر بن فرقد به، فذكره موقوفا، ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/145) من طريق جعفر بن جسر بن فرقد، عن أبيه، عن الحسن به، ورواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/145) من طريق مهدى بن ميمون، عن الحسن بن دينار، عن الحسن، عن أبي برزة مرفوعًا بنحوه.
(3) في أ: "حسن".(8/308)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ السُّعَدَاءِ وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ تَعَالَى مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: مُتَنَزَّهًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: فَازُوا، فَنَجَوْا مِنَ النَّارِ. الأظهر هاهنا قولُ بن عَبَّاسٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: {حَدَائِقَ} وَهِيَ الْبَسَاتِينُ مِنَ النَّخِيلِ وَغَيْرِهَا {وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} أَيْ: وَحُورًا كَوَاعِبَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: {كَوَاعِبَ} أَيْ: نَوَاهِدَ، يَعْنُونَ أَنْ ثُدُيَّهن نَوَاهِدَ لَمْ يَتَدَلَّيْنَ لِأَنَّهُنَّ أَبْكَارٌ عُرُب أَتْرَابٌ، أَيْ: فِي سِنٍّ وَاحِدَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ "الْوَاقِعَةِ".
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّشْتَكِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ بْنِ تَيْمٍ الْيَشْكُرِيِّ، حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ قُمُص أَهْلِ الْجَنَّةِ لِتَبْدُوَ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَإِنَّ السَّحَابَةَ لَتَمُرُّ بِهِمْ فَتُنَادِيهِمْ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ أُمْطِرَكُمْ؟ حَتَّى إِنَّهَا لَتُمْطِرُهُمُ الْكَوَاعِبَ الْأَتْرَابَ" (1)
وَقَوْلُهُ: {وَكَأْسًا دِهَاقًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَمْلُوءَةٌ مُتَتَابِعَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: صَافِيَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: {دِهَاقًا} الْمَلْأَى الْمُتْرَعَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ (2) وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ الْمُتَتَابِعَةُ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} كَقَوْلِهِ: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطَّوْرِ: 23] أَيْ: لَيْسَ فِيهَا كَلَامٌ لاغٍ عَارٍ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَلَا إِثْمٌ كَذِبٌ، بَلْ هِيَ دَارُ السَّلَامِ، وَكُلُّ ما فيها سالم من النقص.
__________
(1) ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (1/195) من طريق عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ - عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رب بن تيم اليشكرى به.
(2) في م: "وقال قتادة".(8/308)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
وَقَوْلُهُ: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} أَيْ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ جَازَاهُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَعْطَاهُمُوهُ، بِفَضْلِهِ ومَنِّه وَإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ؛ {عَطَاءً حِسَابًا} أَيْ: كَافِيًا وَافِرًا شَامِلًا كَثِيرًا؛ تَقُولُ الْعَرَبُ: "أَعْطَانِي فَأَحْسَبَنِي" أَيْ: كَفَانِي. وَمِنْهُ "حَسْبِيَ اللَّهُ"، أَيِ: اللَّهُ كَافِيَّ.
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَأَنَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ الرَّحْمَنُ الَّذِي شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ابْتِدَاءِ مُخَاطَبَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، كَقَوْلِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [الْبَقَرَةِ: 255] ، وَكَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} [هُودٍ: 105]
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِالرُّوحِ هَاهُنَا، مَا هُوَ؟ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ.
الثَّانِي: هُمْ بَنُو آدَمَ. قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا (1) مِمَّا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُمُهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ خَلق مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، عَلَى صُور بَنِي آدَمَ، وَلَيْسُوا بِمَلَائِكَةٍ وَلَا بِبَشَرٍ، وَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ وَالْأَعْمَشُ.
الرَّابِعُ: هُوَ جِبْرِيلُ. قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ. وَيُسْتَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ: {نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 193، 194] وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الرُّوحُ: أَشْرَفُ الْمَلَائِكَةِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَصَاحِبُ الْوَحْيِ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ الْقُرْآنُ. قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، كَقَوْلِهِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الْآيَةَ [الشُّورَى: 52] .
وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِقَدْرِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ؛ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} قَالَ: هُوَ مَلِكٌ عَظِيمٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ خَلْقًا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا رَواد (2) بن الجراح، عن أبي
__________
(1) في م: "وهذا".
(2) في أ: "حدثنا داود".(8/309)
حَمْزَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الرُّوحُ: فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ هُوَ أعظم من السموات وَمِنَ الْجِبَالِ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ، يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ، يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفًا وَحْدَهُ (1) ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عرْس الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ [اللَّهِ بْنُ رِزْقٍ أَبُو هُرَيْرَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ] (2) ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا لَوْ قِيلَ لَهُ: الْتَقِمِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ بِلَقْمَةٍ وَاحِدَةٍ، لَفَعَلَ، تَسْبِيحُهُ: سُبْحَانَكَ حَيْثُ كُنْتَ" (3) .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَكُونُ مِمَّا تَلَقَّاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وتَوَقَّفَ ابنُ جَرِيرٍ فَلَمْ يقطَع بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، وَالْأَشْبَهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ-أَنَّهُمْ بَنُو آدَمَ.
وَقَوْلُهُ: {إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} كَقَوْلِهِ: {لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} [هُودٍ: 105] . وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ".
وَقَوْلُهُ {وَقَالَ صَوَابًا} أَيْ: حَقًّا، وَمِنَ الْحَقِّ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، كَمَا قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةُ.
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} أَيِ: الْكَائِنُ لَا مَحَالَةَ، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} (4) أَيْ: مَرْجِعًا وَطَرِيقًا يَهْتَدِي إِلَيْهِ وَمَنْهَجًا يَمُرُّ بِهِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِتَأَكُّدِ وُقُوعِهِ صَارَ قَرِيبًا، لِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ.
{يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أَيْ: يَعْرِضُ عَلَيْهِ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ، خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا، كَقَوْلِهِ: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الْكَهْفِ: 49] ، وَكَقَوْلِهِ: {يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [الْقِيَامَةِ: 13] .
{وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} أَيْ: يَوَدُّ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا تُرَابًا، وَلَمْ يَكُنْ خُلِقَ، وَلَا خَرَجَ إِلَى الْوُجُودِ. وَذَلِكَ حِينَ عَايَنَ عَذَابَ اللَّهِ، وَنَظَرَ إِلَى أَعْمَالِهِ الْفَاسِدَةِ قَدْ سُطَّرت عَلَيْهِ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ السَّفَرة الْكِرَامِ البَرَرة، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَوَدُّ ذَلِكَ حِينَ يَحْكُمُ الله بين
__________
(1) تفسير الطبري (30/15) .
(2) زيادة من م، أ.
(3) المعجم الكبير (11/95) ، والمعجم الأوسط برقم (66) "مجمع البحرين"، وقال في الأوسط: "لم يروه عن الأوزاعى إلا بشر، تفرد به وهب"، ووهب لم أر من ترجم له.
(4) في م: "سبيلا" وهو خطأ.(8/310)
الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، فَيَفْصِلُ بَيْنَهَا بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ الَّذِي لَا يَجُورُ، حَتَّى إِنَّهُ لِيَقْتَصَّ لِلشَّاةِ الجمَّاء مِنَ الْقَرْنَاءِ. فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَهَا قَالَ لَهَا: كُونِي تُرَابًا، فتصير تُرَابًا. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} أَيْ: كُنْتُ حَيَوَانًا فَأَرْجِعُ إِلَى التُّرَابِ. وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَى هَذَا فِي حَدِيثِ الصُّوَرِ الْمَشْهُورِ (1) وَوَرَدَ فِيهِ آثَارٌ عَنْ أَبِي هُرَيرة، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَغَيْرِهِمَا.
[آخِرُ تفسير سورة "عم" (2) ] (3)
__________
(1) حديث الصور تقدم بطوله عند تفسير الآية: 73 من سورة "الأنعام".
(2) في م: "النبأ".
(3) زيادة من م، أ.(8/311)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
تَفْسِيرُ سُورَةِ النَّازِعَاتِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) }
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَأَبُو الضُّحَى، والسُّدي: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} الْمَلَائِكَةُ، يَعْنُونَ حِينَ تُنْزَعُ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُ رُوحَهُ بعُنف فَتُغرق فِي نَزْعِهَا، وَ [مِنْهُمْ] (1) مَنْ تَأْخُذُ رُوحَهُ بِسُهُولَةٍ وَكَأَنَّمَا حَلَّته مِنْ نَشَاطٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالنَّازِعَاتِ} هِيَ أَنْفُسُ الْكُفَّارِ، تُنزع ثُمَّ تُنشَط، ثُمَّ تَغْرَقُ فِي النَّارِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} الْمَوْتُ.وَقَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} هِيَ النُّجُومُ.
وَقَالَ عَطَاءُ بنُ أَبِي رَباح فِي قَوْلِهِ: {وَالنَّازِعَاتِ} وَ {النَّاشِطَاتِ} هِيَ الْقِسِيُّ فِي الْقِتَالِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ. ورُوي عَنْ عَلِيٍّ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَأَبِي صَالِحٍ مثلُ ذَلِكَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} الْمَوْتُ.وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هِيَ السُّفُنُ.
وَقَوْلُهُ: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} رُوي عَنْ عَلِيٍّ، وَمَسْرُوقٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ؛ قَالَ الْحَسَنُ: سَبَقَتْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْمَوْتُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْخَيْلُ فِي سبيل الله.
__________
(1) زيادة من م.(8/312)
وَقَوْلُهُ: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} قَالَ عَلِيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالسُّدِّيُّ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ-زَادَ الْحَسَنُ: تُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. يَعْنِي: بِأَمْرِ رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي هَذَا، وَلَمْ يَقْطَعِ ابْنُ جَرِيرٍ بِالْمُرَادِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ حَكَى فِي {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، وَلَا أَثْبَتَ وَلَا نَفَى.
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَمًّا النَّفْخَتَانِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ. وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: أَمَّا الْأُولَى-وَهِيَ قَوْلُهُ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} -فَكَقَوْلِهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ} [الْمُزَّمِّلِ: 14] ، وَالثَّانِيَةُ-وَهِيَ الرَّادِفَةُ-فَهِيَ كَقَوْلِهِ: {وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الْحَاقَّةِ: 14] .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ صَلَاتَيْ كُلَّهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: "إِذًا يَكْفِيكَ اللَّهُ مَا أهَمَّك مِنْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ".
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ، بِإِسْنَادِهِ مِثْلِهِ (1) وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلْثُ اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ".
وَقَوْلُهُ: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي خَائِفَةٌ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ.
{أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} أَيْ: أَبْصَارُ أَصْحَابِهَا. وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَيْهَا؛ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ: ذَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ؛ مِمَّا عَايَنَتْ مِنَ الْأَهْوَالِ.
وَقَوْلُهُ: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} ؟ يَعْنِي: مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْمَعَادِ، يَسْتَبْعِدُونَ وقوعَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَصِيرِ إِلَى الْحَافِرَةِ، وَهِيَ الْقُبُورُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَبَعْدَ تَمَزُّقِ أَجْسَادِهِمْ وَتَفَتُّتِ عِظَامِهِمْ وَنَخُورِهَا؛ وَلِهَذَا قَالُوا: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} ؟ وَقُرِئَ: "نَاخِرَةً".
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: أَيُّ بَالِيَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الْعَظَمُ إِذَا بَلِيَ ودَخَلت
الرِّيحُ فِيهِ. {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ: الْحَافِرَةُ: الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْحَافِرَةُ: النَّارُ. وَمَا أَكْثَرُ أَسْمَائِهَا! هِيَ النَّارُ، وَالْجَحِيمُ، وَسَقَرُ، وَجَهَنَّمُ، وَالْهَاوِيَةُ، وَالْحَافِرَةُ، وَلَظَى، والحُطَمة.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَئِنْ أَحْيَانَا اللَّهُ بعد أن نموت لنخسرن.
__________
(1) المسند (5/136) ، وسنن الترمذي برقم (2457) ، وتفسير الطبري (30/21) .(8/313)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} أَيْ: فَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لَا مَثْنَوِيَّةَ فِيهِ وَلَا تَأْكِيدَ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ تَعَالَى إسرافيلَ فَيُنْفَخُ فِي الصُّورِ نفخَة الْبَعْثِ، فَإِذَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ قيامٌ بَيْنَ يَدَي الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ يَنْظُرُونَ، كَمَا قَالَ: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 52] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [الْقَمَرِ: 50] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النَّحْلِ: 77] .
قَالَ مُجَاهِدٌ: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: أَشُدُّ مَا يَكُونُ الرَّبُّ غَضَبًا عَلَى خَلْقِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: زَجْرَةٌ مِنَ الْغَضَبِ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ: هِيَ النَّفْخَةُ الْآخِرَةُ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {بِالسَّاهِرَة} الْأَرْضُ كُلُّهَا. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَير، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: {بِالسَّاهِرَة} وَجْهُ الْأَرْضِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا بِأَسْفَلِهَا فَأُخْرِجُوا إِلَى أَعْلَاهَا. قَالَ: وَ {بِالسَّاهِرَة} الْمَكَانُ الْمُسْتَوِي.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: {بِالسَّاهِرَة} أَرْضُ الشَّامِ، وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ: {بِالسَّاهِرَة} أَرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبه: {السَّاهِرَةُ} جَبَلٌ إِلَى جَانِبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: {بِالسَّاهِرَة} جَهَنَّمُ.
وَهَذِهِ أَقْوَالٌ كُلُّهَا غَرِيبَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا الْأَرْضُ وَجْهُهَا الْأَعْلَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا خَزَر بْنُ الْمُبَارَكِ الشَّيْخُ الصَّالِحُ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} قَالَ: أَرْضٌ بَيْضَاءُ عَفْرَاءُ خَالِيَةٌ كالخُبزَة النَّقِيّ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} وَيَقُولُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إِبْرَاهِيمَ: 48] ، وَيَقُولُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه: 105، 106] . وقال: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} [الْكَهْفِ: 47] : وَبَرَزَتِ الْأَرْضُ الَّتِي عَلَيْهَا الْجِبَالُ، وَهِيَ لَا تُعَدُّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ، وَهِيَ أَرْضٌ لَمْ يَعْمَلْ عَلَيْهَا خَطِيئَةٌ، وَلِمَ يَهرَاق عَلَيْهَا دَمٌ.
{هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) }(8/314)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
{إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) }(8/314)
يُخْبِرُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ ابْتَعَثَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَأَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَمَعَ هَذَا اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ، حَتَّى أَخَذَهُ اللَّهُ أَخَذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. وَكَذَلِكَ عَاقِبَةُ مَنْ خَالَفَكَ وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتَ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}
فَقَوْلُهُ: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ؟ أَيْ: هَلْ سَمِعْتَ بِخَبَرِهِ؟ {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} أَيْ: كَلَّمَهُ نِدَاءٍ، {بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ} أَيِ: الْمُطَهَّرِ، {طُوًى} وَهُوَ اسْمُ الْوَادِي عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه. فَقَالَ لَهُ: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أَيْ: تَجَبَّرَ وَتَمَرَّدَ وَعَتَا، {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ أَيْ: قُلْ لَهُ هَلْ لَكَ أَنْ تُجِيبَ إِلَى طَرِيقَةٍ وَمَسْلَكٍ تَزكَّى بِهِ، أَيْ: تُسَلِّمُ وَتُطِيعُ. {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} أَيْ: أَدُلُّكَ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ، {فَتَخْشَى} أَيْ: فَيَصِيرُ قَلْبُكَ خَاضِعًا لَهُ مُطِيعًا خَاشِيًا بَعْدَمَا كَانَ قَاسِيًا خَبِيثًا بَعِيدًا مِنَ الْخَيْرِ. {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} يَعْنِي: فَأَظْهَرَ لَهُ مُوسَى مَعَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْحَقِّ حُجَّةً قَوِيَّةً، وَدَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، {فَكَذَّبَ وَعَصَى} أَيْ: فَكَذَّبَ بِالْحَقِّ وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ. وحاصلُه أَنَّهُ كَفَر قلبُه فَلَمْ يَنْفَعِلْ (1) لِمُوسَى بِبَاطِنِهِ وَلَا بِظَاهِرِهِ، وعلمُهُ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ حَقٌّ لَا يُلْزِمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ علمُ الْقَلْبِ، وَالْإِيمَانُ عَمَلُهُ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ لِلْحَقِّ وَالْخُضُوعِ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ جَمعُهُ السَّحَرَةَ لِيُقَابِلُوا مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، {فَحَشَرَ فَنَادَى} أَيْ: فِي قَوْمِهِ، {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ قَالَهَا فِرْعَوْنٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [الْقَصَصِ: 38] بِأَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى} أَيْ: انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ انْتِقَامًا جَعَلَهُ بِهِ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِأَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَمَرِّدِينَ فِي الدُّنْيَا، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هُودٍ: 99] ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} [الْقِصَصِ: 41] . هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى} أَيْ: الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ كَلِمَتَاهُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ. وَقِيلَ: كُفْرُهُ وَعِصْيَانُهُ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ الْأَوَّلُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} أَيْ: لِمَنْ يَتَّعِظُ وَيَنْزَجِرُ.
__________
(1) في أ: "فلم يفعل".(8/315)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ (33) }
يَقُولُ تَعَالَى مُحْتَجًّا عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ فِي إِعَادَةِ الْخَلْقِ بَعْدَ بَدْئِهِ: {أَأَنْتُمْ} أَيُّهَا النَّاسُ {أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} ؟ يَعْنِي: بَلِ السماءُ أَشَدُّ خَلْقًا مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غَافِرٍ: 57] ، وَقَالَ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (1) } [يس: 81] ، فَقَوْلُهُ: {بَنَاهَا} فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} أَيْ: جَعَلَهَا عَالِيَةَ الْبِنَاءِ، بَعِيدَةَ الْفَنَاءِ، مُسْتَوِيَةَ الْأَرْجَاءِ، مُكَلَّلَةً بِالْكَوَاكِبِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أَيْ: جَعَلَ لَيْلَهَا مُظْلِمًا أَسْوَدَ حَالِكًا، وَنَهَارَهَا مُضِيئًا مُشْرِقًا نَيِّرًا وَاضِحًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَغْطَشَ لَيْلَهَا: أَظْلَمَهُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ.
{وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} أَيْ: أَنَارَ نَهَارَهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "حم السَّجْدَةِ" (2) أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا دُحيت بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَخْرَجَ مَا كَانَ فِيهَا بِالْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ-يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو-عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ المِنْهال بْنِ عَمْرو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {دَحَاهَا} وَدَحْيها أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَشَقَّقَ [فِيهَا] (3) الْأَنْهَارَ، وَجَعَلَ فِيهَا الْجِبَالَ وَالرِّمَالَ وَالسُّبُلَ وَالْآكَامَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرَ ذَلِكَ هُنَالِكَ.
وَقَوْلُهُ: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} أَيْ: قَرَّرَهَا وَأَثْبَتَهَا وأكَّدها فِي أَمَاكِنِهَا، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، الرَّءُوفُ بِخَلْقِهِ الرَّحِيمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوشب، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيد، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا، فَاسْتَقَرَّتْ فَتَعَجَّبَتِ الملائكةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ فَقَالَتْ: يَا رب، فهل من
__________
(1) في م، أ: "بلى إنه على كل شيء قدير" وهو خطأ.
(2) عند تفسير الآية: 9.
(3) زيادة من أ.(8/316)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ؟ قَالَ نَعَمْ، الْحَدِيدُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، النَّارُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْمَاءُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ، فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الرِّيحُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ابْنُ آدَمَ، يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ (1) شَمَالِهِ" (2) .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَمَصَتْ وَقَالَتْ: تَخْلُقُ عَلَيّ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ، يُلْقُونَ عَلَيَّ نَتَنَهُمْ وَيَعْمَلُونَ عَلَيّ بِالْخَطَايَا، فَأَرْسَاهَا اللَّهُ بِالْجِبَالِ، فَمِنْهَا مَا تَرَوْنَ، وَمِنْهَا مَا لَا تَرَوْنَ، وَكَانَ أَوَّلُ قَرَار الْأَرْضِ كَلَحْمِ الْجَزُورِ إِذَا نحِر، يَخْتَلِجُ لَحْمُهُ. غَرِيبٌ (3) .
وَقَوْلُهُ {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ} أَيْ: دَحَا الْأَرْضَ فَأَنْبَعَ عُيُونَهَا، وَأَظْهَرَ مَكْنُونَهَا، وَأَجْرَى أَنْهَارَهَا، وَأَنْبَتَ زُرُوعَهَا وَأَشْجَارَهَا وَثِمَارَهَا، وَثَبَّتَ جِبَالَهَا، لِتَسْتَقِرَّ بِأَهْلِهَا وَيَقَرُّ قَرَارُهَا، كُلُّ ذَلِكَ مَتَاعًا لِخَلْقِهِ وَلِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي يَأْكُلُونَهَا وَيَرْكَبُونَهَا مُدَّةَ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمَدُ، وَيَنْقَضِيَ الْأَجَلُ.
{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) }
يَقُولُ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَطُم عَلَى كُلِّ أَمْرٍ هَائِلٍ مُفْظِعٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [الْقَمَرِ: 46] .
{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى} أَيْ: حِينَئِذٍ يتذكرُ ابنُ آدَمَ جَمِيعَ عَمَلِهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، كَمَا قَالَ: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الْفَجْرِ: 23] .
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} أَيْ: أَظْهَرَتْ لِلنَّاظِرِينَ فَرَآهَا النَّاسُ عِيَانًا، {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} أَيْ: تَمَرّد وَعَتَا، {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أَيْ: قَدَّمَهَا عَلَى أَمْرِ دِينِهِ وَأُخْرَاهُ، {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} أَيْ: فَإِنَّ مصيرَه إِلَى الْجَحِيمِ وَإِنَّ مَطْعَمَهُ مِنَ الزَّقُّومِ، وَمَشْرَبَهُ مِنَ الْحَمِيمِ. {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}
__________
(1) في أ: "عن".
(2) المسند (3/124) ، ورواه الترمذي في السنن برقم (3369) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هارون به، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ".
(3) تفسير الطبري (30/30) .(8/317)
أَيْ: خَافَ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَافَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَنَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهَا، ورَدها إِلَى طَاعَةِ مَوْلَاهَا {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} أَيْ: مُنْقَلَبُهُ وَمَصِيرُهُ وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْجَنَّةِ الْفَيْحَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} أَيْ: لَيْسَ عِلْمُهَا إِلَيْكَ وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، بَلْ مَردها ومَرجعها إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ وَقْتَهَا عَلَى التَّعْيِينِ، {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الْأَعْرَافِ: 187] ، وَقَالَ هَاهُنَا: {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} وَلِهَذَا (1) لَمَّا سَأَلَ جبريلُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ". (2) .
وَقَوْلُهُ {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} أَيْ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِتُنْذِرَ النَّاسَ وَتُحَذِّرَهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ (3) ، فَمَنْ خَشِيَ اللَّهَ وَخَافَ مَقَامَهُ (4) وَوَعِيدَهُ، اتَّبَعَكَ فَأَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَالْخَيْبَةُ وَالْخَسَارُ عَلَى مَنْ كَذَّبَكَ وَخَالَفَكَ.
وَقَوْلُهُ: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أَيْ: إِذَا قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى الْمَحْشَرِ يَسْتَقْصِرُونَ مُدّة الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ كَانَتْ عَشِيَّةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ ضُحى مِنْ يَوْمٍ.
قَالَ جُويْبر، عَنِ الضِّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} أَمَّا عَشِيَّة: فَمَا بَيْنَ الظَّهْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، {أَوْ ضُحَاهَا} مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقْتُ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِ الْقَوْمِ حِينَ عَايَنُوا الْآخِرَةَ.
[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "النَّازِعَاتِ"] (5) [وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ] (6)
__________
(1) في م:"وهذا".
(2) هذا جزء من حديث جبريل الطويل وهو في صحيح مسلم برقم (8) .
(3) في م: "وعقابه".
(4) في م: "وخاف عقابه"
(5) زيادة من م، أ.
(6) زيادة من م.(8/318)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
تَفْسِيرُ سُورَةِ عَبَسَ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) }
ذَكَرَ غيرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا يخاطبُ بَعْضَ عُظَمَاءِ قُرَيْشٍ، وَقَدْ طَمع فِي إِسْلَامِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهُ إِذْ أَقْبَلَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ-وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا-فَجَعَلَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ وَيُلِحُّ عَلَيْهِ، وودَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَوْ كَفَّ سَاعَتَهُ تِلْكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ مُخَاطَبَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ؛ طَمَعًا وَرَغْبَةً فِي هِدَايَتِهِ. وعَبَس فِي وَجْهِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) ؟ أَيْ: يَحْصُلُ لَهُ زَكَاةٌ وَطَهَارَةٌ فِي نَفْسِهِ. (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) أَيْ: يَحْصُلُ لَهُ اتِّعَاظٌ وَانْزِجَارٌ عَنِ الْمَحَارِمِ، (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أَيْ: أَمَّا الْغَنِيُّ فَأَنْتَ تَتَعَرَّضُ لَهُ لَعَلَّهُ يَهْتَدِي، (وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى) ؟ أَيْ: مَا أَنْتَ بِمُطَالَبٍ بِهِ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ زَكَاةٌ. (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى) أَيْ: يَقْصِدُكَ وَيَؤُمُّكَ لِيَهْتَدِيَ بِمَا تَقُولُ لَهُ، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أَيْ: تَتَشَاغَلُ. وَمِنْ هَاهُنَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَخُصَّ بِالْإِنْذَارِ أَحَدًا، بَلْ يُسَاوِي فِيهِ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالضَّعِيفِ، وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، وَالسَّادَةِ وَالْعَبِيدِ، وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ. ثُمَّ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ-هُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ-حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ [عَنْ أَنَسٍ] (1) فِي قَوْلِهِ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) جَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُكَلِّمُ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) فَكَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْرِمُهُ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ ومعه راية سوداء-
__________
(1) تنبيه: ما بين المعقوفين ليس في أصل مسند أبي يعلى وتفسير عبد الرزاق. وهل من النسخ، وأظنه مقحما. والله أعلم.(8/319)
يَعْنِي ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ (1) .
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ مِمَّا عَرَضَهُ عَلَيْهِ عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُنْزِلَتْ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، أَتَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَقُولُ: أَرْشِدْنِي. قَالَتْ: وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَتْ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعرض عَنْهُ وَيُقْبِلُ عَلَى الْآخَرِ، وَيَقُولُ: "أَتَرَى بِمَا أَقُولُ بَأْسًا؟ ". فَيَقُولُ: لَا. فَفِي هَذَا أُنْزِلَتْ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) (2) .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، بِإِسْنَادِهِ، مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أنزلَت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ (3) .
قُلْتُ: كَذَلِكَ هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ (4) .
ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) قَالَ: بَيْنَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِي عتبةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ-وَكَانَ يَتَصَدَّى لَهُمْ كَثِيرًا، وَيَحْرِصُ (5) عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا-فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَعْمَى-يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ-يَمْشِي وَهُوَ يُنَاجِيهِمْ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ يَسْتَقْرِئُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبَسَ فِي وَجْهِهِ، وَتَوَلَّى وكَرهَ كَلامَه، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخَرِينَ، فَلَمَّا قَضَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَجْوَاهُ، وَأَخَذَ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ، أَمَسَكَ اللَّهُ بَعْضَ بَصَرِهِ، ثُمَّ خَفَق بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) فَلَمَّا نَزَلَ فِيهِ مَا نَزَلَ، أَكْرَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَّمَهُ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا حَاجَتُكَ؟ هَلْ تُرِيدُ مِنْ شَيْءٍ؟ " وَإِذَا ذَهَبَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: "هَلْ لَكَ حَاجَةٌ فِي شَيْءٍ؟ ". وَذَلِكَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى) (6) .
فِيهِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ، وَقَدْ تُكُلّم فِي إِسْنَادِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر:
__________
(1) مسند أبي يعلى (5/431) ، وتفسير عبد الرزاق (2/282) .
(2) مسند أبي يعلى (8/261) ، وتفسير الطبري (30/32) .
(3) سنن الترمذي برقم (3328) .
(4) الموطأ (1/203)
(5) في أ: "ويجعل".
(6) تفسير الطبري (30/32) ، ووجه غرابته ما نقله السهيلي في الروض الأنف عن شيخه ابن العربي قال: "قول المفسرين في الذي شغل النبي صلى الله عليه وسلم أنه الوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعباس كله باطل، فإن أمية والوليد كانا بمكة، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما، ولا حضرا معه وماتا كافرين، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر، ولم يقصد أمية المدينة قط، ولا حضر عنده مفردا ولا مع آخر" انتهى.(8/320)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ". وَهُوَ الْأَعْمَى الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى) وَكَانَ يُؤَذِّنُ مَعَ بِلَالٍ. قَالَ سَالِمٌ: وَكَانَ رَجُلا ضريرَ الْبَصَرِ، فَلَمْ يَكْ يُؤَذِّنُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ النَّاسُ-حِينَ يَنْظُرُونَ إِلَى بُزُوغِ الْفَجْرِ-: أذَّن (1) .
وَهَكَذَا ذَكَرَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ (2) فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَيُقَالُ: عَمْرٌو. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: (كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) أَيْ: هَذِهِ السُّورَةُ، أَوِ الْوَصِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي إِبْلَاغِ الْعِلْمِ مِنْ (3) شَرِيفِهِمْ وَوَضِيعِهِمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: (كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) يَعْنِي: الْقُرْآنَ، (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) أَيْ: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ. وَيُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى الْوَحْيِ؛ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) أَيْ: هَذِهِ السُّورَةُ أَوِ الْعِظَةُ، وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ، بَلْ جَمِيعُ الْقُرْآنِ (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) أَيْ: مُعَظَّمَةٍ مُوَقَّرَةٍ (مَرْفُوعَةٍ) أَيْ: عَالِيَةِ الْقَدْرِ، (مُطَهَّرَةٍ) أَيْ: مِنَ الدَّنَسِ وَالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ.
وَقَوْلُهُ: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْقُرَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّفَرَةُ بِالنَّبَطِيَّةِ: الْقُرَّاءُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصَّحِيحُ أَنَّ السَّفَرَةَ الْمَلَائِكَةُ، وَالسَّفَرَةُ يَعْنِي بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: السَّفِيرُ: الَّذِي يَسْعَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الصُّلْحِ وَالْخَيْرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
ومَا أدَعُ السّفَارَة بَين قَومي ... وَما أمْشي بِغِشٍّ إِنْ مَشَيتُ (4)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: سَفَرةٌ: الْمَلَائِكَةُ. سَفرت: أَصْلَحَتْ بَيْنَهُمْ. وَجَعَلَتِ الملائكةُ إِذَا نَزَلَتْ بوَحْي اللَّهِ وَتَأْدِيَتِهِ كَالسَّفِيرِ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ الْقَوْمِ (5) .
وَقَوْلُهُ: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ) أَيْ: خُلقهم كَرِيمٌ حَسَنٌ شَرِيفٌ، وَأَخْلَاقُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ بَارَّةٌ طَاهِرَةٌ كَامِلَةٌ. وَمِنْ هَاهُنَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ عَلَى السَّدَادِ وَالرَّشَادِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارة بْنِ أَوْفَى، عَنِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ". أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، بِهِ (6) .
{قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (32) }
__________
(1) أصل الحديث في صحيح مسلم برقم (1092) .
(2) في م: "أنها أنزلت".
(3) في أ: "بين".
(4) تفسير الطبري (30/35) .
(5) صحيح البخاري (8/691) "فتح".
(6) المسند (6/48) وصحيح البخاري برقم (4937) وصحيح مسلم برقم (798) وسنن أبي داود برقم (1454) وسنن الترمذي برقم (2904) وسنن النسائي الكبرى برقم (8047) وسنن ابن ماجة برقم (3779) .(8/321)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِمَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ مِنْ بَنِي آدَمَ: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (قُتِلَ الإنْسَانُ) لُعِنَ الْإِنْسَانُ. وَكَذَا قَالَ أَبُو مَالِكٍ. وَهَذَا لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبِ؛ لِكَثْرَةِ تَكْذِيبِهِ بِلَا مُسْتَنَدٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِبْعَادِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (1) (مَا أَكْفَرَهُ) مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ! وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَهُ كَافِرًا؟ أَيْ: مَا حَمَلَهُ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْمَعَادِ (2) .
وَقَالَ قَتَادَةُ-وَقَدْ حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ-: (مَا أَكْفَرَهُ) مَا أَلْعَنَهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى لَهُ كَيْفَ خَلَقَهُ مِنَ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ كَمَا بَدَأَهُ، فَقَالَ: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أَيْ: قَدَّرَ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ يَسَّرَ عَلَيْهِ خُرُوجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ (3) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الْإِنْسَانِ: 3] أَيْ: بَيَّنَّا (4) لَهُ وَوَضَّحْنَاهُ وَسَهَّلْنَا عَلَيْهِ عَمَلَهُ (5) وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أَيْ: إِنَّهُ بَعْدَ خَلْقِهِ لَهُ (أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أَيْ: جَعَلَهُ ذَا قَبْرٍ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: "قَبَرْتُ الرَّجُلَ": إِذَا وَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَقْبَرَهُ اللَّهُ. وَعَضَبْتُ قَرْنَ الثَّوْرِ،
وَأَعْضَبَهُ اللَّهُ، وَبَتَرْتُ ذَنَبَ الْبَعِيرِ وَأَبْتَرَهُ اللَّهُ. وَطَرَدْتُ عَنِّي فُلَانًا، وَأَطْرَدَهُ اللَّهُ، أَيْ: جَعَلَهُ طَرِيدًا قَالَ الْأَعْشَى:
لَو أسْنَدَتْ مَيتًا إِلَى نَحْرها (6) عَاش، وَلم يُنقَل إلى قَابِر (7)
__________
(1) في أ: "ابن جريح"
(2) تفسير الطبري (30/35) ، وقد تصرف الحافظ هنا في كلامه
(3) تفسير الطبري (30/36) .
(4) في أ: "أي بيناه"
(5) في أ: "عمله".
(6) في م، أ: "إلى صدرها".
(7) البيت في تفسير الطبري (30/36) .(8/322)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) أَيْ: بَعَثَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: الْبَعْثُ وَالنُّشُورُ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الرُّومِ: 20] ، {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [الْبَقَرَةِ: 259] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أصبغُ بنُ الفَرج، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: أَنْ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَأْكُلُ الترابُ كلَّ شَيْءٍ مِنَ الْإِنْسَانِ إِلَّا عَجْبُ ذَنَبه (1) قِيلَ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْهُ يُنْشَئُونَ" (2) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَفْظُهُ: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلى إِلَّا عَجْبُ الذَّنَب، مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُركَّب" (3) .
وَقَوْلُهُ: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَقُولُ: كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَذَا الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ؛ مِنْ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ، (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) يَقُولُ: لَمْ يُؤد مَا فُرض عَلَيْهِ مِنَ الْفَرَائِضِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ رَوَى-هُوَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ-مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) قَالَ: لَا يَقْضِي أَحَدٌ أَبَدًا كُلَّ مَا افتُرض عَلَيْهِ. وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا. وَلَمْ أَجِدْ لِلْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ كَلامًا سِوَى هَذَا. وَالَّذِي يَقَعُ لِي فِي مَعْنَى ذَلِكَ-وَاللَّهُ أَعْلَمُ-أَنَّ الْمَعْنَى: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) أَيْ: بَعَثَهُ، (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) [أَيْ] (4) لَا يَفْعَلُهُ الْآنَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، وَيَفْرَغَ الْقَدَرُ مِنْ بَنِي آدَمَ مِمَّنْ كَتَبَ تَعَالَى (5) لَهُ أَنْ سيُوجَدُ مِنْهُمْ، وَيُخْرَجُ إِلَى الدُّنْيَا، وَقَدْ أَمَرَ بِهِ تَعَالَى كَوْنًا وَقَدَرًا، فَإِذَا تَنَاهَى ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَنْشَرَ اللَّهُ الْخَلَائِقَ وَأَعَادَهُمْ كَمَا بَدَأَهُمْ.
وَقَدْ رَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبّه قَالَ: قَالَ عُزَير، عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَالَ الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي: فَإِنَّ الْقُبُورَ هِيَ بطنُ الْأَرْضِ، وَإِنَّ الْأَرْضَ هِيَ أُمُّ الْخَلْقِ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ مَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ وَتَمَّتْ هَذِهِ القبورُ الَّتِي مَدّ اللَّهُ لَهَا، انْقَطَعَتِ الدُّنْيَا وَمَاتَ مَنْ عَلَيْهَا، وَلَفَظَتِ الْأَرْضُ مَا فِي جَوْفِهَا، وَأَخْرَجَتِ القبورُ مَا فِيهَا، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا قُلْنَا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَالَ: (6) (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) فِيهِ امْتِنَانٌ، وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ بِإِحْيَاءِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَجْسَامِ بَعْدَمَا كَانَتْ عَظَاما بَالِيَةً وَتُرَابًا مُتَمَزِّقًا، (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا) أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، (ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا) أَيْ: أَسْكَنَاهُ فِيهَا فَدَخَلَ فِي تُخُومها وتَخَلَّل فِي
__________
(1) في أ: "إلا عجز الذنب".
(2) ورواه الحاكم في المستدرك (4/609) من طريق بحر بن نصر، عن ابن وهب به، وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" قلت: دراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(3) صحيح البخاري برقم (4814) ، وصحيح مسلم برقم (2955)
(4) زيادة من م، أ.
(5) في م: "ممن كتب الله".
(6) في أ: "وقوله".(8/323)
أَجْزَاءِ الْحَبِّ المودعَ فِيهَا فَنَبَتَ وَارْتَفَعَ وَظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا) فَالْحَبُّ: كُلُّ مَا يُذْكَرُ مِنَ الْحُبُوبِ، وَالْعِنَبُ مَعْرُوفٌ وَالْقَضْبُ هُوَ: الْفَصْفَصَةُ الَّتِي تَأْكُلُهَا الدَّوَابُّ رَطْبَةٌ. وَيُقَالُ لَهَا: القَتّ أَيْضًا قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ. وَالسُّدِّيُّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْقَضْبُ الْعَلَفُ.
(وَزَيْتُونًا) وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أدْمٌ وَعَصِيرُهُ أُدْمٌ، وَيُسْتَصْبَحُ بِهِ، وَيُدَّهَنُ بِهِ. (وَنَخْلا) يُؤْكَلُ بَلَحًا بُسْرًا، وَرُطَبًا، وَتَمْرًا، وَنِيئًا، وَمَطْبُوخًا، وَيُعْتَصَرُ مِنْهُ رُبٌّ وَخَلٌّ. (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) أي: بساتين. قال الحسن، وقتادة: (َ غُلْبًا) نَخْلٌ غِلَاظٌ كِرَامٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ: "الْحَدَائِقُ": كُلُّ مَا الْتَفَّ وَاجْتَمَعَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: (غُلْبًا) (1) الشَّجَرُ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) أَيْ: طِوَالٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: (غُلْبًا) أَيْ: غِلَاظُ الْأَوْسَاطِ. وَفِي رِوَايَةٍ: غِلَاظُ الرِّقَابِ (2) ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الرَّجُلِ إِذَا كَانَ غَلِيظَ الرَّقَبَةِ قِيلَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَغْلَبُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ لِلْفَرَزْدَقِ:
عَوَى فَأثارَ أغلبَ ضَيْغَمِيًا ... فَويلَ ابْنَ المَراغَة مَا استَثَارا (3)
وَقَوْلُهُ: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) أَمَّا الْفَاكِهَةُ فَهُوَ مَا يَتَفَكَّهُ بِهِ مِنَ الثِّمَارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَاكِهَةُ: كُلُّ مَا أُكِلَ رَطْبًا. وَالْأَبُّ مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ، مِمَّا تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ وَلَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ-وَفِي رِوَايَةِ عَنْهُ: هُوَ الْحَشِيشُ لِلْبَهَائِمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو مَالِكٍ: الْأَبُّ: الْكَلَأُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ: الْأَبُّ لِلْبَهَائِمِ كَالْفَاكِهَةِ لِبَنِي آدَمَ. وَعَنْ عَطَاءٍ: كُلُّ شَيْءٍ نَبَتَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَهُوَ أبٌّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلُّ شَيْءٍ أَنْبَتَتْهُ الْأَرْضُ سِوَى الْفَاكِهَةِ فَهُوَ أبٌّ.
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَبُّ: نَبْتُ الْأَرْضِ مِمَّا تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ وَلَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ ثَلَاثِ طُرُقٍ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: عَدَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ: الْأَبُّ: مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ لِلْأَنْعَامِ. هَذَا لَفْظُ أَبِي كُرَيْبٍ، وَقَالَ أَبُو السَّائِبِ: مَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَتَأْكُلُ الْأَنْعَامُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَبُّ: الْكَلَأُ وَالْمَرْعَى. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوشَب، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيمي قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِنْ قلتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ (4) .
__________
(1) في م: "الغلب".
(2) في م: "الأرقاب".
(3) تفسير الطبري (30/37)
(4) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص 227) ، وسبق الكلام عليه في مقدمة التفسير.(8/324)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَالصِّدِّيقِ. فَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا حُمَيد، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فَلَمَّا أَتَيَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) قَالَ: عَرَفْنَا مَا الْفَاكِهَةُ، فَمَا الْأَبُّ؟ فَقَالَ: لَعَمْرُكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ (1) .
فَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ أَنَسٍ، بِهِ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ شَكْلَهُ وَجِنْسَهُ وَعَيْنَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ وَكُلُّ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، لِقَوْلِهِ: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)
وَقَوْلُهُ: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ) أَيْ: عِيشَةً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (الصَّاخَّةُ) اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، عَظَّمَهُ اللَّهُ، وحَذّره عِبَادَهُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَعَلَّهُ اسْمٌ لِلنَّفْخَةِ فِي الصُّورِ. وَقَالَ البَغَويّ: (الصَّاخَّةُ) يَعْنِي صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَصُخّ الْأَسْمَاعَ، أَيْ: تُبَالِغُ فِي إِسْمَاعِهَا حَتَّى تَكَادَ تُصمّها (2) .
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) أَيْ: يَرَاهُمْ، وَيَفِرُّ مِنْهُمْ، وَيَبْتَعِدُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْهَوْلَ عَظِيمٌ، وَالْخَطْبَ جَلِيلٌ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: يَلْقَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ فَيَقُولُ لَهَا: يَا هَذِهِ، أَيُّ بَعْلٍ كنتُ لَكِ؟ فَتَقُولُ: نِعْمَ الْبَعْلُ كنتَ! وَتُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَتْ، فَيَقُولُ لَهَا: فَإِنِّي أطلبُ إِلَيْكِ اليومَ حَسَنَةً وَاحِدَةً تَهَبِينَهَا (3) لِي لَعَلِّي أَنْجُو مِمَّا تَرَيْنَ. فَتَقُولُ لَهُ: مَا أَيْسَرَ مَا طلبتَ، وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الَّذِي تَخَافُ. قَالَ: وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْقَى ابْنَهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ فَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ، أَيُّ وَالِدٍ كنتُ لَكَ؟ فَيُثْنِي بِخَيْرٍ. فيقولُ لَهُ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي احْتَجْتُ إِلَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَاتِكَ لَعَلِّي أَنْجُو بِهَا مِمَّا تَرَى. فَيَقُولُ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ، مَا أَيْسَرَ مَا طَلَبْتَ، وَلَكِنِّي أَتَخَوَّفُ مِثْلَ الَّذِي تَتَخَوَّفُ، فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ-فِي أَمْرِ الشَّفَاعَةِ-: أَنَّهُ إِذَا طُلِبَ إِلَى كُلٍّ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَلَائِقِ، يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي، لَا أَسْأَلُهُ اليومَ إِلَّا نَفْسِي، حَتَّى إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَقُولُ:
__________
(1) تفسير الطبري (30/38) ، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/180) من طريق يزيد به، وتقدم الكلام عليه في مقدمة التفسير.
(2) في أ: "تصخها".
(3) في أ: "تهبيها".(8/325)
لَا أَسْأَلُهُ الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي، لَا أَسْأَلُهُ مَرْيَمَ الَّتِي وَلَدَتْنِي. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (1) .
قَالَ قَتَادَةُ: الْأَحَبُّ فالأحبَ، وَالْأَقْرَبُ فالأقربَ، مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَوْلُهُ: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أَيْ: هُوَ فِي شُغُل شَاغِلٍ عَنْ غَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارِ بْنِ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ أَبُو زَيْدٍ الْعَبَّادَانِيُّ، عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّاب، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرلا " قَالَ: فَقَالَتْ زوجته: يا رسول الله، أوَ يرى (2) بَعْضُنَا عَوْرَةَ بَعْضٍ؟ قَالَ: " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أَوْ قَالَ: "مَا أَشْغَلَهُ عَنِ النَّظَرِ".
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَارِمٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ يَزِيدَ-وَهُوَ أَبُو زَيْدٍ الْأَحْوَلُ الْبَصْرِيُّ، أَحَدُ الثِّقَاتِ-عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّاب، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِهِ (3) وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ يزيد، عن هلال ابن خَبَّاب، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تُحشَرون حُفاة عُرَاة غُرْلا". فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: أَيُبْصِرُ-أَوْ: يَرَى-بَعْضُنَا عَوْرَةَ بَعْضٍ؟ قَالَ: "يَا فُلَانَةُ، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (4) . ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (5) .
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا بَقِيَّة، حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرلا". فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ؟ فَقَالَ: " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (6) .
انْفَرَدَ بِهِ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عائد ابن شُرَيح، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي سَائِلَتُكَ عَنْ حَدِيثٍ فَتُخْبِرُنِي أنتَ بِهِ. فَقَالَ: "إِنْ كَانَ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمٌ". قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يُحشر الرِّجَالُ؟ قَالَ: "حُفَاةً عُرَاةً". ثُمَّ انتظَرتْ سَاعَةً فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ النِّسَاءُ؟ قَالَ: "كَذَلِكَ حُفَاةً عُرَاةً". قَالَتْ: وَاسَوْأَتَاهُ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ! قَالَ: "وَعَنْ أَيِّ ذَلِكَ تَسْأَلِينَ؟ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ آيَةٌ لَا يَضُرُّكِ كَانَ عَلَيْكِ ثِيَابٌ أَوْ لَا يَكُونُ".
__________
(1) أحاديث الشفاعة سبقت عند تفسير أول سورة الإسراء.
(2) في م: "يا رسول الله، ننظر أو يرى".
(3) سنن النسائي الكبري برقم (11647) .
(4) سنن الترمذي برقم (3332) .
(5) في أ: "رضي الله تعالى عنهما".
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (11648) .(8/326)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
قَالَتْ: أيةُ آيَةٍ هِيَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (1) .
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُبْعَثُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرلا قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ، وَبَلَغَ شُحُومَ الْآذَانِ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاسَوْأَتَاهُ يَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ؟ فَقَالَ: "قَدْ شُغل النَّاسُ، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (2) .
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جِدًّا، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيِّ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، بِهِ (3) . وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: عَائِذُ بْنُ شُرَيْحٍ ضَعِيفٌ، فِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ (4) .
وَقَوْلُهُ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أَيْ: يَكُونُ النَّاسُ هُنَالِكَ فَرِيقَيْنِ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) أَيْ: مُسْتَنِيرَةٌ، (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أَيْ: مَسْرُورَةٌ فَرِحَةٌ مِنْ سُرُورِ قُلُوبِهِمْ، قَدْ ظَهَرَ الْبِشْرُ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجَنَّةِ.
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) أَيْ: يَعْلُوهَا وَيَغْشَاهَا (5) قَتَرَةٌ، أَيْ: سَوَادٌ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَهْلِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدٌ مَوْلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُلْجِمُ الكافرَ العرقُ ثُمَّ تَقَعُ الغُبْرة عَلَى وُجُوهِهِمْ". قَالَ: فَهُوَ قَوْلُهُ: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ) (6) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) أَيْ: يَغْشَاهَا سَوَادُ الْوُجُوهِ.
وَقَوْلُهُ: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أَيِ: الْكَفَرَةُ قُلُوبُهُمْ، الْفَجَرَةُ فِي أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نُوحٍ: 27] .
آخِرُ تفسير سورة "عبس" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (30/39) ، عن الحسين بن حريث عن الفضل بن موسى به.
(2) معالم التنزيل للبغوي (8/340) ، ورواه الحاكم في المستدرك (2/514) من طريق إسماعيل بن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي أويس به نحوه. وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ولم يخرجاه بهذا اللفظ".
(3) تفسير الطبري (30/39)
(4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/16) .
(5) في م: "تعلوها وتغشاها".
(6) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/424) ، وله شاهد من حديث ابن مسعود: رواه ابن حبان في صحيحه برقم (2582) "موارد" من طريق شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ ابن مسعود مرفوعا: "إن الكافر ليلجمه العرق يوم القيامة فيقول: أرحنى ولو إلى النار".(8/327)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
تَفْسِيرُ سُورَةِ التَّكْوِيرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَحِيرٍ الْقَاصُّ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ الصَّنْعَانِيَّ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَرَّه أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رأيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ "، وَ " وإذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ "، وَ " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ (1) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) }
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} يَعْنِي: أَظْلَمَتْ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنْهُ: ذَهَبَتْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اضمحَلّت وذَهَبت. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَهَبَ ضَوْءُهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {كُوِّرَتْ} غُوّرت.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيم: {كُوِّرَتْ} يَعْنِي: رُمِيَ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: {كُوِّرَتْ} أُلْقِيَتْ. وَعَنْهُ أَيْضًا: نُكِّسَتْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: تَقَعُ فِي الْأَرْضِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّكْوِيرَ جَمعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ إِلَى (2) بَعْضٍ، وَمِنْهُ تَكْوِيرُ الْعِمَامَةِ [وَهُوَ لَفُّهَا عَلَى الرَّأْسِ، وَكَتَكْوِيرِ الْكَارِهِ، وَهِيَ] (3) جَمْعُ الثِّيَابِ بَعْضُهَا إِلَى (4) بَعْضٍ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: {كُوَّرَتْ} جَمْعُ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لُفَّتْ فَرَمَى بِهَا، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها (5) .
__________
(1) المسند (2/27) ، وسنن الترمذي برقم (3333) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(2) في م: "على".
(3) زيادة من تفسير الطبري.
(4) في م: "على".
(5) تفسير الطبري (30/41) .(8/328)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَجِيلة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} قَالَ: يُكَوِّرُ اللَّهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا دَبُّورًا فَتُضْرِمُهَا نَارًا. وَكَذَا قَالَ عَامِرُ الشَّعْبِيُّ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} قَالَ: "كُوِّرَتْ فِي جَهَنَّمَ" (1) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّان، حَدَّثَنَا دُرُسْتُ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثَوْرَانِ (2) عَقِيرَانِ فِي النَّارِ" (3) .
هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ ضَعِيفٌ، وَالَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا مُسَدَّد، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الداناجُ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (4) .
انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ "بِدْءِ الْخَلْقِ"، وَكَانَ جَدِيرًا أَنْ يَذْكُرَهُ هَاهُنَا أَوْ يُكَرِّرَهُ، كَمَا هِيَ عَادَتُهُ فِي أَمْثَالِهِ! وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ فَجَوّد إِيرَادَهُ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الدَّانَاجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ-مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَجَاءَ الْحَسَنُ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَحدّث قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ نُورَانِ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا ذَنْبُهُمَا؟ فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ: أَحْسَبُهُ قَالَ: وَمَا ذَنْبُهُمَا.
ثُمَّ قَالَ: لَا يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيرة إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يَرْوِ عَبْدُ اللَّهِ الدَّانَاجُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} أَيِ: انْتَثَرَتْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 2] ، وَأَصْلُ الِانْكِدَارِ: الِانْصِبَابُ.
قَالَ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سِتُّ آيَاتٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بَيْنَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ إِذْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ، فَبَيْنَمَا هم كذلك إذ
__________
(1) ورواه الديلمي في مسنده، كما في الدر المنثور للسيوطي (8/426) .
(2) في م، أ، هـ: "نوران"، والصواب بالثاء.
(3) مسند أبي يعلى (7/148) ، ورواه ابن حبان في المجروحين (1/293) من طريق درست بن زياد به، وقال في درست بن زياد: "كان منكر الحديث جدا، لا يحل الاحتجاج بخبره. وروى عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فذكر هذا الحديث".
(4) صحيح البخاري برقم (3200) .(8/329)
وَقَعَتِ الْجِبَالُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَتَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ وَاخْتَلَطَتْ، فَفَزِعَتِ الْجِنُّ إِلَى الْإِنْسِ وَالْإِنْسُ إِلَى الْجِنِّ، وَاخْتَلَطَتِ الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ، فَمَاجُوا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} قَالَ: اخْتَلَطَتْ، {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} قَالَ: أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} قَالَ: قَالَتِ الْجِنُّ: نَحْنُ نَأْتِيكُمْ بِالْخَبَرِ. قَالَ: فَانْطَلَقُوا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا هُوَ نَارٌ تَأَجَّجُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتِ الْأَرْضُ صَدْعَةً وَاحِدَةً إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى وَإِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْعُلْيَا، قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرِّيحُ فَأَمَاتَتْهُمْ.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (1) -وَهَذَا لَفْظُهُ-وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، بِبَعْضِهِ، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيم (2) ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} ي: تَنَاثَرَتْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} أَيْ: تَغَيَّرَتْ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} قَالَ: "انْكَدَرَتْ فِي جَهَنَّمَ، وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ مَنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ فِي جَهَنَّمَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عِيسَى وَأُمِّهِ، وَلَوْ رَضِيَا أَنْ يُعبَدا لَدَخَلَاهَا". رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} أَيْ: زَالَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا ونُسِفت، فَتَرَكَتِ الْأَرْضَ قَاعًا صَفْصَفًا.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ: عِشَارُ الْإِبِلِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: {عُطِّلَت} تُرِكَتْ وسُيّبت.
وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَالضَّحَّاكُ: أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا: وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيم (3) لَمْ تَحْلِبْ وَلَمْ تُصَرّ، تَخَلَّى مِنْهَا أَرْبَابُهَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تُرِكَتْ لَا رَاعِيَ لَهَا.
وَالْمَعْنَى فِي هَذَا كُلِّهِ مُتَقَارِبٌ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعِشَارَ مِنَ الْإِبِلِ-وَهِيَ: خِيَارُهَا وَالْحَوَامِلُ مِنْهَا الَّتِي قَدْ وَصَلت فِي حَمْلِهَا إِلَى الشَّهْرِ الْعَاشِرِ-وَاحِدُهَا (4) عُشَراء، وَلَا يَزَالُ ذَلِكَ اسْمُهَا حَتَّى تَضَعَ-قَدِ اشْتَغَلَ النَّاسُ عَنْهَا وَعَنْ كَفَالَتِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، بَعْدَ مَا كَانُوا أَرْغَبَ شَيْءٍ فِيهَا، بِمَا دَهَمهم مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ المُفظع الْهَائِلِ، وَهُوَ أَمْرُ الْقِيَامَةِ وَانْعِقَادُ أَسْبَابِهَا، وَوُقُوعِ مُقَدِّمَاتِهَا.
وَقِيلَ: بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَرَاهَا أَصْحَابُهَا كَذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهَا. وَقَدْ قِيلَ فِي الْعِشَارِ: إِنَّهَا السَّحَابُ يُعطَّل عَنِ الْمَسِيرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لِخَرَابِ الدُّنْيَا. وَ [قَدْ] (5) قِيلَ: إِنَّهَا الْأَرْضُ الَّتِي تُعشَّر. وَقِيلَ: إِنَّهَا الدِّيَارُ الَّتِي كَانَتْ تَسْكُنُ تُعَطَّل لِذَهَابِ أَهْلِهَا. حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِهِ "التَّذْكِرَةُ"، وَرَجَّحَ أَنَّهَا الإبل، وعزاه إلى أكثر الناس (6) .
__________
(1) تفسير الطبري (30/41) .
(2) في أ: "خيثم".
(3) في أ: "خيثم".
(4) في م: "واحدتها".
(5) زيادة من م.
(6) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 212،213) .(8/330)
قُلْتُ: بَلْ لَا يُعْرَفُ عَنِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ سِوَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} أَيْ: جُمِعَتْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الْأَنْعَامِ: 38] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُحْشَرُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الذُّبَابُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيم (1) وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ هَذِهِ الْخَلَائِقَ [مُوَافِيَةً] (2) فَيَقْضِي اللَّهُ فِيهَا مَا يَشَاءُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حَشْرُهَا: مَوْتُهَا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، أَخْبَرَنَا حُصَين، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} قَالَ: حَشرُ الْبَهَائِمِ: مَوْتُهَا، وَحَشْرُ كُلِّ شَيْءٍ الْمَوْتُ غَيْرُهُ (3) الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، فَإِنَّهُمَا يُوقَفَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيم (4) : {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} قَالَ: أَتَى عَلَيْهَا أَمْرُ اللَّهِ. قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ أَبِي: فَذَكَرْتُهُ لِعِكْرِمَةَ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَشْرُهَا: مَوْتُهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} اخْتَلَطَتْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأُولَى قَولُ مَنْ قَالَ: {حُشِرَت} جُمعت، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [ص: 19] ، أَيْ: مَجْمُوعَةً.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَية، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ: أَيْنَ جَهَنَّمُ؟ قَالَ: الْبَحْرُ. فَقَالَ: مَا أَرَاهُ إِلَّا صَادِقًا. {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطَّوْرِ: 6] ، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [مُخَفَّفَةٌ] (5) (6) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهَا الدَّبُّورِ فَتُسَعِّرُهَا، وَتَصِيرُ نَارًا تَأَجَّجُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ النَّفَّاطُ-شيخٌ صَالِح يُشبهُ مالكَ بْنَ أَنَسٍ-عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْبَحْرَ بَرَكَةٌ-يَعْنِي بَحْرَ الرُّوم-وَسَطَ الْأَرْضِ، وَالْأَنْهَارُ كُلُّهَا تَصُبُّ فِيهِ، وَالْبَحْرُ الْكَبِيرُ يَصُبُّ فِيهِ، وَأَسْفَلُهُ آبَارٌ مُطَبَّقَةٌ بِالنُّحَاسِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أسجر.
__________
(1) في أ: "خيثم".
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م: "غير".
(4) في أ: "خيثم".
(5) زيادة من تفسير الطبري.
(6) تفسير الطبري (30/43) .(8/331)
وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: "لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ، فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا" الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ "فَاطِرٍ" (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ: {سُجِّرَت} أُوقِدَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَبِسَتْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: غَاضَ مَاؤُهَا فَذَهَبَ وَلَمْ يُبْقِ فِيهَا قَطْرَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: {سُجِّرَتْ} فُجِّرَتْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: فُتِحَتْ وَسُيِّرَتْ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيم (2) {سُجِّرَتْ} فَاضَتْ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أَيْ: جُمِعَ كُلُّ شَكْلٍ إِلَى نَظِيرِهِ، كَقَوْلِهِ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصَّافَّاتِ: 22] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ سمَاك، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قَالَ: الضُّرَبَاءُ، كُلُّ رَجُلٍ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ كَانُوا يَعْمَلُونَ عَمَلَهُ"، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 7 -10] ، قَالَ: هُمُ الضُّرَبَاءُ (3) .
ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ، عَنْ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ عُمَر خَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} فَقَالَ: تَزَوّجها: أَنْ تُؤَلَّفَ (4) كُلُّ شِيعَةٍ إِلَى شِيعَتِهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: هُمَا الرَّجُلَانِ يَعْمَلَانِ الْعَمَلَ فَيَدْخُلَانِ بِهِ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ (5) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ النُّعْمَانِ قَالَ: سُئِلَ عُمَرُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} فَقَالَ: يُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَيُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ السُّوءِ مَعَ الرَّجُلِ السُّوءِ فِي النَّارِ، فَذَلِكَ تَزْوِيجُ الْأَنْفُسِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ النُّعْمَانِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلنَّاسِ: مَا تَقُولُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} ؟ فَسَكَتُوا. قَالَ: وَلَكِنْ هُوَ الرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالرَّجُلُ يُزَوَّجُ نَظِيرَهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ قَرَأَ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قَالَ: ذَلِكَ حِينَ يَكُونُ النَّاسُ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قَالَ: الأمثال من الناس جمع
__________
(1) لم يتقدم الكلام على الحديث في سورة "فاطر"، وهو في سنن أبي داود برقم (2489) من حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(2) في أ: "خيثم".
(3) ورواه ابن مردويه في تفسيره، كما في الدر المنثور (8/429) .
(4) في أ: "أن يؤلف الله".
(5) ورواه أبو بكر بن حمدان كما في مسند عمر (2/620) للمؤلف من طريق خلف بن الوليد، عن إسرائيل عن سماك بنحوه، ورواه عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ (2/284،285) ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سماك، عن النعمان، وعن إسرائيل، عن سماك، عن النعمان، ورواه الحاكم في المستدرك (2/515) من طريق سفيان عن سماك، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ(8/332)
بَيْنَهُمْ. وَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيم (1) وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
قَوْلٌ آخَرُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَشْعَثَ [بْنِ سَوَّارٍ] (2) ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَسِيلُ وَادٍ مَنْ أَصْلِ الْعَرْشِ مِنْ مَاءٍ فِيمَا بَيْنَ الصَّيْحَتَيْنِ، وَمِقْدَارُ مَا بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ عَامًا، فَيَنْبُتُ مِنْهُ كُلُّ خَلْقٍ بَلِيَ، مِنَ الْإِنْسَانِ أَوْ طَيْرٍ أَوْ دَابَّةٍ، وَلَوْ مَرَّ عَلَيْهِمْ مَارٌّ قَدْ عَرَفَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ لَعَرَفَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ. قَدْ نَبَتُوا، ثُمَّ تُرسَل الْأَرْوَاحُ فَتَزَوَّجُ الْأَجْسَادُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (3) : {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أَيْ: زُوِّجَتْ بِالْأَبْدَانِ. وَقِيلَ: زُوِّجَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَزُوِّجَ الْكَافِرُونَ بِالشَّيَاطِينِ. حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي "التَّذْكِرَةِ" (4) .
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} هَكَذَا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: {سُئلَت} وَالْمَوْءُودَةُ هِيَ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَدُسُّونَهَا فِي التُّرَابِ كَرَاهِيَةَ الْبَنَاتِ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تُسْأَلُ الْمَوْءُودَةُ عَلَى أَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَهْدِيدًا لِقَاتِلِهَا، فَإِذَا (5) سُئِلَ الْمَظْلُومُ فَمَا ظَنُّ الظَّالِمِ إِذًا؟!
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} أَيْ: سَأَلَتْ. وَكَذَا قَالَ أَبُو الضُّحَى: "سَأَلَتْ" أَيْ: طَالَبَتْ بِدَمِهَا. وَعَنِ السُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ، مِثْلُهُ (6) .
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْءُودَةِ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ-وَهُوَ: مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ-عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ جُدَامة بَنْتِ وَهْبٍ-أُخْتِ عُكَّاشَةَ-قَالَتْ حضرتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ وَهُوَ يَقُولُ: " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الغيلَة، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ فَإِذَا هُمْ يُغيلُونَ أَوْلَادَهُمْ، وَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا". ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ، وَهُوَ الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئِ-وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ-عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ (7) وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ السَّيْلَحِينِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ (8) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ
__________
(1) في أ: "خيثم".
(2) زيادة من م.
(3) في م، أ: "قول الله عز وجل".
(4) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 213) .
(5) في م: "فإنه إذا".
(6) انظر: تفسير الطبري (30/45) ، والبحر المحيط لأبي حيان (8/433) .
(7) المسند (6/434) ، وصحيح مسلم برقم (1442) .
(8) سنن ابن ماجة برقم (2011)(8/333)
أَنَسٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، بِهِ (1) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدي، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الجُعْفي قَالَ: انطلقتُ أَنَا وَأَخِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّنَا مُلَيْكَةَ كَانَتْ تَصل الرَّحِمَ وَتُقِرِّي الضَّيْفَ، وَتَفْعَلُ [وَتَفْعَلُ] (2) هَلَكَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهَلْ ذَلِكَ نَافِعُهَا شَيْئًا؟ قَالَ: "لَا". قُلْنَا: فَإِنَّهَا كَانَتْ وَأَدَتْ أُخْتًا لَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهَلْ ذَلِكَ نافعُها شَيْئًا؟ قَالَ: "الوائدةُ والموءودةُ فِي النَّارِ، إِلَّا أَنْ يدركَ الوائدةَ الإسلامُ، فَيَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهَا".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، بِهِ (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ (4) ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَلْقَمَةَ وَأَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْوَائِدَةُ وَالْمَوْءُودَةُ فِي النَّارِ" (5) .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، حَدَّثَتْنِي حَسْنَاءُ (6) ابْنَةُ مُعَاوِيَةَ الصُّرَيمية، عَنْ عَمِّهَا قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ وَالشَّهِيدُ فِي الْجَنَّةِ وَالْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالْمَوْءُودَةُ فِي الْجَنَّةِ" (7) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "الْمَوْءُودَةُ فِي الْجَنَّةِ".
هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْجَنَّةِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ فَقَدْ كَذَبَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (8) {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْمَدْفُونَةُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سمَاك بْنُ حَرْبٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [بأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] } (9) ، قَالَ: جَاءَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَأَدْتُ بَنَاتٍ لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: "أَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَقَبَةً". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي صَاحِبُ إِبِلٍ؟ قَالَ: "فَانْحَرْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَدَنَةً".
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1442) ، وسنن أبي داود برقم (3882) وسنن الترمذي برقم (2077) وسنن النسائي (6/106)
(2) زيادة من م، أوالمسند.
(3) المسند (3/478) وسنن النسائي الكبرى برقم (11649) .
(4) في أ: "التبريذي".
(5) ورواه أبو داود في السنن برقم (4717) من طريق أبي إسحاق، عن عامر، عن علقمة، عن ابن مسعود به، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/114) من طريق أبي إسحاق، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، به.
(6) في م، أ: "خنساء".
(7) المسند (5/58) .
(8) في م: "الله تعالى".
(9) زيادة من أ.(8/334)
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: خُولِفَ فِيهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَلَمْ نَكْتُبْهُ إِلَّا عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْهُ (1) .
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ (2) -فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ-قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: "وَأَدْتُ ثَمَانِ بَنَاتٍ لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ". وَقَالَ فِي آخِرِهِ: "فَأَهْدِ إِنْ شِئْتَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ (3) بَدَنَةً". ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنِ الْأَغَرِّ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ حُصَين قَالَ: قَدِمَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وأدتُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ابْنَةً لِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ-أَوْ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ-قَالَ (4) :" أَعْتِقْ عَدَدَهُنَّ نَسِما". قَالَ: فَأَعْتَقَ عَدَدَهُنَّ نَسَمًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ جَاءَ بِمِائَةِ نَاقَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ صَدَقَةُ قُومِي عَلَى أَثَرِ مَا صَنَعْتُ بِالْمُسْلِمِينَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: فَكُنَّا نُرِيحُهَا، وَنُسَمِّيهَا الْقَيْسِيَّةُ (5) .
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} قَالَ الضَّحَّاكُ: أُعْطِيَ كُلُّ إِنْسَانٍ صَحِيفَتَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: [صَحِيفَتُكَ] (6) يَا ابْنَ آدَمَ، تُملى فِيهَا، ثُمَّ تُطْوَى، ثُمَّ تُنْشَرُ عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلْيَنْظُرْ (7) رَجُلٌ مَاذَا يُمْلِي فِي صَحِيفَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: اجْتُذِبَتْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كُشِفَتْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَنْكَشِطُ فَتَذْهَبُ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} قَالَ السُّدِّيُّ: أُحْمِيَتْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أُوقَدَتْ. قَالَ: وَإِنَّمَا يُسَعِّرُهَا غَضَبُ اللَّهِ وَخَطَايَا بَنِي آدَمَ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} قَالَ الضَّحَّاكُ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيم (8) أَيْ: قَرُبَتْ إِلَى أَهْلِهَا.
وَقَوْلُهُ: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} هَذَا هُوَ الْجَوَابُ، أَيْ: إِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ حِينَئِذٍ تَعْلَمُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَأُحْضِرَ ذَلِكَ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آلِ عِمْرَانَ: 30] . وَقَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [الْقِيَامَةِ: 13] .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرّف، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} قَالَ عُمَرُ: لَمَّا بَلَغَ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} قال: لهذا أجرىَ الحديثُ.
__________
(1) مسند البزار برقم (2280) "كشف الأستار".
(2) في م، أ: "الطبراني".
(3) في م: "واحدة منهن".
(4) في م: "فقال".
(5) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (18/338) من طريق يحيى الحماني، عن قيس بن الربيع به نحوه، والحماني ضعيف لكنه توبع هنا.
(6) زيادة من تفسير الطبري (30/46) . مستفادا من هامش ط. الشعب.
(7) في م: "فينظر".
(8) في أ: "خيثم".(8/335)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِي الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) }
رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ حَدِيثِ مِسْعر بْنِ كِدَام، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ سَرِيع، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيث قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (1) .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَر، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيث، بِهِ نَحْوَهُ (2) .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُرَادٍ، عَنْ عَلِيٍّ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} قَالَ: هِيَ النُّجُومُ تَخْنِسُ بِالنَّهَارِ، وَتَظْهَرُ بِاللَّيْلِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عَرْعَرَةَ، سَمِعْتُ عَلِيًّا وَسُئِلَ عَنْ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} فَقَالَ: هِيَ النُّجُومُ، تخنِس بِالنَّهَارِ وَتَكْنُسُ بِاللَّيْلِ (3) .
وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِماك، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: هِيَ النُّجُومُ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ صَحِيحٌ إِلَى خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، وَهُوَ السَّهْمِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: رَوَى عَنْ عَلِيٍّ، وَرَوَى عَنْهُ سِمَاكٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ عَوْفٍ الشَّيْبَانِيُّ (4) وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَرْحًا وَلَا تَعْدِيلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى يُونُسُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهَا النُّجُومُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَكَذَا رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ: أَنَّهَا النُّجُومُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا هَوذة بْنُ خَلِيفَةَ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} قَالَ: هِيَ النُّجُومُ الدَّرَارِيُّ، الَّتِي تَجْرِي تستقبل المشرق.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (456) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (11651) .
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11650) .
(3) تفسير الطبري (30/47) .
(4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/343) .(8/336)
وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّمَا قِيلَ لِلنُّجُومِ: "الْخُنَّسُ"، أَيْ: فِي حَالِ طُلُوعِهَا، ثُمَّ هِيَ جِوَارٌ فِي فَلَكِهَا، وَفِي حَالِ غَيْبُوبَتِهَا يُقَالُ لَهَا: "كُنَّس" مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَوَى الظَّبْيُ إِلَى كنَاسة: إِذَا تَغَيَّبَ فِيهِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} قَالَ: بَقَرُ الْوَحْشِ. وَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} مَا هِيَ يَا عَمْرُو؟ قُلْتُ: الْبَقَرُ. قَالَ: وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ.
وَكَذَا رَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} قَالَ: الْبَقَرُ [الْوَحْشُ] (1) تَكْنُسُ إِلَى الظِّلِّ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الظِّبَاءُ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدٌ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ.
وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: هِيَ الظِّبَاءُ وَالْبَقَرُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا هُشَيْم، أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ (2) عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُمَا تَذَاكَرَا هَذِهِ الْآيَةَ: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِمُجَاهِدٍ: قُلْ فِيهَا بِمَا سَمِعْتَ. قَالَ: فَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُنَّا نَسْمَعُ فِيهَا شَيْئًا، وَنَاسٌ يَقُولُونَ: إِنَّهَا النُّجُومُ. قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: قُلْ فِيهَا بِمَا سَمِعْتَ. قَالَ: فَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُنَّا نَسْمَعُ أَنَّهَا بَقَرُ الْوَحْشِ حِينَ تَكْنُسُ فِي حُجْرتها. قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَى عَلَيٍّ، هَذَا كَمَا رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ ضَمَّنَ الْأَسْفَلُ الْأَعْلَى، وَالْأَعْلَى الْأَسْفَلَ.
وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ: {الْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ} هَلْ هُوَ النُّجُومُ، أَوِ الظِّبَاءُ وَبَقَرُ الْوَحْشِ؟ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِقْبَالُهُ بِظَلَامِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَظْلَمَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا نَشَأَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِذَا غَشى النَّاسَ. وَكَذَا قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {إِذَا عَسْعَسَ} إِذَا أَدْبَرَ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَكَذَا قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: {إِذَا عَسْعَسَ} أَيْ: إِذَا ذَهَبَ فَتَوَلَّى.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي البَخْتَري، سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِينَ ثَوّب الْمُثَوِّبُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ: أَيْنَ السَّائِلُونَ عَنِ الْوِتْرِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} ؟ هذا حين أدبر حسن.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ: "سفيان".(8/337)
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {إِذَا عَسْعَسَ} إِذَا أَدْبَرَ. قَالَ لِقَوْلِهِ: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أَيْ: أَضَاءَ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ (1) أَيْضًا:
حَتّى إِذَا الصُّبحُ لَهُ تَنَفَّسا ... وانجابَ عَنها لَيلُها وعَسعَسَا ...
أَيْ: أَدْبَرَ. وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {عَسْعَسَ} إِذَا أَقْبَلَ، وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْإِدْبَارِ، لَكِنَّ الْإِقْبَالَ هَاهُنَا أَنْسَبُ؛ كَأَنَّهُ أَقْسَمَ تَعَالَى بِاللَّيْلِ (2) وَظَلَامِهِ إِذَا أَقْبَلَ، وَبِالْفَجْرِ وَضِيَائِهِ إِذَا أَشْرَقَ، كَمَا قَالَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [اللَّيْلِ: 1، 2] ، وَقَالَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضُّحَى: 1، 2] ، وَقَالَ {فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الْأَنْعَامِ: 96] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ: إِنَّ لَفْظَةَ "عَسْعَسَ" تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَزْعُمُ أَنَّ "عَسْعَسَ": دَنَا مِنْ أَوَّلِهِ وَأَظْلَمَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ أَبُو الْبِلَادِ (3) النَّحْوِيُّ يُنشد بَيْتًا:
عَسعَس حَتَّى لَوْ يَشَاءُ ادَّنَا ... كانَ لَهُ مِنِ ضَوئه مَقبس ...
يُرِيدُ: لَوْ يَشَاءُ إِذْ دَنَا، أُدْغِمَ الذَّالَ فِي الدَّالِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَكَانُوا يَرَون أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ مَصْنُوعٌ (4) .
وَقَوْلُهُ: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} قَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا طَلَعَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا أَضَاءَ وَأَقْبَلَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا نَشَأَ. وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي: وَضَوءُ النَّهَارِ إِذَا أَقْبَلَ وَتَبَيَّن.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لتبليغُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، أَيْ: مَلَكٌ شَرِيفٌ حَسَن الْخَلْقِ، بَهِيُّ الْمَنْظَرِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْران، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُهُمْ.
{ذِي قُوَّةٍ} كَقَوْلِهِ {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ [فَاسْتَوَى] (5) } [النَّجْمِ: 5، 6] ، أَيْ: شَدِيدُ الخَلْق، شَدِيدُ الْبَطْشِ وَالْفِعْلِ، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أَيْ: لَهُ مَكَانَةٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ.
قَالَ أَبُو صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} قَالَ: جبريل يدخل في سبعين حجابا من
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (30/50) منسوبا إلى علقمة بن قرط.
(2) في م: "بالفجر".
(3) في أ: "أبو التلاد".
(4) تفسير الطبري (30/50)
(5) زيادة من أ.(8/338)
نُورٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ، {مُطَاعٍ ثَمَّ} أَيْ: لَهُ وَجَاهَةٌ، وَهُوَ مَسْمُوعُ الْقَوْلِ مُطَاعٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى.
قَالَ قَتَادَةُ: {مُطَاعٍ ثَمَّ} أَيْ: فِي السَّمَوَاتِ، يَعْنِي: لَيْسَ هُوَ مِنْ أَفْنَادِ الْمَلَائِكَةِ، بَلْ هُوَ مِنَ السَّادَةِ وَالْأَشْرَافِ، مُعتَنى بِهِ، انْتُخِبَ لِهَذِهِ الرِّسَالَةِ الْعَظِيمَةِ.
وَقَوْلُهُ: {أَمِينٍ} صِفَةٌ لِجِبْرِيلَ بِالْأَمَانَةِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا أَنَّ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ يُزَكِّي عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ الْمَلَكِيَّ جِبْرِيلَ كَمَا زَكَّى عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ الْبَشَرِيَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}
قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ} يَعْنِي: وَلَقَدْ رَأَى محمدٌ جِبْرِيلَ الَّذِي يَأْتِيهِ بِالرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةُ جَنَاحٍ {بِالأفُقِ الْمُبِينِ} أَيِ: الْبَيِّنُ، وَهِيَ الرُّؤْيَةُ الْأَوْلَى الَّتِي كَانَتْ بِالْبَطْحَاءِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إَلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النَّجْمِ: 5 -10] ، كَمَا تَقَدَّمَ تفسيرُ ذَلِكَ وَتَقْرِيرُهُ. والدليلُ أَنَّ المرادَ بِذَلِكَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالظَّاهِرُ-وَاللَّهُ أَعْلَمُ-أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الرُّؤْيَةَ وَهِيَ الْأُولَى، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النَّجْمِ: 13 -16] ، فَتِلْكَ إِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ "النَّجْمِ"، وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ [سُورَةِ] (1) الْإِسْرَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أَيْ: وَمَا مُحَمَّدٌ عَلَى مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِظَنِينٍ، أَيْ: بِمُتَّهَمٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِالضَّادِ، أَيْ: بِبَخِيلٍ، بَلْ يَبْذُلُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ.
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَينة: ظَنِينٌ وَضَنِينٌ سَوَاءٌ، أَيْ: مَا هُوَ بِكَاذِبٍ، وَمَا هُوَ بِفَاجِرٍ. وَالظَّنِينُ: الْمُتَّهَمُ، وَالضَّنِينُ: الْبَخِيلُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْقُرْآنُ غَيْبًا، فَأَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَمَا ضَنّ بِهِ عَلَى النَّاسِ، بَلْ بَلَّغه وَنَشَرَهُ وَبَذَلَهُ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَهُ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَاخْتَارَ ابنُ جَرِيرٍ قِرَاءَةَ الضَّادِ (2) .
قُلْتُ: وَكِلَاهُمَا مُتَوَاتِرٌ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أَيْ: وَمَا هَذَا الْقُرْآنُ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، أَيْ: لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ، وَلَا يُرِيدُهُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ. كَمَا قَالَ: {وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 -212] .
__________
(1) زيادة من م.
(2) تفسير الطبري (30/53) .(8/339)
وَقَوْلُهُ: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} ؟ أَيْ: فَأَيْنَ تَذْهَبُ عُقُولُكُمْ فِي تَكْذِيبِكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، مَعَ ظُهُورِهِ وَوُضُوحِهِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِ جَاءَ (1) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِوَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ حِينَ قَدِمُوا مُسْلِمِينَ، وَأَمَرَهُمْ فَتَلَوْا عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ قُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْهَذَيَانِ وَالرَّكَاكَةِ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ، أَيْنَ يُذهَب بِعُقُولِكُمْ (2) ؟ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلٍّ، أَيْ: مِنْ إِلَهٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أَيْ: عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَعَنْ طَاعَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، يَتَذَكَّرُونَ بِهِ وَيَتَّعِظُونَ، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} أَيْ: مَنْ أَرَادَ الْهِدَايَةَ فَعَلَيْهِ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ منجاةٌ لَهُ وَهِدَايَةٌ، وَلَا هِدَايَةَ فِيمَا سِوَاهُ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: لَيْسَتِ الْمَشِيئَةُ مَوْكُولَةً إِلَيْكُمْ، فَمَنْ شَاءَ اهْتَدَى وَمَنْ شَاءَ ضَلَّ، بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ تَابِعٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} قَالَ أَبُو جَهْلٍ: الْأَمْرُ إِلَيْنَا، إِنْ شِئْنَا اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَسْتَقِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (3) } .
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "التكوير" ولله الحمد [والمنة] (4) .
__________
(1) في م "حقا".
(2) في م: "أين تذهب عقولكم".
(3) رواه الطبري في تفسيره (30/53) .
(4) زيادة من م.(8/340)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الِانْفِطَارِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَدَامَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دثَار، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَامَ مُعَاذٌ فَصَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَطَوَّلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ؟! [أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ؟!] (1) أَيْنَ كُنْتَ عَنْ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالضُّحَى، وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ؟! " (2) .
وَأَصْلُ الْحَدِيثِ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ (3) وَلَكِنْ ذُكَر " إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ " فِي (4) أَفْرَادِ النَّسَائِيِّ. وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ سَرَّه أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْقِيَامَةِ رأي عين فليقرأ: " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ " و " إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ " وَ " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " " (5) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) }
يَقُولُ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} أَيِ: انْشَقَّتْ. كَمَا قَالَ: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِه} [الزُّمَرِ: 18] .
{وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} أَيْ: تَسَاقَطَتْ.
{وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَجَّرَ اللَّهُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَجَّرَ اللَّهُ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ، فَذَهَبَ مَاؤُهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: اخْتَلَطَ مَالِحُهَا بِعَذْبِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُلِئَتْ.
{وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُحِثَت. وَقَالَ السُّدِّيُّ: تُبَعثر: تُحرّك فَيَخْرُجُ مَنْ فِيهَا.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} أَيْ: إِذَا كَانَ هَذَا حَصَل هَذَا.
وقوله: {يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ؟ : هَذَا تَهْدِيدٌ، لا كما يتوهمه بعض الناس
__________
(1) زيادة من سنن النسائي.
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11652) .
(3) صحيح البخاري برقم (700، 711) وصحيح مسلم برقم (465) .
(4) في م، أ: "من".
(5) تقدم تخريج الحديث عند تفسير سورة التكوير، وهو في سنن الترمذي برقم (3333) .(8/341)
مِنْ أَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى الْجَوَابِ؛ حَيْثُ قَالَ: {الْكَرِيمِ} حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ: غَرَّهُ كَرَمُهُ. بَلِ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَا غَرَّكَ يَا ابْنَ آدَمَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ-أَيِ: الْعَظِيمِ-حَتَّى أَقْدَمْتَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَقَابَلْتَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ؟ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ابْنَ (1) آدَمَ، مَا غَرَّكَ بِي؟ ابْنَ آدَمَ، مَاذَا أجبتَ الْمُرْسَلِينَ؟ ".
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ: أَنَّ عُمَرَ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: {يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فَقَالَ عُمَرُ: الْجَهْلُ (2) .
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّة، حَدَّثَنَا أَبُو خَلَفٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْبَكَّاءُ، سَمِعْتُ ابن عمر يقول وقرأ هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ: غَرَّهُ-وَاللَّهِ-جَهْلُهُ.
قَالَ: ورُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالرَّبِيعِ بْنِ خُثَيم (3) وَالْحَسَنِ، مِثْلُ ذَلِكَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} شيءٌ، مَا غَرّ ابْنَ آدَمَ غَيْرُ هَذَا الْعَدْوِ الشَّيْطَانِ.
وَقَالَ الْفَضِيلُ بْنُ عِيَاضٍ: لَوْ قَالَ لِي:"مَا غَرَّكَ بِي (4) لَقُلْتُ: سُتُورك المُرخاة.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: لَوْ قَالَ لِي: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} لَقُلْتُ: غَرَّنِي كَرَمُ الْكَرِيمِ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْإِشَارَةِ: إِنَّمَا قَالَ: {بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} دُونَ سَائِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، كَأَنَّهُ لَقَّنَهُ الْإِجَابَةَ (5) .
وَهَذَا الَّذِي تَخَيَّلَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَيْسَ بِطَائِلٍ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِاسْمِهِ {الْكَرِيم} ؛ لِيُنَبِّهَ (6) عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَابَل الْكَرِيمُ بِالْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ، وَأَعْمَالِ السُّوءِ.
وَ [قَدْ] (7) حَكَى الْبَغَوِيُّ، عَنِ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ أَنَّهُمَا قَالَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَسْوَدِ بْنِ شَريق، ضَرَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُعَاقَبْ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ؟ (8) .
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} أَيْ: مَا غَرَّكَ بِالرَّبِّ الْكَرِيمِ {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} أَيْ: جَعَلَكَ سَويا مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ مُنْتَصِبَهَا، فِي أَحْسَنِ الْهَيْئَاتِ وَالْأَشْكَالِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا حَريزُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَيسرة، عَنْ جُبير ابن نُفَير، عَنْ بُسْر بْنِ جحَاش الْقُرَشِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ، فَوَضَعَ عَلَيْهَا أُصْبُعَهُ، ثُمَّ قَالَ: "قَالَ اللَه عَزَّ وَجَلَّ: ابْنَ (9) آدَمَ أنَّى تُعجِزني وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ؟ حتى
__________
(1) في م: "يا ابن".
(2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/439) وعزاه لابن المنذر وسعيد بن منصور أيضا.
(3) في أ: "خيثم".
(4) في أ: "بربك".
(5) معالم التنزيل للبغوي (8/356) .
(6) في أ: "للتنبيه".
(7) زيادة من م.
(8) معالم التنزيل للبغوي (8/356) .
(9) في م: "يا ابن".(8/342)
إِذَا سَوّيتك وَعَدَلْتُكَ، مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فجَمَعت ومَنعت، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي قلتَ: أتصدقُ، وأنَّى أوانُ الصَّدَقَةِ".
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ حَريز بْنِ عُثْمَانَ، بِهِ (1) .
قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ المزِّي: وَتَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَيْسَرَةَ (2) .
وَقَوْلُهُ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَيِّ شَبَه أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَوْ خَالٍ أَوْ عَمٍّ؟
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، حَدَّثَنَا مُطَهَّر بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بنُ عُلَيِّ بْنِ رَبَاح، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "مَا وُلِدَ لَكَ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَسَى أَنْ يُولَد لِي؟ إِمَّا غُلَامٌ وَإِمَّا جَارِيَةٌ. قَالَ: "فَمَنْ يُشْبِهُ؟ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ عَسَى أَنْ يُشْبِهَ؟ إِمَّا أَبَاهُ وَإِمَّا أُمَّهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا: "مَهْ. لَا تقولَنَّ هَكَذَا، إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَحْضَرَهَا اللَّهُ كُلَّ نَسَبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آدَمَ؟ أَمَا قَرَأْتَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} " قَالَ: سَلَكك (3) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مُطهر بْنِ الْهَيْثَمِ، بِهِ (4) وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ فَيْصَلًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ لَيْسَ بِالثَّابِتِ؛ لَأَنَّ "مُطَهَّر بْنَ الْهَيْثَمِ" قَالَ فِيهِ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ: كَانَ مَتْرُوكَ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يُرْوى عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مَا لَا يُشبهُ حَديثَ الْأَثْبَاتِ. وَلَكِنْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيرة أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدت غُلامًا أسودَ؟. قَالَ: "هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَمَا أَلْوَانُهَا؟ " قَالَ: حُمر. قَالَ: "فَهَلْ فِيهَا مَنْ أورَق؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَأَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ؟ " قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزْعَةَ عِرْق. قَالَ: "وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزْعَةَ عِرْقٍ" (5) .
وَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْلِهِ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} إِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ قِرْدٍ، وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةٍ خِنْزِيرٍ. وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ: إِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ كَلْبٍ، وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ حِمَارٍ، وَإِنْ شَاءَ فِي صُورَةِ خِنْزِيرٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} قَالَ: قَادِرٌ-وَاللَّهِ -رَبُّنَا عَلَى ذَلِكَ. وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ: أَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ النُّطْفَةِ عَلَى شكل قبيح من الحيوانات
__________
(1) المسند (4/210) وسنن ابن ماجة برقم (2707) وقال البوصيري في الزوائد (2/365) : "إسناد صحيح رجاله ثقات".
(2) تحفة الأشراف للمزي (2/97) .
(3) في م: "شكلك".
(4) المعجم الكبير (5/74) .
(5) صحيح البخاري برقم (5305) وصحيح مسلم برقم (1500) .(8/343)
الْمُنْكَرَةِ الْخَلْقِ، وَلَكِنْ بِقُدْرَتِهِ وَلُطْفِهِ وَحِلْمِهِ يَخْلُقُهُ عَلَى شَكْلٍ حَسَنٍ مُسْتَقِيمٍ مُعْتَدِلٍ تَامٍّ، حَسَن الْمَنْظَرِ وَالْهَيْئَةِ.
وَقَوْلُهُ: {كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} أَيْ: بَلْ إِنَّمَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى مُوَاجَهَةِ الْكَرِيمِ وَمُقَابَلَتِهِ بِالْمَعَاصِي، تَكْذِيبٌ فِي قُلُوبِكُمْ بِالْمَعَادِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} يَعْنِي: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَمَلَائِكَةً حَفَظَة كِرَامًا فَلَا تُقَابِلُوهُمْ بِالْقَبَائِحِ، فَإِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ عَلَيْكُمْ جَمِيعَ أَعْمَالِكُمْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّنَافِسِيّ، حَدَّثَنَا وَكيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ومِسْعَر، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَد، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْرِمُوا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إِحْدَى حَالَتَيْنِ: الْجَنَابَةِ وَالْغَائِطِ. فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ بِحَرَمِ حَائِطٍ أَوْ بِبَعِيرِهِ، أَوْ لِيَسْتُرْهُ أَخُوهُ".
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، فَوَصَلَهُ بِلَفْظٍ آخَرَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنِ التعرِّي، فَاسْتَحْيُوا مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ الَّذِينَ مَعَكُمْ، الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، الَّذِينَ لَا يُفَارقونكم إِلَّا عِنْدَ إِحْدَى ثَلَاثِ حَالَاتٍ: الْغَائِطِ، وَالْجَنَابَةِ، وَالْغُسْلِ. فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ بِالْعَرَاءِ فَلْيَسْتَتِرْ بِثَوْبِهِ، أَوْ بِحَرَمِ حَائِطٍ، أَوْ بِبَعِيرِهِ".
ثُمَّ قَالَ: حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ، وَاحْتُمِلَ حَدِيثُهُ (1) .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا مُبَشّر بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَلَبِيُّ، حَدَّثَنَا تمام ابن نَجِيح، عَنِ الْحَسَنِ-يَعْنِي الْبَصْرِيَّ-عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ حَافِظَيْنِ يَرْفَعَانِ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مَا حَفِظَا فِي يَوْمٍ، فَيَرَى فِي أَوَّلِ الصَّحِيفَةِ وَفِي آخِرِهَا اسْتِغْفَارٌ إِلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي مَا بَيْنَ طَرَفَيِ الصَّحِيفَةِ".
ثُمَّ قَالَ:تَفَرَّدَ بِهِ تَمَّامُ بْنُ نَجِيحٍ، وَهُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ (2) .
قُلْتُ: وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو زُرْعة، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ. وَرَمَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِالْوَضْعِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا أَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ الْمَعْرُوفُ بالقُلُوسِي (3) حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ حِمْرَانَ (4) حَدَّثَنَا سَلَامٌ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً (5) يَعْرِفُونَ بَنِي آدَمَ-وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَيَعْرِفُونَ أَعْمَالَهُمْ-فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى عَبْدٍ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ ذَكَرُوهُ بَيْنَهُمْ وسَمَّوه، وَقَالُوا: أَفْلَحَ اللَّيْلَةَ فُلَانٌ، نَجَا اللَّيْلَةَ فُلَانٌ. وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى عَبْدٍ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَذَكَرُوهُ بَيْنَهُمْ وَسَمَّوْهُ، وقالوا:هلك الليلة فلان".
__________
(1) مسند البزار برقم (317) "كشف الأستار".
(2) مسند البزار برقم (3252) "كشف الأستار".
(3) في مسند البزار: "الفلوسي" نسبة إلى الفلوس.
(4) في أ: "عمران".
(5) في م: "إن ملائكة الله".(8/344)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: سَلَامٌ هَذَا، أَحْسَبُهُ سَلَامٌ الْمَدَائِنِيُّ، وَهُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ (1) .
{إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يَصِيرُ الْأَبْرَارُ إِلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَطَاعُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُقَابِلُوهُ بِالْمَعَاصِي.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ "مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ"، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَارِبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ الْأَبْرَارَ لِأَنَّهُمْ بَروا الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ" (2) .
ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْفُجَّارُ مِنَ الْجَحِيمِ وَالْعَذَابِ الْمُقِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} أَيْ: يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْقِيَامَةِ، {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} أَيْ: لَا يَغِيبُونَ عَنِ الْعَذَابِ سَاعَةً وَاحِدَةً، وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا، وَلَا يُجَابُونَ إِلَى مَا يَسْأَلُونَ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الرَّاحَةِ، وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أَيْ:لَا يَقْدِرُ وَاحِدٌ (3) عَلَى نَفْعِ أَحَدٍ وَلَا خَلَاصِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى.
وَنَذْكُرُ هَاهُنَا حَدِيثَ: "يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا". وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الشُّعَرَاءِ"؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} كَقَوْلِهِ {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غَافِرٍ: 16] ، وَكَقَوْلِهِ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الْفُرْقَانِ: 26] ، وَكَقَوْلِهِ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَةِ: 4] .
قَالَ قَتَادَةُ:} يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وَالْأَمْرُ-وَاللَّهِ-الْيَوْمَ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهُ يَوْمَئِذٍ لَا يُنَازِعُهُ أَحَدٌ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "الانفطار" ولله الحمد.
__________
(1) مسند البزار برقم (2195) "كشف الأستار".
(2) تاريخ دمشق (17/400 "المخطوط") .
(3) في أ: "أحد".(8/345)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) }
قَالَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُقَيْلٍ -زَادَ ابْنُ مَاجَهْ: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ-قَالَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَزِيدَ-هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ النَّحْوِيِّ، مَوْلَى قُرَيْشٍ-عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فحسنَّوا الكيلَ بَعْدَ ذَلِكَ (1) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ طَلْقٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَقُلْتُ: مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ هَيْئَةً وَأَوْفَاهُ كَيْلًا؟ أَهْلُ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: حَقٌّ لَهُمْ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ ضِرَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْمُكْتِبِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَيُوَفُّونَ الْكَيْلَ. قَالَ: وَمَا يَمْنَعُهُمْ أَنْ يُوَفُّوا الْكَيْلَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} حَتَّى بَلَغَ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .
فَالْمُرَادُ بِالتَّطْفِيفِ هَاهُنَا: البَخْس فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، إِمَّا بِالِازْدِيَادِ إِنِ اقْتَضَى مِنَ النَّاسِ، وَإِمَّا بِالنُّقْصَانِ إِنْ قَضَاهم. وَلِهَذَا فَسَّرَ تَعَالَى الْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ بالخَسَار والهَلاك وَهُوَ الْوَيْلُ، بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أَيْ: مِنَ النَّاسِ {يَسْتَوْفُونَ} أَيْ: يَأْخُذُونَ حَقَّهُمْ بِالْوَافِي وَالزَّائِدِ، {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أَيْ: يَنْقِصُونَ. وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُجْعَلَ "كَالُوا" وَ "وَزَنِوا" مُتَعَدِّيًا، وَيَكُونُ هُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا ضَمِيرًا مُؤَكِّدًا لِلْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: "كَالُوا" وَ "وَزَنُوا"، وَيُحْذَفُ الْمَفْعُولُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عليه، وكلاهما متقارب.
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11654) وسنن ابن ماجة برقم (2223) .
(2) تفسير الطبري (30/58) .(8/346)
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ-تَعَالَى-بِالْوَفَاءِ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، فَقَالَ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 35] ، وَقَالَ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الْأَنْعَامِ: 152] ، وَقَالَ: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرَّحْمَنِ: 9] . وَأَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمَ شُعَيْبٍ ودَمَّرهم عَلَى مَا كَانُوا يَبْخَسُونَ النَّاسَ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا لَهُمْ: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} ؟ أَيْ: أَمَا يخافُ أُولَئِكَ مِنَ الْبَعْثِ وَالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَي مَنْ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالضَّمَائِرَ، فِي يَوْمٍ عَظِيمِ الْهَوْلِ، كَثِيرِ الْفَزَعِ، جَلِيلِ الْخَطْبِ، مَنْ خَسِرَ فِيهِ أُدْخِلَ نَارًا حَامِيَةً؟
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ: يَقُومُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرلا فِي مَوْقِفٍ صَعْبٍ حَرج ضَيِّقٍ ضنَك عَلَى الْمُجْرِمِ، وَيَغْشَاهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ-مَا تَعْجزُ الْقُوَى وَالْحَوَاسُّ عَنْهُ.
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، بِهِ (1) . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ صَالِحٌ [وَثَابِتُ بْنُ كَيْسَانَ] (2) وَأَيُّوبُ بْنُ يَحْيَى، وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، بِهِ (3) .
وَلَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ::" {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} لعظَمة الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى إِنَّ العرقَ ليُلجِمُ الرجالَ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ" (4) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ-يَعْنِي ابْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ-قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا كَانَ يومُ الْقِيَامَةِ أدنِيَت الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ، حَتَّى تَكُونَ قيدَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ، قَالَ: فَتُصْهِرُهُمُ الشَّمْسُ، فَيَكُونُونَ فِي العَرق كقَدْر أَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبيه، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيه، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُوسَى، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ-وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ سُوَيْدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ-كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، بِهِ (5) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَوَّار، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عن معاوية
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2862،6531) .
(2) زيادة من أ.
(3) صحيح مسلم برقم (2862) .
(4) المسند (2/31) .
(5) المسند (6/3) وصحيح مسلم برقم (2864) وسنن الترمذي يرقم (2421) .(8/347)
ابن صَالِحٍ: أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مِيلٍ، وَيُزَادُ فِي حَرِّهَا كَذَا وَكَذَا، تَغْلِي مِنْهَا الْهَوَامُّ كَمَا تَغْلِي الْقُدُورُ، يُعرَقون فِيهَا عَلَى قَدْرِ خَطَايَاهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى وَسَطِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ". انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا أَبُو عُشَّانة حَي بْنُ يُؤمِنُ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ: سمعتُ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الْأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ عَقِبيه، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ العَجُز، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْخَاصِرَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ مَنْكِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسَطَ فِيهِ-وَأَشَارَ بِيَدِهِ فَأَلْجَمَهَا فَاهُ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ هَكَذَا-وَمِنْهُمْ مَنْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ". وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِشَارَةً. انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ (2) .
وَفِي حَدِيثٍ: أَنَّهُمْ يَقُومُونَ سَبْعِينَ سَنَةً لَا يَتَكَلَّمُونَ. وَقِيلَ: يَقُومُونَ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: يَقُومُونَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَيُقْضَى بَيْنَهُمْ فِي مِقْدَارِ عَشْرَةِ (3) آلَافِ سَنَةٍ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيرة مَرْفُوعًا: "فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ" (4) .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عَوْنِ الزِّيَادَيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَجْلان، سَمِعْتُ أَبَا يَزِيدَ الْمَدَنِيَّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (5) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ (6) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَشِيرِ (7) الْغِفَارِيِّ: "كَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ فِي يَوْمٍ يَقُومُ النَّاسُ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةَ سَنَةٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، لَا يَأْتِيهِمْ فِيهِ خَبَرٌ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا يُؤْمَرُ فِيهِ بِأَمْرٍ؟ ". قَالَ بَشِيرٌ: الْمُسْتَعَانُ اللَّهُ. قَالَ: "فَإِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ كَرْب يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَسُوءِ الْحِسَابِ".
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلَامِ، بِهِ (8) .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (9) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: يَقُومُونَ أَرْبَعِينَ سَنَةً رَافِعِي رُءُوسِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، لَا يُكَلِّمُهُمْ أَحَدٌ، قَدْ أَلْجَمَ الْعَرَقُ بَرّهم وَفَاجِرَهُمْ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: يَقُومُونَ مِائَةَ سَنَةٍ. رَوَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ (10) .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ
صالح،
__________
(1) المسند (5/254) .
(2) المسند (4/157) .
(3) في أ: "عدة".
(4) صحيح مسلم برقم (987) .
(5) في م: "عن أبي هريرة مرفوعا".
(6) في م، أ: "قال رسول الله".
(7) في أ: "لبشر".
(8) تفسير الطبري (30/59) .
(9) سنن أبي داود برقم (766) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(10) تفسير الطبري (30/59) .(8/348)
عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَوَارِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ قِيَامَ اللَّيْلِ: يَكَبِّرُ عَشْرًا، وَيَحْمَدُ عَشْرًا، وَيُسَبِّحُ عَشْرًا، وَيَسْتَغْفِرُ عَشْرًا، وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي". وَيَتَعَوَّذُ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ القيامة (1) .
__________
(1) سنن أبي داود برقم (766) وسنن النسائي (3/208) وسنن ابن ماجة برقم (1356) .(8/349)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
{كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (13) كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) }
يَقُولُ: حَقًّا {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} أَيْ: إِنَّ مَصِيرَهُمْ وَمَأْوَاهُمْ لَفِي سِجِّينٍ-فِعِيلٍ مِنَ السَّجن، وَهُوَ الضِّيِقُ-كَمَا يُقَالُ: فِسِّيقٌ وَشِرِّيبٌ وَخِمِّيرٌ وَسِكِّيرٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَلِهَذَا عَظُمَ أَمْرُهُ فَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} ؟ أَيْ: هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَسِجْنٌ مُقِيمٌ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ.
ثُمَّ قَدْ قَالَ قَائِلُونَ: هِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي رُوحِ الْكَافِرِ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ.
وَسَجِّينٌ: هِيَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقِيلَ: صَخْرَةٌ تَحْتَ السَّابِعَةِ خَضْرَاءُ. وَقِيلَ: بِئْرٌ فِي جَهَنَّمَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا غَرِيبًا مُنْكَرًا لَا يَصِحُّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مسعود بن موسى بن مُشكان الواسطي، حدثنا نَصر بْنُ خُزَيمة الْوَاسِطِيُّ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْفَلَقُ: جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ (1) مُغَطَّى، وَأَمَّا سِجِّينٌ فَمَفْتُوحٌ" (2) .
وَالصَّحِيحُ أَنْ "سِجِّينًا" مَأْخُوذٌ مِنَ السَّجن، وَهُوَ الضِّيقُ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلُّ مَا تَسَافَلَ مِنْهَا ضَاقَ، وَكُلُّ مَا تَعَالَى مِنْهَا اتَّسَعَ، فَإِنَّ الْأَفْلَاكَ السَّبْعَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَوْسَعُ وَأَعْلَى مِنَ الَّذِي دُونَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَوْسَعُ مِنَ الَّتِي دُونَهَا، حَتَّى يَنْتَهِيَ السُّفُولُ الْمُطْلَقُ وَالْمَحَلُّ الْأَضْيَقُ إِلَى الْمَرْكَزِ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَلَمَّا كَانَ مَصِيرُ الْفُجَّارِ إِلَى جَهَنَّمَ وَهِيَ أَسْفَلُ السَّافِلِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التِّينِ] : 5، 6] . وَقَالَ هَاهُنَا: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} وَهُوَ يَجْمَعُ الضِّيقَ والسفول، كما قال:
__________
(1) في م: "في وادي جهنم".
(2) تفسير الطبري (30/61) .(8/349)
{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الْفُرْقَانِ: 13] .
وَقَوْلُهُ: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} لَيْسَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ (1) لِمَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى سِجِّينٍ، أَيْ: مَرْقُومٌ مَكْتُوبٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، لَا يُزَادُ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ أَحَدٌ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ.
ثُمَّ قَالَ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أَيْ: إِذَا صَارُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَا أَوْعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ السَّجن وَالْعَذَابِ الْمُهِينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَيْلٌ} بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ (2) الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ، كَمَا يُقَالُ: وَيْلٌ لِفُلَانٍ. وَكَمَا جَاءَ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ بَهْز بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيَدة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّث فَيَكْذِبُ، ليضحِكَ النَّاسَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ" (3) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُفَسِّرًا لِلْمُكَذِّبِينَ الْفُجَّارِ الْكَفَرَةِ: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أَيْ: لَا يُصَدِّقُونَ بِوُقُوعِهِ، وَلَا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَهُ، وَيَسْتَبْعِدُونَ أَمْرَهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أَيْ: مُعْتَدٍ فِي أَفْعَالِهِ؛ مِنْ تَعَاطِي الْحَرَامِ وَالْمُجَاوَزَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ وَالْأَثِيمِ (4) فِي أَقْوَالِهِ: إِنْ حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِنْ وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِنْ خَاصَمَ فَجَرَ.
وَقَوْلُهُ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} أَيْ: إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنَ الرَّسُولِ، يُكَذِّبُ بِهِ، وَيَظُنُّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُفْتَعَلٌ مَجْمُوعٌ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [النَّحْلِ: 24] ، وَقَالَ: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الْفُرْقَانِ: 5] ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا وَلَا كَمَا قَالُوا، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، بَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا حَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الرَّيْن الَّذِي قَدْ لَبِسَ قُلُوبَهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وَالرَّيْنُ يَعْتَرِي قلوبَ الْكَافِرِينَ، وَالْغَيْمُ لِلْأَبْرَارِ، وَالْغَيْنُ لِلْمُقَرَّبِينَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلان، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ مِنْهَا صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (5) .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِت فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِل قَلْبُهُ، فَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَهُوَ الرَّانُ الَّذِي قال
__________
(1) في م: "تقرير".
(2) في أ: "ذلك أنه".
(3) المسند (5/5،7) وسنن أبي داود برقم (4990) وسنن الترمذي برقم (2315) وسنن النسائي الكبرى برقم (11655) .
(4) في أ: "والإثم".
(5) تفسير الطبري (30/62) وسنن الترمذي برقم (3334) وسنن النسائي الكبرى برقم (11658) وسنن ابن ماجة برقم (4244) .(8/350)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
الله: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
وَقَالَ أَحْمَدُ:حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَجْلان، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِل قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَذَاكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} " (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ، حَتَّى يَعْمَى الْقَلْبُ، فَيَمُوتُ. وَكَذَا قال مجاهد ابن جَبْرٍ وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} أَيْ: لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنزلٌ وَنُزُلٌ سِجِّينٌ، ثُمَّ هُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ (2) ذَلِكَ مَحْجُوبُونَ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ: [فِي] (3) هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَئِذٍ (4) .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَنْطُوقُ قَوْلِهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [الْقِيَامَةِ: 22، 23] . وَكَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ (5) الْمُتَوَاتِرَةُ فِي رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، رُؤْيَةٌ بِالْأَبْصَارِ فِي عَرَصات الْقِيَامَةِ، وَفِي رَوْضَاتِ الْجِنَانِ الْفَاخِرَةِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ [مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ] (6) : حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ المنْقَريّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ ابن سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} قَالَ: يُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ، ثُمَّ يُحْجَبُ عَنْهُ الْكَافِرُونَ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ. كُلّ يَوْمٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً-أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} أَيْ: ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا الْحِرْمَانِ عَنْ رُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ، {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالتَّصْغِيرِ وَالتَّحْقِيرِ.
{كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) }
__________
(1) المسند (2/297) .
(2) في م: "بعد".
(3) زيادة من م، أ.
(4) رواه البيهقي في مناقب الشافعي (1/419) .
(5) في م: "الصحيحة".
(6) زيادة من م، أ.(8/351)
يَقُولُ تَعَالَى: حَقًّا {إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ} وَهُمْ بِخِلَافِ الْفُجَّارِ، {لَفِي عِلِّيِّينَ} أَيْ: مَصِيرُهُمْ إِلَى عِلِّيِّينَ، وَهُوَ بِخِلَافِ سِجِّينٍ.
قَالَ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَمر بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَاف قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا وَأَنَا حَاضِرٌ عَنْ سِجِّينٍ، قَالَ: هِيَ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ، وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ. وَسَأَلَهُ عَنْ عِلّيين فَقَالَ: هِيَ السَّمَاءُ السَّابِعَةُ، وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهَا السَّمَاءُ السَّابِعَةُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} يَعْنِي: الْجَنَّةَ.
وَفِي رِوَايَةِ العَوفي، عَنْهُ: أَعْمَالُهُمْ فِي السَّمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: عِلِّيُّونَ: سَاقُ الْعَرْشِ الْيُمْنَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: عِلِّيُّونَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ عِلِّيِّينَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَكُلَّمَا عَلَا الشَّيْءُ وَارْتَفَعَ عَظُمَ وَاتَّسَعَ؛ وَلِهَذَا قَالَ مُعَظِّمًا أَمْرَهُ وَمُفَخِّمًا شَأْنَهُ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّون} ثُمَّ قَالَ مُؤَكِّدًا لِمَا كَتَبَ لَهُمْ: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَشْهَدُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ فِي نَعِيمٍ مُقِيمٍ، وَجَنَّاتٍ فِيهَا فَضْلٌ عَمِيمٌ، {عَلَى الأرَائِكِ} وَهِيَ: السُّرُرُ تَحْتَ الحِجَال، {يَنْظُرُونَ} قِيلَ: مَعْنَاهُ: يَنْظُرُونَ فِي مُلكهم وَمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ الَّذِي لَا يَنْقَضِي وَلَا يَبِيدُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ {عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ} إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا مُقَابَلَةٌ (1) لِمَا وُصف بِهِ أُولَئِكَ الْفُجَّارُ: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فَذَكَرَ عَنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ يُبَاحُونَ النَّظَرَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ عَلَى سُرُرِهِمْ وَفُرُشِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: "إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ سَنَةٍ، يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ" (2) .
وَقَوْلُهُ: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} أَيْ: تَعْرِفُ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، أَيْ: صِفَةَ التَّرَافَةِ وَالْحِشْمَةِ وَالسُّرُورِ والدِّعة وَالرِّيَاسَةِ؛ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ.
وَقَوْلُهُ: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} أَيْ: يُسْقَوْنَ مِنْ خَمْرٍ مِنَ الْجَنَّةِ. وَالرَّحِيقُ: مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ سَعْدٍ (3) أَبِي الْمُجَاهِدِ الطَّائِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ-أَرَاهُ قَدْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: "أَيُّمَا مؤمن سقى
__________
(1) في أ: "مقابل".
(2) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآيتين: 22،23 من سورة القيامة.
(3) في أ: "عن سعيد".(8/352)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
مُؤْمِنًا شَرْبَةً (1) عَلَى ظَمَأٍ، سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ. وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ، أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ. وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا ثَوْبًا عَلَى عُري، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضر الْجَنَّةِ" (2) .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أَيْ: خَلْطُهُ مِسْكٌ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طَيَّبَ اللَّهُ لَهُمُ الْخَمْرَ، فَكَانَ آخِرُ شَيْءٍ جُعِلَ فِيهَا مِسْكٌ، خُتِم بِمِسْكٍ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَسَنُ: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أَيْ: عَاقِبَتُهُ مِسْكٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} قَالَ: شَرَابٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الْفِضَّةِ، يَخْتِمُونَ بِهِ شَرَابَهُمْ. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِيهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إِلَّا وَجَدَ طِيبَهَا (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} قَالَ: طِيبُهُ مِسْكٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} أَيْ: وَفِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ فَلْيَتَفَاخَرِ المتفاخرون، وليتباهى وَيُكَاثِرْ (4) وَيَسْتَبِقْ إِلَى مِثْلِهِ الْمُسْتَبِقُونَ. كَقَوْلِهِ: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 61] .
وَقَوْلُهُ: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} أَيْ: وَمِزَاجُ هَذَا الرَّحِيقِ الْمَوْصُوفِ مِنْ تَسْنِيمٍ، أَيْ: مِنْ شَرَابٍ يُقَالُ لَهُ تَسْنِيمٌ، وَهُوَ أَشْرَفُ شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَعْلَاهُ. قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ وَالضَّحَّاكُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} أَيْ: يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وتُمزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزجًا. قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ.
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) }
__________
(1) في م: "شربة ماء".
(2) المسند (3/13) وعطية العوفي ضعيف.
(3) تفسير الطبري (30/68) .
(4) في م، أ: "ويتكاثر".(8/353)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْمُجْرِمِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدَّارِ الدُّنْيَا يَضْحَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: يَسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وَيَحْتَقِرُونَهُمْ (1) وَإِذَا مَرُّوا بِالْمُؤْمِنِينَ يَتَغَامَزُونَ عَلَيْهِمْ، أَيْ:مُحْتَقِرِينَ لَهُمْ، {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} أَيْ: إِذَا انْقَلَبَ، أَيْ: رَجَعَ هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمُ، انْقَلَبُوا إليها فاكهين،
__________
(1) في أ: "يحقرونهم".(8/353)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
أَيْ: مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا، وَمَعَ هَذَا مَا شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بَلِ اشْتَغَلُوا بِالْقَوْمِ الْمُؤْمِنِينَ يَحْتَقِرُونَهُمْ وَيَحْسُدُونَهُمْ، {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّون} أَيْ: لِكَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِين} أَيْ: وَمَا بُعث هَؤُلَاءِ الْمُجْرِمُونَ (1) حَافِظِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مَا يَصْدُرُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَلَا كُلِّفُوا بِهِمْ؟ فَلِمَ اشْتَغَلُوا بِهِمْ وَجَعَلُوهُمْ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 108 -111] .
وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {فَالْيَوْمَ} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} أَيْ: فِي مُقَابَلَةِ مَا ضَحِكَ بِهِمْ أُولَئِكَ، {عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ} أَيْ: إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فِي مُقَابَلَةِ مَنْ زَعَمَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ ضَالُّونَ، لَيْسُوا بِضَالِّينَ، بَلْ هُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ، يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ؟ أَيْ: هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ عَلَى مَا كَانُوا يُقَابِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّنَقُّصِ أَمْ لَا؟ يَعْنِي: قَدْ جُوزُوا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وَأَتَمَّهُ وَأَكْمَلَهُ.
آخِرُ [تَفْسِيرُ سُورَةِ] (2) "الْمُطَفِّفِينَ".
تَفْسِيرُ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ بِهِمْ: " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، بِهِ (3) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيرة الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ: " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " فَسَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ، قَالَ: سجدتُ خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَزَالُ أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ (4) .
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ مُعْتَمِرٍ، بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيع، عَنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، فَذَكَرَهُ (5) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ طِرْخان التَّيْمِيِّ، بِهِ (6) وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَينة-زَادَ النَّسائي: وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ-كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " وَ " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ " (7) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) }
__________
(1) في أ: "المجرمين" وهو خطأ.
(2) زيادة من أ.
(3) صحيح مسلم برقم (578) وسنن النسائي الكبرى برقم (11660) .
(4) صحيح البخاري برقم (766) .
(5) صحيح البخاري برقم (768) .
(6) صحيح مسلم برقم (578) وسنن أبي داود برقم (1408) وسنن النسائي (2/161) .
(7) صحيح مسلم برقم (578) وسنن أبي داود برقم (1407) وسنن الترمذي برقم (573) وسنن النسائي (2/162) .(8/354)
يَقُولُ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} أَيْ: اسْتَمَعَتْ لِرَبِّهَا(8/355)
وَأَطَاعَتْ أَمْرَهُ فِيمَا أَمَرَهَا بِهِ مِنَ الِانْشِقَاقِ {وَحُقَّتْ} أَيْ: وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ أَمْرَهُ؛ لِأَنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُمانَع وَلَا يُغَالَبُ، بَلْ قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَذَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ} أَيْ: بُسطت وَفُرِشَتْ وَوُسِّعَت.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ (1)
ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا كَانَ يومُ الْقِيَامَةِ مَدَّ اللَّهُ الْأَرْضَ مَدَّ الْأَدِيمِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِبَشَرٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى، وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهِ مَا رَآهُ قَبْلَهَا، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ هَذَا أَخْبَرَنِي أَنَّكَ أَرْسَلْتَهُ إِلَيَّ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ. ثُمَّ أُشَفَّعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، عِبَادُكَ عَبَدُوكَ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ. قَالَ: وَهُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ" (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} أَيْ: أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ، وَتَخَلَّتْ مِنْهُمْ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدٌ، وَقَتَادَةُ، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} أَيْ: سَاعٍ إِلَى رَبِّكَ سَعْيًا، وَعَامَلٌ عَمَلًا {فَمُلاقِيهِ} ثُمَّ إِنَّكَ سَتَلْقَى مَا عملتَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحَبِبْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلَاقِيهِ" (3) .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعِيدُ الضَّمِيرَ عَلَى قَوْلِهِ: {رَبِّك} أَيْ: فَمُلَاقٍ (4) رَبَّكَ، وَمَعْنَاهُ: فَيُجَازِيكَ بِعَمَلِكَ وَيُكَافِئُكَ عَلَى سَعْيِكَ. وَعَلَى هَذَا فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُتَلَازِمٌ.
قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} يَقُولُ: تَعْمَلُ عَمَلًا تَلْقَى اللَّهَ بِهِ، خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} إِنَّ كَدْحَكَ-يَا ابْنَ آدَمَ-لَضَعِيفٌ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ كَدْحُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
ثُمَّ قَالَ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} أَيْ: سَهْلًا بِلَا تَعْسِيرٍ، أَيْ: لَا يُحَقِّقُ عَلَيْهِ جَميعُ دَقَائِقِ أَعْمَالِهِ؛ فَإِنَّ مَنْ حوسب كذلك يهلك (5) لا محالة.
__________
(1) في أ: "حدثنا أبو".
(2) تفسير الطبري (30/72) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (1/328) ومن طريقه الطبري في تفسيره (15/99) عَنْ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ به مرسلا، ورواه أبو نعيم في الحلية (3/145) من طريق محمد بن جعفر، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ رجل من أهل العلم به، وقال: "صحيح تفرد بهذه الألفاظ علي بن الحسين لم يروه عنه إلا الزهري ولا عنه إلا إبراهيم بن سعد، وعلي بن الحسين هو أفضل وأتقى من أن يروه عن رجل لا يعتمده فينسبه إلى العلم ويطلق القول به". وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/400) : "رجاله ثقات، وهو صحيح إن كان الرجل صحابيا". لكن الحديث له علة وهي الاختلاف على الزهري في اسم الصحابي، فرواه الحاكم في المستدرك (5/570) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ علي بن حسين، عن جابر مرفوعا بنحوه، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
(3) مسند الطيالسي برقم (1755) .
(4) في م: "أي ملاق".
(5) في م، أ: "كذلك هلك".(8/356)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نُوِقش الْحِسَابَ عُذِّب". قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَالَ اللَّهُ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ؟ ، قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ بِالْحِسَابِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ العَرْض، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، بِهِ (1)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا رَوحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الخَرَاز، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مُعَذَّبًا". فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ؟ ، قَالَ: "ذَاكَ الْعَرْضُ، إِنَّهُ مَنْ نُوِقش الْحِسَابَ عُذب"، وَقَالَ بِيَدِهِ عَلَى إِصْبَعِهِ كَأَنَّهُ يَنكُتُ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ أَبِي يُونُسَ القُشَيري، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكة، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ (2) أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُونُسَ القُشَيري، وَاسْمُهُ حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ (3) بِهِ (4) .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، عَنِ الْحَرِيشِ بْنِ الخَرِّيت أَخِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ نُوِقش الْحِسَابَ-أَوْ: مَنْ حُوسِب -عُذِّبَ. قَالَ: ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّمَا الحسابُ اليسيرُ عَرض عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يَرَاهُمْ (5) .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ (6) عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ: "اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا". فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْحِسَابُ الْيَسِيرُ؟ قَالَ: "أَنْ يَنْظُرَ فِي كِتَابِهِ فَيَتَجَاوَزُ لَهُ عَنْهُ، إِنَّهُ مَنْ نُوِقش الحسابَ يَا عائشةُ يَوْمَئِذٍ هَلَكَ". صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ (7) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} أَيْ: وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ فِي الْجَنَّةِ. قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، {مَسْرُورًا} أَيْ: فَرْحَانَ مُغْتَبِطًا بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ-مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالًا لَا تُعْرَفُ، وَيُوشِكُ الْعَازِبُ (8) أَنْ يَثُوبَ إِلَى أَهْلِهِ، فَمَسْرُورٌ ومكظوم (9) .
__________
(1) المسند (6/47) وصحيح البخاري برقم (4939) وصحيح مسلم برقم (2876) وسنن الترمذي برقم (3337) وسنن النسائي الكبرى برقم (11659) وتفسير الطبري (30/74) .
(2) تفسير الطبري (30/74) .
(3) في أ: "صفرة".
(4) صحيح البخاري برقم (4939) وصحيح مسلم برقم (2876) .
(5) تفسير الطبري (30/74) .
(6) في م: "عن".
(7) المسند (6/48) .
(8) في م، أ، هـ: "العارف" والمثبت من المعجم الكبير.
(9) المعجم الكبير (2/94) من طريق يحيى الحماني، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عبد الله الشامي، عن عائذ الله، عن ثوبان به مرفوعا، ويحيى الحماني ضعيف.(8/357)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} أَيْ: بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، تُثْنى يَدُهُ إِلَى وَرَائِهِ وَيُعْطَى كِتَابَهُ بِهَا كَذَلِكَ، {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} أَيْ: خَسَارًا وَهَلَاكًا، {وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} أَيْ: فَرِحًا لَا يُفَكِّرُ فِي الْعَوَاقِبِ، وَلَا يَخَافُ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ الْفَرَحُ الْيَسِيرُ الْحُزْنَ الطَّوِيلَ، {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أَيْ: كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ وَلَا يُعِيدُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمَا. والحَوْرُ: هُوَ الرُّجُوعُ. قَالَ اللَّهُ: {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} يَعْنِي: بَلَى سَيُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا بَدَأَهُ، وَيُجَازِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، فَإِنَّهُ {كَانَ بِهِ بَصِيرًا} أَيْ: عَلِيمًا خَبِيرًا.
{فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) }
رُوي عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وعُبادة بْنِ الصَّامِتِ، وَأَبِي هُرَيرة، وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمَكْحُولٍ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، وبُكَيْر (1) بْنِ الْأَشَجِّ، وَمَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجَشُون أَنَّهُمْ قَالُوا: الشَّفَقُ: الْحُمْرَةُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ ابْنِ خُثَيم (2) عَنِ ابْنِ لَبِيبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: الشَّفَقُ: الْبَيَاضُ (3) .
فَالشَّفَقُ هُوَ: حُمْرَةُ الْأُفُقِ إِمَّا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ-كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ-وَإِمَّا بَعْدَ غُرُوبِهَا-كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ (4) عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ.
قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: الشَّفَقُ: الْحُمْرَةُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا ذَهَبَ قِيلَ: غَابَ الشَّفَقُ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشَّفَقُ: بَقِيَّةُ ضَوْءِ الشَّمْسِ وحمرتُها فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى قَرِيبٍ مِنَ العَتمَة. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ: الشَّفَقُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ" (5) .
فَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّفَقَ هُوَ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَالْخَلِيلُ. وَلَكِنْ صَحَّ عن مجاهد أنه
__________
(1) في أ: "وبكر".
(2) في أ: "خيثم".
(3) تفسير عبد الرزاق (2/292) .
(4) في م: "كما هو المعروف".
(5) صحيح مسلم برقم (612) .(8/358)
قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الشَّفَقُ: الشَّمْسُ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا قَرْنهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أَيْ: جَمَعَ. كَأَنَّهُ أَقْسَمَ بِالضِّيَاءِ وَالظَّلَامِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِالنَّهَارِ مُدْبِرًا، وَبِاللَّيْلِ مُقْبِلًا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: الشَّفَقُ اسْمٌ لِلْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ. وَقَالُوا: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ (1) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: {وَمَا وَسَقَ} وَمَا جَمَعَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَمَا جَمَعَ مِنْ نَجْمٍ وَدَابَّةٍ. وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: (2)
مُستَوسقات لَوْ تَجِدْنَ سَائقا ...
قَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} يَقُولُ: مَا سَاقَ مِنْ ظُلْمَةٍ، إِذَا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَأْوَاهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا اجْتَمَعَ وَاسْتَوَى. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ.
{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} إِذَا اسْتَوَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا اجْتَمَعَ، إِذَا امْتَلَأَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا اسْتَدَارَ.
وَمَعْنَى كَلَامِهِمْ: أَنَّهُ إِذَا تَكَامَلَ نُورُهُ وَأَبْدَرَ، جَعَلَهُ مُقَابِلًا لِلَّيْلِ وَمَا وَسَقَ.
وَقَوْلُهُ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ، أَخْبَرَنَا هُشَيم، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حَالًا بَعْدَ حَالٍ-قَالَ هَذَا نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ (3) ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْنَدَ هَذَا التَّفْسِيرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ هَذَا مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: "نَبِيُّكُمْ" مَرْفُوعًا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ مِنْ "قَالَ" وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَمَا قَالَ أَنَسٌ: لَا يَأْتِي عَامٍ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْم، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ؛ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قَالَ: يَعْنِي نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَهَذَا لَفْظُهُ (4) .
__________
(1) تفسير الطبري (30/76) .
(2) البيت في تفسير الطبري (30/76) وقد ذكره المبرد في الكامل: إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا
وهو منسوب لابن صرمة.
(3) صحيح البخاري برقم (4940) .
(4) تفسير الطبري (30/78) .(8/359)
وقال علي ابن أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حَالًا بَعْدَ حَالٍ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ ومُرَة الطّيِّب، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ [وَمَسْرُوقٌ وَأَبُو صَالِحٍ] (1) .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حَالًا بَعْدَ حَالٍ. قَالَ: هَذَا، يَعْنِي الْمُرَادُ بِهَذَا نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ مَرْفُوعًا عَلَى أَنَّ "هَذَا" وَ "نَبِيُّكُمْ" يُكَوَّنَانِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَعَلَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الرُّوَاةِ، كَمَا قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وغُنْدَر: حَدَّثَنَا شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قَالَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قراءةُ عُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَامَّةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ: "لَتَرْكَبَنّ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قَالَ: لتركَبن يَا مُحَمَّدُ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءً. وَهَكَذَا رُوي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ.
قُلْتُ: يَعْنُونَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالسُّدِّيُّ (2) عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} مَنْزِلًا عَلَى مَنْزِلٍ. وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ-وَزَادَ: "وَيُقَالُ: أَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ، وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ".
وَقَالَ السُّدِّيُّ نفسهُ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أَعْمَالُ مَنْ قَبْلِكُمْ مَنْزِلًا بَعْدَ مَنْزِلٍ.
قُلْتُ: كَأَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَذْو القُذَّة بالقُذَّة، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحر ضَبِّ لَدَخَلْتُمُوهُ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ؟ " (3) وَهَذَا مُحْتَمَلٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولًا يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قَالَ: فِي كُلِّ عِشْرِينَ سَنَةً، تُحْدِثُونَ أَمْرًا لَمْ تَكُونُوا عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قَالَ: السَّمَاءُ تَنْشَقُّ ثُمَّ تَحْمَرُّ، ثُمَّ تَكُونُ لَوْنًا بَعْدَ لَوْنٍ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قَالَ: السَّمَاءُ مَرةً كَالدِّهَانِ، وَمَرَّةً تَنْشَقُّ.
وَرَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} يَا مُحَمَّدُ، يَعْنِي حَالًا بَعْدَ حَالٍ. ثُمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ جَابِرٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عن ابن عباس.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م: "عن السدي".
(3) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية: 34 من سورة التوبة.(8/360)
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قَالَ: قَوَمٌ كَانُوا فِي الدُّنْيَا خَسِيسٌ أَمْرُهُمْ، فَارْتَفَعُوا فِي الْآخِرَةِ، وَآخَرُونَ كَانُوا أَشْرَافًا فِي الدُّنْيَا، فَاتَّضَعُوا فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَطِيمًا بعد ما كان رضيعًا، وشيخًا بعد ما كَانَ شَابًّا.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} يَقُولُ: حَالًا بَعْدَ حَالٍ، رَخَاءً بَعْدَ شِدَّةٍ، وَشِدَّةً بَعْدَ رَخَاءٍ، وَغِنًى بَعْدَ فَقْرٍ، وَفَقْرًا بَعْدَ غِنًى، وَصِحَّةً بَعْدَ سَقَمٍ، وسَقَما بَعْدَ صِحَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَاهِرٍ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَمْرِو بْنِ شَمِر، عَنْ جَابِرٍ-هُوَ الْجُعْفِيُّ-عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ ابْنَ آدَمَ لَفِي غَفْلَةٍ مِمَّا خُلِقَ لَهُ؛ إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ خَلْقَهُ قَالَ لِلْمَلِكِ: اكْتُبْ رِزْقَهُ، اكْتُبْ أَجَلَهُ، اكْتُبْ أَثَرَهُ، اكْتُبْ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، ثُمَّ يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْمَلَكُ وَيَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكا آخَرَ فَيَحْفَظُهُ حَتَّى يُدْرِكَ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْمَلَكُ، ثُمَّ يُوكِلُ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، فَإِذَا حَضَره الموتُ ارْتَفَعَ ذَانِكَ الْمَلَكَانِ، وَجَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَقَبَضَ رُوحَهُ، فَإِذَا دَخَلَ قَبْرَهُ رَدَّ الرُّوحَ فِي جَسَدِهِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَجَاءَهُ مَلَكا الْقَبْرِ فَامْتَحَنَاهُ، ثُمَّ يَرْتَفِعَانِ، فَإِذَا قَامَتِ السَّاعَةُ انْحَطَّ عَلَيْهِ مَلَكُ الْحَسَنَاتِ وَمَلَكُ السَّيِّئَاتِ، فَانْتَشَطَا كِتَابًا مَعْقُودًا فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ حَضَرَا مَعَهُ: واحدٌ سَائِقًا وَآخَرُ شَهِيدًا"، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:22] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قَالَ: "حَالًا بَعْدَ حَالٍ". ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ قُدَّامَكُمْ لَأَمْرًا عَظِيمًا لَا تَقدرُونه، فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ" (1) .
هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَإِسْنَادُهُ فِيهِ ضُعَفَاءُ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ، وَاللَّهُ-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابن جرير بعد ما حَكَى أَقْوَالَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ: وَالصَّوَابُ مِنَ التَّأْوِيلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ لَتَرْكَبَنّ أَنْتَ-يَا مُحَمَّدُ-حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَأَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ مِنَ الشَّدَائد. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ-وَإِنْ كَانَ الْخَطَّابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَجَّها (2) -جَميعَ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ يَلْقَوْنَ مِنْ شَدَائِدِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهِ أَحْوَالًا (3) .
وَقَوْلُهُ: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} أَيْ: فَمَاذَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؟ وَمَا لَهُمْ إِذَا قَرَأَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِ الرَّحْمَنِ (4) وَكَلَامَهُ-وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ-لَا يَسْجُدُونَ إِعْظَامًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا؟.
وَقَوْلُهُ: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} أَيْ: مِنْ سَجِيَّتِهِمُ التَّكْذِيبُ وَالْعِنَادُ وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَقِّ.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يكتمون في صدورهم.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور (7/600) لابن أبي الدنيا في ذكر الموت وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية.
(2) في م: "متوجها".
(3) تفسير الطبري (30/80) .
(4) في أ: "آيات الله".(8/361)
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أَيْ: فَأَخْبِرْهُمْ-يَا مُحَمَّدُ-بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.
وَقَوْلُهُ {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، يَعْنِي لَكِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا-أَيْ: بِقُلُوبِهِمْ-وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِجَوَارِحِهِمْ {لَهُمْ أَجْرٌ} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
{غَيْرُ مَمْنُونٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مَنْقُوصٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: غَيْرُ مَحْسُوبٍ.
وَحَاصِلُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هُودٍ: 108] . وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} غَيْرُ مَنْقُوصٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} عَلَيْهِمْ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْ بَعْضِهِمْ قَدْ أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ الْمِنَّةُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ حَالٍ وَآنٍ وَلَحْظَةٍ، وَإِنَّمَا دَخَلُوهَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لَا بِأَعْمَالِهِمْ، فَلَهُ عَلَيْهِمُ الْمِنَّةُ دَائِمًا سَرْمَدًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ أَبَدًا؛ وَلِهَذَا يُلْهَمُونَ تَسْبِيحَهُ وَتَحْمِيدَهُ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَس: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يُونُسَ: 10] .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الِانْشِقَاقِ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.(8/362)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْبُرُوجِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا رُزَيق بْنُ أَبِي سَلْمَى، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ-مَوْلَى بَنِي (2) هَاشِمٍ-حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ عَبَّادٍ السَّدُوسِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا الْمُهَزِّمِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسموات فِي الْعِشَاءِ (3) تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) }
__________
(1) المسند (2/326) .
(2) في م: "مولى ابن".
(3) المسند (2/327) .(8/362)
يُقْسِمُ اللَّهُ بِالسَّمَاءِ وَبُرُوجِهَا، وَهِيَ: النُّجُومُ الْعِظَامُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 61] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: الْبُرُوجُ: النُّجُومُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: الْبُرُوجُ الَّتِي فِيهَا الْحَرَسُ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ رَافِعٍ: الْبُرُوجُ: قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ المِنْهَال بْنُ عَمْرٍو: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} الْخَلْقُ الْحَسَنُ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهَا: مَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا، تَسِيرُ الشَّمْسُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَهْرًا، وَيَسِيرُ الْقَمَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ يَوْمَيْنِ وَثُلْثًا، فذلك ثمانية وعشرون منزلة (1) ويستسرّ ليلتين.
__________
(1) في م: "منزلا".(8/363)
وَقَوْلُهُ: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْغُزِّيُّ (1) حَدَّثَنَا عُبَيد اللَّهِ-يَعْنِي ابْنَ مُوسَى-حَدَّثَنَا مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} يَوْمِ الْقِيَامَةِ {وَشَاهِدٍ} يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَمَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَلَا يَسْتَعِيذُ فِيهَا مِنْ شَرٍّ إِلَّا أَعَاذَهُ، {وَمَشْهُودٍ} يَوْمُ عَرَفَةَ" (2) .
وَهَكَذَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ خُزَيمة، مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيدة الرَّبَذِيِّ-وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ-وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ أَشْبَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ وَيُونُسَ بْنَ عُبَيْدٍ يُحَدِّثَانِ عَنْ عَمَّارٍ-مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-أَمَّا عَلِيٌّ فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا يُونُسُ فَلَمْ يَعْدُ أَبَا هُرَيْرَةَ-أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قَالَ: يَعْنِي الشاهدَ يومُ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمٌ مَشْهُودٌ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (3) .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ، سَمِعْتُ عَمَّارًا-مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ-يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قَالَ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (4) .
وَقَدْ رُوي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَلَمْ أَرَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا ضَمْضَم بْنُ زُرْعَة، عَنْ شُرَيح بْنِ (5) عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّ الْمَشْهُودَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ ذَخَرَهُ اللَّهُ لَنَا" (6) .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْك، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسَيَّب أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ سَيِّدَ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الشاهدُ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ" (7) .
__________
(1) في أ: "المقرئ".
(2) ورواه الترمذي في السنن برقم (3339) من طريق روح بن عبادة وعبيد اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ بِهِ نَحْوَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره".
(3) المسند (2/298) ووقع فيه: "يعني الشاهد يوم عرفة، والموعود يوم القيامة".
(4) المسند (2/298،299) .
(5) في أ: "عن".
(6) تفسير الطبري (30/82) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (3/298) عن هاشم بن مرثد، عن محمد بن إسماعيل به، وفيه ضعف وانقطاع، وقد تقدم هذا الإسناد مرارا.
(7) تفسير الطبري (30/82) .(8/364)
وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ الْمَكِّيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّاهِدُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} (1) [هُودٍ: 103] .
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ شِبَاكٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قَالَ: سَأَلْتَ أَحَدًا قَبْلِي؟ قَالَ: نَعَمْ، سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَا يَوْمَ الذَّبْحِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَرَأَ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 41] ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} (2) .
وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: {وَمَشْهُودٍ} يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ: الشَّاهِدُ: ابْنُ آدَمَ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَيْضًا: الشَّاهِدُ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ.
[وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّاهِدُ: اللَّهُ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ] (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْن، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} قَالَ: الشَّاهِدُ: الْإِنْسَانُ. وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مِهْران، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} الشَّاهِدُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
وَبِهِ عَنْ سُفْيَانَ-هُوَ الثَّوْرِيُّ-عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: يَوْمُ الذَّبْحِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، يَعْنِي الشَّاهِدَ وَالْمَشْهُودَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَشْهُودُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ. وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْثِرُوا عليَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ" (4) .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الشَّاهِدُ: اللَّهُ، وَتَلَا {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] ، والمشهود:
__________
(1) تفسير الطبري (30/83) .
(2) تفسير الطبري (30/83) .
(3) زيادة من م، أ، والطبري.
(4) تفسير الطبري (30/84) .(8/365)
نَحْنُ. حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَقَالَ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ.
وَقَوْلُهُ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ} أَيْ: لُعِنُ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَجَمْعُهُ: أَخَادِيدُ، وَهِيَ الْحَفِيرُ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ عَمَدوا إِلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَهَرُوهُمْ وَأَرَادُوهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، فَحَفَرُوا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أخدُودًا وَأَجَّجُوا فيه نار، وَأَعَدُّوا لَهَا وَقُودًا يُسَعِّرُونَهَا بِهِ، ثُمَّ أَرَادُوهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَقَذَفُوهُمْ فِيهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} أَيْ: مُشَاهِدُونَ لِمَا يُفْعَلُ بِأُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أَيْ: وَمَا كَانَ لَهُمْ عِنْدَهُمْ ذَنْبٌ إِلَّا إِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُضَامُ مَنْ لَاذَ بِجَنَابِهِ، الْمَنِيعِ الْحَمِيدِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدْرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَدّر عَلَى عِبَادِهِ هَؤُلَاءِ هَذَا الَّذِي وَقَعَ بِهِمْ بِأَيْدِي الْكُفَّارِ بِهِ، فَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَمِيدُ، وَإِنْ خَفِيَ سَبَبُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.
ثُمَّ قَالَ: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} من تمام الصفة أنه المالك لجميع السموات وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أَيْ: لَا يَغِيبُ عَنْهُ شيء في جميع السموات وَالْأَرْضِ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي أَهْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، مَنْ هُمْ. فَعَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُمْ أَهْلُ فَارِسٍ حِينَ أَرَادَ مَلِكُهُمْ تَحْلِيلَ تَزْوِيجِ (1) الْمَحَارِمِ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ، فَعَمَدَ إِلَى حَفْرِ أُخْدُودٍ فَقَذَفَ فِيهِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَاسْتَمَرَّ فِيهِمْ تَحْلِيلُ الْمَحَارِمِ إِلَى الْيَوْمِ.
وَعَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا بِالْيَمَنِ اقْتَتَلَ مُؤْمِنُوهُمْ وَمُشْرِكُوهُمْ، فَغَلَبَ مُؤْمِنُوهُمْ عَلَى كُفَّارِهِمْ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا فَغَلَبَ الْكُفَّارُ الْمُؤْمِنِينَ، فخدُّوا لَهُمُ الْأَخَادِيدَ، وَأَحْرَقُوهُمْ فِيهَا.
وَعَنْهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ، وَاحِدُهُمْ (2) حَبَشِيٌّ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} قَالَ: نَاسٌ مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، خَدّوا أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ أَوْقَدُوا فِيهِ نَارًا، ثُمَّ أَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ الْأُخْدُودِ رِجَالًا وَنِسَاءً، فعُرضوا عَلَيْهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهُ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ.
وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مٌزَاحم، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ (3) عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيب: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبُرَ السَّاحِرُ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَحَضَرَ أَجَلِي، فَادْفَعْ إِلَيَّ غُلَامًا لِأُعْلِّمُهُ السِّحْرَ. فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلَامًا فَكَانَ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، وَكَانَ بَيْنَ السَّاحِرِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ رَاهِبٌ، فَأَتَى الْغُلَامُ عَلَى الرَّاهِبِ فَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ، فَأَعْجَبَهُ نَحْوُهُ وَكَلَامُهُ، وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ وَقَالَ: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه
__________
(1) في أ: "تزوج".
(2) في م، أ: "ونبيهم".
(3) في أ: "بن".(8/366)
وَقَالُوا: مَا حَبَسَكَ؟ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ السَّاحِرُ أَنْ يَضْرِبَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي. وَإِذَا أَرَادَ أَهْلُكَ أَنْ يَضْرِبُوكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ.
قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ فَظِيعَةٍ عَظِيمَةٍ، قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَمْ أَمْرُ السَّاحِرِ. قَالَ: فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضَى مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ، فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَجُوزَ النَّاسُ. وَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ. فَأُخْبِرَ الرَّاهِبُ بِذَلِكَ فَقَالَ: أيْ بُنَي، أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي، وَإِنَّكَ سَتُبتلى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ. فَكَانَ الْغُلَامُ يبُرئ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَسَائِرَ الْأَدْوَاءِ وَيَشْفِيهِمْ، وَكَانَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ فَعَمِيَ، فَسَمِعَ بِهِ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ: اشْفِنِي وَلَكَ مَا هَاهُنَا أجمعُ. فَقَالَ: مَا أَنَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ آمَنْتَ بِهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ فَدَعَا اللَّهَ فَشَفَاهُ. ثُمَّ أَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ مِنْهُ نَحْوَ مَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا فُلَانُ، مَنْ رَدّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ فَقَالَ: رَبِّي؟ فَقَالَ: أَنَا؟ قَالَ: لَا رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أيْ بُنَي، بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ أَنْ تُبْرِئَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَهَذِهِ الْأَدْوَاءَ؟ قَالَ: مَا أَشْفِي أَنَا أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ أَيْضًا بِالْعَذَابِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَأَتَى بِالرَّاهِبِ فَقَالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، وَقَالَ لِلْأَعْمَى: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ إِلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ لِلْغُلَامِ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: إِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَدَهدهوه [مِنْ فَوْقِهِ] (1) فَذَهَبُوا بِهِ، فَلَمَّا عَلَوْا بِهِ الْجَبَلَ قَالَ: اللَّهُمَّ، اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَدُهْدِهُوا أَجْمَعُونَ. وَجَاءَ الْغُلَامُ يَتَلَمَّسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ فِي قُرقُور فَقَالَ: إِذَا لَجَجْتُمْ بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فغرِّقوه فِي الْبَحْرِ. فَلَجَّجُوا بِهِ الْبَحْرَ فَقَالَ الْغُلَامُ. اللَّهُمَّ، اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَغَرِقُوا أَجْمَعُونَ، وَجَاءَ الْغُلَامُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، فَإِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَتَلْتَنِي، وَإِلَّا فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ قَتْلِي. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ تَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، وتأخذ سهمًا من كنانتي ثم قل: "بسم اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ"، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَفَعَلَ، وَوَضْعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ قَوْسِهِ ثُمَّ رَمَاهُ، وَقَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ". فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ السَّهْمِ وَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ. فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ فَقَدَ -وَاللَّهِ-نَزَلَ بِكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ. فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدّت فِيهَا الْأَخَادِيدُ، وَأُضْرِمَتْ فِيهَا النِّيرَانُ، وَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَدَعَوْهُ وَإِلَّا فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا. قَالَ: فَكَانُوا يَتَعَادَوْنَ فِيهَا وَيَتَدَافَعُونَ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا تُرْضِعُهُ، فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: اصْبِرِي يَا أُمَّاهُ، فَإِنَّكِ على الحق".
__________
(1) زيادة من المسند.(8/367)
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ الصَّحِيحِ عَنْ هُدْبة بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ نَحْوَهُ (1) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ (2) وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ ثَابِتٍ، بِهِ وَاخْتَصَرُوا أَوَّلَهُ. وَقَدْ جَوّده الْإِمَامُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، فَرَوَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيلانَ وعَبد بْنِ حُمَيد-الْمَعْنَى وَاحِدٌ-قَالَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ ثَابِتٍ البُناني، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيب قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ هَمَس-والهَمس فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ: تَحْرِيكُ شَفَتَيْهِ كَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ-فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ-يَا رَسُولَ اللَّهِ-إِذَا صَلَّيْتَ الْعَصْرَ هَمَسْتَ؟ قَالَ: "إِنْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَانَ أُعجِب بِأُمَّتِهِ فَقَالَ: مَنْ يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ؟. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ أَنْ أَنْتَقِمَ مِنْهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ. فَاخْتَارُوا النِّقْمَةَ، فسلَّط عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، فَمَاتَ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا". قَالَ: وَكَانَ إِذَا حَدّث بِهَذَا الْحَدِيثِ، حَدّث بِهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ قَالَ: كَانَ مَلك مِنَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ لِذَلِكَ الْمَلِكِ كَاهِنٌ تَكَهَّنَ لَهُ، فَقَالَ الْكَاهِنُ: انْظُرُوا لِي غُلَامًا فَهِمًا-أَوْ قَالَ: فَطِنًا لَقنًا-فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي هَذَا فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِتَمَامِهَا، وَقَالَ فِي آخِرِهِ (3) يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} حَتَّى بَلَغَ: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} قَالَ: فَأَمَّا الْغُلَامُ فَإِنَّهُ دُفِنَ قَالَ: فَيُذْكَرُ أَنَّهُ أُخْرِجَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَإِصْبُعُهُ عَلَى صُدغه كَمَا وَضَعَهَا حِينَ قُتِلَ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ (4) .
وَهَذَا السِّيَاقُ لَيْسَ فِيهِ صَرَاحَةٌ أَنَّ سِيَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ المزِّي: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ صُهَيب الرُّومِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ أَخْبَارِ النَّصَارَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي السِّيرَةِ بِسِيَاقٍ آخَرَ، فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي-وَحَدَّثَنِي أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ، عَنْ أَهْلِهَا-: أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ-وَنَجْرَانُ هِيَ الْقَرْيَةُ الْعُظْمَى الَّتِي إِلَيْهَا جمَاعُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ-ساحرٌ يُعَلِّمُ غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ السِّحْرَ فَلَمَّا نَزَلَهَا فَيمُون (5) -وَلَمْ يُسَمُّوهُ لِي بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ ابْنُ مُنَبِّهٍ، قَالُوا: رَجُلٌ نَزَلَهَا-ابْتَنَى (6) خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الَّتِي فِيهَا السَّاحِرُ، وَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ غِلْمَانَهُمْ إِلَى ذَلِكَ السَّاحِرِ يُعَلِمُهُمُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ الثَّامِرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ، فَكَانَ إِذَا مَرَّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْ عِبَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ، فَجَعَلَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ وَيَسْمَعُ مِنْهُ، حَتَّى أَسْلَمَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَعَبَدَهُ، وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ حَتَّى إِذَا فَقِهَ فِيهِ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَكَانَ يَعْلَمُهُ، فَكَتَمَهُ إِيَّاهُ وَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّكَ لَنْ تَحْمِلَهُ؛ أَخْشَى ضَعْفَكَ عَنْهُ. وَالثَّامِرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَظُنُّ إِلَّا أَنَّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ إِلَى السَّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ ضَنَّ بِهِ عَنْهُ، وَتَخَوَّفَ ضَعْفَهُ فِيهِ، عَمَدَ إِلَى أَقْدَاحٍ فَجَمَعَهَا، ثُمَّ لَمْ يُبْقِ لِلَّهِ اسْمًا يَعْلَمُهُ إِلَّا كَتَبَهُ في قدْح،
__________
(1) المسند (6/16) وصحيح مسلم برقم (3005) .
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11661) .
(3) في أ: "في أواخره".
(4) سنن الترمذي برقم (3340) .
(5) في أ: "ميمون".
(6) في م: "فابتنى".(8/368)
وَكُلُّ اسْمٍ فِي قَدَحٍ، حَتَّى إِذَا أَحْصَاهَا أَوْقَدَ نَارًا ثُمَّ جَعَلَ يَقْذِفُهَا فِيهَا قدْحا قدْحًا، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا بِقدْحه، فَوَثَبَ القدْح حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا لَمْ يَضُرُهُ شَيْءٌ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ أَتَى بِهِ صَاحِبَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي كَتَمَهُ فَقَالَ: وَمَا هُوَ: قَالَ: هُوَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَكَيْفَ عَلِمْتَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ. قَالَ: أَيِ ابْنَ أَخِي، قَدْ أَصَبْتَهُ فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِكَ، وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَفْعَلَ.
فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ إِذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ يَلْقَ أَحَدًا بِهِ ضَرٌّ إِلَّا قَالَ: يَا عَبْدِ اللَّهِ، أتوحدُ اللَّهَ وتدخلُ فِي دِينِي وَأَدْعُو اللَّهَ لَكَ فيعافيكَ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُوَحِّدُ اللَّهَ وَيُسْلِمُ، فَيَدْعُو اللَّهَ لَهُ فَيشفَى حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِنَجْرَانَ أَحَدٌ بِهِ ضُرٌّ إِلَّا أَتَاهُ، فَاتَّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ، حَتَّى رُفع شَأْنُهُ إِلَى مَلِكِ نَجْرَانَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أَهْلَ قَرْيَتِي، وَخَالَفْتَ دِينِي وَدِينَ آبَائِي، لَأُمَثِّلَنَّ بِكَ. قَالَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إِلَى الْجَبَلِ الطَّوِيلِ، فَيُطرح عَلَى رَأْسِهِ، فَيَقَعُ إِلَى الْأَرْضِ مَا بِهِ بَأْسٌ، وَجَعَلَ يَبْعَثُ بِهِ إِلَى مِيَاهِ نَجْرَانَ، بُحور لَا يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَلَكَ، فَيُلْقَى بِهِ فِيهَا، فَيَخْرُجُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. فَلَمَّا غَلَبَهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ: إِنَّكَ-وَاللَّهِ-لَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِي حَتَّى تُوَحّدَ اللَّهَ فَتُؤمن بِمَا آمَنْتُ بِهِ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ سُلّطتَ عَلَيَّ فَقَتَلْتَنِي. قَالَ: فوحّدَ اللَّهَ ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَصَا فِي يَدِهِ فَشَجَّهُ شَجَّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ، فَقَتَلَهُ، وَهَلَكَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ. وَاسْتَجْمَعَ أهلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ-وَكَانَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْإِنْجِيلِ وحُكمه-ثُمَّ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ أهلَ دِينِهِمْ مِنَ الْأَحْدَاثِ، فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَذَا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قَالَ: فَسَارَ إِلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنْدِهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، وخيَّرهم بَيْنَ ذَلِكَ أَوِ الْقَتْلِ، فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ، فَخَدَّ الْأُخْدُودَ، فَحَرَّقَ بِالنَّارِ وَقَتَلَ بِالسَّيْفِ وَمَثَّلَ بِهِمْ، حَتَّى قَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَفِي ذِي نُوَاسٍ وَجُنْدِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} (1) .
هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّ الَّذِي قَتَلَ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ هُوَ ذُو نُوَاسٍ، وَاسْمُهُ: زُرْعَةُ، ويسمَّى فِي زَمَانِ مَمْلَكَتِهِ بِيُوسُفَ، وَهُوَ ابْنُ تِبَان أَسْعَدُ أَبِي كَرب، وَهُوَ تُبَّع الَّذِي غَزَا الْمَدِينَةَ وَكَسَى الْكَعْبَةَ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ حِبْرَيْنِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ تَهَوّد مَنْ تَهَوّد مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى يَدَيْهِمَا، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مَبسوطًا، فَقَتَلَ ذُو نُوَاسٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْأُخْدُودِ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُقَالُ لَهُ: دَوْسٌ ذُو ثَعلبان، ذَهَبَ فَارِسًا، وطَرَدُوا وَرَاءَهُ فَلَمْ يُقدَر عَلَيْهِ، فَذَهَبَ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الشَّامِ، فَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ يَقْدُمُهُمْ أَرْيَاطُ وَأَبْرَهَةُ، فَاسْتَنْقَذُوا الْيَمَنَ مِنْ أَيْدِي الْيَهُودِ، وذهب ذو نواس هاربًا
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/34) .(8/369)
فَلَجَّج فِي الْبَحْرِ، فَغَرِقَ. وَاسْتَمَرَّ مُلْكُ الْحَبَشَةِ فِي أَيْدِي النَّصَارَى سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُ سيف ابن ذِي يَزِنَ الْحِمْيَرِيُّ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى، لَمَّا اسْتَجَاشَ بِكِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ مَنْ فِي السُّجُونِ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ سَبْعِمِائَةٍ، فَفَتَحَ بِهِمُ الْيَمَنَ، وَرَجَعَ الْمُلْكُ إِلَى حِمْيَرَ. وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ-إِنْ شَاءَ اللَّهُ-فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ حُدِّث: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، حَفَر خَربَة مَنْ خَرِب نَجْرَانَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الثَّامِرِ تَحْتَ دَفْن فِيهَا قَاعِدًا، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ، مُمْسِكًا عَلَيْهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا أَخَذْتَ يَدَهُ عَنْهَا ثَعبتْ دَمًا، وَإِذَا أَرْسَلْتَ يَدَهُ رُدّت عَلَيْهَا، فَأَمْسَكَتْ دَمَهَا، وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهِ: رَبِّيَ اللَّهُ. فكُتِب فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُخْبِرُهُ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِمْ: أَنْ أَقِرُّوهُ عَلَى حَالِهِ، وَرُدُّوا عَلَيْهِ الدّفَن الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ. فَفَعَلُوا (1) .
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو بِلَالٍ الْأَشْعَرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمَّا افْتَتَحَ أَصْبَهَانَ وَجَدَ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ قَدْ سَقَطَ، فَبَنَاهُ فَسَقَطَ، ثُمَّ بَنَاهُ فَسَقَطَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ تَحْتَهُ رَجُلًا صَالِحًا. فَحَفَرَ الْأَسَاسَ فَوَجَدَ فِيهِ رَجُلًا قَائِمًا مَعَهُ سَيْفٌ، فِيهِ مَكْتُوبٌ: أَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ، نَقَمْتُ عَلَى أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ. فَاسْتَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى، وَبَنَى الْحَائِطَ، فَثَبَتَ.
قُلْتُ: هُوَ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُضاض بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمَيُّ، أَحَدُ مُلُوكِ جُرْهُمِ الَّذِينَ وَلُوا أَمْرَ الْكَعْبَةِ بَعْدَ وَلَدِ نَبْت (2) بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَوَلدُ الْحَارِثِ هَذَا هُوَ: عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ هُوَ آخِرُ مُلُوكِ جُرْهُمَ بِمَكَّةَ، لَمَّا أَخْرَجَتْهُمْ خُزَاعَةُ وَأَجْلَوْهُمْ إِلَى الْيَمَنِ، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي شِعْرِهِ الَّذِي قَالَ ابْنُ هِشَامٍ (3) إِنَّهُ أَوَّلُ شِعْرٍ قَالَهُ الْعَرَبُ:
كَأن لَم يَكُنْ بَين الحَجُون إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ، وَلَمْ يَسمُر بمكَّةَ سَامِرُ ...
بَلَى، نَحنُ كُنَّا أهلَهَا فأبادَنَا ... صُروفُ اللَّيالي والجُدودُ العَوَاثِرُ ...
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ قَدِيمًا بَعْدَ زَمَانِ إِسْمَاعِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِقُرْبٍ مِنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ يَقْتَضِي أَنَّ قِصَّتَهُمْ كَانَتْ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ الَّتِي بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا مِنَ اللَّهِ السَّلَامُ، وَهُوَ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ فِي الْعَالَمِ كَثِيرًا، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ فِي الْيَمَنِ زَمَانَ تُبَّعٍ، وَفِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ زَمَانَ قُسْطَنْطِينَ حِينَ صَرَفَ النَّصَارَى قِبْلَتَهُمْ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ، فَاتَّخَذُوا أَتُّونًا، وَأُلْقِيَ فِيهِ النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ. وَفِي الْعِرَاقِ فِي أَرْضِ بَابِلَ بُخْتُنَصَّرُ، الَّذِي وَضَعَ الصَّنَمَ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، فَامْتَنَعَ دَانْيَالُ وصاحباه:
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/36) .
(2) في م: "ثابت".
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/115) .(8/370)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
عُزَرْيَا وَمِيشَائِيلُ، فَأَوْقَدَ لَهُمْ أَتُّونًا وَأَلْقَى فِيهِ الْحَطَبَ وَالنَّارَ، ثُمَّ أَلْقَاهُمَا فِيهِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمَا بَرْدًا وَسَلَامًا، وَأَنْقَذَهُمَا مِنْهَا، وَأَلْقَى فِيهَا الَّذِينَ بَغَوْا عَلَيْهِ وَهُمْ تِسْعَةُ رَهْطٍ، فَأَكَلَتْهُمُ النَّارُ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ} قَالَ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ ثَلَاثَةً: خَدّ بِالْعِرَاقِ، وخَدّ بِالشَّامِ، وخَدّ بِالْيَمَنِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: كَانَتِ الْأُخْدُودُ ثَلَاثَةً: وَاحِدَةٌ بِنَجْرَانَ بِالْيَمَنِ، وَالْأُخْرَى بِالشَّامِ، وَالْأُخْرَى بِفَارِسَ، أَمَّا الَّتِي بِالشَّامِ فَهُوَ أَنْطَنَانُوسُ الرُّومِيُّ، وَأَمَّا الَّتِي بِفَارِسَ فَهُوَ بُخْتُنَصَّرُ، وَأَمَّا الَّتِي بِأَرْضِ الْعَرَبِ فَهُوَ يُوسُفُ ذُو نُوَاسٍ. فَأَمَّا الَّتِي بِفَارِسَ وَالشَّامِ فَلَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ فِيهِمْ قُرْآنًا، وَأَنْزَلَ فِي الَّتِي كَانَتْ بِنَجْرَانَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّشْتَكي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ-هُوَ ابْنُ أَنَسٍ-فِي قَوْلِهِ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ} قَالَ: سَمِعْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ فَلَمَّا رَأَوْا مَا وَقَعَ فِي النَّاسِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ وَصَارُوا أَحْزَابًا، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 53، الرُّومُ: 32] ، اعْتَزَلُوا إِلَى قَرْيَةٍ سَكَنُوهَا، وَأَقَامُوا عَلَى عِبَادَةِ الله {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [الْبَيِّنَةِ: 5] ، وَكَانَ هَذَا أَمْرُهُمْ حَتَّى سَمِعَ بِهِمْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَّارِينَ، وحُدّث حَدِيثَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ الَّتِي اتَّخَذُوا (1) وَأَنَّهُمْ أَبَوْا عَلَيْهِ كُلُّهُمْ وَقَالُوا: لَا نَعْبُدُ إِلَّا اللَّهِ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَعْبُدُوا هَذِهِ الْآلِهَةَ الَّتِي عبدتُ فَإِنِّي قَاتِلُكُمْ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فخَدَّ أُخْدُودًا مِنْ نَارٍ، وَقَالَ لَهُمُ الْجَبَّارُ-وَوَقَفهم عَلَيْهَا-: اخْتَارُوا هَذِهِ أَوِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. فَقَالُوا: هَذِهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا. وَفِيهِمْ نِسَاءٌ وَذُرِّيَّةٌ، فَفَزِعَتِ الذُّرِّيَّةُ، فَقَالُوا لَهُمْ: لَا نَارَ مِنْ بَعْدِ الْيَوْمِ. فَوَقَعُوا فِيهَا، فَقُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسَّهُمْ حَرّهُا، وَخَرَجَتِ النَّارُ مِنْ مَكَانِهَا فَأَحَاطَتْ بِالْجَبَّارِينَ، فَأَحْرَقَهُمُ اللَّهُ بِهَا، فَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد}
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ: حُدِّثت عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، بِهِ نَحْوَهُ (2) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أَيْ: حَرقوا (3) قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ أبْزَى.
{ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} أَيْ: لَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا فَعَلُوا، وَيَنْدَمُوا عَلَى مَا أَسْلَفُوا.
{فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْكَرَمِ وَالْجُودِ، قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) }
__________
(1) في أ: "التي لتخذوها".
(2) تفسير الطبري (30/88) .
(3) في م: "حرقوا بالنار".(8/271)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ {لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} (1) بِخِلَافِ مَا أُعِدَّ لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْحَرِيقِ وَالْجَحِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}
ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أَيْ: إِنَّ بَطْشَهُ وَانْتِقَامَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ الَّذِينَ كَذَّبوا رُسُلَهُ وَخَالَفُوا أَمْرَهُ، لَشَدِيدٌ عَظِيمٌ قَوِيٌّ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ كَمَا يَشَاءُ فِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَرِ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد} أَيْ: مِنْ قُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ التَّامَّةِ يُبْدِئُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كَمَا بَدَأَهُ، بِلَا مُمَانِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ. {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود} أَيْ: يَغْفِرُ ذَنْبَ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وخَضَع لَدَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الذَّنْبُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ.
وَالْوَدُودُ-قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ-: هُوَ الْحَبِيبُ، {ذُو الْعَرْشِ} [أَيْ: صَاحِبُ الْعَرْشِ] (2) الْمُعَظَّمِ (3) الْعَالِي عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ.
وَ {الْمَجِيدُ} فِيهِ قِرَاءَتَانِ: الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ. وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْعَرْشِ، وَكِلَاهُمَا مَعْنًى صَحِيحٌ.
{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أَيْ: مَهْمَا أَرَادَ فِعْلَهُ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ؛ لِعَظَمَتِهِ وَقَهْرِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ، كَمَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ-وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ-: هَلْ نَظَرَ إِلَيْكَ الطَّبِيبُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: فَمَا قَالُ لَكَ؟ قَالَ: قَالَ لِي: إِنِّي فَعَّالٌ لِمَا أُرِيدُ.
وَقَوْلُهُ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} أَيْ: هَلْ بَلَغَكَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّقْمَةِ الَّتِي لَمْ يَرُدَّهَا عَنْهُمْ أَحَدٌ؟.
وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أَيْ: إِذَا أَخَذَ الظَّالِمَ أَخَذَهُ أَخْذًا أَلِيمًا شَدِيدًا، أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ تَقْرَأُ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} فَقَامَ يسمع (4) فقال: "نعم، قد جاءني" (5) .
__________
(1) في أبعدها: "خالدين فيها".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "العظيم".
(4) في أ: "يستمع".
(5) وهذا مرسل.(8/372)
وَقَوْلُهُ: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أَيْ: هُمْ فِي شَكٍّ وَرَيْبٍ وَكُفْرٍ وَعِنَادٍ، {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أَيْ: هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، قَاهِرٌ لَا يَفُوتُونَهُ وَلَا يُعْجِزُونَهُ، {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} أَيْ: عَظِيمٌ كَرِيمٌ، {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} أَيْ: هُوَ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى مَحْفُوظٌ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا قُرَّة بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ سُرَيج (1) حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} قَالَ: إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} فِي جَبْهَةِ إِسْرَافِيلَ (2) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ: أَنَّ أَبَا الأعْيَس-هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلْمَان-قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ قَضَى اللَّهُ-الْقُرْآنُ فَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ-إِلَّا وَهُوَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ بَيْنَ عَيْنَيْ إِسْرَافِيلَ، لَا يُؤْذَنُ لَهُ بِالنَّظَرِ فِيهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ عِنْدَ اللَّهِ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، يُنَزِّلُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَغَوِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقِ بْنِ بِشْرٍ (3) أَخْبَرَنِي مُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّهُ فِي صَدْرِ اللَّوْحِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، دِينُهُ الْإِسْلَامُ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ بِوَعْدِهِ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ، أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ. قَالَ: وَاللَّوْحُ لَوْحٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَحَافَّتَاهُ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ، وَدَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَقَلَمُهُ نُورٌ، وَكَلَامُهُ مَعْقُودٌ بِالْعَرْشِ، وَأَصْلُهُ فِي حِجْرِ مَلَكٍ (4) .
قَالَ مُقَاتِلٌ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّة بَيْضَاءَ، صَفَحَاتُهَا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، قَلَمه نُورٌ وَكِتَابُهُ نُورٌ، لِلَّهِ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةُ لَحْظَةٍ، يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَيُمِيتُ وَيُحْيِي، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" (5) .
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "البروج" ولله الحمد (6) .
__________
(1) في أ: "شريح".
(2) تفسير الطبري (30/90) .
(3) في أ: "بشير".
(4) معالم التنزيل للبغوي (8/389) .
(5) المعجم الكبير (12/72) وزياد وليث بن أبي سليم ضعيفان، وقد جاء موقوفا على ابن عباس، رواه الطبراني في المعجم الكبير (10/316) من طريق بُكَيْرِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بنحوه.
(6) في أ: "والله أعلم".(8/373)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الطَّارِقِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ-قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ وَسَمِعْتُهُ أَنَا مِنْهُ-حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيُّ، عَنْ عبد الرحمن ابن خَالِدِ بْنِ أَبِي جَبل (1) العُدْواني، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ أَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُشرّق ثَقيف وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَوْسٍ-أَوْ: عَصَا-حِينَ أَتَاهُمْ يَبْتَغِي عِنْدَهُمُ النَّصْرَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ " حَتَّى خَتَمَهَا-قَالَ: فَوَعَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ، ثُمَّ قَرَأْتُهَا فِي الْإِسْلَامِ-قَالَ: فَدَعَتْنِي ثَقِيفٌ فَقَالُوا: مَاذَا سَمِعْتَ (2) مِنْ هَذَا الرَّجُلِ؟ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِصَاحِبِنَا، لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ مَا يَقُولُ حَقًّا لَاتَّبَعْنَاهُ (3) .
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ مسْعَر، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَار، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى مُعَاذٌ الْمَغْرِبَ، فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَالنِّسَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفَتَّانٌ يَا مُعَاذُ؟ مَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقْرَأَ بِالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَنَحْوَ هَذَا؟ " (4) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ (10) }
يُقْسِمُ (5) تَعَالَى بِالسَّمَاءِ وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ثُمَّ قَالَ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}
قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا سُمِّيَ النَّجْمُ طَارِقًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَى بِاللَّيْلِ وَيَخْتَفِي بِالنَّهَارِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: نَهَى أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا (6) أَيْ: يَأْتِيَهُمْ فجأة بالليل. وفي
__________
(1) في أ: "جهل".
(2) في م: "ما سمعت".
(3) المسند (4/335) وقال الهيثمي في المجمع (7/136) : "عبد الرحمن ذكره ابن أبي حاتم ولم يخرجه أحد وبقية رجاله ثقات".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11664) .
(5) في أ: "أقسم".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (5243) من حديث جابر، رضي الله عنه.(8/374)
الْحَدِيثِ الْآخَرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الدُّعَاءِ: "إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ" (1) .
وَقَوْلُهُ: {الثَّاقِبُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُضِيءُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَثْقُبُ الشَّيَاطِينَ إِذَا أُرْسِلَ عَلَيْهَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ مُضِيءٌ وَمُحْرِقٌ لِلشَّيْطَانِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} أَيْ: كُلُّ نَفْسٍ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ يَحْرُسُهَا مِنَ الْآفَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} الْآيَةَ [الرَّعْدِ: 11] .
وَقَوْلُهُ: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} تَنْبِيهٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى ضَعْفِ أَصْلِهِ الَّذِي خُلق مِنْهُ، وَإِرْشَادٌ لَهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْمَعَادِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى البَدَاءة فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَمَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ: 27] .
وَقَوْلُهُ: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} يَعْنِي: الْمَنِيُّ؛ يَخْرُجُ دَفقًا مِنَ الرَّجُلِ وَمِنَ الْمَرْأَةِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ بِإِذْنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ (2) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} يَعْنِي: صُلْبَ الرَّجُلِ وَتَرَائِبَ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ صَدْرُهَا.
قَالَ شَبِيبِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} صُلْبِ الرَّجُلِ وَتَرَائِبِ الْمَرْأَةِ، أَصْفَرَ رَقِيقٍ، لَا يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا مِنْهُمَا. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَير، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ والسُّدِّي، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَر: سَمِعْتُ الْحَكَمَ ذَكَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} قَالَ: هَذِهِ التَّرَائِبُ. وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَعَطِيَّةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَريبة الْمَرْأَةِ موضُع الْقِلَادَةِ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: التَّرَائِبُ: بَيْنَ ثَدْيَيْهَا.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: التَّرَائِبُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ إِلَى الصَّدْرِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: التَّرَائِبُ أَسْفَلُ مِنَ التَّرَاقِي. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير: التَّرَائِبُ أَرْبَعَةُ أَضْلَاعٍ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ: التَّرَائِبُ بَيْنَ الثَّدْيَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مَعْمَر بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ (3) الْمَدَنِيِّ: أَنَّهُ بَلَغَهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} قَالَ: هُوَ عُصَارَةُ الْقَلْبِ، مِنْ هُنَاكَ يَكُونُ الْوَلَدُ.
وَعَنْ قَتَادَةَ: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} مِنْ بَيْنِ صُلْبِهِ وَنَحْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى رَجْعِ هَذَا الْمَاءِ الدَّافِقِ إِلَى مَقَرِّهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ لَقَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ. قاله مجاهد،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (3/419) من حديث عبد الرحمن بن خنبش، رضي الله عنه.
(2) في أ: "بإذن الله تعالى".
(3) في أ: "حبة".(8/375)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
وَعِكْرِمَةُ، وَغَيْرُهُمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ عَلَى رَجْعِ هَذَا الْإِنْسَانِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، أَيْ: إِعَادَتُهُ وَبَعْثُهُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ لَقَادِرٌ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبَدْءِ قَدَرَ عَلَى الْإِعَادَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، هَذَا الدَّلِيلَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَ بِهِ الضَّحَّاكُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، أَيْ: تَظْهَرُ وَتَبْدُو، وَيَبْقَى السِّرُّ عَلَانِيَةً وَالْمَكْنُونُ مَشْهُورًا. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ (1) يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ" (2) .
وَقَوْلُهُ: {فَمَا لَهُ} أَيِ: الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {مِنْ قُوَّةٍ} أَيْ: فِي نَفْسِهِ {وَلا نَاصِرٍ} أَيْ: مِنْ خَارِجٍ مِنْهُ، أَيْ: لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْقِذَ نَفْسَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ لَهُ أَحَدٌ ذَلِكَ.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّجْعُ: الْمَطَرُ. وَعَنْهُ: هُوَ السَّحَابُ فِيهِ الْمَطَرُ. وَعَنْهُ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} تُمْطِرُ ثُمَّ تُمْطِرُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: تُرْجِعُ رِزْقَ الْعِبَادِ كُلَّ عَامٍ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَهَلَكُوا وَهَلَكَتْ مَوَاشِيهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَرْجِعُ نُجُومُهَا وَشَمْسُهَا وَقَمَرُهَا، يَأْتِينَ مِنْ هَاهُنَا.
{وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ انْصِدَاعُهَا عَنِ النَّبَاتِ. وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَير وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَقٌّ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ.
وَقَالَ آخَرُ: حُكْمٌ عَدْلٌ.
{وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أَيْ: بَلْ هُوَ حَقٌّ جَدٌّ.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِهِ، فَقَالَ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} أَيْ: يَمْكُرُونَ بِالنَّاسِ فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ.
ثُمَّ قَالَ: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} أَيْ: أَنْظِرْهُمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ، {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} أَيْ: قَلِيلًا. أَيْ: وَتَرَى مَاذَا أُحِلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ وَالْهَلَاكِ، كَمَا قَالَ: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لُقْمَانَ: 24] .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الطَّارِقِ" ولله الحمد (3) .
__________
(1) في أ: "عند رأسه".
(2) صحيح البخاري برقم (3188) وصحيح مسلم برقم (1735) .
(3) في أ: "والله أعلم".(8/376)
تَفْسِيرُ سُورَةِ سَبِّحْ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ. ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ. ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ. ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ جَاءَ، فَمَا جَاءَ حَتَّى قَرَأْتُ: " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا (1) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ ثُوَيْر بْنِ أَبِي فاختَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ: " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (2) .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ: "هَلَّا صَلّيت بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى" (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن أَبِيهِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْعِيدَيْنِ بِ " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " وَ " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " وَإِنْ وَافَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَرَأَهُمَا جَمِيعًا (4) .
هَكَذَا وَقَعَ فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ-فِي صَحِيحِهِ-وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، من حديث أبو عَوَانة وَجَرِيرٍ وَشُعْبَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، بِهِ (5) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: "وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ وَمِسْعَرٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ-قَالَ: وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ-عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النُّعْمَانِ. وَلَا يُعْرَفُ لِحَبِيبٍ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِيهِ".
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بِهِ (6) كما رواه الجماعة، والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4941) .
(2) المسند (1/961) وقال الهيثمي في المجمع (7/136) : "فيه ثوير بن أبي فاختة وهو متروك".
(3) صحيح البخاري برقم (507) وصحيح مسلم برقم (465) .
(4) المسند (4/271)
(5) صحيح مسلم برقم (878) وسنن أبي داود برقم (1122) وسنن الترمذي برقم (533) وسنن النسائي (3/112) .
(6) سنن ابن ماجة برقم (1281) .(8/377)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
وَلَفْظُ مُسْلِمٍ وَأَهْلِ السُّنَنِ: كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ بِ " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " وَ " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " وَرُبَّمَا اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَرَأَهُمَا.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبْزَى، وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِ " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " وَ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " وَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " -زَادَتْ عَائِشَةُ: وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ (1) .
وَهَكَذَا رُوي هَذَا الْحَدِيثُ-مِنْ طَرِيقِ-جَابِرٍ وَأَبِي أُمَامَةَ صُدَيّ بْنِ عَجْلَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعُمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (2) وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْإِطَالَةِ لَأَوْرَدْنَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ أَسَانِيدَ ذَلِكَ وَمُتُونِهِ وَلَكِنْ فِي الْإِرْشَادِ بِهَذَا الِاخْتِصَارِ كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (13) }
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا مُوسَى-يَعْنِي ابْنَ أَيُّوبَ الْغَافِقِيَّ-حَدَّثَنَا عَمِّي إِيَاسُ بْنُ عَامِرٍ، سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ لَمَّا نَزَلَتْ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الْوَاقِعَةِ:74، 96] قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ". فَلَمَّا نَزَلَتْ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} قَالَ: "اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ".
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَيُّوبَ، بِهِ (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُسْلِمٍ البَطين، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَرَأَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} قَالَ: "سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى".
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ زُهَير بْنِ حَرْبٍ، عَنْ وَكِيعٍ، به (4) وقال: "خولف فيه وكيع،
__________
(1) حديث أبي بن كعب في المسند (5/123) وحديث ابن عباس في المسند (1/299) وحديث ابن أبزى في المسند (3/406) وحديث عائشة في المسند (6/227) .
(2) وقد توسع الحافظ ابن حجر في ذكر طرق هذا الحديث والكلام عليها في كتابه تلخيص الحبير (2/19) .
(3) المسند (4/155) وسنن أبي داود برقم (869) وسنن ابن ماجة برقم (887) .
(4) المسند (1/232) وسنن أبي داود برقم (883) .(8/378)
رَوَاهُ أَبُو وَكِيعٍ وَشُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَوْقُوفًا".
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا قَرَأَ (1) {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} فَقَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيد، حَدَّثَنَا حَكَّام عَنْ عَنْبَسة، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الهَمْداني: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ إِذَا قَرَأَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، وَإِذَا قَرَأَ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الْقِيَامَةِ:1] فَأَتَى عَلَى آخِرِهَا: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الْقِيَامَةِ:40] يَقُولُ: سُبْحَانَكَ وَبَلَى (2) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا، قَالَ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى".
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أَيْ: خَلَقَ الْخَلِيقَةَ وسَوّى كُلَّ مَخْلُوقٍ فِي أَحْسَنِ الْهَيْئَاتِ.
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} قَالَ مُجَاهِدٌ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِلشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لِفِرْعَوْنَ: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:5] أَيْ: قَدَّرَ قَدْرًا، وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الله ابن عَمرو: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدَّر مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ" (3) .
وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أَيْ: مِنْ جَمِيعِ صُنُوفِ النَّبَاتَاتِ وَالزُّرُوعِ، {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَشِيمًا مُتَغَيِّرًا. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ زَيْدٍ، نَحْوُهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ (4) يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى أَحَوَى، أَيْ: أَخْضَرُ إِلَى السَّوَادِ، فَجَعَلَهُ غُثَاءً بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ صَوَابٍ؛ لِمُخَالَفَتِهِ أَقْوَالَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
وَقَوْلُهُ: {سَنُقْرِئُكَ} أَيْ: يَا مُحَمَّدُ {فَلا تَنْسَى} وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَوَعْدٌ مِنْهُ لَهُ، بِأَنَّهُ سَيُقْرِئُهُ قِرَاءَةً لَا يَنْسَاهَا، {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْسَى شَيْئًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {فَلا تَنْسَى} طَلَبٌ، وَجَعَلُوا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا ما يقع من
__________
(1) في أ: "يقرأ".
(2) تفسير الطبري (30/96) .
(3) صحيح مسلم برقم (2653) .
(4) في أ: "بكلام العربية".(8/379)
النَّسْخِ، أَيْ: لَا تَنْسَى مَا نُقْرِئُكَ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ رَفْعَهُ؛ فَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَتْرُكَهُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} أَيْ: يَعْلَمُ مَا يَجْهَرُ بِهِ الْعِبَادُ وَمَا يُخْفُونَهُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أَيْ: نُسَهِّلُ عَلَيْكَ أَفْعَالَ الْخَيْرِ وَأَقْوَالَهُ، وَنُشَرِّعُ لَكَ شَرْعًا سَهْلًا سَمْحًا مُسْتَقِيمًا عَدْلًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا حَرَجَ وَلَا عُسْرَ.
وَقَوْلُهُ: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أَيْ: ذكِّر حَيْثُ تَنْفَعُ التَّذْكِرَةُ. وَمِنْ هَاهُنَا (1) يُؤْخَذُ الْأَدَبُ فِي نَشْرِ الْعِلْمِ، فَلَا يَضَعُهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَنْتَ بمحدِّث قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ. وَقَالَ: حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟!
وَقَوْلُهُ: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} أَيْ: سَيَتَّعِظُ بِمَا تُبَلِّغُهُ-يَا مُحَمَّدُ-مَنْ قَلْبُهُ يَخْشَى اللَّهَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ، {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} أَيْ: لَا يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَنْفَعُهُ، بَلْ هِيَ مُضِرَّةٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِهَا يَشْعُرُ مَا يُعَاقَبُ بِهِ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ، وَأَنْوَاعِ النَّكَالِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ-يَعْنِي التَّيْمِيُّ-عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا لَا (2) يَمُوتُونَ وَلَا يَحْيَوْنَ، وَأَمَّا أُنَاسٌ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِمُ الرَّحْمَةَ فَيُمِيتُهُمْ فِي النَّارِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الشُّفَعَاءُ (3) فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ أَنْصَارَهُ فَيُنْبِتَهُمْ-أَوْ قَالَ: يَنْبُتُونَ-فِي نَهَرِ الْحَيَاءِ-أَوْ قَالَ: الْحَيَاةِ-أَوْ قَالَ: الْحَيَوَانِ-أَوْ قَالَ: نَهَرِ الْجَنَّةِ فَيَنْبُتُونَ-نَبَاتَ الحبَّة فِي حَمِيلِ السَّيْلِ". قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا تَرَوْنَ الشَّجَرَةَ تَكُونُ خَضْرَاءَ، ثُمَّ تَكُونُ صَفْرَاءَ أَوْ قَالَ: تَكُونُ صَفْرَاءَ ثُمَّ تَكُونُ خَضْرَاءَ؟ ". قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْبَادِيَةِ (4) .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ أُنَاسٌ-أَوْ كَمَا قَالَ-تُصِيبُهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ-أَوْ قَالَ: بِخَطَايَاهُمْ-فَيُمِيتُهُمْ إِمَاتَةً، حَتَّى إِذَا صَارُوا فَحْمًا أُذِنَ فِي الشَّفَاعَةِ، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَنَبَتُوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، اقْبِضُوا عَلَيْهِمْ. فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ". قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ حِينَئِذٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِالْبَادِيَةِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ (5) وَشُعْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي مَسْلَمة سَعِيدِ بْنِ زيد، به
__________
(1) في م: "ومن هذا".
(2) في أ: "فإنهم لا".
(3) في أ: "الشفاعة".
(4) المسند (3/5) .
(5) في أ: "الفضل".(8/380)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
مِثْلَهُ (1) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ النَّارِ الَّذِينَ لَا يُرِيدُ اللَّهُ إِخْرَاجَهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ الَّذِينَ يُرِيدُ اللَّهُ إِخْرَاجَهُمْ يُمِيتُهُمْ فِيهَا إِمَاتَةً، حَتَّى يَصِيرُوا فَحْمًا، ثُمَّ يَخْرُجُونَ ضَبَائِرَ فَيُلْقَوْنَ عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، أَوْ: يُرَشُّ (2) عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحبَّة فِي حَمِيلِ السَّيْلِ" (3) .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ إِخْبَارًا عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزُّخْرُفِ:77] وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فَاطِرٍ:36] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) }
__________
(1) المسند (3/11) وصحيح مسلم برقم (185) .
(2) في م: "فيرش".
(3) المسند (3/20) .(8/381)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) }
يَقُولُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} أَيْ: طهَّر نَفْسَهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَتَابَعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أَيْ: أَقَامَ الصَّلَاةَ فِي أَوْقَاتِهَا؛ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ وَطَاعَةً لِأَمْرِ اللَّهِ وَامْتِثَالًا لِشَرْعِ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ:
حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَرْزَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَمِّي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} قَالَ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ، وَشَهِدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ"، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} قَالَ: "هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَالِاهْتِمَامُ بِهَا".
ثُمَّ قَالَ (1) لَا يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (2) .
وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَمرو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْآمُلِيُّ (3) حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي خَلْدَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْعَالِيَةِ فَقَالَ لِي: إِذَا غَدَوْتَ غَدًا إِلَى الْعِيدِ فَمُرَّ بِي. قَالَ: فَمَرَرْتُ بِهِ فَقَالَ: هَلْ طَعِمْتَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَضْتَ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَاءِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَا فَعَلْتَ بِزَكَاتِكَ؟ قُلْتُ: وَكَأَنَّكَ قُلت: قَدْ وَجّهتهَا؟ قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُكَ لِهَذَا. ثُمَّ قَرَأَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يَرَوْنَ صَدَقَةً أفضل منها ومن سقاية الماء.
__________
(1) في م: "وقال".
(2) مسند البزار برقم (2284) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/137) : "رواه البزار عن شيخه عباد بن أحمد العرزمي وهو متروك".
(3) في أ: "الأيلي".(8/381)
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَيَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}
وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ: إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ سَائِلٌ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ، فَلْيُقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيْ صَلَاتِهِ زَكَاتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} زَكَّى مَالَهُ وَأَرْضَى خَالِقَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أَيْ: تُقَدِّمُونَهَا عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَتُبْدُونَهَا عَلَى مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أَيْ: ثَوَابُ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَأَبْقَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا دنيَّة فَانِيَةٌ، وَالْآخِرَةَ شَرِيفَةٌ بَاقِيَةٌ، فَكَيْفَ يُؤْثِرُ عَاقِلٌ مَا يَفْنَى عَلَى مَا يَبْقَى، وَيَهْتَمُّ بِمَا يَزُولُ عَنْهُ قَرِيبًا، وَيَتْرُكُ الِاهْتِمَامَ بِدَارِ الْبَقَاءِ وَالْخُلْدِ؟!
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ذُوَيد، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ" (1) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَرْفَجة الثَّقَفِيِّ قَالَ: اسْتَقْرَأْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} فَلَمَّا بَلَغَ: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} تَرَكَ الْقِرَاءَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ. فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: آثَرْنَا الدُّنْيَا لِأَنَّا رَأَيْنَا زِينَتَهَا وَنِسَاءَهَا وَطَعَامَهَا وَشَرَابَهَا، وزُويت عَنَّا الْآخِرَةُ فَاخْتَرْنَا هَذَا الْعَاجِلَ وَتَرَكْنَا الْآجِلَ (2) .
وَهَذَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ وَالْهَضْمِ، أَوْ هُوَ إِخْبَارٌ عَنِ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ (3) هُوَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مِنْ أَحَبِّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، ومَن أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يبقَى عَلَى مَا يَفْنَى". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْخُزَاعِيِّ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، بِهِ مِثْلَهُ سَوَاءً (4) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} قَالَ الحافظ أبو بكر البزار:
__________
(1) المسند (6/71) وقال الهيثمي في المجمع (10/288) : "رجاله رجال الصحيح غير ذويد وهو ثقة".
(2) تفسير الطبري (30/100) .
(3) في أ: "من جنسه".
(4) المسند (4/412) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2473) "موارد" من طريق يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أبي عمرو به.(8/382)
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعتمر بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ كُلُّ هَذَا-أَوْ: كَانَ هَذَا-فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى" (1) .
ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ أَسْنَدَ الثِّقَاتَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرَ (2) هَذَا، وَحَدِيثًا آخَرَ أَوْرَدَهُ قَبْلَ هَذَا.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} قَالَ: كُلُّهَا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النَّجْمِ:37] قَالَ: وفَّى {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النَّجْمِ:38] (3) .
يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ "النَّجْمِ": {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النَّجْمِ: 36-42] الْآيَاتِ إِلَى آخِرِهِنَّ. وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ-فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مِهْران، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ-فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} يَقُولُ: الْآيَاتُ الَّتِي فِي سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قِصَّةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي الصُّحُفِ الْأُولَى.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا} إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ثُمَّ قَالَ: {إِنَّ هَذَا} أَيْ: مَضْمُونُ هَذَا الْكَلَامِ {لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (4) .
وَهَذَا اخْتِيَارٌ حَسَنٌ قَوِيٌّ. وَقَدْ رُوي عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ، نحوُه. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "سبح" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11668) .
(2) في أ: "نحو".
(3) مسند البزار برقم (2285) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/137) : "فيه عطاء بن السائب وقد اختلط، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(4) تفسير الطبري (30/101) .(8/383)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْغَاشِيَةِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَدْ تَقَدَّمَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشير: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِ " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " وَالْغَاشِيَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ، عَنْ ضَمْرَة بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: بِمَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ مَعَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ".
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ القَعْنَبي، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ، بِهِ (1) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ، بِهِ (2) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) }
الْغَاشِيَةُ: مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ؛ لِأَنَّهَا تَغْشَى النَّاسَ وتَعُمّهم. وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ تَقْرَأُ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فَقَامَ يَسْتَمِعُ وَيَقُولُ: "نَعَمْ، قَدْ جَاءَنِي" (3) .
وَقَوْلُهُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أَيْ: ذَلِيلَةٌ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَخْشَعُ وَلَا يَنْفَعُهَا عَمَلُهَا.
وَقَوْلُهُ: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أَيْ: قَدْ عَمِلَتْ عَمَلًا كَثِيرًا، وَنَصَبَتْ فِيهِ، وَصَلِيَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا حامية.
__________
(1) الموطأ (1/111) وسنن أبي داود برقم (1123) وسنن النسائي (3/112) .
(2) صحيح مسلم برقم (878) وسنن ابن ماجة برقم (1119) .
(3) وهذا مرسل وقد تقدم.(8/384)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ المُزَكّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ (1) حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عِمْرَانَ الجَوني يَقُولُ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِدَيْرِ رَاهِبٍ، قَالَ: فَنَادَاهُ: يَا رَاهِبُ [يَا رَاهِبُ] (2) فَأَشْرَفَ. قَالَ: فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَبْكِي. فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا يُبْكِيكَ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} فَذَاكَ الَّذِي أَبْكَانِي (3) .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} النَّصَارَى.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَالسُّدِّيِّ: {عَامِلَةٌ} فِي الدُّنْيَا بِالْمَعَاصِي {نَّاصِبَةٌ} فِي النَّارِ بِالْعَذَابِ وَالْأَغْلَالِ (4) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} أَيْ: حَارَةٌ شَدِيدَةُ الْحَرِّ {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أَيْ: قَدِ انْتَهَى حَرّها وَغَلَيَانُهَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ.
وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: شَجَرٌ مِنْ نَارٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الزَّقُّومُ. وَعَنْهُ: أَنَّهَا الْحِجَارَةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَقَتَادَةُ: هُوَ الشِّبرِقُ. قَالَ قَتَادَةُ: قُرَيْشٌ تُسَمِّيهِ فِي الرَّبِيعِ الشِّبرِقُ، وَفِي الصَّيْفِ الضَّرِيعُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: وَهُوَ شَجَرَةٌ ذَاتُ شَوْكٍ لَاطِئَةٌ بِالْأَرْضِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ مُجَاهِدٌ: الضريعُ نبتٌ يُقَالُ لَهُ: الشِّبرِقُ، يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْحِجَازِ: الضريعَ إِذَا يَبِسَ، وَهُوَ سُمٌّ (5) .
وَقَالَ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: {إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} هُوَ الشِّبرِقُ، إِذَا يَبِسَ سُمّي الضَّرِيعَ.
وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} مِنْ شَرِّ الطَّعَامِ وَأَبْشَعِهِ وَأَخْبَثِهِ.
وَقَوْلُهُ: {لَا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} يَعْنِي: لَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودٌ، وَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ مَحْذُورٌ.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) }
__________
(1) في أ: "حدثنا يسار".
(2) زيادة من م، أ.
(3) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (2/299) عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ به، ورواه الحاكم في المستدرك (2/522) من طريق الخضر بن أبان، عن سيار، عن جعفر به، وقال الحاكم: "هذه حكاية في وقتها، فإن أبا عمران الجوني لم يدرك زمان عمر".
(4) في م: "والإهلاك".
(5) صحيح البخاري (8/700) "فتح".(8/385)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْأَشْقِيَاءِ، ثَنَّى بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ فَقَالَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {نَّاعِمَةٌ} أَيْ: يُعْرَفُ النَّعِيمُ فِيهَا. وَإِنَّمَا حَصَل لَهَا ذَلِكَ بِسَعْيِهَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} قَدْ رَضِيَتْ عَمَلَهَا.
وَقَوْلُهُ: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أَيْ: رَفِيعَةٌ بَهِيَّةٌ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ، {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} أَيْ: لَا يُسْمَعُ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا كَلِمَةَ لَغْوٍ. كَمَا قَالَ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا} [مَرْيَمَ:62] وَقَالَ: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطَّوْرِ:23] وَقَالَ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الْوَاقِعَةِ: 25، 26]
{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أَيْ: سَارِحَةٌ. وَهَذِهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا عَيْنًا وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا هَذَا جِنْسٌ، يَعْنِي: فِيهَا عُيُونٌ جَارِيَاتٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: قُرئ عَلَى الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْبَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ قُرَّة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضَمْرة، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَفْجُرُ مِنْ تَحْتِ تِلَالِ-أَوْ: مِنْ تَحْتِ جِبَالِ-الْمِسْكِ" (1) .
{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} أَيْ: عَالِيَةٌ نَاعِمَةٌ كَثِيرَةُ الْفَرْشِ، مُرْتَفِعَةُ السَّمْك، عَلَيْهَا الْحُورُ الْعِينُ. قَالُوا: فَإِذَا أَرَادَ وَليُّ اللَّهِ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى تِلْكَ السُّرُرِ الْعَالِيَةِ تَوَاضَعَتْ لَهُ، {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} يَعْنِي: أَوَانِي الشُّرْبِ مُعَدَّةٌ مُرصدة (2) لِمَنْ أَرَادَهَا مِنْ أَرْبَابِهَا، {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّمَارِقُ: الْوَسَائِدُ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزَّرَابِيُّ: الْبُسُطُ. وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَمَعْنَى مَبْثُوثَةٍ، أَيْ: هَاهُنَا وَهَاهُنَا لِمَنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ عَلَيْهَا.
وَنَذْكُرُ هَاهُنَا هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ الْمُعَافِرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى: حَدَّثَنِي كُرَيْب أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا هَلْ مِنْ مُشَمَّر لِلْجَنَّةِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَر لَهَا، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وحُلَل كَثِيرَةٌ، وَمَقَامٌ فِي أَبَدٍ فِي دارٍ سَلِيمَةٍ، وَفَاكِهَةٍ وَخُضْرَةٍ، وَحَبْرَةٍ وَنَعْمَةٍ، فِي مَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ؟ ". قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا. قَالَ: " قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ". قَالَ الْقَوْمُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ (3) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ بِهِ (4) .
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) }
__________
(1) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2622) "موارد" من طريق القراطيسي، عن أسد بن موسى به.
(2) في م: "موضوعة".
(3) في أ: "سلمة".
(4) البعث لابن أبي داود برقم (71) وسنن ابن ماجة برقم (4332) وقال البوصيري في الزوائد (3/325) : "هذا إسناد فيه مقال، الضحاك المعافري ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي في طبقات التهذيب: "مجهول". وسليمان بن موسى مختلف فيه وباقي رجال الإسناد ثقات".(8/386)
يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} ؟ فَإِنَّهَا خَلق عَجِيبٌ، وَتَرْكِيبُهَا غَرِيبٌ، فَإِنَّهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَلِينُ لِلْحَمْلِ الثَّقِيلِ، وَتَنْقَادُ لِلْقَائِدِ الضَّعِيفِ، وَتُؤْكَلُ، وَيُنْتَفَعُ بِوَبَرِهَا، وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا. وَنُبِّهُوا بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ غَالِبُ دَوَابِّهِمْ كَانَتِ الْإِبِلُ، وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَقُولُ: اخْرُجُوا بِنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ؟ أَيْ: كَيْفَ رَفَعَهَا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنِ الْأَرْضِ هَذَا الرَّفْعَ الْعَظِيمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]
{وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} أَيْ: جُعِلَتْ مَنْصُوبَةً قَائِمَةً ثَابِتَةً رَاسِيَةً لِئَلَّا تَمِيدَ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا، وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَعَادِنِ.
{وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ؟ أَيْ: كَيْفَ بُسِطَتْ وَمُدَّتْ وَمُهِّدَتْ، فنبَّه الْبَدَوِيَّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ بَعِيرِهِ الَّذِي هُوَ رَاكِبٌ عَلَيْهِ، وَالسَّمَاءِ الَّتِي فَوْقَ رَأْسِهِ، وَالْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَهُ، وَالْأَرْضِ الَّتِي تَحْتَهُ-عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِ ذَلِكَ وَصَانِعِهِ، وَأَنَّهُ الرَّبُّ الْعَظِيمُ الْخَالِقُ الْمُتَصَرِّفُ الْمَالِكُ، وَأَنَّهُ الْإِلَهُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ. وَهَكَذَا أَقْسَمَ "ضِمَام" فِي سُؤَالِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُ أَتَانَا رسولُك فزعَم لَنَا أَنَّكَ تَزعُم أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ. قَالَ: "صَدَقَ". قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: "اللَّهُ". قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: "اللَّهُ". قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: "اللَّهُ". قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، آللهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رسولُك أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا. قَالَ: "صَدَقَ". قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟(8/387)
قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا؟ قَالَ: "صَدَقَ". قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ، آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟. قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: "صَدَقَ". قَالَ: ثُمَّ وَلَّى فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ شَيْئًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ صَدَقَ ليدخُلَنّ الْجَنَّةَ".
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، بِهِ (1) وعَلّقه الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ (2) وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عن شريك ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ بِطُولِهِ (3) وَقَالَ فِي آخِرِهِ: "وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ".
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا كَانَ يُحَدِّثُ عَنِ امْرَأَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، مَعَهَا ابْنٌ لَهَا تَرْعَى غَنَمًا، فَقَالَ لَهَا ابْنُهَا: يَا أُمَّهْ، مَنْ خَلَقَكِ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ أَبِي؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَنِي؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْجَبَلَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ هَذِهِ الْغَنَمَ؟ قَالَتِ: اللَّهُ. قَالَ: إِنِّي لَأَسْمَعُ لِلَّهِ شَأْنًا. وَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ فَتَقَطَّعَ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُنَا هَذَا.
قَالَ ابْنُ دِينَارٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ كَثِيرًا مَا يُحَدِّثُنَا بِهَذَا (4) .
فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ الْمَدِينِيُّ، ضَعّفه وَلَدُهُ الْإِمَامُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ.
وَقَوْلِهِ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} أَيْ: فَذَكِّرْ-يَا مُحَمَّدُ-النَّاسَ بِمَا أُرْسِلْتَ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمَا: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَسْتَ بِالَّذِي تُكْرِهُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". ثُمَّ قَرَأَ: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}
__________
(1) المسند (3/143) وصحيح مسلم برقم (12) .
(2) صحيح البخاري (1/148) "فتح" وسنن الترمذي برقم (619) وسنن النسائي الكبرى برقم (2401) .
(3) المسند (3/168) وصحيح البخاري برقم (63) وسنن أبي داود برقم (486) وسنن النسائي الكبرى برقم (2402) وسنن ابن ماجة برقم (1402) .
(4) ورواه ابن عدي في الكامل (4/178) عن أبي يعلى به مثله. وقال: "غير محفوظ، لا يحدث به عن ابن دينار غير عبد الله بن جعفر".(8/388)
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ "الْإِيمَانِ"، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي كِتَابَيِ (1) التَّفْسِيرِ" مِنْ سُنَنَيْهِمَا، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ، بِهِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ (2) وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِدُونِ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ (3) .
وَقَوْلُهُ: {إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} أَيْ: تَوَلَّى عَنِ الْعَمَلِ بِأَرْكَانِهِ، وَكَفَرَ بِالْحَقِّ بِجِنَانِهِ وَلِسَانِهِ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الْقِيَامَةِ: 31، 32] وَلِهَذَا قَالَ: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ} قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَالِدٍ (4) أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ مَرَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَلْيَنِ كَلِمَةٍ سَمِعَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "أَلَا كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، إِلَّا مَنْ شَرَد عَلَى اللَّهِ شَراد الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِهِ".
تَفَرَّدَ (5) بِإِخْرَاجِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ (6) وَعَلِيُّ بْنُ خَالِدٍ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى مَا هَاهُنَا: "رَوَى عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَعَنْهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ" (7) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} أَيْ: مَرْجِعَهُمْ وَمُنْقَلَبَهُمْ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أَيْ: نَحْنُ نُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَنُجَازِيهِمْ بِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًا فَشَرٌّ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الْغَاشِيَةِ" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في أ: "في كتاب".
(2) المسند (3/300) وصحيح مسلم برقم (21) وسنن الترمذي برقم (3341) وسنن النسائي الكبرى برقم (11670) .
(3) صحيح البخاري برقم (2946) وصحيح مسلم برقم (21) .
(4) في أ: "علي بن أبي خالد" والمثبت من "م" والمسند.
(5) في م: "انفرد".
(6) المسند (5/258) .
(7) الجرح والتعديل (6/184) وقد ذكر الهيثمي في المجمع (10/403) "أنه ثقة".(8/389)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْفَجْرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثار وَأَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى مُعَاذٌ صَلَاةً، فَجَاءَ رَجُلٌ فَصَلَّى مَعَهُ فطَول، فَصَلَّى فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذًا فَقَالَ: مُنَافِقٌ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ الْفَتَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ أُصَلِّي مَعَهُ فَطَوّل عَلَيّ، فَانْصَرَفْتُ وصليتُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَعَلَّقْتُ نَاضِحِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أفَتَّان يَا مُعَاذُ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِن {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَالْفَجْرِ} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (1) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) }
أَمَّا الْفَجْرُ فَمَعْرُوفٌ، وَهُوَ: الصُّبْحُ. قَالَهُ عَلَيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ. وَعَنْ مَسْرُوقٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: الْمُرَادُ بِهِ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ خَاصَّةً، وَهُوَ خَاتِمَةُ اللَّيَالِي الْعَشْرِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الصَّلَاةُ الَّتِي تُفْعَلُ عِنْدَهُ، كَمَا قَالَهُ عِكْرِمَةُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ النَّهَارِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ: الْمُرَادُ بِهَا عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ. كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ" -يَعْنِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ -قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ" (2) .
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11673) .
(2) صحيح البخاري برقم (969) .(8/390)
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْعَشْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، حكاه أبو جعفر ابن جَرِيرٍ وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى أَحَدٍ (1) وَقَدْ رَوَى أَبُو كُدَيْنة، عَنْ قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظِبْيان، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} قَالَ: هُوَ الْعَشْرُ الْأَوَّلُ مِنْ رَمَضَانَ.
وَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ؛ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا عَيَّاش بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي خَير بْنُ نُعَيم، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْعَشْرَ عَشْرُ الْأَضْحَى، وَالْوَتْرُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّفْعُ يَوْمُ النَّحْرِ".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَعَبْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، بِهِ (2) وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، بِهِ (3) وَهَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ، وَعِنْدِي أَنَّ الْمَتْنَ فِي رَفْعِهِ نَكَارَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ، لِكَوْنِهِ التَّاسِعَ، وَأَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ لِكَوْنِهِ الْعَاشِرَ. وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ أَيْضًا.
قَوْلٌ ثَانٍ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنِي عقبة بن خالد، عن واصل ابن السَّائِبِ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً عَنْ قَوْلِهِ: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قلتُ: صَلَاتُنَا وِتْرَنَا هَذَا؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْوَتْرَ لَيْلَةُ الْأَضْحَى.
قَوْلٌ ثَالِثٌ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ النُّعْمَانِ -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ-عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنِي بِمَكَّةَ قال: سمعتُ عبد الله ابن الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَقَامَ إِلَيْهِ رجلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنِي عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. فَقَالَ: الشَّفْعُ قَوْلُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَالْوَتْرُ قَوْلُهُ: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [الْبَقَرَةِ: 203] .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُرْتَفِعِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: الشَّفْعُ أَوْسَطُ أَيَّامِ (4) التَّشْرِيقِ، وَالْوَتْرُ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيرة، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وهو وتر يحب الوتر" (5) .
قَوْلٌ رَابِعٌ: قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْخَلْقُ كُلُّهُمْ شَفْعٌ، وَوِتْرٌ، أَقْسَمَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الأول.
__________
(1) في أ: "إلى واحد".
(2) المسند (3/327) وسنن النسائي الكبرى برقم (1671) .
(3) تفسير الطبري (30/108) .
(4) في أ: "الشفع الأيام من".
(5) صحيح البخاري برقم (6410) وصحيح مسلم برقم (2677) .(8/391)
وَقَالَ العَوفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قَالَ: اللَّهُ وِتْرٌ وَاحِدٌ، وَأَنْتُمْ شَفْعٌ. وَيُقَالُ: الشَّفْعُ صَلَاةُ الْغَدَاةِ، وَالْوَتْرُ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ.
قَوْلٌ خَامِسٌ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قَالَ: الشَّفْعُ الزَّوْجُ، وَالْوَتْرُ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: اللَّهُ الْوَتْرُ، وَخَلْقُهُ الشَّفْعُ، الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} كُلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ شَفْعٌ، السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَنَحْوُ هَذَا. وَنَحَا مُجَاهِدٌ فِي هَذَا مَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذَّارِيَاتِ:49] أَيْ: لِتَعْلَمُوا أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ.
قَوْلٌ سَادِسٌ: قَالَ قَتَادَةُ، عَنِ الْحَسَنِ: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} هُوَ الْعَدَدُ، مِنْهُ شَفْعٌ وَمِنْهُ وَتْرٌ.
قَوْلٌ سَابِعٌ: فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَوَاهُ ابنُ أَبِي حَاتِمٍ وابنُ جَرير مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَرُوي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ: حَدَّثَنِي عَبد اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَطَوَانِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، أَخْبَرَنِي عَيَّاشُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنِي خَيْرُ (1) بْنُ نُعَيم، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "الشَّفْعُ الْيَوْمَانِ، وَالْوَتَرُ الْيَوْمُ الثَّالِثُ" (2) .
هَكَذَا وَرَدَ هَذَا الْخَبَرُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ اللَّفْظِ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَمَا رَوَاهُ هُوَ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُهُمَا: هِيَ الصَّلَاةُ، مِنْهَا شَفْعٌ كَالرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّنَائِيَّةِ، وَمِنْهَا وَتْرٌ كَالْمَغْرِبِ، فَإِنَّهَا ثَلَاثٌ، وَهِيَ وَتْرُ النَّهَارِ. وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْوِتْرِ فِي آخِرِ التَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} قَالَ: هِيَ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ، مِنْهَا شَفْعٌ وَمِنْهَا وَتْرٌ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَمَوْقُوفٌ، وَلَفْظُهُ خَاصٌّ بِالْمَكْتُوبَةِ. وَقَدْ رُوِيَ مُتَّصِلًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُهُ عَامٌّ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ -هُوَ الطَّيَالِسِيُّ-حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ: أَنَّ شَيْخًا (3) حَدَّثَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، فَقَالَ: "هِيَ الصَّلَاةُ، بَعْضُهَا شَفْعٌ، وَبَعْضُهَا وَتْرٌ" (4) .
هَكَذَا وَقَعَ فِي الْمُسْنَدِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بُنْدَار، عَنِ عَفَّانَ وَعَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، كِلَاهُمَا عَنْ هَمَّامٍ -وَهُوَ ابْنُ يَحْيَى-عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ، عن
__________
(1) في أ: "حدثني القطراني".
(2) تفسير الطبري (30/109) .
(3) في أ: "أن جبيرا".
(4) المسند (4/437) .(8/392)
شَيْخٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (1) وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيّ وَأَبِي دَاوُدَ، كِلَاهُمَا عَنْ همام، عن قتادة، عن عمران بن عصام، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ (2) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ، عَنْ عِمْرَانَ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هَمَّامُ (3) عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ الضُّبَعِيِّ -شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ-عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ، هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي تَفْسِيرِهِ، فَجَعَلَ الشَّيْخَ الْبَصْرِيَّ هُوَ عِمْرَانَ بْنَ عِصَامٍ [الضُّبَعِيَّ] (4) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عِصَامٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قَالَ: "هِيَ الصَّلَاةُ مِنْهَا شَفْعٌ، وَمِنْهَا وَتْرٌ" (5) .
فَأَسْقَطَ ذِكْرَ الشَّيْخِ الْمُبْهَمِ، وَتَفَرَّدَ بِهِ عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ الضُّبَعِيُّ أَبُو عُمَارَةَ الْبَصْرِيُّ، إِمَامُ مَسْجِدِ بَنِي ضُبَيعة وَهُوَ وَالِدُ أَبِي جَمْرَة (6) نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ. رَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ، وَابْنُهُ أَبُو جَمْرَةَ (7) وَالْمُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو التَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ حبَّان فِي كِتَابِ الثِّقَاتِ (8) وَذَكَرَهُ خَلِيفَةُ ابن خَيَاط فِي التَّابِعِينَ (9) مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ شَرِيفًا نَبِيلًا حَظِيًّا عِنْدَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، ثُمَّ قَتَلَهُ يَوْمَ الزَّاوِيَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ (10) وَثَمَانِينَ لِخُرُوجِهِ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ. وَعِنْدِي أَنَّ وَقْفَهُ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمْ يَجْزِمِ ابْنُ جَرِيرٍ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (11) قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ إِذَا ذَهَبَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} حَتَّى يُذْهِبَ بَعْضُهُ بَعْضًا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَابْنِ زَيْدٍ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} إِذَا سَارَ.
وَهَذَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَيْ: ذَهَبَ. ويحتمل أن يكون المراد إذا سار،
__________
(1) تفسير الطبري (30/109) .
(2) سنن الترمذي برقم (3342) .
(3) في أ: "أخبرنا هشام".
(4) زيادة من أ.
(5) تفسير الطبري (30/109) .
(6) في أ: "أبي حمزة".
(7) في أ: "أبي حمزة".
(8) الثقات (5/234) .
(9) في أ: "المتابعين".
(10) في م: "سنة ثنتين".
(11) في م: "يسرى".(8/393)
أَيْ: أَقْبَلَ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ هَذَا أَنْسَبُ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: {وَالْفَجْرِ} فَإِنَّ الْفَجْرَ هُوَ إِقْبَالُ النَّهَارِ وَإِدْبَارُ اللَّيْلِ، فَإِذَا حُمِلَ قَوْلُهُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (1) عَلَى إِقْبَالِهِ كَانَ قَسَمًا بِإِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِ النَّهَارِ، وَبِالْعَكْسِ، كَقَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التَّكْوِيرِ:17، 18] . وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: { [وَاللَّيْلِ] إِذَا يَسْرِ} (2) أَيْ: يَجْرِي.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} يَعْنِي: لَيْلَةَ جَمْع. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} قَالَ: اسْرِ يَا سَارِ وَلَا تَبِينَ إِلَّا بجَمْع.
وَقَوْلُهُ: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} أَيْ: لِذِي عَقْلٍ وَلُبٍّ وَحِجَا [وَدِينٍ] (3) وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَقْلُ حجْرًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَمِنْهُ حجْرُ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الطَّائِفَ مِنَ اللُّصُوقِ بِجِدَارِهِ الشَّامِيِّ. وَمِنْهُ حِجْرُ الْيَمَامَةِ، وحَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَى فُلَانٍ: إِذَا مَنَعَهُ التَّصَرُّفَ، {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الْفُرْقَانِ:22] ، كُلُّ هَذَا مِنْ قَبِيلٍ وَاحِدٍ، وَمَعْنًى مُتَقَارِبٍ، وَهَذَا الْقَسَمُ هُوَ بِأَوْقَاتِ الْعِبَادَةِ، وَبِنَفْسِ الْعِبَادَةِ مِنْ حَجٍّ وَصَلَاةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا [إِلَيْهِ عِبَادُهُ] (4) الْمُتَّقُونَ الْمُطِيعُونَ لَهُ، الْخَائِفُونَ مِنْهُ، الْمُتَوَاضِعُونَ لَدَيْهِ، الْخَاشِعُونَ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ هَؤُلَاءِ وَعِبَادَتَهُمْ وَطَاعَتَهُمْ قَالَ بَعْدَهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} وَهَؤُلَاءِ كَانُوا مُتَمَرِّدِينَ عُتَاةً جَبَّارِينَ، خَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ مُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ، جَاحِدِينَ لِكُتُبِهِ. فَذَكَرَ تَعَالَى كَيْفَ أَهْلَكَهُمْ وَدَمَّرَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ أَحَادِيثَ وعبَرا، فَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} وَهَؤُلَاءِ عَادٌ الْأَوْلَى، وَهُمْ أَوْلَادُ عَادِ بْنِ إِرَمَ بْنِ عَوص بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ، قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُمُ الَّذِينَ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَسُولَهُ هُودًا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَمَنْ آمَنُ مَعَهُ مِنْهُمْ، وَأَهْلَكَهُمْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الْحَاقَّةِ:7، 8] وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّتَهُمْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، لِيَعْتَبِرَ بِمَصْرَعِهِمُ الْمُؤْمِنُونَ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} (5) عَطْفُ بَيَانٍ؛ زِيَادَةُ تَعْرِيفٍ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {ذَاتِ الْعِمَادِ} لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ بُيُوتَ الشِّعر الَّتِي تُرْفَعُ بِالْأَعْمِدَةِ الشِّدَادِ، وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ (6) خِلْقَةً وَأَقْوَاهُمْ بَطْشًا، وَلِهَذَا ذكَّرهم هُودٌ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ، فَقَالَ: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] } (7) [الأعراف:69] . وقال تعالى:
__________
(1) في م: "يسرى".
(2) زيادة من م، أ.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م، أ.
(5) في م: "بعاد إرم".
(6) في م: "زيادتهم".
(7) في م، أ، هـ: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين" والصواب ما أثبتناه.(8/394)
{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فُصِّلَتْ:15] ، وَقَالَ هَاهُنَا: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} أَيِ: الْقَبِيلَةُ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْ مِثْلَهَا فِي بِلَادِهِمْ، لِقُوَّتِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ وَعِظَمِ تَرْكِيبِهِمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: إِرَمَ: أُمَّةٌ قَدِيمَةٌ. يَعْنِي: عَادًا الْأُولَى، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ، والسُّدِّيُّ: إِنَّ إِرَمَ بَيْتُ مَمْلَكَةِ عَادٍ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْكَلْبِيُّ فِي قَوْلِهِ: {ذَاتِ الْعِمَادِ} كَانُوا أَهْلَ عَمُودٍ لَا يُقِيمُونَ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ: {ذَاتِ الْعِمَادِ} لِطُولِهِمْ.
وَاخْتَارَ الْأَوَّلَ ابنُ جَرِيرٍ، وَرَدَّ الثَّانِي فَأَصَابَ.
وَقَوْلُهُ: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} أَعَادَ ابْنُ زَيْدٍ الضميرَ عَلَى الْعِمَادِ؛ لِارْتِفَاعِهَا، وَقَالَ: بَنَوْا عُمُدا بِالْأَحْقَافِ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ. وَأَمَّا قَتَادَةُ وَابْنُ جَرِيرٍ فَأَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَى الْقَبِيلَةِ، أَيْ: لَمْ يَخْلُقْ مِثْلَ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ فِي الْبِلَادِ، يَعْنِي فِي زَمَانِهِمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ، وَقَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ: الَّتِي لَمْ يُعْمَلْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَإِنَّمَا قَالَ: {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ}
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ الْمِقْدَامِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ فَقَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَأْتِي عَلَى صَخْرَةٍ فَيَحْمِلُهَا عَلَى الْحَيِّ فَيُهْلِكُهُمْ" (1) .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ. قَالَ: قَرَأْتُ كِتَابًا -قَدْ سَمَّى حَيْثُ قَرَأَهُ-: أَنَا شَدَّادُ بْنُ عَادٍ، وَأَنَا الَّذِي رَفَعْتُ الْعِمَادَ، وَأَنَا الَّذِي شَدَدْتُ بِذِرَاعِي نَظَرَ وَاحِدٍ، وَأَنَا الَّذِي كَنَزْتُ كَنْزًا عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: فَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ سَوَاءٌ كَانَتِ الْعِمَادُ أَبْنِيَةً بَنَوْهَا، أَوْ أَعْمِدَةَ بُيُوتِهِمْ لِلْبَدْوِ، أَوْ سِلَاحًا يُقَاتِلُونَ بِهِ، أَوْ طُولَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ -فَهُمْ قَبِيلَةٌ وَأُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ، الْمَقْرُونُونَ بِثَمُودَ كَمَا هَاهُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} مَدِينَةٌ إِمَّا دِمَشْقُ، كَمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعِكْرِمَةَ، أَوِ إِسْكَنْدَرِيَّةُ كَمَا رُوي عَنِ القُرَظي (2) أَوْ غَيْرُهُمَا، فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ كَيْفَ يَلْتَئِمُ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} إِنْ جَعَلَ ذَلِكَ بَدَلًا أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَّسِقُ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ. ثُمَّ الْمُرَادُ إِنَّمَا هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ إِهْلَاكِ الْقَبِيلَةِ الْمُسَمَّاةِ بِعَادٍ، وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ بَأْسِهِ الَّذِي لَا يُرَد، لَا أَنَّ المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم.
__________
(1) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في فتح الباري لابن حجر (8/701) .
(2) في أ: "القرطبي".(8/395)
وَإِنَّمَا نَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِكَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ ذِكْرِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قُصُورُهَا وَدَوْرُهَا وَبَسَاتِينُهَا، وَإِنَّ حَصْبَاءَهَا (1) لَآلِئٌ وَجَوَاهِرُ، وَتُرَابُهَا بَنَادِقُ الْمِسْكِ، وَأَنْهَارُهَا سَارِحَةٌ، وَثِمَارُهَا سَاقِطَةٌ، وَدُورُهَا لَا أَنِيسَ بِهَا، وَسُورُهَا (2) وَأَبْوَابُهَا تَصْفَرُّ، لَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٍ. وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ فَتَارَةٌ تَكُونُ بِأَرْضِ الشَّامِ، وَتَارَةٌ بِالْيَمَنِ، وَتَارَةٌ بِالْعِرَاقِ، وَتَارَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ -فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ خُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، مِنْ وَضْعِ بَعْضِ زَنَادِقَتِهِمْ، لِيَخْتَبِرُوا بِذَلِكَ عُقُولَ الْجَهَلَةِ مِنَ النَّاسِ أَنْ تُصَدِّقَهُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ -وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قِلابة-فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ ذَهَبَ فِي طَلَبِ أَبَاعِرَ لَهُ شَرَدَتْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَتِيهُ فِي ابْتِغَائِهَا، إِذْ طَلَعَ عَلَى مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ لَهَا سُورٌ وَأَبْوَابٌ، فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ فِيهَا قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَدِينَةِ الذَّهَبِيَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَأَنَّهُ رَجَعَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ، فَذَهَبُوا مَعَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي قَالَ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ قِصَّةَ {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} هَاهُنَا مُطَوَّلَةً جِدًّا، فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ لَيْسَ يَصِحُّ إِسْنَادُهَا، وَلَوْ صَحَّ إِلَى ذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ فَقَدْ يَكُونُ اخْتَلَقَ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ أَصَابَهُ نَوْعٌ مِنَ الهَوَس وَالْخَبَالِ (3) فَاعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَهَذَا مِمَّا يُقْطَعُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالطَّامِعِينَ وَالْمُتَحَيِّلِينَ، مِنْ وُجُودِ مَطَالِبَ تَحْتَ الْأَرْضِ، فِيهَا قَنَاطِيرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَلْوَانِ الْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ (4) وَاللَّآلِئِ وَالْإِكْسِيرِ الْكَبِيرِ، لَكِنْ عَلَيْهَا مَوَانِعُ تَمْنَعُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَالْأَخْذِ مِنْهَا، فَيَحْتَالُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ وَالضَّعَفَةِ وَالسُّفَهَاءِ، فَيَأْكُلُونَهَا بِالْبَاطِلِ فِي صَرْفِهَا فِي بَخَاخِيرَ وَعَقَاقِيرَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْهَذَيَانَاتِ، ويَطْنزون بِهِمْ. وَالَّذِي يُجْزَمُ بِهِ أَنَّ فِي الْأَرْضِ دَفَائِنَ جَاهِلِيَّةً وَإِسْلَامِيَّةً وَكُنُوزًا كَثِيرَةً، مَنْ ظَفَرَ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَمْكَنَهُ تَحْوِيلُهُ (5) فَأَمَّا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي زَعَمُوهَا فَكَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ وَبُهْتٌ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يَقُولُونَ إِلَّا عَنْ نَقْلِهِمْ أَوْ نَقْلِ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْهَادِي لِلصَّوَابِ.
وقولُ ابْنِ جَرِيرٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {إِرَمَ} قَبِيلَةً أَوْ بَلْدَةً كَانَتْ عَادٌ تَسْكُنُهَا فَلِذَلِكَ لَمْ تُصرَف فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ السِّيَاقِ إِنَّمَا هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْقَبِيلَةِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} يَعْنِي: يَقْطَعُونَ الصَّخْرَ بِالْوَادِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَنْحِتُونَهَا وَيَخْرِقُونَهَا. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَمِنْهُ يُقَالُ: "مُجْتَابِي النِّمَارَ". إِذَا خَرَقُوهَا، وَاجْتَابَ الثَّوْبَ: إِذَا فَتَحَهُ. وَمِنْهُ الْجَيْبُ أَيْضًا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشُّعَرَاءِ:149] . وَأَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
__________
(1) في أ: "وأن حصباؤها" وهو خطأ.
(2) في م: "وسررها".
(3) في م: "والخيال".
(4) في م: "والياقوت".
(5) في م: "تحويلها".(8/396)
أَلَا كُلّ شَيْءٍ -مَا خَلا اللَّهَ-بائدٌ ... كَما بَاد حَيٌّ مِنْ شَنِيفٍ وَمَارِدِ ...
هُم ضَرَبُوا فِي كُلِّ صَمَّاء صَعدة ... بِأَيْدٍ شِدَاد أَيَّدَاتِ السَّواعد (1)
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا عَرَبًا، وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ بِوَادِي الْقُرَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ "عَادٍ" مُسْتَقْصَاةً فِي سُورَةِ "الْأَعْرَافِ" بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ} قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأَوْتَادُ: الْجُنُودُ الَّذِينَ يَشُدُّونَ لَهُ أَمْرَهُ. وَيُقَالُ: كَانَ فِرْعَوْنُ يُوتِدُ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ فِي أَوْتَادٍ مِنْ حَديد يُعَلِّقُهُمْ بِهَا. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ يُوتِدُ النَّاسَ بِالْأَوْتَادِ. وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ يَرْبِطُ الرَّجُلَ، كُلُّ قَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِهِ فِي وَتَدٍ ثُمَّ يُرْسِلُ عَلَيْهِ صَخْرَةً عَظِيمَةً فَتَشْدَخُهُ (2) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ مَطَالٌّ وَمَلَاعِبٌ، يَلْعَبُ لَهُ تَحْتَهَا، مِنْ أَوْتَادٍ وَحِبَالٍ.
وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: قِيلَ لِفِرْعَوْنَ {ذِي الأوْتَادِ} ؛ لِأَنَّهُ ضَرَبَ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ، ثُمَّ جَعَلَ عَلَى ظَهْرِهَا رَحًى عَظِيمَةً حَتَّى مَاتَتْ.
وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} أَيْ: تَمَرَّدُوا وَعَتَوْا وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ بِالْإِفْسَادِ وَالْأَذِيَّةِ لِلنَّاسِ، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} أَيْ: أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ، وَأَحَلَّ بِهِمْ عُقُوبَةً لَا يَرُدُّهَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْمَعُ وَيَرَى. يَعْنِي: يَرْصُدُ (3) خَلْقَهُ فِيمَا يَعْمَلُونَ، وَيُجَازِي كُلًّا بِسَعْيِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَسَيُعْرَضُ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ، فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِعَدْلِهِ، وَيُقَابِلُ كُلًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ. وَهُوَ الْمُنَزَّهُ عَنِ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا -وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ وَفِي صِحَّتِهِ-فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الْبَيْسَانِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا مُعَاذُ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَدَى الْحَقِّ أَسِيرٌ. يَا مُعَاذُ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَسْكُنُ رَوْعُهُ وَلَا يَأْمَنُ اضْطِرَابُهُ حَتَّى يُخَلَّف جِسْرَ جَهَنَّمَ خَلْفَ ظَهْرِهِ. يَا مُعَاذُ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَيَّدَهُ الْقُرْآنُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ شَهَوَاتِهِ، وَعَنْ أَنْ يَهْلَكَ فِيهَا هُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَالْقُرْآنُ دَلِيلُهُ، وَالْخَوْفُ مَحَجَّتُهُ، وَالشَّوْقُ مَطِيَّتُهُ، وَالصَّلَاةُ كَهْفُهُ، وَالصَّوْمُ جَنَّتُهُ، وَالصَّدَقَةُ فِكَاكُهُ، وَالصِّدْقُ أَمِيرُهُ، وَالْحَيَاءُ وَزِيرُهُ، وَرَبُّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمِرْصَادِ" (4) .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: يُونُسُ الْحَذَّاءُ وَأَبُو حَمْزَةَ مَجْهُولَانِ، وَأَبُو حَمْزَةَ عَنْ مُعَاذٍ مُرْسَلٌ. وَلَوْ كَانَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ لَكَانَ حَسَنًا. أَيْ: لَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ لَكَانَ حَسَنًا. ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حاتم:
__________
(1) تفسير الطبري (30/113) .
(2) في أ: "فشخده".
(3) في أ: "يراصد".
(4) ورواه أبو نعيم في الحلية (10/31) من طريق إسحاق بن أبي حسان، عن أحمد بن أبي الحواري به، ورواه أبو نعيم في الحلية (1/26) من طريق عبد الملك بن أبي كريمة، عن أبي حاجب، عن عبد الرحمن، عن معاذ مرفوعا بنحوه.(8/397)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَيْفَعَ بْنِ عَبْدٍ الْكُلَاعِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَهُ وَهُوَ يَعِظُ النَّاسَ يَقُولُ: إِنَّ لِجَهَنَّمَ سَبْعَ قَنَاطِرَ -قَالَ: وَالصِّرَاطُ عَلَيْهِنَّ، قَالَ: فَيَحْبِسُ الْخَلَائِقَ عِنْدَ الْقَنْطَرَةِ الْأُولَى، فَيَقُولُ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصَّافَّاتِ:24] ، قَالَ: فَيُحَاسَبُونَ عَلَى الصَّلَاةِ ويُسألون عَنْهَا، قَالَ: فَيَهْلِكُ فِيهَا مَنْ هَلَكَ، وَيَنْجُو مَنْ نَجَا، فَإِذَا بَلَغُوا الْقَنْطَرَةَ الثَّانِيَةَ حُوسبوا عَلَى الْأَمَانَةِ كَيْفَ أَدَّوْهَا، وَكَيْفَ خَانُوهَا؟ قَالَ: فَيَهْلِكُ مَنْ هَلَكَ وَيَنْجُو مَنْ نَجَا. فَإِذَا بَلَغُوا الْقَنْطَرَةَ الثَّالِثَةَ سُئلوا عَنِ الرَّحِمِ كَيْفَ وَصَلُوها وَكَيْفَ قَطَعُوهَا؟ قَالَ: فَيَهْلِكُ مَنْ هَلَكَ وَيَنْجُو مَنْ نَجَا. قَالَ: وَالرَّحِمُ يَوْمَئِذٍ مُتَدَلِّيَةٌ إِلَى الهُويّ فِي جَهَنَّمَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ مَنْ وَصَلَنِي فَصِلْه، وَمَنْ قَطَعَنِي فَاقْطَعْهُ. قَالَ: وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .
هَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْأَثَرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَمَامَهُ.
{فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) }
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْإِنْسَانِ فِي اعْتِقَادِهِ إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ لِيَخْتَبِرَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِكْرَامٌ لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ:55، 56] . وَكَذَلِكَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ إِذَا ابْتَلَاهُ وَامْتَحَنَهُ وضَيَّق عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِهَانَةٌ لَهُ. قَالَ اللَّهُ: {كَلا} أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ، لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا، فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الْمَالَ مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَإِنَّمَا الْمَدَارُ فِي ذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ، إِذَا كَانَ غَنِيًّا بِأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ فَقِيرًا بِأَنْ يَصْبِرَ.
وَقَوْلُهُ: {بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} فِيهِ أَمْرٌ بِالْإِكْرَامِ لَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي عَتَّابٍ (1) عَنْ أَبِي هُريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ" ثُمَّ قَالَ بِأُصْبُعِهِ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا" (2) .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَازِمٍ-حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَهْلٍ -يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ". وَقَرَنَ (3) بَيْنَ إصبعيه: الوسطى والتي تلي الإبهام (4) .
__________
(1) في م: "غياث".
(2) الزهد لابن المبارك برقم (654) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3679) من طريق ابن المبارك، وقال البوصيري في الزوائد (3/165) : "هذا إسناد ضعيف، يحيى بن سليمان -أبو صالح- قال فيه البخاري: منكر، وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات".
(3) في أ: "وفرق".
(4) سنن أبي داود برقم (5150) وهو في صحيح البخاري برقم (6005) من طريق ابن أبي حازم به.(8/398)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
{وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} يَعْنِي: لَا يَأْمُرُونَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَيُحِثُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ، {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} يَعْنِي: الْمِيرَاثَ {أَكْلا لَمًّا} أَيْ: مِنْ أَيِّ جِهَةٍ حَصَلَ لَهُمْ، مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} أَيْ: كَثِيرًا -زَادَ بَعْضُهُمْ: فَاحِشًا.
{كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) }(8/399)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا يَقَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ الْعَظِيمَةِ، فَقَالَ: {كَلا} أَيْ: حَقًّا {إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا} أَيْ: وُطِئَتْ وَمُهِّدَتْ وَسُوِّيَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وَقَامَ الْخَلَائِقُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّهِمْ، {وَجَاءَ رَبُّكَ} يَعْنِي: لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يَسْتَشْفِعُونَ (1) إِلَيْهِ بِسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَمَا يَسْأَلُونَ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَاكُمْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ النَّوْبَةُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) فَيَقُولُ: "أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا". فَيَذْهَبُ فَيَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ فِي أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ فَيُشَفِّعُهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ أَوَّلُ الشَّفَاعَاتِ، وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ "سُبْحَانَ" (3) فَيَجِيءُ الرَّبُّ تَعَالَى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ كَمَا يَشَاءُ، وَالْمَلَائِكَةُ يَجِيئُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفًا صُفُوفًا.
وَقَوْلُهُ: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قَالَ الْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ (4) غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ الْكَاهِلِيِّ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَك يَجُرُّونَهَا".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، بِهِ (5) وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيد، عَنْ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ العلاء بن خالد، عن شقيق ابن سَلَمَةَ -وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَوْلُهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ (6) وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، عَنْ مَروان بْنِ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيِّ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَوْلُهُ (7) .
__________
(1) في أ: "يشفعون".
(2) في م: "صلوات الله وسلامه عليه".
(3) عند تفسير الآية: 79.
(4) في أ: "نبأنا".
(5) صحيح مسلم برقم (2842) وسنن الترمذي برقم (2573) .
(6) سنن الترمذي برقم (2573) .
(7) تفسير الطبري (30/120) .(8/399)
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ} أَيْ: عَمَلَهُ وَمَا كَانَ أَسْلَفَهُ فِي قَدِيمِ دَهْرِهِ وَحَدِيثِهِ، {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} أَيْ: وَكَيْفَ تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى؟ {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} يَعْنِي: يَنْدَمُ عَلَى مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي -إِنْ كَانَ عَاصِيًا-وَيَوَدُّ لَوْ كَانَ ازْدَادَ مِنَ الطَّاعَاتِ -إِنْ كَانَ طَائِعًا-كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ-حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَمِيرة -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: لَوْ أَنَّ عَبْدًا خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ هَرمًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، لَحَقِرَه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ولودَّ أَنَّهُ يُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا كَيْمَا يَزْدَادُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.
وَرَوَاهُ بَحِيرُ بنُ سَعد، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أَيْ: لَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ عَذَابًا مِنْ تَعْذِيبِ اللَّهِ مَنْ عَصَاهُ، {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} أَيْ: وَلَيْسَ أَحَدٌ أَشَدَّ قَبْضًا وَوَثْقًا مِنَ الزَّبَانِيَةِ لِمَنْ كَفَرَ بِرَبِّهِمْ، عَزَّ وَجَلَّ، هَذَا فِي حَقِّ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْخَلَائِقِ وَالظَّالِمِينَ (2) فَأَمَّا النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الْمُطْمَئِنَّةُ وَهِيَ السَّاكِنَةُ الثَّابِتَةُ الدَّائِرَةُ مَعَ الْحَقِّ فَيُقَالُ لَهَا: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} أَيْ: إِلَى جِوَارِهِ وَثَوَابِهِ وَمَا أَعَدَّ لِعِبَادِهِ فِي جَنَّتِهِ، {رَاضِيَةً} أَيْ: فِي نَفْسِهَا {مَرْضِيَّةً} أَيْ: قَدْ رَضِيَتْ عَنِ اللَّهِ وَرَضِيَ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أَيْ: فِي جُمْلَتِهِمْ، {وَادْخُلِي جَنَّتِي} وَهَذَا يُقَالُ لَهَا عِنْدَ الِاحْتِضَارِ، وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا، كَمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يُبَشِّرُونَ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ وَعِنْدَ قِيَامِهِ مِنْ قَبْرِهِ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَيَمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَرَوَى الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَعَنْ بُرَيدة بْنِ الْحَصِيبِ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُقَالُ لِلْأَرْوَاحِ الْمُطْمَئِنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} يَعْنِي: صَاحِبُكِ، وَهُوَ بَدَنُهَا الَّذِي كَانَتْ تُعَمِّرُهُ فِي الدُّنْيَا، {رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقرؤها: "فَادْخُلِي فِي عَبْدِي وَادْخُلِي جَنَّتِي". وَكَذَا (3) قَالَ عِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ؛ لِقَوْلِهِ: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الْأَنْعَامِ:62] {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} (4) [غَافِرٍ:43] أَيْ: إِلَى حُكْمِهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدَّشْتَكِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في
__________
(1) المسند (4/185) .
(2) في أ: "والعالمين".
(3) في م: "وكذلك".
(4) في م: "وأن مصيرنا" وهو خطأ.(8/400)
قَوْلِهِ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} قَالَ: نَزَلَتْ وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحْسَنَ هَذَا. فَقَالَ: "أَمَا إِنَّهُ سَيُقَالُ لَكَ هَذَا" (1) .
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ هَذَا حَسَنٌ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُ لَكَ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ".
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ ابْنِ يَمَانٍ، بِهِ. وَهَذَا مُرْسَلٌ حَسَنٌ (2) .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا مَرْوان بْنُ شُجَاعٍ الْجَزَرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، فَجَاءَ طَيْرٌ لَمْ يُرَ عَلَى خَلْقه (3) فَدَخَلَ نَعْشَهُ، ثُمَّ لَمْ يُرَ خَارِجًا مِنْهُ فَلَمَّا دُفِنَ تُليت هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، مَا يُدْرَى مَنْ تَلَاهَا: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَرْوان بْنِ شُجَاعٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَجْلَانَ الْأَفْطَسِ، بِهِ فَذَكَرَهُ (4) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْهَرَوِيُّ -الْمَعْرُوفُ بشكِّر-فِي كِتَابِ "الْعَجَائِبِ" بِسَنَدِهِ عَنْ قُبَاث بْنِ رَزِينٍ أَبِي هَاشِمٍ قَالَ: أسرتُ فِي بِلَادِ الرُّومِ، فَجَمَعَنَا الْمَلِكُ وعَرَض عَلَيْنَا دِينَهُ، عَلَى أَنَّ مَنِ امْتَنَعَ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ. فَارْتَدَّ ثَلَاثَةٌ، وَجَاءَ الرَّابِعُ فَامْتَنَعَ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَأُلْقِيَ رَأْسُهُ فِي نَهْرٍ هُنَاكَ، فَرَسَبَ فِي الْمَاءِ ثُمَّ طَفَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَنَظَرَ إِلَى أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: يَا فُلَانُ، وَيَا فُلَانُ، وَيَا فُلَانُ -يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ-قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} ثُمَّ غَاصَ فِي الْمَاءِ، [قَالَ] (5) فَكَادَتِ النَّصَارَى أَنْ يُسْلِمُوا، وَوَقَعَ سَرِيرُ الْمَلِكِ، وَرَجَعَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَجَاءَ الْفِدَاءُ مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ فَخَلَّصَنَا.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ رَوَاحَةَ بِنْتِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ أَبِيهَا: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: "قُلِ اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ نَفْسًا بِكَ مُطَمْئِنَةً، تُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ، وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ" (6)
ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ زَبْر أَنَّهُ قَالَ: حَدِيثُ رَوَاحَةَ هَذَا وَاحِدُ أُمِّهِ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الفجر" ولله الحمد [والمنة] (7) .
__________
(1) ورواه ابن مردويه والضياء المقدسي في المختارة كما في الدر المنثور (8/513) .
(2) تفسير الطبري (30/122) ورواه عبد بن حميد وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية كما في الدر المنثور (8/513) .
(3) في م: "على خلقته".
(4) المعجم الكبير (10/290) وقال الهيثمي في المجمع (9/285) : "رجاله رجال الصحيح".
(5) زيادة من م.
(6) تاريخ دمشق (ص 100) "تراجم النساء" طـ - المجمع العربي بدمشق، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/118) من طريق عبد الرحمن بن عبد الغفار، عن رواحة بنت عبد الرحمن به.
(7) زيادة من م، أ.(8/401)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْبَلَدِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) }
هَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (1) بِمَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى فِي حَالِ كَوْنِ السَّاكِنِ فِيهَا حَالًا؛ لِيُنَبِّهَ عَلَى عَظَمَةِ قَدْرِهَا فِي حَالِ إِحْرَامِ أَهْلِهَا.
قَالَ خَصيف، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} لَا رَدَّ عَلَيْهِمْ؛ أَقْسَمَ بِهَذَا الْبَلَدِ.
وَقَالَ شَبيب بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} يَعْنِي: مَكَّةَ، {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} قَالَ: أَنْتَ -يَا مُحَمَّدُ-يَحِلُّ لَكَ أَنْ تُقَابِلَ بِهِ. وَكَذَا رُوي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَأَبِي صَالِحٍ، وَعَطِيَّةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا أَصَبْتَ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ لَكَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} قَالَ: أَنْتَ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَرَج وَلَا إِثْمٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ قَدْ وَرَد بِهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ: "إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بحُرمَة اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعضَد شَجَرُهُ وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ. وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ". وَفِي لَفْظٍ [آخَرَ] (2) فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّص بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ" (3) .
وَقَوْلُهُ: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا ابْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ خَصِيف، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} الْوَالِدُ: الَّذِي يَلِدُ، وَمَا وَلَدَ: الْعَاقِرُ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ.
__________
(1) في أ: "تعالى".
(2) زيادة من م.
(3) الحديث في صحيح البخاري برقم (104، 105، 1832، 4295) وصحيح مسلم برقم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.(8/402)
وَرَوَاهُ [ابْنُ جَرِيرٍ وَ] (1) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي-بِهِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْوَالِدُ: الْعَاقِرُ، وَمَا وَلَدَ: الَّذِي يَلِدُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وخُصيف، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُمْ: يَعْنِي بِالْوَالِدِ آدَمَ، وَمَا وَلَدَ وَلَدَهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَأَصْحَابُهُ حَسَنٌ قَوِيٌّ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بِأُمِّ الْقُرَى وَهِيَ الْمَسَاكِنُ أَقْسَمَ بَعْدَهُ بِالسَّاكِنِ، وَهُوَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ وَوَلَدُهُ.
وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: هُوَ إِبْرَاهِيمُ وَذُرِّيَّتُهُ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ وَالِدٍ وَوَلَدِهِ. وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} رُوي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وخَيْثَمة، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِهِمْ: يَعْنِي مُنْتَصِبًا -زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ-فِي (2) بَطْنِ أُمِّهِ.
وَالْكَبَدُ: الِاسْتِوَاءُ وَالِاسْتِقَامَةُ. وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ سَوِيًّا مُسْتَقِيمًا كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الِانْفِطَارِ: 6، 7] ، وَكَقَوْلِهِ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التِّينِ:4] .
وَقَالَ ابْنُ [أَبِي نجيحُ] (3) جُرَيْجٍ وَعَطَاءٍ (4) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي كَبَدٍ، قَالَ: فِي شِدَّةِ خُلق، أَلَمْ تَرَ إِلَيْهِ ... وَذَكَرَ مَوْلِدَهُ وَنَبَاتَ أَسْنَانِهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: {فِي كَبَدٍ} نُطْفَةٌ، ثُمَّ عَلَقَةٌ، ثُمَّ مُضْغَةٌ يَتَكَبَّدُ فِي الْخَلْقِ -قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} وَأَرْضَعَتْهُ كُرْهًا، وَمَعِيشَتُهُ كُرْهٌ، فَهُوَ يُكَابِدُ ذَلِكَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} فِي شِدَّةٍ وطَلَب مَعِيشَةٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: فِي شِدَّةٍ وَطُولٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي مَشَقَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ أَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ سَأَلَ رَجُلًا مَنِ الْأَنْصَارِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} قَالَ: فِي قِيَامِهِ وَاعْتِدَالِهِ. فَلَمْ يُنكر عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ.
وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَوْدُودٍ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} قَالَ: يُكَابِدُ أَمْرًا مَنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَأَمْرًا مَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ -وَفِي رِوَايَةٍ: يُكَابِدُ مضايق الدنيا وشدائد الآخرة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م، أ: "منتصبا في".
(3) زيادة من م.
(4) في م، أ: "عن عطاء".(8/403)
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} قَالَ: آدَمُ خُلِقَ فِي السَّمَاءِ، فَسُمي ذَلِكَ الكَبَد.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ [بِذَلِكَ] (1) مُكَابَدَةُ الْأُمُورِ وَمَشَاقِّهَا.
وَقَوْلُهُ: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَأْخُذُ مَالَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} قَالَ: ابْنُ آدَمَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يُسأل عَنْ هَذَا الْمَالِ: مَنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَأَيْنَ أَنْفَقَهُ؟
وَقَالَ السُّدِّيُّ: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} قَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا} أَيْ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: أَنْفَقْتُ مَالًا لُبَدًا، أَيْ: كَثِيرًا. قَالَهُ مُجَاهِدٌ [وَالْحَسَنُ] (2) وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} أَيْ: يُبْصِرُ بِهِمَا، {وَلِسَانًا} أَيْ: يَنْطِقُ بِهِ، فَيُعبر عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ، {وَشَفَتَيْنِ} (3) يَسْتَعِينُ بِهِمَا عَلَى الْكَلَامِ وَأَكْلِ الطَّعَامِ، وَجَمَالًا لِوَجْهِهِ وَفَمِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي الرَّبِيعِ الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، قَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ نِعَمًا عِظَامًا لَا تُحْصِي عَدَدَهَا وَلَا تُطِيقُ شُكْرَهَا، وَإِنَّ مِمَّا أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ جَعَلْتُ لَكَ عَيْنَيْنِ تَنْظُرُ بِهِمَا، وَجَعَلْتُ لَهُمَا غِطَاءً، فَانْظُرْ بِعَيْنَيْكَ إِلَى مَا أَحْلَلْتُ لَكَ، وَإِنْ رَأَيْتَ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ فَأَطْبِقْ عَلَيْهِمَا غِطَاءَهُمَا. وَجَعَلْتُ لَكَ لِسَانًا، وَجَعَلْتُ لَهُ غُلَافًا، فَانْطِقْ بِمَا أَمَرْتُكَ وأحللتُ لَكَ، فَإِنْ عَرَض لَكَ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ فَأَغْلِقْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ. وَجَعَلْتُ لَكَ فَرْجًا، وَجَعَلْتُ لَكَ سِتْرًا، فَأَصِبْ بِفَرْجِكَ مَا أَحْلَلْتُ لَكَ، فَإِنْ عَرَض لَكَ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ فَأرْخِ عَلَيْكَ سِتْرَكَ. يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَا تَحْمِلُ سُخْطِي، وَلَا تُطِيقُ انْتِقَامِي" (4) .
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ-: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قَالَ: الْخَيْرُ وَالشَّرُّ. وَكَذَا رُوي عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَبِي وَائِلٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي آخَرِينَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن وهب: أخبرني بْنُ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سِنان بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُمَا نَجْدَانِ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرِّ أحب إليكم من نجد الخير" (5) .
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م: (ولسانا وشفتين) .
(4) تاريخ دمشق (19/46 "المخطوط") .
(5) ورواه ابن عدي في الكامل (3/356) من طريق ابن وهب.(8/404)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
تَفَرَّدَ بِهِ سِنَانُ بْنُ سَعْدٍ -وَيُقَالُ: سَعْدُ بْنُ سِنَانٍ -وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْجُوزَجَانِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: تَرَكْتُ حَدِيثَهُ لِاضْطِرَابِهِ. وَرَوَى خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيثًا مُنْكَرَةً كُلَّهَا، مَا أَعْرِفُ مِنْهَا حَدِيثًا وَاحِدًا. يُشْبِهُ حَدِيثُهُ حديثَ الْحَسَنِ -يَعْنِي الْبَصْرِيَّ-لَا يُشْبِهُ حديثَ أَنَسٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُمَا النَّجْدَانِ، نَجْدُ الْخَيْرِ وَنَجْدُ الشَّرِّ، فَمَا جَعَلَ نَجْدَ الشَّرِّ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ" (1) .
وَكَذَا رَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَأَبُو وَهْبٍ، عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا. وَهَكَذَا أَرْسَلَهُ قَتَادَةُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا أبو أحمد الزبيري، حدثنا عيسى ابن عِقَالٍ (2) عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قَالَ: الثَّدْيَيْنِ.
وَرُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيم (3) وَقَتَادَةَ وَأَبِي (4) حَازِمٍ، مِثْلُ ذَلِكَ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ وَكِيع، عَنْ عِيسَى بْنِ عقَال، بِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّوَابُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلِهِ: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [سُورَةُ الْإِنْسَانِ: 2، 3] .
{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) }
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} قَالَ: جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} هُوَ سَبْعُونَ دَرَجَةً فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} قَالَ: عَقَبَةٌ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهَا قَحْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَاقْتَحِمُوهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ قَتَادَةُ (5) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ اقْتِحَامِهَا. فَقَالَ: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ}
__________
(1) تفسير الطبري (30/128) .
(2) في أ: "عفان".
(3) في أ: "خيثم".
(4) في م: "وابن".
(5) في جميع النسخ: "وقال قتادة: وقوله (وما أدراك ما العقبة) ". وحذفنا "وقوله" ليستقيم المعنى. مستفادا من هامش طـ. الشعب.(8/405)
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أَيْ: أَفَلَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الَّتِي فِيهَا النَّجَاةُ وَالْخَيْرُ. ثُمَّ بَيَّنَهَا فَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ}
قُرِئَ: {فَكُّ رَقَبَةٍ} بِالْإِضَافَةِ، وقُرئ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ، وَفِيهِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَالرَّقَبَةُ مَفْعُولُهُ وَكِلْتَا (1) الْقِرَاءَتَيْنِ مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ (2) بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ سَعِيدِ (3) بْنِ أَبِي هِنْدٍ-عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ -مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ-عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيرة يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ إرْب مِنْهَا إِرْبًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُعْتِقُ بِالْيَدِ الْيَدَ، وَبِالرِّجْلِ الرِّجْلَ، وَبِالْفَرْجِ الْفَرْجَ". فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: أنتَ سَمعتَ هَذَا مِنْ أَبِي هُرَيرة؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: نَعَمْ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ لِغُلَامٍ لَهُ -أفْرَهَ غِلْمَانِهِ-: ادعُ مطْرَفًا. فَلَمَّا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُر لِوَجْهِ اللَّهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْجَانَةَ، بِهِ (4) وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ الَّذِي أَعْتَقَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ كَانَ قَدْ أُعْطِيَ فِيهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعدانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي نَجِيح (5) قَالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَيُّمَا مُسْلِمٍ أعتقَ رَجُلا مُسْلِمًا، فَإِنَّ اللَّهَ جاعلٌ وَفَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ عَظْمًا مِنْ عِظَامِ مُحَرِّرِهِ مِنَ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ وَفَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِهَا مِنَ النَّارِ".
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَكَذَا (6) وَأَبُو نَجِيحٍ هَذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبسَةَ السُّلَمِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنِي بَحير بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبسَة (7) أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "من بَنَى مَسْجِدًا لِيُذْكَرَ اللَّهُ فِيهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. وَمَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مُسَلِمَةً، كَانَتْ فِدْيَتَهُ مِنْ جَهَنَّمَ. وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (8) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا حَريز؛ عَنْ سُليم بْنِ عَامِرٍ: أَنْ شُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ عَبسةَ (9) حَدِّثنا حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ تَزَيّد وَلَا نِسْيَانٌ. قَالَ عَمْرٍو: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ، عُضْوا بعضو. ومن
__________
(1) في م: "وكلا".
(2) في م: "حدثنا مكي".
(3) في م: "سعد".
(4) المسند (2/422) وصحيح البخاري برقم (2517،6715) وصحيح مسلم برقم (1509) وسنن الترمذي برقم (1541) وسنن النسائي الكبرى برقم (4875) .
(5) في أ: "عن ابن أبي نجيح".
(6) تفسير الطبري (30/129) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (4879) من طريق قتادة.
(7) في أ: "ابن عنبسة".
(8) المسند (4/386) .
(9) في أ: "عنبسة".(8/406)
شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فَبَلَغَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ، كَانَ كَمُعْتِقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ" (1) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بَعْضَهُ (2) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا الْفَرَجُ، حَدَّثَنَا لُقْمَانُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبسَةَ (3) قَالَ السُّلَمِيُّ (4) قُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيهِ انْتِقَاصٌ وَلَا وَهم. قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "مَنْ وُلد لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ فِي الْإِسْلَامِ فَمَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ رَمى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَلَغَ بِهِ الْعَدُّوَ، أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ، كَانَ لَهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ. وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، يُدْخِلُهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ مِنْهَا" (5) .
وَهَذِهِ أَسَانِيدُ جَيِّدَةٌ قَوِيَّةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ [وَالْمِنَّةُ] (6) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا ضَمْرة، عَنِ ابْنِ أَبِي عَبلَة، عَنِ الْغَرِيفِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْنَا وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ فَقُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا حَديثا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ. فَغَضِبَ وَقَالَ: إِنْ أَحَدَكُمْ لَيَقْرَأُ وَمُصْحَفُهُ مُعَلَّقٌ فِي بَيْتِهِ، فَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قُلْنَا: إِنَّمَا أَرَدْنَا حَدِيثًا سمعتَه مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ -يَعْنِي النَّارَ-بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: "أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعتق اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ".
وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبلة، عَنِ الغَريف بْنِ عَيَّاشٍ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ وَاثِلَةَ، بِهِ (7) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ قَيْسٍ الْجُذَامِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةَ مُسْلِمَةٍ فَهُوَ فِدَاؤُهُ مِنَ النَّارِ" (8) .
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْخَفَّافُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِر أَنَّ قَيْسًا الْجُذَامِيَّ حَدّث عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "من أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَهِيَ فِكَاكُهُ مِنَ النَّارِ" (9) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَأَبُو أَحْمَدَ قَالَا حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عبد
__________
(1) المسند (4/113) .
(2) سنن أبي داود برقم (3966) وسنن النسائي الكبرى برقم (4885،4886) .
(3) في أ: "عنبسة".
(4) في م: "السلمي قال".
(5) المسند (4/386) .
(6) زيادة من أ.
(7) سنن أبي داود برقم (3964) وسنن النسائي الكبرى برقم (4890،4891) .
(8) المسند (4/150)
(9) المسند (4/147) .(8/407)
الرَّحْمَنِ الْبَجَلِيُّ -مَنْ بَنِي بَجِيلَةَ-مَنْ بَنِي سُلَيْمٍ -عَنْ طَلْحَةَ-قَالَ أَبُو أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ -عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. فَقَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ أقصرتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ. أَعْتِقِ النَّسَمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَيْسَتَا بِوَاحِدَةٍ؟ قَالَ: "لَا إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا. وَالْمِنْحَةُ الْوَكُوفُ، وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ؛ فَإِنْ لَمْ تُطِق ذَلِكَ فَأَطْعِمِ الجائعَ، واسْقِ الظَّمْآنَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنَ الْخَيْرِ" (1) .
وَقَوْلُهُ: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذِي مَجَاعَةٍ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. والسَّغَب: هُوَ الْجُوعُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِي: فِي يومٍ الطعامُ فِيهِ عزيزٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي يَوْمٍ يُشتهى فِيهِ الطَّعَامُ.
وَقَوْلُهُ: {يَتِيمًا} أَيْ: أَطْعِمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ يَتِيمًا، {ذَا مَقْرَبَةٍ} أَيْ: ذَا قَرَابَةٍ مِنْهُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ (2) صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ، صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ".
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ (3) وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أَيْ: فَقِيرًا مُدقعًا لَاصِقًا بِالتُّرَابِ، وَهُوَ الدَّقْعَاءُ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ذَا مَتْرَبَةٍ} هُوَ الْمَطْرُوحُ فِي الطَّرِيقِ (4) الَّذِي لَا بَيْتَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ يَقِيهِ مِنَ التُّرَابِ -وَفِي رِوَايَةٍ: هُوَ الَّذِي لَصِقَ بِالدَّقْعَاءِ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ -وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: هُوَ الْبَعِيدُ التُّرْبَةِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: يَعْنِي الْغَرِيبَ عَنْ وَطَنِهِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْفَقِيرُ الْمَدْيُونُ الْمُحْتَاجُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الَّذِي لَا أَحَدَ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هُوَ ذُو الْعِيَالِ.
وَكُلُّ هَذِهِ قَرِيبَةُ الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (5) أَيْ: ثُمَّ هُوَ مَعَ هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة (6)
__________
(1) المسند (4/299) .
(2) في أ: "على المسلمين".
(3) المسند (4/214) وسنن الترمذي برقم (658) وسنن النسائي (5/92) وقال الترمذي: "حديث سلمان بن عامر حديث حسن".
(4) في م: "بالطريق".
(5) في م: "آمنوا وعملوا الصالحات".
(6) في أ: "الظاهرة".(8/408)
مؤمنٌ بِقَلْبِهِ، مُحْتَسِبٌ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 19] وَقَالَ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الْآيَةَ (1) [النَّحْلِ: 97] .
وَقَوْلُهُ: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أَيْ: كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ صَالِحًا، الْمُتَوَاصِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَى النَّاسِ، وَعَلَى الرَّحْمَةِ بِهِمْ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ" (2) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "لَا يَرْحَم اللهُ مَنْ لَا يَرْحَم النَّاسَ" (3) .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا [أَبُو بَكْرِ] (4) بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ ابْنِ عَامِرٍ (5) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو -يَرْوِيهِ-قَالَ: "مَنْ لَمْ يَرْحم صَغِيرَنَا ويَعْرِف حَقَّ كَبِيرِنَا، فَلَيْسَ مِنَّا" (6) .
وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أَيِ: الْمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أَيْ: أَصْحَابُ الشِّمَالِ، {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} أَيْ: مُطْبَقَةٌ عَلَيْهِمْ، فَلَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهَا، وَلَا خُرُوجَ لَهُمْ مِنْهَا.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: {مُؤْصَدَةٌ} أَيْ: مُطْبَقَةٌ -قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُغْلَقَةُ الْأَبْوَابِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَصَدَ الْبَابَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ: أَيْ أَغْلَقَهُ.
وَسَيَأْتِي فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ فِي سُورَةِ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {مُؤْصَدَةٌ} حَيْطٌ لَا بَابَ لَهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {مُؤْصَدَةٌ} مُطْبِقَةٌ فَلَا ضَوْءَ فِيهَا وَلَا فُرَج، وَلَا خُرُوجَ مِنْهَا آخِرَ الْأَبَدِ.
وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ بِكُلِّ جَبَّارٍ وَكُلِّ شَيْطَانٍ وَكُلِّ مَنْ كَانَ يَخاف النَّاسُ فِي الدُّنْيَا شَرَّهُ، فَأُوثِقُوا فِي الْحَدِيدِ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، ثُمَّ أَوْصَدُوهَا عَلَيْهِمْ، أَيْ: أَطْبَقُوهَا -قَالَ: فَلَا وَاللَّهِ لَا تَسْتَقِرُّ أَقْدَامُهُمْ عَلَى قَرَارٍ أَبَدًا، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَنْظُرُونَ فِيهَا إِلَى أَدِيمِ سَمَاءٍ أَبَدًا، وَلَا وَاللَّهِ لَا تَلْتَقِي جُفُونُ أَعْيُنِهِمْ عَلَى غَمْضِ نَوْمٍ أَبَدًا،. وَلَا وَاللَّهِ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَارِدَ شَرَابٍ أَبَدًا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "البلد" ولله الحمد والمنة
__________
(1) في م: "الآيات".
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (2/160) من حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2319) من حديث جرير رضي الله عنه.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "جابر".
(6) سنن أبي داود برقم (4943) .(8/409)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
تَفْسِيرُ سُورَةِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
تَقَدَّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ: "هَلَّا صَلَّيْتَ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؟
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) }
قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} أَيْ: وَضَوْئِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَضُحَاهَا} النَّهَارُ كُلُّهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِالشَّمْسِ وَنَهَارِهَا؛ لِأَنَّ ضَوْءَ الشَّمْسِ الظَّاهِرَ هُوَ النَّهَارُ (1) .
{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: تَبِعَهَا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} قَالَ: يَتْلُو النَّهَارَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: {إِذَا تَلاهَا} لَيْلَةَ الْهِلَالِ، إِذَا سَقَطَتِ الشَّمْسُ رُؤِيَ الْهِلَالُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ يَتْلُوهَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ هِيَ تَتْلُوهُ. وَهُوَ يَتَقَدَّمُهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ الشَّهْرِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِذَا تَلَاهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَضَاءَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا} إِذَا غَشِيَهَا النَّهَارُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ بِمَعْنَى: وَالنَّهَارُ إِذَا جَلَّا الظُّلْمَةِ، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا.
قُلْتُ: وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ تَأَوَّلَ [ذَلِكَ] (2) بِمَعْنَى {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا} أَيِ: الْبَسِيطَةُ، لَكَانَ أَوْلَى، وَلَصَحَّ [تَأْوِيلُهُ فِي] (3) قَوْلِ اللَّهِ (4) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} فَكَانَ أَجْوَدْ وَأَقْوَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا} إِنَّهُ كَقَوْلِهِ: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2] .
__________
(1) تفسير الطبري (30/133) .
(2) زيادة من م، أ.
(3) زيادة من م، أ.
(4) في م، أ: "قوله".(8/410)
وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَاخْتَارَ عَوْدَ الضَّمِيرِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الشَّمْسِ، لِجَرَيَانِ ذِكْرِهَا. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} يَعْنِي: إِذَا يَغْشَى الشَّمْسَ حِينَ تَغِيبُ، فَتُظْلِمُ الْآفَاقُ.
وَقَالَ بَقِيَّة بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ صَفْوَانَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ ذِي حَمَامَةَ (1) قَالَ: إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ قَالَ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ: غَشِيَ عِبَادِي خَلْقِي الْعَظِيمُ، فَاللَّيْلُ يَهَابُهُ، وَالَّذِي خَلَقَهُ أَحَقُّ أَنْ يَهَابَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ "مَا" هَاهُنَا مَصْدَرِيَّةٌ، بِمَعْنَى: وَالسَّمَاءِ وَبِنَائِهَا. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى "مَن" يَعْنِي: وَالسَّمَاءِ وَبَانِيهَا. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ، وَالْبِنَاءُ هُوَ الرَّفْعُ، كَقَوْلِهِ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أَيْ: بِقُوَّةٍ {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 47، 48] .
وَهَكَذَا قَوْلُهُ: {وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا} قَالَ مُجَاهِدٌ: {طَحَاهَا} دَحَاهَا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَا طَحَاهَا} أَيْ: خَلَقَ فِيهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {طَحَاهَا} قَسَمَهَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، والسُّدِّي، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: {طَحَاهَا} بَسَطَهَا.
وَهَذَا أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: طَحَوْتُهُ مِثْلُ دَحَوْتُهُ، أَيْ: بَسَطْتُهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أَيْ: خَلَقَهَا سَوِيَّةً مُسْتَقِيمَةً عَلَى الْفِطْرَةِ الْقَوِيمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الرُّومِ: 30] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدانه أَوْ يُنَصِّرانه أَوْ يُمَجِّسانه، كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاء هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ".
أَخْرَجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ (2)
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفاء فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ" (3) .
وَقَوْلُهُ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أَيْ: فَأَرْشَدَهَا إِلَى فُجُورِهَا وَتَقْوَاهَا، أَيْ: بَيَّنَ لَهَا ذَلِكَ، وَهَدَاهَا إِلَى مَا قُدِّرَ لَهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} بَيَّنَ لَهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَكَذَا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والثوري.
__________
(1) في أ: "ذي حماية".
(2) صحيح البخاري برقم (1385) وصحيح مسلم برقم (2658) .
(3) صحيح مسلم برقم (2865)(8/411)
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَلْهَمَهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ فِيهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ قَالَا حَدَّثَنَا عَزْرَة بْنُ ثَابِتٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَقِيلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَر، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ (1) قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ فِيهِ النَّاسُ وَيَتَكَادَحُونَ فِيهِ، أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَر قَدْ سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يُستَقبَلُون مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ؟ قُلْتُ: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ (2) عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا؟ قَالَ: فَفَزِعْتُ مِنْهُ فَزَعًا شَدِيدًا، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: لَيْسَ شَيْءٌ إِلَّا وَهُوَ خَلقُه وملْك يَده، لَا يسألُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. قَالَ: سَدَّدَكَ اللَّهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُ لِأَخْبَرَ (3) عَقْلَكَ، إِنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَينة -أَوْ جُهَيْنَةَ-أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فِيهِ وَيَتَكَادَحُونَ، أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدر قَدْ سَبَقَ، أَمْ شَيْءٌ مِمَّا يَسْتَقْبِلُونَ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَأَكَّدَتْ بِهِ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ؟ قَالَ: "بَلْ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ (4) عَلَيْهِمْ". قَالَ: فَفِيمَ نَعْمَلُ؟ قَالَ: "مَنْ كَانَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِإِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ يُهَيِّئه لَهَا، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ عَزْرَة بْنِ ثَابِتٍ بِهِ (5) .
وَقَوْلُهُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ، أَيْ: بِطَاعَةِ اللَّهِ -كَمَا قَالَ قَتَادَةُ-وَطَهَّرَهَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ وَالرَّذَائِلِ. ويُروَى نَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَكَقَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الْأَعْلَى: 14، 15] .
{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أَيْ: دَسَّسَهَا، أَيْ: أَخْمَلَهَا وَوَضَعَ مِنْهَا بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهَا عَنِ الهُدَى، حَتَّى رَكِبَ الْمَعَاصِيَ وَتَرَكَ طَاعَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّى اللَّهُ نَفْسَهُ، كَمَا قَالَ (6) الْعَوْفِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عباس.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أَبِي وَأَبُو زُرْعَة قَالَا حَدَّثَنَا سَهْلُ (7) بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ -يَعْنِي عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ-عَنْ جُوَيبر، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ" (8) .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ، بِهِ. وَجُوَيْبِرٌ [هَذَا] (9) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ، مَتْرُوكُ الحديث، والضحاك لم يلق ابن عباس.
__________
(1) في أ: "الديلمي".
(2) في أ: "شيء قد قضي".
(3) في م: "إنما سألتك لأختبر".
(4) في م: "قضى الله".
(5) تفسير الطبري (30/135) والمسند (4/438) وصحيح مسلم برقم (2650) .
(6) في م: "كما قاله".
(7) في أ: "سهيل".
(8) ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (4600) من طريق جويبر به.
(9) زيادة من م.(8/412)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وَقَفَ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، وَخَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا" (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْن بْنُ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيُّ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} قَالَ: "اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا" (2) لَمْ يُخَرِّجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ نَافِعٍ -عَنِ ابْنِ عُمَرَ-عَنْ صَالِحِ بْنِ سُعَيد، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا فَقَدت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَضْجَعِهِ، فَلَمَسَتْهُ بِيَدِهَا، فَوَقَعَتْ (3) عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَهُوَ يَقُولُ: "رَبِّ، أَعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا" (4) تَفَرَّدَ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ والكَسَل وَالْهَرَمِ، والجُبن وَالْبُخْلِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ. اللَّهُمَّ، آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا. اللَّهُمَّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْب لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْس لَا تَشْبَعُ، وعِلْم لَا يَنْفَعُ، وَدَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا". قَالَ زَيْدٌ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَاهُنَّ وَنَحْنُ نُعَلِّمُكُوهُنَّ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ -وَأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، بِهِ (5) .
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ ثَمُودَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ، بِسَبَبِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الطُّغْيَانِ وَالْبَغْيِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: {بِطَغْوَاهَا} أَيْ: بِأَجْمَعِهَا.
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ تَكْذِيبًا فِي قُلُوبِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ
__________
(1) المعجم الكبير (11/106) وزاد: "عن عمرو بن دينار وعطاء بن أبي رباح" وقال الهيثمي في المجمع (7/138) : "إسناد حسن".
(2) ورواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (318) عن يعقوب بن حميد به.
(3) في م: "فوثبت".
(4) المسند (6/209) .
(5) المسند (4/371) وصحيح مسلم برقم (2722) .(8/413)
رَسُولُهُمْ مِنَ الْهُدَى وَالْيَقِينِ.
{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} أَيْ: أَشْقَى الْقَبِيلَةِ، هُوَ قُدَار بْنُ سَالِفٍ عاقرُ النَّاقَةِ، وَهُوَ أُحَيْمِرُ ثَمُودَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ تَعَالَى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [الْقَمَرِ: 29] . وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ عَزِيزًا فِيهِمْ، شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ، نَسِيبًا رَئِيسًا مُطَاعًا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ النَّاقَةَ، وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا، فَقَالَ: " {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيزٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ، مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، وَمُسْلِمٌ فِي صِفَةِ النَّارِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنِهِمَا (1) وَكَذَا ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ [مِنْ طُرُقٍ] (2) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهِ (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيم (4) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيم (5) أَبِي يَزِيدَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ: "أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ؟ ". قَالَ: بَلَى: قَالَ: "رَجُلَانِ؛ أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَر النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذَا -يَعْنِي قَرنه-حَتَّى تَبْتَلَّ مِنْهُ هَذِهِ" يَعْنِي: لِحْيَتَهُ (6) .
وَقَوْلُهُ: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} يَعْنِي: صَالِحًا، عَلَيْهِ السَّلَامُ: {نَاقَةُ اللَّهِ} أَيِ: احْذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ أَنْ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ، {وَسُقْيَاهَا} أَيْ: لَا تَعْتَدُوا عَلَيْهَا فِي سُقْيَاهَا، فَإِنَّ لَهَا شِرْبُ يَوْمٍ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. قَالَ اللَّهُ: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} أَيْ: كَذَّبُوهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ أَنْ عَقَرُوا النَّاقَةَ الَّتِي أَخْرَجَهَا اللَّهُ مِنَ الصَّخْرَةِ آيَةً لَهُمْ وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ، {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} أَيْ: غَضِبَ عَلَيْهِمْ، فَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ، {فَسَوَّاهَا} أَيْ: فَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ نَازِلَةً عَلَيْهِمْ عَلَى السَّوَاءِ.
قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ أُحَيْمِرَ ثَمُودَ لَمْ يَعْقِرِ النَّاقَةَ حَتَّى تَابَعَهُ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، فَلَمَّا اشْتَرَكَ الْقَوْمُ فِي عَقْرِهَا دَمْدَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ (7) فَسَوَّاهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} وقرئ: "فلا يخاف عقباها".
__________
(1) في م: "من سننيهما".
(2) زيادة من م.
(3) المسند (4/17) وصحيح البخاري برقم (4942) وصحيح مسلم برقم (2855) وسنن الترمذي برقم (3343) وسنن النسائي الكبرى برقم (11675) وتفسير الطبري (30/137) .
(4) في أ: "خيثم".
(5) في أ: "خيثم".
(6) ورواه البخاري في التاريخ الكبير (1/71) عن إبراهيم بن موسى به، ورواه أبو نعيم في الدلائل (ص 485) من طريق محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق به، وقال البخاري: "هذا إسناد لا يعرف سماع يزيد من محمد ولا محمد بن كعب من ابن خثيم ولا ابن خثيم من عمار".
(7) في م، أ: "بذنبهم".(8/414)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَخَافُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ تَبِعَةً. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} أَيْ: لَمْ يَخَفِ (1) الَّذِي عَقَرَهَا عَاقِبَةَ مَا صَنَعَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
آخِرُ تفسير "والشمس وضحاها".
__________
(1) في أ: "لم يخف الله".(8/415)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
تَفْسِيرُ سُورَةِ اللَّيْلِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ: "فَهَلَّا صَلَّيْتَ بِ " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " " وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا " " وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى "؟ ".
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) }
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ: أَنَّهُ قَدِمَ الشَّامَ فَدَخَلَ مَسْجِدَ دِمَشْقَ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ، ارْزُقْنِي جَلِيسًا صَالِحًا. قَالَ: فَجَلَسَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ يَقْرَأُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} ؟ قَالَ عَلْقَمَةُ: "وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى". فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَقَدْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا زَالَ هَؤُلَاءِ حَتَّى شَكَّكُونِي. ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ أَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ صَاحِبُ الْوِسَادِ وَصَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَالَّذِي أُجِيرَ مِنَ الشَّيْطَانِ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ (1) .
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَاهُنَا وَمُسْلِمٌ، مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَدِمَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَطَلَبَهُمْ فَوَجَدَهُمْ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَقْرَأُ عَلَيَّ قِرَاءَةَ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالُوا: كُلُّنَا، قَالَ: أَيُّكُمْ أَحْفَظُ؟ فَأَشَارُوا إِلَى عَلْقَمَةَ، فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ؟ قَالَ: "وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى". قَالَ: أَشْهَدُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَكَذَا، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونِي أَنْ أَقْرَأَ: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى} وَاللَّهِ لَا أُتَابِعُهُمْ (2) .
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ: هَكَذَا قَرَأَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ -وَرَفَعَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ-وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَرَأُوا ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُثبَت فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامُ الْعُثْمَانِيُّ فِي سائر الآفاق: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى}
__________
(1) المسند (6/449) وتكملة الحديث "وصاحب الوساد: ابن مسعود، وصاحب السر: حذيفة، والذي أجير من الشيطان: عمار".
(2) صحيح البخاري برقم (4944) وصحيح مسلم برقم (824) .(8/416)
فَأَقْسَمَ تَعَالَى بِـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أَيْ: إِذَا غَشيَ الخليقةَ بِظَلَامِهِ، {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أَيْ: بِضِيَائِهِ وَإِشْرَاقِهِ، {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأنْثَى} كَقَوْلِهِ: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النَّبَأِ: 8] ، وَكَقَوْلِهِ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذَّارِيَاتِ: 49] .
وَلَمَّا كَانَ الْقَسَمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَضَادَّةِ كَانَ الْقَسَمُ عَلَيْهِ أَيْضًا مُتَضَادًّا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} أَيْ: أَعْمَالُ الْعِبَادِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا مُتَضَادَّةٌ أَيْضًا وَمُتَخَالِفَةٌ، فَمِنْ فَاعِلٍ خَيْرًا وَمِنْ فَاعِلٍ شَرًّا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} أَيْ: أَعْطَى مَا أُمِرَ بِإِخْرَاجِهِ، وَاتَّقَى اللَّهَ فِي أُمُورِهِ، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أَيْ: بِالْمُجَازَاةِ عَلَى ذَلِكَ -قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ خَصِيف: بِالثَّوَابِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أَيْ: بِالْخَلَفِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَالضَّحَّاكُ: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أَيْ: بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عِكْرِمَةَ: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أَيْ: بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} قَالَ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ. وَقَالَ مَرَّةٍ: وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا زُهَير بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي مَن سَمِع أَبَا الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيَّ يُحدث عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عَنِ الْحُسْنَى قَالَ: "الْحُسْنَى: الْجَنَّةُ" (1) .
وَقَوْلُهُ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي لِلْخَيْرِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يَعْنِي لِلْجَنَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مِنْ ثَوَابِ الحسنةُ (2) الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَمِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ السيئةُ بَعْدَهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} أَيْ: بِمَا عِنْدَهُ، {وَاسْتَغْنَى} قَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ بَخِلَ بِمَالِهِ، وَاسْتَغْنَى عَنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
{وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أَيْ: بِالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أَيْ: لِطَرِيقِ الشَّرِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الْأَنْعَامِ: 11] ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، يُجازي مَنْ قَصَدَ الْخَيْرَ بِالتَّوْفِيقِ لَهُ، وَمَنْ قَصَدَ الشَّرَّ بِالْخِذْلَانِ. وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرٍ مُقدّر، وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ:
رِوَايَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاش، حَدَّثَنِي الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ أَنَّ أَبَاهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ يَقُولُ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَعْمَلُ عَلَى مَا فُرِغَ مِنْهُ أَوْ عَلَى أَمْرٍ مُؤْتَنِفٍ؟ قَالَ: "بَلْ عَلَى أمر قد فُرغ منه".
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (15/69) طـ - المعارف، من طريق عمرو بن أبي سلمة عن زهير به.
(2) في أ: "عن ثواب الحسنى".(8/417)
قَالَ: فَفِيمَ العملُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" (1) .
رِوَايَةُ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ (2) بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَقِيع الغَرْقَد فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتب مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ فَقَالَ: "اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ". قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} إِلَى قَوْلِهِ: {لِلْعُسْرَى} (3) .
وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ ووَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِنَحْوِهِ (4) ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مخْصَرَةٌ فَنَكَسَ فَجَعَلَ ينكُت بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ -أَوْ: مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةٌ أَوْ سَعِيدَةٌ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَمَنْ كَانَ مِنَّا مَنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مَنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إِلَى أَهْلِ الشَّقَاءِ؟ فَقَالَ: "أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُونَ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ". ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} الْآيَةَ (5) .
وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، بِهِ (6) .
رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سمعتُ سَالِمَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحدث عَنِ ابْنِ عُمَر: قَالَ: قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا نَعْمَلُ فِيهِ؟ أَفِي أَمْرٍ قَدْ فُرغ أَوْ مُبْتَدَأٍ أَوْ مُبْتَدَعٍ؟ قَالَ: " فِيمَا قَدْ فُرغَ مِنْهُ، فَاعْمَلْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنَّ كُلا مُيَسَّر، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ لِلسَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ لِلشَّقَاءِ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْقَدْرِ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنِ ابْنِ مَهْدِي، بِهِ (7) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أخبرني عمرو ابن الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أنعمل لأمر قد فرغ
__________
(1) المسند (1/5) .
(2) في م: "سعيد".
(3) صحيح البخاري برقم (4945) .
(4) صحيح البخاري برقم (4946،4947) .
(5) صحيح البخاري برقم (4948) .
(6) صحيح مسلم برقم (2647) وسنن أبي داود برقم (4694) وسنن الترمذي برقم (3344) وسنن النسائي الكبرى برقم (11678) وسنن ابن ماجة برقم (78) .
(7) المسند (2/52) وسنن الترمذي برقم (2135) .(8/418)
مِنْهُ، أَوْ لِأَمْرٍ نَسْتَأْنِفُهُ؟ فَقَالَ: "لِأَمْرٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ". فَقَالَ سُرَاقَةُ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُ عَامِلٍ مُيَسَّر لِعَمَلِهِ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، بِهِ (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ طَلْقِ ابن حَبِيبٍ، عَنْ بَشِيرِ (2) بْنِ كَعْبٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَأَلَ غُلَامَانِ شَابَّانِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَعْمَلُ فِيمَا جَفَّت بِهِ الْأَقْلَامُ وجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَوْ فِي شَيْءٍ يُسْتَأْنَفُ؟ فَقَالَ: "بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ". قَالَا فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذًا؟ قَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلُ عَامِلٍ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ". قَالَا فَالْآنَ نَجِدُّ وَنَعْمَلُ (3) .
رِوَايَةُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَيْثَم (4) بْنُ خَارِجَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ عُتْبَةَ السُّلَمِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبس، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَا نَعْمَلُ، أَمْرٌ قَدْ فُرغ مِنْهُ أَمْ شَيْءٌ نَسْتَأْنِفُهُ؟ قَالَ: "بَلْ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ". قَالُوا: فَكَيْفَ بِالْعَمَلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "كُلُّ امْرِئٍ مُهَيَّأٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" (5) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي كَبْشَة، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ قَتَادَةُ، حَدَّثَنِي خُلَيد الْعَصَرِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ غَرَبَتْ فِيهِ شَمْسُهُ إِلَّا وبجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا". وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْقُرْآنَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (6) .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، بِإِسْنَادِهِ مِثْلِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطِّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَر العَدَاني، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ نَخْلٌ، وَمِنْهَا نَخْلَةٌ فَرْعُهَا إِلَى (7) دَارِ رَجُلٍ صَالِحٍ فَقِيرٍ ذِي عِيَالٍ، فَإِذَا جَاءَ الرَّجُلُ فَدَخَلَ دَارَهُ وَأَخَذَ الثَّمَرَ مَنْ نَخْلَتِهِ، فَتَسْقُطُ الثَّمَرَةُ فَيَأْخُذُهَا صِبْيَانُ الْفَقِيرِ فَنَزَلَ مِنْ نَخْلَتِهِ فَنزع (8) الثَّمَرَةَ مِنْ أيديهم، وإن أدخل أحدهم
__________
(1) تفسير الطبري (30/144) وصحيح مسلم برقم (2648) . تنبيه: لم يقع ذكر سراقة في رواية الطبري ولا في رواية أبي الطاهر في صحيح مسلم، وإنما وقع في صحيح مسلم من طريق آخر.
(2) في أ: "بشر".
(3) تفسير الطبري (30/144) .
(4) في أ: "حدثنا هشيم".
(5) المسند (6/441) .
(6) تفسير الطبري (30/142) .
(7) في م، أ: "في".
(8) في أ: "فينزع".(8/419)
الثَّمَرَةَ فِي فَمِهِ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي حَلْقِ الْغُلَامِ وَنَزَعَ الثَّمَرَةَ مَنْ حَلْقِهِ. فَشَكَا ذَلِكَ الرجلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ صَاحِبِ النَّخْلَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اذْهَبْ". وَلَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاحب النخلة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْطِنِي نَخْلَتَكَ الَّتِي فَرْعُهَا فِي دَارِ فُلَانٍ وَلَكَ بِهَا نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ" فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ أَعْطَيْتُ، وَلَكِنْ يُعْجِبُنِي ثَمَرُهَا، وَإِنَّ لِي لَنَخْلًا كَثِيرًا مَا فِيهَا نَخْلَةٌ أَعْجَبُ إِلَيَّ ثَمَرَةً مِنْ ثَمَرِهَا. فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ كَانَ يَسْمَعُ الْكَلَامَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ صَاحِبِ النَّخْلَةِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ أَنَا أَخَذْتُ النَّخْلَةَ فَصَارَتْ لِي النَّخْلَةُ فَأَعْطَيْتُهَا أَتُعْطِينِي بِهَا مَا أَعْطَيْتَهُ بِهَا نَخْلَةً فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ لَقِيَ صَاحِبَ النَّخْلَةِ، وَلِكِلَاهُمَا نَخْلٌ، فَقَالَ لَهُ: أُخْبِرُكَ أَنَّ مُحَمَّدًا، [قَدْ] (1) أَعْطَانِي بِنَخْلَتِي الْمَائِلَةِ فِي دَارِ فُلَانٍ نَخْلَةً فِي الْجَنَّةِ، فَقُلْتُ، لَهُ: قَدْ أعطيتُ وَلَكِنْ يُعْجِبُنِي ثَمَرُهَا. فَسَكَتَ عَنْهُ الرجلُ، فَقَالَ لَهُ: أتُراك إِذَا بِعْتَهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ أُعْطَى بِهَا شَيْئًا، وَلَا أَظُنُّنِي أُعْطَاهُ. قَالَ: وَمَا مُنَاكَ بِهَا (2) ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ نَخْلَةً. فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ جئتَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، نَخْلَتُكَ تَطْلُبُ بِهَا أَرْبَعِينَ نَخْلَةً؟! ثُمَّ سَكَتَا وَأَنْشَأَ فِي كَلَامٍ [آخَرَ] (3) ثُمَّ قَالَ: أَنَا أَعْطَيْتُكَ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً، فَقَالَ: أَشْهِدْ لِي إِنْ كُنْتَ صَادِقًا. فَأَمَرَ بِأُنَاسٍ فَدَعَاهُمْ فَقَالَ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهُ مِنْ نَخْلِي أَرْبَعِينَ نَخْلَةً بِنَخْلَتِهِ الَّتِي فَرْعُهَا فِي دَارِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ. ثُمَّ قَالَ: مَا تَقَوُّلُ؟ فَقَالَ صَاحِبُ النَّخْلَةِ: قَدْ رَضِيتُ. ثُمَّ قَالَ بعدُ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَيْعٌ لَمْ نَفْتَرِقْ قَالَ (4) لَهُ: قَدْ أَقَالَكَ اللَّهُ، وَلَسْتُ بِأَحْمَقَ حِينَ أَعْطَيْتُكَ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً بِنَخْلَتِكَ الْمَائِلَةِ. فَقَالَ صَاحِبُ النَّخْلَةِ: قَدْ رضيتُ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْأَرْبَعِينَ عَلَى مَا أُرِيدُ. قَالَ: تُعْطِينِيهَا عَلَى سَاقٍ. ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: هِيَ لَكَ عَلَى سَاقٍ وَأَوْقَفَ لَهُ شُهُودًا وَعَدَّ لَهُ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً عَلَى سَاقٍ، فَتَفَرَّقَا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّخْلَةَ الْمَائِلَةَ فِي دَارِ فُلَانٍ قَدْ صَارَتْ لِي، فَهِيَ لَكَ. فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّجُلِ صَاحِبِ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ: "النَّخْلَةُ لَكَ وَلِعِيَالِكَ". قَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ (5) .
هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عنه: حدثني هارون ابن إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ ابن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُعْتِقُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، فَكَانَ يُعْتِقُ عَجَائِزَ وَنِسَاءً إِذَا أَسْلَمْنَ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَيْ بُنَيَّ، أَرَاكَ تَعْتِقُ أُنَاسًا ضُعَفَاءَ، فَلَوْ أَنَّكَ تَعْتِقُ رِجَالًا جُلَداء يَقُومُونَ مَعَكَ وَيَمْنَعُونَكَ وَيَدْفَعُونَ عَنْكَ؟! فَقَالَ: أيْ أبَت، إِنَّمَا أُرِيدُ -أَظُنُّهُ قَالَ -مَا عِنْدَ اللَّهِ: قَالَ: فَحَدَّثَنِي بعض أهل بيتي أن هذه الآية
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م، أ. "فيها".
(3) زيادة من م.
(4) في م: "فقال".
(5) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/532) وقال: "أخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عباس".(8/420)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
أُنْزِلَتْ فِيهِ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (1) .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ إِذَا مَاتَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ، وَمَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِذَا تَرَدَّى فِي النَّارِ.
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) }
__________
(1) تفسير الطبري (30/142) .(8/421)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
{لَا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) }
قَالَ قَتَادَةُ: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} أَيْ: نُبَيِّنُ الحلالَ والحرامَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ سَلك طَرِيقَ الْهُدَى وَصَل إِلَى اللَّهِ. وَجَعَلَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النَّحْلِ: 9] . حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى} أَيِ: الْجَمِيعُ مِلْكُنَا (1) وَأَنَا الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُ: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ تَوَهَّجُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شعبة، عن سِماك بْنِ حَرْبٍ، سمعتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَقُولُ: "أُنْذِرُكُمُ النَّارَ [أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ، أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ] (2) حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ بِالسُّوقِ لَسَمِعَهُ مِنْ مَقَامِي هَذَا. قَالَ: حَتَّى وَقَعَتْ خَميصة كَانَتْ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ (3) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ النعمان ابن بَشِيرٍ يَخْطُبُ وَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رجلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (4)
وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغلي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلي المِرْجَل، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدَّ مِنْهُ عَذَابًا، وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا" (5) .
وَقَوْلُهُ: {لَا يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى} أَيْ: لَا يَدْخُلُهَا دُخُولًا يُحِيطُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ إِلَّا الْأَشْقَى. ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: {الَّذِي كَذَّبَ} أَيْ: بِقَلْبِهِ، {وَتَوَلَّى} أَيْ: عَنِ الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ وأركانه.
__________
(1) في م: "ملكا".
(2) زيادة من م، أ، والمسند.
(3) المسند (4/272) .
(4) المسند (4/274) وصحيح البخاري برقم (6561،6562) .
(5) صحيح مسلم برقم (213) .(8/421)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا عَبْدُ رَبِّهِ (1) بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا شَقِيٌّ". قِيلَ: وَمَنِ الشَّقِيُّ؟ قَالَ: "الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِطَاعَةٍ، وَلَا يَتْرُكُ لِلَّهِ مَعْصِيَةً" (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ وسُريج قَالَا حَدَّثَنَا فُلَيح، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ أُمَّتِي تَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ أَبَى". قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ فُلَيح، بِهِ (3)
وَقَوْلُهُ: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى} أَيْ: وسَيُزَحزح عَنِ النَّارِ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الْأَتْقَى.
ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} أَيْ: يَصْرِفُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ؛ لِيُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَمَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا.
{وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} أَيْ: لَيْسَ بَذْله حَالَهُ (4) فِي مُكَافَأَةِ مَنْ أَسْدَى إِلَيْهِ مَعْرُوفًا، فَهُوَ يُعْطِي فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ ذَلِكَ {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى} أَيْ: طَمَعًا فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ رُؤْيَتُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أَيْ: وَلَسَوْفَ يَرْضَى مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى الْإِجْمَاعَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا، وَأَوْلَى الْأُمَّةِ (5) بِعُمُومِهَا، فَإِنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} وَلَكِنَّهُ مُقَدَّمُ الْأُمَّةِ وَسَابِقُهُمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا تَقِيًا كَرِيمًا جَوَادًا بَذَّالًا لِأَمْوَالِهِ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ، وَنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَكَمْ مِنْ دَرَاهِمَ (6) وَدَنَانِيرَ (7) بَذَلَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْكَرِيمِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ منّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكَافِئَهُ بِهَا، وَلَكِنْ كَانَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ عَلَى السَّادَاتِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ -وَهُوَ سَيِّدُ ثَقِيفٍ، يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ-: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا يَدٌ لَكَ كَانَتْ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ. وَكَانَ الصِّدِّيقُ قَدْ أَغْلَظَ لَهُ فِي الْمَقَالَةِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ مَعَ سَادَاتِ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ، فَكَيْفَ بِمَنْ عَدَاهُمْ؟ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَته خَزَنَةُ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ يُدعى مِنْهَا ضَرُورَةٌ فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ" (8) .
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "الليل" ولله الحمد والمنة (9)
__________
(1) في أ: "حدثنا عبد الله".
(2) المسند (2/349) .
(3) المسند (2/361) وصحيح البخاري برقم (7280) .
(4) في أ: "ماله".
(5) في أ: "الآية".
(6) في م، أ: "من درهم".
(7) في أ: "ودينار".
(8) صحيح البخاري برقم (2841) وصحيح مسلم برقم (1027) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(9) في أ: "ولله الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل".(8/422)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الضُّحَى
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَزةَ الْمُقْرِئِ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عِكْرِمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ قُسْطَنْطِينَ وَشِبْلِ بْنِ عبَّاد، فَلَمَّا بَلَغْتُ " وَالضُّحَى " قَالَا لِي: كَبر حَتَّى تَخْتِمَ مَعَ خَاتِمَةِ كُلِّ سُورَةٍ، فَإِنَّا قَرَأْنَا عَلَى ابْنِ كَثِيرٍ فَأَمَرَنَا بِذَلِكَ. وَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى مُجَاهِدٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ. وَأَخْبَرَهُ مُجَاهِدٌ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَهُ أُبَيٌّ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ بِذَلِكَ (1) .
فَهَذِهِ سُنة تَفَرَّدَ بِهَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزِّيُّ، مِنْ وَلَدِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَاتِ، فَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ ضَعَّفَه أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَقَالَ: لَا أُحَدِّثُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ قَالَ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. لَكِنْ حَكَى الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي شَرْحِ الشَّاطِبِيَّةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُكَبِّرُ هَذَا التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ: أَحْسَنْتَ وَأَصَبْتَ السُّنَّةَ. وَهَذَا يَقْتَضِي صِحَّةَ هَذَا الْحَدِيثِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي مَوْضِعِ هَذَا التَّكْبِيرِ وَكَيْفِيَّتِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُكَبِّرُ مِنْ آخِرِ " وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى " وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ آخِرِ " وَالضُّحَى " وَكَيْفِيَّةُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَيَقْتَصِرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ.
وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ فِي مُنَاسَبَةِ التَّكْبِيرِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ "الضُّحَى": أَنَّهُ لَمَّا تَأَخَّرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتَرَ تِلْكَ الْمُدَّةَ [ثُمَّ] (2) جَاءَهُ الْمَلَكُ فَأَوْحَى إِلَيْهِ: " وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى " السُّورَةَ بِتَمَامِهَا، كَبَّرَ فَرَحًا وَسُرُورًا. وَلَمْ يُرْوَ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِصِحَّةٍ وَلَا ضَعْفٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ (3) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) }
__________
(1) ورواه الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال (1/145) ثم قال: "هذا حديث غريب، وهو مما أنكر على البزي، قال أبو حاتم: هذا منكر".
(2) زيادة من م.
(3) والصواب أن هذا مما لم يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته، رضي الله عنهم، وما روى فيها مما لا تقوم به الحجة، وشيخ الإسلام -ابن تيمية- قد تكلم على هذا التكبير كلاما شديدا في الفتاوى (13/417-419) ، وانظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (2/310) ومرويات دعاء ختم القرآن لبكر أبو زيد (ص6) ومن كتابه استفدت هذا، فجزاه الله خيرا.(8/423)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبا يَقُولُ: اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ، فَأَتَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (1) .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدُب -هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ البَجلي ثُمَّ العَلقي (2) بِهِ (3) وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ: سَمِعَ جُنْدُبًا قَالَ: أَبْطَأَ جِبْرِيلُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: وُدِّع مُحَمَّدٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (4) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (5) الْأَوْدِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جُنْدُبًا يَقُولُ: رُمِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرٍ فِي أُصْبُعُهُ فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ ... وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ? ...
قَالَ: فَمَكَثَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَا يَقُومُ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ: مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَتْكَ (6) فَنَزَلَتْ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وَالسِّيَاقُ لِأَبِي سَعِيدٍ.
قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ هِيَ: أُمُّ جَمِيلٍ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ، وَذُكِرَ أَنَّ أُصْبَعَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، دَمِيَتْ. وَقَوْلُهُ -هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي اتَّفَقَ أَنَّهُ مَوْزُونٌ-ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ (7) وَلَكِنَّ الْغَرِيبَ هَاهُنَا جَعْلُهُ سَبَبًا لِتَرْكِهِ الْقِيَامِ، وَنُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ. فَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الله ابن شَدَّادٍ: أَنَّ خَدِيجَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا قَدْ قَلَاكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: إِنِّي أَرَى رَبَّكَ قَدْ قَلَاكَ مِمَّا نَرى مِنْ جَزَعِكَ. قَالَ: فَنَزَلَتْ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} إلى آخرها (8) .
__________
(1) المسند (4/312) .
(2) في أ: "العلقمي".
(3) صحيح البخاري برقم (1124، 1125، 4983، 4950،4951) وصحيح مسلم برقم (1797) وسنن الترمذي برقم (3345) وسنن النسائي الكبرى برقم (11681) وسنن ابن ماجة برقم (3250) .
(4) هذه الرواية في مسلم والترمذي.
(5) في أ: "وعمرو بن عبد الله بن عبد الله الأودي".
(6) في م: "قد تركك".
(7) صحيح البخاري برقم (2802) وصحيح مسلم برقم (1796) .
(8) تفسير الطبري (30/148) .(8/424)
فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ مِنْ [هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ] (1) وَلَعَلَّ ذِكْرَ خَدِيجَةَ لَيْسَ مَحْفُوظًا، أَوْ قَالَتْهُ عَلَى وَجْهِ التَّأَسُّفِ وَالتَّحَزُّنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ -مِنْهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ-أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ هِيَ الَّتِي أَوْحَاهَا جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ تَبَدَّى لَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَدَنَا إِلَيْهِ وَتَدَلَّى مُنْهَبِطًا عَلَيْهِ وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النَّجْمِ: 10] . قَالَ: قَالَ لَهُ هَذِهِ السُّورَةَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}
قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا نزلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ، أَبْطَأَ عَنْهُ جِبْرِيلُ أَيَّامًا، فَتَغَيَّرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلَاهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}
وَهَذَا قَسَمٌ مِنْهُ تَعَالَى بِالضُّحَى وَمَا جَعَلَ فِيهِ مِنَ الضِّيَاءِ، {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} أَيْ: سَكَنَ فَأَظْلَمَ وادلَهَم. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِ هَذَا وَهَذَا. كَمَا قَالَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [اللَّيْلِ: 1، 2] ، وَقَالَ: {فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الْأَنْعَامِ: 96] .
وَقَوْلُهُ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} أَيْ: مَا تَرَكَكَ، {وَمَا قَلَى} أَيْ: وَمَا أَبْغَضَكَ، {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى} أَيْ: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ. وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْظَمَهُمْ لَهَا إِطْرَاحًا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ [بِالضَّرُورَةِ] (2) مِنْ سِيرَتِهِ. وَلَمَّا خُيِّرَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي آخِرِ عُمْرِهِ بَيْنَ الْخُلْدِ فِي الدُّنْيَا إِلَى آخِرِهَا ثُمَّ الْجَنَّةِ، وَبَيْنَ الصَّيْرُورَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، اخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخعِي، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ-قَالَ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ، فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ جَعَلْتُ أَمْسَحُ جَنْبَهُ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا آذَنْتَنَا حَتَّى نَبْسُطَ لَكَ عَلَى الْحَصِيرِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما لِي وَلِلدُّنْيَا؟! مَا أَنَا وَالدُّنْيَا؟! إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ ظَلّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ راح وتركتها (3) .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الْمَسْعُودِيِّ بِهِ (4) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ يُعْطِيهِ حَتَّى يُرْضِيَهُ فِي أُمَّتِهِ، وَفِيمَا أعدَّه لَهُ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ نَهْرُ الْكَوْثَرِ الَّذِي حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ، وَطِينُهُ [مِنْ] (5) مِسْكٍ أَذْفَرَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عمر الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي المهاجر المخزومي، عن
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) زيادة من م.
(3) في أ: "وتركها".
(4) المسند (1/391) وسنن الترمذي برقم (2377) وسنن ابن ماجة برقم (4109) .
(5) زيادة من أ.(8/425)
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا هُوَ مَفْتُوحٌ عَلَى أُمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ كَنْزًا كَنْزًا، فَسُرَّ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} فَأَعْطَاهُ فِي الْجَنَّةِ أَلْفَ أَلْفَ قَصْرٍ، فِي كُلِّ قَصْرٍ مَا يَنْبَغِي لَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْخَدَمِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (1) مِنْ طَرِيقِهِ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: ومثلُ هَذَا مَا يُقَالُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ رِضَاءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ النَّارَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي بِذَلِكَ الشَّفَاعَةَ. وَهَكَذَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا معاويةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "أنا أهلُ بَيْتٍ اخْتَارَ اللَّهُ لَنَا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (2) .
ثُمَّ قَالَ تعالى يعدد نعَمه عل عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ تُوفّي وَهُوَ حَملٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَقِيلَ: بَعْدَ أَنْ وُلِدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سِتُّ سِنِينَ. ثُمَّ كَانَ فِي كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانِ سِنِينَ، فَكَفَلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ ويَرفع مِنْ قَدره وَيُوقّره، وَيَكُفُّ عَنْهُ أَذَى قَوْمِهِ بَعْدَ أَنِ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ، هَذَا وَأَبُو طَالِبٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ وحُسن تَدْبِيرِهِ، إِلَى أَنْ تُوفي أَبُو طَالِبٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِقَلِيلٍ، فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ وجُهالهم، فَاخْتَارَ اللَّهُ لَهُ الْهِجْرَةَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ إِلَى بَلَدِ الْأَنْصَارِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، كَمَا أَجْرَى اللَّهُ سُنَّته عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ وَالْأَكْمَلِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ آوَوه ونَصَرُوه وَحَاطُوهُ وَقَاتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ حِفْظِ اللَّهِ لَهُ وَكِلَاءَتِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى} كَقَوْلِهِ {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشُّورَى: 52] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ [إِنَّ] (3) الْمُرَادَ بِهَذَا أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ضَلَّ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ صَغِيرٌ، ثُمَّ رَجَعَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ ضَلَّ وَهُوَ مَعَ عَمِّهِ فِي طَرِيقِ الشَّامِ، وَكَانَ رَاكِبًا نَاقَةً فِي اللَّيْلِ، فَجَاءَ إِبْلِيسُ يَعْدِلُ بِهَا عَنِ الطَّرِيقِ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ، فَنَفَخَ إِبْلِيسَ نَفْخَةً ذَهَبَ مِنْهَا إِلَى الْحَبَشَةِ، ثُمَّ عَدَلَ بالراحلة إلى الطريق. حكاهما البغوي.
__________
(1) في أ: "رواه ابن جرير وابن أبي حاتم".
(2) ورواه البغوي في شرح السنة (14/248) من طريق ابن أبي شيبة فذكره دون الآية، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (15/236) بهذا الطريق ولم يذكر الآية، ولعل ذكرها وقع في كتاب التفسير، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (4082) عن عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ هشام به، وقال البوصيري في الزوائد (3/262) : "هذا إسناد فيه يزيد بن أبي زياد الكوفي مختلف فيه".
(3) زيادة من م.(8/426)
وَقَوْلُهُ: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} أَيْ: كُنْتَ فَقِيرًا ذَا عِيَالٍ، فَأَغْنَاكَ اللَّهُ عَمَّنْ سِوَاهُ، فَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ مَقَامَيِ، الْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ مَنَازِلَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ -مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ-عَنْ مَعْمَر، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبّه قَالَ: هَذَا مَا حَدّثنا أَبُو هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَض، وَلَكِنَّ (1) الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ" (2) .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، ورُزق كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ (3) اللَّهُ بِمَا آتَاهُ" (4) .
ثُمَّ قَالَ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} أَيْ: كَمَا كُنْتَ يَتِيمًا فَآوَاكَ اللَّهُ فَلَا تَقْهَرِ الْيَتِيمَ، أَيْ: لَا تُذِلَّهُ وَتَنْهَرْهُ وَتُهِنْهُ، وَلَكِنْ أحسِنْ إِلَيْهِ، وَتَلَطَّفْ بِهِ.
قَالَ قَتَادَةُ: كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ.
{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} أَيْ: وَكَمَا كُنْتَ ضَالًّا فَهَدَاكَ اللَّهُ، فَلَا تَنْهَرِ السَّائِلَ فِي الْعِلْمِ الْمُسْتَرْشِدَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} أَيْ: فَلَا تَكُنْ جَبَّارًا، وَلَا مُتَكَبِّرًا، وَلَا فَحَّاشا، وَلَا فَظّا عَلَى الضُّعَفَاءِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي رَد الْمِسْكِينَ بِرَحْمَةٍ وَلِينٍ.
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أَيْ: وَكَمَا كُنْتَ عَائِلًا فَقِيرًا فَأَغْنَاكَ اللَّهُ، فَحَدِّثْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ، كَمَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ النَّبَوِيِّ: "وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ (5) مُثْنِينَ بِهَا، قَابِلِيهَا، وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا".
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَية، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ الجُرَيري، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّ مِنْ شُكْرِ النِّعَمِ أَنْ يُحَدَّثَ بِهَا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مَليح، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ، لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ. وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شَكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ. والجماعة رحمة، والفرقة عذاب" (6) إسناد ضعيف.
__________
(1) في م: "وإنما".
(2) لم أقع عليه في الصحيحين من هذا الطريق، وقد جاء فيهما من طرق أخر عن أبي هريرة، انظر: صحيح البخاري برقم (6446) وصحيح مسلم برقم (1051) .
(3) في أ: "ومتعه".
(4) صحيح مسلم برقم (1054) .
(5) في أ: "لنعمك".
(6) زوائد المسند (4/278) .(8/427)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ الْأَنْصَارُ بِالْأَجْرِ كُلِّهِ. قَالَ: "لَا مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ" (1) .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ مُسْلِمٍ (2) وَقَالَ: صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أُبْلِي بَلَاءً فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ". تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ (3) .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّد، حَدَّثَنَا بِشْرٌ (4) حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزْية، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أعطَى عَطاء فَوَجَد فَليَجزْ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَليُثن بِهِ، فَمَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ". قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عُمارة بْنِ غَزية، عَنْ شُرَحْبِيلَ عَنْ جَابِرٍ -كَرِهُوهُ فَلَمْ يُسَمُّوهُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ (5) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي النُّبُوَّةَ الَّتِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْقُرْآنُ.
وَقَالَ لَيْثٌ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} قَالَ: مَا عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ فَحَدث إِخْوَانَكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَا جَاءَكَ اللَّهُ (6) مِنْ نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ مِنَ النُّبُوَّةِ فَحَدِّثْ بِهَا وَاذْكُرْهَا، وَادْعُ إِلَيْهَا. وَقَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النُّبُوَّةِ سِرًّا إِلَى مَنْ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَافْتُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى.
آخِرُ تفسير سورة "الضحى" [ولله الحمد] (7) .
__________
(1) لم أقع عليه في الصحيحين، ورواه الإمام أحمد في المسند (3/200) .
(2) سنن أبي داود برقم (4811) وسنن الترمذي برقم (1954) .
(3) سنن أبي داود برقم (4814) .
(4) في أ: "بشير".
(5) سنن أبي داود برقم (4813) .
(6) في م: "ما جاءك من الله".
(7) زيادة من أ.(8/428)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
تَفْسِيرُ سُورَةِ أَلَمْ نَشْرَحْ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) }
يَقُولُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} يَعْنِي: أَمَا شَرَحْنَا لَكَ صَدْرَكَ، أَيْ: نَوَّرْنَاهُ وَجَعَلْنَاهُ فَسيحًا رَحِيبًا وَاسِعًا كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ} [الْأَنْعَامِ: 125] ، وَكَمَا شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ كَذَلِكَ جَعَلَ شَرْعه فَسِيحًا وَاسِعًا سَمْحًا سَهْلًا لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا إِصْرَ وَلَا ضِيقَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شَرْحُ صَدْرِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ (1) وَقَدْ أَوْرَدَهُ التِّرْمِذِيُّ هَاهُنَا. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا، وَلَكِنْ لَا مُنَافَاةَ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ شَرْحِ صَدْرِهِ الَّذِي فُعِل بِصَدْرِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَمَا نَشَأَ عَنْهُ مِنَ الشَّرْحِ الْمَعْنَوِيِّ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ (2) أَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ (3) حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ جَرِيًّا عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْهَا غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أولُ مَا رَأَيْتَ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ؟ فَاسْتَوَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَقَالَ: "لَقَدْ سألتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنِّي لَفِي الصَّحْرَاءِ ابنُ عَشْرِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ، وَإِذَا بِكَلَامٍ فَوْقَ رَأْسِي، وَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ لِرَجُلٍ: أَهُوَ هُوَ؟ [قَالَ: نَعَمْ] (4) فَاسْتَقْبَلَانِي بِوُجُوهٍ لَمْ أَرَهَا [لِخَلْقٍ] (5) قَطُّ، وَأَرْوَاحٍ لَمْ أَجِدْهَا مِنْ خَلْقٍ قَطُّ، وَثِيَابٍ لَمْ أَرَهَا عَلَى أَحَدٍ قَطُّ. فَأَقْبَلَا إِلَيَّ يَمْشِيَانِ، حَتَّى أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بعَضُدي، لَا أَجِدُ لِأَحَدِهِمَا مَسًّا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَضْجِعْهُ. فَأَضْجَعَانِي بِلَا قَصْر وَلَا هَصْر. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: افْلِقْ صَدْرَهُ. فَهَوَى أَحَدُهُمَا إِلَى صَدْرِي فَفَلَقَهُ فِيمَا أَرَى بِلَا دَمٍ وَلَا وَجَعٍ، فَقَالَ لَهُ: أَخْرِجِ الغِلّ والحَسَد. فَأَخْرَجَ شَيْئًا كَهَيْئَةِ الْعَلَقَةِ ثُمَّ نَبَذَهَا فَطَرَحَهَا، فَقَالَ لَهُ: أَدْخِلِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ، فَإِذَا مِثْلُ الَّذِي أَخْرَجَ شبهُ الفضة، ثم هز
__________
(1) تقدم تخريج الحديث عند تفسير أول سورة الإسراء.
(2) في أ: "محمد بن عبد الرحمن ".
(3) في م، أ: "البزار".
(4) زيادة من المسند.
(5) زيادة من المسند.(8/429)
إِبْهَامَ رِجْلِي الْيُمْنَى فَقَالَ: اغدُ وَاسْلَمْ. فَرَجَعْتُ بِهَا أَغْدُو، رِقَّةً عَلَى الصَّغِيرِ، وَرَحْمَةً لِلْكَبِيرِ" (1) .
وَقَوْلُهُ: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} بِمَعْنَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الْفَتْحِ: 2] {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} الْإِنْقَاضُ: الصَّوْتُ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أَيْ: أَثْقَلَكَ حَمْلُهُ.
وَقَوْلُهُ: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا أُذْكرُ إِلَّا ذُكِرتَ مَعِي: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: رَفَعَ اللهُ ذكرَه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتشهد وَلَا صاحبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي بِهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ دَراج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ: كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: إِذَا ذُكِرتُ ذُكِرتَ مَعِي"، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، بِهِ وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعة، عَنْ دَرَّاج (2) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا أَبُو عُمر الحَوضي، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَأَلْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً وَدَدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ، قُلْتُ: قَدْ كَانَتْ قَبْلِي أَنْبِيَاءُ، مِنْهُمْ مَنْ سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيحُ (3) وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْيِي الْمَوْتَى. قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: أَلَمْ أَشْرَحْ (4) لَكَ صَدْرَكَ؟ أَلَمْ أَرْفَعْ لَكَ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَبِّ" (5) .
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ": حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْغِطْرِيفِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الجَوْني، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ بَهْرام الْهِيَتِيُّ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْتُ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا وَقَدْ كَرَّمْتَهُ، جَعَلْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَمُوسَى كَلِيمًا، وَسَخَّرْتَ لِدَاوُدَ الْجِبَالَ، وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ وَالشَّيَاطِينَ، وَأَحْيَيْتَ لِعِيسَى الْمَوْتَى، فَمَا جَعَلْتَ لِي؟ قال: أو ليس قَدْ أَعْطَيْتُكَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَنِّي لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي، وَجَعَلْتُ صُدُورَ أُمَّتِكَ أَنَاجِيلَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ظَاهِرًا، وَلَمْ أُعْطِهَا أُمَّةً، وَأَعْطَيْتُكَ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ عَرْشِي: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ" (6) .
__________
(1) زوائد المسند (5/139) وقال الهيثمي في المجمع (8/222) : "رجاله ثقات وثقهم ابن حبان".
(2) تفسير الطبري (30/151) .
(3) في أ: "البحر".
(4) في أ: "ألم نشرح".
(5) ورواه الحاكم في المستدرك (2/526) من طريق أحمد بن سلمة، عن عبد الله بن الجراح، عن حماد بن زيد به، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(6) وذكره المؤلف في البداية والنهاية (6/288) ثم قال: "وهذا إسناد فيه غرابة، ولكن أورد له شاهدا من طريق أبي القاسم بن منيع البغوي، عن سليمان بن داود المهراني، عن حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مرفوعا بنحوه".(8/430)
وَحَكَى الْبَغَوِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: الْأَذَانُ. يَعْنِي: ذِكْرَهُ فِيهِ، وَأَوْرَدَ مِنْ شِعْرِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:
أغَرّ عَلَيه لِلنُّبُوَّةِ خَاتَم ... مِنَ اللَّهِ مِنْ نُور يَلوحُ وَيشْهَد ...
وَضمَّ الإلهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ ... إِذَا قَالَ فِي الخَمْس المؤذنُ: أشهدُ ...
وَشَقَّ لَهُ مِن اسْمِهِ ليُجِلَّه ... فَذُو العَرشِ محمودٌ وهَذا مُحَمَّدُ (1)
وَقَالَ آخَرُونَ: رَفَعَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَنَوَّهَ بِهِ، حِينَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَنْ يَأْمُرُوا أُمَمَهُمْ (2) بِالْإِيمَانِ بِهِ، ثُمَّ شَهَرَ ذِكْرَهُ فِي أُمَّتِهِ فَلَا يُذكر اللَّهُ إِلَّا ذُكر مَعَهُ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الصَّرْصَرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
لَا يَصِحُّ الأذانُ فِي الفَرْضِ إِلَّا ... باسمِه العَذْب فِي الْفَمِ المرْضي ...
وَقَالَ أَيْضًا:
[ألَم تَر أنَّا لَا يَصحُّ أذانُنَا ... وَلا فَرْضُنا إنْ لَمْ نُكَررْه فِيهِمَا] (3) ...
وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يوجَدُ الْيُسْرُ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْخَبَرَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا حُميد بْنُ حَمَّادِ بْنِ خَوَار أَبُو الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا عَائِذُ بْنُ شُريح قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا (4) وَحِيَالَهُ حجر، فقال: "لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ فَيُخْرِجَهُ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (5) {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (6) .
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْمَر، عَنْ حُميد بْنِ حَمَّادٍ، بِهِ وَلَفْظُهُ: "لَوْ جاء العسر حتى يدخل هذا الحجر لَجَاءَ الْيُسْرُ حَتَّى يُخْرِجَهُ" ثُمَّ قَالَ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنِ أَنَسٍ إِلَّا عَائِذُ بْنُ شُرَيْحٍ (7) .
قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: فِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ، وَلَكِنْ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود موقوفا.
__________
(1) معالم التنزيل للبغوي (8/464) .
(2) في أ: "أمتهم".
(3) زيادة من م، أ.
(4) في أ: "جالس" وهو خطأ.
(5) كذا في م، أ، هـ: "إن" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
(6) ورواه الحاكم في المستدرك (2/255) من طريق محمود بن غيلان به، وقال الحاكم: "هذا حديث عجيب غير أن الشيخين لم يحتجا بعائذ بن شريح". وقال الذهبي:"تفرد حميد بن حماد، عن عائذ، وحميد منكر الحديث كعائذ".
(7) مسند البزار برقم (2288) "كشف الأستار" ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3416) من طريق محمد بن معمر به.(8/431)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَاحِ، حَدَّثَنَا أَبُو قَطَن (1) حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: لَا يَغْلِبُ عُسْرٌ وَاحِدٌ يُسْرَيْنِ اثْنَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ (2) ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مَسْرُورًا فَرِحًا وَهُوَ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: "لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، فَإِنَّ (3) مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا".
وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا (4) .
وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَ أَصْحَابَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ".
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْعُسْرَ مُعَرَّفٌ فِي الْحَالَيْنِ، فَهُوَ مُفْرَدٌ، وَالْيُسْرُ مُنَكَّرٌ فَتَعَدَّدَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: "لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ"، يَعْنِي قَوْلَهُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} فَالْعُسْرُ الْأَوَّلُ عَيْنُ (5) الثَّانِي وَالْيُسْرُ تَعَدَّدَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا خَارِجَةُ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَزَّلَ (6) الْمَعُونَةَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى قَدْرِ الْمَؤُونَةِ، وَنَزَّلَ الصَّبْرَ عَلَى قَدْرِ الْمُصِيبَةِ" (7) .
وَمِمَّا يُرْوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ:
صَبرا جَميلا مَا أقرَبَ الفَرجا ... مَن رَاقَب اللَّهَ فِي الْأُمُورِ نَجَا ...
مَن صَدَق اللَّهَ لَم يَنَلْه أذَى ... وَمَن رَجَاه يَكون حَيثُ رَجَا ...
وَقَالَ ابْنُ دُرَيد: أَنْشَدَنِي أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ:
إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ القلوبُ ... وَضَاقَ لِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرحيبُ ...
وَأَوْطَأَتِ الْمَكَارِهُ وَاطْمَأَنَّتْ ... وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الخطوبُ ...
وَلَمْ تَرَ لِانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا ... وَلَا أَغْنَى بحيلته الأريبُ
__________
(1) في أ: "مطر".
(2) في أ: "حدثنا أبو".
(3) كذا في م، أ، هـ: "إن" وهو خطأ. من ابن جرير (30/151) .
(4) تفسير الطبري (30/151) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (2/309) عن معمر، عن الحسن به مرسلا، وقد جاء موقوفا على ابن مسعود، رواه عبد الرزاق في تفسيره (2/309) من طريق ميمون عن إبراهيم النخعي عنه، وجاء مرفوعا عن جابر، رواه ابن مردويه في تفسيره، وقال الحافظ ابن حجر: "إسناده ضعيف".
(5) في م: "هو".
(6) في أ: "نزلت".
(7) ورواه البزار في مسنده برقم (1506) "كشف الأستار" وابن عدي في الكامل (4/115) من طريق عبد العزيز الدراوردي عن طارق وعباد بن كثير، عن أبي الزناد به. وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد". وقال ابن عدي: "وطارق بن عمار يعرف بهذا الحديث". والحديث معلول. انظر: العلل لابن أبي حاتم (2/126،133) والكامل لابن عدي (6/238،402، 2/37، 4/115) .(8/432)
..
أَتَاكَ عَلَى قُنوط مِنْكَ غَوثٌ ... يَمُنُّ بِهِ اللَّطِيفُ المستجيبُ ...
وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ ... فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ ...
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَرُب نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَى ... ذَرْعًا وَعِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ ...
كَمُلَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلْقَاتُهَا ... فُرِجَتْ وَكَانَ يَظُنُّهَا لَا تُفْرَجُ ...
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أَيْ: إِذَا فَرغت مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَشْغَالِهَا وَقَطَعْتَ عَلَائِقَهَا، فَانْصَبْ فِي الْعِبَادَةِ، وَقُمْ إِلَيْهَا نَشِيطًا فَارِغَ الْبَالِ، وَأَخْلِصْ لِرَبِّكَ النِّيَّةَ وَالرَّغْبَةَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: "لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ" (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَحَضَرَ الْعَشَاءُ، فَابْدَءُوا بالعَشَاء" (2) .
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَقُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَانْصَبْ لِرَبِّكَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَانْصَبْ فِي حَاجَتِكَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فَانْصَبْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ. وَعَنِ ابْنِ عِيَاضٍ نَحْوُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} بَعْدَ فَرَاغِكَ مِنَ الصَّلَاةِ وَأَنْتَ جَالِسٌ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} يَعْنِي: فِي الدُّعَاءِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالضَّحَّاكُ: {فَإِذَا فَرَغْتَ} أَيْ: مِنَ الْجِهَادِ {فَانْصَبْ} أَيْ: فِي الْعِبَادَةِ. {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} قَالَ الثَّوْرِيُّ: اجْعَلْ نِيَّتَكَ وَرَغْبَتَكَ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "ألم نشرح" ولله الحمد.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (560) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5465) من حديث عائشة، رضي الله عنها.(8/433)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
تَفْسِيرُ سُورَةِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ مَالِكٌ وَشُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي سَفَر فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ. أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ فِي كُتُبِهِمْ (1) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) }
اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتِّينِ مَسْجِدُ دِمَشْقَ. وَقِيلَ: هِيَ نَفْسُهَا. وَقِيلَ: الْجَبَلُ الَّذِي عِنْدَهَا.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ مَسْجِدُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ (2) .
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ مَسْجِدُ نُوحٍ الَّذِي عَلَى الْجُودِيِّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ تِينِكُمْ هَذَا.
{وَالزَّيْتُونِ} قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ: هُوَ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ: هُوَ هَذَا الزَّيْتُونُ الَّذِي تَعْصِرُونَ.
{وَطُورِ سِينِينَ} قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى.
{وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ} يَعْنِي: مَكَّةَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحُسْنُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِي، وَابْنُ زَيْدٍ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: هَذِهِ مَحَالٌّ ثَلَاثَةٌ، بَعَثَ اللَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ الْكِبَارِ، فَالْأَوَّلُ: مَحَلَّةُ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ فِيهَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. وَالثَّانِي: طُورُ سِينِينَ، وَهُوَ طُورُ سَيْنَاءَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ. وَالثَّالِثُ: مَكَّةُ، وَهُوَ الْبَلَدُ الْأَمِينُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ فِيهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4952) وصحيح مسلم برقم (464) وسنن أبي داود برقم (1221) وسنن الترمذي برقم (310) وسنن النسائي الكبرى برقم (11682) وسنن ابن ماجة برقم (834،835) .
(2) تفسير القرطبي (20/111) عن محمد بن كعب.(8/434)
قَالُوا: وَفِي آخِرِ التَّوْرَاةِ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ: جَاءَ اللَّهُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ -يَعْنِي الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى [بْنَ عِمْرَانَ] (1) -وَأَشْرَقَ مِنْ سَاعيرَ -يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ مِنْهُ عِيسَى-وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ -يَعْنِي: جِبَالَ مَكَّةَ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ مِنْهَا مُحَمَّدًا-فَذَكَرَهُمْ (2) عَلَى التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ بِحَسَبِ تَرْتِيبِهِمْ فِي الزَّمَانِ، وَلِهَذَا أَقْسَمَ بِالْأَشْرَفِ، ثُمَّ الْأَشْرَفِ مِنْهُ، ثُمَّ بِالْأَشْرَفِ مِنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَشَكْلٍ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ، سَويّ الْأَعْضَاءِ حَسَنَهَا.
{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أَيْ: إِلَى النَّارِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الْحُسْنِ وَالنَّضَارَةِ مَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ إِنْ لَمْ يُطِعِ اللَّهَ وَيَتَّبِعِ الرُّسُلَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أَيْ: إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ. رُوي هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ -حَتَّى قَالَ عِكْرِمَةُ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ. وَاخْتَارَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَمَا حَسُن اسْتِثْنَاءُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الهَرَم قَدْ يصيبُ بَعْضَهُمْ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ، كَقَوْلِهِ: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الْعَصْرِ: 1 -3] .
وَقَوْلُهُ: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ قَالَ: {فَمَا يُكَذِّبُكَ} يَعْنِي: يَا ابْنَ آدَمَ {بَعْدُ بِالدِّينِ} ؟ أَيْ: بِالْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ وَقَدْ عَلِمْتَ الْبَدْأَةَ، وَعَرَفْتَ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبَدْأَةِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الرَّجْعَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَأَيُّ شَيْءٍ يَحْمِلُكَ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْمَعَادِ وَقَدْ عَرَفْتَ هَذَا؟
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} عَنَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَعَاذ اللَّهِ! عَنَى بِهِ الْإِنْسَانَ. وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} أَيْ: أَمَا هُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا، وَمِنْ عَدْله أَنْ يُقِيمَ الْقِيَامَةَ فَيُنْصِفَ الْمَظْلُومَ فِي الدُّنْيَا مِمَّنْ ظَلَمَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "فَإِذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فَأَتَى عَلَى آخِرِهَا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ" (3) .
آخِرُ تَفْسِيرِ [سُورَةِ] (4) " وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ " ولله الحمد.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م: "مخبرا عنهم".
(3) انظر: تفسير الآية الأخيرة من سورة القيامة.
(4) زيادة من م، أ.(8/435)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
تَفْسِيرُ سُورَةِ اقْرَأْ
وَهِيَ أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) }
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَق الصُّبْحِ. ثُمَّ حُبب إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ: التَّعَبُّدُ-اللَّيَالِي ذواتَ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّد (1) لِمَثْلِهَا حَتَّى فَجَأه الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ". قَالَ: "فَأَخَذَنِي فَغَطَّني حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَغَطَّني الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حَتَّى بَلَغَ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} قَالَ: فَرَجَعَ بِهَا تَرجُف بَوادره (2) حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي". فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْع. فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، مَا لِي: فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ: "قَدْ خَشِيتُ عَلَيَّ". فَقَالَتْ لَهُ: كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتصدُق الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبَ الْحَقِّ. ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقة بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أسَد بْنِ عَبْدِ العُزى ابن قُصي -وهو ابن عم خديجة، أخي أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِنْجِيلِ (3) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُكْتَبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَميَ -فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ وَرَقَةُ: ابنَ أَخِي، مَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى (4) لَيْتَنِي (5) فِيهَا جَذعا أكونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أومخرجيَّ هُم؟ ". فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ (6) إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدركني يَوْمُكَ أنصُرْكَ نَصْرًا مُؤزرًا. [ثُمَّ] (7) لَمْ ينشَب وَرَقة أَنْ تُوُفِّي، وفَتَر الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِيمَا بَلَغَنَا-حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَردى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهق الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نفسه منه، تبدى له
__________
(1) في م، أ: "فتزوده".
(2) في أ: "يرجف فؤاده".
(3) في م،: "وكتب من الإنجيل بالعربية".
(4) في أ: "على عيسى".
(5) في م: "يا ليتني".
(6) في أ: "بمثل ما جئت به".
(7) زيادة من م، أ، والمسند.(8/436)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رسولُ اللَّهِ حَقًا. فَيَسْكُنُ بِذَلِكَ جَأْشُهُ، وتَقَرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ. فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ الْجَبَلِ تَبَدى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ (1) وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ وَمَعَانِيهِ فِي أَوَّلِ شَرْحِنَا لِلْبُخَارِيِّ مُسْتَقْصًى، فَمَنْ أَرَادَهُ فَهُوَ هُنَاكَ مُحَرَّرٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَأَوَّلُ شَيْءٍ [نَزَلَ] (2) مِنَ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ الْمُبَارَكَاتُ (3) وهُنَّ أَوَّلُ رَحْمَةٍ رَحم اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ، وَأَوَّلُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ. وَفِيهَا التَّنْبِيهُ عَلَى ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، وَأَنَّ مِنْ كَرَمه تَعَالَى أَنْ عَلّم الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَشَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ بِالْعِلْمِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ أَبُو الْبَرِيَّةِ آدَمُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَالْعِلْمُ تَارَةً يَكُونُ فِي الْأَذْهَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي اللِّسَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْكِتَابَةِ بِالْبَنَانِ، ذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ، وَالرَّسْمِيُّ يَسْتَلْزِمُهُمَا مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَلِهَذَا قَالَ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَفِي الْأَثَرِ: قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ (4) . وَفِيهِ أَيْضًا: "مَنْ عَمِلِ بِمَا عَلِمَ رَزَقَهُ (5) اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُنْ [يَعْلَمْ] (6) .
{كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ ذُو فَرَحٍ وَأَشَرٍ وَبَطَرٍ وَطُغْيَانٍ، إِذَا رَأَى نَفْسَهُ قَدِ اسْتَغْنَى وَكَثُرَ مَالُهُ. ثُمَّ تَهدده وَتَوَعَّدَهُ وَوَعَظَهُ فَقَالَ: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} أَيْ: إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ، وَسَيُحَاسِبُكَ عَلَى مَالِكِ: مِنْ أَيْنَ جَمَعْتَهُ؟ وَفِيمَ صَرَفْتَهُ؟
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيس، عَنْ عَوْنٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنهومان لَا يَشْبَعَانِ، صَاحِبُ العلم وصاحب الدنيا، ولا يستويان،
__________
(1) المسند (6/232) وصحيح البخاري برقم (3، 4، 4953، 6982، 4955، 3392) وصحيح مسلم برقم (160) .
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م: "المباركة".
(4) جاء عن عمر -رضي الله عنه- موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن أبي شيبة في المصنف (9/49) والدارمي في السنن برقم (503) . وعن أنس موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص368) ، وجاء مرفوعا من حديث أنس، رواه الخطيب في تقييد العلم (ص 70) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص 368) . ومن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن عبد البر في جمع بيان العلم (1/73) والموقوف أصح.
(5) في م: "أورثه".
(6) زيادة من م، أ.(8/437)
فَأَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ فَيَزْدَادُ رِضَا الرَّحْمَنِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الدُّنْيَا فَيَتَمَادَى فِي الطُّغْيَانِ. قَالَ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وَقَالَ لِلْآخَرِ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِرٍ: 28] .
وَقَدْ رُوي هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ، وَطَالِبُ دُنْيَا" (1) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ، تَوَعَّدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَوَعَظَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَوَّلًا فَقَالَ: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} أَيْ: فَمَا ظَنُّكَ إِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي تَنْهَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ فِي فِعْلِهِ، أَوْ {أَمَرَ بِالتَّقْوَى} بِقَوْلِهِ، وَأَنْتَ تَزْجُرُهُ وَتَتَوَعَّدُهُ عَلَى صِلَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} أَيْ: أَمَا عَلِمَ هَذَا النَّاهِي لِهَذَا الْمُهْتَدِي أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى فِعْلِهِ أَتَمَّ الْجَزَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا وَمُتَهَدِّدًا: {كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} أَيْ: لَئِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْعِنَادِ {لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ} أَيْ: لنَسمَنَّها سَوَادًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ قَالَ: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} يَعْنِي: نَاصِيَةَ أَبِي جَهْلٍ كَاذِبَةً فِي مَقَالِهَا خَاطِئَةً فِي فعَالها.
{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أَيْ: قَوْمَهُ وَعَشِيرَتَهُ، أَيْ: لِيَدَعُهُمْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ، {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ يغلبُ: أحزبُنا أَوْ حِزْبُهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجَزَري، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقه. فبَلغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "لَئِنْ فَعَلَهُ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ". ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو-عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ (2) .
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ (3) وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ (4) .
وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ (5) وَابْنُ جَرِيرٍ -وَهَذَا لَفْظُهُ-من طريق داود بن أبي هند، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ -وَتَوعَّده-فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتهره، فقال: يا محمد،
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (1/92) من طريق قتادة، عن أنس به مرفوعا، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/223) من طريق زيد بن وهب، عن ابن مسعود به مرفوعا، وفي إسناده ضعيف.
(2) صحيح البخاري برقم (4958) .
(3) سنن الترمذي برقم (3348) وسنن النسائي برقم (11685) .
(4) تفسير الطبري (30/165) .
(5) في م، أ: "والترمذي والنسائي".(8/438)
بِأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَكْثَرُ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ مِنْ سَاعَتِهِ (1) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو يَزِيدَ، حَدَّثَنَا فُرَات، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ. قَالَ: فَقَالَ: "لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهلون رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا" (2) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ عَادَ مُحَمَّدٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ لَأَقْتُلَنَّهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ] } (3) حَتَّى بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى (4) فَقِيلَ: مَا يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: قَدِ اسْوَدَّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْكَتَائِبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ تَحَرَّكَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ (5) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يعفِّر مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ (6) ولأعفِّرن وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجأهم مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدقا مِنْ نَارٍ وهَولا وَأَجْنِحَةً. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا". قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ -لَا أَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا-: {كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ (7) .
وَقَوْلُهُ: {كَلا لَا تُطِعْهُ} يَعْنِي: يَا مُحَمَّدُ، لَا تُطِعْهُ فِيمَا يَنْهَاكَ عَنْهُ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَكَثْرَتِهَا، وصلِّ حَيْثُ شِئْتَ وَلَا تُبَالِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُكَ وَنَاصِرُكَ، وَهُوَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ -عِنْدَ مُسْلِمٍ-مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عن
__________
(1) المسند (1/329) وسنن الترمذي برقم (3349) وتفسير الطبري (30/164) .
(2) المسند (1/248) .
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "يصلى".
(5) تفسير الطبري (30/165) .
(6) في م: "على عنقه".
(7) تفسير الطبري (30/165) والمسند (2/370) وصحيح مسلم برقم (2797) وسنن النسائي الكبرى برقم (11683) .(8/439)
عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ" (1) .
وَتَقَدَّمَ أَيْضًا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَانَ يَسْجُدُ فِي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "اقرأ" (2) .
__________
(1) صحيح مسلم برقم (482) .
(2) في م، أ: "آخر تفسيرها".(8/440)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقَدْرِ (1)
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) }
يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدُّخَانِ: 3] وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهِيَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [الْبَقَرَةِ: 185] .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ العِزّة مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَصَّلًا بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُعَظِّما لِشَأْنِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، الَّتِي اخْتَصَّهَا بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِيهَا، فَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}
قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الحُدّاني (2) عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: سَوّدتَ وجوهَ الْمُؤْمِنِينَ -أَوْ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ-فَقَالَ: لَا تُؤَنِّبْنِي، رَحِمَكَ اللَّهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أريَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} يَا مُحَمَّدُ، يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ، وَنَزَلَتْ: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يَمْلِكُهَا بَعْدَكَ بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ الْقَاسِمُ: فَعَدَدْنَا فَإِذَا هِيَ ألف شهر، لا تزيد يوما ولا تنقص يَوْمًا (3) .
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ، وَهُوَ ثِقَةٌ وَثَّقَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ. قَالَ: وَشَيْخُهُ يُوسُفُ بْنُ سَعْدٍ -وَيُقَالُ: يُوسُفُ بْنُ مَازِنَ-رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ، عَلَى هَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ طَرِيقِ القاسم (4) بن الفضل، عن يوسف بن
__________
(1) في أ: "سورة ليلة القدر".
(2) في أ: "الجذامي".
(3) سنن الترمذي برقم (3350) .
(4) في أ: "من حديث الحاكم".(8/441)
مَازِنَ، بِهِ (1) وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ: إِنَّ يُوسُفَ هَذَا مَجْهُولٌ -فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ: حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ. وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ مَشْهُورٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ [قَالَ] (2) هُوَ ثِقَةٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَازِنَ، كَذَا قَالَ، وَهَذَا يَقْتَضِي اضْطِرَابًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مُنْكَرٌ جِدًّا، قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْحُجَّةُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
قُلْتُ: وَقَوْلُ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ الحُدّاني (3) إِنَّهُ حَسَبَ مُدّة بَنِي أُمَيَّةَ فَوَجَدَهَا أَلْفَ شَهْرٍ لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ فَإِنَّ معاويةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اسْتَقَلَّ بِالْمُلْكِ حِينَ سَلّم إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْإِمْرَةَ سنةَ أَرْبَعِينَ، وَاجْتَمَعَتِ الْبَيْعَةُ لِمُعَاوِيَةَ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ عَامَ الْجَمَاعَةِ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا فِيهَا مُتَتَابِعِينَ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا، لَمْ تَخْرُجْ عَنْهُمْ إِلَّا مُدَّةَ دَوْلَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْحَرَمَيْنِ وَالْأَهْوَازِ وَبَعْضِ الْبِلَادِ قَرِيبًا مِنْ تِسْعِ سِنِينَ، لَكِنْ لَمْ تَزُل يَدُهُمْ عَنِ الْإِمْرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ عَنْ بَعْضِ الْبِلَادِ، إِلَى أَنِ اسْتَلَبَهُمْ بَنُو الْعَبَّاسِ الْخِلَافَةَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ مُدَّتِهِمُ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ أَزْيَدُ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَإِنَّ الْأَلْفَ شَهْرٍ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَأَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ الْفَضْلِ أَسْقَطَ مِنْ مُدَّتِهِمْ أَيَّامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى هَذَا فَتَقَارَبَ مَا قَالَهُ الصحة فِي الْحِسَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعف هَذَا الْحَدِيثِ أنَّه سِيقَ لِذَمِّ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا السِّيَاقِ؛ فَإِنَّ تَفْضِيلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَيَّامِهِمْ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَم أَيَّامِهِمْ، فَإِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ شَرِيفَةٌ جِدًّا، وَالسُّورَةُ الْكَرِيمَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ لِمَدْحِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَكَيْفَ تُمدح بِتَفْضِيلِهَا عَلَى أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ الَّتِي هِيَ مَذْمُومَةٌ، بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
ألَم تَرَ أَنَّ السَّيْفَ ينقُصُ قَدْرُه ... إِذَا قِيل إِنَّ السَّيْفَ أمضَى مِن العَصَا ...
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا أنتَ فَضَّلتَ امْرَأً ذَا بَرَاعَة ... عَلى نَاقص كَانَ المديحُ منَ النَّقص ...
ثُمَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ وِلَايَةِ (4) الْأَلْفِ شَهْرٍ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ هِيَ أَيَّامُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةُ، فَكَيْفَ يُحَالُ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ هِيَ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُ الْآيَةِ وَلَا مَعْنَاهَا؟! وَالْمِنْبَرُ إِنَّمَا صُنِعَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَكَارَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (5) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ -يَعْنِي ابْنَ خَالِدٍ-عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسرائيل لَبس السلاح في
__________
(1) المستدرك (3/170) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (6/509) .
(2) زيادة من م.
(3) في أ: "الجذامي".
(4) في م: "ثم من الذي يفهم من الآية أن".
(5) وانظر: البداية والنهاية (6/243،244) فقد توسع أيضا في الكلام على هذا الحديث.(8/442)
سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ، قَالَ: فَعَجب الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} الَّتِي لَبِسَ ذَلِكَ الرَّجُلُ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلْفَ شَهْرٍ (1) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَكَّام بْنُ سَلْمٍ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَاحِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يُصْبِحَ، ثُمَّ يُجَاهِدُ الْعَدُوَّ بِالنَّهَارِ حَتَّى يُمْسِيَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَلْفَ شَهْرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} قِيَامُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ (2) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عُلَيّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا، لَمْ يَعْصوه طَرْفَةَ عَيْنٍ: فَذَكَرَ أَيُّوبَ، وَزَكَرِيَّا، وحزْقيل بْنَ الْعَجُوزِ، وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ -قَالَ: فَعَجِبَ (3) أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَجِبَتْ أُمَّتُكَ مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ ثَمَانِينَ سَنَةً، لَمْ يَعْصُوه طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ فَقَدَ أَنْزَلَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} هَذَا أَفْضَلُ مِمَّا عَجِبْتَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ. قَالَ: فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ مَعَهُ (4) .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بَلَغني عَنْ مُجَاهِدٍ: ليلةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. قَالَ: عَمَلها، صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيج، عَنْ مُجَاهِدٍ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، لَيْسَ فِي تِلْكَ الشُّهُورِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ: عَمَلٌ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَلْفِ شَهْرٍ.
وَهَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ -وَلَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ-هُوَ اختيارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَهُوَ الصَّوَابُ لَا مَا عَدَاهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رِباطُ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْر مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَازِلِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ (5) وَكَمَا جَاءَ فِي قَاصِدِ الْجُمُعَةِ بِهَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَنِيَّةٍ صَالِحَةٍ: "أَنَّهُ يُكتَبُ لَهُ عَمَلُ سَنَةٍ، أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا" إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُشَابِهَةِ لِذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلابَة، عَنْ أَبِي هُريرة قَالَ: لَمَّا حَضَرَ رَمَضَانُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهَرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللَّهُ
__________
(1) ورواه الثعلبي في تفسيره والواحدي في أسباب النزول كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/253) من طريق مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ مرسلا.
(2) تفسير الطبري (30/167) .
(3) في أ: "فتعجب".
(4) وذكره السيوطي في الدر المنثور (8/569) وعزاه لابن أبي حاتم.
(5) المسند (1/62) من حديث عثمان، رضي الله عنه.(8/443)
عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرم خَيرَها فَقَدْ حُرم".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ، بِهِ (1) .
وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَعْدِلُ عِبَادَتُهَا عِبَادَةَ أَلْفِ شَهْرٍ، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِهِ" (2) .
وَقَوْلُهُ: {تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} أَيْ: يَكْثُرُ تَنزلُ الْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِكَثْرَةِ بَرَكَتِهَا، وَالْمَلَائِكَةُ يَتَنَزَّلُونَ مَعَ تَنَزُّلِ الْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا يَتَنَزَّلُونَ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيُحِيطُونَ بحِلَق الذِّكْرِ، وَيَضَعُونَ أَجْنِحَتَهُمْ لِطَالِبِ الْعِلْمِ بِصِدْقٍ تَعْظِيمًا لَهُ.
وَأَمَّا الرُّوحُ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقِيلَ: هُمْ ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "النَّبَأِ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ: سَلَامُ هِيَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {سَلامٌ هِيَ} قَالَ: هِيَ سَالِمَةٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ (3) أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا سُوءًا أَوْ يَعْمَلَ فِيهَا أَذًى.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: تُقْضَى فِيهَا الْأُمُورُ، وَتُقَدَّرُ الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}
وَقَوْلُهُ: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْم، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} قَالَ: تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَسَاجِدِ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: "مِنْ كُلِّ امْرِئٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ".
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ "فَضَائِلِ الْأَوْقَاتِ" عَنْ عليٍّ أَثَرًا غَرِيبًا فِي نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَمُرُورِهِمْ عَلَى الْمُصَلِّينَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَحُصُولِ الْبَرَكَةِ لِلْمُصَلِّينَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَثَرًا غَرِيبًا عَجِيبًا مُطَوَّلًا جِدًّا، فِي تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى صُحْبَةِ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى الْأَرْضِ، وَدُعَائِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (4) .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ -يَعْنِي الْقَطَّانَ-عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي هُريرة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: "إنها ليلة سابعة -أو: تاسعة -وعشرين، وإن الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عدد الحصى" (5) .
__________
(1) المسند (2/230) وسنن النسائي (4/129) .
(2) صحيح البخاري برقم (1901) وصحيح مسلم برقم (760) .
(3) في أ: "الشياطين".
(4) سيأتي إيراد الأثر عند تفسير آخر السورة.
(5) مسند الطيالسي برقم (2545) .(8/444)
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنِ المِنهَال، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِي قَوْلِهِ: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ} قَالَ: لَا يَحْدُثُ فِيهَا أَمْرٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {سَلامٌ هِيَ} يَعْنِي (1) هِيَ خَيْرٌ كُلُّهَا، لَيْسَ (2) فِيهَا شَرٌّ إِلَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا حَيْوَة (3) بْنُ شُرَيح، حَدَّثَنَا بَقِيَّة، حَدَّثَنِي بَحير بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَان، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي، مَنْ قَامَهُنَّ ابْتِغَاءَ حِسْبَتِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَهِيَ لَيْلَةٌ وِتْرٍ: تِسْعٍ أَوْ سَبْعٍ، أَوْ خَامِسَةٍ، أَوْ ثَالِثَةٍ، أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَة، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا، سَاكِنَةٌ سَجِيَّةٌ، لَا بَرْدَ فِيهَا وَلَا حَرَّ، وَلَا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ يُرمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ. وَأَنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً، لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَلَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ" (4) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَفِي الْمَتْنِ غَرَابَةٌ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ نَكَارَةٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا زَمْعَة، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرام، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: "لَيْلَةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ، لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، وَتُصْبِحُ شَمْسُ (5) صَبِيحَتِهَا ضَعِيفَةً حَمْرَاءَ" (6) .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَأُنْسِيتُهَا، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مِنْ لَيَالِيهَا لَيْلَةٌ (7) طَلْقَةٌ بِلُجَةٌ، لَا حَارَةً وَلَا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا، لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا" (8) .
فَصْلٌ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ كَانَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، أَوْ هِيَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ: أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُري أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ -أَوْ: مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ-فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارُ أُمَّتِهِ أَلَّا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (9) وَقَدْ أسند من وجه آخر.
__________
(1) في م: "قال".
(2) في م: "لا تحدث".
(3) في أ: "حدثنا عبدة".
(4) المسند (5/324) .
(5) في م: "وتصبح شمسها".
(6) مسند الطيالسي برقم (2680) وفيه: "صفيقة" بدل: "ضعيفة".
(7) في أ: "لياليها وهي ليلة".
(8) عزاه إليه صاحب الكنز (8/540) برقم (24069) ولم أقع عليه في السنة، ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2190) من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أبي الزبير، عن جابر بنحوه.
(9) الموطأ برواية الزهري برقم (889) .(8/445)
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ "العُدّة" أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَكَى الْخَطَابِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ [وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ جَازِمًا بِهِ عَنِ الْمَذْهَبِ] (1) وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِينَ كَمَا هِيَ فِي أُمَّتِنَا.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ: حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيل سِمَاك الحَنَفي: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ مَرْثَد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَرْثَد قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ: كَيْفَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ قَالَ: أَنَا كُنْتُ أَسْأَلُ النَّاسَ عَنْهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، أَفِي رَمَضَانَ هِيَ أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: "بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ". قُلْتُ: تَكُونُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا، فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ؟ أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". قُلْتُ: فِي أَيِّ رَمَضَانَ هِيَ؟ قَالَ: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ، وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ". ثُمَّ حَدّثَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحَدّث، ثُمَّ اهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ قُلْتُ: فِي أَيَّ الْعَشْرَيْنِ هِيَ؟ قَالَ: "ابْتَغَوْهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا". ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ اهْتَبَلْتُ غَفْلَتَهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَا أَخْبَرْتَنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ؟ فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ مُنْذُ صَحِبْتُهُ، وَقَالَ: "الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، لَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْفَلَّاسِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، بِهِ (2) .
فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَّرْنَاهُ، وَفِيهِ أَنَّهَا تَكُونُ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ [بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (3) لَا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ طَوَائِفِ الشِّيعَةِ مَنْ رَفْعِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، عَلَى مَا فَهِمُوهُ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي سَنُورِدُهُ بعدُ مِنْ قَوْلِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ"؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ رفعُ عِلْم وَقْتِهَا عَيْنًا. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَخْتَصُّ (4) وُقُوعُهَا بِشَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّهُورِ، لَا كَمَا رُوي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، مِنْ أَنَّهَا تُوجَدُ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَتُرْجَى فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَقَدْ تَرْجَمَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَلَى هَذَا فَقَالَ: "بَابُ بَيَانِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ": حَدَّثَنَا حُمَيد بْنُ زَنْجُويه النَّسَائِيُّ (5) أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ: "هِيَ فِي كُلِّ رَمَضَانَ" (6) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَالَ: رَوَاهُ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَأَوْقَفَاهُ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، رِوَايَةٌ أَنَّهَا تُرْجَى (7) فِي جَمِيعِ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَهُوَ وَجْهٌ [حَكَاهُ] (8) الْغَزَالِيُّ، وَاسْتَغْرَبَهُ الرَّافِعِيُّ جدًا.
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (5/171) وسنن النسائي الكبرى برقم (3427) .
(3) زيادة من أ.
(4) في م: "مختص".
(5) في م: "الشامي".
(6) سنن أبي داود برقم (1387) .
(7) في م: "أنها ترتجي".
(8) زيادة من م، أ.(8/446)
فَصْلٌ
ثُمَّ قَدْ قِيلَ: إِنَّهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، يُحْكَى هَذَا عَنْ أَبِي رَزِين. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَقَعُ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَرَوَى فِيهِ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَعَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ.
وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، وَيُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّهَا لَيْلَةُ بَدْرٍ، وَكَانَتْ لَيْلَةُ جُمُعَةٍ هِيَ السَّابِعَةَ عَشْرَ (1) مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي صَبِيحَتِهَا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الْأَنْفَالِ: 41] .
وَقِيلَ: لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، يُحْكَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. .
وَقِيلَ: لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: اعْتَكَفَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فِي] (2) الْعَشْرِ الأوَل مِنْ رَمَضَانَ وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: [إِنَّ] (3) الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ: "مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِنِّي أُنْسِيتُهَا، وَإِنَّهَا (4) فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَفِي وِتْر، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ". وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدًا مِنَ النَّخْلِ، وَمَا نَرى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزَعَة فَمُطرنا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ وَالْمَاءِ عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ. وَفِي لَفْظٍ: "فِي صُبْحِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ" أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (5) .
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ.
وَقِيلَ: لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ (6) فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" (7) وَهُوَ قَرِيبُ السِّيَاقِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الجُرَيري، عَنْ أَبِي نَضْرَة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ" (8) إِسْنَادُهُ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيب، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ بِلَالٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ" (9) .
__________
(1) في أ: "في السابع عشر".
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م، أ.
(4) في م: "ثم إنها".
(5) صحيح مسلم برقم (1167) .
(6) في أ: "أويس".
(7) صحيح مسلم برقم (1168) .
(8) مسند الطيالسي برقم (2167) .
(9) المسند (6/12) .(8/447)
ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ خَالَفَهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَصْبَغَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، بن يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي بِلَالٌ -مؤذنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَنَّهَا أَوَّلُ السَّبْعِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَهَذَا الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا رُوي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَالْحُسْنِ، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ: أَنَّهَا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" (1) حَدِيثُ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ مَرْفُوعًا: "إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ".
وَقِيلَ: تَكُونُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ؛ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى". فَسَّره كَثِيرُونَ بِلَيَالِي الْأَوْتَارِ، وَهُوَ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ. وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى الْأَشْفَاعِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؛ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ".
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ: سَمِعْتُ عَبْدَةَ وَعَاصِمًا، عَنْ زِرّ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قُلْتُ: أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يُقِم الحَولَ يُصبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ. قَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. ثُمَّ حَلَفَ. قُلْتُ: وَكَيْفَ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالَ: بِالْعَلَامَةِ -أَوْ: بِالْآيَةِ-الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا، تَطْلُعُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا شُعَاعَ لَهَا، أَعْنِي الشَّمْسَ (2) .
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَشُعْبَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ زِرّ، عَنْ أَبِي، فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: فَقَالَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ -يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي-وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا (3) .
وَفِي الْبَابِ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِمْ (4) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ الجَادّة مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ حَاوَلَ اسْتِخْرَاجَ كَوْنِهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْ قَوْلِهِ: {هِيَ} لِأَنَّهَا الْكَلِمَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ مِنَ السُّورَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبري، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ وَعَاصِمٍ: أَنَّهُمَا سَمِعَا عِكْرِمَةَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
__________
(1) عند تفسير الآية 185.
(2) المسند (5/130) .
(3) صحيح مسلم برقم (762) .
(4) وانظر هذه الأحاديث وغيرها في: الدر المنثور للسيوطي (8/570-580) .(8/448)
أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ لِعُمَرَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ -أَوْ: إِنِّي لَأَظُنُّ-أَيَّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ هِيَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ؟ [فَقُلْتُ] (2) سَابِعَةٌ تَمْضِي -أَوْ: سَابِعَةٌ تَبْقَى-مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. فَقَالَ عُمَرُ: وَمَنْ أَيْنَ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ: خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ، وَسَبْعَ أَرْضِينَ، وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنَّ الشَّهْرَ يَدُورُ عَلَى سَبْعٍ، وَخَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ سَبْعٍ، وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ، وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْعٍ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ سَبْعٌ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ سَبْعٌ ... لِأَشْيَاءَ ذَكَرَهَا. فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ فَطِنْتَ لِأَمْرٍ مَا فَطِنَّا لَهُ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَزيد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ، قَالَ: هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا [وَقَضْبًا] } (3) الْآيَةَ [عَبَسَ: 27، 28] (4) .
وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، ونصٌ (5) غَرِيبٌ جِدًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ فِي لَيْلَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ عُمرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي رَمَضَانَ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَإِنَّهَا فِي وتْر إِحْدَى وَعِشْرِينَ، أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، [أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ] (6) أَوْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ" (7) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -وَهُوَ: أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ-حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ أَبِي مَيْمُونَةَ (8) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي ليلة القدر: "إنها ليلة سابعة أو تاسعة وَعِشْرِينَ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى" (9) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا تَكُونُ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ آنِفًا (10) وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عُيَينة بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ سَبْعٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ خَمْسٍ يَبْقَيْنَ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ". يَعْنِي: الْتَمِسُوا لَيْلَةَ القدر (11) .
__________
(1) في أ: "أصحاب رسول الله".
(2) زيادة من م، أ.
(3) زيادة من المعجم الكبير (10/322) .
(4) المعجم الكبير (10/322) .
(5) في م: "ومتن".
(6) زيادة من أ، والمسند.
(7) المسند (5/321) .
(8) في أ: "عن أبي معاوية".
(9) المسند (2/519) .
(10) في أ: ":أيضا".
(11) سنن الترمذي برقم (794) وسنن النسائي الكبرى برقم (3404) .(8/449)
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: "إِنَّهَا آخِرُ لَيْلَةٍ" (1) .
فَصْلٌ
قَالَ [الْإِمَامُ] (2) الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: صَدَرَتْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا لِلسَّائِلِ إِذْ قِيلَ لَهُ: أَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ؟ يَقُولُ: "نَعَمْ". وَإِنَّمَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةٌ مُعَيَّنة: لَا تَنْتَقِلُ. نَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلابَة أَنَّهُ قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ (3) .
وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيمة، وَغَيْرُهُمْ. وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ -نَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْهُ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمر: أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتحريها فَلْيَتَحرها فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ" (4) .
وَفِيهَا أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ" (5) وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَيُحْتَجُّ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ، وَأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ مِنَ الشَّهْرِ، بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحى رَجُلَانِ مَنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ" (6) .
وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ: أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً مُسْتَمِرَّةَ التَّعْيِينِ، لَمَا حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِعَيْنِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ، إِذًا (7) لَوْ كَانَتْ تَنْتَقِلُ لَمَا عَلِمُوا تَعيُّنها إِلَّا ذَلِكَ الْعَامِ فَقَطْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ لِيُعْلِمَهُمْ بِهَا تِلْكَ السَّنَةَ فَقَطْ.
وَقَوْلُهُ: "فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ": فِيهِ اسْتِئْنَاسٌ لِمَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُمَارَاةَ تَقْطَعُ الْفَائِدَةَ وَالْعِلْمَ النَّافِعَ، وَكَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ الْعَبْدَ ليُحْرَم الرزقَ بالذَّنْبِ يُصِيبه".
وَقَوْلُهُ: "فَرُفِعَتْ" أَيْ: رُفِعَ عِلْمُ تَعينها لَكُمْ، لَا أَنَّهَا رُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ مِنَ الْوُجُودِ، كَمَا يقوله
__________
(1) لم أقع عليه في المسند، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/572) وعزاه لأحمد، ولعلي أستدركه فيما بعد.
(2) زيادة من أ.
(3) سنن الترمذي (3/159) .
(4) صحيح البخاري برقم (2015) وصحيح مسلم برقم (1165) .
(5) صحيح البخاري برقم (2017) وصحيح مسلم برقم (1169) .
(6) صحيح البخاري برقم (2023) .
(7) في أ: "إذ".(8/450)
جَهَلَةُ الشِّيعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: "فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ".
وَقَوْلُهُ: "وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ" يَعْنِي: عَدَمُ تَعْيِينِهَا لَكُمْ، فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مُبْهَمَةً اجْتَهَدْ طُلابها فِي ابْتِغَائِهَا فِي جَمِيعِ مَحَالِّ رَجَائِهَا، فَكَانَ أَكْثَرَ لِلْعِبَادَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمُوا (1) عَيْنَهَا فَإِنَّهَا كَانَتِ الْهِمَمُ تَتَقَاصَرُ عَلَى قِيَامِهَا فَقَطْ. وَإِنَّمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِبْهَامَهَا لِتَعُمَّ الْعِبَادَةُ جَمِيعَ الشَّهْرِ فِي ابْتِغَائِهَا، وَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ (2) أَكْثَرَ. وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ اعْتَكَفَ أزواجهُ مِنْ بَعْدِهِ. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ (3) .
وَلَهُمَا عَنِ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ (4) .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ. أَخْرَجَاهُ (5) .
وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا (6) كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ (7) .
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهَا: "وَشَدَّ الْمِئْزَرَ". وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: اعْتِزَالُ النِّسَاءِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْأَمْرَيْنِ، لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا سُرَيج، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَقِيَ عَشْرٌ مِنْ رَمَضَانَ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ. انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ (8) .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ جَمِيعَ لَيَالِي الْعَشْرِ فِي تَطَلُّبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى السَّوَاءِ، لَا يَتَرَجَّحُ مِنْهَا لَيْلَةٌ عَلَى أُخْرَى: رَأَيْتُهُ فِي شَرْحِ الرَّافِعِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالْمُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَكْثَرُ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ، ثُمَّ فِي أَوْتَارِهِ أَكْثَرُ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّ يُكْثِرَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ: "اللَّهُمَّ، إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي"؛ لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ -هُوَ ابْنُ هَارُونَ-حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ (9) -وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُريدة، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَمَا أَدْعُو؟ قَالَ: "قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تحب العفو، فاعف عني" (10) .
__________
(1) في أ: "إذا عملوا".
(2) في أ: "الأخير".
(3) صحيح البخاري برقم (2026) وصحيح مسلم برقم (1172) .
(4) صحيح البخاري برقم (2025) وصحيح مسلم برقم (1171) .
(5) صحيح البخاري برقم (2024) وصحيح مسلم برقم (1174) .
(6) في م: "عنهما".
(7) صحيح مسلم برقم (1175) .
(8) المسند (6/66) .
(9) في م: "الجوهري".
(10) المسند (6/182) .(8/451)
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ كَهْمَس بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ علمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: "قُولِي: اللَّهُمَّ، إِنَّكَ عَفُو تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي" (1) .
وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ". وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرِكِهِ، وَقَالَ: "هَذَا صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ" (2) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرثَد، عَنِ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيدة عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أرأيتَ إِنْ وافقتُ ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُو تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي" (3) .
ذُكِرَ أَثَرٌ غَرِيبٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ، يَتَعَلَّقُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ القَطواني، حَدَّثَنَا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَعِيدٍ -يَعْنِي الرَّاسِبِيَّ-عَنْ هِلَالٍ أَبِي جَبَلَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ السَّلَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى عَلَى حَدِّ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، مِمَّا يَلِي الْجَنَّةَ، فَهِيَ عَلَى حَدّ هَوَاءِ الدُّنْيَا وَهَوَاءِ الْآخِرَةِ، عُلوها فِي الْجَنَّةِ، وَعُرُوقُهَا وَأَغْصَانُهَا مِنْ تَحْتِ الْكُرْسِيِّ، فِيهَا مَلَائِكَةٌ لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ (4) إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، يَعْبُدُونَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى أَغْصَانِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعِ شَعْرَةٍ مِنْهَا مَلَكٌ. وَمَقَامُ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي وَسَطِهَا، فَيُنَادِي اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَنْزِلَ فِي كُلِّ لَيْلَةِ قَدْر مَعَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَلَكٌ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَنْزِلُونَ عَلَى (5) جِبْرِيلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، حِينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، فَلَا تَبْقَى بُقْعَةٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا وَعَلَيْهَا مَلَكٌ، إِمَّا سَاجِدٌ وَإِمَّا قَائِمٌ، يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَنِيسَةٌ أَوْ بَيْعَةٌ، أَوْ بَيْتُ نَارٍ أَوْ وَثَنٍ، أَوْ بَعْضُ أَمَاكِنِكُمُ الَّتِي تَطْرَحُونَ فِيهَا الخبَث، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ سَكْرَانٌ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ مُسكر، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ وَثَنٌ مَنْصُوبٌ، أَوْ بَيْتٌ فِيهِ جَرَسٌ مُعَلّق، أَوْ مَبْوَلَةٌ، أَوْ مَكَانٌ فِيهِ كَسَاحَةِ الْبَيْتِ، فَلَا يَزَالُونَ لَيْلَتَهُمْ تِلْكَ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَجِبْرِيلُ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (6) إِلَّا صَافَحَهُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ مَن اقْشَعَرَّ جلدهُ وَرَقَّ قَلْبُهُ ودَمعَت عَيْنَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مُصَافَحَةِ جِبْرِيلَ.
وَذَكَرَ كَعْبٌ أَنَّهُ مَنْ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، غَفَر اللَّهُ لَهُ بِوَاحِدَةٍ، وَنَجَا مِنَ النَّارِ بِوَاحِدَةٍ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِوَاحِدَةٍ. فَقُلْنَا لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، صَادِقًا؟ فَقَالَ كَعْبٌ (7) وَهَلْ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَّا كُلُّ صَادِقٍ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَتَثْقُلُ عَلَى الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ، حَتَّى كَأَنَّهَا عَلَى ظَهْرِهِ جَبَلٌ، فَلَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ هَكَذَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ. فَأَوَّلُ مَنْ يَصْعَدُ جِبْرِيلُ حَتَّى يَكُونَ فِي وَجْهِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى مِنَ الشَّمْسِ، فَيَبْسُطُ جناحيه -
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3513) وسنن النسائي الكبرى برقم (11688) وسنن ابن ماجة برقم (3850) .
(2) المستدرك (1/531) .
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (10713) .
(4) في م، أ: "عددهم".
(5) في أ: "مع".
(6) في أ: "من الناس".
(7) في م: "كعب الأحبار".(8/452)
وَلَهُ جَنَاحَانِ أَخْضَرَانِ، لَا يَنْشُرُهُمَا إِلَّا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ-فَتَصِيرُ الشَّمْسُ لَا شُعَاعَ لَهَا، ثُمَّ يَدْعُو مَلَكًا (1) فَيَصْعَدُ، فَيَجْتَمِعُ نُورُ الْمَلَائِكَةِ وَنُورُ جَنَاحَيْ جِبْرِيلَ، فَلَا تَزَالُ الشَّمْسُ يَوْمَهَا ذَلِكَ مُتَحَيِّرَةً، فَيُقِيمُ جِبْرِيلُ وَمَنْ مَعَهُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا يَوْمَهَمْ ذَلِكَ، فِي دُعَاءٍ وَرَحْمَةٍ وَاسْتِغْفَارٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَلِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ احْتِسَابًا، وَدُعَاءٍ لِمَنْ حَدث نَفْسَهُ إِنْ عَاشَ إِلَى قَابِلٍ صَامَ رَمَضَانَ لِلَّهِ. فَإِذَا أَمْسَوْا (2) دَخَلُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَيَجْلِسُونَ حِلَقًا [حِلَقًا] (3) فَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِمْ مَلَائِكَةُ سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُونَهُمْ عَنْ رَجُلٍ رَجُلٍ، وَعَنِ امْرَأَةٍ امْرَأَةٍ (4) فَيُحَدِّثُونَهُمْ حَتَّى يَقُولُوا: مَاذَا فَعَلَ فُلَانٌ؟ وَكَيْفَ وَجَدْتُمُوهُ العامَ؟ فَيَقُولُونَ: وَجَدْنَا فُلَانًا عَامَ أَوَّلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مُتَعَبِّدًا وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ مُبْتَدِعًا، وَوَجَدْنَا فُلَانًا مُبْتَدِعًا وَوَجَدْنَاهُ الْعَامَ عَابِدًا قَالَ: فَيَكُفُّونَ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِذَلِكَ، وَيَقْبَلُونَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لِهَذَا، وَيَقُولُونَ: وَجَدْنَا فُلَانًا وَفُلَانًا يَذْكُرَانِ اللَّهَ، وَوَجَدْنَا فُلَانًا رَاكِعًا، وَفُلَانًا سَاجِدًا، وَوَجَدْنَاهُ تَالِيًا لِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَهُمْ كَذَلِكَ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ، حَتَّى يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَفِي كُلِّ سَمَاءٍ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، حَتَّى يَنْتَهُوا مَكَانَهُمْ مِنْ (5) سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَتَقُولُ لَهُمْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى: يَا سُكَّانِي، حَدِّثُونِي عَنِ النَّاسِ وَسَمُّوهُمْ لِي. فَإِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَإِنِّي أحبُّ مَنْ أحبَّ اللَّهَ. فَذَكَرَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهُمْ يَعدُون لَهَا، وَيَحْكُونَ لَهَا الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ. ثُمَّ تُقْبِلُ الجنة على السدرة فتقول: أخبرني بِمَا أَخْبَرَكِ (6) سُكَّانُكِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. فَتُخْبِرُهَا، قَالَ: فَتَقُولُ الْجَنَّةُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ، اللَّهُمَّ عجِّلهم إليَّ، فَيَبْلُغُ جِبْرِيلُ مَكَانَهَ قَبْلَهُمْ، فَيُلْهِمُهُ اللَّهُ فَيَقُولُ: وَجَدْتُ فُلَانًا سَاجِدًا فَاغْفِرْ لَهُ. فَيَغْفِرُ لَهُ، فيسمعُ جبريلُ جميعَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيَقُولُونَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانٍ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلَانَةٍ، وَمَغْفِرَتُهُ (7) لِفُلَانٍ، وَيَقُولُ (8) يَا رَبِّ، وَجَدْتُ عَبْدَكَ فُلَانًا الَّذِي وَجَدْتُهُ عَامَ أَوَّلَ عَلَى السُنَّة وَالْعِبَادَةِ، وَوَجَدْتُهُ الْعَامَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا وَتَوَلَّى عَمَّا أُمِرَ بِهِ. فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ، إِنْ تَابَ فَأَعْتَبَنِي قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِثَلَاثِ سَاعَاتٍ غَفَرْتُ لَهُ. فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: لَكَ الْحَمْدُ إِلَهِي، أَنْتَ أَرْحَمُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِكَ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ بِعِبَادِكَ مِنْ عِبَادِكَ بِأَنْفُسِهِمْ، قَالَ: فَيَرْتَجُّ الْعَرْشُ وما حوله، والحجب والسموات وَمِنْ فِيهِنَّ، تَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ.
قَالَ: وَذَكَرَ كَعْبٌ أَنَّهُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ إِذَا أَفْطَرَ بَعْدَ رَمَضَانَ أَلَّا يَعْصِيَ اللَّهَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا حِسَابٍ.
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "ليلة القدر" [ولله الحمد والمنة] (9) .
__________
(1) في م: "ملكا ملكا".
(2) في أ: "فإذا استووا".
(3) زيادة من م.
(4) في م: "عن رجل عن رجل وعن امرأة عن امرأة".
(5) في أ: "في".
(6) في أ: "بما أخبروك".
(7) في م: "ومغفرة".
(8) في أ: "ويقولون".
(9) زيادة من م.(8/453)
تَفْسِيرُ سُورَةِ لَمْ يَكُنْ
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ -وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ-أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ -هُوَ ابْنُ زَيْدٍ-عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَيَّة الْبَدْرِيَّ -وَهُوَ: مَالِكُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ-قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ " إِلَى آخِرِهَا، قَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَهَا أُبَيًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي: "إِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ". قَالَ أُبَيٌّ: وَقَدْ ذُكِرْتُ ثَمَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَبَكَى أُبَيٌّ (1) .
حَدِيثٌ آخَرُ: وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا " قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَبَكَى.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، بِهِ (2) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّل، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَسْلَمُ الْمُنْقِرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ ذُكرتُ هُنَاكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، فَفَرحت بِذَلِكَ. قَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي وَاللَّهُ يَقُولُ: " قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ " [يُونُسَ: 58] . قَالَ مُؤَمَّلٌ: قُلْتُ لِسُفْيَانَ: الْقِرَاءَةُ فِي الْحَدِيثِ؟ قَالَ: نَعَمْ. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (3) .
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَحَجَّاجٌ قَالَا حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلة، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ". قَالَ: فَقَرَأَ: " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ " قَالَ: فَقَرَأَ فِيهَا: وَلَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ سَأَلَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ، فَأُعْطِيَهُ (4) لَسَأَلَ ثَانِيًا، وَلَوْ سَأَلَ ثَانِيًا فَأُعْطِيَهُ (5) لَسَأَلَ ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ. وَإِنَّ ذَلِكَ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ، غَيْرُ الْمُشْرِكَةِ وَلَا الْيَهُودِيَّةِ وَلَا النَّصْرَانِيَّةِ، وَمَنْ يَفْعَلُ خَيْرًا فَلَنْ يكفره.
__________
(1) المسند (3/489) .
(2) المسند (3/130) وصحيح البخاري (4959) وصحيح مسلم برقم (799) وسنن الترمذي برقم (3792) وسنن النسائي الكبرى برقم (11691) .
(3) المسند (5/123) .
(4) في أ: "فأعطيته".
(5) في أ: "فأعطيته".(8/454)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، بِهِ (1) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خُلَيْدٍ الْحَلَبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاعُ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ". قَالَ: بِاللَّهِ آمَنْتُ، وَعَلَى يَدِكَ أَسْلَمْتُ، وَمِنْكَ تَعَلَّمْتُ. قَالَ: فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَوْلَ. [قَالَ] (2) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذُكِرْتُ هُنَاكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، بِاسْمِكَ وَنَسَبِكَ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى". قَالَ: فَاقْرَأْ إِذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ (3) .
هَذَا غَرِيبُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالثَّابِتُ مَا تَقَدَّمَ. وَإِنَّمَا قَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السُّورَةَ تَثْبِيتًا لَهُ، وَزِيَادَةً لِإِيمَانِهِ، فَإِنَّهُ -كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، عَنْهُ (4) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَد عَنْهُ (5) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْهُ (6) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْهُ (7) كَانَ قَدْ أَنْكَرَ عَلَى إِنْسَانٍ، وَهُوَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قِرَاءَةَ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى خِلَافِ مَا أَقْرَأَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَقْرَأَهُمَا، وَقَالَ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا: "أَصَبْتَ". قَالَ أُبَيُّ: فَأَخَذَنِي مِنَ الشَّكِّ وَلَا إِذْ كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِهِ، قَالَ أُبَيُّ: فَفضْتُ عَرَقًا، وَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ فَرَقًا. وَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَقُلْتُ: "أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ". فَقَالَ: عَلَى حَرْفَيْنِ. فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَ هَذَا الْحَدِيثِ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ. فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ وَفِيهَا: " رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ " قَرَأَهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةَ إِبْلَاغٍ وَتَثْبِيتٍ وَإِنْذَارٍ، لَا قِرَاءَةَ تَعَلُّمٍ وَاسْتِذْكَارٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةَ عَنْ تِلْكَ الْأَسْئِلَةِ، وَكَانَ فِيمَا قَالَ: أَوْلَمَ تَكُنْ تُخْبِرُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: "بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ عَامَكَ هَذَا؟ ". قَالَ: لَا قَالَ: "فَإِنَّكَ آتِيهِ، ومُطوَّف بِهِ". فَلَمَّا رَجَعُوا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ "الْفَتْحِ"، دَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، وَفِيهَا قَوْلُهُ: " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ " الْآيَةَ [الْفَتْحِ: 27] ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيم فِي كِتَابِهِ "أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ" مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْجَعْفَرِيِّ المدني:
__________
(1) المسند (5/131) وسنن الترمذي برقم (3793) .
(2) زيادة من م، أ.
(3) المعجم الكبير (1/200) .
(4) المسند (5/122) وسنن النسائي (2/54) .
(5) المسند (5/124) وسنن أبي داود برقم (1477) .
(6) المسند (5/114) .
(7) المسند (5/127) وصحيح مسلم برقم (820) وسنن أبي داود برقم (1478) وسنن النسائي (2/153) .(8/455)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ بْنُ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ الْمَدَنِيِّ، حَدَّثَنِي فُضَيل، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا " فَيَقُولُ: أَبْشِرْ عَبْدِي، فَوَعِزَّتِي لَأُمَكِّنَنَّهُ (1) لَكَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى تَرْضَى".
حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ، مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ نَظير الْمُزَنِيِّ -أَوْ: الْمَدَنِيِّ -عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ " لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا " وَيَقُولُ: أَبْشِرْ عَبْدِي، فَوَعِزَّتِي لَا أَنْسَاكَ عَلَى حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَأُمَكِّنَنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى تَرْضَى" (2) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) }
أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَهُمُ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَالْمُشْرِكُونَ: عَبَدةُ الْأَوْثَانِ وَالنِّيرَانِ، مِنَ الْعَرَبِ وَمِنَ الْعَجَمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَكُونُوا {مُنْفَكِّينَ} يَعْنِي: مُنْتَهِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ.
{حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} ثُمَّ فَسَّرَ الْبَيِّنَةَ بِقَوْلِهِ: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُوَ مُكْتَتَبٌ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، فِي صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ كَقَوْلِهِ: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عَبَسَ: 13 -16] .
وَقَوْلُهُ: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْ فِي الصُّحُفِ الْمُطَهَّرَةِ كُتُبٌ مِنَ اللَّهِ قِيمَةٌ: عَادِلَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ، لَيْسَ فِيهَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ قَتَادَةُ: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} يَذْكُرُ الْقُرْآنَ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} مُسْتَقِيمَةٌ مُعْتَدِلَةٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} كقوله:
__________
(1) في م: "لأملأن"، وفي أ: "لأمكنن".
(2) أسد الغابة لابن الأثير (4/549) وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة (3/528) من طريق أبي موسى، وهي من طريق محمد بن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن سلمة، عن الزهري به، وقال: "عبد الله بن سلمة واهي الحديث".(8/456)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 105] يَعْنِي بِذَلِكَ: أَهْلَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَنَا، بَعْدَ مَا أَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَالْبَيِّنَاتِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ كُتُبِهِمْ، وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كَثِيرًا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرِقٍ: "أَنَّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَنَّ النَّصَارَى اخْتَلَفُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً". قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي" (1) .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} كَقَوْلِهِ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الْأَنْبِيَاءِ: 25] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: حُنَفَاءُ، أَيْ: مُتَحنفين عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ. كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النَّحْلِ: 36] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ الْحَنِيفِ فِي سُورَةِ "الْأَنْعَامِ" (2) بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
{وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} وَهِيَ أَشْرَفُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ، {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} وَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْفُقَرَاءِ (3) وَالْمَحَاوِيجِ. {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أَيْ: الْمِلَّةُ الْقَائِمَةُ الْعَادِلَةُ، أَوِ: الْأُمَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ الْمُعْتَدِلَةُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، كَالزُّهْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ، بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) }
__________
(1) جاء هذا الحديث من حديث أبي هريرة، وأنس، وسعد بن أبي وقاص، ومعاوية، وعمرو بن عوف المزني، وعوف بن مالك، وأبي أمامة، وجابر بن عبد الله -رضي الله عنهم- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هو حديث صحيح مشهور" وانظر: تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (1/447-450) .
(2) عند تفسير الآية: 161.
(3) في أ: "الفقير".(8/457)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
{جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) }
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مَآلِ الْفُجَّارِ، مِنْ كَفَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْمُشْرِكِينَ الْمُخَالِفِينَ لَكُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُرْسَلَةِ: أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ: مَاكِثِينَ، لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا وَلَا يَزُولُونَ {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أَيْ: شَرُّ الْخَلِيقَةِ الَّتِي بَرَأَهَا اللَّهُ وَذَرَأَهَا.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْأَبْرَارِ -الَّذِينَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِأَبْدَانِهِمْ-بِأَنَّهُمْ خير(8/457)
الْبَرِيَّةِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، عَلَى تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبَرِيَّةِ (1) عَلَى الْمَلَائِكَةِ؛ لِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}
ثُمَّ قَالَ: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أَيْ: بِلَا انْفِصَالٍ وَلَا انْقِضَاءٍ وَلَا فَرَاغٍ.
{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وَمَقَامُ رِضَاهُ عَنْهُمْ أَعْلَى مِمَّا أُوتُوهُ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، {وَرَضُوا عَنْهُ} فِيمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْفَضْلِ الْعَمِيمِ.
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أَيْ: هَذَا الْجَزَاءُ حَاصِلٌ لِمَنْ خَشِيَ اللَّهَ وَاتَّقَاهُ حَقَّ تَقْوَاهُ، وَعَبَدَهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ أَبِي وَهْبٍ -مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "رَجُلٌ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كُلَّمَا كَانَتْ هَيْعَة اسْتَوَى عَلَيْهِ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "رَجُلٌ فِي ثُلَّة مِنْ غَنَمِهِ، يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ. أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ (2) الْبَرِيَّةِ؟ ". قَالُوا: بَلَى. قَالَ: "الَّذِي يَسأل بِاللَّهِ، وَلَا يُعطي بِهِ" (3) .
آخِرُ تفسير سورة "لم يكن" (4) .
__________
(1) في أ: "من البشر".
(2) في أ: "بخير".
(3) المسند (2/396) وقال الهيثمي في المجمع (5/279) : "أبو معشر -نجيح- ضعيف، وأبو معشر (كذا فيه، والصواب: أبو وهب) مولى أبي هريرة لم أعرفه".
(4) في م: "آخر تفسيرها".(8/458)
تَفْسِيرُ سُورَةِ إِذَا زُلْزِلَتْ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدفي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَتَى رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ (1) لَهُ: "اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَاتِ الر". فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: كَبُرَ سِنِّي وَاسْتَدَّ (2) قَلْبِي، وغَلُظ لِسَانِي. قَالَ: "فَاقْرَأْ مِنْ ذَاتِ (3) حم"، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى. فَقَالَ: "اقْرَأْ ثَلَاثًا مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ"، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَلَكِنْ أَقْرِئْنِي -يَا رَسُولَ اللَّهِ-سُورَةً جَامِعَةً. فَأَقْرَأَهُ: " إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا " حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ الرجلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَزْيَدُ عَلَيْهَا أَبَدًا. ثُمَّ أَدْبَرَ الرِّجْلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ! أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ! " ثُمَّ قَالَ: "عَلَيّ بِهِ". فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: "أمرْتُ بِيَوْمِ الْأَضْحَى جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ". فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا مَنيحَة أُنْثَى فَأُضَحِّي بِهَا؟ قَالَ: "لَا وَلَكِنَّكَ تَأْخُذُ مِنْ شِعْرِكَ، وَتُقَلِّمُ أَظْفَارَكَ، وَتَقُصُّ شَارِبَكَ، وَتَحْلِقُ عَانَتَكَ، فَذَاكَ تَمَامُ أُضْحِيَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ".
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئِ (4) بِهِ (5) .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الحَرشي الْبَصْرِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سلْم (6) بْنِ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ البُناني، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ " إِذَا زُلْزِلَتِ " عدلَت لَهُ بِنِصْفِ الْقُرْآنِ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ سَلْمٍ (7) (8) .
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْحَرَشِيِّ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَلْمٍ (9) عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعدلُ ثُلْثَ الْقُرْآنِ، وَ " إِذَا زُلْزِلَتِ " تَعدلُ رُبْعَ الْقُرْآنِ". هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْر، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا يَمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْعَنْزِيُّ، حَدَّثَنَا عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " " إِذَا زُلْزِلَتِ " تَعْدلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ، وَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعْدِلُ ثُلْثَ الْقُرْآنِ، وَ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " تَعْدِلُ رُبُعَ الْقُرْآنِ". ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَمَانِ بن المغيرة (10) .
__________
(1) في م: "فقال".
(2) في م: "واشتد".
(3) في أ: "من ذوات".
(4) في أ: "المقبري".
(5) المسند (2/169) وسنن أبي داود برقم (1399) وسنن النسائي (7/212) .
(6) في أ: "مسلم".
(7) في م، أ: "مسلم".
(8) سنن الترمذي برقم (2893) .
(9) في م، أ: "مسلم".
(10) سنن الترمذي برقم (2894) .(8/459)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عُقَبَةُ بْنُ مُكَرَّم العَمّي الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي فُدَيْك، أَخْبَرَنِي سَلَمَةُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: "هَلْ تَزَوَّجْتَ يَا فُلَانُ؟ " قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا عِنْدِي مَا أَتَزَوَّجُ؟! قَالَ: "أَلَيْسَ مَعَكَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "؟ ". قَالَ: بَلَى. قَالَ: "ثُلُثُ الْقُرْآنِ". قَالَ: "أَلَيْسَ مَعَكَ " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ "؟ ". قَالَ: بَلَى. قَالَ: "رُبُعُ الْقُرْآنِ". قَالَ: "أَلَيْسَ مَعَكَ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ "؟ ". قَالَ: بَلَى. قَالَ: "رُبُعُ الْقُرْآنِ". قَالَ: "أَلَيْسَ مَعَكَ " إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ "؟ ". قَالَ: بَلَى. قَالَ: "رُبُعُ الْقُرْآنِ" تَزَوَّجْ، [تَزَوَّجْ] (1) . ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ (2) .
تَفَرَّدَ بِهِنَّ ثَلَاثَتِهِنَّ التِّرْمِذِيُّ، لَمْ يَرْوِهِنَّ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) }
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا} أَيْ: تَحَرَّكَتْ مِنْ أَسْفَلِهَا. {وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا} يَعْنِي: أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْمَوْتَى. قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ. وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الْحَجُّ: 1] وَكَقَوْلِهِ {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الِانْشِقَاقِ: 3، 4] .
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيل، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَقيء الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الْأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعت يَدِي، ثُمَّ يَدَعُونه فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا" (3) .
وَقَوْلُهُ: {وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا} أَيْ: اسْتَنْكَرَ أَمْرَهَا بَعْدَ مَا كَانَتْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى ظَهْرِهَا، أَيْ: تَقَلَّبَتِ الْحَالُ، فَصَارَتْ مُتَحَرِّكَةً مُضْطَرِبَةً، قَدْ جَاءَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا قَدْ أُعِدَّ لَهَا مِنَ الزِّلْزَالِ الَّذِي لَا مَحِيدَ لَهَا عَنْهُ، ثُمَّ أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَحِينَئِذٍ اسْتَنْكَرَ النَّاسُ أَمْرَهَا وَتَبَدَّلَتِ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ، وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} أَيْ: تُحَدِّثُ بِمَا عَمِلَ الْعَامِلُونَ عَلَى ظَهْرِهَا.
__________
(1) زيادة من سنن الترمذي.
(2) سنن الترمذي برقم (2895) .
(3) صحيح مسلم برقم (1013) .(8/460)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ -وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ: حَدَّثَنَا سُوَيد بْنُ نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ-عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدٍ المقْبُرِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ ". قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنَّ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِل عَلَى ظَهْرِهَا، أَنْ تَقُولَ: عَمِلَ كَذَا وَكَذَا، يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا" (1) .
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعة: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ -سَمِعَ رَبِيعَةَ الجُرَشي-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَحَفَّظُوا مِنَ الْأَرْضِ، فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ عَامِلٌ عَلَيْهَا خَيْرًا أَوْ شَرًّا، إِلَّا وَهِيَ مُخبرة" (2) .
وَقَوْلُهُ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَوْحَى لَهَا وَأَوْحَى إِلَيْهَا، وَوَحَى لَهَا وَوَحَى إِلَيْهَا: وَاحِدٌ (3) وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {أَوْحَى لَهَا} أَيْ: أَوْحَى إِلَيْهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُضَمَّن [بِمَعْنَى] (4) أَذِنَ لَهَا.
وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قَالَ: قَالَ لَهَا رَبُّهَا: قُولِي، فَقَالَتْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أَوْحَى لَهَا} أَيْ: أَمَرَهَا. وَقَالَ القُرَظي: أَمَرَهَا أَنْ تَنْشَقَّ عَنْهُمْ.
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} أَيْ: يَرْجِعُونَ عَنْ مَوَاقِفِ الْحِسَابِ، {أَشْتَاتًا} أَيْ: أَنْوَاعًا وَأَصْنَافًا، مَا بَيْنَ شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، مَأْمُورٍ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَأْمُورٍ بِهِ إِلَى النَّارِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَتَصَدَّعُونَ أَشْتَاتًا فَلَا يَجْتَمِعُونَ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّي: {أَشْتَاتًا} فِرَقًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} أَيْ: لِيَعْمَلُوا وَيُجَازُوا بِمَا عَمِلُوهُ فِي الدُّنْيَا، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمان عَنْ أَبِي هُرَيرة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ؛ فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ طَيلها فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ فِي الْمَرْجِ وَالرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فاستنَّت شَرَفا أو
__________
(1) المسند (2/374) وسنن الترمذي برقم (3353) وسنن النسائي الكبرى برقم (11693) .
(2) المعجم الكبير (5/65) وقال الهيثمي في المجمع (1/241) : "وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف".
(3) صحيح البخاري (8/726) "فتح".
(4) زيادة من م، أ.(8/461)
شَرَفَيْنِ، كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسقَى بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنيا وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً، فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ". فسُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الحُمُر، فَقَالَ: "مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (1) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، بِهِ (2) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، عَنْ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ -عَمِّ الْفَرَزْدَقِ-: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قَالَ: حَسْبِي! لَا أُبَالِي أَلَّا أَسْمَعَ غَيْرَهَا (3) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ المؤدب، عن أبيه، عن جرير ابن حَازِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا صعصعةُ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ، فَذَكَرَهُ (4) .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَدي مَرْفُوعًا: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ" (5) وَفِي الصَّحِيحِ: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ" (6) وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: "يَا نِسَاءَ (7) الْمُؤْمِنَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسَنَ شَاةٍ" (8) يَعْنِي: ظِلْفَهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بظلْف مُحَرق" (9) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، اسْتَتِرِي مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الْجَائِعِ مَسَدَّهَا مِنَ الشَّبْعَانِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (10) .
ورُويَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تَصَدَّقَتْ بِعِنَبَةٍ، وَقَالَتْ: كَمْ فِيهَا مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ (11) .
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ:
__________
(1) في م، أ: "من" وهو خطأ.
(2) صحيح البخاري برقم (4962) وصحيح مسلم برقم (987) .
(3) المسند (5/59) .
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11694) .
(5) صحيح البخاري برقم (7512) .
(6) صحيح مسلم برقم (2626) مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍ الْغِفَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عنه.
(7) في م: "يا معشر نساء"، وفي أ: "معشر النساء".
(8) صحيح البخاري برقم (2566) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(9) رواه أحمد في المسند (5/381) وأبو داود في السنن برقم (1667) والترمذي في السنن برقم (665) من حديث أم بجيد الأنصارية، رضي الله عنها. وقال الترمذي: "حديث أم بجيد حديث حسن صحيح".
(10) المسند (6/79) .
(11) هو في الموطأ (2/997) بلاغا عن عائشة.(8/462)
حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الطُّفَيْلِ: أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "يَا عَائِشَةُ، إِيَّاكِ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ بَانَك، بِهِ (1) .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ الْحَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (2) فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُجزى بِمَا عملتُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ شَرٍّ؟ فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا رَأَيْتَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثَاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ وَيَدَّخِرُ اللَّهُ لَكَ مَثَاقِيلَ ذَر الْخَيْرِ حَتَّى تُوفَاه يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (3) .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ [عَنْ] (4) أَبِي الْخَطَّابِ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: فِي كِتَابِ أَبِي قِلابة، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ (5) .
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ يَعْقُوبَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّة، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَذَكَرَهُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابن وهب، أخبرني حُيَي ابن عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا} وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَاعِدٌ، فَبَكَى حِينَ أُنْزِلَتْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ ". قَالَ: يُبْكِينِي هَذِهِ السُّورَةُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا أَنَّكُمْ تُخْطِئُونَ وَتُذْنِبُونَ، فَيَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، لَخَلَقَ اللَّهُ أُمَّةً يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ فَيَغْفِرَ لَهُمْ" (6) .
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ [مُحَمَّدِ بْنِ] (7) الْمُغِيرَةِ -الْمَعْرُوفُ بِعَلَّانَ الْمِصْرِيِّ-قَالَا حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الحرَّاني، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَرَاءٍ عَمَلِيَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: تِلْكَ الْكِبَارُ الْكِبَارُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: الصِّغَارُ الصِّغَارُ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: واثُكلَ أُمي. قَالَ: "أَبْشِرْ يَا أَبَا سَعِيدٍ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بعشر أمثالها -يعني إلى
__________
(1) المسند (6/151) وسنن ابن ماجة برقم (4243) .
(2) في أ: "من" وهو خطأ.
(3) تفسير الطبري (30/173) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3418) "مجمع البحرين" من طريق أبي الخطاب، به، وقال: "لم يروه عن أيوب إلا سماك، ولا عنه إلا الهيثم. تفرد به زيادة". قلت: الهيثم بن الربيع ضعيف.
(4) زيادة من م، أ.
(5) تفسير الطبري (30/174) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (7103) والطبراني في المعجم الكبير برقم (87) "القطعة المعقودة" من طريق ابن وهب، به.
(6) تفسير الطبري (30/175) .
(7) زيادة من الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/1/195) .(8/463)
سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ -وَيُضَاعِفُ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا أَوْ يَغْفِرُ اللَّهُ، وَلَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ". قُلْتُ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (1) ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ" (2) قَالَ أَبُو زُرْعَة: لَمْ يَرْوِ هَذَا غَيْرُ ابْنِ لَهِيعة.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْر، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي (3) عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وَذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الْإِنْسَانِ: 8] ، كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ لَا يُؤجَرون عَلَى الشَّيْءِ الْقَلِيلِ الَّذِي أَعْطَوْهُ، فَيَجِيءُ الْمِسْكِينُ إِلَى أَبْوَابِهِمْ فَيَسْتَقِلُّونَ أَنْ يُعْطُوهُ التَّمْرَةَ وَالْكَسْرَةَ والجَوْزة وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَيَرُدُّونَهُ وَيَقُولُونَ: مَا هَذَا بِشَيْءٍ. إِنَّمَا نُؤجَر عَلَى مَا نُعْطِي وَنَحْنُ نُحِبُّهُ. وَكَانَ آخَرُونَ يَرَون أَنَّهُمْ لَا يُلَامُونَ عَلَى الذَّنْبِ الْيَسِيرِ: الْكَذْبَةِ وَالنَّظْرَةِ وَالْغِيبَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، يَقُولُونَ: إِنَّمَا وَعُدَ اللَّهُ النَّارَ عَلَى الْكَبَائِرِ. فَرَغَّبَهُمْ فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، وَحَذَّرَهُمُ الْيَسِيرَ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَكْثُرَ، فَنَزَلَتْ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يَعْنِي: وَزْنَ أَصْغَرِ النَّمْلِ {خَيْرًا يَرَهُ} يَعْنِي: فِي كِتَابِهِ، ويَسُرُّه ذَلِكَ. قَالَ: يَكْتُبُ لِكُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةً وَاحِدَةً. وَبِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ضَاعَفَ اللَّهُ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا، بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْرٌ، وَيَمْحُو عَنْهُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، فَمَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، دَخَلَ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ". وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنيع الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، وأجَّجوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا (4) .
[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "إذا زلزلت"] (5) [ولله الحمد والمنة] (6)
__________
(1) في أ: "يا نبي الله".
(2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/594) وعزاه لابن أبي حاتم، ولآخره شاهد في الصحيح من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(3) في م: "عن".
(4) المسند (1/402) .
(5) زيادة من م، أ.
(6) زيادة من أ.(8/464)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْعَادِيَاتِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) }(8/465)
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) }
يُقْسِمُ تَعَالَى بِالْخَيْلِ إِذَا أُجْرِيَتْ فِي سَبِيلِهِ فَعَدت وضَبَحت، وَهُوَ: الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ الْفَرَسِ حِينَ تَعْدُو. {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} يَعْنِي: اصْطِكَاكَ نِعَالِهَا لِلصَّخْرِ فَتَقْدَحُ مِنْهُ النَّارَ.
{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} يَعْنِي: الْإِغَارَةَ وَقْتَ الصَّبَاحِ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغِيرُ صَبَاحًا وَيَتَسَمَّعُ (1) أَذَانًا، فَإِنَّ سَمِعَ (2) وَإِلَّا أَغَارَ.
[وَقَوْلُهُ] (3) {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} يَعْنِي: غُبَارًا فِي [مَكَانِ] (4) مُعْتَرَكِ الْخُيُولِ.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} أَيْ: تَوَسَّطْنَ ذَلِكَ الْمَكَانَ كُلُّهن جُمَعَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} قَالَ: الْإِبِلُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: هِيَ الْإِبِلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ. فَبَلَغَ عَلِيًّا قولُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَا كَانَتْ لَنَا خَيْلٌ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي سَرِيَّةٍ بُعِثَتْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا فِي الحِجْر جَالِسًا، جَاءَنِي رَجُلٌ فَسَأَلَنِي عَنْ: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} فَقُلْتُ لَهُ: الْخَيْلُ حِينَ تُغِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى اللَّيْلِ، فَيَصْنَعُونَ طَعَامَهُمْ، وَيُورُونَ نَارَهُمْ. فَانْفَتَلَ عَنِّي فَذَهَبَ إِلَى عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ عِنْدُ سِقَايَةِ زَمْزَمَ فَسَأَلَهُ عَنْ {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} فَقَالَ: سَأَلْتَ عَنْهَا أَحَدًا قَبْلِي؟ قَالَ: نَعَمْ، سَأَلَتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: الْخَيْلُ حِينَ تُغِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: اذْهَبْ فَادْعُهُ لِي. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ: تُفْتِي النَّاسَ بِمَا لَا عِلْمَ لَكَ، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ أولَ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بَدْرٌ، وَمَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسان: فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَادِيَاتُ ضَبْحًا؟ إِنَّمَا الْعَادِيَاتُ ضبحا من عرفة
__________
(1) في أ: "ويستمع".
(2) في م: "فإن سمع أذانا".
(3) زيادة من م، أ.
(4) زيادة من م، أ.(8/465)
إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَزَعْتُ عَنْ قَوْلِي وَرَجَعْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إِنَّمَا {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، فَإِذَا أَوَوْا إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ أَوْرُوا النِّيرَانَ.
وَقَالَ العَوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ.
وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ عَلِيٍّ: إِنَّهَا الْإِبِلُ جَمَاعَةً. مِنْهُمْ: إِبْرَاهِيمُ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ آخَرُونَ، مِنْهُمْ: مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ: مَا ضَبَحَتْ دَابَّةٌ قَطُّ إِلَّا فَرَسٌ أَوْ كَلْبٌ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج (2) عَنْ عَطَاءٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَصِفُ الضَّبْحَ: أَحْ أَحْ.
وَقَالَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} يَعْنِي: بِحَوَافِرِهَا. وَقِيلَ: أسعَرْنَ الْحَرْبَ بَيْنَ رُكبانهن. قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} يَعْنِي: مَكْرَ الرِّجَالِ.
وَقِيلَ: هُوَ إِيقَادُ النَّارِ إِذَا رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ مِنَ اللَّيْلِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ: نِيرَانُ الْقَبَائِلِ.
وَقَالَ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْخَيْلِ: هُوَ إِيقَادُ النَّارِ بِالْمُزْدَلِفَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ؛ أَنَّهَا الْخَيْلُ حِينَ تَقْدَحُ بِحَوَافِرِهَا.
وَقَوْلُهُ {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: يَعْنِي إِغَارَةَ الْخَيْلِ صُبْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَقَالَ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْإِبِلِ: هُوَ الدَّفْعُ صُبْحًا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى.
وَقَالُوا كُلُّهُمْ فِي قَوْلِهِ: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} هُوَ: الْمَكَانُ الَّذِي إِذَا حَلَّتْ فِيهِ أَثَارَتْ بِهِ الْغُبَارَ، إِمَّا فِي حَجٍّ أَوْ غَزْوٍ.
وَقَوْلُهُ: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} قَالَ العَوفى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكَ: يَعْنِي جَمَع الْكُفَّارِ مِنَ الْعَدُوِّ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ: فَوَسَطْنَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ جَميعُهُن، وَيَكُونُ {جَمْعًا} مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكَّدَةِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ هَاهُنَا حَدِيثًا [غَرِيبًا جِدًّا] (3) فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ جُمَيع، حَدَّثَنَا سِمَاك، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خيلا
__________
(1) تفسير الطبري (30/176) .
(2) في أ: "جرير".
(3) زيادة من م، أ.(8/466)
فَأَشْهَرَتْ شَهْرًا لَا يَأْتِيهِ مِنْهَا خَبَرٌ، فَنَزَلَتْ: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} ضَبَحَتْ بِأَرْجُلِهَا، {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} قَدَحَتْ بِحَوَافِرِهَا الْحِجَارَةَ فَأَوْرَتْ نَارًا، {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} صبَّحت الْقَوْمَ بِغَارَةٍ، {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} أَثَارَتْ بِحَوَافِرِهَا التُّرَابَ، {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} قَالَ: صَبَّحَتِ الْقَوْمَ جَمِيعًا (1) .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} هَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لِنِعَمِ رَبِّهِ لَجَحُودٌ كَفُورٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخعِي، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَأَبُو الضُّحَى، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحُسْنُ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: الْكَنُودُ: الْكَفُورُ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ الْمَصَائِبَ، وَيَنْسَى نِعَمَ رَبِّهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ إِسْرَائِيلُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} قَالَ: "الْكَفُورُ الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ، وَيَمْنَعُ رَفْدَهُ" (2) .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ -وَهُوَ مَتْرُوكٌ-فَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَوْقُوفًا (3) .
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} قَالَ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ لِشَهِيدٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْإِنْسَانِ، قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وَإِنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى كَوْنِهِ كَنُودًا (4) لَشَهِيدٌ، أَيْ: بِلِسَانِ حَالِهِ، أَيْ: ظَاهِرٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التَّوْبَةِ: 17]
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أَيْ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ -وَهُوَ: الْمَالُ-لَشَدِيدٌ. وَفِيهِ مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى: وَإِنَّهُ لَشَدِيدُ الْمَحَبَّةِ لِلْمَالِ.
وَالثَّانِي: وَإِنَّهُ لَحَرِيصٌ بَخِيلٌ؛ مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُزَهِّدا فِي الدُّنْيَا، ومُرَغِّبًا فِي الْآخِرَةِ، وَمُنَبِّهًا عَلَى مَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَ هَذِهِ الْحَالِ، وَمَا يَسْتَقْبِلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَهْوَالِ: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} أَيْ: أُخْرِجَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَاتِ، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: يَعْنِي أَبْرَزَ وَأَظْهَرَ مَا كَانُوا يُسِرُّونَ فِي نُفُوسِهِمْ، {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} أَيْ: لَعَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَيَعْمَلُونَ، مُجَازِيهِمْ (5) عَلَيْهِ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. آخِرُ [تَفْسِيرِ] (6) سُورَةِ "وَالْعَادِيَّاتِ" وَلِلَّهِ الْحَمْدُ [وَالْمِنَّةُ، وَحَسْبُنَا الله] (7)
__________
(1) مسند البزار برقم (2291) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/142) : "فيه حفص بن جميع وهو ضعيف".
(2) ورواه الطبري في تفسيره (30/180) عن أبي كريب، به.
(3) تفسير الطبري (30/180) .
(4) في م: "لكنودا".
(5) في أ: "ويجازيهم".
(6) زيادة من م.
(7) زيادة من م.(8/467)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
تَفْسِيرُ سُورَةِ الْقَارِعَةِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) }
{الْقَارِعَةُ} مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَالْحَاقَّةِ، وَالطَّامَّةِ، وَالصَّاخَّةِ، وَالْغَاشِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ مُعَظِّمًا أَمْرَهَا وَمُهَوِّلًا لِشَأْنِهَا: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} ؟ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} أَيْ: فِي انْتِشَارِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ، وَذَهَابِهِمْ وَمَجِيئِهِمْ، مِنْ حَيْرَتِهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، كَأَنَّهُمْ فَرَاشٌ مَبْثُوثٌ (1) كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ}
وَقَوْلُهُ: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} يَعْنِي: قَدْ صَارَتْ كَأَنَّهَا الصُّوفُ الْمَنْفُوشُ، الَّذِي قَدْ شَرَع فِي الذَّهَابِ وَالتَّمَزُّقِ.
قَالَ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ: " الْعِهْنِ" الصُّوفُ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّا يَئُولُ إِلَيْهِ عَمَلُ الْعَامِلِينَ، وَمَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْكَرَامَةِ أَوِ الْإِهَانَةِ، بِحَسْبِ أَعْمَالِهِمْ، فَقَالَ: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أَيْ: رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} يَعْنِي: فِي الْجَنَّةِ. {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أَيْ: رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} قِيلَ: مَعْنَاهُ: فَهُوَ سَاقِطٌ هَاوٍ بِأُمِّ رَأْسِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ. وعَبَّر عَنْهُ بِأُمِّهِ-يَعْنِي (2) دِمَاغَهُ-رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَقَتَادَةَ -قَالَ قَتَادَةُ: يَهْوِي فِي النَّارِ عَلَى رَأْسِهِ (3) وَكَذَا قَالَ أَبُو صَالِحٍ: يَهْوُونَ فِي النَّارِ عَلَى رُءُوسِهِمْ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: {فَأُمُّهُ} الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا، وَيَصِيرُ فِي الْمَعَادِ إِلَيْهَا {هَاوِيَةٌ} وَهِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا قِيلَ: لِلْهَاوِيَةِ أُمُّهُ؛ لأنه لا مأوى له غيرها (4) .
__________
(1) في أ: "منتشر".
(2) في م: "وهو".
(3) في م: "على رءوسهم".
(4) تفسير الطبري (30/183) .(8/468)
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْهَاوِيَةُ: النَّارُ، هِيَ أُمَّهُ وَمَأْوَاهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا وَيَأْوِي إِلَيْهَا، وَقَرَأَ: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [آلِ عِمْرَانَ: 151] .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ النَّارُ، وَهِيَ مَأْوَاهُمْ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُفَسِّرًا لِلْهَاوِيَةِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ}
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى: حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْمَى قَالَ: إِذَا مَاتَ الْمُؤْمِنُ ذُهِبَ بِرُوحِهِ إِلَى أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَقُولُونَ: رَوِّحُوا أَخَاكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمّ الدُّنْيَا. قَالَ: وَيَسْأَلُونَهُ: وَمَا فَعَلَ فُلَانٌ (1) ؟ فَيَقُولُ: مَاتَ، أو ما جَاءَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ (2)
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَويّه مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا، بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا. وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي كِتَابِ صِفَةِ النَّارِ، أَجَارَنَا (3) اللَّهُ مِنْهَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ (4) .
وَقَوْلُهُ: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أَيْ: حَارَّةٌ شَدِيدَةُ الْحَرِّ، قَوِيَّةُ اللَّهِيبِ وَالسَّعِيرِ.
قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي تُوقدون جزء من سبعين جزء مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً. فَقَالَ: "إِنَّهَا فُضِّلَت عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزءًا" (5) .
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مَالِكٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عن قُتيبة، عن المغيرة ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّناد، بِهِ (6) وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: "أَنَّهَا فُضلت عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ-عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ-سَمِعَ (7) أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي تُوقِدُونَ، جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ". فَقَالَ رَجُلٌ: إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً. فَقَالَ: "لَقَدْ فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا حَرًّا فَحَرًّا" (8) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ على شرط مسلم.
__________
(1) في م، أ: "بفلان".
(2) تفسير الطبري (30/182) .
(3) في أ: "أعاذنا".
(4) قال السيوطي في الدر المنثور (8/606) : "وأخرج ابن مردويه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا مات المؤمن تلقته أرواح المؤمنين يسألونه: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ فإن كان مات ولم يأتهم قالوا: خولف به إلى أمه الهاوية بئست الأم وبئست المربية حتى يقولوا: ما فعل فلان هل تزوج؟ ما فعلت فلانة هل تزوجت؟ فيقولون: دعوه فيستريح فقد خرج من كرب الدنيا".
(5) الموطأ برواية الزهري برقم (2098) وهو في رواية يحيى (2/994) .
(6) صحيح البخاري برقم (3265) وصحيح مسلم برقم (2843) .
(7) في م، أ: "سمعت".
(8) المسند (2/467) .(8/469)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّيَادِ (1) عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَعَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدة-: "إِنَّ نَارَكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَضُرِبَتْ (2) بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ" (3) .
وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ (4) وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ [ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ] (5) (6) .
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: "نَارُكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا" (7) .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا (8) عَبْدُ الْعَزِيزِ -هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ-عَنْ سُهَيل عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُريرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هَذِهِ النَّارُ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ جَهَنَّمَ" (9) .
تَفَرَّدَ بِهِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْن بْنُ عِيسَى الْقَزَّازُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمّه أَبِي سُهَيل، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُريرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتُدْرُونَ مَا مَثَلُ نَارِكُمْ هَذِهِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ؟ لَهِيَ أَشَدُّ سَوَادًا مِنْ دُخَانِ نَارِكُمْ هَذِهِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا" (10) .
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبَّاسٍ الدَّوريّ، عَنْ يَحْيَى ابْنِ أَبِي بُكَيْر: حَدَّثَنَا شَرِيكٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ" (11) .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ (12) وَعُمَرَ بن الخطاب.
__________
(1) في أ: "عن أبي الزناد".
(2) في أ: "وضرمت".
(3) المسند (2/244) .
(4) في م، أ: "على شرط الصحيحين".
(5) زيادة من م.
(6) صحيح مسلم برقم (2843) .
(7) أما حديث ابن مسعود، فهو في مسند البزار برقم (1864) من طريق عبيد بن إسحاق، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن عمرو ابن ميمون، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنه، وقال البزار: "هكذا رواه زهير ولا نعلم رواه عن زهير إلا عبيد بن إسحاق. ورواه عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عمرو الأصم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نحوه، ورواه غير عمرو ابن ثابت، عن أبي إسحاق، عمرو الأصم، عن عبد الله موقوفا". وأما حديث أبي سعيد، فقد رواه أيضا الترمذي في السنن برقم (2590) من طريق فراس، عن عطية، عن أبي سعيد -رضي الله عنه- وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(8) في أ: "بن".
(9) المسند (2/379) .
(10) المعجم الأوسط برقم (4843) "مجمع البحرين" وقال الهيثمي في المجمع (10/387) : "رجاله رجال الصحيح".
(11) سنن الترمذي برقم (2591) وسنن ابن ماجة برقم (4320) وقال الترمذي: "حديث أبي هريرة في هذا موقوف أصح، ولا أعلم أحدا رفعه غير يحيى بن بكير عن شريك".
(12) حديث أنس رواه ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان من طريق مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ مرفوعا، وقد تقدم عند تفسير الآية: 81 من سورة التوبة.(8/470)
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ -عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ-مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهدي، عَنْ أَنَسٍ -وَأَبِي نَضْرَةَ العَبْديّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وعَجْلان مَوْلَى المُشْمَعّل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ" (1) .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (2) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بنَفَسين: نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ. فَأَشُدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الشِّتَاءِ مِنْ بَرْدِهَا، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الصَّيْفِ مِنْ حَرِّهَا" (3) .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِذَا اشْتَدَّ الْحُرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيح جَهَنم" (4) . آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "القارعة"
__________
(1) حديث أبي سعيد في المسند (3/13) وحديث أبي هريرة في المسند (2/432) .
(2) في م: "في الصحيحين".
(3) صحيح البخاري برقم (3260) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(4) صحيح البخاري برقم (533) وصحيح مسلم برقم (615) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.(8/471)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
تَفْسِيرُ سُورَةِ التَّكَاثُرِ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) }
يَقُولُ تَعَالَى: شَغَلَكُمْ حُبُّ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا وَزَهْرَتُهَا عَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ وَابْتِغَائِهَا، وَتَمَادَى بِكُمْ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَكُمُ الْمَوْتُ وَزُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، وَصِرْتُمْ مِنْ أَهْلِهَا؟!
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الوَقار الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الدَّايِمِ، عَنِ ابْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} عَنِ الطَّاعَةِ، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْمَوْتُ" (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، فِي "الرَّقَاقِ" مِنْهُ: وَقَالَ لَنَا أَبُو الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يَعْنِي: "لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وادٍ مِنْ ذَهَبٍ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ مُطْرِّف -يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الله بن الشخير-عن أبيه قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: " {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي. وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، بِهِ (2) .
وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي؟ وَإِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ تَصَدَّقَ فَاقْتَنَى (3) وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ". تَفَرَّدَ بِهِ مسلم (4) .
__________
(1) وهذا معضل، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ضَعِيفُ.
(2) المسند (4/24) وصحيح مسلم برقم (2958) وسنن الترمذي برقم (3354) وسنن النسائي (6/238) .
(3) في أ: "فأبقى".
(4) صحيح مسلم برقم (2959) .(8/472)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الحُمَيدي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثلاثةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ".
وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ (1) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَبْقَى مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ (2) .
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، فِي تَرْجَمَةِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ (3) -وَاسْمُهُ الضَّحَّاكُ-أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَجُلٍ دِرْهَمًا فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا الدِّرْهَمُ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: لِي. فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ لَكَ إِذَا أَنْفَقْتَهُ فِي أَجْرٍ أَوِ ابْتِغَاءِ شُكْرٍ. ثُمَّ أَنْشَدَ الْأَحْنَفُ مُتَمَثِّلًا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
أنتَ لِلْمَالِ إِذَا أمسكتَه ... فَإِذَا أنفقتَه فالمالُ لَكْ ...
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنِي عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْأَنْصَارِ، فِي بَنِي حَارِثَةَ وَبَنِي الْحَارِثِ، تَفَاخَرُوا وَتَكَاثَرُوا، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: فِيكُمْ مثلُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَفُلَانٍ؟ وَقَالَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، تَفَاخَرُوا (4) بِالْأَحْيَاءِ، ثُمَّ قَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْقُبُورِ. فَجَعَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ: فِيكُمْ مِثْلُ فُلَانٍ؟ يُشِيرُونَ إِلَى الْقَبْرِ -وَمِثْلُ فُلَانٍ؟ وَفَعَلَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيمَا رَأَيْتُمْ عِبْرَةٌ وَشُغْلٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} كَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَكْثَرُ مَنْ بَنِي فُلَانٍ (5) وَنَحْنُ أعَدُّ مَنْ بَنِي فُلَانٍ، وَهُمْ كُلُّ يَوْمٍ يَتَسَاقَطُونَ إِلَى آخِرِهِمْ، وَاللَّهِ مَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ كُلُّهُمْ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أَيْ: صِرْتُمْ إِلَيْهَا وَدُفِنْتُمْ فِيهَا، كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ يَعُودُهُ، فَقَالَ: "لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". فَقَالَ: قُلْتَ: طَهُور؟! بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزيره الْقُبُورَ! قَالَ: "فَنَعَم إِذًا" (6) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ الرَّازِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ الْحَجَّاجِ، عَنِ المنْهال، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْش، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا زِلْنَا نَشُكُّ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ حَتَّى نَزَلَتْ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6514) وصحيح مسلم برقم (2960) وسنن الترمذي برقم (2379) وسنن النسائي الكبرى برقم (2064) .
(2) المسند (3/115) وصحيح البخاري برقم (6421) وصحيح مسلم برقم (1047) .
(3) تاريخ دمشق (8/443 "المخطوط") .
(4) في م: "وتفاخروا".
(5) في أ: "من بني إسرائيل".
(6) صحيح البخاري برقم (5662، 5656، 7470) .(8/473)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيب، عَنْ حَكَّام بْنِ سَلْمٍ (1) [بِهِ] (2) وَقَالَ: غَرِيبٌ (3) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ دَاوُدَ العُرضي (4) حَدَّثَنَا أَبُو الْمَلِيحِ الرَّقِّيُّ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَرَأَ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فَلَبِثَ هُنَيْهَةً (5) فَقَالَ: يَا مَيْمُونُ، مَا أَرَى الْمَقَابِرَ إِلَّا زِيَارَةً، وَمَا لِلزَّائِرِ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَعْنِي أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ -إِلَى جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ. وَهَكَذَا ذُكر أَنَّ بعضَ الْأَعْرَابِ سَمِعَ رَجُلًا يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} فَقَالَ: بُعثَ الْيَوْمَ (6) ورَب الْكَعْبَةِ. أَيْ: إِنَّ الزَّائِرَ سَيَرْحَلُ مِنْ مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا (7) وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يَعْنِي: الْكُفَّارَ، {ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يَعْنِي: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ.
وَقَوْلُهُ: {كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} أَيْ: لَوْ عَلِمْتُمْ حَقَّ الْعِلْمِ، لَمَا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ عَنْ طَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، حَتَّى صِرْتُمْ إِلَى الْمَقَابِرِ.
ثُمَّ قَالَ: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} هَذَا تَفْسِيرُ الْوَعِيدِ الْمُتَقَدِّمُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تَوعَّدَهم بِهَذَا الْحَالِ، وَهِيَ رُؤْيَةُ النَّارِ (8) الَّتِي إِذَا زَفَرَتْ زَفْرَةً خَرَّ كُلُّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَنَبِيٍّ مُرْسَلٍ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، مِنَ الْمَهَابَةِ وَالْعَظَمَةِ وَمُعَايَنَةِ الْأَهْوَالِ، عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أَيْ: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ شُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ، مِنَ الصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَالرِّزْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. مَا إِذَا قَابَلْتُمْ بِهِ نِعَمَهُ مِنْ شُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْخَزَّازُ (9) الْمُقِرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابن عِيسَى أَبُو خَالِدٍ الْخَزَّازُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ، فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: "مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ " قَالَ: أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: "مَا أَخْرَجَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ " قَالَ أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا. قَالَ: فَقَعَدَ عُمَرُ، وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُهُمَا، ثُمَّ قَالَ: "هَلْ بِكُمَا مِنْ قُوَّةٍ، تَنْطَلِقَانِ إِلَى هَذَا النَّخْلِ فَتُصِيبَانِ طَعَامًا وَشَرَابًا
__________
(1) في أ: "سليم".
(2) زيادة من م، أ.
(3) سنن الترمذي برقم (3355) .
(4) في أ: "العرمي".
(5) في أ: "هنية".
(6) في أ: "القوم".
(7) في أ: "هو".
(8) في م: "أهل النار".
(9) في أ: "الجزاز".(8/474)
وَظِلًّا؟ " قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: "مُروا بِنَا إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ التَّيهان أَبِي الْهَيْثَمِ الْأَنْصَارِيِّ". قَالَ: فتقدم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-وَأُمُّ الْهَيْثَمِ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ تَسْمَعُ الْكَلَامَ، تُرِيدُ أَنْ يَزِيدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّلَامِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ خَرَجَتْ أَمُّ الْهَيْثَمِ تَسْعَى خَلْفَهُمْ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ -وَاللَّهِ-سَمِعْتُ تَسْلِيمَكَ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تَزِيدَنَا مِنْ سَلَامِكَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرًا". ثُمَّ قَالَ: "أَيْنَ أَبُو الْهَيْثَمِ؟ لَا أَرَاهُ". قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ قَرِيبٌ ذَهَبَ يَستعذبُ الْمَاءَ، ادْخُلُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي السَّاعَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَبَسَطَتْ -بِسَاطًا تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَجَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ فَفَرِحَ بِهِمْ وَقَرَّتْ عَيْنَاهُ بِهِمْ، فَصَعِدَ عَلَى نَخْلَةٍ فَصَرَمَ لَهُمْ أَعْذَاقًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَسْبُكَ يَا أَبَا الْهَيْثَمِ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْكُلُونَ مِنْ بُسره، وَمِنْ رُطَبِهِ، وَمِنْ تَذْنُوبه، ثُمَّ أَتَاهُمْ بِمَاءٍ فَشَرِبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ" (1) هَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الحُسَين بْنُ عَلِيٍّ الصَّدَائِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمْرُ جَالِسَانِ، إِذْ جَاءَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "مَا أَجْلَسَكُمَا هَاهُنَا؟ " قَالَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجْنَا مِنْ بُيُوتِنَا إِلَّا الْجُوعُ. قَالَ: "وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ". فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا بَيْتَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيْنَ فُلَانٌ؟ " فَقَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ (2) لَنَا مَاءً. فَجَاءَ صَاحِبُهُمْ يَحْمِلُ قِرْبَتَهُ فَقَالَ: مَرْحَبًا، مَا زَارَ الْعِبَادَ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ (3) زَارَنِي الْيَوْمَ. فَعَلَّقَ قِرْبَتَهُ بِكَرْبِ نَخْلَةٍ (4) وَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا كُنْتَ اجْتَنَيْتَ"؟ فَقَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونُوا الَّذِينَ تَخْتَارُونَ عَلَى أَعْيُنِكُمْ. ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ؟ " فَذَبَحَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ، فَأَكَلُوا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، فَلَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَبْتُمْ هَذَا، فَهَذَا مِنَ النَّعِيمِ" (5) .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، بِهِ (6) وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبيد اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ أُبَيِّ بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، بِهِ (7) وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِنَحْوٍ مَنْ هَذَا السِّيَاقِ وَهَذِهِ الْقِصَّةِ (8) .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيج، حَدَّثَنَا حَشْرَجٌ، عَنْ أَبِي نُصرة، عَنْ أبي عسيب -يعني
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (19/253) من طريق زكريا بن يحيى، عن عبد الله بن عيسى، به. وقال الهيثمي في المجمع (10/317) : "فيه عبد الله بن عيسى-أبو خلف- وهو ضعيف".
(2) في م: "ليستعذب".
(3) في م: "من نبي".
(4) في أ: "بكور نخلته".
(5) تفسير الطبري (30/185) .
(6) صحيح مسلم برقم (2038) .
(7) مسند أبي يعلى (1/79) وسنن ابن ماجة برقم (3181) .
(8) سنن أبي داود برقم (5128) وسنن الترمذي برقم (2822) ، (2369) وسنن النسائي الكبرى برقم (11697) وسنن ابن ماجة برقم (3745) .(8/475)